المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الكتاب الخامس في الاستدلال - الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع - جـ ٤

[أحمد بن إسماعيل الكوراني]

الفصل: ‌الكتاب الخامس في الاستدلال

‌الكتاب الخامس في الاستدلال

ص: 5

الكتاب الخامس في الاستدلال

قوله: "الكتاب الخامس في الاستدلال، وهو دليل ليس بنص، ولا إجماع، ولا قياس"(1).

أقول: لما فرغ من الأدلة المتفق عليها شرع في المختلف فيها، وهو الاستدلال، ويطلق -لغة- على طلب الدليل.

واصطلاحًا: على إقامة الدليل (2) أي دليل كان من نص، أو إجماع، أو غيرهما.

وعلى أخص منه، وهو إقامة الدليل حال كونه ليس نصًا، ولا إجماعا، ولا قياسًا، وهذا مقصود الكتاب.

ولتقدم معرفة هذه الثلاثة في الأبواب السابقة صح تعريف الاستدلال بها.

(1) راجع: تعريف الاستدلال: الحدود للباجى: ص/ 41، والمنهاج في ترتيب الحجاج ص/ 11، والبرهان: 2/ 1130، والإحكام لابن حزم: 1/ 37، 2/ 676، والكافية في الجدل: ص/ 47، والإحكام للآمدي: 17513، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 450، والعضد على ابن الحاجب: 2/ 280، وتيسير التحرير: 4/ 172، والمحلي وحاشية البناني عليه: 2/ 342.

(2)

آخر الورقة (114/ ب من ب).

ص: 7

قال الآمدي: وما سماه بعضهم: الاستدلال، وجعله بابًا خامسًا، فحاصله: يرجع إلى التمسك بمعقول النص، أو الإجماع، وكذا شرع من قبلنا، وقول الصحابي، ونحو ذلك فراجعة إلى الأربعة، وإلا فلا دخل للرأي في إثبات الأحكام الشرعية، وإنما أفردوه بابًا لكونه جاريًا في تلك الأبواب كلها.

كما يقال: هذا حكم دل عليه القياس، وكل ما دل عليه القياس فهو حكم شرعي، فهذا حكم شرعي.

وكما إذا قيل: ما ذكرته معارض بالإجماع، وكل معارض بالإجماع باطل، في ذكرته باطل، وقس على هذا.

قال المصنف -تفريعًا على التعريف المذكور-: يدخل فيه القياس الاقتراني، كما ذكرنا (1).

وهو قياس مؤلف من قضيتين متى سلمتا لزم عنهما لذاتهما قول آخر، أي: قضية أخرى تكون نتيجة لهما، كما في المثالين المذكورين. والاستثنائي يكون في الشرطيات، ففى المتصلات، كما يقال: إن كان هذا إنسانًا، فهو حيوان، لكنه ليس بحيوان ينتج أنه ليس بإنسان، أو أنه إنسان ينتج أنه حيوان،

(1) القياس الاقتراني، والاستثنائي نوعان للقياس المنطقي فإن كان اللازم، وهو النتيجة، أو نقيضها مذكورًا فيه بالفعل فهو الاستثنائي، وإن كان مذكورًا فيه بالقوة بأن لم يتصل فيه طرفاه، فهو الاقتراني. كما مثل الشارح، وقد سبق ذكرهما مع المراجع في 1/ 202.

وراجع: الإحكام للآمدي: 3/ 176، والمحلي مع حاشية البناني: 2/ 342، ومناهج العقول: 3/ 150، وتيسير التحرير: 4/ 172.

ص: 8

فاستثناء عين الأول ينتج عين الثاني، واستثناء نقيض الثاني ينتج نقيض المقدم، وعين الثاني لا ينتج عين الأول لاحتمال كونه عامًا، ولا يلزم من إثبات العام إثبات الخاص كما في المثال المذكور، فإن الحيوان لا يستلزم وجود الإنسان، وكذا نقيض الإنسان لا يستلزم نقيض الحيوان لوجوده في الفرس، وفي المنفصلات: العدد إما زوج، أو فرد، لكنه زوج ينتج أنه ليس بفرد، أو فرد ينتج أنه ليس بزوج، مثاله -في الشرعيات-: الضب إما حرام، أو حلال لكنه حلال: لأنه أكل على مائدته صلى الله عليه وسلم، فليس بحرام (1).

مثال آخر: صيد المُحْرِم إما حرام، أو حلال لكنه حرام لأنه نهي عنه (2)، فليس بحلال، ولهذا تفاريع كثيرة ليست مقصودة تركناها خوف الإطالة.

(1) رواه أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه عن ابن عباس عن خالد بن الوليد: أنه أخبره أنه دخل مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على ميمونة، وهي خالته، وخالة ابن عباس فوجد عندها ضبًا محنوذًا، فقدمته لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فرفع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يده فقال خالد بن الوليد: أحرام الضب يا رسول اللَّه؟ قال: "لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينظر، فلم ينهني".

وقد رويت أحاديث أخرى بألفاظ متعددة، وطرق مختلفة.

راجع: مسند أحمد: 4/ 88، وصحيح البخاري: 7/ 125، وصحيح مسلم: 6/ 66، وسنن أبي داود: 2/ 317، وسنن الترمذي: 5/ 492، وسنن النسائي: 7/ 197، وسنن ابن ماجه: 2/ 296، ونيل الأوطار: 8/ 118.

(2)

لحديث الصعب بن جثامة أنه أهدى لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حمارًا وحشيًا، وهو بالأبواء، أو بودان فرده عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

قال: فلما أن رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما في وجهى قال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم".

راجع: صحيح مسلم: 5/ 13.

ص: 9

وقياس العكس: ما يستدل به على نقيض المطلوب، ثم يُبْطَل، فيصح المطلوب كقوله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] فإنه استدل على حقية القرآن بإبطال نقيضه، وهو وجدان الاختلاف فيه، فتأمل (1)!

قوله: "وقولنا: الدليل يقتضى أن لا يكون كذا".

أقول: أراد بعد تعريف الاستدلال إيراد أنواع منه، فبدأ بالدليل الملقب بالنافي عندهم، كما يقول الشافعي: نكاح المرأة إذلال، وإرقاق لها، والإنسانية تنافي ذلك إظهارًا لشرف الإنسان، إلا أنا خالفنا ذلك فيما إذا صدر عن الولي، لكمال عقله، ودقة نظره، وهذا مفقود في المرأة، فوجب إبقاء الدليل على مقتضاه (2).

ومنه انتفاء الحكم لانتفاء مدركه.

(1) قياس العكس: هو إثبات عكس حكم شيء لمثله لتعاكسهما في العلة كما مثل الشارح بالآية الكريمة، وكما تقدم في حديث مسلم:"أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه ورز؟ ".

وراجع: شرح النووي على مسلم: 7/ 92، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 343، وتيسير التحرير: 4/ 173 - 174، وهمع الهوامع: ص/ 393.

(2)

راجع: المحلي مع حاشية البناني عليه: 2/ 344، وتشنيف المسامع: ق (127/ ب)، والغيث الهامع: ق (138/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 363.

ص: 10

تقريره: أن الحكم الشرعي لا يمكن ثبوته من غير دليل، إذ لو ثبت لزم المحال، وهو وقع تكليف ما لا يطاق، لأن ذلك الحكم لا بد وأن يكون متعلقًا بأفعال المكلفين، كما تقدم في أول الكتاب.

وقد فرض أنه لا دليل له يعرفه، ولا معنى للمحال إلا ما لا يمكن تعلق قدرة العبد به عادة، ولو كان له دليل إما النص، أو الإجماع، أو القياس، وقد سبرنا، فلم نجد من ذلك شيئًا. أو لا نتعرض للسبر، بل نقول: شيء من النص، والإجماع، والقياس غير موجود، إذ الأصل العدم، والأصل بقاء ما كان على ما كان، وهذا النفى حكم شرعي، لأنه مستفاد من دليل شرعي هو انتفاء مثبت الحكم الذي علم من الدين ضرورة حيث لا دليل، لا حكم لما قدمناه من لزوم المحال.

