المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب في مسائل أصول الدين - الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع - جـ ٤

[أحمد بن إسماعيل الكوراني]

الفصل: ‌باب في مسائل أصول الدين

‌باب في مسائل أصول الدين

قوله: "مسألة اختلف في التقليد في أصول الدين".

أقول: لما ذكر مباحث التقليد في الفروع ناسب ذكر التقليد في الأصول، أي: أصول الدين، والمراد بأصول الدين المسائل الاعتقادية التي لا تتوقف على كيفية عمل (1) كوجود الصانع (2)، وحدوث العالم، وهي التي تسمى: علم الكلام.

ولنقدم جملة مما يتعلق به ليفيد بصيرة الطالب، ونجعله مسائل:

(1) قال الأشموني: "وقسم صاحب الأصل مباحثه إلى ما هو علمي، وعملي، وهو ما يجب اعتقاده، وإلى ما هو علمي لا عملي، أي: لا يجب معرفته في العقائد، وإنما هو من رياضات العلم، وأحسن في التمييز بينهما وذكر في الثاني جملة من علم الحكمة، والطبيعي" همع الهوامع: ص/ 441.

وراجع: تشنيف المسامع: ق (147/ ب)، والغيث الهامع: ق (157/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 400، والدرر اللوامع لابن أبي شريف: ق (273/ أ).

(2)

إطلاق الصانع، والواجب، والمبدع على اللَّه تعالى لم يرد به الإذن وسيأتي في ص/ 370 - 372 من هذا الكتاب أن الشارح أجاز ذلك بناء على أن ما خلا عن إيهام النقص، وأشعر بالتعظيم يجوز إطلاقه على اللَّه تعالى، وأما ما كان موهمًا خلاف التعظيم، ومشعرًا بالنقص كالعاقل، والسخي، والفطن، ونظائرها، فلا يجوز إطلاقها على اللَّه تعالى.

ص: 165

الأولى: تعريفه:

علم الكلام: علم يعرف به القواعد الشرعية الاعتقادية المكتسبة من الأدلة اليقينية (1) سواء توقفت على الشرع أم لا، وسواء كانت مطابقة لنفس الأمر، أم لا، لأن الخصم كالمعتزلي، والكرامي، وإن بدعناه لا نخرجه عن علماء الكلام.

فعلى هذا المراد بالشرعي، ما نسب إلى الشرع في الجملة، فخرج علم اللَّه، وعلم الرسول، لأنه ليس من الأدلة، ودخل علم الصحابة بتلك العقائد، لأنه من الأدلة اليقينية، وإن لم يكن هذا العلم مدونًا إذ ذاك.

قال صاحب المواقف: "هو علم يقتدر معه على إثبات القواعد الدينية بإيراد الحجج، ودفع الشبه"(2).

ويعلم منه أن استحضار جميع القواعد ليس شرطًا. بل يكون عنده من المآخذ، والشرائط ما يكفيه في استحضار العقائد.

الثانية: موضوعه:

وقد تقدم في أول الكتاب أن تمايز العلوم في ذاتها بتمايز الموضوعات.

(1) وعرفه الجرجاني بقوله: علم باحث عن الأعراض الذاتية للوجود من حيث هو على قاعدة الإسلام، وسيأتي ذكر الشارح لتعريف الإيجي له.

راجع: المواقف: ص/ 7، والتعريفات: ص/ 156، وتشنيف المسامع: ق (147/ ب)، والغيث الهامع: ق (157/ أ - ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 401 - 402، وهمع الهوامع: ص/ 441.

(2)

المواقف: ص/ 7.

ص: 166

فموضوع علم الكلام قيل: ذات اللَّه تعالى من حيث الصفات، والأفعال، لأن موضوع كل علم ما يبحث في ذلك العلم عن أحواله، ولما كان بحث الأصولي عن قدم الذات، ووجوب الوجود، وأنه فاعل بالاختيار، مرسل للرسل إلى غير ذلك، كان موضوعه الذات من تلك الحيثية (1).

وأورد عليه بأن علم الكلام كما يبحث فيه عن أحوال الذات، فكذا يبحث فيه عن أحوال الممكنات من حيث صدورها، واستنادها إليه تعالى، فلا بد من ضمها إليه، فزادها بعضهم، وهو صاحب (2) الصحائف (3).

وأورد عليه بأن كثيرًا من مباحث علم الكلام لا يلاحظ فيها الاستناد إليه تعالى مثل المعدوم ليس بشيء، والحال ليس بثابت، فعدل

(1) راجع: المواقف للإيجي: ص/ 7.

(2)

هو محمد بن أشرف الحسيني السمرقندي شمس الدين عالم بالمنطق والفلك، والهندسة، وغير ذلك له مصنفات في علم الكلام وغيره، منها: الصحائف الإلهية، وكتاب عيني النظر في المنطق، والفسطاط، ورسالة في آداب البحث والمناظرة، وأشكال التأسيس في الهندسة، وتوفي في حدود (600 هـ).

راجع: كشف الظنون: 1/ 39، 105، 2/ 1075، وهدية العارفين: 2/ 106، وتراث العرب العلمي: ص/ 216، ومعجم المؤلفين: 9/ 63.

(3)

قال في كشف الظنون: "الصحائف فى الكلام - أوله الحمد للَّه الذي استحق الوجود، والوحدة إلخ وهو على مقدمة، وست صحائف، وخاتمة. . . " الكشف: 2/ 1075.

ص: 167

بعضهم إلى أن موضوعه الموجود من حيث هو موجود على قانون الإسلام (1)، وهذا مختار الغزالي (2).

وأورد عليه البحث عن المعدوم، والحال، فإنه لا وجود، مع أن البحث عنهما من مسائل الكلام.

وأجيب بأنا لا نسلم أنها من مسائل الكلام، بل إنما أوردت تتميمًا للمقصود إذ الأشياء تتضح بمقارنة أضدادها.

ولما كان تلك المباحث متكثرة، ودعوى الاستطراد تتميمًا للمقصود لا يخلو عن تكلف، اختار المتأخرون (3) كون موضوعه المعلوم ليشمل الموجود، والمعدوم، والواجب، والممكن من غير شائبة كلفة.

الثالثه: مسائله هي القواعد الشرعية الاعتقادية النظرية.

وقولنا: النظرية يخرج الضروري، أي: ما علم من الدين ضرورة، فلا يكون من علم الكلام، كما أن الأحكام الفروعية التي صارت من ضروريات الدين لا تعد من الفقه.

الرابعة: غايته، وغاية علم الكلام إحكام العقيدة (4)، بحيث لا تزلزلها شبه المبطلين، وغاية هذه الغاية الفوز بمرضاة اللَّه، والأمن من عقابه.

(1) راجع: المواقف: ص/ 7 - 8.

(2)

راجع: المستصفى: 1/ 5 - 6.

(3)

واختاره الإيجي في مواقفه: ص/ 7.

(4)

راجع: المواقف: ص/ 8.

ص: 168

الخامسة: شرفه، ورتبته، فهو أشرف العلوم، لأن شرف العلم بشرف موضوعه، وغايته (1).

وقد علمت أن موضوعه أشرف الأشياء لاشتماله على ذاته تعالى، وأحواله.

وغايته: الفوز برضا اللَّه، والأمن من عقابه.

السادسة: وجه التسمية بعلم الكلام، إما (2) لأن مسألة الكلام أشهر مسائله، وكثر الخلاف فيها، حتى قتل فيها أئمة كثيرون، فسمي العلم به تسمية للشيء بأشهر أجزائه.

وإما لأن الماهر فيه يقتدر على الكلام في الاستدلالات، ودفع الشبه.

وإما لأن هذا العلم عند المسلمين في مقابلة المنطق للفلاسفة، فسمي به تمييزًا بينهما.

وإما، لأنه أول ما دون كانت مسائله مصدرة بلفظ: الكلام في كذا، الكلام في كذا (3).

(1) راجع: المواقف: ص/ 8، وتقدم في أول الكتاب تحقيق القول في أشرف العلوم، وأنه عسير، وإن كان ولا بد من ذلك فعلم التوحيد أشرفها.

(2)

نفس المرجع السابق.

(3)

راجع: المواقف في علم الكلام: ص/ 8 - 9، والغيث الهامع: ق (157/ ب)، وتشنيف المسامع: ق (147/ ب).

ص: 169

فإن قلت: إذا كان أشرف العلوم، فكيف طعن فيه السلف ومنعوا من الاشتغال به (1)؟

(1) قلت: قد وردت نصوص كثيرة عن التابعين، وأتباعهم، والأئمة الأربعة، بل من قبلهم الصحابة رضي الله عنهم جميعًا.

وقد وردت آثار في النهي عن الجدل الذي يؤدي إلى ترك الحق وإثارة العداوة، والبغضاء إلا ما كان منه بالتي هي أحسن، وقصد من ورائه إظهار الحق لا غير.

وقد ألف الإمام الهروي كتابه (ذم الكلام) أورد فيه الآثار الواردة في ذم ذلك، وأقوال الصحابة، والتابعين، والأئمة وغيرهم، وقد لخصه السيوطي في كتابه (صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام).

وإليك بعض أقوال الأئمة الأربعة رحمهم الله باعتبارهم جاؤوا بعد تدوين، وظهور علم الكلام.

قال نوح الجامع: قلت لأبي حنيفة: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض، والأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف. وإياك وكل محدثة فإنها بدعة.

وقال أبو يوسف القاضي: من طلب الدين بالكلام تزندق.

وقال مالك: "لا تجوز شهادة أهل البدع، والأهواء - يعني أهل الكلام".

وقال الشافعي: "ما ارتدى أحد بالكلام فأفلح، ورأى في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد، وأن ينادى عليهم في العشائر: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، واشتغل في علم الأوائل".

وأما الإمام أحمد فقد كان شديد الكراهية للكلام، والرأي، وقد ذكر كلامه فى مناقبه.

راجع: مناقب الإمام أحمد: ص/ 177 وما بعدها، ونقض المنطق لابن تيمية: ص/ 12 - 13، وصوت المنطق للسيوطي: ص/ 33، 59 - 67، وهمع الهوامع: ص/ 441، ومناقب الشافعي لابن أبي حاتم: ص/ 182 - 187، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/ 14، 15، 5/ 22، 120، 261، والدرر اللوامع لابن أبي شريف: ق (273/ ب - 274/ أ).

ص: 170

قلت: ذلك محمول على ما إذا أراد به التعصب، وإفساد عقائد المسترشدين، أو ترجيحًا لما يقوله أهل الضلال (1)، وإلا ما يقوي الإيمان، ويزيح عنه شبه المبطلين، لا يخفى حسنه في الدين، كيف وتعلمه معدود من فروض الكفاية، وقد دون في كتب الفروع أنه من فروض الكفاية.

وعن الشيخ الأشعري أن إيمان المقلد لا يصح، ولما كان بظاهره يستلزم عدم صحة إيمان العوام، الذين ليسوا بقادرين على] (2) الاستدلال دفعه القشيري (3)، بأن هذا لم يصح نقله عن الشيخ (4).

(1) وقد حمل ذم الشافعي للكلام، وأهله على ما ذكره الشارح.

راجع: تشنيف المسامع: ق (147/ ب)، والغيث الهامع: ق (157/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 441.

(2)

إلى هنا ينتهي السقط من (ب) المشار إليه في ص/ 147.

(3)

هو عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك النيسابوري الشافعي الملقب بزين الإسلام قال ابن السبكي: "كان فقيهًا، بارعًا، أصوليًا محققًا، متكلمًا سنيًا، محدثًا، حافظًا، مفسرًا، متقنًا، نحويًا لغويًا، أديبًا" أشهر مؤلفاته: التفسير الكبير، والرسالة، والتحبير في التذكير، ولطائف الإشارات، وغيرها توفي سنة (465 هـ).

راجع: المنتظم: 8/ 280، وإنباه الرواة: 2/ 193، ووفيات الأعيان: 2/ 375، وطبقات ابن السبكي: 5/ 153، وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 338، وشذرات الذهب: 3/ 319.

(4)

قال العراقي ولي الدين: "وأنكره أبو القاسم القشيري وقال: هذا كذب وزور من تدليس الكرامية على العوام، فإنهم يقولون: الإيمان الإقرار المجرد، وعند الأشعري: الإيمان هو التصديق، والظن بحميع عوام المسلمين أنهم يصدقون اللَّه تعالى في أخباره، فأما ما تنطوي عليه العقائد فاللَّه أعلم به" الغيث الهامع: ق (157/ ب - 158/ أ).

وراجع: تشنيف المسامع: ق (148/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 442.

ص: 171

قال المصنف: والتحقيق أن التقليد إن كان أخذ القول من الغير بغير حجة، مع احتمال شك، أو وهم، فلا يكفي في الإيمان، وإن كان جزمًا خاليًا عنهما، فيصح، وبه يجمع بين قول الأشعري وغيره.

وإن شئت تحقيق المسألة بما لا مزيد عليه، فاسمع لمقالتنا، اعلم أن أهل السنة كلهم من قال بإيمان المقلد، ومن لم يقل به متفقون على أن مقابل التقليد هنا هو الاستدلال بالأثر على المؤثر، وبالمصنوع على الصانع، ولا يلزم في هذا الاستدلال الاقتدار على إيراد الحجج، ودفع الشبه لو اعترض عليه مبتدع، بل ذلك من فروض الكفاية التي يقوم بها في كل ناحية عالم متبحر.

إنما المراد بالاستدلال مجرد الانتقال من الأثر إلى المؤثر على ما نقل عن الأعرابي (1).

(1) هو قس بن ساعدة بن عمرو بن عدي بن مالك من بني إياد، أحد حكماء العرب، ومن كبار خطبائهم في الجاهلية، كان أسقف نجران، متحنفًا، موحدًا للَّه تعالى في الجاهلية، ويقال: إنه أول عربي خطب متوكئًا على سيف، أو عصًا، وأول من قال في كلامه:"أما بعد" وكان يفد على قيصر زائرًا، فيكرمه ويعظمه، وهو معدود في المعمرين طالت حياته حتى أدركه النبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، ورآه في عكاظ يخطب في الناس، ثم سئل صلى الله عليه وسلم عنه بعد ذلك فقال:"يحشر أمة وحده" وتوفي حوالي (23 قبل الهجرة).

راجع: خزانة الأدب: 1/ 267، والبيان والتبيين: 1/ 207، وعيون الأثر: 1/ 68، والأغاني: 15/ 246، والأعلام للزركلي: 6/ 39.

ص: 172

"البعرة تدل على البعير، وآثار الأقدام على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، فكيف لا يدلان على الصانع الخبير؟ "(1) فإذا كان معنى الاستدلال ما ذكرنا، ولا يحتاج فيه إلى تحرير الأدلة، ودفع الشبه، لم يوجد بين المسلمين مقلد قط. إذ أجهل من يتصور فيهم كالرعاة، وسكان البوادي إذا رأى شيئًا عجيبًا موثقًا يقول: سبحان من خلقه، وهذا استدلال منه على موجد العالم، وإذا كان هذا حال أجهلهم، فكيف بمن نشأ بين العلماء، والوعاظ، ولازم الجماعة والجمعة؟

قال المولى المعظم التفتازاني -في شرح المقاصد-: "ليس الخلاف في هؤلاء الذين نشؤوا في ديار الإسلام من الأمصار، والقرى، والصحارى، ولا الذين يتفكرون في خلق السموات، والأرض (2)، واختلاف الليل، والنهار (3)، فإن هؤلاء كلهم أهل النظر، والاستدلال، بل في من نشأ على شاهق جبل، ولم يتفكر في ملكوت السموات، والأرض، وأخذه إنسان، وأخبره بما يجب عليه اعتقاده وصدقه بمجرد إخباره من غير

ص: 173

تفكر، وتدبر (1)، فهذا مجمل كلام الأشعري" (2) وبه يستقيم ما ورد في الأخبار والآثار من قبول الإيمان من العوام؛ لأنه لا يصدق على أحد منهم اسم المقلد.

وما ذكره المصنف من التحقيق ليس بشيء، لأن الجزم الخالي عن الدليل الموجب قابل للزوال، وليس من العلم اليقيني في شيء، بل ذلك يسمى بالاعتقاد الذي هو قسيم العلم.

(1) ذهب الجمهور إلي منع التقليد في أصول الدين بل يجب فيه النظر؛ لأن المطلوب فيه اليقين لقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19]، وقد علم ذلك وقال للناس:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158].

وحكي عن العنبري وغيره الجواز، ولا يجب النظر اكتفاء بالعقد الجازم لأنه صلى الله عليه وسلم كان يكتفي في الإيمان من الأعراب بالتلفظ؛ لأنهم ليسوا أهلًا للنظر، فيكتفي منهم بالتلفظ بالشهادتين المبني على العقد الجازم، ويقاس غير الإيمان عليه.

الثالث: يجب التقليد ويحرم النظر، لأنه مظنة الوقوع في الشبه والضلال لاختلاف الأذهان، والأنظار بخلاف التقليد وهو أن يجزم المكلف عقده بما جاء به الشرع من العقائد.

راجع: المذاهب وأدلتها: الإحكام لابن حزم: 2/ 861، والفقيه والمتفقه: 2/ 66، واللمع: ص/ 70، والمعتمد: 2/ 365، والمحصول: 2/ ق/ 3/ 125، والإحكام للآمدي: 3/ 246، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 430، 444، والمسودة: ص/ 457، 460، ومختصر ابن الحاجب: 2/ 305، ومختصر الطوفي: ص/ 183، ومختصر البعلي: ص/ 166، وفواتح الرحموت: 2/ 401، وتيسير التحرير: 4/ 243، والمدخل إلى مذهب أحمد: ص/ 193، وإرشاد الفحول: ص/ 266، والمحصل للرازي: ص/ 61.

(2)

راجع: شرح المقاصد: 5/ 223 - 224.

ص: 174

وقوله: "خلافًا لأبي هاشم" ليس، كما ينبغي لأن أبا هاشم إنما يقول: بوجوب الاستدلال بمعنى تحرير الدلائل، ودفع الشبه، صرح به التفتازاني في شرح المقاصد (1).

قوله: "فليجزم عقده بأن العالم محدث".

أقول: هذا تفريع على اختياره من الاكتفاء بالجزم، أي: إذا علمت ما ذكرنا فالواجب على المكلف الجزم بحدوث العالم، وقد نبهناك على فساده (2).

والعالم ما سوى اللَّه تعالى من الممكنات يشمل الأعراض، والجواهر، وليس اسمًا لجميع ما سواه من حيث الجميع وإلا لم يصح جمعه، بل هو للقدر المشترك بين الكل.

وكثيرًا ما يطلق، ويراد به الثقلان، أي: الإنس، والجن، مثل:{وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} (3)"سيدة نساء العالمين"(4).

(1) راجع: شرح المقاصد: 5/ 224.

(2)

يعني فساد الجزم الخالي عن الدليل الموجب؛ لقبوله الزوال كما تقدم عنه.

(3)

من قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 16].

(4)

روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون" وكذا رواه الترمذي.

ونقل ابن كثير من رواية ابن مردويه عن أنس: "خير نساء العالمين أربع" ثم ذكر الحديث السابق.

وورد اللفظ المذكور أعلاه في "السنن الكبرى" للنسائي: 4/ 252، و"المستدرك": 3/ 156. =

ص: 175

والإحداث: إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، فقبل الوجود العالم ممكن، ولا يوصف بالحدوث إلا باعتبار المآل، وبعده يوصف بالحدوث، والإمكان.

وعلة احتياج العالم إما الإمكان، وإليه ذهب الفلاسفة، أو الحدوث مطلقًا، أو مع الإمكان، أو بشرطه مذاهب لأهل الحق. والحدوث: هو الوجود بعد العدم، وعند الفلاسفة ينقسم إلى قسمين: إلى حدوث زماني: كحدوث زيد، وعمرو.

وإلى حدوث ذاتي: كحدوث الأفلاك، فإنها قديمة بالزمان، وإن كانت حادثة بالذات (1).

= ورواه ابن عساكر بلفظ: "حسبك منهن أربع سيدات نساء العالمين. . . " الحديث وقد استقصى ابن كثير طرق هذا الحديث، وألفاظه في قصة عيسى ابن مريم في البداية والنهاية.

راجع: مسند أحمد: 3/ 135، وتحفة الأحوذي: 10/ 389، والبداية والنهاية: 2/ 59 - 63، وتفسير ابن كثير: 1/ 363 - 364، وفتح القدير للشوكاني: 1/ 339 - 340، وانظر صحيح البخاري: 5/ 36.

(1)

مذهب أهل الحق أن العالم بجملته علويه، وسفليه، جواهره، وأعراضه محدث، يعني وجد بعد العدم، وعلى هذا أجمع أهل الملل.

وذهب الفلاسفة إلى أن العالم قديم بمادته وصورته، وذهب البعض منهم إلى أنه قديم المادة محدث الصورة، وقد ضللهم المسلمون في ذلك، بل وكفروهم، وقالوا: من زعم أن العالم قديم، فقد أخرجه عن كونه مخلوقًا للَّه تعالى، وهذا أخبث من قول النصارى لأنهم، أي: النصارى أخرجوا من عموم خلقه شخصًا واحدًا، أو شخصين، لكن الفلاسفة أخرجوا -بقولهم قدم العالم- علويه، وسفليه عن كونه مخلوقًا للَّه تعالى. وبقول الفلاسفة قالت الكرامية. وقد برهن أهل الحق على حدوثه بالبراهين القاطعة، =

ص: 176

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= والأدلة الساطعة، منها: أنه تتغير عليه الصفات، ويخرج من حال إلى حال، وهذا آية الحدوث، مقتفين في ذلك طريقة الخليل صلوات اللَّه وسلامه عليه، فإن اللَّه سماها حجة، وأثنى عليه حيث استدل بأفول الكواكب، وشروقها، وزوالها بعد اعتدالها على حدوثها، واستدل بحدوث الآفل على وجود المحدث، والحكم على السماوات والأرض بحكم النيرات الثلاثة، وهو الحدوث، طرد الدليل في كل ما هو مدلوله ليساويهما في علة الحدوث، وهو الجسمانية، فإذا وجب القضاء بحدوث جسم من حيث إنه جسم وجب القضاء بحدوث كل جسم، وهذا هو المقصود من طرد الدليل، قال تعالى:{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 75 - 76] إلى قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 83].

وفي صحيح البخاري عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: جاء نفر من اليمن قالوا: يا رسول اللَّه جئنا نتفقه في الدين، ونسألك عن أول هذا الأمر، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"كان اللَّه ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب كل شيء في الذكر، وخلق السماوات، والأرض، وفي لفظ ثم خلق السماوات والأرض".

قال أهل الحق: وهذا تلقين من النبي صلى الله عليه وسلم إياهم أصول الدين، وتعريف لهم حدوث العالم، ووجوده بعد أن لم يكن موجودًا، وانفراد الرب بالوجود الأول دون ما سواه من سائر الموجودات.

وفي الاعتراف بانقضاء العالم، وفنائه اعتراف بحدوثه إذ القديم لا يفنى.

راجع: صحيح البخاري: 9/ 152، والمحصل للرازي: ص/ 194، 213، ومعالم أصول الدين له: ص/ 41، والمواقف في علم الكلام: ص/ 76، 266، وتشنيف المسامع: ق (149/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 442، والغيث الهامع: ق (158/ أ - ب)، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: 2/ 188، 5/ 539 - 540. =

ص: 177

وهذا مبني على أن الباري تعالى موجب لا اختيار له في صنعه بل صنعه لازم له كالضوء للشمس.

وعند أهل الحق فاعل بالاختيار، والقدرة، والإرادة وصنع المختار لا [يجوز أن](1) يكون قديمًا، قال بعض الشارحين (2):"عندنا القديم ينافي الاحتياج، فلا يجوز افتقار القديم إلى المؤثر" وهذا غلط منه، لأن صفاته تعالى محتاجة إلى ذاته، مع كونها قديمة.

والصواب: أن يقال: محتاجة إلى المؤثر، لكن غير محتاجة إلى الغير إذ الصفات ليست غير الذات.

قوله: "وله صانع وهو اللَّه الواحد".

أقول: قولنا: العالم مُحدَث دعوى لا بد لها من دليل، والدليل على ذلك أنه موجود بعد العدم.

فوجوده إما من ذاته، فيلزم قدمه، لأن ما للشيء بالذات لا يفارقه وهو باطل للاتفاق على حدوثه.

ولأنه متغير، وكل متغير حادث، فلا بد، وأن يستند وجوده إلى موثر فينتقل الكلام إلى ذلك المؤثر.

فنقول: إما حادث، أو قديم، فإن كان حادثًا، فيحتاج إلى مؤثر آخر، وهلم جرًا.

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(2)

هو العلامة الزركشي في شرحه على جمع الجوامع. تشنيف المسامع: ق (149/ أ).

ص: 178

فإما أن تعود السلسلة إلى الأول فدور، أو تذهب إلى غير النهاية فتسلسل، وكلاهما باطل (1).

فلا بد من انتهائه إلى مؤثر غير محتاج إلى غيره، وهو اللَّه تعالى، هذا في ثبوته.

وفي (2)(3) توحيده نقول: لا شريك له في ألوهيته، ولا جزء له، ولا يشبه شيئًا من الأشياء.

وتحقيق الكلام في هذا المقام أن نقول: لا جزء له بحسب الماهية، لأنه لا يجانس شيئًا حتى يحتاج إلى الفصل، فلا جزء له عقلًا.

(1) يرى شيخ الإسلام أن الفطر تعرف الخالق بدون الاستدلال عليه بالممكنات، وأن الممكن لا بد له من واجب، وأن هذه المقالة وهي الاستدلال على إثبات الخالق بالممكنات أحدثها ابن سينا.

فقال: "الفطر تعرف الخالق بدون هذه الآيات، فإنها قد فطرت على ذلك، ولو لم تكن تعرفه بدون هذه الآيات لم تعلم أن هذه الآية له. . . ".

وقال -في موضع آخر-: "ولما كان الإقرار بالصانع فطريًا كما قال صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة" الحديث، فإن الفطرة تتضمن الإقرار باللَّه، والإنابة إليه، وهو معنى لا إله إلا اللَّه، فإن الإله هو الذي يعرف، ويعبد" مجموع الفتاوى: 1/ 48 - 49، 2/ 6.

وانظر: المحصل للرازي: ص/ 216 - 221، ومعالم أصول الدين: ص/ 44، والمواقف للإيجي: ص/ 266.

(2)

في (ب): "في" بدون واو والمثبت من (أ).

(3)

آخر الورقة (123/ ب من ب).

ص: 179

ولا بحسب الخارج، لأنه لو كان مركبًا في الخارج لزم إمكانه لاحتياجه إلى أجزائه، وكل محتاج ممكن (1)، وقد ثبت أنه واجب لا ممكن (2).

ولا بحسب المقدر لأنه من خواص الأجسام، وقد أبطلنا كونه جسمًا لاحتياجه إلى الأجزاء، والمكان كما سيأتي.

ولا يشبه شيئًا، لأن ما عداه حادث، والقديم لا يشبه الحادث.

فإن قلت: مذهب المتكلمين أن الوجود لفظ مقول على الوجودات بالتواطئ، وأفراد المتواطئ متشابهة كأفراد الإنسان.

قلت: الوجود ليس أمرًا محققًا في الخارج، ولا جزءًا عقليًا في الأشياء الموجودة، بل الوجود المطلق، وهو الكون في الأعيان، يطلق على الوجودات الخاصة قولًا عرضيًا (3).

وأما وجوده الخاص تعالى، فهو عين ذاته في الخارج على ما ذهب إليه الشيخ الأشعري من أن وجود كل شيء عينه (4)، ولو كان زائدًا في

(1) راجع: المحصل: ص/ 95، 224، ومعالم أصول الدين: ص/ 31 - 32.

(2)

تكلم شيخ الإسلام عن الفرق بين الممكن والواجب بإسهاب مفيد.

راجع: مجموع فتاواه: 2/ 32 - 38.

(3)

راجع: معالم أصول الدين: ص/ 29.

(4)

قال شيخ الإسلام: "فإن الذي عليه أهل السنة، والجماعة، وعامة العقلاء أن الماهيات مجعولة، وأن ماهية كل شيء عين وجوده وأنه ليس وجود الشيء قدرًا زائدًا على ماهيته، بل ليس في الخارج إلا الشيء الذي هو الشيء، وهو عينه، ونفسه، وماهيته، وحقيقته وليس وجوده في الخارج، وثبوته في الخارج زائدًا على ذلك". مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 2/ 156، وانظر: المواقف: ص/ 270.

ص: 180

الخارج أيضًا لم يرد الإشكال، لأنه قديم مستند إلى ذاته القديمة، فكما أن علمه لا يشابه علم المخلوق فكذا وجوده.

وأما كونه واحدًا في ألوهيته، فلأنه:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، لكن لم يفسدا، فلا شريك.

ولأنه لو وجد إلاهان بصفات الألوهية، وأراد أحدهما حركة زيد، والآخر سكونه، فإما أن يقع مرادهما، وهو محال لاستلزامه الجمع بين الضدين، أو لم يقع مراد واحد منهما يلزم عجز الاثنين، وهو مناف للألوهية مع أنه [يلزم](1) وقوع المرادين على تقدير عدم وقوعهما، لأن المانع من وقوع كل منهما وقوع الآخر، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر، فالعاجز منهما عن أن يوقع مراده ليس بإله (2).

قوله: "واللَّه تعالى قديم لا ابتداء لوجوده"(3).

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع: المحصل للرازي: ص/ 279 - 280، ومعالم أصول الدين: ص/ 79 - 80، والمواقف للإيجي: ص/ 278، وتشنيف المسامع: ق (149/ ب)، والغيث الهامع: ق (158/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 404، وهمع الهوامع: ص/ 443، وحاشية العطار على المحلي: 2/ 447 - 448.

(3)

فسر القديم بالذي لا ابتداء لوجوده، لأنه قد يراد بالقديم طول مدة الوجود، وإن كان مسبوقًا بالعدم كما في قوله تعالى:{تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95].

وتوقف البعض في إطلاق القديم على اللَّه تعالى لعدم وروده في الكتاب العزيز ولكنه قد ورد في السنة، فلا توقف، وذلك من حديث أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: =

ص: 181

أقول: من صفاته تعالى التنزيهية أنه ليس بحادث، وقد قدمنا أنه لو كان كل موجود حادثًا لزم التسلسل، وهو باطل، فلا بد من الانتهاء إلى موجود قديم لا يكون وجوده من غيره، وإذا ثبت قدمه امتنع عدمه، وذلك، لأن وجود القديم مقتضي ذاته، وما كان لازمًا لذات الواجب تعالى لا يمكن زواله.

وبين القديم، والأزلي عموم من وجه؛ لأن الموصوف بالقدم موجود لا محالة بخلاف الموصوف بالأزلي (1).

فإنه لا يشترط فيه الوجود كالعدمات إذا قلنا بامتيازها. ومنهم (2) من أطنب في أشياء لا حاجة إليها.

وقال: "الزمان حقيقي، وتقديري، فالحقيقي هو الصادر عن حركات الأفلاك". وهذا كلام باطل.

أما أولًا: فلأن الزمان ليس أمرًا موجودًا.

= "إن للَّه تسعة وتسعين اسمًا مئة إلا واحدًا إنه وتر يحب الوتر من حفظها دخل الجنة، وهي اللَّه، الواحد. . . القديم. . . " فقد ذكر في الحديث أن من أسمائه تعالى: (القديم).

راجع: سنن ابن ماجه: 2/ 438 - 439، وتشنيف المسامع: ق (150/ أ)، والغيث الهامع: ق (158/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 443، وشرح العقيدة الواسطية: ص/ 35 - 36، والمواقف: ص/ 72 - 74.

(1)

راجع: التعريفات: ص/ 17، 172.

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "هو الزركشي". وانظر: تشنيف المسامع: ق (150/ أ).

ص: 182

وأما ثانيًا: فلأنه لو كان موجودًا لم يكن صادرًا عن غير اللَّه تعالى، لأن الأشياء كلها مستندة إليه ابتداء كما سيأتي.

وأما ثالثًا: فلأن حركات الفلك ليس بثابتة عند أهل الحق، بل الحركة للكواكب، وحركة الفلك مذهب الفلاسفة.

وقد دلت الآيات، والأحاديث على كون الحركة للكواكب، أما الآيات: فقضية الخليل صلوات اللَّه عليه، فإنه نسب الأفول إلى الكوكب، والقمر والشمس (1).

وأما (2) الأحاديث: فقد صح في البخاري، ومسلم وغيرهما، "أن الشمس تسجد تحت العرش كل يوم بعد غروبها، وتستأذن في الرجوع"(3).

(1) يعني في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 76 - 78].

(2)

آخر الورقة (137/ ب من أ).

(3)

عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومًا: "أتدرون أين تذهب هذه الشمس؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلم.

قال: إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها، ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة ولا تزال كذلك حتى يقال لها: ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك، فتصبح طالعة من مغربها، =

ص: 183

قوله: "وحقيقته مخالفة لسائر الحقائق".

أقول: حقيقته مخالفة لسائر الحقائق من الممكنات، إذ لو تماثلت الحقائق، وامتاز هو بالوجوب، وهي بالإمكان لزم التركيب المنافي للوجوب.

نعم يطلق لفظ الذات عليه، وعلى ذوات الممكنات قولًا عرضيًا بالمعنى الذي يصدق على الكل صدق العارض على المعروض كالوجود.

فإن وجوده، وإن خالف سائر الوجودات يطلق الوجود على الكل قولًا عرضيًا (1)، فتأمل!

= فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أتدرون متى ذاكم؟ ذاك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا".

راجع: صحيح البخاري: 4/ 131، 6/ 154، وصحيح مسلم: 1/ 96.

(1)

مذهب أهل الحق أن اللَّه سبحانه وتعالى لا يشاركه شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وفي التنزيل حكاية عن الكفار وهم في النار:{تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 97 - 98].

وزعم بعض المتكلمين كابن سينا وأبى هاشم المعتزلي إلى أن الذوات كلها متساوية، وامتاز بعضها عن بعض بصفات مخصوصة وامتياز ذات اللَّه تعالى عن غيرها بالصفات الإلهية، وهي الوجود، والقدرة التامة، والعلم الكامل. وقد رد أهل الحق هذا الزعم الفاسد.

راجع: المحصل للرازي: ص/ 223، ومعالم أصول الدين: ص/ 51، والمواقف في علم الكلام: ص/ 269، وتشنيف المسامع: ق (150/ أ)، والغيث الهامع: ق (158/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 405، وهمع الهوامع: ص/ 443، وكتاب الفقه الأكبر: ص/ 24.

ص: 184

والحقيقة في هذا الاصطلاح يراد بها الذات، ولهذا في بعض الكتب يعبرون بالحقيقة، وفي بعضها (1) بالذات وقد غلط بعضهم (2) فجعل الحقيقة بمعنى الماهية (3) وأكثر المتكلمين على أنه لا يطلق على ذاته تعالى لفظ الماهية لإشعاره بالمجانسة حتى أنكروا على أبي حنيفة إطلاقه لفظ الماهية، وأنكره أصحابه، فقالوا: لم يوجد في كتبه، ولا نقله عارف.

وقال أبو منصور الماتريدي: "إن سألنا سائل عن اللَّه ما هو؟

قلنا: إن أردت بما هو ما اسمه فاللَّه الرحمن الرحيم، وإن أردت ما صفته؟ فسميع بصير، وإن أردت ما فعله؟ فخلق المخلوقات، وإن أردت ماهيته فهو متعال عن المثال، والجنس".

قوله: "قال المحققون".

أقول: اختلف في العلم بحقيقته -تعالى- هل يجوز أم لا؟

(1) ذكرها الرازي في المحصل: بـ "الماهية"، وذكرها في المعالم: بـ "الحقيقة"، وذكرها العضد: بـ "الذات".

راجع: المحصل: ص/ 223، ومعالم أصول الدين: ص/ 51، والمواقف: ص/ 269.

(2)

جاء في هامش (أ): "الزركشي". راجع: تشنيف المسامع: ق (150/ أ).

(3)

قلت: تغليط الشارح للزركشي لا يسلم له، لأن الماهية، والحقيقة بمعنى واحد عند المحققين، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.

راجع: مجموع الفتاوى: 2/ 156، ودرء تعارض العقل والنقل: 1/ 292 - 293.

ص: 185

منعه (1) الفلاسفة (2)، وجوزه المسلمون (3) واختلف المجوزون هل وقع في الدنيا، أم يقع في الآخرة، أم لا دليل على وقوعه لا في الدنيا، ولا في الآخرة؟

(1) قلت: تعبير المصنف أولى من تعبير الشارح لأن المانعين ليس الفلاسفة بانفرادهم، ولكن قال بالمنع المحققون من أهل الحق كالقاضي أبي بكر وإمام الحرمين، والغزالي، والكيا الهراس، وحكاه الرازي عن جمهور المحققين، واختار المنع.

قال ابن تيمية: "الوجه الثاني والثلاثون: إن القوم مع سائر أهل السنة يقولون: إن حقيقة الباري غير معلومة للبشر، ولهذا اتفقوا على ما اتفق عليه السلف من نفي المعرفة بماهيته، وكيفية صفاته".

قال الرازي: وكلام الصوفية يشعر بالمنع. قال الجنيد: ما عرف اللَّه إلا به.

ونقل عن الحارث المحاسبي أنه قال: لا يمكن أن تكون معلومة، وحكى عن الشافعي أنه قال: لا يمكن أن تكون معلومة، وحكى عن الشافعي أنه قال: من انتهض لطلب مدبره، فإن انتهى إلى موجود ينتهي فكره إليه، فهو مشبه، وإن اطمأن إلى العدم الصرف فهو معطل، وإن اطمأن إلى موجود، واعترف بالعجز عن إدراكه، فهو موحد.

وهو معنى ما نقل عن الصديق رضي الله عنه: العجز عن درك الإدراك إدراك.

وكما قيل:

حقيقة المرء ليس المرء يدركها

فكيف كيفية الجبار في القدم؟

راجع: بيان تلبيس الجهمية: 1/ 64، وتشنيف المسامع: ق (150/ ب - 151/ أ)، والغيث الهامع: ق (159/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 405، وهمع الهوامع: ص/ 443، والمحصل للرازي: ص/ 271 - 272، ومعالم أصول الدين: ص/ 79.

(2)

قال الكمال بن أبي شريف -معترضًا على المصنف في دخول الفلاسفة ضمن المحققين-: "وفي إطلاق المحققين على غير الفرق الإسلامية ولو تغليبًا تساهل". الدرر اللوامع له: ق (275/ ب).

(3)

وهو مذهب أكثر المتكلمين. انظر: المراجع التي سبقت.

ص: 186

وهذا هو المختار.

لنا -على الجواز- أن اللَّه تعالى قادر على أن يلهم خواص عباده، أو يخلق فيهم علمًا ضروريًا بحقيقته، ولا مانع من ذلك، وعدم الوقوع لعدم دليل عليه عقلًا، ونقلًا.

القائلون بعدم الجواز: لو علم فإما بالحد، ولا حد، لاقتضائه الجنس، والفصل، وهو مستحيل في حقه تعالى، وإما بالرسم، ولا يفيد معرفة الكنه.

الجواب: لا نسلم انحصار طريق العلم في الحد، والرسم، بل يكون بالإلهام، وخلق العلم الضروري كما بينا، والرسم وإن لم يستلزم العلم بالكنه دائمًا، ولكن ربما يفيده (1).

القائلون: بوقوع عِلمنا بحقيقته قالوا: نحكم عليه بأنه موجود، عالم، خالق إلى غير ذلك، والحكم على الشيء فرع تصوره.

(1) قلت: الأولى هو المنع كما تقدم، وقد قال تعالى:{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110]، والمعلوم من اللَّه ليس إلا الصفات، وذلك لا يوجب العلم بكنه حقيقته، ولذلك لما قال فرعون لموسى:{وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} أجابه بالصفة حيث قال: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الشعراء: 23 - 24]. لتعذر الجواب بالماهية، فعجَّب فرعون قومه من عدوله عن الجواب المطابق لسؤاله، ولم يعلم لغباوته أنه هو المخطئ في السؤال عن الماهية، فإن ما أتى به الكليم في الجواب أقصى ما يمكن، وهذا هو الأدب مع اللَّه تعالى.

راجع: تشنيف المسامع: ق (150/ ب)، والغيث الهامع: ق (159/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 405.

ص: 187

[الجواب: فرع تصوره](1) بوجه ما، فإنا نحكم على أشياء لا نعرف حقائقها.

وأما الاستدلال بوقوع الرؤية (2)، فضعيف، لأنها لا تقتضي العلم بكنه المرئي، والكلام فيه.

قوله: "وليس بجسم".

أقول: الجسم إما مركب من الأجزاء التي لا تتجزأ على ما ذهب إليه المتكلمون (3).

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

يعني رؤية اللَّه يوم القيامة، وسيأتي الكلام عليها.

(3)

مذهب الجمهور ينفون الجسم عن اللَّه تعالى.

وقالت الكرامية: هو جسم، أي: موجود، وقيل: قائم بنفسه، والذين نسبوا إلى التجسيم، هم مقاتل بن سليمان، وهشام بن الحكم، وهشام بن سالم الجواليقي، وداود الجواربي، وكلهم رافضة، وذهب البعض إلى أن صفة الجسم من الصفات المسكوت عنها واختار بأنه لا يصرح فيها بنفي، ولا إثبات، وهي إلى الإثبات أقرب منها إلى النفي. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:"لفظ الجسم لم يتكلم به أحد من الأئمة، والسلف في حق اللَّه تعالى لا نفيًا، ولا إثباتًا، ولا ذموا أحدًا، ولا مدحوه بهذا الاسم، ولا ذموا مذهبًا، ولا مدحوه بهذا الاسم، وإنما تواتر عنهم ذم الجهمية الذين ينفون هذه الصفات، وذم طوائف منهم كالمشبهة، وبينوا مرادهم بالمشبهة".

راجع: المحصل للرازي: ص/ 164، 224، ومعالم أصول الدين: ص/ 46، والمواقف في علم الكلام: ص/ 273، وبيان تلبيس الجهمية: ص/ 24 - 25، 47، وشرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري: 1/ 142، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 405، وتشنيف المسامع: ق (151/ أ)، والغيث الهامع: ق (159/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 444، والدرر اللوامع للكمال: ق (275/ ب).

ص: 188

أو من الهيولى (1)، والصورة على ما عليه الفلاسفة (2).

وقد تقدم أنه تعالى واحد من جميع الوجوه، لا تركيب فيه لاستلزامه الاحتياج المنافي للألوهية.

ولأنه لو كان جسمًا لاحتاج إلى مكان، وحيز، لأنه ضروري للجسم لا يمكن وجوده بدونه، ويلزم قدم المكان ضرورة قدم المتمكن.

وقد قدمنا أن العالم، وهو ما سواه تعالى حادث بجميع أجزائه وكما أنه ليس بجسم، فكذا ليس بجوهر، لأن الجوهر عند المتكلمين: هو الممكن القائم بنفسه، وعند الفلاسفة ممكن إذا وجد لم يكن في موضوع، والباري تعالى مباين للممكنات.

وإذا لم يكن جوهرًا، فبالأولى أن لا يكون عرضًا، لأن العرض عند أهل الحق مستحيل البقاء، واللَّه باق أولًا، وأبدًا، ولأن العرض يحتاج إلى محل يقوم به، والاحتياج من سمات الممكن تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا (3).

(1) الهيولى: لفظ يوناني بمعني الأصل، والمادة.

واصطلاحًا: هي جوهر في الجسم قابل لما يعرض لذلك الجسم من الاتصال والانفصال محل للصورتين الجسمية، والنوعية.

راجع: التعريفات: ص/ 257.

(2)

وهو مذهب ابن سينا، ومن تبعه، وزعم ضرار، والنجار أن ماهية الجسم مركبة من لون، وطعم، ورائحة وحرارة، وبرودة، ورطوبة، ويبوسة، وقد رد الفخر الرازي عليهما في المحصل: ص/ 168 - 169، والمعالم: ص/ 46.

(3)

راجع: معالم أصول الدين: ص/ 47، والمواقف: ص/ 273، وتشنيف المسامع: ق (151/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 405 - 406، وبيان تلبيس الجهمية: 1/ 550.

ص: 189

قوله: "لم يزل وحده".

أقول: قد سبق أنه تعالى قديم، والعالم محدث، وإذا ثبت ذلك، فعلم أنه كان، ولم يكن معه شيء، إذ ما سواه حادث، فلا زمان معه في الأزل، ولا مكان، وإنما ذكره هنا توطئة لمسألة القدرة، والاختيار، أي: إنما أنشأ المحدث بقدرته (1)، ومشيئته لا أنه موجب بالذات، وعلة على ما عليه الفلاسفة.

والدليل -على أنه خلقه بالقدرة-: أنه لو كان بالإيجاب لزم قدم العالم، لأن المعلول لا ينفك عن علته، أو يكون كل حادث مسبوقًا، ومشروطًا بآخر إلى غير النهاية وكلاهما باطل. ولأن اختصاص كل جسم بشكل، ولون، وطعم، ورائحة، وغير ذلك لا بد وأن يكون لمخصص، وذلك هو القدرة، والإرادة لتشارك الأجسام، وتماثلها.

ولأن العالم لو كان معلولًا لذاته كان لازمًا لها، فلو فرض ارتفاع العالم لزم ارتفاعه تعالى، لأن انتفاء اللازم دليل انتفاء الملزوم، لكن ارتفاع الواجب تعالى محال، لأن ذاته تقتضى وجوده، وما اقتضى ذاته وجوده استحال زواله.

قالوا: لو كان مختارًا في فعله لزم الانقلاب، لأنه في الأزل إن علم عدم وجود العالم، فهو ممتنع الوجود وقد وجد، فانقلب الممتنع ممكنًا.

(1) راجع: مجموع الفتاوى: 8/ 7 - 11، 383، ومنهاج السنة: 2/ 118 - 122، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 406، وتشنيف المسامع: ق (151/ أ)، والغيث الهامع: ق (159/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 444، والقائد إلى تصحيح العقائد: 2/ 287.

ص: 190

وإن علم وجوده، فهو لازم الوقوع، فلا قدرة، ولا اختيار.

قلنا: علم وجوده في وقته باختياره، فلا محذور، لأن الوجوب بالقدرة محقق للقدرة لا مناف لها.

قوله: "ولم يَحدُث بإبداعه في ذاته حادثٌ".

جواب سؤال مقدر، أي: إذا كان وصفه حادثًا يلزم قيام الحادث به، وهو محال لاستلزامه حدوث الموصوف.

أجاب: بأن الإحداث صفة إضافية ليست بموجودة، فلا يلزم منه محذور.

وإن قلنا: إن الإحداث صفة موجودة فهي للتكوين الذي قالت الحنفية بأنه صفة قديمة، فلا محذور (1) أيضًا.

(1) هناك صفات ذاتية كالعلم، والحياة، والكلام، وهي قديمة بالاتفاق وهناك صفات فعلية كالخالق، والرازق، والباعث، والوارث، والمحيي، والمميت وغيرها فمذهب الماتريدي الحنفي أنها قديمة، وبه قال الأحناف ومذهب الأشاعرة أنها حادثة.

قال ملا علي القاري -بعد ذكره الخلاف السابق-: "والنزاع لفظي عند أرباب التدقيق كما يتبين عند التحقيق. . . ". ثم بين ذلك.

وقال شيخ الإسلام: "ووصفه تعالى بالصفات الفعلية. . . قديم عند أصحابنا، وعامة أهل السنة المالكية، والشافعية، والصوفية، والحنفية والسالمية، والكرامية. وخالف المعتزلة، والأشعرية بأنه غير قديمة".

راجع: شرح كتاب الفقه الأكبر: ص/ 25 - 34، والجامع لشعب الإيمان للبيهقي: ص/ 259، ومجموع الفتاوى: 6/ 268.

ص: 191

قوله: " {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] ".

من فروع القادرية، أي: لم تنته قدرته إلى شيء، كسائر قدر الخلق، بل يفعل ما يشاء، ما تعلقت قدرته به كان، كيف ونعم الجنان سرمدية بتعاقب الأبدال؟ وكلها مخلوقة بقدرته، كيف ولو انتهت قدرته عند مراد كان عجزًا، ونقصًا؟

قوله: " {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ".

قد تقدم من قوله: لا يشبه؛ هذا المعنى، وإنما أعاده لأن هذا أبلغ من ذلك لكون الشيء نكرة في سياق النفي، أو لأنه كالدليل السمعي على ذلك الدعوى، أو جعله صفة لفعال لما يريد، أي: ليس في فعله يشبه شيئًا والكاف زائدة.

وعند المحققين ليست بزائدة لأن مثله تعالى مفقود اتفاقًا، وإذا نفى أن يكون شيء مثل مثله، فالمراد نفي المماثلة عنه على وجه الكناية التي هي أبلغ من التصريح.

قوله: "القدر خيره وشره منه".

أقول (1): مسألة القدر أصل من أصول الإسلام، فلا بد من الوقوف على كنهها على ما ينبغي.

(1) آخر الورقة (138/ ب من أ).

ص: 192

اعلم أن عبارة المشايخ أن الكل بقضائه، وقدره (1)، والفرق بالإجمال، والتفصيل.

فبالنظر إلى كون الأشياء في علمه تعالى مجمعة في الأزل، سمي: قدرًا.

وبالنظر (2) إلى وجودها في أوقاتها المقدرة قضاء.

وقيل: بالعكس، وهذا أظهر (3) لقوله:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21].

(1) مذهب أهل الحق إثبات القدر، ومعناه: أن اللَّه تبارك وتعالى قدر الأشياء في القدم، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى، وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى. وأنكرت القدرية هذا، فزعم أوائلهم -وقد انقرضوا- أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها، ولم يتقدم علمه بها سبحانه وتعالى، وأنها مستأنفة العلم.

أي: إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها، وكذبوا على اللَّه سبحانه وتعالى وجل علوًا كبيرًا عن أقوالهم الباطلة. وسميت هذه الفرقة قدرية لإنكارهم القدر، ولم يبق أحد من أهل القبلة من يقول بهذا القول الشنيع الباطل.

وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر، ولكن يقولون: الخير من اللَّه، والشر من غيره تعالى اللَّه عن قولهم، وأن العبد خالق لفعله.

راجع: مقالات الإسلاميين: ص/ 227 - 228، والإبانة عن أصول الديانة: ص/ 62 - 65، وشرح النووي على صحيح مسلم: 1/ 154، والرسالة التدمرية: ص/ 52، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/ 63 - 64، 256 - 261، وشرح كتاب الفقه الأكبر: ص/ 65.

(2)

آخر الورقة (124/ ب من ب).

(3)

القدر بالفتح ما يقدره اللَّه تعالى، فإذا وافق الشيء الشيء قيل: جاء على قدر. =

ص: 193

والأحاديث الواردة في باب القضاء والقدر كثيرة جدًا متواترة المعنى كشجاعة علي، وجود حاتم، وإن كانت أفرادها آحادًا، فلا حاجة إلى ذكرها (1).

= واصطلاحًا: تعلق الإرادات الذاتية بالأشياء في أوقاتها الخاصة فتعليق كل حال من أحوال الأعيان بزمان معين، وسبب معين عبارة عن القدر.

وبعبارة أخرى: خروج الممكنات من العدم إلى الوجود واحدًا بعد واحد مطابقًا للقضاء.

والقضاء -لغة- الحكم.

واصطلاحًا: عبارة عن الحكم الكلي الإلهي في أعيان الموجودات على ما هي عليه من الأحوال الجارية في الأزل إلى الأبد.

ومن التعريفين السابقين للقضاء والقدر على ما اختاره الشارح، وغيره من المحققين يتبين الفرق بين القضاء، والقدر، هو أن القضاء: وجود جميع الموجودات في اللوح المحفوظ مجتمعة، ويكون في الأزل. والقدر: وجوها متفرقة في الأعيان بعد حصول شرائطها، ويكون فيما لا يزال.

راجع: مختار الصحاح: ص/ 523، 540، والمصباح المنير: 2/ 492، 507، والفروق اللغوية؛ ص/ 157، والتعريفات: ص/ 174، 177، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 406، وتشنيف المسامع: ق (151/ ب)، والغيث الهامع: ق (159/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 444، وشرح المقاصد: 4/ 265.

(1)

سيأتي أن الشارح قد ذكر بعض الأحاديث الواردة في القضاء والقدر بعد قليل، ولكنه رأى أن لا حاجة إلى ذكر كل ما ورد في هذا الباب، وإليك هنا بعضًا منها: فعن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه". =

ص: 194

وكذا ذم القدرية قد ورد في الأحاديث الصحيحة (1) لكن قد اختلف في وجه التسمية، ومن يصدق عليه هذا الاسم.

= وعن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه في أربعين يومًا ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل اللَّه إليه اسث فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. . . " الحديث.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ونحن نتنازع في القدر، فغضب حتى احمر وجهه حتى كأنما فقئ في وجنتيه الرمان، فقال:"أبهذا أمرتم، أم بهذا أرسلت إليكم؟ إنما هلك من كان قبلكم حين تنازعوا في هذا الأمر. عزمت عليكم أن لا تنازعوا فيه".

راجع: الأحاديث الواردة في القدر: صحيح البخاري: 8/ 152 - 158، وصحيح مسلم: 8/ 44 - 56، وتحفة الأحوذي: 6/ 334 - 367، وسنن أبي داود: 2/ 524 وما بعدها، وسنن ابن ماجه: 1/ 39 وما بعدها.