والاعتراض بأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ليس بشيء، لأن كلامنا في أنه لا حكم أصلًا للَّه وراء الأحكام الخمسة، فإنا قاطعون بأن لا حكم سواها.

وكذا قولهم: وجد المقتضي، أي: السبب، فيوجد المسبب، ووجد المانع، فينتفي الحكم، أو فقد الشرط، فلا يوجد الحكم، فإنهم كثيرًا ما يقولون مثله.

قيل: ليس بدليل، بل دعوى دليل؛ لأنه بمثابة قوله وجد الدليل، فيوجد الحكم.

ص: 11

وهذا الكلام ليس بدليل على وجود الحكم اتفاقًا، وإنما الدليل ما يستلزم الحكم، وهو السبب الخاص، أو وجود المانع الخاص، أو [عدم](1) الشرط الخاص.

وقيل: بل هو دليل، وهو مختار المصنف إذ لا معنى للدليل إلا ما يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، وهو كذلك.

وإذ بنينا على هذا.

فقيل: استدلال مطلقًا: لأنه ليس [بنص، ولا إجماع، ولا قياس فالحد منطبق عليه.

وقيل: استدلال إن ثبت وجود السبب، أو المانع، أو فقد الشرط] (2) بغير الثلاثة.

وإلا فهو من قبيل ما ثبت به إن نصًا، أو إجماعًا، أو قياسًا وهذا مختار المحققين (3): لأنك تقول: هذا حكم وجد سببه، وكل ما وجد سببه فهو موجود.

فكبرى القياس -وهى قولنا: كل ما وجد سببه، فهو موجود- قطعية لا يخالف فيها أحد، فالمحتاج إلى البيان صغرى القياس، وهي قولنا: هذا حكم وجد سببه، فمثبت الصغرى هو مثبت الحكم.

(1) سقط من (أ، ب) وأثبت بهامش (أ).

(2)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

منهم الآمدي، وابن الحاجب، والعضد، والشوكاني، وغيرهم.

راجع: الإحكام للآمدي: 3/ 175، والمختصر وشرح العضد عليه: 2/ 281، وإرشاد الفحول: ص/ 237.

ص: 12

[فإن كان ذلك المثبت غير النص، والإجماع، والقياس، فالحكم مثبت بالاستدلال، وإن كان بأحد الثلاثة، فالحكم مثبت به](1).

فإن قلت: إذا كان المحتاج إلى البيان هى الصغرى، وقد أثبت الحكم فيها بأحد الثلاثة في فائدة ضمها إلى الكبرى واستخراج النتيجة؟

قلت: فائدة ذلك العلم بالحكم من وجهين من حيث الخصوص في الصغري، والعموم في الكبرى، ولأن ذلك الحكم المثبت في الصغرى إذا علم اندراجه في قاعدة لم يخالف فيها أحد، وتطابقت الآراء على قبولها كانت النفس إلى قبولها أميل.

قوله: "الاستقراء".

أقول: من الأدلة الاستقراء، وهو الاستدلال بثبوت الحكم في الجزئي على ثبوته في الكلي (2)، وهو على قسمين:

إما تام: وهو الذي يتبع جميع جزئياته كقولك: كل جسم مؤلف (3)، لأن هذا الجسم مؤلف، وذاك أيضًا، إلى آخر الأجسام.

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع: معيار العلم: ص/ 160، والمستصفى: 1/ 51، والمحصول: 2 / ق/ 3/ 218، ونهاية السول: 4/ 277، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 448، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 345، ومناهج العقول: 3/ 159، وأثر الأدلة المختلف فيها: ص/ 648، والتعريفات: ص/ 18.

(3)

آخر الورقة (122/ ب من أ).

ص: 13

أو ناقص: إذا كان أكثريًا كقولك: كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ، فإن الإنسان هكذا، والفرس، والجمل بخلاف التمساح فإنه يحرك الفك الأعلى، فالأول قطعي، والثاني ظني، ويسميه الفقهاء: إلحاق الفرد بالأعم الأغلب.

والفرق بين القياس المنطقي، والقياس الأصولي، والاستقراء هو أن القياس المنطقي استدلال بثبوت الحكم في الكلي لإثباته في الجزئي.

وفي القياس الأصولي: الاستدلال بثبوت الحكم في جزئي لإثباته في جزئي آخر مثله لجامع كما سبق تفصيله، وفي الاستقراء: الاستدلال بثبوت الحكم في الجزئي لإثباته في الكلي عكس القياس المنطقي.

وبعضهم (1) قد خبط في هذا المقام خبطًا فاحشًا، فذكر أن الاستقراء التام هو القياس المنطقي.

ثم قال: "والفرق بين القياس الأصولي، والاستقراء الناقص، بأن الحكم في الناقص بمجرد ثبوته في أكثر جزئياته"(2)، وهذا كلام من لم يتقن القواعد العلمية.

وقد بينا لك الفرق، فتمسك به، وعفى عليه بالنواجذ يخلصك عن هذه الأوهام.

(1) جاء في هامش (أ): "هو الزركشي".

(2)

راجع: تشنيف المسامع: ق (128/ أ).

ص: 14

قوله: "قال علماؤنا: استصحاب العدم الأصلي".

أقول: من الأدلة المختلف فيها بين الأئمة الأربعة الاستصحاب (1).

قال به الشافعي، ونفاه الحنفية (2).

ومعناه: أن الحكم الفلاني كان، ولم يظن عدمه، وكلما وجد ولم يظن عدمه، فهو مظنون البقاء.

ولا بد -أولًا- من تحرير محل النزاع، فنقول: محله هو الحكم الشرعي لا النفي الأصلي، ولذا تقول الحنفية: الاستصحاب يصلح دافعًا لا مثبتًا، فحياة المفقود تصلح حجة في دفع الإرث عنه لا في إثبات الإرث له.

(1) هو الحكم الذي يثبت في الزمان الثاني بناء على الزمان الأول أو هو عبارة عن إبقاء ما كان على ما كان عليه لانعدام المغير.

راجع: البرهان: 2/ 1135، والجدل لابن عقيل: ص/ 9، والمستصفى: 1/ 218، والعضد على ابن الحاجب: 2/ 284، ونهاية السول: 4/ 358، ومختصر الطوفي: ص/ 138، والتعريفات: ص/ 22، والمحلي مع حاشية البناني عليه: 2/ 348، والمدخل إلى مذهب أحمد: ص/ 133، وأصول مذهب أحمد: ص/ 373، وإرشاد الفحول: ص/ 237.

(2)

وهذا مذهب الجمهور من الحنفية، وبعض المتكلمين، ونقل الكمال بن الهمام في تحريره عن طائفة منهم القول بحجيته مطلقًا، وعن أبي زيد، وشمس الأئمة، وفخر الإسلام أنه حجة في الدفع دون الرفع.

راجع: أصول السرخسي: 2/ 147، 223، وكشف الأسرار: 3/ 377، وتيسير التحرير: 4/ 177، والفقيه والمتفقه: 1/ 216.

ص: 15

فعلى هذا كان يجب على المصنف ترك لفظ علمائنا، أو ترك العدم الأصلي (1)، والعموم، والنص، فإنه لا خلاف فى الثلاثة، بل الخلاف فيما دل الشرع على ثبوته لوجود سببه سابقًا، كقول الشافعية -في الخارج من غير السبيلين-: من خرج منه كان متطهرًا، أو الأصل البقاء حتى يثبت معارضًا، والأصل عدمه.

قوله: "وقيل في الدفع دون الرفع"، إشارة إلى ما نقلناه عن الحنيفة، ولكن مقابلته بقوله:"مطلقًا" ليس بحسن، لأن قوله:"مطلقًا" إشارة إلى عدم الخلاف فيما دل الشرع على ثبوته.

فقوله -بعد ذلك-: "وقيل" يشعر بأن الخلاف من الشافعية، كما أن قوله -بعده-:"وقيل: بشرط أن لا يعارضه ظاهر" خلاف الشافعية.