(1)

وسيأتي ذكره لحديثين في ذم القدرية قريبًا.

وعند الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب: المرجئة، والقدرية".

وقال: هذا حديث حسن غريب، ورواه ابن ماجه أيضًا، وعند أحمد، وأبي داود، والحاكم عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا:"لا تجالسوا أهل القدر، ولا تفاتحوهم".

وعند الترمذي أيضًا عن ابن عمر سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "في هذه الأمة، أو في أمتي خسف، أو مسخ، أو قذف في أهل القدر".

راجع: مسند أحمد: 1/ 30، وسنن أبي داود: 2/ 530، وتحفة الأحوذي: 6/ 362، 368 - 367، والمستدرك للحاكم: 1/ 85، وسنن ابن ماجه: 1/ 31، 38.

ص: 195

قيل: وجه التسمية أن القدرية ينسبون الفعل إلى قدرة العبد وإيجاده (1)، وليس بسديد، لأن المنسوب إلى القدرة قدري بضم القاف، بل منسوب إلى القدر الذي هو العلم بالأشياء وإيقاعها على الوجه المخصوص في أوقاتها.

وأما من يصدق عليهم فهم القائلون: إن الشر ليس بقدر الإله تعالى، بل الأفعال الاختيارية للعباد بقدرتهم، وإيجادهم (2).

(1) راجع: البرهان للسكسكي: ص/ 26 - 27، والتعريفات: ص/ 174، وتحفة الأحوذي: 6/ 363.

(2)

اختلف الناس في أفعال العباد الاختيارية إلى مذاهب:

مذهب أهل الحق أن أفعال العباد الاختيارية هي من أفعالهم بها صاروا مطيعين، وعصاة، وهي مخلوقة للَّه تعالى لا خالق لها سواه، فالفعل غير المفعول.

وزعمت الجبرية تبعًا للجهم بن صفوان السمرقندي أن التدبير في أفعال الخلق كلها للَّه تعالى، وهي كلها اضطرارية كحركة المرتعش، والعروق النابضة، وحركات الأشجار.

وإضافتها إلى الخلق مجاز، فهم غلوا في إثبات القدر، حتى نفوا كسب العبد لها أصلًا. وزعمت المعتزلة أن جميع الأفعال الاختيارية من جميع الحيوانات لا تعلق لها بخلق اللَّه تعالى، بل هي بقدرة العباد وإيجادهم لها وقد استدل كل فريق بأدلة يؤيد ما ذهب إليه.

راجع هذه المسألة ورد أهل الحق على الجبرية، والمعتزلة وإبطال مذهبهما: خلق أفعال العباد للبخاري: ص/ 25، ومقالات الإسلاميين: ص/ 228، ومجموع الفتاوى: 8/ 87 - 89، 258، وشرح الطحاوية؛ 5/ 212 - 230، والإبانة عن أصول الديانة: ص/ 167 وما بعدها، والانصاف للباقلاني: ص/ 143 وما بعدها، والمعالم للرازي: ص/ 85، والعبودية لشيخ الإسلام: ص/ 63، والمحصل: ص/ 280، وتفسير الرازي: 7/ 237، وتفسر الألوسي: 8/ 50، والمواقف: ص/ 311، ومسلم الثبوت: 1/ 40، والإرشاد للجويني: ص/ 173، وشفاء العليل: ص/ 267 - 268.

ص: 196

قالت المعتزلة: بل أهل السنة هم القدرية، لأنهم يقولون: بأن الأشياء بقدر اللَّه، لأن مثبت الشيء ينسب إليه كالمالكية، والحنفية، والشافعية لا إلى النافي (1).

الجواب: أنه قد ورد في الأحاديث: أن "القدرية مجوس هذه الأمة"(2).

(1) وقد حكى هذا القول عنهم ابن قتيبة، وإمام الحرمين في الإرشاد ثم رد عليهم قائلًا: هذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهتة، وتواقح، فإن أهل الحق يفوضون أمورهم إلى اللَّه سبحانه وتعالى، ويضيفون القدر والأفعال إلى اللَّه سبحانه وتعالى، وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم، ومدعي الشيء لنفسه، ومضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره، وينفيه عن نفسه.

راجع: الإرشاد لامام الحرمين: ص/ 224 - 225، والنووي على مسلم: 1/ 154.

(2)

بهذا اللفظ رواه أبو داود، والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "القدرية مجوس هذه الأمة، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم".

ورواه الإمام أحمد، وابن ماجه عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن مجوس هذه الأمة المكذبون بأقدار اللَّه، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم" وقد تُكلم في صحته، قال ابن الجوزي: فيه مجاهيل لا يصح، وقال الخطابى: "إنما جعلهم مجوس هذه الأمة لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم: بالأصلين، وهما: النور، والظلمة، يزعمون أن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثانوية، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى اللَّه عز وجل، والشر إلى غيره، واللَّه سبحانه وتعالى خالق الخير والشر، لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته.

فالأمران مضافان إليه خلقًا، وإيجادًا، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلًا، واكتسابًا". والحديث مشهور رواه ثمانية من الصحابة، عمر وابنه، وحذيفة، وجابر وابن عباس، وأنس وأبو هريرة، وسهل بن سعد. =

ص: 197

ولا شك أن من يجعل للعبد قدرة على الإيجاد هو الذي يشبه المجوس القائلين بإلهين: خالق الخير، ويسمى يروزن، وخالق الشر، ويسمى: أهو من (1).

ولما في الحديث: من أن "القدرية خصماء اللَّه"(2).

ولا شك أن من فوض الأمور إليه تعالى ليس بخصم، بل الخصم من يثبت شريكًا في الخلق، والإيجاد.

= راجع: مسند أحمد 2/ 86، 125، وسنن أبي داود: 2/ 524، وسنن ابن ماجه: 1/ 48، والمستدرك للحاكم: 1/ 85، ومعالم السنن للخطابي: 7/ 56 - 59، والموضوعات لابن الجوزي: 1/ 275، وكشف الخفاء: 2/ 137، وأسنى المطالب: ص/ 157.

(1)

وهم يعبدون النار، لأنها أعظم شيء عندهم في الدنيا، ويسجدون للشمس إذا طلعت، وينكرون نبوة آدم، ونوح عليهما السلام، وقالوا: لم يرسل اللَّه عز وجل إلا رسولًا واحدًا لا ندري من هو؟ وكان بدء مذهبهم في زمان شريعة موسى عليه السلام، واختلف هل كان لهم كتاب، أو لا؟ وهم يستحلون نكاح الأمهات، والبنات، والأخوات، وسائر المحرمات، ويتطهرون بأبوال البقر تدينًا.

راجع: البرهان للسكسكي: ص/ 57، والتبصير في الدين: ص/ 150.

(2)

لم أعثر عليه بهذا اللفظ في الكتب الستة، ورواه الطبراني في الأوسط، وفيه محمد بن الفضل بن عطية، وهو متروك، ولفظ الحديث عن محمد بن كعب القرظي قال: ذكرت القدرية عند عبد اللَّه بن عمر، فقال عبد اللَّه بن عمر:"لعنت القدرية على لسان سبعين نبيًا، ومحمد نبينا صلى الله عليه وسلم، وإذا كان يوم القيامة، وجمع اللَّه الناس في صعيد واحد نادى مناد يسمع الأولين، والآخرين أين خصماء اللَّه، فيقوم القدرية".

راجع: مجمع الزوائد: 7/ 205 - 206.

ص: 198

والدليل -على القدر- قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49](1) وقوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 166] أي: بقضائه، وقدره.

وفي الحديث: "كل شيء بقضاء اللَّه حتى العجز، والكيس"(2)، واحتجاج موسى مع آدم (3)، وجواب آدم الحديث المشهور (4).

(1) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء مشركو قريش يخاصمون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49].

راجع: صحيح مسلم: 8/ 52، وسنن ابن ماجه: 1/ 43، وتحفة الأحوذي: 6/ 371.

(2)

رواه مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "كل شيء بقدر حتى العجز، والكيس، أو الكيس والعجز".

راجع: صحيح مسلم: 8/ 51 - 52.

(3)

روى البخاري، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"احتج آدم، وموسى، فقال له موسى: يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة؟ قال له آدم: يا موسى اصطفاك اللَّه بكلامه، وخط لك بيده أتلومني على أمر قدره اللَّه علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فحج آدم موسى، فحج آدم موسى ثلاثًا".

راجع: صحيح البخاري: 8/ 157، وصحيح مسلم: 8/ 49 - 51.

(4)

احتجاج آدم على موسى في المصيبة لا في الذنب، وقد بسط القول في الكلام على هذا الحديث، وبين المراد منه شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع فتاواه: 8/ 303، والعبودية له: ص/ 62 - 66، وكذا ابن القيم في شفاء العليل: ص/ 27 وما بعدها.

ص: 199

وبالجملة من لوازم الإيمان الصحيح أن يعتقد أن الكائنات كلها ما كان وما هو كائن، جوهرًا وعرضًا، فعلًا وقولًا، معصية وطاعة، خيرًا وشرًا، كان في أزل الأزل في علمه، لم يزد ولم ينقص عن ذلك شيء قَلَّ ولا جَلَّ (1).

قوله: "علمه شامل".

أقول: ويجب الإيمان بأن له علمًا قديمًا لا يشبه علم المخلوقين. والدليل -على كونه عالمًا-: إتقان أفعاله، وإحكامها (2).

(1) راجع: المحلي على جمع الجوامع: 2/ 406، وتشنيف المسامع: ق (151/ ب - 152/ أ)، والغيث الهامع: ق (159/ ب - 160/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 444.

(2)

مذهب أهل الحق، والإيمان، وجمهور العقلاء أن علم اللَّه شامل لكل معلوم ممكننا كان، أو ممتنعًا، فهو لِعلم الجزئيات، والكليات، كما أخبر بذلك في آيات كثيرة من كتابه العزيز منها قوله تعالى:{وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12]، وقوله:{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، وعلى هذا أطبق المسلمون، وأنه تعالى يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، وأن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء جملة وتفصيلًا، وكيف لا؟ وهو خالقها {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14] وقد ضلت الفلاسفة بقولهم: اللَّه تعالى يعلم الجزئيات على الوجه الكلي لا الجزئي، لأنه لو علمها على الوجه الجزئي لتغير علمه، فإن الجزئيات تتغير بتغير الأزمنة والأحوال، والعلم تابع للمعلوم، فيلزم تغير علمه، والعلم قائم بذاته، فيكون محلًا للحوادث، وهو محال.

والتزمت الكرامية أن الباري تعالى محل للحوادث، وظنوا أنه لا يتم إثبات العلم مطلقًا إلا بذلك، ففروا من ضلالة إلى ضلالة، وهي شبه باطلة قد ردها أهل الحق، وأبطلوها، وسيأتي رد الشارح عليها. =

ص: 200

قال: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] إلى آخر الآية (1)، وقال:{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6](2)، وقال:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ} [الملك: 3 - 4].

ومن أراد الاطلاع على دقائق صنعه فليطالع علم التشريح (3)، ويحيط بكيفية تركيب الإنسان، وما أتى به الأولون، وما سيأتي به الآخرون من

= راجع: مقالات الإسلاميين: ص/ 484 - 494 وما بعدها، وشرح أسماء اللَّه الحسنى: ص/ 230 - 234، والمحصل: ص/ 239 - 241، 254، والمعالم: ص/ 61، والمواقف: ص/ 285 - 290، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: 3/ 131 - 132، 8/ 513 - 514، وشرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري: 1/ 103 - 120، والدرر اللوامع للكمال: ق (175/ ب - 176/ أ)، وكتاب التوحيد لابن خزيمة: ص/ 9.

(1)

يعني الآيات وهي: {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 18 - 20].

(2)

وفي سورة الملك آية (5){وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} والناسخ أدرج الآيتين في آية واحدة، فصححتها من المصحف.

(3)

شَرَّح اللحم شرحًا قطعه قطعًا طوالًا رقاقًا، وشرح الجثة فصل بعضها عن بعض للفحص العلمي، وهو المراد بعلم التشريح.

راجع: مختار الصحاح: ص/ 333، والمصباح المنير: 1/ 308 - 309، والمعجم الوسيط: 1/ 477.

ص: 201

دقائق الصانع، وخفيات العلوم (1)، ذرة، بل دون ذرة من علمه الذي علمه خلقه، {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].

وأيضًا قد تقدم أنه فاعل بالقدرة، والإرادة، ومَن شأنه هذا لا بد له من علم.

قيل: لو كان له علم لكان متعلقًا إما بنفسه، أو بغيره، وكلاهما محال.

أما الأول: فلأنه لو علم ذاته، لكان مغايرًا لذاته، لأن العالم غير المعلوم.

قلنا: التغاير الاعتباري كاف، كما في علم الإنسان بنفسه.

وأما الثاني: فلأنه لو علم الأشياء لزم التعدد في الذات الأحدية بقدر المعلومات، وهو محال.

قلنا: التعدد في التعلق لا يوجب التعدد في الذات، كما في سائر الصفات، ويعلم منه جواب الفلاسفة أنه لا يعلم الجزئيات على الوجه الجزئي، وإلا لزم التغير في الذات، لأن الجزئيات متغيرة.

واعلم كما أن قدرته غير متناهية، كذلك علمه غير متناه، لأنه محيط بما هو غير متناه كنعيم الجنان، والأعداد، والأشكال.

أما سمعًا، فلقوله:{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [الفرقان: 2]، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحجرات: 16]، {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} [سبأ: 3]،

(1) وصدق القائل جل في علاه: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].

ص: 202

{يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: 19] إلى غير ذلك من الآيات (1)، والأحاديث (2).

وأما عقلًا: فلأن الموجب لعالميته ذاته. وللمعدومية إمكانها، ونسبة ذاته إلى الأشياء كلها على السواء.

قوله: "قدرته لكل مقدور".

أقول: قد تقدم أنه فاعل بالاختيار.

وكل من كان فاعل الأشياء بالاختيار لا بد له من قدرة (3).

(1) كقوله تعالى: {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل: 65]، {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 75]، {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22]، {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن: 26]، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34] وغيرها كثير.

(2)

منها: حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا اللَّه: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا اللَّه، ولا يعلم ما في غد إلا اللَّه، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا اللَّه، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا اللَّه، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا اللَّه". راجع: صحيح البخاري: 9/ 142.

(3)

اتفق المسلمون، وسائر أهل الملل على أن اللَّه على كل شيء قدير كما نطق بذلك القرآن الكريم في مواضع كثيرة منها قوله تعالى:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284، وآل عمران: 189]، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 165]، {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8]. =

ص: 203

والقادر هو الذي إن شاء فعل، وإن شاء ترك، أي: يصح كل منهما بحسب الدواعي المختلفة (1)، وقد تقدم أن قدرته غير متناهية، أي: كل ما دخل تحت مشيئته، فهو قادر عليه.

= ولكنهم اختلفوا هل هو عام، أو خاص؟ إلى مذاهب:

فذهبت طائفة إلى أنه عام يدخل فيه الممتنع لذاته مثل الجمع بين الضدين ككون الشيء موجودًا، معدومًا، وكذا كون الشيء أسود كله، وأبيض، وكون الجسم الواحد بعينه في الوقت الواحد في مكانين، وكذا الممتنع لغيره مثل ما علم اللَّه أنه لا يكون، وأخبر أنه لا يكون، ذلك، وكذا يدخل فيه المقدور، واختار فريق هذا العموم منهم ابن حزم. وذهب فريق آخر إلى أنه عام مخصوص يخص به الممتنع لذاته، فإنه وإن كان شيئًا، فإنه لا يدخل في المقدور، كما ذكر ذلك ابن عطية، وغيره.

وذهب عامة النظار والمحققين إلى أن الممتنع لذاته ليس شيئًا البتة وإن تنازعوا في المعدوم الممكن مثل إيمان الكافر هل هو شيء أو لا؟

والصواب عند الجمهور أن المعدوم ليس بشيء في الخارج، أما الممتنع لذاته لا يمكن تحققه في الخارج، ولا يتصوره الذهن ثابتًا في الخارج. واختار المذهب الأخير شيخ الإسلام ابن تيمية، وخطأ القولين السابقين ودلل على صحة ما ذهب إليه، ورجحه الشارح كما سيأتي.

راجع: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 8/ 7 وما بعدها، ومنهاج السنة: 1/ 118 - 122، ومعالم أصول الدين: ص/ 58، والمحصل: ص/ 233 - 238، والمواقف: ص/ 281 - 285، وشرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري: 1/ 207 - 209.

(1)

وهناك أقوال أخرى في القدرة، وهي أقوال باطلة، مردودة كزعم الفلاسفة أنه تعالى لا يقدر على أكثر من واحد، وزعم النظام بأنه تعالى لا يقدر على خلق الجهل، والقبيح، وزعم البلخي أنه لا يقدر على مثل مقدور العبد، وزعمت عامة المعتزلة أنه =

ص: 204

وما قيل: ما من شأنه أن يقدر عليه ليخرج الممتنع (1) ليس بشيء، لأن الممتنع لا يطلق عليه الشيء لا عند أهل الحق، ولا عند المعتزلة فلا يحتاج إلى الاحتراز عنه.

قوله: "ما علم أنه يكون أراده".

أقول: ما تقرر في غامض علمه الأزلي (2) وجوده في وقته المعين له في ذلك العلم، فهو مراده، وما لا فلا.

= تعالى لا يقدر على نفس مقدور العبد تعالى اللَّه عما يقولون علوًا كبيرًا، وهذه المذاهب منبوذة بالنصوص القطعية الناطقة بشمول القدرة، وعمومها لأفعال العباد، وغيرها، وكذا يدخل في ذلك أفعال نفسه كما نطقت بذلك الآيات كقوله:{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81]، {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]، {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4]، {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] وغيرها كثير.

راجع: مجموع الفتاوى: 8/ 10 وما بعدها، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 406، وتشنيف المسامع: ق (152/ ب)، والغيث الهامع: ق (160/ أ - ب) وهمع الهوامع: ص/ 445، وشرح كتاب الفقه الأكبر: ص/ 78 - 83، والمحصل: ص/ 257.

(1)

جاء في هامش (أ، ب): "الزركشي والمحلي" يعني المراد بقول الشارح: "وقيل ما من شأنه أن يقدر عليه".

راجع: تشنيف المسامع: ق (152/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 406.

(2)

مذهب أهل الحق أن الإرادة على نوعين:

إرادة كونية: ترادفها المشيئة، وهما تتعلقان بكل ما يشاء اللَّه فعله وإحداثه، فهو سبحانه إذا أراد شيئًا وشاءه، كان عقب إرادته له كما قال تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] وفي الأثر: "ما شاء اللَّه كان وما لم يشأ لم يكن". =

ص: 205

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وإرادة شرعية: تتعلق بما يأمر اللَّه به عباده مما يحبه ويرضاه، وهي المذكورة في مثل قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ولا تلازم بين الإرادتين، بل قد تتعلق كل منهما بما لا تتعلق به الأخرى فبينهما عموم، وخصوص من وجه، فالإرادة الكونية أعم من جهة تعلقها بما لا يحبه اللَّه ويرضاه من الكفر والمعاصي، وأخص من جهة أنها لا تتعلق بمثل إيمان الكافر، وطاعة الفاسق والإرادة الشرعية أعم من جهة تعلقها بكل مأمور به واقعًا كان، أو غير واقع، وأخص من جهة أن الواقع بالإرادة الكونية قد يكون غير مأمور به، وخلاصة القول: إن الإرادتين قد تجتمعان معًا في مثل إيمان المؤمن، وطاعة المطيع، وتنفرد الكونية في مثل كفر الكافر ومعصية العاصي، وتنفرد الشرعية في مثل إيمان الكافر، وطاعة العاصي.

ومذهب الأشاعرة يثبتون إرادة واحدة قديمة تعلقت في الأزل بكل المرادات، فيلزمهم تخلف المراد عن الإرادة.

وأما المعتزلة، فعلى مذهبهم في نفي الصفات لا يَثبتون في صفة الإرادة ويقولون: إنه يريد بإرادة حادثة لا في محل، فيلزمهم قيام الصفة بنفسها، وهو من أبطل الباطل.

والإرادة تابعة للعلم عند أهل الحق، فهم يقولون: هو تعالى مريد لكل ما أراد وقوعه من خير، وشر، وطاعة، ومعصية.

وعند المعتزلة الإرادة تابعة للأمر فهم يقولون: يريد ما أمر به من الخير، والطاعة سواء رقع ذلك أم لا، ولا ويد ما فى عنه من الشر، والمعصية سواء وقع ذلك أم لا، فمثلًا إيمان أبي جهل مأمور به، وغير مراد لامتناع وقوعه، وكفره منهى عنه، ومراده لوقوعه عند أهل الحق. وعند المعتزلة العكس، أي: مأمور بالإيمان، ومراد منه، وكفره منهي عنه وغير مراد.

راجع: مجموع فتارى شيخ الإسلام: 8/ 131، 159 - 160، وشرح العقيدة الواسطية: ص/ 42 - 43، والمحصل للرازي: ص/ 243، 264، ومعالم أصول الدين: ص/ 59، والمواقف: ص/ 291، 320، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 406، وتشنيف المسامع: ق (153/ أ)، والغيث الهامع: ق (160/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 445، وشرح الطحاوية: 1/ 65.

ص: 206

وإن أمر به، ونهى عنه ابتلاء كإيمان أبي جهل (1)، فإنه لم يكن في علمه، ولا أراده، خلافًا للمعتزلة، فإن كل مأمور به مراد، وإن لم يقع.

والحاصل: أن ما علم كونه، فلا محالة كائن، وما يكون كائنًا، فهو مراد، وعكسه أيضًا كقولنا: كل ما كان مرادًا فهو كائن، وكل كائن معلوم له تعالى، ولكن لا يرضى ببعض المرادات كالكفر، والمعاصي، فالرضا أخص من الإرادة.

قوله: "بقاؤه".

أقول: من صفاته تعالى البقاء، وقد أثبته الشيخ الأشعري، وأتباعه، صفة زائدة حقيقية كالعلم، والقدرة.

والجمهور على أنها ليست صفة حقيقية، بل البقاء استمرار الوجود بالنظر إلى المستقبل، كما أن القِدم استمراره نظرًا إلى الماضي (2)، وكلام المصنف فيه تسامح.

(1) هو عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي أحد سادات قريش، ودهاتها، وأبطالها في الجاهلية سودته قريش قبل أن يطر شاربه، وأدخلته دار الندوة مع الكهول ولقبته أبا الحكم، ولقبه المسلمون أبا جهل كان أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستمر على عناده يثير الناس عليهم، والعمل على إيذائهم لا يفتر عن الكيد لهم، حتى كانت وقعة بدر الكبرى فأهلكه اللَّه فيها سنة (2 هـ).

راجع: الكامل لابن الأثير: 2/ 73، 126 - 127، وعيون الأخبار: 1/ 230، والسيرة الحلبية: 2/ 33، ودائرة المعارف الإسلامية: 1/ 322، وإمتاع الأسماع: 1/ 18، والأعلام للزركلي: 5/ 261 - 262.

(2)

قلت: لا داعي إلى الاختلاف، فقد ورد تفسيره عن المعصوم صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول -إذا أوى إلى =

ص: 207

وكان الأولى أن يقول: وجوده غير مستفتح ليكون إشارة إلى القِدم، ولا متناه، ليكون إشارة إلى البقاء.

قوله: "لم يزل بأسمائه".

أقول: اتفق العقلاء من المليين، وغيرهم على أنه تعالى ليس له كمال ينتظر، بل كل ما هو كمال حاصل له أزلًا، وأبدًا، واختلف في بعض صفاته لفظًا لا معنى (1).

= فراشه-: "اللهم رب السماوات السبع، ورب الأرض رب كل شيء فالق الحب والنوى منزل التوراة والإنجيل، والقرآن أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين، وأغنني من الفقر". راجع: صحيح مسلم: 8/ 78 - 79.

وانظر: شرح العقيدة الواسطة: ص/ 35 - 36، وشرح الطحاوية: 1/ 62 - 65، وتشنيف المسامع: ق (153/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 445، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 406، والغيث الهامع: ق (160/ ب).

(1)

لشيخ الإسلام كلام حسن في تقسيم الناس الذين يثبتون صفاته تعالى ولِمَا له من الفائدة أذكره بنصه قال رحمه اللَّه تعالى: "ولا ريب أن المثبتين لهذه الصفات أربعة أصناف:

صنف يثبتونها، وينفون التجسيم، والتركيب، والتبعيض مطلقًا كما هي طريقة الكلابية، والأشعرية، وطائفة من الكرامية كابن الهيصم، وغيره وهو قول طوائف من الحنبلية، والمالكية، والشافعية، والحنيفة كأبي الحسن التميمي، وابنه أبي الفضل، ورزق اللَّه التميمي؛ والشريف أبي علي بن أبي موسى، والقاضي أبي يعلى، والشريف أبي جعفر، وأبي الوفاء بن عقيل وأبي الحسن ابن الزاغوني، ومن لا يحصى كثرة يصرحون بإثبات هذه الصفات، وبنفي التجسيم، والتركيب والتبعيض، والتجزي، والانقسام، ونحو =

ص: 208

وتحرير ذلك أن صفاته تنقسم أربعة أقسام:

الأول: الصفات السلبية، ولم يخالف فيها أحد مثل كونه ليس بجسم، ولا عرض، ولا جوهر، وغيرها (1).

الثاني: الصفات الإضافية ككونه رازقًا لعمرو، وغير رازق لبكر.

الثالث: الصفات الفعلية (2) كالخلق، والإماتة، والترزيق وغيرها، فهى عند الأشاعرة حادثة، وعند الحنفية راجعة إلى صفة التكوين قديمة.

= ذلك، وأول من عرف أنه قال هذا القول هو محمد بن عبد اللَّه بن سعيد بن كلاب ثم تبعه على ذلك خلائق لا يحصيهم إلا اللَّه.

وصنف يثبتون هذه الصفات ولا يتعرضون للتركيب، والتجسيم، والتبعيض، ونحو ذلك من الألفاظ المبتدعة لا بنفي ولا بإثبات لكن ينزهون اللَّه عما نزه عنه نفسه ويقولون: إنه "أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد". . وهذا القول هو الذي يؤثر عن سلف الأمة، وأئمتها، وعليه أئمة الفقهاء وأئمة الحديث، وأئمة الصوفية، . . .

وصنف ثالث يثبتون هذه الصفات، ويثبتون ما ينفيه النفاة لها، ويقولون: هو جسم لا كالأجسام، ويثبتون المعاني التي ينفيها أولئك بلفظ الجسم، وهذا قول طوائف من أهل الكلام المتقدمين، والمتأخرين.