هذا ولنرجع إلى شرح الكتاب، فنقول:[قيل](2): حجة بشرط أن لا يعارضه ذلك الأصل ظاهر، فالحكم للظاهر سواء كان غالبًا، أو لا،

(1) هو الذي عرف في العقل انتفاؤه، وأن العدم الأصلي باق على حاله كالأصل عدم وجوب صلاة سادسة، وصوم شهر غير رمضان، فلما لم يرد السمع بذلك حكم العقل بانتفائه لعدم المثبت له، ويعرف بالبراءة الأصلية، وهذه حجة عند الجمهور خلافًا للمعتزلة وبعض المالكية.

راجع: المعتمد: 2/ 325 - 327، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 447، وأثر الاختلاف في القواعد الأصولية: ص/ 542، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 349.

(2)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

ص: 16

وهو أحد قولي الشافعي (1) في تعارض الأصل، والظاهر.

وقيل: إنما اعتبر الظاهر إذا كان له سبب يضاف إليه، كما إذا بال ظبي في ماء بلغ قلتين، فوجده متغيرًا، فإنه يحتمل أن يكون لطول المكث، والظاهر أنه بالبول، وعليه نص الشافعي، وتبعه الأصحاب (2) وفصل المصنف القول فيه بأنه إن قرب العهد سقط الأصل لقوة السبب، كما إذا وجد الماء متغيرًا بعد بول الظبي من غير تراخي زمان طويل بخلاف ما إذا طال الزمان فإنه يبعد إضافته إليه، فيرجع إلى رعاية الأصل (3).

(1) آخر الورقة (115/ ب من ب)، وذكر الأشموني أنه القول المرجوح من أقول الشافعي.

راجع: همع الهوامع: ص/ 396.

(2)

إعمالًا للسبب الظاهر.

راجع: المستصفى: 7/ 211 - 219، والمنخول: ص/ 373، والمحصول للرازي: 2/ ق/ 3/ 148، 163، والإحكام للآمدي: 3/ 181، وما بعدها والعضد على ابن الحاجب 2/ 284، وهمع الهوامع: ص/ 396، والمحلي وحاشية البناني عليه: 2/ 348.

(3)

وهو مذهب القفال، والجرجاني في شرح التلخيص ذكره الأشموني في همع الهوامع: ص/ 396.

وراجع: الإحكام لابن حزم: 2/ 590، وروضة الناظر: ص/ 137، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 447، ومختصر الطوفي: ص/ 138، ومختصر البعلي: ص/ 160، والمدخل إلى مذهب أحمد: ص/ 133، ومجموع الفتاوى: 11/ 342، وأثر الأدلة المختلف فيها ص/ 186.

ص: 17

لنا -على حجية الاستصحاب-: أن ما تحقق وجوده، أو عدمه في حال، ولم يظن طرو معارض يزيله ظنُّ بقائه ضروري، ولولا بقاء هذا الظن لما حسن من العقلاء مراسلة الإخوان إلى البلاد النائية.

ولنا -أيضًا-: الشك في الزوجية ابتداء يوجب حرمة الاستمتاع، بخلاف طرو الشك في الدوام، ولا فارق إلا استصحاب عدم الزوجية في الأولي، واستصحاب الزوجية في الثانية.

فلولا اعتباره لزم استواء الحالين تحريمًا، وجوازًا وهو خلاف الإجماع.

قالوا: الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بأدلة منصوبة من قِبل الشارع، وهي منحصرة في النص، والإجماع، والقياس اتفاقًا، ومحل النزاع ليس منه، فيكون مردودًا.

قلنا: ذاك في إثبات الحكم ابتداء، والكلام في ظن البقاء، ولو سلم، الحصر ممنوع، بل هناك دليل رابع فيه النزاع.

قالوا: ثانيًا، لو صح ما ذكرتم لقدمت بيِّنة النفي على الإثبات، وهو باطل اتفاقًا.

الجواب: بينة النفي إذا عارضها بينة الإثبات لا تفيد الظن ليتأيد ذلك الظن بالأصل الذي هو الاستصحاب، بل لا ظن يحصل إلا ببينة المثبت؛ لأنه يبعد غلطه بأن يظن المعدوم موجودًا بخلاف النافي؛ لأنه ينفى الوجود بناء على عدم علمه.

ص: 18

قال: "ولا يحتج باستصحاب حال الإجماع في محل الخلاف"، يريد أن الإجماع إذا انعقد على حكم في حال من الأحوال، ثم تغير ذلك الحال، فوقع الخلاف.

قيل: يكون حال الاجماع معتبرًا جريًا على قاعدة الاستصحاب، وبه قال الصيرفي، وابن سريج، والآمدي (1)، ولم يرضه المصنف: لأن الأحكام تختلف باختلاف الأحوال والأوضاع.

قوله: "فعُرِف أن الاستصحاب".

أقول: هذا تفريع على ما تقدم، أي: قد علم أن محل النزاع إنما هو في ثبوت الحكم الشرعي في ثاني الحال لوجوده في الأول لعدم وجدان المغير.

وأما ثبوته في الأول معللًا بثبوته الآن، كما يقال: هذا الكيل لم يكن على عهده صلى الله عليه وسلم.

(1) واختاره ابن شاقلا، وابن حامد، وأبو عبد اللَّه الرازي، وابن خيران وابن القيم، وغيرهم.

ومثاله: المتيمم إذا رأى الماء في أثناء صلاته يمضي فيها، لأنهم أجمعوا قبل رؤية الماء على انعقاد صلاته، فيحب أن تستصحب هذه الحال بعد رؤية الماء حتى يقوم دليل ينقله عنه.

راجع الخلاف في هذه المسألة: اللمع: ص/ 68، والتبصرة: ص/ 526، والمنهاج: ص/ 31، والمستصفى: 1/ 223، وروضة الناظر: ص/ 139، والإحكام للآمدي: 3/ 187، وأعلام الموقعين: 1/ 343، وتيسير التحرير: 4/ 177، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 350، وتشنيف المسامع: ق (128/ ب)، والغيث الهامع: ق (139/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 396.

ص: 19

فيقال: بلي، لأن الأصل موافقة الماضي للحال، فمثله استصحاب مقلوب لا يعد دليلًا، وقد يقال -في الاستدلال بالمقلوب- لو لم يكن الثابت اليوم ثابتًا أمس، لكان غير ثابت في الأمس إذ لا واسطة بين الثبوت وعدمه.

وإذا غير الثابت أمس يلزم عدم ثبوته اليوم استصحابًا للعدم، وليس كذلك لأنه ثابت الآن، فيلزم ثبوته أمس ويرد المنع على مقدمتين منه.

فيقال: قولك: يلزم من عدم ثبوته أمس عدم ثبوته اليوم، ممنوع إذ الفرض أنه ثابت اليوم.

وقولك: إذا ثبت اليوم يلزم ثبوته أمس ممنوع، بل ثبت اليوم، ولا يلزم ثبوته أمس، وعدم ثبوته فيه لا يقدح إلا باستصحاب ذلك العدم، وقد عرفت دفعه (1).

قوله: "مسألة لا يُطالَب النافي بالدليل".

أقول: النافي للشيء الذي عُلِمَ انتفاؤه لكل أحد بالضرورة، بأن علم ذلك حسًا، تواترًا، فلا حاجة إلى الدليل (2)، وهو ظاهر، وإن لم يكن ذلك

(1) راجع: المحلي على جمع الجوامع: 2/ 350، وتشنيف المسامع: ق (129/ أ)، والغيث الهامع: ق (139/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 397.

(2)

لأنه عدل يصدق في دعواه الضرورة، ولأن الضروري لا يشتبه حتى يطلب الدليل عليه لينظر فيه، أما إن كان ادعى علمًا نظريًا، أو ظنيًا بانتفائه فهل يطالب بدليل الانتفاء فيه مذاهب: =

ص: 20

الانتفاء ضروريًا يطالب بالبيان؛ لأنه يدعي أمرًا غير مسلم عند الخصم، فلا بد من إثباته.

وعلى عبارة المصنف مؤاخذة، وهو أن يقال:

دعواه الضرورة لا تسقط عنه المطالبة لأن دعوى (1) الضرورة في محل النزاع لا تسمع.

وبما حررناه تندفع المؤاخذة [فتأمله](2).!

قوله: "ويجب الأخذ بالأقل".

قد تقدمت المسألة في الإجماع السكوتي، وإنما أعادها لئلا يتوهم أنه أهملها (3).

= الأول: وبه قال الأكثر، نعم لأن المعلوم بالنظر، أو المظنون قد يشتبه، فيطلب دليله لينظر فيه.

الثاني: لا يطالب بذلك، وحكى عن الظاهرية.

والثالث: يطالب في العقليات دون الشرعيات.

راجع: اللمع: ص/ 70، والتبصرة: ص/ 530، وأصول السرخسي: 2/ 117، والمستصفى: 2/ 132، وروضة الناظر: ص/ 139 - 141، وتشنيف المسامع: ق (129/ أ)، والغيث الهامع: ق (139/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 331 - 352، وهمع الهوامع: ص/ 397، والمسودة: ص/ 494، ومختصر ابن الحاجب: 2/ 304، وإرشاد الفحول: ص/ 245.

(1)

آخر الورقة (123/ ب من أ).

(2)

سقط من (ب) وأثبت بالهامش.

(3)

تقدم 3/ 161.

ص: 21

قوله: "وهل يجب الأخذ بالأخف"؟

أقول: ذهب بعض الأصوليين إلى أن الأخذ بالأخف من طرق الاستدلال [واجب](1) لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185]، ولقوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78].

وذهب بعضهم إلى أن الأخذ بالأثقل واجب؛ لأنه أحوط، وأكثر ثوابًا.

وقيل: لا يجب الأخذ بشيء، بل يجوز لعدم دليل الوجوب (2)، والأقوال المذكورة تجري في المذاهب، والروايات، والاحتمالات التي تتعارض أماراتها (3).

قوله: "مسألة اختلف هل كان".

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع الخلاف في هذه المسألة: المستصفى: 2/ 406، والمحصول: 2 / ق/ 2/ 571، و 2/ 3/ 214، وما بعدها وروضة الناظر: ص/ 351، والإحكام لابن حزم: 3/ 276، والعضد على ابن الحاجب: 2/ 316، وشرح الكوكب المنير: 4/ 692، وإرشاد الفحول: ص/ 279.

(3)

وقد مثل له الأشموني بقوله: "أولج مشكل في قُبل مشكل، فيجوز أن يكون المولج أنثي، والموج فيه ذكرًا، فيجب الوضوء، ويجوز العكس، فيجب الغسل ويجوز اتفاقهما في الأنوثة، أو الذكورة، فلا يحب واحد منهما". همع الهوامع: ص/ 398.

ص: 22

أقول: اختلف في أنه صلى الله عليه وسلم هل كان قبل البعثة متعبدًا (1)، أي: مكلفًا، من تعبده اتخذه عبدًا؟ فيه مذاهب: قيل: لم يتعبد بشيء من الشرائع (2).

وقيل: تعبد، وعلى هذا، فقيل: شرع نوح، وقيل: إبراهيم، وقيل: موسي، وقيل: عيسى (3)، وقيل: بما ثبت أنه شرع (4).

(1) أولًا لم يكن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة على ما كان عليه قومه عند أئمة الإسلام، قال الإمام أحمد رحمه الله:"من زعمه فقول سوء" ونقل عن ابن عقيل قوله: "ولم يكن على دين قومه قبل البعثة بل، ولد مسلمًا مؤمنًا نبيًا صالحًا".

راجع: المسودة: ص/ 182، المدخل إلى مذهب أحمد: ص/ 134، والعدة: 3/ 766.

(2)

ونقله القاضي أبو بكر عن جهور المتكلمين، وعلى هذا فانتفاؤه بالعقل عند المعتزلة لما فيه من التنفير عنه، وشرعًا عند الباقلاني، والرازي، وغيرهما إذ لو كان لنقل، ولتداولته الألسنة.

راجع: المعتمد: 2/ 336، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 397، والإحكام للآمدي: 3/ 190، والمسودة؛ ص/ 182، 183، وكشف الأسرار: 3/ 212، وإرشاد الفحول: ص/ 239.

(3)

واختاره ابن عقيل، والبغوي، والمجد بن تيمية، وابن كثير، وغيرهم.

راجع: العدة: 3/ 757، والمسودة: ص/ 182، ومختصر البعلي: ص/ 161، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 352، والمدخل إلى مذهب أحمد: ص/ 134، وشرح الكوكب المنير: 4/ 410.

(4)

يعني من غير تعيين لأحد منهم بعينه، واختاره كثير من الحنابلة، وابن عبد الشكور، والكمال بن الهمام.

راجع: العدة: 3/ 756، 766، والمسودة: ص/ 183، وفواتح الرحموت: 2/ 183، مع مسلم الثبوت، وتيسير التحرير: 3/ 129، وتخريج الفروع على الأصول: ص/ 369، وشرح العضد: 2/ 286، وكشف الأسرار: 3/ 212.

ص: 23

وقيل: بالوقف، وإليه مال إمام الحرمين، والغزالي، والآمدي (1) واختاره المصنف لتعارض أدلة الطرفين (2).

واختار ابن الحاجب أنه كان متعبدًا لتظافر الأحاديث "كان يتحنث بغار حراء"(3)، "كان يطوف" ونظائرهما.

وأجاب عن أدلة الطرفين (4).

والعجب من المصنف أنه ذكر -في شرح المختصر- أن الأحاديث التي ادعاها ابن الحاجب لم أحفظ منها سوى حديث التحنث بحراء (5).

(1) راجع: البرهان: 1/ 506، 509، والمستصفى: 1/ 246، والمنخول: ص/ 231، والأحكام للآمدي: 3/ 188.

(2)

راجع: تشنيف المسامع: ق (129/ ب)، والغيث الهامع: ق (140/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 352، وهمع الهوامع: ص/ 398.

(3)

روى البخاري، ومسلم عن عائشة رضى اللَّه عنها أنها قالت:"أول ما بدئ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد" إلخ.

راجع: صحيح البخاري: 1/ 5، وصحيح مسلم: 1/ 97، وشرح النووي عليه 2/ 197، وما بعدها.

(4)

راجع: مختصر ابن الحاجب: 2/ 286.

(5)

راجع: رفع الحاجب شرح مختصر ابن الحاجب: (2 /ق 282/ أ).

ص: 24

وقد ثبت في البخاري أن الحمس، وهم قريش، كانوا يقفون بمزدلفة، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقف بعرفة (1).

واعلم أن الخلاف إنما هو فيما فيه التقليد جائز، وأما أصول الدين، فلم يكن فيها مقلدًا لأحد.

وقوله: "وتأصيلًا وتفريعًا" منصوبان على التمييز من اختيار الوقف، والمعنى لم نقل: بأنه كان متعبدًا، ولا لم يكن متعبدًا أصلًا.

وإن قلنا: إنه كان متعبدًا لا نفرع على إثبات التعبد التعيين بشرع.

وما ذكرناه إنما هو قبل النبوة، وأما بعده.

المختار: أنه لم يكن متعبدًا بشيء من الشرائع قال اللَّه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48].

وقول إمام الحرمين، وابن الحاجب: كان يتعبد بما لم ينسخ على أنه موافق لا متابع، حاصله ما ذكرناه من عدم التعبد (2).

(1) روى البخاري، ومسلم عن عائشة رضى اللَّه عنها قالت:"كانت قريش، ومن دان بدينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يسمون الحمس، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام أمر اللَّه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات، ثم يقف بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] ".

راجع: صحيح البخاري: 6/ 34، وصحيح مسلم: 5/ 43.