وصنف رابع يصفونه، مع كونه جسمًا بما يوصف به غيره من الأجسام، فهذا قول المشبهة الممثلة، وهم الذين ثبت عن الأمة تبديعهم وتضليلهم" بيان تلبيس الجهمية: 1/ 46 - 47.

(1)

لفظ الجسم، والجوهر، والعرض، والجزء لم يتكلم به أحد من الأئمة والسلف في حق اللَّه تعالى لا نفيًا، ولا إثباتًا، كما قاله شيخ الإسلام.

راجع: بيان تلبيس الجهمية: 1/ 47.

(2)

آخر الورقة (139/ ب من أ).

ص: 209

الرابع: الصفات الزائدة على الذات القديمة، وهي التي وقع فيها الخلاف أثبتها أهل السنة، ونفاها الفلاسفة.

والمعتزلة لهم اضطراب فيها (1) قالوا: بزيادة بعضها كالإرادة لكن لا يجوز قيامها به تعالى.

لنا -على ثبوتها على الاجمال-: أنها صفات كمال، وكل ما كان صفات كمال يجب القول بثبوته.

وقد وردت الآيات، والأحاديث بثبوتها مفصلة بحيث لا يمكن إنكارها، ولا تأويلها {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166]، {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]، {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} [الفرقان: 2]، {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [غافر: 65]، {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (2).

(1) القدماء من المعتزلة ينكرون هذه الصفات كالفلاسفة وقالوا: يلزم من إثباتها التركيب في الذات. فلا يقال: عالم ولا قادر، وإنما يقال له: ليس بعاجز، ولا جاهل. تعالى اللَّه عما يقولون علوًا كبيرًا.

أما المتأخرون من المعتزلة كأبي هاشم، وغيره فقد نفوا حقائق هذه الصفات ويثبتون أحكامها، فيقال: عالم بذاته لا بعلم، وهكذا في باقي الصفات، وسيأتي ذكر الشارح لشبهتهم والرد عليها بعد قليل.

راجع: تشنيف المسامع: ق (153/ ب)، والغيث الهامع: ق (161/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 446، ومجموع الفتاوى: 6/ 359.

(2)

الآية: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 75].

ص: 210

قالوا: لو كانت له صفات موجودة قديمة يلزم تعدد القدماء، وقد كفَّرتم النصارى بالقول بآلهة ثلاثة، فكيف بالثمانية أو أكثر؟ .

الجواب: إنما كُفِّرت [النصارى](1) لقولهم: بذوات متعددة تتصف بالألوهية، ونحن نقول: الذات واحدة، والصفات كثيرة، ولا يلزم منه قدح في أصول الإسلام.

ومعنى قول المشايخ: لا هي عين، ولا هي غير، أنها ليست عين الذات لتغاير المفهومات، ولا غيره لعدم الانفكاك إذ الغيران هما الأمران اللذان يوجد كل منهما بدون الآخر (2).

فإن قلت: من قال: إنه تعالى موجد العالم كيف يمكنه سلبه العلم، والحياة منه؟

قلت: لم يسلبه عنه معنى، بل يقول: ذاته بالنسبة إلى العلوم علم، وإلى القدرة قدرة، وقس على ذلك.

وقسم المصنف صفاته بحسب الدليل، فقال: منها ما دل الفعل عليه، كالعلم، والقدرة، والحياة، والإرادة، لأن وجود الفعل الحادث بدون هذه الصفات مستحيل.

(1) سقط من (ب) وأثبت في هامشها.

(2)

يعني أن كلام اللَّه، وعلمه، وقدرته، وإرادته، وغير ذلك من الصفات لا يطلق عليها عند السلف، والأئمة القول بأنه اللَّه، ولا يطلق عليها بأنه غير اللَّه لأن لفظ الغير قد يراد به ما يباين غيره، وصفات اللَّه لا تباينه، ويراد به ما لم يكن إياه، وصفة اللَّه ليست إياه.

راجع: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 2/ 352.

ص: 211

ومنها: ما دل عليه التنزيه مثل: السمع، والبصر والكلام، والبقاء (1) بناء على أن البقاء صفة حقيقية على ما نقلناه عن الشيخ.

فالحياة: صفة تقتضى صحة العلم، والإرادة.

والعلم: صفة توجب تمييزًا لا [يحتمل](2) النقيض، أو انكشاف المدرك.

وعلمه تعالى: عبارة عن حضور الأشياء عنده، بلا انتزاع صورة، ولا انفعال، ولا اتصاف بكيفية.

والقدرة: صفة تؤثر في الشيء إيجادًا، وإعدامًا عند انضمام الإرادة [إليها.

والإرادة] (3): صفة ترجح أحد المقدورين بالوقوع.

والكلام: صفة تنافي السكوت، والخرس (4).

(1) مذهب الأشاعرة إثبات ثماني صفات، وهي التي ذكرها هنا ويؤولون غيرها، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء اللَّه تعالى.

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 2/ 406، وتشنيف المسامع: ق (153/ ب)، والغيث الهامع: ق (161/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 446، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 63 - 74، وشرح المقاصد: 4/ 138، والمحصل: ص/ 248، والمواقف: ص/ 292.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(4)

مذهب أهل الحق: الإيمان بكل ما وصف اللَّه به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف، ولا تعطيل، ولا تمثيل، ولا تكييف كما قال جل شأنه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وقد تقدم الكلام على أكثر هذه الصفات التي ذكرها هنا، وسيأتي الكلام على باقيها مفصلًا بعد قليل.

ص: 212

والسمع -عند الشيخ الأشعري-: هو العلم بالمسموعات، والبصر العلم بالمبصرات (1).

وعند سائر المتكلمين غير العلم، والانكشاف بهما أكمل من الانكشاف به.

وفيه نظر إذ ذلك إنما يتصور في غيره تعالى، وأما بالنسبة إليه، فلا يتفاوت انكشاف الأشياء.

فإن قلت: قد قررت أن عندكم صفات الأفعال حادثة، فكيف يصح قول المصنف: لم يزل بأسمائه. إذ مرجع الأسماء كالخالق والباري إلى صفات الفعل، وهي حادثة (2)؟

(1) هذا التفسير لا يسلم، فقد روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: 58]"فوضع" إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه". فالمذهب الحق أنه سبحانه كما أخبر عن نفسه يسمع بسمع، ويرى بعين كما قال:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فيكون معنى السميع المدرك لجميع الأصوات مهما خفت، فهو يسمع السر، والنجوى بسمع هو صفة لا يماثل أسماع خلقه، بل يليق بحلاله، وعظمته. ومعنى البصير المدرك لجميع المرئيات من الأشخاص، والألوان مهما لطفت أو بعدت، فلا تؤثر على رؤيته الحواجز، والأستار، وهو دال على ثبوت البصر له سبحانه على الوجه الذي يليق به.

راجع: سنن أبي داود: 2/ 534، ومجموع الفتاوى: 6/ 227 - 228، والإبانة عن أصول الديانة: ص/ 129، وشرح العقيدة الواسطية: ص/ 41 - 42، وشرح العقيدة الأصفهانية: ص/ 73، وما بعدها، وكتاب التوحيد لابن خزيمة: ص/ 44.

(2)

تقدم بأن التحقيق فيها أنها قديمة.

ص: 213

قلت: في أسمائه اعتباران اعتبار التعلق، والحدوث، كالخلق بمعنى الإيجاد، والغفار بمعنى المتجاوز عن ذنوب عباده بعد وقوعها، فهي بهذا الاعتبار راجعة إلى صفات الأفعال.

واعتبار الثبوت بمعنى أن له الخلق، والمغفرة، أي: شأنه ذلك فهي راجعة إلى صفة الإرادة.

فإن قلت: فيكون وصفه بتلك الصفات مجازًا.

قلت: إذا أريد بها الحدوث، فلا شك أنها حقيقة، وإذا أريد بها الصفات الذاتية على التأويل، كما ذكرنا، فهي حقائق، لأن صفاته الحقيقية ليست زمانية كما أن ذاته كذلك.

وبهذا يزول إشكال آخر يورد على كلامه تعالى، بأنكم تقولون: كلامه أزلي، ولا شيء قبل الأزل، فكيف تصح صيغة الماضي في الأزل؟ مثل:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} [نوح: 1] ونظائره.

فإذا قلنا: إن صفاته غير زمانية سقط ذلك، إذ بالنظر إلى صفاته لا ماضي، ولا مستقبل، وإنما عبر تارة بالماضي والأخرى بالمستقبل تفهمًا للمقاصد، وتفننًا في الكلام.

[قوله: "وما صح في الكتاب".

أقول: يريد أنه قد ورد في الآيات، والأحاديث صفات أخرى منها: ما هو ظاهر، ومنها ما] (1) فيه إشكال، فما كان معناه ظاهرًا نعتقد منه ذلك المعنى الظاهر (2) إن كان لائقًا به مشعرًا بالتعظيم.

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

وذلك كالصفات السبع التي قال بظاهرها الأشاعرة، ولم يؤولوها. وهي: الحياة، والعلم، =

ص: 214

وما ليس بظاهر، ففيه مذهبان، مذهب السلف التفويض (1) إليه تعالى،

= والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر، وقد سبق ذكرها في الشرح ويسمونها صفات المعاني ويدعون ثبوتها بالعقل. أما ما عداها فهم ينفونها بتأويلها عن ظاهرها. ومذهب السلف أن جميع صفات اللَّه تعالى التي جاءت بها النصوص تجري على ظاهرها، مع نفى الكيفية، والتشبيه عنها. أما المعتزلة، فإنهم ينفون الصفات، ويثبتون أحكامها، وهي ترجع عند أكثرهم إلى أنه عليم، قدير.

راجع: مجموع الفتاوى: 6/ 358 - 359، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 76 وما بعدها. والعقيدة الأصفهانية مع شرحها لشيخ الإسلام: ص/ 3، وتشنيف المسامع: ق (154/ ب)، والغيث الهامع: ق (161/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 407، وحاشية العطار على المحلي: 2/ 461، وهمع الهوامع: ص/ 446.

(1)

السلف لم يكونوا يفوضون في علم المعنى، ولا كانوا يقرؤون كلامًا لا يفهمون معناه، بل كانوا يفهمون معاني النصوص من الكتاب والسنة، ويثبتونها للَّه عز وجل، ثم يفوضون فيما وراء ذلك من كنه الصفات، أو كيفيتها كما قال إمام دار الهجرة قدس اللَّه روحه حين سئل عن كيفية استوائه تعالى على العرش:"الاستواء معلوم، والكيف مجهول" فلفظ الصفات الواردة عن اللَّه ورسوله صلى الله عليه وسلم يجب القول بموجبها سواء فهمنا معناه، أو لم نفهمه، لأن الاعتماد في باب الأسماء والصفات على مجرد نفى التشبيه، أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد، وذلك أنه ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، وقدر مميز، ولا يلزم من اتفاق أسماء اللَّه، أو صفاته، مع أسماء بعض خلقه أو صفاتهم في اسم عام، أو صفة عامة تَمَاثل المسميات، بل الإضافة ونحوها تميز ما يختص به الخالق، وما يختص به المخلوف.

راجع: الرسالة التدمرية: ص/ 8، ومجموع الفتاوى: 3/ 10، 66، 74، وشرح العقيدة الواسطية: ص/ 19، والإبانة: ص/ 129.

ص: 215

وأنه مستأثر بعلمه ليس لأحد سبيل إلى ذلك، ومذهب الخلف التأويل بما يرجع إلى معنى يليق به تعالى (1).

قيل: مذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم (2)، أما الأول: فلأن الإيمان به كاف على إجماله، وأما الثاني: فلأنه يحتاج إلى دقة نظر، وتأمل وافر، وأيضًا نظرًا إلى الثواب، فإن الأجر على قدر المشقة، فمن أتعب قريحته في استخراج معنى صحيح ليس كمن آمن به مجملًا من غير تأمل، وتعب (3).

(1) قلت: اللائق بالحق جل جلاله هو إثبات صفاته التي أخبربها سبحانه وإجراؤها على ظاهرها، مع نفي الكيفية عنها لأن الكلام في الصفات فرع من الكلام في الذات، وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات، وعلى هذا مضى سلف الأمة رحمهم الله جميعًا.

راجع: نقض المنطق: ص/ 6، ومجموع الفتاوى: 6/ 355.

(2)

آخر الورقة (125/ ب من ب).

(3)

قلت: القول بأن مذهب الخلف أحكم، أو أعلم، ومذهب السلف أسلم. لا يجوز أن يكون الخلف أعلم من السلف جملة، بل جعل شيخ الإسلام هذا من قول المبتدعة، ظنًا منهم أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن، والحديث من غير فقه لذلك، فهم عندهم بمنزلة الأميين الذين قال اللَّه فيهم:{وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} [البقرة: 78]، وطريقة الخلف عندهم استخراج معاني النصوص المعروفة عن حقائقها بأنواع المجازات، وغرائب اللغات، كما هي طريقة المتفلسفة، ثم قال:"وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل، والضلال بتصويب طريقة الخلف" مجموع الفتاوى: 5/ 8 - 12. وراجع: نقض المنطق: ص/ 7.

ص: 216

وأمثلتها كثيرة في الآيات: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14]، {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1)، {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} (2).

وفي الأحاديث: "إن قلوب بى آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن"(3).

"الصدقة تقع في كف الرحمن قبل وقوعها في يد السائل"(4).

(1){قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75].

(2)

{قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 88].

(3)

روى مسلم، وأحمد، وابن ماجه عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص قوله: إنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء"، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك".

راجع: صحيح مسلم: 8/ 51، ومسند أحمد: 2/ 168، 3/ 112، 257، وسنن ابن ماجه: 2/ 431، رواه عن أنس، ورواه أحمد عن عبد اللَّه بن عمرو وعن أنس أيضًا.

(4)

لم أعثر على الحديث بهذا اللفظ فيما اطلعت عليه من كتب السنة ولعله قاله في معنى الحديث الذي رواه مسلم، وأحمد، والنسائي والترمذي، وابن ماجه، وابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل اللَّه إلا الطيب إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو فى كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل كما يربى أحدكم فلوه، أو فصيله".

راجع: صحيح مسلم: 3/ 85، ومسند أحمد: 2/ 268، 418، 431، 538، وتحفة الأحوذي: 3/ 327، وسنن النسائي: 5/ 57 - 58، وسنن ابن ماجه: 1/ 565، وكتاب التوحيد لابن خزيمة: ص/ 59 - 63.

ص: 217

"يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين"(1) إلى غير ذلك (2).

(1) رواه مسلم، وأحمد، والنسائي من حديث عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند اللَّه على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم، وأهليهم وما ولوا".

راجع: صحيح مسلم: 716، ومسند أحمد: 2/ 159، 160، 203، وسنن النسائي: 8/ 221، وشرح النووي على مسلم: 12/ 211 - 212.

(2)

وعند مسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يطوي اللَّه عز وجل السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟ ".

وروى البخاري، ومسلم، وأحمد، وابن خزيمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يقبض اللَّه الأرض ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ ".

وعند البخاري، ومسلم، والترمذي، وابن خزيمة عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال: جاء حبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أو يا أبا القاسم إن اللَّه تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع، والأرض على أصبع، ثم يهزهن، فيقول: أنا الملك، أنا الملك، فضحك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تعجبًا مما قاله الحبر تصديقًا له ثم قرأ:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] وغيرها كثير من الأحاديث الواردة في ذلك.

راجع: صحيح البخاري: 6/ 157 - 158، وصحيح مسلم: 8/ 125 - 127، وشرحه للنووي: 17/ 129 - 131، والمسند: 2/ 72، 6/ 117، وتحفة الأحوذي: 9/ 113، وكتاب التوحيد لابن خزيمة: ص/ 70 - 89.

ص: 218

فعند الخلف اليد: القدرة (1) والعين: الحفظ، والكلأ (2)، مجاز مرسل

(1) يعني بالخلف الأشعرية، فهم يؤولون الصفات غير السبع التي سبق ذكرها.

قلت: قد سبق ذكر بعض النصوص من كتاب اللَّه تعالى وسنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على إثبات اليدين للَّه تعالى، وإثبات الأصابع لهما، وإثبات القبض بهما، وأنه تعالى يتقبل الصدقة من الكسب الطيب بيمينه، فيربيها لصاحبها، وأن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، وورد في الحديث الصحيح أنه يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، وبالنهار ليتوب مسيء الليل، وغير ذلك مما هو ثابت عن اللَّه تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم.

وذلك كله يمنع تأويل اليدين بالنعمة، أو القدرة، أو القوة، أو الخزائن، أو غير ذلك، ويعتبر التأويل في حكم التحريف، وقد آمن سلف الأمة بهذه النصوص على ظاهرها، وقبلوها ولم يتعرضوا لها بتأويل، ولا تحريف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، ولا تكييف.

راجع: الإبانة عن أصول الديانة: ص/ 129 وما بعدها، وكتاب التوحيد لابن خزيمة: ص/ 70، 89، ومجموع الفتاوى: 3/ 45 - 46، 133، والعقيدة الواسطية مع شرحها: ص/ 56، وشرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري: 1/ 297 وما بعدها.

(2)

هذا كما سبق على مذهب الأشاعرة. أما على مذهب السلف، فقد أثبت سبحانه وتعالى العين لنفسه في آيات منها ما سبق ذكره وكذا قوله تعالى:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48]، وقوله سبحانه:{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] فدل ذلك على أن له جل وعلا عينًا يرى بها جميع المرئيات، وهي صفة حقيقية للَّه عز وجل على ما يليق به، فلا يقتضي إثباتها كونها جارحة مركبة من شحم، وعصب وغيرها، كما يقوله المجسمة تعالى اللَّه عن ذلك علوًا كبيرًا. وأما تفسير البعض لها بالرؤية، أو بالحفظ والرعاية، فهو نفي وتعطيل لها. =

ص: 219

من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم (1).

وكذا الأصبعان (2): الجلال، والجمال يسعد ويشقي، ومن له قدم راسخ في علم البلاغة، له يد طولى في تنزيل كل منهما على ما يليق به.

= وأما شبهتهم التي أوردوها على اليد، والعين بأنهم أفردتا في بعض النصوص، وجمعتا في البعض الآخر، فلا حجة لهم في ذلك على نفيهما، فإن لغة العرب تتسع لذلك، إذ قد ورد التعبير عن الاثنين بلفظ الجمع كما في قوله تعالى:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] والمراد قلبًا كما أن الواحد قد يقوم مقام الاثنين لغة كقولك: رأيت بعيني، وسمعت بأذني، والمراد عيناي، وأذناي، كما أنها في حالة الجمع بالنسبة للخالق تفيد التعظيم في حقه تعالى.

راجع: الإبانة لأبي الحسن الأشعري: ص/ 126، وكتاب التوحيد لابن خزيمة: ص/ 42، ومجموع الفتاوى: 3/ 133، والعقيدة الواسطية مع شرحها: ص/ 57 - 58.

(1)

ولهذا -أعني القول بالمجاز في كتاب اللَّه وسنة رسوله- منع كثير من المحققين القول به كالإسفراييني، وأبي علي الفارسي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم مطلقًا. ومنعه ابن خويز منداد المالكي، وداود الأصفهاني وابنه أبو بكر ومنذر بن سعيد البوطي، وحكي عن أحمد في رواية المنع في القرآن، لأن عن طريق المجاز توصل المعطلون إلى نفي صفات اللَّه تعالى.

قال ابن القيم رحمه الله: "هذا الطاغوت -يعني المجاز- لهج به المتأخرون، والتجأ إليه المعطلون، وجعلوه جنة يتترسون بها من سهام الراشقين، ويصدون به عن حقائق الوحى المبين" ثم أبطله من خمسين وجهًا، وقد سبق بيان ذلك، والخلاف فيه في بابه.

راجع: مجموع الفتاوى: 20/ 400، وما بعدها، ومختصر الصواعق المرسلة: 2/ 2 وما بعدها، ومنع جواز المجاز للعلامة الشنقيطي رحمه الله: 9/ 6 من أضواء البيان.

(2)

يعني الواردتين في حديث عبد اللَّه بن مسعود وقد سبق قبل قليل مع بيان مذهب السلف في ذلك.

ص: 220

قوله: "القرآن كلامه غير مخلوق".

أقول: كون الباري تعالى متكلمًا لم يخالف فيه أحد من أرباب الملل، والمذاهب (1).

وقد تواتر كونه تعالى آمرًا ناهيًا إنما الخلاف في معنى كلامه، وفي قدمه، وحدوثه.

فعند أهل الحق (2) أنه قديم ليس من جنس الحروف، والأصوات، بل صفة قديمة قائمة بذاته تعالى منافية للآفة، والسكوت، هو بها آمر ناهٍ، كما أنه عالم بالعلم، قادر بالقدرة، يدل عليها تارة بالعبارة، وتارة بالكتابة، فإذا عبر عنها بالعربية كان قرآنًا، وبالعبرية، فتوراة، وبالسريانية، فإنجيل إلى غير ذلك، كما إذا ذكر اللَّه تعالى بلغات مختلفة، فالمسمى واحد، وإن كانت اللغات مختلفة.

(1) راجع: معالم أصول الدين: ص/ 65، والمحصل للرازي: ص/ 250، والمواقف في علم الكلام: ص/ 293، وشرح المقاصد: 4/ 143، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 71 وما بعدها، وشرح كتاب الفقه الأكبر: ص/ 27، وشرح العقيدة الأصفهانية: ص/ 6 وما بعدها.

(2)

يعني بهم الكلابية، والأشعرية، ومذهبهم أن الكلام صفة لازمة لذاته أزلًا، وأبدًا لا تتعلق بمشيئته، وقدرته، ونفى عنه الحرف والصوت، وسيأتي ذكر مذهب سلف الأمة، وأئمتها بعد قليل.

راجع أصحاب هذا المذهب: المعالم: ص 65 - 66، والمحصل للرازي: ص/ 250، وشرح المقاصد للتفتازاني: 4/ 143، والمواقف للإيجي: ص/ 293، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 71.

ص: 221

وخالف في ذلك جميع الفرق زعمًا منهم أنهم لا معنى للكلام إلا المنتظم من الحروف، فالحنابلة، والحشوية (1) على أن القرآن هو الحروف المنتظمة المترتبة، ومع كون كل كلمة منه مسبوقة بأخرى (2) كان ثابتًا في الأزل قائمًا به تعالى (3)، وأن المسموع

(1) تقدم معنى الحشو، ومن الذين يصح إطلاق هذا اللفظ عليهم في 1/ 422.

(2)

آخر الورقة (140/ ب من أ).

(3)

قد تقدم في أول الكتاب الإشارة إلى ذكر المذهب الحق عند ذكره الكلام النفسي، عند الكلام على الحكم وتعريفه: 1/ 216، وخلاصة مذهب أهل السنة، والجماعة في هذه المسألة المهمة والتي امتحن وعذب فيها بعض السلف رحمهم اللَّه تعالى، هو أن اللَّه تعالى لم يزل متكلمًا إذا شاء، وأن الكلام صفة له قائمة بذاته يتكلم بها بمشيئته، وقدرته، فهو لم يزل ولا يزال متكلمًا إذا شاء، وما تكلم اللَّه به، فهو قائم به ليس مخلوقًا منفصلًا عنه، كما تقول المعتزلة، ولا لازمًا لذاته لزوم الحياة لها كما تقول الأشاعرة بل تابع لمشيئته وقدرته، واللَّه سبحانه وتعالى نادى موسى بصوت، ونادى آدم وحواء بصوت، وينادي عباده يوم القيامة بصوت، ويتكلم بالوحي بصوت، ولكن الحروف والأصوات التي تكلم اللَّه بها صفة له غير مخلوقة، ولا تشبه أصوات المخلوقين، وحروفهم، كما أن علم اللَّه القائم بذاته ليس مثل علم عباده، فإن اللَّه لا يماثل المخلوقين في شيء من صفاته.

فالقرآن كلام اللَّه منزل غير مخلوق منه بدأ، وإليه يعود، واللَّه تكلم به على الحقيقة، فهو كلامه حقيقة لا كلام غيره، وإذا قرأ الناس القرآن، أو كتبوه في المصاحف لم يخرج ذلك عن أن يكون كلام اللَّه، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا لا إلى من بلغه مؤديًا، واللَّه تكلم بحروفه ومعانيه بلفظ نفسه، ليس شيء منه كلامًا لغيره لا لجبريل، ولا لمحمد، ولا لغيرهما، وكما أن القرآن كلامه، فكذلك هو كتابه =

ص: 222

من زيد، وعمرو، والمكتوب في اللوح والورق قديم (1).

= لأنه كتبه في اللوح المحفوظ، ولأنه مكتوب في المصاحف، وقد دلت الآيات على أنه كلامه، وكتابه، وأنه متكلم سبحانه وتعالى وهي كثيرة منها قوله:{مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء: 87]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء: 122] {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]، {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22]، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6]، {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [الكهف: 27]، {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 155]، {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102]، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77 - 78]، {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22].

راجع: الإبانة عن أصول الديانة: ص/ 85 - 102، وكناب التوحيد لابن خزيمة: ص/ 136 وما بعدها، والطحاوية مع شرحها: 1/ 138 - 182، والعقيدة الواسطية مع شرحها: ص/ 80، ومجموع الفتاوى: 3/ 401 - 404، وشرح العقيدة الأصفهانية: ص/ 6 وما بعدها.

(1)

جاء في هامش (أ): "وبالغوا حتى قال بعضهم جهلًا: الجلد، والغلاف قديمان فضلًا عن المصحف وهو قول باطل بالضرورة".

قلت: وقد ذكر شيخ الإسلام أن من يقول: الورق، والجلد، والوتد كلام اللَّه، فهو خارج عن السنة، والجماعة، وكذا جهل من يقول: إن أصوات العباد بالقرآن قديمة، أو إن المداد قديم، بل القرآن العربي الذي أنزله اللَّه على محمد صلى الله عليه وسلم هو ما بين دفتي المصحف فهو كلامه =

ص: 223

والكرامية (1): على أنه الحروف المنتظمة، وهي حادثة قائمة بذاته تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا.

والمعتزلة: لما رأوا فساد القولين غنيًا عن الاستدلال وسمعوا قوله تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2](2)، وقوله:{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ} [الزخرف: 44]، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9] إلى غير ذلك، ولا شك أنها صفات الحادث.

قالوا: هو المنتظم من الحروف الحادثة، والمركب من الحادث حادث، ولا يجوز قيام الحادث بذاته تعالى.

فمعنى كونه متكلمًا أنه موجد للكلام في الغير، كما أوجده في الشجرة (3) لموسى.

= تعالى غير مخلوق حيث تلي، وحيث كتب، فلا يقال لتلاوة العبد بالقرآن: إنها مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه القرآن المنزل، ولا يقال: غير مخلوقة؛ لأن ذلك يدخل فيه أفعال العباد.