(2)

يرى الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وبعض الشافعية، أن شرع من قبلنا شرع لنا، وذهب أكثر الشافعية، والأشاعرة، والمعتزلة، وأحمد في رواية إلى أن شرع من قبلنا ليس شرعًا لنا. =

ص: 25

قوله: "مسألة حكم المنافع، والمضار".

أقول: قد مر في أول الكتاب أن لا حكم في الأشياء قبل البعثة، بل الأمر موقوف إلى ورود أمر الشارع، إنما الكلام هنا في الأشياء بعد ورود الشرع (1).

فنقول: الأشياء إما ضارة، أو نافعة.

= وعلى القول الأول قال أبو يعلى القاضي: "فقد صار شريعة لنبينا، ويلزمنا أحكامه من حيث صار شريعة له لا من حيث كان شريعة لمن قبله"، وهو معنى ما قاله إمام الحرمين.

راجع: العدة: 3/ 753، 757، والبرهان: 1/ 503 - 504، وأصول السرخسي: 2/ 99، والمنخول: ص/ 333، والمستصفى: 1/ 251، 255، والمسودة: ص/ 184، والإحكام للآمدي: 3/ 190، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 401، 406، وكشف الأسرار: 3/ 213، وفتح الغفار: 2/ 139، وفواتح الرحموت: 2/ 184، وتيسير التحرير: 3/ 131، ومجموع الفتاوى 19/ 7، ومختصر الطوفي: ص/ 140، ومختصر البعلي: ص/ 161، والعضد على ابن الحاجب: 2/ 287، وإرشاد الفحول: ص/ 240.

(1)

جمهور العلماء فرقوا بين حكم الأشياء قبل ورود الشرع، وبعده إذا لم يعرف الحكم، وجعلوا لكل حالة عندهم حكمًا منفصلًا عن الآخر وذهب البعض إلى التسوية بين الحالتين، ولم يفرقوا.

راجع: الإحكام لابن حزم: 2/ 871، والمحصول: 2/ ق/ 3/ 133، والروضة: ص/ 22، وقواعد الإحكام: 1/ 5، والمسودة: ص/ 474، والموافقات: 2/ 3، ومختصر الطوفي: ص/ 29، ومناهج العقول: 1/ 158، وتيسير التحرير: 1/ 172، والمدخل إلى مذهب أحمد: ص/ 64، وشرح الكوكب المنير: 1/ 325.

ص: 26

فالأصل في المنافع الحل لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29]، ذكره في معرض الامتنان، فيدل على المطلوب دلالة واضحة.

والمضار الحرمة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار"(1) أي: في شريعتنا، فيدل على [عدم](2) جواز تناول الضار.

قال والد المصنف: يستثنى من هذا الأصل أموالنا، فإن الأصل فيها التحريم، واستدل عليه بالحدلِث الصحيح:"إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم" وإنما صدر منه هذا الكلام لذهوله عن محل النزاع، لأن محله إنما هو في شيء لم يرد به نص من الشارع، فإن الأصل فيه ذلك.

(1) هذا الحديث رواه أحمد عن عبادة بن الصات، ورواه الإمام مالك في الموطأ مرسلًا، ورواه ابن ماجه عن ابن عباس، وعبادة بن الصامت، ورواه أبو داود في المراسيل عن واسع بن حبان بزيادة:"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"، ورواه الحاكم، والبيهقي عن أبي سعيد الخدري، وقال الحاكم: صحيح الإسناد على شرط مسلم، وأقره الذهبي، ورواه الدارقطني عن عائشة، وابن عباس، وكل واحد من أسانيده لا يخلو عن مقال، وضعف، إلا أنها بمجموعها يقوي بعضها بعضًا، والمرسل أصح.

قال النووى: "حديث حسن، وله طرق يقوي بعضها بعضًا".

راجع: الموطأ: ص/ 464، ومسند أحمد: 5/ 327، وسنن الدارقطني: 4/ 227 - 228، وسنن ابن ماجه: 2/ 57، وسنن البيهقي: 6/ 70، 157، 10/ 133، والمراسيل: ص/ 294، والمستدرك: 2/ 57 - 58، ونصب الراية: 4/ 385، وجامع العلوم والحكم: ص/ 265، وشرح الأربعين النووية: ص/ 95.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 27

وأما إذا عارضة نص، فلا كلام، ألا ترى إلى حديث معاذ حين قال:"إنا لمؤاخذون بما تتكلم به ألسنتنا؟ " فقال: "ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم"(1).

فإن معاذًا كان فهم أن ما لا ضرر فيه مباح على العموم.

قال الإمام في المحصول: إذا نهانا اللَّه عن بعض الانتفاعات [إنما يكون ذلك](2) لرجوع الضرر فيها إلى مجتاح آخر، إما في الحال، أو في الاستقبال، لكن ذاك على خلاف الأصل، فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة (3)، هذا خلاصة كلامه.

قوله: "مسألة: الاستحسان قال به أبو حنيفة".

(1) خرجه الإمام أحمد، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه من رواية معمر عن عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. وقال الترمذي: حسن صحيح.

قال ابن رجب: "وفيما قاله رحمه الله نظر من وجهين:

أحدهما: أنه لم يثبت سماع أيى وائل من معاذ، وإن كان قد أدركه بالسن، وكان معاذ بالشام، وأبو وائل بالكوفة.

والثاني: أنه قد رواه حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن شهر بن حوشب عن معاذ. . . وشهر مختلف في توثيقه، وتضعيفه".

راجع: مسند أحمد: 5/ 231، 236 - 237، وتحفة الأحوذي: 7/ 362 - 365، وسنن ابن ماجه: 2/ 473 - 474، وجامع العلوم والحكم: ص/ 236.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

راجع: المحصول: 2 / ق/ 3/ 142.

ص: 28

أقول: القول بالاستحسان (1) مشهور عن الحنفية، ونقل عن الحنابلة أيضًا.

والحق: أنه لم يتعين محل النزاع بين الخصوم إلى يومنا، لأنهم أطلقوه لمعاني بعضها مقبول اتفاقًا، وبعضها مردود اتفاقًا، وأنا أحكى ما ذكره المصنف، مع زيادات وقفت عليها.

الأول: قولهم: هو دليل ينقدح في نفس المجتهد (2)، ويعسر عليه التعبير عنه.

فنقول: ما معنى انقداحه؟

إن كان معناه: تحقق عند المجتهد بدليل أنه حكم اللَّه يجب العمل عليه اتفاقًا.

(1) الاستحسان -لغة-: اعتقاد الشيء حسنًا.

راجع: المصباح المنير: 1/ 136، مختار الصحاح: ص/ 136، القاموس المحيط: 4/ 214، وأساس البلاغة: ص/ 174، التعريفات للجرجاني: ص/ 18، وأما اصطلاحًا فسيأتي ذكر الشارح له، راجع تعريفاته، واختلافهم في العمل به: المعتمد: 2/ 295، واللمع: ص/ 68، وأصول السرخسي: 2/ 204، والتبصرة: ص/ 494، والحدود للباجي: ص/ 65، والمستصفى: 1/ 275، وروضة الناظر: ص/ 85، والمحصول: 2 / ق/ 3/ 166، والإحكام للآمدي: 3/ 200، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 451، والعضد على ابن الحاجب: 2/ 288، وكشف الأسرار: 4/ 3، والمسودة: ص/ 451 - 454، والاعتصام: 2/ 112، وفواتح الرحموت: 2/ 320، وتيسير التحرير: 4/ 78، والمدخل إلى مذهب أحمد: ص/ 135، ومختصر الطوفي: ص/ 143، ومختصر البعلي: ص/ 162، وفتح الغفار: 3/ 30.

(2)

آخر الورقة (116/ ب من ب).

ص: 29

ولا عبرة بعجزه، لأن العجز يضير في المناظرة لا في النظر، وإن كان معناه: أنه تصوره، وهو شاك فيه فمردود اتفاقًا.

الثاني: قولهم: هو العدول عن قياس إلى آخر أقوى، ولا نزاع في هذا لأحد.

الثالث: قولهم: هو العدول عن الدليل إلى العادة (1)، كشرب الماء من السقاء بلا تعيين مقداره، ودخول الحمام، مع السكوت عن مقدار الأجرة، ومقدار المكث.

فنقول: ما المراد بالعادة؟

إن أردت جريانه في زمانه، فهو ثابت بالسنة، وإن أردت في زمان الصحابة، أو من بعدهم من غير نكير، فهو إجماع منهم، وإن كان شيئًا غير هذا، فهو مردود اتفاقًا.

الرابع: قولهم: الاستحسان دليل يقابل القياس الجلي، وهو حجة لأنه ثبت بالدلائل التي هي حجة بالإجماع وتلك الدلائل إما النص مثل السلم، والإجارة، فإن القياس الجلي دال على عدم الصحة، وإنما ترك بالأثر.

(1) راجع: المحلي مع حاشية البناني: 2/ 353، وتشنيف المسامع:(ق 129/ ب - 130/ أ)، والغيث الهامع: ق (140/ ب - 141/ أ)، وهمع الهوامع:(ص/ 399 - 400)، والتعريفات: ص/ 18، وأصول مذهب أحمد: ص/ 501، وإرشاد الفحول: ص/ 241، والأدلة المختلف فيها: ص/ 122.

ص: 30

وإما الإجماع كالاستصناع، فإنه خلاف القياس الجلي وجوز إجماعًا.

وقيل: هو قياس خفى قوي الأثر يقابل قياسًا لم يكن قوي الأثر.

قلنا: جميع ذلك راجع إلى الأدلة الأربعة، فإن وجد دليل لم يندرج تحت شيء من ذلك، فمن سماه استحسانًا، فقد شَرَّع (1)، أي: وضع الشريعة بعد النبوة، فإن استحله كفر، أو لا فكبيرة.

وأما قول الشافعي: "أستحسن أن لا تنقص المتعة (2) عن ثلاثين درهمًا"، "واستحسن أن يترك للمكاتب (3) شيء" ونحوهما (4)، فليس من

(1) إشارة إلى قول الإمام الشافعي رحمه الله: "من استحسن فقد شرع" بتشديد الراء، أى: نصب شرعًا على خلاف ما أمر اللَّه به ورسوله إنكارًا منه على القائلين به.

راجع: الرسالة ص/ 25، 505، 507، والأم: 7/ 270، والتبصرة: ص/ 492، والمنخول: ص/ 374، والمستصفى: 1/ 274، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 353.

(2)

المراد بها متعة الطلاق التي وردت في القرآن الكريم في عدة آيات منها قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241].

راجع: أحكام القرآن للشافعي: 1/ 201، والأم: 5/ 62، 7/ 235، ومغني المحتاج: 3/ 242، والإحكام للآمدي: 3/ 200.

(3)

وهى مكاتبة العبد بأن يتفق معه السيد على دفع مقدار معين له على أقساط ليصبح بعدها حرًا، والأصل في مشروعيتها قوله تعالى:{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]. راجع: الأم: 7/ 362، 364، ومختصر المزني بهامش الأم: 5/ 275.

(4)

كاستحسانه أن لا تقطع يمنى سارق أخرج يده اليسري، فقطعت. واستحسانه التحليف على المصحف.

راجع: الأم 6/ 133، 139، ومختصر المزني: 5/ 169، والإحكام للآمدي: 3/ 200، ووسائل الإثبات: ص/ 364.

ص: 31

الاستحسان (1) الذي هو أصل وراء الأصول الأربعة، كما أن الاستصحاب الذي قال به ليس أصلًا برأسه.

قوله: "مسألة قول الصحابي".

أقول: لا نزاع في أن مذهب الصحابي ليس حجة على صحابي آخر، إنما الخلاف في حجيته على غيره (2)، والحق أنه ليس حجة (3).

(1) يرى الزركشي، وغيره أن الخلاف لفظي راجع إلى معنى التسمية، وأن المنكر عند الشافعية إنما جعل الاستحسان أصلًا من أصول الشريعة مغايرًا لسائر الأدلة، أما استعمال لفظ الاستحسان، مع موافقة الدليل، فلا ينكر عند الجميع، وعليه يحمل استحسان الشافعي في المسائل التي سبق ذكرها، فلم يرد الشافعي أن دليل تلك المسائل الاستحسان المجرد، وإنما استحسن ذلك لمآخذ فقهية، إذ كيف يتصور ذلك والشافعي من أشد المنكرين له.؟

راجع: تشنيف المسامع: ق (130/ أ)، والغيث الهامع: ق (141/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع:(2/ 354)، وهمع الهوامع: ص/ 400، والمذكرة للشنقيطي: ص/ 167، والمسودة: ص/ 451، 452.

(2)

وهو قسمان: تارة ينتشر، ولم ينكر عليه، فسبق الكلام عليه في الإجماع السكوتي وتارة لا ينتشر، فذهب المالكية، وبعض الحنفية، والشافعي في القديم إلى أنه حجة.

(3)

وهذا ينسب إلى جمهور الأصوليين، وهو قول الشافعي في الجديد ورواية أخرى عن أحمد، ورجحه الغزالي، والآمدي، وابن الحاجب المالكي، والكرخي الحنفي، والشوكاني، وغيرهم.

راجع: التبصرة: ص/ 395، وأصول السرخسي: 2/ 105، 106، 109، والإحكام لابن حزم: 2/ 817، والبرهان: 2/ 1358، وتأسيس النظر: ص/ 105، والمستصفى: =

ص: 32

قال المصنف -ناقلًا عن والده-: حجة في التعبدي الذي ليس للقياس فيه مجال.

لما روي أن عليًا رضي الله عنه صلى في ليلة ست ركعات كل ركعة فيها ست سجدات.

قال الشافعي: لو صح عن عليّ أنه فعل لقلت به (1).

وهذا في الحقيقة ليس محل النزاع، لأن (2) الكلام فيما يقوله الصحابي برأيه، وما لا مجال للرأي فيه هو في المعنى حديث مرفوع.

وإذا لم يكن قوله حجة، فهل يجوز تقليده، أم لا؟

الحق: أنه لا يجوز؛ لأنهم وإن كانوا مجتهدين، لكن لم تدون أقوالهم، ومذاهبهم، فلم يوثق بما ينقل عنهم، كذا صرح به إمام الحرمين (3).

= 1/ 260، والجدل لابن عقيل: ص/ 8، والمحصول: 2/ ق/ 3/ 174، 178، وروضة الناظر: ص/ 84، والإحكام للآمدي: 3/ 199، والمختصر مع شرح العضد: 2/ 287، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 445، والمسودة: ص/ 276، 336، 470، وكشف الأسرار: 3/ 217، 219، والقواعد لابن اللحام: ص/ 295، وفواتح الرحموت: 2/ 186، وتيسير التحرير: 3/ 133، وإرشاد الفحول: ص/ 243.

(1)

راجع: المستصفى: 1/ 271، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 354.

(2)

آخر الورقة (124/ ب من أ).

(3)

راجع البرهان: 2/ 1359 - 1360.

ص: 33

وقيل: قوله حجة فوق القياس، فإذا تعارض قدم عليه.

قيل: هذا قوله القديم، وإليه ذهبت الحنفية (1).

فعلى هذا إذا اختلف صحابيان، فكان قولاهما كالدليلين يقدم أحدهما بالترجيح.

وقيل: حجة دون القياس، وعلى هذا هل يخصص العموم به؟

قولان لأصحابنا من غير ترجيح.

أما جوازه، فلأنه دليل شرعي، فالقياس يقتضي أن يخص به، وأما عدمه، فلأن الصحابة كانوا يتركون أقوالهم إذا بلغهم دليل عام.

وقيل: حجة إن انتشر، ولم يخالف، قيل: هذا -أيضًا- منقول عن القديم.

وقيل: إن خالف القياس، فهو حجة، وإلا فلا؛ لأنه لا يخالف القياس إلا لدليل أقوي، فالحجة في الحقيقة هو ذلك الدليل الذي خالف القياس لأجله.