راجع: مجموع الفتاوى: 3/ 197، 402، 404، والعقيدة الواسطية: ص/ 85.

(1)

الكرامية: أصحاب أبي عبد اللَّه محمد بن كرام كان ممن يثبت الصفات إلا أنه ينتهي فيها إلى التجسيم، والتشبيه، وهم طوائف يبلغ عددهم اثنتي عشرة فرقة.

راجع: الملل والنحل: 1/ 159.

(2)

وقد وردت في عدة سور كسورة فصلت: 2، والزخرف: 3، وغيرها.

(3)

ويلزم على مذهبهم هذا أن تكون الشجرة هي التي قالت: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ} [طه: 12] تعالى اللَّه عما يقولون، والآية الى ذكرت فيها الشجرة قوله تعالى:{فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَامُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [القصص: 30]. وراجع: مقالات الإسلاميين: ص/ 582 وما بعدها.

ص: 224

وأهل الحق (1): يقولون: بما قال به المعتزلة، إنما الخلاف معهم في إثبات معنى آخر وراء الألفاظ أعني المعنى القديم هو بذلك متكلم لا بإيجاده الألفاظ في لسان زيد، وعمرو.

ولنا -على إثبات ذلك المعنى القديم-: أنه تعالى متكلم اتفاقًا، ولا يجوز أن يكون ذلك لإيجاده الألفاظ على لسان زيد، وعمرو، إذ لا يشتق اسم الفاعل إلا من قام به الفعل، فالمتحرك هو من قام به الحركة لا من أوجد الحركة، هذا قانون لغة العرب لا يمكن لأحد إنكاره. وإذا ثبت أنه متكلم، ومن الضروريات المعلومة بأوائل العقول أن ما كان فيه تركيب، وترتيب، وانتظام لا يكون قديمًا، وما ليس بقديم لا يجوز قيامه بذاته تعالى، فقد تحقق أن هناك معنى آخر، وراء هذه الألفاظ الحادثة هو بها متكلم.

ولنا -أيضًا-: أن كل أحد يجد من نفسه حين الأمر، والنهي، والإخبار، والاستخبار معاني يعبر عنها بعبارات مختلفة، تلك المعاني التي يعبر عنها بتلك الألفاظ هي التي تسمى بالكلام النفسي، وهي ليست بعلم، لأن الإنسان كثيرًا ما يخبر بما لا يعلم، ولا أراده، لأنه كثيرًا ما يخبر، ويأمر بما لا يريد.

قالوا: قد علم من دين النبي ضرورة أن ما يقرؤه الإنسان في صلواته كلام اللَّه، وأن النبي دعا العرب إلى المعارضة بالقرآن، وانعقد الإجماع على أن من قال: ما بين دفتي المصحف ليس بقرآن، فهو كافر.

(1) يعني بهم كما سبق قول الأشعرية، والكلابية.

ص: 225

قلنا: كل ذلك مسلم، ولفظ القرآن، والكلام مشترك بين المعنيين، أو مجاز في تلك الألفاظ صار حقيقة عرفية لا يجوز سلبها، وإليه أشار المصنف على الحقيقة لا المجاز، مكتوب في مصاحفنا محفوظ في صدورنا، مقروء بألسنتنا (1).

ولكن لا يكفي ذلك في وصفه تعالى بكونه متكلمًا، لأن تلك المعاني ليست قائمة به تعالى، ولا يصير متكلمًا بكلام لا يقوم به.

ويجوز أن يكون معنى قول مشايخ أهل السنة أن القرآن هو المقروء بألسنتنا، المحفوظ في صدورنا، المكتوب في مصاحفنا، هو المعنى القديم، وصفًا للمدلول بصفة الدال، أي: المفهوم من القراءة، المعلوم من الخطوط والألفاظ المسموعة، وهذا معنى قولهم: القراءة حادثة (2)، والمقروء قديم وإلا فالمقروء الذي هو الألفاظ، والحروف الذي يتكلم به المتكلم الحادث لا يعقل كونه قديمًا.

قالوا: لو كان كلامه أزليًا لزم الكذب في أخباره في نحو، قوله:{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} [نوح: 1]، وقوله:{وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي} [الحجر: 87]، ولو اتصف بالكذب في الأزل امتنع صدقه، لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه.

(1) راجع: ما قاله شراح كلامه في هذه المسألة: تشنيف المسامع: ق (155/ أ - ب)، والغيث الهامع: ق (162/ أ - ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 408 - 406، وهمع الهوامع: ص/ 448.

(2)

تقدم بأن التلاوة، والقراءة لا توصف بالحدوث، ولا بالقدم، لكن الصوت حادث.

ص: 226

وأيضًا الآمر بلا مأمور، والخطاب بلا مخاطب عبث.

الجواب -عن الأول-: أن الكلام في الأزل لا يتصف بالمضي والاستقبال، لأنه صفته القديمة.

وقد قدمنا أن صفاته غير زمانية، وإنما حدث المضي، والاستقبال في الألفاظ الحادثة تمييزًا بين المعاني.

والجواب عن الثاني-: أن العبث إنما يلزم لو كان في القدم كلام بمعنى الألفاظ المسموعة، وليس كذلك، بل في الأزل كلام قديم نفسي، فيكفي فيه الوجود العقلي على معنى أنه إذا وجد ذلك خوطب بألفاظ مسموعة.

قوله: "يثيب على الطاعة".

أقول: دلت الآيات، والأحاديث على أن اللَّه تعالى يثيب المطيع ويعاقب العاصي (1).

(1) الثواب: إيصال النفع إلى المكلف على وجه الجزاء، قال تعالى:{فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا} [المائدة: 85] أي: جزاهم والإثابة على الطاعة مجمع عليها لكنها عند أهل السنة على سبيل الفصل، وعند المعتزلة على سبيل الوجوب.

والعقاب: إيصال الألم إلى المكلف على وجه الجزاء، وهو محتم في الشرك إذا مات مصرًا عليه، وأما في غيره من المعاصي فتحت مشيئة اللَّه تعالى إن شاء غفر له، وإن شاء عذبه لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48].

ولحديث أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك باللَّه شيئًا دخل الجنة، قلت: وإن سرق، وإن زنى؟ قال: وإن سرق، وإن زنى" فذكر كبيرتين إحداهما تتعلق بحق اللَّه تعالى، وهي الزنى، والأخرى تتعلق بحق =

ص: 227

فالثواب: فضل منه، والعقاب عدل لا وجوب عليه، ولا استحقاق عقلًا خلافًا للمعتزلة.

لنا: أن طاعة العبد، وإن عظمت لا تفي بشكر بعض ما أنعم عليه من نعم الدنيا من السمع، والبصر، بل لو قيل لرجل [أعمى] (1): إن كنت تصلي كل يوم حمسين صلاة، وتصوم الدهر، وتقوم شطر الليل نعطيك نور البصر يقبل ذلك بلا توقف، وإذا كان الأمر على هذا المنوال، فكيف يستحق العبد بمحقرات أعماله النعيم المقيم؟ الذي لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر (2).

= الآدمي، وهي السرقة، وفي هذا رد صريح على المعتزلة في زعمهم أن عذاب مرتكب الكبيرة الفاسق مؤبد كالكافر، وليس في عفوه تعالى إخلاف لوعيده، فإن خبره تعالى لا يخلف في وعده، ولا وعيده بل إنما ذلك من قبيل تخصيص العموم، فهو متصرف في ملكه إن أثاب فبفضله، وإن عاقب فبعدله، كما أن الخلف في الوعيد لا يعد نقصًا عند العقلاء وسيأتي بيان هذا في الشرح.

راجع: مختار الصحاح: ص/ 89، 443 - 444، والمصباح المنير: 1/ 87، 2/ 419 - 421، وصحيح البخاري: 9/ 174، ومقالات الإسلاميين: ص/ 274 - 276، والمحصل: ص/ 295، والمعالم: ص/ 131، والمواقف: ص/ 376 - 380، وشرح كتاب الفقه الأكبر: ص/ 102، 105، 192، وأصول الدين للبغدادي: ص/ 240 - 244، وشرح المقاصد: 32114، وهمع الهوامع: ص/ 449.

(1)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

لحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "قال اللَّه تبارك وتعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر". قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]. وراجع: صحيح البخاري: 6/ 145.

ص: 228

قالوا: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة: 82]، {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف: 72]، {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على سببية الأعمال.

قلنا: الكلام في الاستحقاق بمعنى اللزوم بحيث لا يجوز تركه عقلًا، والآيات، والأحاديث محمولة على السبب العادي، ولا خلاف في ذلك، فإنه تعالى أخبر أن الجنة دار الصالحين من عباده:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107].

وفي الحديث القدسي: "خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون"(1)، وبما ذكرنا يوفق بين الأحاديث، والآيات الدالة على السببية، وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أحدكم لن يدخل الجنة بعمله.

(1) سئل عمر بن الخطاب عن قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف: 172]، فقال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سئل عنها، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"إن اللَّه عز وجل خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون. . . " الحديث.

رواه أبو داود، والترمذي وقال:"هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر" والحديث وإن كان قد تكلم على إسناده، لكن معناه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه ثابتة كثيرة من حديث عمر وغيره، كما قاله ابن عبد البر. =

ص: 229

قيل: وأنت؟ قال: وأنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته" (1).

وكذا العقاب على المعصية ليس بواجب عقلًا، إلا أن الآيات والأحاديث دلت على أنه واقع قطعًا، وأن من مات على الكفر لا يغفر له بنص الكتاب:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ولولا الدلالة من النص لما وجب القول بذلك عقلًا، ولذلك قال عيسى صلوات اللَّه عليه:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]، فجوز المغفرة مع الموت على الشرك تجويزًا عقليًا (2).

= راجع: مسند أحمد: 1/ 44، 4/ 186، وسنن أبي داود: 2/ 529، وتحفة الأحوذي: 8/ 453 - 456، والموطأ: ص/ 560، وتفسير ابن كثير: 2/ 263، وتفسير الشوكاني: 2/ 263.

(1)

رواه البخاري، وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "لن ينجي أحدًا منكم عمله، قالوا: ولا أنت يا رسول اللَّه؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني اللَّه برحمته، سددوا، وقاربوا واغدوا، وروحوا، وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا".

راجع: صحيح البخاري: 8/ 122، ومسند أحمد: 2/ 362، 482، 488، 503، 537، وسنن البيهقي: 3/ 377.

(2)

هذه الآية لها شأن عظيم، ونبأ عجيب، وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها.

فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] =

ص: 230

وما عدا الشرك إما صغيرة، أو كبيرة، والصغائر تكفر باجتناب الكبائر (1) وبالصلوات الخمس، وبالجمعة (2).

والوضوء (3) على ما نطقت به الأحاديث الصحيحة.

= فلما أصبح قلت: يا رسول اللَّه ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟ قال: "إني سألت ربي عز وجل الشفاعة لأمتي فأعطانيها، وهي نائلة إن شاء اللَّه تعالى لمن لا يشرك باللَّه شيئًا".

راجع: مسند أحمد: 5/ 149، وسنن البيهقي: 2/ 370، 3/ 13، وتفسر ابن كثير: 2/ 122، وانظر البخاري: 6/ 69 - 70.

(1)

لقوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا} [النساء: 31].

(2)

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر".

وعنه: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنب الكبائر".

وعنه أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسًا ما تقول ذلك يُبقي من درنه؟ قالوا: لا يُبقى من درنه شيئًا قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو اللَّه به الخطايا".

راجع: صحيح البخاري: 1/ 133، وصحيح مسلم: 1/ 144.

(3)

عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان. . . " الحديث.

وعن عثمان رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها، وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله" هذا لفظ مسلم.

راجع: صحيح البخاري: 1/ 50 - 52، وصحيح مسلم: 1/ 40، 142.

ص: 231

وأما الكبائر فإما أن يتوب عنها، أو لا، فإن تاب عنها فالتوبة تَجُبُّ ما قبلها، وقد نطقت الآيات (1)، والأحاديث (2) بأنه يقبل التوبة عن عباده

(1) وردت آيات كثيرة في الحث على التوبة، والرجوع إلى اللَّه عز وجل منها قوله تعالى:{وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 16 - 17]، {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 110]، {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 104]، {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118]، {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 3]، {وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود: 52]، {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ} [الحجر: 49 - 50]، {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان: 70 - 71]، {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8].

(2)

وأما الأحاديث الواردة في التوبة، والاستغفار فكثيرة منها: قوله صلى الله عليه وسلم: "للَّه أشد فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنام فاستيقظ، وقد ذهبت فطلبها حتى أدركه العطش، ثم قال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت، فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته، وعليها زاده وطعامه وشرابه، فاللَّه أشد فرحًا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته، وزاده".

راجع أحاديث التوبة: صحيح مسلم: 8/ 91 وما بعدها، وسنن ابن ماجه: 2/ 561 - 564.

ص: 232

ويعفو عن السيئات (1) بحيث لا مجال لانكاره. وإنما الخلاف في الوجوب، فعند المعتزلة على سبيل (2) الوجوب، وعند أهل الحق لا وجوب عليه تعالى، لأنه متصرف في ملكه لا يتصور الوجوب واللزوم في حقه، وإليه أشار المصنف بقوله:"له إثابة العاصي، وتعذيب المطيع وإيلام الدواب، والأطفال"(3).

"ويستحيل وصفه بالظلم"(4)، لكنه أخبر أنه يقبل التوبة، ولا خلف في قوله، فلذلك نجزم بذلك لا قضية للعقل، بل تصديقًا لكلامه، وكلام نبيه.

(1) لقوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25].

(2)

آخر الورقة (141/ ب من 1).

(3)

راجع: مجموع الفتاوى: 8/ 94، 95، 123، 125، لأنه سبحانه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].

(4)

شرعًا، وعقلًا.

أما شرعًا: فالآيات كثيرة منها قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40]، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس: 44]، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [هود: 101] ، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118]، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]، {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29].

وفي الحديث الصحيح المشهور: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي" راجع: صحيح مسلم: 8/ 17، فقد تمدح سبحانه وتعالى بنفي الظلم عنه، فلا يجوز زوال =

ص: 233

ثم ذلك الجزم ليس في كل أحد يتوب، بل في مطلق التائبين، وأما زيد بخصوصه إذا تاب، فالأكثرون من أهل الحق على أن قبول توبته ظني لا قطعي.

قال إمام الحرمين: "قبول التوبة ثبوته بدليل ظني (1) إذ لم يثبت في ذلك دليل قطعي لا يقبل التأويل"(2).

وعندي في هذا نظر؛ لأن قوله: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] نص في ذلك، لأن الجمع المضاف يفيد الاستغراق، نظيره قوله:{وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] أي: لكل فرد فرد، وقوله:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70]، ولفظ (من) عام بإجماع أهل العربية والأصول.

= النفي عنه، كما لا يجوز نفي ما أثبته لنفسه من النعوت، والصفات، وكذلك لا يجوز إثبات ما نفاه من النقائص.

وأما عقلًا: فلأن الظلم إنما صار ظلمًا لأنه منهى عنه، ولا يتصور في أفعاله تعالى ما ينهى عنه إذ لا يتصور له ناه، ولأن العالم خلقه، وملكه والتصرف في ملكه يستحيل وصفه بالظلم، ولأن الظلم وضع الشيء في غير موضعه وذلك مستحيل عن المحيط بكل شيء علمًا.

راجع: تشنيف المسامع: ق (161/ أ - ب)، والغيث الهامع: ق (163/ أ - ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 410.

(1)

يعني في حق كل فرد لا في حق مجموع التائبين كما ذكر الشارح قبله.

(2)

راجع: الإرشاد له: ص/ 339.

ص: 234

وأما الكبائر، فصاحبها الذي مات قبل التوبة فهو في المشيئة، كما دلت عليه الآيات، والأحاديث (1)، خلافًا للمعتزلة القائلين بخلوده في النار، وعدم جواز العفو عنه.

وكلامهم في ذلك مصادم لنصوص الكتاب، والأحاديث وقد ضلوا (2) في ذلك ضلالًا بعيدًا (3).

ثبتنا اللَّه على دينه، وأماتنا على كتابه، وسنة نبيه.

قوله: "يراه المومنون يوم القيامة".

أقول: ذهب أهل السنة إلى جواز رؤيته تعالى (4)، وإلى أن المؤمنين

(1) وقد تقدمت فيما سبق.

(2)

أخر الورقة (126/ ب من ب).

(3)

راجع: تشنيف المسامع: ق (160/ أ - ب، 161/ أ)، والغيث الهامع: ق (162/ ب - 163/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 409 - 410، وهمع الهوامع: ص/ 449.

(4)

رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة قبل دخول الجنة، وبعده متفق عليه عند أهل السنة، والجماعة، وسيأتي ذكر الأدلة على صحة ذلك عقلًا وشرعًا في الشرح بعد قليل.

وذهبت الفلاسفة، والجهمية، والمعتزلة، ومن تبعهم من الخوارج، والإمامية وغيرهم إلى نفي رؤية اللَّه عز وجل بالأبصار بناء على نفيهم الجهة عن اللَّه عز وجل واستدلوا بأدلة عقلية ونقلية، وهي شبه سيأتي الرد عليها في الشرح.

ثم اختلفت المعتزلة على أنفسهم هل يرى اللَّه في القلوب بمعنى أنهم يعلمونه في قلوبهم، فالجمهور منهم قالوا: نرى اللَّه بقلوبنا بمعنى أنا نعلمه بها، وأنكر بعضهم ذلك كهشام الفوطي، وعباد بن سليمان. =

ص: 235

يرونه يوم القيامة، وفي الجنة (1) منزهًا عن الجهة، والمقابلة، والمكان (2).

= راجع: مقالات الإسلاميين: ص/ 157، والإبانة: ص/ 65 - 85، والفقه الأكبر مع شرحه: ص/ 119 - 120، وكتاب التوحيد لابن خزيمة: ص/ 180، وأصول الدين للبغدادي: ص/ 97، والطحاوية مع شرحها: 1/ 194، ومجموع الفتاوى: 1/ 26 - 27، 6/ 401 - 407، 409 - 439، ومعالم أصول الدين: ص/ 73 - 78، والمحصل: ص/ 272 - 278، والمواقف: ص/ 299 - 307، وشرح المقاصد: 4/ 181 - 211، والكشاف: 2/ 112، والعقيدة الواسطية مع شرحها: ص/ 85، وشرح كتاب التوحيد للغنيمان: 2/ 5.

(1)

قال ابن القيم: "هذا الباب أشرف أبواب الكتاب، وأجلها قدرًا، وأعلاها خطرًا، وأقرها لعيون أهل السنة والجماعة، وأشدها على أهل البدعة، والضلالة، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس فيها المتنافسون وتسابق إليها المتسابقون، ولمثلها فليعمل العاملون. . . اتفق عليها الأنبياء والمرسلون، وجميع الصحابة، والتابعون، وأئمة الإسلام على تتابع القرون، وأنكرها أهل البدع المارقون، والجهمية المتهوكون، والفرعونية المعطلون، والباطنية الذين هم من جميع الأديان منسلخون، والرافضة الذين هم بحبائل الشيطان متمسكون. . . " حادي الأرواح إلى دار الأفراح: ص/ 196.

(2)

هذا التقييد للرؤية بنفي الجهة، والمقابلة، والمكان، هو مذهب الأشاعرة، ومن وافقهم، وبناء على ذلك، فقد حاروا في تفسير الرؤية التي هم قائلون بها كما سبق، فمنهم من قال: يرونه من جميع الجهات، ومنهم من جعلها رؤية بالبصيرة لا بالبصر، وقالوا: المقصود زيادة الانكشاف، والتجلي حتى كأنها رؤية عين.

أما مذهب أهل الحق، وسلف الأمة فإن اللَّه تعالى يرى في الآخرة بالأبصار بغير إحاطة، ولا كيفية كما نطق بذلك كتاب ربنا، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، بأن المؤمنين يرون ربهم في الدار الآخرة في عرصة القيامة، وبعد ما يدخلون الجنة على ما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في المعنى عند أهل العلم بالحديث، فإنه أخبر صلى الله عليه وسلم: "أنا نرى ربنا كما نرى القمر ليلة =

ص: 236

وخالفهم في ذلك جميع الفرق، فإن من قال برؤيته من المجسمة، والكرامية، فإنما يقولون برؤيته في الجهة، والمكان.

ثم القائلون بالرؤية من أهل الحق على أن رؤيته ليست بارتسام صورة المرئي في الحدقة، ولا باتصال الشعاع الخارج عن الحدقة المتصل بالمرئي، بل عبارة عن الانكشاف التام الذي هو فوق الانكشاف بالعلم

= البدر، والشمس عند الظهيرة لا يضام في رؤيته" وليس تشبيه رؤية اللَّه تعالى برؤية الشمس، والقمر تشبيهًا للَّه تعالى بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية لا تشبيه المرئي بالمرئي، ولكن فيه دليل على علو اللَّه على خلقه، وإلا فهل يعقل رؤية بلا مقابلة؟ ومن قال: يرى لا في جهة، فليراجع عقله، وإلا فإذا قال: يرى لا أمام الرائي، ولا خلفه، ولا عن يمينه، ولا عن يساره، ولا فوقه، ولا تحته، رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولا نريد بالتحيز أن يكون قد أحاط به حيز وجودي، ولا بالجهة أن يكون في أين موجود، بل نريد بالتحيز الذي في الجهة أن يكون بحيث يشار إليه بالحس أنه هاهنا، أو هناك، ولا ريب أن ما كان فوق العالم، فلا بد أن يشار إليه بأنه هناك، وهذا هو القول بالتحيز، والجهة عندنا".

راجع: الإبانة: ص/ 65، والطحاوية مع شرحها: 1/ 202 - 207، وكتاب التوحيد لابن خزيمة: ص/ 180 وما بعدها، والعقيدة الواسطية: ص/ 85، ومحموع الفتاوى: 5/ 79، 107، 277 - 278، 490، 492، 6/ 485، 16/ 84، وشرح كتاب التوحيد للغنيمان: 2/ 5 وما بعدها، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 114 - 118، وتشنيف المسامع: ق (161/ ب)، والغيث الهامع: ق (163/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 410 - 411، وهمع الهوامع: ص/ 449 - 450.

ص: 237

بأن يخلق اللَّه تعالى نورًا في البصر زائدًا على النور الذي في القلب يعلم به ذاته أقوى، وأبلغ من العلم الحاصل بنور القلب (1).

لنا -على هذا المطلوب عقلًا- الاتفاق على [رؤية](2) الأشياء الممكنة من الجواهر، والأعراض، ومصحح الرؤية فيها لا بد وأن يكون مشتركًا، والمشترك الإمكان، والحدوث، والوجود، والإمكان والحدوث لا يصلح كل منهما علة لا انفرادًا، ولا اجتماعًا، لأنهما أمران اعتباريان لا وجود لهما في الخارج.

والمراد بمصحح الرؤية ما تتعلق به الرؤية في الخارج.

لا يقال: الوجود أيضًا ليس بموجود، بل الموجود من قام به الوجود من الكائنات، فلا يتم دليلكم.

قلنا: مطلق الكون في الأعيان الذي هو معنى الوجود أمر مشترك بين الموجودات زائد عليها في التعقل، وفي الخارج كل هوية، وشخص متحد مع وجوده لا تمايز بينهما، وإذا كان كذلك صح أن يكون الوجود متعلق الرؤية، لأنه مشترك بين الموجودات، ومتحد مع معروضه في الخارج.

(1) وهذا هو مذهب الأشاعرة كما تقدم في سبب تحيرهم في معنى الرؤية، وتفسيرها بناء على إنكارهم الجهة، والمقابلة.

(2)

في (أ، ب): "رؤيته" والمثبت أوضح.

ص: 238

وعند المتكلمين: أن الوجود مشترك معنى بين الممكن والواجب، وحيث كان هو علة الرؤية في الممكن، فكذا في الواجب.

وأما سمعًا: فالآيات قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23](1).

(1) قال ابن جرير: "يقول تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} يعني يوم القيامة {نَاضِرَةٌ} حسنة جميلة من النعيم، يقال: نضر وجه فلان إذا حسن من النعمة، ونضر اللَّه وجهه إذا حسنه كذلك"، وقد روى ذلك بأسانيده عن المفسرين من السلف {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي: تلك الوجوه النضرة تنظر بأبصارها إلى ربها وذلك أعلى نعيم الآخرة.

روى ابن جرير عن عكرمة، والحسن، وعطية العوفي: ينظرون إلى ربهم. وروى عن مجاهد، وأبي صالح: تنتظر ثواب ربها، ثم قال: والصواب القول الأول أنها تنظر إلى خالقها، وبذلك جاء الأثر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الأحاديث في ذلك بأسانيده.

وقال البغوى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} يوم القيامة، {نَاضِرَةٌ} قال ابن عباس: حسنة. وقال مجاهد: مسرورة. وقال ابن زيد: ناعمة، وقال مقاتل: بيض يعلوها النور، وقال السدي: مضيئة.

وقيل: مسفرة، وقال الفراء: مشرقة بالنعيم يقال: نضر اللَّه وجهه ينضر نضرًا، ونضره اللَّه، وأنضره، ونضر وجهه ينضر نضرة، ونضارة قال تعالى:{تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24].

{إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال ابن عباس، وأكثر الناس: تنظر إلى ربها عيانًا بلا حجاب، قال الحسن: تنظر إلى الخالق، وحق لها أن تُنَضَّر، وهي تنظر إلى الخالق.

ثم روى بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر إلى جنانه وأزواجه، ونعيمه، وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على اللَّه من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:{وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} . =

ص: 239

والنظر الموصول بإلى هو الرؤية صرح به أهل اللغة (1).

= كما رواه الطبري بإسناده. وفيه ثوير بن أبي فاختة سعيد بن علاقة ضعيف. قال الحافظ: "أطبقوا على تضعيفه".

وقال ابن عدي: "أثر الضعف بين على روايته، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى غيره" وهذا لا يمنع الاستشهاد بحديثه، كما هي طريقة العلماء فيما لا يخالف الثابت الصحيح، بل يوافقه.

وقال ابن كثير: " {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} من النضارة، أي: حسنة بهية، مشرقة مسرورة، {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي: تراه عيانًا، كما رواه البخاري في صحيحه: "إنكم سترون ربكم عيانًا" أي: معاينة تنظرون إليه، وقد ثبتت رؤية المؤمنين للَّه عز وجل في الدار الآخرة في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث لا يمكن دفعها، ولا منعها" ثم ذكر طرفًا منها.

وفي الدر المنثور: "أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} قال: تنظر إلى وجه ربها".

وذكر أحاديث في ذلك وآثارًا كثيرة.