وقيل: حجة إن انضم إلى قول الصحابي قياس يقربه، كما قال الشافعي -في البراءة من العيوب-: إذا باع حيوانًا بشرط البراءة من العيوب يبرأ عن عيب لا يعلمه.

(1) راجع: أصول السرخسي: 2/ 109، وكشف الأسرار: 3/ 217، وفتح الغفار: 2/ 139، وفواتح الرحموت: 2/ 186، وتيسير التحرير: 3/ 132.

ص: 34

قال: إنما قلته تقليدًا لعثمان رضي الله عنه (1).

وقيل: قول الشيخين حجة دون غيرهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر، وعمر".

وقيل: قول الخلفاء الأربعة لقوله: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين" وروي عن الشافعي ما عدا عليًا.

وأولى ما يقال -في توجيه ذلك-: أن عليًا رضي الله عنه كان قد اشتغل بالحروب، ورحل إلى العراق، وتفرقت الصحابة، عنه، بخلاف من قبله، فإنهم كانوا إذا وقعت لهم شبهة استشاروا الصحابة.

كما فعل أبو بكر رضي الله عنه في ميراث الجدة (2)، وعمر في طاعون الشام (3).

(1) قال الإمام الشافعي: "وإذا باع الرجل العبد، أو شيئًا من الحيوان بالبراءة من العيوب، فالذي نذهب إليه -واللَّه تعالى أعلم- قضاء عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه بريء من كل عيب لم يعلمه، ولم يبرأ من عيب علمه". الأم: 7/ 90، والرسالة ص/ 596 - 598.

(2)

قد تقدم ذكر قصتها، مع أبي بكر، وسؤاله للناس عن ميراثها، فأخبره المغيرة لابن شعبة، ومحمد بن مسلمة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فأجمعوا على ذلك.

راجع: مراتب الإجماع لابن حزم: ص/ 117، وبداية المجتهد: 2/ 346، والمغني لابن قدامة: 6/ 206، ومغني المحتاج: 3/ 10، والعذب الفائض: 1/ 62.

(3)

لخبر ابن عباس رضي الله عنهما، أن عمر رضي الله عنه خرج إلى الشام حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح، وأصحابه، فأخبروه أن الوباء =

ص: 35

هذا وأما ما وافق الشافعي فيه قول صحابي كزيد في الفرائض أو عثمان في مسألة براءة العيوب، فلموافقة اجتهاده، إذ قد اشتهر عنه أنه قال: كيف احتج بقول من لو عارضته لحججته (1).

وأيضًا الاتفاق على أن المجتهد لا يجوز له التقليد مطلقًا صحابيًا كان، أو غيره (2).

قوله: "الإلهام".

أقول: مما يتوهم أنه حجة شرعية الإلهام.

= قد وقع بأرض الشام، فجمع المهاجرين فاستشارهم، فاختلفوا عليه، فقال: ارتفعوا عني، ثم جمع الأنصار فاستشارهم فاختلفوا عليه فقال: ارتفعوا عني، ثم دعى بمشيخة قريش من مهاجرة الفتح فوافقوه على الرجوع، فرجع، فقال له أبو عبيدة: أفرارًا من قدر اللَّه؟

فقال عمر: لو غيرك قالها، نفر من قدر اللَّه إلى قدر اللَّه. . . فجاء عبد الرحمن بن عوف وكان متغيبًا في بعض حاجته، فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به بأرض فلما تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه"، فحمد اللَّه عمر ثم انصرف.

راجع: صحيح البخاري: 7/ 168 - 169، وصحيح مسلم: 7/ 27 - 30، ومسند أحمد: 1/ 193 - 194.

(1)

راجع: الأم: 7/ 10، والرسالة: ص/ 586، وما بعدها. وتشنيف المسامع: ق (131/ أ)، والغيث الهامع: ق (142/ أ).

(2)

سيأتي الكلام على هذه المسألة في بابها.

ص: 36

وهو إلقاء [المعنى](1) المشتمل على الخير في روع الإنسان بطريق الفيض لا السماع (2)، وهذا أمر محقق نقلًا وعقلًا، أما نقلًا فلما ورد في الحديث:"إن للملك [تغلبًا] (3) أي: لمة (4) وللشيطان لمة، أما لمة الملك فإيعاد بالخير، وأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر"(5) ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268](6).

(1) سقط من (ب) وأثبت لهامشها.

(2)

راجع تعريف الإلهام: المسودة: ص/ 477، ومجموع الفتاوى: 13/ 73، والروح لابن القيم: ص/ 256، والتعريفات: ص/ 34، وحاشية البناني على جمع الجوامع: 2/ 356، وهمع الهوامع: ص/ 404.

(3)

في (أ): "تغلب"، والمثبت من (ب) وهو الصواب لأنه اسم إن.

(4)

لمة: بفتى اللام وتشديد الميم من الإلمام ومعناه النزول، والقرب والإصابة، والمراد بها ما يقع في القلب بواسطة الشيطان، أو الملك.

راجع: النهاية لابن الأثير: 4/ 273.

(5)

روى الترمذي عن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن للشيطان لمة بابن آدم، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاذ بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من اللَّه فليحمد اللَّه، ومن وجد الأخرى فليتعوذ باللَّه من الشيطان ثم قرأ: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة: 268] "، قال الترمذي:"هذا حديث غريب، وهو حديث أبي الأحوص لا نعرفه مرفوعًا إلا من حديث أبي الأحوص".

راجع: تحفة الأحوذي: 8/ 332 - 333.

(6)

روى ابن ماجه عن جابر بن عبد اللَّه قال؛ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يا أيها الناس اتقوا اللَّه وأجملوا في الطلب، فإن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها، فاتقوا اللَّه وأجملوا في الطلب، خذوا ما حل ودعوا ما حرم".

راجع: سنن ابن ماجه: 2/ 4، وتفسير ابن كثير: 4/ 122.

ص: 37

ولقوله: "إن روح القدس نفث في روعي لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها"(1).

وإنما الكلام في كونه حجة على الغير، أو على نفسه، فالصواب أنه إن كان من معصوم مؤيد حجة مطلقًا، وإن كان من غيره فلا.

وما ورد في الأحاديث مثل: "استفت قلبك، وإن أفتاك الناس (2) وأفتوك"(3).

(1) راجع تفصيل الكلام عليه: المسودة: ص/ 477 - 478، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 92، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: 10/ 477، 478، 766، 11/ 65 - 66، 13/ 86 - 70، ومدارج السالكين: 1/ 44 - 50، وجمع الجوامع وحاشية البناني عليه: 2/ 356، قال الشريف الجرجاني:"وهو ليس بحجة عند العلماء إلا عند الصوفيين". التعريفات: ص/ 34.

(2)

قال المناوي: "وذلك لأن على قلب المؤمن نورًا يتقد، فإذا ورد عليه الحق التقى هو ونور القلب فامتزجا وائتلفا فاطمأن القلب، وإذا ورد عليه الباطل نفر نور القلب ولم يمازجه فاضطرب القلب". فيض القدير: 3/ 218.

وراجع: مجموع الفتاوى: 10/ 479، 13/ 68.

(3)

رواه الإمام أحمد، والترمذي، والدارمي، والطبراني، وأبو نعيم، وأبو يعلى عن وابصة ابن معبد الأسدي بألفاظ مختلفة، وطرق متعددة منها:"عن وابصة بن معبد الأسدي أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال لوابصة: "جئت تسأل عن البر والإثم؟ قال: قلت: نعم. قال: فجمع أصابعه فضرب بها صدره" وقال: استفت نفسك، استفت قلبك يا وابصة ثلاثًا، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس، وأفتوك" قال ابن رجب: "ففي إسناد هذا الحديث أمران يوجب كل منهما ضعفه: =

ص: 38

وقوله: "كان فيمن قبلكم مُحَدَّثون (1)، فإن كان في هذه الأمة محدث فهو عمر"(2). وأمثاله فهو محمول على الكرامة (3) الذي نحن قائلون بها (4).

وأما أنه يدل على أنه دليل شرعي فلا.