راجع: تفسير ابن جرير: 29/ 119 - 121، وتفسير البغوي على هامش الخازن: 7/ 185 - 187، وتفسير ابن كثير: 4/ 451، والدر المنثور: 8/ 350، والفتح للحافظ: 13/ 424، والكامل: 2/ 534، وفتح القدير للشوكاني: 5/ 338 - 340، وشرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري: 2/ 5 وما بعدها.

(1)

راجع: مختار الصحاح: ص/ 666، ومعجم مقاييس اللغة: 5/ 444، والمصباح المنير: 2/ 612، وقد وردت آيات أخر في إثباتها كقوله تعالى:{عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 23، 35]، وقوله:{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]، وقوله:{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] فالآية الأولى تفيد أن أهل الجنة، وهم على أرائكهم يعني أسرتهم جمع أريكة ينظرون إلى ربهم. =

ص: 240

وبالإجماع إذ الأمة كانت مجمعة على ذلك قبل ظهور أهل البدع، والأهواء (1).

والأحاديث، فإن الأحاديث المروية في باب الرؤية رواها واحد وعشرون صحابيًا (2).

= وأما الآيتان الأخيرتان فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه اللَّه عز وجل، ويشهد لذلك أيضًا قوله تعالى في حق الكفار:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15]، فدل حجب هؤلاء على أن أولياءه يرونه، فعن صهيب رضي الله عنه قال: قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة قال: يقول اللَّه تبارك وتعالى تريدون شيئًا أزيدكم، فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة، وتنجنا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم عز وجل".

راجع: صحيح مسلم: 1/ 112، ومسند أحمد: 1/ 388، 394، وتحفة الأحوذي: 8/ 522 - 523، وسنن ابن ماجه: 1/ 81، وتفسير القرطبي: 8/ 330 - 331، وتفسير المنار: 9/ 128 - 189، 10/ 350 - 351، وتفسير الفخر الرازي: 9/ 80 - 81، وتفسير الجمل: 2/ 343، وتفسير الجلالين: ص/ 172.

(1)

قال الحافظ ابن كثير - بعد ذكره الأدلة على ثبوت الرؤية: "وهذا بحمد اللَّه مجمع عليه بين الصحابة والتابعين، وسلف الأمة كما هو متفق عليه بين أئمة الإسلام، وهداة الأنام" التفسير له: 4/ 451، وقال شيخ الإسلام:"أجمع سلف الأمة وأئمتها على أن المؤمنين يرون اللَّه بابصارهم في الآخرة" مجموع الفتاوى: 6/ 512.

(2)

أحاديث الرؤية كثيرة، مشهورة، متواترة في المعنى عند أئمة الحديث، وقد دون العلماء فيها كتبًا مثل:(كتاب الرؤية) للدارقطني، ولأبي نعيم، وللآجري، كما ذكرها المصنفون في السنة كعبد اللَّه بن أحمد بن حنبل، وحنبل بن إسحاق، والخلال، والطبراني، وابن بطة، واللالكائي، وابن شاهين، وغيرهم. =

ص: 241

وقولهم النظر في الآية بمعنى الانتظار مردود، لأنه كلام مسوق للامتنان، وقد اشتهر أن الانتظار موت أحمر، فلا يلائم المقام.

قالوا: الرؤية بدون المقابلة مستحيلة، بديهي استحالتها غني عن الدليل.

قلنا: دعوى الضرورة فيما خالف فيه الجم الغفير غير مسموعة، بل الضروري جوازها إذ الرؤية لمحض خلق اللَّه يخلق لمن شاء متى شاء كيف شاء.

= وأخرجها أصحاب الصحيح، والسنن، والمسانيد، وغيرهم، وقد تلقاها السلف الصالح بالقبول مع ارتياح قلوبهم، وانشراح صدورهم لها، وكلهم يرجو ربه، ويسأله أن يكون ممن يراه في جنات عدن يوم يلقاه، وسأشير هنا إلى بعضها، ثم أحيل على مظانها، ومراجعها: عن عطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبره أن ناسًا قالوا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: يا رسول اللَّه هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر؟ قالوا: لا، يا رسول اللَّه. قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب؟ قالوا: لا، يا رسول اللَّه. قال: فإنكم ترونه كذلك. . . " الحديث.

وعن جرير بن عبد اللَّه رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم عيانًا".

راجع: أحاديث الرؤية: صحيح البخاري: 9/ 156 - 163، وصحيح مسلم: 1/ 112 - 117، وشرحه للنووي: 3/ 15 - 34، وفتح الباري: 13/ 419 - 434.

وقال الحافظ: "جمع الدارقطني طرق الأحاديث الواردة في رؤية اللَّه تعالى في الآخرة فزادت على العشرين، وتتبعها ابن القيم في حادي الأرواح فبلغت الثلاثين، وأكثرها جياد، وأسند الدارقطني عن يحيى بن معين قال: عندي سبعة عشر حديثًا في الرؤية صحاح" الفتح: 13/ 434.

وراجع: سنن أبي داود: 2/ 534 - 536، وتحفة الأحوذي: 7/ 265 - 279، وسنن ابن ماجه: 1/ 75 وما بعدها، وحادي الأرواح: ص/ 196 - 240، وحادي الأنام إلى دار السلام: ص/ 125 - 132.

ص: 242

قالوا: قوله: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] نص في عدم جواز الرؤية، لأنه جمع مستغرق، فيفيد نفي الرؤية عن كل فرد.

قلنا: الإدراك هو الرؤية، مع الإحاطة، فهو أخص من الرؤية (1)، ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام (2)، ولو سلم فالنفي متوجه إلى قيد الاستغراق، أي: لا يراه كل أحد، وهو كذلك وإذا احتمل هذا الاحتمال سقط به الاستدلال.

قالوا: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] سيقت الآية لبيان عدم جواز رؤيته إذ وقت التكليم أشرف أوقات العبد، فإذا لم يره إذ ذاك، ففي غيره بالطريق الأولى.

قلنا: سوق الآية لبيان أنواع التكليم (3)، وقوله:{وَحْيًا} أعم من أن يكون مع الرؤية، وبدونه، بل الواجب الحمل على حال الرؤية ليحسن عطف قوله:{أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} عليه (4).

(1) فالمراد أن الأبصار تراه، ولكن لا تحيط به رؤية كما أن العقول تعلمه، ولكن لا تحيط به علمًا.

(2)

لأن الإدراك هو الرؤية على جهة الإحاطة، فهو رؤية خاصة ونفي الخاص لا يستلزم نفي مطلق الرؤية.

راجع: تفسير ابن كثير: 2/ 162، وفتح القدير للشوكاني: 2/ 148 - 149، وتفسير الفخر الرازي: 7/ 130 - 139، وانظر: الكشاف في مذهب المعتزلة: 2/ 41.

(3)

راجع: تفسير ابن كثير: 4/ 122، وتفسير البيضاوي: 2/ 367.

(4)

قال البيضاوي: "ولكن عطف قوله: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} عليه دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها" المرجع السابق.

ص: 243

قالوا: حيث ذكر اللَّه الرؤية استعظمه غاية الاستعظام، واستنكره، وما ذلك إلا لعدم جوازه (1).

قلنا: استعظمه، لأن طلبهم ذلك على وجه التعنت، مع الأنبياء، ومن تأمل مواقعه عرف ذلك.

قالوا: سؤال موسى وجوابه (2) كاف لنا دليلًا على عدم الرؤية وجوازها.

قلنا: سؤال موسى وجوابه كاف لنا على جوازها.

بيان ذلك: أن موسى -مع علمه باللَّه تعالى، وبما يجوز ويمتنع عليه- لم يقدم على الطلب إلا بعد علمه بالجواز.

وقوله تعالى: {انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف: 143] تعليق للرؤية بأمر ممكن، وهو استقراره حين التجلي، فلو لم يكن ممكنًا لم يسأله (3)، وعلى

(1) يعني طلب بني إسرائيل من موسى رؤية اللَّه جهرة في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55]، وقوله:{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ} [النساء: 153].

(2)

يعني قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].

(3)

وعلى هذا فالمعلق على الممكن ممكن، ولأن اللَّه تعالى تجلى للجبل بالفعل، وهو جماد، فلا يمتنع إذًا أن يتجلى لأهل محبته، وأصفيائه، وعباده المؤمنين.

راجع: شرح العقيدة الواسطية: ص/ 87.

ص: 244

تقدير عدم الإمكان كان يرشده إلى العلم بذلك. وإنما وقع لموسى ما وقع: لسؤاله ذلك قبل أوانه لا لاستحالته، ودعوى عدم علم موسى بجوازها يَجُرُّ إلى الكفر، لأنه يلزم منه أن يكون سفلة المعتزلة عالمين بما لم يعلمه كليم اللَّه تعالى.

وإذا تقرر جواز رؤيته، فلا يمتنع رؤيته في الدنيا (1) كما هو مذهب بعض الصحابة في رؤية رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج (2).

(1) اختلف في جواز رؤية اللَّه تعالى بالأبصار في الدنيا لعباده المؤمنين وأوليائه المتقين على جهة الكرامة على قولين:

أحدهما: الجواز وهو منقول عن الأشعري، لأن موسى عليه السلام طلبها، وهو لا يجهل ما يجوز، ويمتنع على ربه تعالى، ومنع الجمهور منهم الوقوع.

والثاني: المنع لأن قومه طلبوها فعوقبوا على ذلك واختاره المحققون لحصول الإجماع عليه، وخلاف الصحابة إنما كان في وقوع رؤية النبي صلى الله عليه وسلم، وليس الكلام هنا فيه بل في غيره، وقد ثبت في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم:"تعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه عز وجل حتى يموت". قال شيخ الإسلام: "وأجمعوا على أنهم -يعني المؤمنين- لا يرونه في الدنيا بأبصارهم، ولم يتنازعوا إلا في النبي صلى الله عليه وسلم. . .

ومن قال من الناس: إن الأولياء، أو غيرهم يرى اللَّه بعينه في الدنيا فهو مبتدع ضال مخالف للكتاب، والسنة، وإجماع سلف الأمة لا سيما إذا ادعوا أنهم أفضل من موسى، فإن هؤلاء يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا".

راجع: صحيح مسلم: 8/ 193، ومجموع الفتاوى: 2/ 516، وتشنيف المسامع: ق (162/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 450، والغيث الهامع: ق (164/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 411، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 118، والطحاوية مع شرحها: 1/ 207.

(2)

أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد اختلف في رؤيته لربه ليلة المعراج، فذهب فريق إلى أنه رأى ربه ليلة المعراج، وذهب فريق آخر إلى أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه. والسبب في اختلافهم ما روي عن =

ص: 245

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ابن عباس من أنه رآه وما روي عن عائشة من إنكارها لذلك، فمن العلماء من أخذ بقول ابن عباس، فأثبت الرؤية، ومنهم من أخذ بقول عائشة فمنعها. وفريق ثالث جمع بين القولين فحمل قول ابن عباس على أنه رآه بفؤاده وحمل قول عائشة على أنه لم يره بعينه.

وذكر شيخ الإسلام بأن الألفاظ التي نسبت إلى ابن عباس وردت تارة مطلقة كقوله: "رأى محمد ربه"، وتارة مقيدة بالفؤاد كقوله:"رأى محمد ربه بفؤاده مرتين".

ولم يرد عنه لفظ صريح بأنه رآه بعينه، ففهم البعض من إطلاقه أنه أراد رؤية العين. وكذلك ما روي عن الإمام أحمد يقال فيه ما سبق في الرواية عن الحبر.

قلت: قد روى ابن خزيمة بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما: "أنه صلى الله عليه وسلم رآه بعينه" ولكن الحديث فيه ضعف، قال القاضي عياض:"والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه رأي قاطع، ولا نص، والمعول فيه على آيتي النجم، والتنازع فيهما مأثور، والاحتمال لهما ممكن".

قال أبو العز الحنفي -معقبًا على قول القاضي عياض السابق-: "وهذا القول الذي قاله القاضي عياض رحمه الله هو الحق، فإن الرؤية في الدنيا ممكنة إذ لو لم تكن ممكنة لما سألها موسى عليه السلام لكن لم يرد نص بأنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه، بل ورد ما يدل على نفي الرؤية. . . " ثم ذكر الأدلة على نفيها.

وقال شيخ الإسلام: "وليس في الأدلة ما يقتضى أنه رآه بعينه، ولا يثبت ذلك عن أحد من الصحابة، ولا في الكتاب، والسنة ما يدل على ذلك بل النصوص الصحيحة على نفيه أدل، كما في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: "نور أني أراه"، وفي لفظ: "رأيت نورا" ومعناه: كان ثم نور، وحال دون رؤيته نور فأنى أراه".

قال العلامة ابن القيم: "ويدل على صحة ما قال شيخنا في معنى حديث أبي ذر قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "حجابه النور" فهذا النور -واللَّه أعلم- هو النور المذكور في حديث أبي ذر: "رأيت نورًا"". =

ص: 246

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= راجع: صحيح مسلم: 1/ 110 - 111، وشرحه للنووي: 3/ 4 - 15، ومجموع الفتاوى: 6/ 507 - 510، وشرح الطحاوية: 1/ 207 - 210، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 118، والشفاء للقاضي عياض: 1/ 201.

وهناك مسألة أخرى اختلف فيها، وهي رؤية الكفار ربهم يوم القيامة وفي ذلك ثلاثة أقوال:

أحدها: أن الكفار لا يرون ربهم بحال، لا المظهر للكفر، والمسر له، وهذا قول أكثر العلماء المتأخرين، وعليه يدل عموم كلام المتقدمين، وجمهور أصحاب الإمام أحمد تمسكًا بظاهر قوله تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].

الثاني: أنه يراه من أظهر التوحيد من مؤمني هذه الأمة، ومنافقيها وغبرات من أهل الكتاب، وذلك في عرصة القيامة، ثم يحتجب عن المنافقين فلا يرونه بعد ذلك. وهذا قول أبي بكر بن خزيمة من أئمة أهل السنة.

الثالث: أن الكفار يرونه رؤية تعريف، وتعذيب كاللص إذا رأى السلطان ثم يحتجب عنهم ليعظم عذابهم، ويشتد عقابهم، وهذا قول أبي الحسن بن سالم، وأصحابه، وغيرهم.

راجع: الخلاف فيها مع الأدلة مجموع الفتاوى: 6/ 466 - 468، 486، 506، ثم قال:"فبالجملة فليس مقصودي بهذه الرسالة الكلام المستوفي لهذه المسألة، فإن العلم كثير، وإنما الغرض بيان أن هذه المسألة ليست من المهمات التي ينبغي كثرة الكلام فيها، وإيقاع ذلك إلى العامة والخاصة حتى يبقى شعارًا، ويوجب تفريق القلوب، وتشتت الأهواء، وليست هذه المسألة فيما علمت مما يوجب المهاجرة، والمقاطعة، فإن الذين تكلموا فيها قبلنا عامتهم أهل سنة، واتِّباع" مجموع الفتاوى: 6/ 502. وانظر: كتاب التوحيد لابن خزيمة: ص/ 172 - 178.

ص: 247

ولا في المنام كما روي عن بعض الأولياء، الصالحين إذ كما يخلق اللَّه الرؤية في الآخرة يخلقها في الدنيا (1)(2).

قوله: "السعيد من كتبه في الأزل".

(1) تقدم أن الشارح مع الذين رجحوا جواز رؤية اللَّه في الدنيا بالأبصار، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينه ليلة المعراج، وقد سبق بيان الراجح في ذلك بدليله، ثم عطف على ما تقدم جواز رؤية اللَّه في المنام، أما المصنف فقد ذكر الخلاف فيما تقدم ولم يختر، بل سكت، ومذهب الأكثر أن رؤية اللَّه في المنام جائزة، وقد نقل القاضي أبو يعلى في كتابه المعتمد الكبير عن الإمام أحمد أنه قال:"رأيت رب العزة في المنام" وهذا يدل على أن مذهبه الجواز.

قال النووي: "قال القاضي -يعني عياضًا-: واتفق العلماء على جواز رؤية اللَّه تعالى في المنام، وصحتها. . . ".

وقد ذكر المصنفون في تعبير الرؤيا رؤية اللَّه تعالى، وتكلموا عليها. قال ابن سيرين:"إذا رأى اللَّه عز وجل، أو رأى أنه كلمه، فإنه يدخل الجنة، وينجو من هم كان فيه إن شاء اللَّه تعالى". وذهبت طائفة إلى استحالة رؤيته تعالى في المنام لأن ما يرى في المنام خيال، ومثال، وهما على القديم محالان، واختاره ابن الصلاح قال ابن الباقلاني:"رؤية اللَّه تعالى في المنام خواطر في القلب، وهي دلالات للرائي على أمور مما كان، أو يكون كسائر المرئيات".

راجع: شرح مسلم: 15/ 25، وتشنيف المسامع: ق (162/ ب)، والغيث الهامع: ق (164/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 412، وهمع الهوامع: ص/ 450، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 118، ومنتخب الكلام في تفسير الأحلام: 1/ 9 - 10.

(2)

آخر الورقة (142/ ب من أ).

ص: 248

أقول: اختلف في السعادة (1)، والشقاوة هل يتبدلان أم لا؟ ! وهذه المسألة هي المشهورة بموافاة الأشعري.

ومعنى الموافاة: الوصول إلى آخر الحياة، وأول الآخرة.

ومعناه: أن الإيمان المنجي هو الذي يكون الموافاة عليه لا الإيمان السابق، لأنه ربما يطرأ عليه الارتداد، والعياذ باللَّه. والتحقيق -في هذا

(1) ذهب فريق إلى أن السعادة، والشقاوة قد يتبدلان، فيمكن أن ينقلب السعيد شقيًا، وبالعكس، وعزي إلى أبي حنيفة، وأكثر أهل الرأي، والمعتزلة. لقوله تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39].

وذهب فريق آخر، وهم الأكثر إلى أن السعيد من قضى اللَّه لهم بالسعادة في الأزل، لكن بالأعمال التي جعله يسعد بها، والشقي من قضى اللَّه له بالشقاوة في الأزل، لكن بالأعمال التي جعله اللَّه يشقى بها كتركه الأعمال الواجبة، واتكاله على القدر، ولا يتبدلان القضاءان الأزليان، فلا يزال السعيد سعيدًا، والشقي شقيًا لقوله تعالى:{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] نعم يمكن ذلك بالنسبة لما في اللوح المحفوظ، فإنه يقبل التغيير، والتبديل بالمحو، والإثبات قال تعالى:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} أي: أصله الذي لا يتغير منه شيء، ولا يتبدل، ولا يمحى، كما قال ابن عباس، وغيره وهو علمه سبحانه وتعالى في الأزل.

راجع: الرسالة: ص/ 7، ومجموع الفتاوى: 8/ 272 - 282، 540 - 542، وتفسير ابن كثير: 2/ 519 - 521، 4/ 227، وتشنيف المسامع: ق (163/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 412، وهمع الهوامع: ص/ 450 - 451، والغيث الهامع: ق (164/ أ- ب)، وشرح المقاصد: 5/ 215 - 217، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 102، والطحاوية مع شرحها: 1/ 306 - 309.

ص: 249

المقام- أن الخلف لفظي إذ السعادة التي في علمه تعالى لا يمكن تبدلها، وكذا الشقاوة.

وأما بحسب الظاهر فإطلاق اسم السعادة على الإتيان بالأعمال الصالحة بناء على الأمارات لا جزمًا بذلك، فإنه مفوض إلى علمه القديم.

ولذلك لا نحكم على أحد بأنه من أهل الجنة، أو أهل النار إلا من شهد له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو عليه، وإن كنا جازمين بأن المؤمنين كلهم في الجنة، والكفار في النار.

والشيخ الأشعري -وإن قال بأن المعتبر إيمان الموافاة- لم يقل بأن من مات مؤمنًا حين تلبسه بالكفر كان مؤمنًا إذ ذاك حقيقة، فقد تقرر أن لا خلاف في المعنى، وهذا محصل شرح المقاصد في هذا المقام (1).

وقوله: "أبو بكر ما زال بعين الرضا". هذه العبارة منقولة عن الشيخ الأشعري، وتخصيصه بالذكر، مع أن عمر أيضًا، وكذلك على بعين الرضا.

قيل: لأنه لم يسبق له ارتكاب الشرك قبل البعثة.

وعندي فيه نظر، إذ ذلك لم يثبت، وعلي لم يخالف أحد في عدم مباشرته الشرك، بل الأولى أن يقال: لما نص على أن العبرة بإيمان الموافاة ذكر الصديق، كالدليل على ذلك، أي: ليس بعد النبي أفضل منه، مع أنه في جل عمره لم يكن على هدى من اللَّه، ولما كان مآله إلى الهدى كان في علمه تعالى من المختارين.

(1) راجع: شرح المقاصد: 5/ 216.

ص: 250

قوله: "والرضا، والمحبة".

أقول: قد اختلف في حقيقة الرضا، والمحبة.

فقيل: هما نفس الإرادة والمشيئة (1).

(1) وهذا مذهب جمهور الأشاعرة كما نقل حكايته عن الآمدي، والنووي واختاره الشيخ أبو إسحاق، وهو قول المعتزلة.

واختار المصنف، وغيره التغاير بينها بمعنى أن بينها عمومًا، وخصوصًا.

قلت: ومذهب السلف أن صفات الباري تعالى، والتي وردت بها النصوص قسمان:

القسم الأول: صفات ذاتية لا تنفك عنها الذات، بل هي لازمة لها أزلًا وأبدًا، ولا تتعلق بها مشيئته تعالى، وقدرته، وذلك كصفات الحياة، والعلم، والقدرة، والقوة والعزة، والملك، والعظمة، والكبرياء، والمجد، والجلال إلخ.

القسم الثاني: صفات فعلية تتعلق بها مشيئته، وقدرته كل وقت وآن، وتحدث بمشيئته وقدرته، فأفرادها حادثة، ونوعها أزلي، قديم لم يزل، ولا يزال موصوفًا بها، فهو سبحانه لم يزل فعالًا لما يريد، ولم يزل، ولا يزال يقول، ويتكلم ويخلق، ويدبر الأمور، وأفعاله تقع شيئًا فشيئًا تبعًا لحكمته، وإرادته. فيجب الإيمان بكل ما نسبه اللَّه لنفسه من الأفعال المتعلقة بذاته كالاستواء على العرش، والمجيء، والإتيان، والنزول إلى السماء الدنيا، والضحك، والرضا، والغضب، والكراهية، والمحبة، وغيرها من غير تمثيل، ولا تشبيه، ولا تكييف، كما هو الحال في الصفات الذاتية وقد تقدم الكلام عليها.

راجع: مجموع الفتاوى: 3/ 129 - 132، ومدارج السالكين: 3/ 350 وما بعدها وبدائع الفوائد: 2/ 6 - 7، وتشنيف المسامع: ق (163/ ب)، والغيث الهامع: ق (163/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 412، وهمع الهوامع: ص/ 451، وشرح العقيدة الواسطية: ص/ 89، والصفات الإلهية لمحمد أمان: ص/ 276، 289.

ص: 251

والحق: أنه ليس كذلك، إذ قد برهنا على أنه مريد الأشياء كلها، وقد نص في الكتاب على أنه لا يرضى بالكفر (1)، فدل على أنهما غيران، فهما أخص من الإرادة، لأنهما الإرادة مع ترك الإعراض، بل مع الإنعام والإفضال، فهما راجعان إلى صفات الأفعال، هكذا قيل.

وفيه نظر: لأنهما إذا رجعا إلى صفات الأفعال يكونان مباينين للإرادة لأنها من صفات الذات (2).

فإن قلت: فمن قال: بترادفهما مع الإرادة، ما قوله في الآية الكريمة (3)؟

قلت: يقول: الإضافة في عباده للتكريم مثل قوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] أي: عبادي المخلصين، كذا ذكره الواحدي (4) في الوسيط.

(1) لقوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].

(2)

ذكر ابن القيم رحمه الله بأنه ليس كل شيء أراده اللَّه فقد أحبه، وهو أحد قولي الأشعري، وقول المحققين من أصحابه، وهذا الذي يدل عليه الكتاب والسنة والمعقول، كما أنه ليس كل شيء أحبه اللَّه فقد أراده فإنه قد يريد الشيء دينًا ويرتضيه ولا يريده كونًا، وتقديرًا، فإنه سبحانه يحب طاعة عباده كلهم، ولم يردها، ويحب التوبة من كل عاص، ولم يرد ذلك كله تكوينًا إذ لو أراده لوقع، فالمحبة، والإرادة غير متلازمين، فإنه يريد كون ما لا يحبه، ويحب ويرضى بأشياء لا يريد تكوينها، ولو أرادها لوقعت.

راجع: بدائع الفوائد: 2/ 6 - 7.

(3)

يعني قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} .

(4)

هو علي بن أحمد بن محمد أبو الحسين الواحدي النيسابوري المفسر كان أستاذ عصره في علم التفسير، والنحو، ودأب في العلوم، وأخذ اللغة، وتصدر للتدريس، والإفادة مدة =

ص: 252

قوله: "وهو الرازق".

أقول: الرازق -لغة- مصدر بمعنى إخراج الحظ إلى الغير لينتفع به، فأطلق على المرزوق، وهو المعطى للانتفاع، وشاع في ذلك حتى صار حقيقة (1).

ثم اختلف أهل الحق، والاعتزال، فعند أهل الحق عام في الحلال، والحرام.

والدليل عليه: إطلاق المعنى اللغوي عن القيد، وقوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا} [يونس: 59]، لأنه تعالى سمى الحلال، والحرام رزقًا. ولقوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي

= طويلة، وكان شاعرًا له مؤلفات كثيرة منها الوسيط، والبسيط، والوجيز، في التفسير، وأسباب النزول، والإغراب في الإعراب، والتحبير في شرح الأسماء الحسنى، وشرح ديوان المتنبي، ونفي التحريف عن القرآن الشريف. توفي بنيسابور سنة (468 هـ).

راجع: طبقات المفسرين: 1/ 387، وطبقات القراء: 1/ 523، ووفيات الأعيان: 2/ 464، وإنباه الرواة: 2/ 464، وطبقات السبكي: 5/ 240، والبداية والنهاية: 12/ 114، وبغية الوعاة: 2/ 145، وشذرات الذهب: 3/ 330، وطبقات ابن هداية اللَّه: ص/ 168.

(1)

يقال: رزق اللَّه الخلق يرزقهم، والرزق بالكسر اسم للمرزوق والجمع أرزاق مثل حمل، وأحمال، وارتزق القوم: أخذوا أرزاقهم فهم مرتزقة.

واصطلاحًا: اسم لما يسوقه اللَّه إلى الحيوان فيأكله، فيكون متناولًا للحلال، والحرام عند أهل الحق.

وعند المعتزلة: عبارة عن المملوك يأكله المالك بناء على أن الحرام ليس رزقًا عندهم.

راجع: مختار الصحاح: ص/ 241، والمصباح المنير: 1/ 225، والتعريفات: ص/ 110.