وأما كونه محققًا عقلًا، فلأن كل أحد يجد في نفسه خواطر الخير من الحج، والصوم، وغيرهما بلا ريب، بل قَلَّ ما يخلو وقت منها.

= أحدهما: الانقطاع بين أيوب، والزبير، فإنه رواه عن قوم لم يسمعهم.

الثاني: ضعف الزبير هذا، قال الدارقطني: روى أحاديث مناكير وضعفه ابن حبان أيضًا".

وقال: "وقد روي هذا الحديث من وجوه متعددة، وبعض طرقه جيدة".

راجع: مسند أحمد: 4/ 182، 228، وتحفة الأحوذي: 7/ 64، وسنن الدارمي: 2/ 246، وفيض القدير: 3/ 218، جامع العلوم والحكم: ص/ 218 - 220، وكشف الخفاء: 1/ 136.

(1)

المحدَّثون: الملهمون، والملهم هو الذي يُلْقَى في نفسه الشئ فيخبر به حدسًا، وفراسة، وهو نوع يختص به اللَّه عز وجل من يشاء من عباده الذين اصطفى مثل عمر، كأنهم حدثوا بشيء، فقالوه.

راجع: النهاية لابن الأثير: 1/ 350، والمفردات للراغب: ص/ 110.

(2)

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لقد كان فيمن كان قبلكم من الأمم مُحَدَّثون فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر" رواه البخاري، وأحمد، وغيرهما.

راجع: صحيح البخاري: 5/ 15، ومسند أحمد: 6/ 55، والجامع الصغير: 2/ 85.

(3)

سيأتي تعريفها.

(4)

سيأتي الخلاف في ذلك آخر الكتاب.

ص: 39

وقول الصوفي: [إنه](1) أُلْهِم كذا فهو حجة. بدعة، وضلالة لا يلتفت [إليه لأنه تشريع بعد النبوة، فيجب على كل مسلم ردع الصوفي القائل هذا الكلام، فإنه يفسد عقائد العوام](2) وإنما ترك المصنف المصالح المرسلة (3) لأنه علم إلغاؤها من باب القياس حيث ذكر أن الوصف المرسل لا يصلح علة (4).

قوله: "خاتمة".

(1) سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(2)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

هي إثبات العلة بالمناسبة، وذلك إن شهد الشرع باعتبارها كاقتباس الحكم من معقول دليل شرعي فقياس، أو بطلانها كتعيين الصوم في كفارة وطء رمضان على الموسر كالملك ونحوه فلغو، وقد تقدم، ذلك في مسالك العلة، فالجمهور من أهل الأصول، والجدل، والمتكلمين انكروا بناء الأحكام عليها، ونقل عن مالك، وأبي حنيفة القول بها.

راجع: تعريف المصالح المرسلة واختلاف العلماء في أسمائها: البرهان: 2/ 1113، 1120، وشفاء الغليل: ص/ 211، والمستصفى: 1/ 284، والمحصول: 2/ ق/ 3/ 216، وشرح تنقيح الفحول: ص/ 445، والمسودة: ص/ 450، ومجموع الفتاوي: 11/ 342، والعضد على ابن الحاجب: 2/ 289، وروضة الناظر: ص/ 86، وتيسير التحرير: 4/ 171، وإرشاد الفحول: ص/ 241، وضوابط المصلحة: ص/ 370، وعلم أصول الفقه لخلاف: ص/ 97.

(4)

سبق ذلك في 3/ 296 وما بعدها.

ص: 40

أقول: هذه فائدة ذكرها تبرعًا ليس لها تعلق بأصول الفقه، لأن أصول الفقه أدلته (1).

فالبحث فيها لا يكون إلا فيما هو دليل الفقه إما اتفاقًا، أو اختلافًا قال القاضي حسين: مبنى الفقه على أربع قواعد:

الأولى: أن الشك الطارئ لا يرفع حكم اليقين السابق.

مثاله: الشك في الحدث بعد يقين الطهارة، فالحكم للطهارة (2).

الثانية: الضرر يزال (3).

(1) هذه القواعد تشبه الأدلة، وليست بأدلة لكن ثبت مضمونها بالدليل وصارت يقضى ما في جزئياتها كأنها دليل على ذلك الجزئي، فلما كانت كذلك ناسب ذكرها في باب الاستدلال.

راجع: أصول السرخسى: 2/ 116، 117، وتأسيس النظر: ص/ 145، والأشباه والنظائر للسيوطي: ص/ 50، والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص/ 56، والمدخل إلى مذهب أحمد: ص/ 139، والمدخل الفقهي العام: 2/ 961.

(2)

ومعنى هذا أن الإنسان متى تحقق شيئًا، صم شك هل زال ذلك الشيء المتحقق أم لا؟ الأصل بقاء المتحقق، فيبقى الأمر على ما كان متحققًا لحديث عبد اللَّه المازني:"شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة قال: لا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا".

راجع: صحيح البخاري: 1/ 45، وصحيح مسلم مع شرح النووي: 4/ 49، واللؤلؤ والمرجان: 1/ 74، ومسند أحمد: 4/ 39، 40، وسنن أبي داود: 1/ 40.

(3)

لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار".

راجع: الأشباه والنظائر للسيوطي: ص/ 84، والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص/ 85، والمحصول: 2/ ق/ 3/ 146، والمدخل الفقهي: 2/ 971، المحلي على جمع الجوامع: 2/ 356.

ص: 41

مثاله: يجب ضمان المتلفات، ورد المغصوب، وإطعام الجائع الواقع في المخمصة، ونصر المظلوم.

الثالثة: المشقة تجلب التيسير (1).

مثاله: جواز القصر، والجمع، والفطر في السفر، ومن الأمثال إذا ضاق الأمر اتسع.

الرابعة: تحكيم العادة (2)

(1) راجع: الأشباه والنظائر للسيوطى: ص/ 76، والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص/ 75، وأصول الفقه الإسلامي: ص/ 363، 373، والأصل في هذه القاعدة قوله تعالى:{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66]، وقوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، وقوله صلى الله عليه وسلم:"بعثت بالحنيفية السمحة".

راجع: مسند الإمام أحمد: 5/ 266، 6/ 116، 233.

(2)

هو معنى قول الفقهاء: "إن العادة محكمة، أى: معمول بها شرعًا. قال ابن عطية في قوله سبحانه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف: 199]، إن معنى العرف كل ما عرفته النفوس مما لا ترد به الشريعة"، ولقول ابن مسعود:"ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند اللَّه حسن وما رآه المسلمون سيئًا فهو عند اللَّه سيئ".

راجع: مسند أبي داود الطيالسي: ص/ 33، والمقاصد الحسنة: ص/ 368، وكشف الخفاء: 2/ 263، ومسند أحمد: 1/ 379، وراحع: الأشباه والنظائر للسيوطي: ص/ 89، والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص/ 93، ورسائل ابن عابدين 1/ 44.

وراجع معنى العرف: المسودة: ص/ 123، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 448، وأعلام الموقعين: 2/ 448، والموافقات: 2/ 220، والعرف والعادة: ص/ 10، وأصول مذهب أحمد: ص/ 523، والمدخل الفقهي العام: 2/ 838.

ص: 42

مثاله: أقل الحيض، وأكثره، وفي باب الأطعمة الرجوع إلى [العرف](1) فيما لا نص فيه.

وزاد بعضهم خامسة، هي قولهم: المأمور بمقاصدها (2) فيدل على وجوب النية في الطهارة، وهذه مأخوذة من قوله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات"(3)، ولعل القاضي إنما تركها لكونها مستفادة من صريح الحديث وعامة في جميع القواعد.

* * *

(1) في (أ، ب): "العرب"، والمثبت أوضح.

(2)

راجع: الأشباه والنظائر للسيوطي: ص/ 8، والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص/ 37، والمدخل الفقهي العام: 2/ 959.

(3)

وربما أخذت كذلك من قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، ولأن أفعال العقلاء إذا كانت معتبرة فإنما تكون عن قصد.

ص: 43