ص: 253

الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6](1) وكم من ظالم لا يأكل في عمره إلا حرامًا طلقًا، فلو لم يسمى ما يأكله رزقًا كيف تستقيم الآية (2)؟

قالوا (3): أمر بالإنفاق من الرزق فقال: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 254]، ومدحهم على الإنفاق من رزقه، فقال:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3].

(1) ولقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58].

(2)

يعني أن المعتزلة يقولون: إن من لم يأكل في عمره إلا الحرام لم يرزقه اللَّه تعالى أصلًا، وهذا مخالف للآية التي ذكرها الشارح، لأنه تعالى لا يترك ما أخبر بأنه عليه، كما أن الرزق عند الاطلاق يقصد به أمران:

الأول: ما ينتفع به العبد، وهو المراد بقوله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ، وقوله صلى الله عليه وسلم:"إن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها" ونحو ذلك.

الثاني: ما يملكه العبد، وهذا هو المراد في قوله تعالى:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] وقوله: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون: 10] وهذا هو الحلال الذي ملكه اللَّه إياه، والعبد قد يأكل الحلال، والحرام، فهو رزق بالاعتبار الأول لا بالاعتبار الثاني. وما اكتسبه، ولم ينتفع به هو رزق بالاعتبار الثاني دون الأول، فإن هذا في الحقيقة مال وارثه لا ماله.

راجع: مجموع الفتاوى: 8/ 541، وشرح المقاصد: 4/ 318 - 319، وتشنيف المسامع: ق (164/ أ)، والغيث الهامع: ق (164/ ب - 165/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 413، وهمع الهوامع: 451 - 452، ومقالات الإسلاميين: ص/ 257.

(3)

يعني المعتزلة وبيان مذهبهم: أن من حصل الرزق بغير تعب فاللَّه هو الرزاق له، ومن حصل له بتعب، فهو الرازق لنفسه، ولا يطلق اسم الرزق عندهم إلا على الحلال لاستناده إلى اللَّه في الجملة والمستند إليه لانتفاع عباده يقبح أن يكون حرامًا يعاقبون عليه، ورد عليهم بأنه لا قبح بالنسبة إليه تعالى يفعل ما يشاء، وإنما عاقبهم على الحرام لسوء مباشرتهم أسبابه. =

ص: 254

قلنا: قرينة الأمر، والمدح على الإنفاق حقيقية، ولا كلام في ذلك، إنما الكلام في تناول الاسم عند انتفاء القرائن (1).

قوله: "بيده الهداية".

أقول: عند أهل الحق أن إسناده الهداية (2)، والإضلال (3)

= راجع: شرح المقاصد: 4/ 318، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 413، وهمع الهوامع: ص/ 451.

(1)

الحرام ليس هو الرزق الذي أباحه اللَّه له، ولا يحبه اللَّه ولا يرضاه ولا أمر ينفق منه، بل من أنفق من الحرام، فإن اللَّه تعالى يذمه، ويستحق بذلك العقاب في الدنيا، والآخرة بحسب دينه، وقد قال اللَّه تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وهذا أكل المال بالباطل، ومع هذا يعتبر الحرام رزقًا بمعنى أن اللَّه تعالى سبق في علمه، وقدره، ومشيئته وقوعه لكن لا عذر لأحد في القدر، بل القدر يؤمن به، وليس لأحد أن يحتج على اللَّه بالقدر في ارتكاب المعاصي.

راجع: مجموع الفتاوى: 8/ 542 - 544.

(2)

الهدى -لغة-: البيان، والإرشاد، وفي لغة أهل الحجاز يتعدى بنفسه يقال: هديته الطريق، وعند غيرهم يتعدى بالحرف، فيقال: هديته إلى الطريق.

واصطلاحًا: الدلالة على ما يوصل إلى المطلوب، وقيل: هو سلوك طريق ووصل إلى المطلوب.

راجع: مختار الصحاح: ص/ 692 - 693، والمصباح المنير: 2/ 636، والفروق اللغوية: ص/ 172، والتعريفات: ص/ 256، والمفردات للراغب: ص/ 538 - 542.

(3)

أضل الشيء أضاعه، وأهلكه، وضل الرجل الطريق إذا لم يهتد إليه من باب ضرب، والأصل في الضلال الغيبة، ومنه قيل للحيوان الضائع: ضالة، ولغيره ضائع، ولقطة.

واصطلاحًا: فقدان ما يوصل إلى المطلوب، أو سلوك طريق لا يوصل إلى المطلوب.

راجع: مختار الصحاح: ص/ 383، والمصباح المنير: 2/ 363، والتعريفات: ص/ 138، والمفردات للراغب: ص/ 297 - 299.

ص: 255

والطبع (1)، والختم (2) إليه تعالى حقيقة، وإلى غيره مجازًا وهما من صفات الأفعال (3).

فمعنى الهداية: خلق الإيمان، والاهتداء، والإضلال: خلق الكفر، والضلال، لأن الممكنات كلها مستندة إليه ابتداء لا موجد غيره (4).

(1) الطبع: السجية التي جبل عليها الإنسان، وهو في الأصل مصدر، والطبع: الختم، وهو التأثير في الطين ونحوه، أو هو أن تصور الشيء بصورة ما كطبع السكة، وطبع الدراهم، وهو أعم من الختم، وأخص من النقش، واصطلاحًا: ما يقع على الإنسان بغير إرادة.

راجع: المفردات للراغب: ص/ 301، ومختار الصحاح: ص/ 387، والمصباح المنير: 2/ 368 - 369، والتعريفات: ص/ 140.

(2)

الختم: مصدر ختمت، وهو تأثير الشيء كنقش الخاتم، والطابع، يقال: ختم الشيء من باب ضرب، وخاتمة الشيء آخره، واختتم الشيء ضد افتتحه.

ويطلق الختم على الأثر الحاصل عن النقش، أو الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتبارًا بما يحصل بالختم على الكتب، والأبواب نحو قوله تعالى:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} البقرة: 7]. وقوله: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} [الجاثية: 23].

راجع: المفردات للراغب: ص/ 142 - 143، ومختار الصحاح: ص/ 169، والمصباح المنير: 1/ 163.

(3)

تقدم بيان موقف السلف منها فيما سبق.

(4)

مذهب أهل السنة والجماعة أن اللَّه تعالى بيده الهداية، والإضلال وقد استدلوا على ذلك بآيات كثيرة منها قوله تعالى:{مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]، {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً =

ص: 256

والمعتزلة -بناءً على أصلهم الفاسد (1) - أنه لو خلق فيهم الاهتداء، أو الضلال لما صح منه المدح، والثواب، ولا الذم، والعقاب.

قالوا: هدايته -تعالى- معناها: الإرشاد إلى طريق الحق لقوله: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ} [يونس: 25] أي: كل أحد، والإضلال: وجدان الشخص ضالًا.

وقال بعضهم: الهداية الدلالة الموصلة إلى المطلوب، فالمؤمن مهدي: لأنه واصل إلى المطلوب، والكافر ليس بمهدي: لأنه ليس واصلًا إليه.

= وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93]، {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272].

وذهبت المعتزلة إلى أنها بيد العبد يهدي نفسه، ويضلها بناء على قولهم: إنه يخلق أفعاله من هدى، وضلال، وأن نسبة الهداية إليه تعالى إنما هي بمعنى أنه أعان عليها بخلق القدرة، وأنه تعالى لا يضل أحدًا، وأنه لو أضله لظلمه، ونسبة الإضلال إليه تعالى معناها منع الألطاف التي يحصل بها الاهتداء، وأن الضال أضل نفسه.

والكتاب والسنة مشحونان بالرد عليهم، وإبطال قولهم، وقد سبق بعض من ذلك في أدلة أهل الحق.

راجع: الطحاوية مع شرحها: 1/ 121 - 122، وشرح المقاصد: 4/ 309 - 311، والمواقف: ص/ 316 - 320، وشرح كتاب الفقه الأكبر: ص/ 191، وتشنيف المسامع: ق (164/ أ - ب) والغيث الهامع: ق (165/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 413، وهمع الهوامع: ص/ 452، ومجموع الفتاوى: 8/ 78 - 80.

(1)

يعني قولهم: بأن أفعال العباد الاختيارية مخلوقة لهم وقد سبق بيان ذلك.

ص: 257

وأما الإضلال، فإسناده إليه -تعالى- مجاز عن إقداره وتمكينه، والإضلال حقيقة فعل الشيطان.

وعند أهل الحق الهداية على قسمين:

بمعنى الإرشاد إلى طريق الحق، وهي عامة للمؤمن، والكافر، وبمعنى خلق الاهتداء، والإيمان، وهي خاصة بالمؤمن، وقد أشير إليهما في آية واحدة، وهي قوله تعالى:{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ (1) وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25].

فأول الآية في العامة، وآخرها في الخاصة (2)، اللهم اهدنا سواء السبيل.

قوله: "والتوفيق خلق قدرة الطاعة".

(1) آخر الورقة (127/ ب من ب).

(2)

وبهذا التقسيم يجمع بين قوله تعالى -في حق نبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].

وقوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] بأن المراد بالأولى نفي هداية التوفيق، والتسديد بفعل المأمور واجتناب المنهي، فهذه خاصة باللَّه تعالى، كما قال:{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود: 88]، فلا يقدر عليها أحد غيره سبحانه، والمراد بالآية الثانية إثبات هداية الإرشاد، والدلالة، وهذه مهمة الرسل، ومن تبعهم.

راجع: تفسير ابن كثير: 3/ 395، 4/ 123، وفتح القدير للشوكاني: 4/ 178، 545، وتيسير العزيز الحميد: ص/ 300.

ص: 258

أقول: اختلف في معنى التوفيق (1)، الجمهور: على أنه خلق قدرة الطاعة، وضده الخذلان: وهو خلق قدرة المعصية (2).

وقال إمام الحرمين: التوفيق خلق الطاعة (3) وإنما عدل عن قول الأصحاب: لأن قدرة العبد ليست في فعله.

قال: ومعنى العصمة معنى التوفيق، فإن عممت كانت توفيقًا عامًا وإن خصصت كان توفيقًا خاصًا (4).

واللطف (5): منهم من جعله مرادفًا للتوفيق.

(1) يقال: وفقه اللَّه توفيقًا، أي: سدده، واستوفق اللَّه سأله التوفيق ومنه:{وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود: 88] أما الوفق من الموافقة بين الشيئين كالالتحام، والوفاق الموافقة والتوافق الاتفاق، والتظاهر، ووافقه، أي: صادفه.

واصطلاحًا: جعل اللَّه فعل عباده موافقًا لما يحبه، ويرضاه.

راجع: المفردات للراغب: ص/ 528، مختار الصحاح: ص/ 730، والمصباح المنير: 2/ 667، وشرح المقاصد: 4/ 312، والتعريفات: ص/ 69.

(2)

وهذا مذهب الأشعري، واكثر أصحابه.

راجع: تشنيف المسامع: ق (164/ ب - 165/ أ) والغيث الهامع: ق (165/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 413، وهمع الهوامع: ص/ 453.

(3)

راجع: الإرشاد له: ص/ 223.

(4)

نفس المرجع السابق: ص/ 224.

(5)

لطف الشيء، فهو لطيف من باب قرب: صغر جسمه، وهو ضد الضخامة، والاسم اللطافة بالفتح، ولطف اللَّه بنا لطفًا من باب طلب، أي: رفق بنا، والاسم اللطف ومنه قوله تعالى:{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19] يعني أنه سبحانه رفيق بعباده في هدايتهم، وتوفيقهم، وتيسير أمور معاشهم، وقولهم: تلطفت بالشيء: يعني ترفقت به. =

ص: 259

وقال المصنف: اللطف شيء يقع عنده صلاح العبد، فكل فعل علم اللَّه أن العبد يطيع عنده بالطاعة والإيمان، فهو لطف. وما وقع من ألفاظ الشارع في حق الكفار من الختم (1)، والطبع (2)، والأكنة (3).

= وفي الاصطلاح: ما ذكره الشارح من الخلاف عن المصنف، وغيره.

وقالت المعتزلة: اللطف ما يختار المكلف عنده الطاعة تركًا أو إتيانًا، أو يقرب منهما مع تمكنه من الحالين، واللطف يختلف باختلاف المكلفين وليس في معلومه ما هو لطف في حق الكل.

ومن ها هنا حملوا المشيئة في مثل قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] على مشيئة قسر، وإلجاء، وقد تقدم بأن المشيئة نوعان: مشيئة كونية قدرية، ومشيئة دينية إيمانية شرعية وهي المراد هنا.

راجع: المفردات للراغب: ص/ 450، ومختار الصحاح: ص/ 598، والمصباح المنير: 2/ 553، وشرح المقاصد: 4/ 312، والكشاف للزمخشري: 3/ 242، وتشنيف المسامع: ق (165/ أ).

(1)

كقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] وقوله: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} [الجاثية: 23].

(2)

وردت آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} ، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 100 - 101]، {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} [يونس: 74]، {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 59]، {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3].

(3)

الكن: السترة، والجمع أكنان قال تعالى:{وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} [النحل: 81]، والكنان: الغطاء الذي يكن فيه الشيء، والجمع أكنة نحو غطاء، =

ص: 260

فمعناها: خلق الضلالة، كما قدمنا، وإسناده إليه تعالى حقيقة.

قوله: "والماهية مجعولة".

أقول: اختلف المتكلمون، والفلاسفة في أن الماهية مجعولة، أم لا؟

بعد الاتفاق على أن الممكن لا بد له من فاعل مؤثر فيه.

فذهب أهل الحق: إلى أنها مجعولة مطلقًا.

والفلاسفة، والمعتزلة: إلى أنها ليست مجعولة، أي ليس شيء منها بجعل الجاعل.

وفصل بعضهم: فقال: البسائط ليست مجعولة بخلاف المركبات (1) والضروري هنا محل الخلاف.

= وأغطية قال تعالى: {جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الكهف: 57] وقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5].

قيل: معناه في غطاء عن تفهم ما تورده علينا، كما قال أشباههم:{قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} [هود: 91].

قال الكسائي: كن الشيء ستره، وصانه من الشمس، وبابه رد، وأكنه في نفسه إذا أسره. قال تعالى:{أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235].

راجع: المفردات: ص/ 442 ومختار الصحاح: ص/ 580، والمصباح المنير: 2/ 542، والتعريفات: ص 187.

(1)

ومعنى هذا الخلاف: أن الممكنات قبل دخولها في الوجود هل تأثير الفاعل بجعلها ذواتًا، أو في جعل الذوات موجودة؟ وهذا الخلاف راجع لمسألتين:

الأولى: الخلاف في المعدوم هل هو شيء، أو لا؟ وقد تقدم بيان ذلك. =

ص: 261

فنقول: لما كان عند الفلاسفة القائلين بالوجود الذهني لوازم الماهية (1) على ثلاثة أقسام، إما لوازم الماهية من حيث هي

= الثاني: الخلاف في الماهيات هل هي متقررة بذواتها، أم لا؟ فأهل السنة، والجماعة -بناءً على قولهم: إن المعدوم ليس شيئًا ولا ذاتًا، ولا ثابتًا، وأن الماهيات غير متقررة بذواتها- جعلوا الماهيات مجعولة بجعل اللَّه تعالى.

والمعتزلة ومن تبعهم -بناءً على قولهم: إن الماهيات متقررة بذواتها وأن المعدوم شيء جعلوا ماهيته ثابتة في حال العدم في الخارج ولا تأثير للصانع فيه، إذا أوجده إلا في إعطاء صفة الوجود- فلم يجعلوا الماهيات مجعولة، وإنما المجعول اتصافها بالوجود في الخارج ولم يؤثر في الماهية بجعلها ماهية، ولا في الوجود بحعله وجودًا ولا في اتصاف الماهية بالوجود بجعلها ثابتًا في الخارج، إذ لو كانت الإنسانية بحعل جاعل لم تكن الإنسانية عند عدم الجاعل إنسانية، وسلب الشيء عن نفسه محال. وقولهم هذا يلزم منه إنكار الصانع تعالى عما يقولون علوًا كبيرًا.

قال الفخر الرازي: "وزعم جمهور المعتزلة، والفلاسفة أن تأثير المؤثر يكون في وجود الأمر لا في ماهيته، وهو باطل، لأن الوجود لا ماهية له، فلو امتنع أن يكون للقادر تأثير في الماهية لامتنع أن يكون له تأثير في الوجود".

وقد ذكر الشارح مذهب الفلاسفة، والمعتزلة، وما استدلوا به، ثم ذكر أنه عند التحقيق لا خلاف بين هذه الأقوال التي سبقت في هذه المسألة كما سيأتي.

راجع: المحصل للرازي: ص/ 78 - 85 والمعالم له: ص/ 30 - 31، وشرح المقاصد: 1/ 427 - 432، والمواقف للإيجي: ص/ 62 - 63، وتشنيف المسامع: ق (165/ أ) والغيث الهامع: ق (165/ ب - 166/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 413 - 414، وهمع الهوامع: ص/ 453 - 454.

(1)

آخر الورقة (143/ ب من أ).

ص: 262

كالزوجية للأربعة، والفردية للثلاثة، فإنهما لا يفارقان ماهية الأربعة، والثلاثة حيث وجدتا ذهنًا، وخارجًا.

وإما لوازم الوجود الذهني: كالكلية، والذاتية، والعرضية، والجنسية، والفصلية، فإنها من لوازم الماهية لا مطلقًا، بل بالنظر إلى وجودها الذهني.

وإما لوازم الوجود الخارجي: كالحدوث لماهية الجسم، فإنه من لوازم وجوده الخارجي.

ولما كان -عند المعتزلة- إعدام الممكنات، أي: الماهيات الممكنة ثابتة أزلية لم يتصور جعل بالنظر إليها، بل بالنظر إلى الوجود الحادث.

[ونظر بعضهم إلى أن المركب يحتاج إلى الأجزاء، والبسيط لا يحتاج إليها، فقال: المركبة مجعولة دون البسائط، وهذا قول باطل](1): لأن الاحتياج من لوازم الممكن، فلا تفاوت بين المركب، والبسيط، كما ستقف عليه في أثناء هذا التقرير.

وأهل السنة لما لم يكن عندهم وجود ذهني، ولا تقرر في العدم للماهيات أيضًا، جزموا القول بأن الماهيات كلها مجعولة.

ويظهر لك من هذا أن لا خلاف في التحقيق بين الطوائف، لأن الجعل الذي يقول به أهل الحق، معناه، جعل الذات متصفة بالوجود، أي: ما تعلق تأثير المؤثر به ليس هو الماهية بمعنى أن ماهية الإنسان -مع قطع

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 263

النظر عن الوجود- وقع عليها تأثير المؤثر، لأنها مع قطع النظر عن الوجود ليست بشيء، ولا ثابتة، فكيف يعقل التأثير؟ .

وكذلك الوجود ليس محلًا للتأثير، لأن الوجود ليس موجودًا في الخارج، بل هو أمر اعتباري.

بل معنى تأثير المؤثر تصير الماهية المعقولة متصفة بالوجود الخارجي.

مثاله: الصباغ الذي يصبغ الثوب ليس تأثيره في الثوب بمعنى جعله الثوب ثوبًا، ولا في الصبغ كذلك، لأن الصبغ غير موجودة كالثوب، بل تأثيره في تصييره الثوب متصفًا بالصبغ.

فعلى هذا ارتفع النزاع: لأن القائلين: بأن الماهيات ليست مجعولة، يريدون بالنظر إلى نفس الماهية، والوجود الذهني، كما هو رأي الفلاسفة القائلين بالوجود الذهني.

أو بالنظر إلى تقررها في حال العدم كما تقوله المعتزلة، والكل قائلون بأنها مجعولة بالنظر إلى الوجود الخارجي.

وأما أهل الحق، فلم يقولوا بالوجود الذهني، ولا بالتقرر في العدم، فعندهم لا جعل إلا بالنظر إلى الوجود الخارجي، إذ لا يقول عاقل بأن تأثير المؤثر في الماهية المعدومة حال عدمها.

فقد اتضح لك المقام، ونجوت مما خبط فيه الأقوام.

قوله: "أرسل الرب تعالى رسله بالمعجزات".

ص: 264

أقول: مما يجب على المكلف اعتقاد أن اللَّه أرسل الرسل من البشر إلى البشر (1) مبشرين، ومنذرين (2).

وبدونهم لا يمكن الوصول إلى اللَّه، ولا يصح سلوك الطريق إليه، لأن العقل لا يقدر على إدراك أحوال يوم القيامة، والحشر، والنشر (3).

(1) لقوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} [الأنعام: 91]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: 4]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل: 43]، {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ} [الأنبياء: 25]، وغيرها من الآيات كثيرة.

(2)

لقوله تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165]، {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]، {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} [غافر: 18] وغيرها كثيرة.

(3)

ولذا بعث اللَّه الرسل، وأقام الأدلة على صدقهم بما أجراه على أيديهم من المعحزات الظاهرات، وجعل من أركان الإيمان التصديق بذلك، وخالف في ذلك من لا عبرة بخلافة، وهم طوائف من الفلاسفة، وغيرهم فأنكروه، وأنكروا ما يترتب عليه من النشر، والحشر، والجنة، والنار، ومنهم البراهمة.

والبعثة لتضمنها مصالح لا تحصى لطف من اللَّه تعالى، ورحمة يختص بها من يشاء من عباده من غير وجوب عليه خلافًا للمعتزلة، ولا عنه خلافًا للحكماء، وبعض المتكلمين ذهابًا إلى أن مقتضى الحكمة يجب أن يقع لامتناع السفه كالمعلوم وقوعه لامتناع الجهل.

وزعم بعض الفلاسفة أن النبوة مكتسبة للعبد بمباشرة أسباب خاصة ويفسرونها بأنها صفاء، وتجل للنفس يحدث لها من الرياضات بالتخلي عن الأمور الذميمة، والتخلق =

ص: 265

وأيده بالمعجزات الباهرات إذ مدعي النبوة لا بد له من دليل على دعواه، والمعجزة دليله؛ لأنه تصديق فعلي من اللَّه بمثابة أن يقول: هذا رسولي إليكم.

ولم ينحصر عدد الأنبياء (1)، ولا

= بالأخلاق الحميدة، ولقولهم هذا كفرهم أهل الحق، لأنه يلزم من قولهم: أن النبوة مكتسبة تجويز نبي بعد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا مستلزم لتكذيب القرآن، والسنة، والإجماع.

قال تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لا نبي بعدي" وأجمعت الأمة على إبقائه على ظاهره.

راجع: المحصل للرازي: ص/ 301 وما بعدها، والمعالم له: ص: 99 وما بعدها، والمواقف: ص/ 337، 349، وما بعدها، وشرح المقاصد: 5/ 19، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 127 - 128، وتشنيف المسامع: ق (165/ ب) والغيث الهامع: ق (166/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 414، وهمع الهوامع: ص/ 454.

(1)

النبي -في اللغة- قيل: مأخوذ من النباوة، أو النبوة بفتح النون المشددة، وسكون الباء، وهي المكان المرتفع، وقيل: مأخوذ من النبأ، وهو الخبر العظيم، فإن كان النبي مأخوذًا من النباوة أو النبوة، فالنبوة على الأصل كالأبوة، وإن كان مأخوذًا من النبأ، وهو الخبر لإنبائه عن اللَّه تعالى، فعلى قلب الهمزة واوًا، ثم الإدغام كالمروة.

قلت: ولا مانع أن يكون المعنيان جميعًا قد لُوحِظَا في هذا الوضع اللغوي فالنبي آت بالخبر العظيم عن اللَّه، وهو كذلك رفيع القدر عند اللَّه، وعند المؤمنين، وهو كذلك يكون من أشراف قومه.

والرسول -لغة-: المبعوث، والموجه لغيره.

أما في الاصطلاح: فالنبي من بعثه اللَّه بشريعة جديدة يدعو إليها. =

ص: 266

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وقيل: المبعوث لتقرير شريعة سابقة، والرسول: من بعثه اللَّه بشريعة جديدة يدعو إليها، وعلى ما سبق يكون كل رسول نبيًا وليس كل نبي رسولًا، فالنسبة بينهما العموم، والخصوص المطلق، والنبي أعم مطلقًا، وقيل: النبي من أوحي إليه بشرع، ولم يؤمر بتبليغه، وهذا تعريف غير مسلم، لأنه يخالف النصوص الواردة في الكتاب، والسنة الدالة على وجوب البيان، والتبليغ، وتحريم كتمان العلم، فإن اللَّه تعالى قد أخذ الميثاق على أهل العلم ألا يكتموه، وعاب أولئك الذين يكتمون العلم وفي ذلك يقول تعالى:{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]، مع أن اللَّه تعالى بين وظيفة أنبياء بني إسرائيل بقوله في شأن التوراة:{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44]، وبقوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 246]، وذهبت المعتزلة، وغيرهم إلى أنه لا فرق بين الرسول، والنبي اصطلاحًا لأن اللَّه تعالى خاطب محمدًا صلى الله عليه وسلم مرة بالنبي، وأخرى بالرسول.

وقال الجرجاني: "النبي من أوحي إليه بملك، أو ألهم في قلبه، أو نبه بالرؤيا الصالحة، فالرسول أفضل بالوحي الخاص الذي فوق وحي النبوة لأن الرسول هو من أوحى إليه جبريل خاصة بتنزيل الكتاب من اللَّه".

راجع: المفردات للراغب: ص/ 195 - 196، 481 - 482، ومختار الصحاح: ص/ 242 - 243، 642، 644، والمصباح المنير: 1/ 226 - 227، 2/ 591، وشرح المقاصد: 5/ 5 - 6، والتعريفات: ص/ 110، 239 والجامع لشعب الإيمان: ص/ 275 - 276.

ص: 267

الرسل (1)، قال اللَّه تعالى:{مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ (2) وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78].

وآخرهم أفضلهم سيد الأولين، والآخرين محمد بن عبد اللَّه بن عبد المطلب، فهو خاتم الأنبياء، كما نطق به التنزيل (3).

(1) عدم حصر عدد الأنبياء، والمرسلين هو الراجح للدليل المذكور، مع أنه قد وردت أحاديث في تحديدهم ولكنها متكلم فيها.

راجع: تفسير الطبري: 5/ 20 - 21، 24/ 56 - 57، وتفسير ابن كثير: 1/ 586 - 589، 4/ 89 - 90، وتفسير القرطبي: 6/ 17 - 18، 15/ 334، وتفسير الشوكاني: 1/ 538، 4/ 502، والجامع لشعب الإيمان: ص/ 273 - 274.

(2)

الأنبياء الذين نص اللَّه على أسمائهم في القرآن هم: آدم، وإدريس، ونوح، وهود، وصالح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وأيوب، وشعيب، وموسى، وهارون، ويونس، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وعيسى، وذو الكفل، وسيدهم محمد صلى اللَّه عليه وعليهم أجمعين.

(3)

قال اللَّه تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"مثلي، ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانًا فأحسنه، وأجمله، إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون هلا وضعت هذه اللبنة قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين" وفي رواية جابر رضي الله عنه: فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرج إلى تبوك واستخلف عليًا، فقال: أتخلفني في الصبيان، والنساء، قال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه ليس نبي بعدي. وفي رواية: "إلا إنه لا نبي بعدي"، وكذا رواه أحمد عن فاطمة رضي الله عنها. =

ص: 268

وسيدهم كما تواتر بذلك الأخبار (1)، وأفرادها، وإن كانت آحادًا أن القدر المشترك منه متواتر.

= راجع: صحيح البخاري: 6/ 3، وصحيح مسلم: 7/ 64 - 65، 120، ومسند أحمد: 2/ 172، 212، 297، 3/ 32، 267، 338، 5/ 278، 6/ 369، 438، وتحفة الأحوذي: 10/ 81، وسنن أبي داود: 2/ 414، وسنن ابن ماجه: 1/ 58.

(1)

كحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع"، وفي رواية:"أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر".

والسيد: هو الذي يفوق قومه في الخير، ويفزع إليه في النوائب، والشدائد، فيقوم بأمرهم، ويتحمل عنهم المكاره، ويدفعها عنهم.

وأما تقييده بيوم القيامة، مع أنه سيدهم في الدنيا، والآخرة لأن يوم القيامة يظهر سؤدده لكل أحد، ولا يبقى مانع، ولا معاند بخلاف الدنيا، فقد نازعه ذلك فيها ملوك الكفار، وزعماء المشركين، من باب قوله تعالى:{لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] مع أن الملك له سبحانه قبل ذلك، لكن كان في الدنيا من يدعى الملك، أو من يضاف إليه مجازًا، فانقطع كل ذلك في الآخرة. ولا يتعارض هذا الحديث مع قوله صلى الله عليه وسلم:"لا تفضلوا بين الأنبياء" فقد جمع بينهما العلماء من عدة وجوه:

إحداها: أنه صلى الله عليه وسلم قال قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، فلما علم أخبر به.

والثاني: قاله أدبًا، وتواضعًا.

والثالث: أن النهي إنما هو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص المفضول.

والرابع: إنما نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة، والفتنة كما هو المشهور في سبب الحديث. =

ص: 269

وقد أرسل إلى الناس كافة نطق به القرآن (1). وبعث إلى الجن كما بعث إلى الإنس لقوله: "بعثت إلى الأحمر والأسود"(2)

= الخامس: أن النهي مختص بالتفضيل في نفس النبوة فلا تفاضل فيها، وإنما التفاضل بالخصائص، وفضائل أخرى.

ولا بد من اعتقاد التفضيل لقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253] ولهذا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بفضله امتثالًا لقوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، ولأنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته ليعرفوه، ويعتقدوه، ويعملوا بمقتضاه، ويوقروه صلى الله عليه وسلم. لا للفخر كما بينها في الرواية الأخرى التي سبقت.

راجع: صحيح مسلم: 7/ 59، وشرح النووي عليه: 15/ 37 - 38، وتحفة الأحوذي: 10/ 82، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 130 - 131، ومعالم أصول الدين للرازي: ص/ 109.

(1)

لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28].

(2)

عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: "أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وجعلت لي الأرض طيبة طهورًا ومسجدًا، فأيما رجل أدركته الصلاة صلى حيث كان، ونصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة".

هذا لفظ مسلم، وعنده -أيضًا- في رواية أبي هريرة:"وأرسلت إلى الخلق كافة" وعند البخاري من رواية جابر "وبعثت إلى الناس كافة".

راجع: صحيح مسلم: 2/ 63 - 64، وصحيح البخاري: 1/ 112 - 113.

ص: 270

والأسود (1): الجن (2).

(1) اختلف في تفسير هذا الحديث على أقوال:

قيل: المراد بالأسود: السودان، وبالأحمر من عداهم من العرب، وغيرهم.

وقيل: المراد بالأحمر البيض من العجم، وغيرهم، وبالأسود العرب لغلبة السمرة عليهم، وغيرهم من السودان.

وقيل: الأحمر: الإنس، والأسود: الجن كما ذكره الشارح.

قال النووي: "والجميع صحيح، فقد بعث إلى جميعهم" بعد ما ذكر الأقوال السابقة.

وقد فسر قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19] أي: بلغه القرآن من الإنس، والجن، وكذلك فسر قوله تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] وقد انعقد الإجماع على بعثته صلى الله عليه وسلم للإنس، والجن.

راجع: شرح النووي على مسلم: 5/ 5، وتفسير ابن كثير: 2/ 127، 309، والكشاف للزمخشري: 2/ 10، 3/ 81، وفتح القدير للشوكاني: 2/ 105، 4/ 60.

(2)

الجن: خلاف الإنس، وأصل الجن ستر الشيء عن الحاسة، يقال: جنه الليل، وأجنه: ستره، ومنه قوله تعالى:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} [الأنعام: 76] والجنان: القلب لكونه مستورًا عن الحاسة، والمجن، والمجنة: الترس الذي يجن صاحبه، قال تعالى:{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المجادلة: 16]، وفي الحديث:"الصوم جنة".

والجنة: كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره الأرض قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} ، {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 15 - 16]، والجنين: الولد ما دام في بطن أمه، وجمعه أجنة، والجنين القبر لأنه يستر ويواري نازله. قال تعالى:{وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32].

والجنة: جماعة الجن، ومنه قوله تعالى:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158]، وقوله:{مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6]. =

ص: 271

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= والجنة: الجنون ومنه قوله سبحانه: {مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46].

واصطلاحًا: أجسام لطيفة روحانية مستترة عن الحواس لهم قوة التشكل، والتبدل، فيدخل في هذا التعريف الملائكة، والشياطين، فكل ملائكة جن وليس كل جن ملائكة.

وقيل: الروحانيون ثلاثة أقسام:

أخيار: وهم الملائكة، وسيأتي الكلام عليهم في الشرح بعد قليل.

وأشرار: وهم الشياطين، مردة الجن، كما يطلق الشياطين على مردة الإنس.

وأوساط: فيهم أخيار، وأشرار، وهم الجن، وجميعهم ولد إبليس أعني الشياطين، والجن: روح لطيف يأكل، ويشرب، ويتناكح.

ولم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن. أما أهل الكتاب من اليهود، والنصارى فهم مقرون بهم كإقرار المسلمين، وإن وجد فيهم من ينكر ذلك، فكما يوجد في بعض طوائف المسلمين كالجهمية، والمعتزلة حيث أنكروهم وإن كان جمهور الطائفة، وأئمتها مقرون بذلك، وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء عليهم السلام تواترًا معلومًا بالاضطرار، ومعلوم بالاضطرار أنهم أحياء عقلاء فاعلون بالإرادة، مأمورون، منهيون ليسوا صفات، وأعراضًا قائمة بالإنسان، أو غيره، كما يزعمه بعض الملاحدة.

وهو ونسله يرون بني آدم من حيث لا يرونهم، لكن قد يرى الشياطين، والجن كثير من الإنس غير أن لهم من الاجتنان، والاستتار ما ليس للإنس، وأما آدم فقد رآه حقيقة كما دلت عليه النصوص، في حواره مع آدم، وزوجه، حتى غرر بهما فأكلا من الشجرة التي نهيا عنها.

راجع: المفردات للراغب: ص/ 98 - 99، ومختار الصحاح: ص/ 113 - 114، والمصباح المنير: 1/ 111 - 112، ومجموع الفتاوى: 15/ 7، 17/ 509 وما بعدها، وغرائب وعجائب الجان: ص/ 15 وما بعدها، والجامع لشعب الإيمان: ص/ 303 وما بعدها.

ص: 272

وقد نطق التنزيل بإيمان الجن به، وسماعهم القرآن منه (1).

واختلف في إرساله إلى الملائكة والظواهر تدل عليه مثل: {لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] (2).

وبعده أفضل الخلق الأنبياء على الإجمال، وبعدهم الملائكة.

هذه عقيدة أهل الحق (3).

(1) قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 29 - 31]، وقوله تعالى:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 1 - 2].

(2)

وقد ذكر الزركشي نقلًا عن البيهقي، والحليمي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الجن، والإنس دون الملائكة، وهي مسألة وقع الخلاف فيها.

وقد ذكر الفخر الرازي إمكان إدخالهم لقوله تعالى: {لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} غير أن القول بالدخول يخالف الإجماع. فقال: "العالم: كل ما سوى اللَّه تعالى، ويتناول جميع المكلفين من الجن، والإنس والملائكة لكنا أجمعنا أنه عليه السلام لم يكن رسولًا إلى الملائكة، فوجب أن يكون رسولًا إلى الجن، والإنس جميعًا".

راجع: تفسير الفخر الرازي: 12/ 45، وتشنيف المسامع: ق (166/ أ)، والغيث الهامع: ق (166/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 416، وهمع الهوامع: ص/ 454 - 455، ومعالم أصول الدين: ص/ 111.

(3)

تقدم بأن نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل العالمين على الإطلاق ثم اختلف فيمن يليه في الفضل هل هم الأنبياء، أو الملائكة؟ . =

ص: 273

والملائكة -عندهم- أجسام لطيفة لهم قوة التشكل، والتبدل قادرة على أفعال شاقة، عباد مكرمون مواظبون على الطاعة معصومون عن المخالفة والفسق (1)، لا يوصفون بالذكورة والأنوثة، ومع ذلك الأنبياء أفضل منهم.

= ذهب الأشعري، وجمهور أصحابه، والشيعة، ورواية لأبي حنيفة وغيرهم إلى أن الأنبياء أفضل من الملائكة، وذهبت الفلاسفة والمعتزلة إلى أن الملائكة أفضل من الأنبياء، واختاره القاضي الباقلاني، والأستاذ أبو إسحاق، وأبو عبد اللَّه الحاكم والحليمي، والإمام فخر الدين في المعالم، بينما في المحصل رجَّح مذهب الجمهور السابق، كما اختار المذهب الثاني أبو شامة المقدسي وذهب الكيا الهراس إلى الوقف في المسألة.

قال الأشموني: وهو أسلم، وذكر البيهقي بأن الناس تكلموا قديما وحديثًا في المفاضلة بين الملك والبشر، ولكل وجهته فيما ذهب إليه، والأمر فيه سهل، وليس فيه من الفائدة إلا معرفة الشيء على ما هو عليه، وسيأتي ذكر الأدلة على مختار الجمهور في الشرح.

راجع: الجامع لشعب الإيمان: ص/ 317، والمعالم للرازي: ص/ 107، والمحصل له: ص/ 322 - 325، والمواقف للعضد: ص/ 367 - 370، وشرح المقاصد: 5/ 64 - 72، وتشنيف المسامع: ق (166/ أ - ب)، والغيث الهامع: ق (166/ ب). والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 416، وهمع الهوامع: ص/ 455.

(1)

اختلف العلماء في عصمة الملائكة على قولين: ذهب فريق إلى أنهم معصومون عن المخالفة، والخروج عن طاعة ربهم لقوله تعالى:{يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]، وقوله:{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 26 - 27]، {لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 19 - 20]، ولا خفاء في أن أمثال هذه العمومات تفيد الظن، وإن لم تفد اليقين. =

ص: 274

والدليل -عليه- عقلًا، ونقلًا.

أما عقلًا: فلأن الأنبياء معصومون، مع ما فيهم من الشواغل، والقوى الشهوانية، والغضبية، فالقيام بالعبادة، مع تلك الشواغل أشق، وأحمز، وكل ما كان أشق كان أبلغ في استحقاق الثواب.

= وما يقال: إنه لا عبرة بالظنيات في باب الاعتقادات، فإن أريد أنه لا يحصل منه الاعتقاد الجازم، ولا يصح الحكم القطعي، فلا نزاع فيه، وإن أريد أنه لا يحصل الظن بذلك الحكم، فظاهر البطلان وذهب فريق آخر إلى نفي العصمة عنهم مستدلين على ذلك بقوله تعالى:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30].

قالوا: ولا يخفى ما فيه من وجوه المعصية، ففيه غيبة لمن يجعله اللَّه خليفة بذكر مثالبه، وفيه العجب، وتزكية النفس، وفيه أنهم قالوا ما قالوه رجمًا بالظن، واتباع الظن في مثله غير جائز، وفيه إنكار على اللَّه فيما يفعله، وهو من أعظم المعاصي.

الثاني: أن إبليس عاص، وهو من الملائكة بدليل استثنائه منهم في قوله تعالى:{فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ} [الحجر: 30 - 31] وبدليل أن قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا} [البقرة: 34] قد تناوله، وإلا لما استحق الذم. ولما قيل له:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] وقد ردَّ عليهم العضد، والتفتازاني، بأن الدليل الأول كان منهم استفسارًا عن الحكمة لا اعتراضًا منهم.

والغيبة: إظهار مثالب المغتاب، وذلك إنما يتصور لمن لا يعلمه، وكذلك التزكية، ولا رجم بالظن، وقد علموا ذلك بتعليم اللَّه، أو بغيره، وبأن ما استدلوا به ثانيًا - فإن إبليس كان من الجن، وصح الاستثناء، وتناوله الأمر للغلبة، وكون طائفة من الملائكة مسمين بالجن خلاف الظاهر، مع أن ذكره في معرض التعليل لاستكباره، وعصيانه يأباه.

راجع: المواقف للعضد: ص/ 366 - 367، وشرح المقاصد: 5/ 63 - 65.

ص: 275

ولأنهم بعثوا لتكميل الخلق، والهداية، واحتملوا أعباء النبوة وقاسوا من الجهلة، والسفهاء ما نطق به الآيات (1)، والأخبار.

وأما نقلًا: فلأنهم أمروا بالسجدة (2) لآدم، والمفضول يؤمر بإكرام الفاضل لا العكس.

ولأن آدم كان في رتبة التعليم، ولا شك أن المعلم أفضل من المتعلم. ولا يرد تعليم جبريل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، لأنه مجاز عن الإعلام، والإخبار، والمبلغ عن الغير لا يوصف بكونه معلمًا إلا تجوزًا.

ولقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 33](3) والملائكة من العالمين.

(1) ورد ذلك في قصص الأنبياء الى قصها القرآن الكريم عن نوح، وإبراهيم، ولوط، وهود، وصالح، وشعيب، وموسى، وعيسى، ومحمد وغيرهم صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين.

(2)

الأمر بالسجود لآدم ورد في عدة آيات منها قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 34].

وانظر: سورة الأعراف آية (11)، وسورة الحجر آية (29) وسورة الإسراء آية (61) وسورة الكهف آية (50) وسورة طه آية (116) وسورة ص آية (72).

(3)

الخلاف المذكور سابقًا بين الأنبياء، والملائكة لا بين البشر والملائكة وقد اتفقوا على أن العصاة من المؤمنين دون الأنبياء، والملائكة كما اتفقوا على أن المطيعين دون الأنبياء، والخلاف في التفاضل بين المطيعين، والملائكة، فذهب البعض إلى أن المؤمن الطائع أفضل من الملائكة، وحكي عن الأكثر، وقيد الإمام في الأربعين الملائكة بالسماوية. وذهب فريق آخر إلى أن الملائكة أفضل من المؤمنين الطائعين. =

ص: 276

قالوا: قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} [النساء: 172] صريح في كونهم أفضل من المسيح، كما تقول: لا يستنكف عن إكرام العلماء لا الوزير، ولا السلطان.

الجواب: أن تلك الآية سيقت للرد على النصارى في ادعائهم الألوهية في المسيح، لكونه مولودًا من غير أب، وهو روح اللَّه القدس.

قيل -لهم-: لو كان ذلك مقتضيًا للألوهية، لكانت الملائكة أولى بذلك، لكونهم مقربين لديه من غير أب، ولا أم، فإذا لم يصلحوا للألوهية، فعيسى بطريق الأولى، لأنه حواه بطن الأم، وتولد، كما يتولد أحدكم.

وللمعتزلة تمسكات أخر بالآيات الظواهر.

والجواب عنها ظاهر، فلا نطول الكتاب بذكرها، فالموفق لا يتوقف فيها.

وقد انقرضت - بحمد اللَّه شرذمة المعتزلة الضالين والعاقبة للمتقين، والحمد للَّه رب العالمين.

قوله: "والمعجزة أمر خارق للعادة".

أقول: لما قدم أن الرسل قد أيدت بالإعجاز عرف المعجزة فقال: هي أمر خارق للعادة (1).

= راجع: تشنيف المسامع: ق (166/ ب)، والغيث الهامع: ق (166/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 416، وهمع الهوامع: ص/ 455.

(1)

المعجزة -لغة-: من أعجز الشيء إذا فاته، وفلان وجده عاجزًا وصيره عاجزًا، والتعجيز: التثبيط، والنسبة إلى المعجزة، والعجز واحدة، ومعجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومعجزة النبي صلى الله عليه وسلم ما أعجز به الخصم عند التحدي، والهاء للمبالغة. =

ص: 277

وإنما قال: "أمر" ليشمل الفعل مثل نبع الماء من بين أصابعه (1) صلى الله عليه وسلم (2).

وعدم الفعل: كعدم إحراق النار للخليل صلوات اللَّه عليه (3) وبمقارنة التحدي: خرجت كرامات الأولياء، والعلامات السابقة على

= واصطلاحًا: أمر خارق للعادة داعية إلى الخير، والسعادة مقرونة بدعوى النبوة، قصد بها إظهار صدق من ادعى أنه رسول من عند اللَّه، مع عدم المعارضة.

راجع: المفردات للراغب: ص/ 322، ومختار الصحاح: ص/ 414، والمصباح المنير: 2/ 393، والمحصل للرازي: ص/ 301، والمعالم له: ص/ 99، وشرح المقاصد: 5/ 11 - 19، والمواقف للعضد: ص/ 339 - 342، والتعريفات: ص/ 219، وتشنيف المسامع: ق (166/ ب)، والغيث الهامع: ق (167/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 416، وهمع الهوامع: ص/ 457.

(1)

عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما قال: "قد رأيتني مع النبي صلى الله عليه وسلم وقد حضرت العصر وليس معنا ماء غير فضلة فجعل في إناء، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم به، فأدخل يده فيه، وفرج أصابعه، ثم قال: حي على أهل الوضوء البركة من اللَّه فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه، فتوضأ الناس وشربوا، فجعلت لا آلو ما جعلت في بطني منه، فعلمت أنه بركة. قلت لجابر: كم كنتم يومئذ قال: ألفًا وأربع مئة".

راجع: صحيح البخاري: 1/ 148، وشمائل الرسول لابن كثير: ص/ 176، وصحيح مسلم: 7/ 59، رواه عن أنس بن مالك وفيه:"فرأيت الماء ينبع من تحت أصابعه".

(2)

آخر الورقة (144/ ب من أ).

(3)

قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى} [الأنبياء: 68 - 69].

ص: 278

البعثة: كتسليم الحجر (1)، وتظليل الغمام (2)، وسطوع النور في وجوه الآباء الذين انتقل من أصلابهم (3)، فإن تلك تسمى إرهاصات للنبوة، وبعدم المعارضة: خرجت الشعوذة (4)، والسحر.

والتحدي: هو الدعوى، والحث على المعارضة مثل قوله:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23].

والخوارق أربعة أقسام: إن قارن التحدي سمي معجزة، وإن قارنت الأعمال الصالحة بدون التحدي، فهي الكرامة، وإن خالفت المقصود تسمى إهانة.

(1) عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن".

راجع: صحيح مسلم: 7/ 58.

(2)

تظليل الغمامة له صلى الله عليه وسلم، ورد في ذكر خروجه مع عمه أبي طالب إلى الشام، وقصته مع بحيرا الراهب، قال ابن هشام:"يزعمون أنه -يعني بحيرا الراهب- رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وهو في صومعته في الركب حين أقبلوا، وغمامة تظلله من بين القوم".

راجع: سيرة ابن هشام: 1/ 180 - 183، والبداية والنهاية: 2/ 283.

(3)

راجع: سيرة ابن هشام: 1/ 155 - 157، والبداية والنهاية: 2/ 249 - 251.

(4)

الشعوذة: لعب يرى الإنسان منه ما ليس له حقيقة يقال: شعوذ الرجل شعوذة، ومنهم من يقول: شعبذ الرجل شعبذة بالذال المعجمة.

قال ابن فارس: "شعذ، الشين، والعين، والذال ليس بشيء، قال الخليل: الشعوذة ليست من كلام أهل البادية، وهي خفة في اليدين وأخذة كالسحر".

راجع: معجم مقاييس اللغة: 3/ 193، والمصباح المنير: 1/ 314.

ص: 279

كما روى أنه قيل -لمسيلمة الكذاب (1) -: إن محمدًا كان يضع يده على عين الأعمى، فيبصر، ويزول عنه العمى، فإن كنت نبيًا لم لا تفعل مثله؟

فقال: ائتوني بأعمى، فوجد هناك أعور، فوضع يده على عينه العوراء، فعميت الصحيحة أيضًا (2).

(1) هو مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي الوائلي أبو ثمامة، المتنبئ الكذاب، وفي الأمثال:"أكذب من مسيلمة" ولد ونشأ في اليمامة في قرية الجبيلة بقرب العينية بوادي حنيفة، ولقب في الجاهلية بالرحمن وعرف برحمان اليمامة، ولما ظهر الإسلام، وفتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، ودانت له العرب، جاءه وفد بني حنيفة، وفيهم مسيلمة، فقابلوا النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا فأجازهم غير أن مسيلمة تخلف في الرحال، فذكروا له مكانة مسيلمة فيهم فأمر له بمثل ما أمر لهم، ولما رجعوا إلى ديارهم كتب مسيلمة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بأن اللَّه قد أشركه معه في الرسالة، فكذبه النبي صلى الله عليه وسلم ورد عليه، ولكن قومه اتبعوه عصبية فيما دعاهم إليه، ثم تزوج مسيلمة سجاح التي تنبأت أيضًا فتبعها قوم من بني تميم، وفي السنة الحادية عشرة من الهجرة أرسل أبو بكر رضي الله عنه خالد ابن الوليد لقتال مسيلمة الكذاب فقاتله، وقتله.

راجع: سيرة ابن هشام: 3/ 74، والكامل لابن الأثير: 2/ 137 - 140، والروض الأنف: 2/ 240، وفتوح البلدان: ص/ 94 - 100، والبدء والتأريخ: 1/ 162، وتأريخ الشعوب الإسلامية: 1/ 100، وشذرات الذهب: 1/ 23، والأعلام للزركلي: 8/ 125، والبداية والنهاية: 6/ 323 - 327.

(2)

قال ابن كثير: "وذكر علماء التأريخ أنه -أي مسيلمة الكذاب- كان يتشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فبلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم بصق في بئر، فغزر ماؤه، فبصق مسيلمة في بئر فذهب ماؤه بالكلية، وفي أخرى فصار ماؤه أجاجًا. وتوضأ وسقى بوضوئه نخلًا فيبست، وهلكت، وأتى بولدان يبرك عليهم فجعل يمسح رؤوسهم فمنهم من قرع رأسه، ومنهم من لثغ لسانه" البداية والنهاية: 6/ 327.

ص: 280

وتارة تقع لعوام الناس الذين ليسوا من عداد الأولياء أمور خارقة تسمى تلك معونة.

قوله: "الإيمان".

أقول: الإيمان -لغة-: التصديق (1): {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف: 17] أي: مصدق.

ويتعدى إلى مفعولين تقول: آمننيه، وآمنت زيدًا، ويضمن تارة معنى الإقرار، والاعتراف، فيعدى بالباء، مثل:{يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3]، وتارة معنى الإذعان، فيعدى باللام مثل:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26]، وإذا ثبت أنه في اللغة (2) التصديق، فهو في الشرع -أيضًا- كذلك، ولم ينقل.

أما أولًا: فلأن النقل خلاف الأصل، فلا يصار إليه إلا بدليل.

وأما ثانيًا: فلحديث جبريل حين سأل عن الإيمان، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في جوابه:"الإيمان أن تؤمن باللَّه"(3) أي: تصدق إلى آخر الحديث.

(1) راجع: مختار الصحاح: ص/ 26 - 27، والمصباح المنير: 1/ 24 - 25، والمفردات للراغب: ص/ 25 - 26، ومعجم مقاييس اللغة: 1/ 133 - 135.

(2)

آخر الورقة (128/ ب من ب).

(3)

عن أبي هريرة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بارزًا يومًا للناس، فأتاه جبريل فقال: ما الإيمان؟ قال: "أن تؤمن باللَّه، وملائكته، وكتابه، وبلقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث" ثم سأله عن الإسلام، والإحسان، وعن قيام الساعة. والحديث مشهور.

راجع: صحيح البخاري: 1/ 20، وصحيح مسلم: 1/ 30 - 31.

ص: 281

فأطلق لفظ الإيمان: لأنه كان معلومًا عندهم، وفصل المؤمن به إلا أنه في اللغة اسمًا لمطلق التصديق.

وفي الشرع: للتصديق الاختياري بأمور مخصوصة، وهي ما علم مجيء الرسول بها ضرورة من الدين، ويمتاز عن المعرفة والعلم بربط القلب على المؤمن به ولذلك يثاب عليه.

وحاصله: أنه لا يجامع الإنكار بخلاف المعرفة والعلم (1) قال تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146].

وقال موسى -لفرعون-: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الإسراء: 102].

فمن صدق بقلبه، ولم يتمكن من التلفظ، فإيمانه منج عند اللَّه، وكذا الذي به آفة كالخرس.

وأما غيرهما من القادر المتمكن، فلا يشترط (2) التلفظ في حقه إلا لإجراء أحكام المسلمين عليه في الدنيا من الصلاة عليه، ودفنه في مقابر

(1) لأن من الكفار من كان يعرف الحق، ويعلم به، ولكن لا يصدق به كما قال تعالى:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 144]، {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].

(2)

يرى الأكثر، ومنهم الأشاعرة أنه لا يكفي مجرد التصديق بالقلب مع القدرة على الإقرار باللسان، إذ لا يمنع الكفر إلا بهما، لأن القول مأمور به كالاعتقاد قال تعالى: =

ص: 282

المسلمين كذا في شرح المقاصد للعلامة التفتازاني (1) فعلى هذا ما ذكره المصنف من أن التلفظ شرط، أو شطر (2) يحمل عليه لا على الإيمان المنجي.

= {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [البقرة: 136]، وقال عليه الصلاة والسلام:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه" فلا بد من العقد، والقول جميعًا. فمن لم يعرض عليه التلفظ بالإيمان، ولم يتفق له التلفظ، ومات مصدقًا بقلبه فالجمهور على أن مجرد التصديق لا ينجيه، والحالة هذه.

وقال الغزالي: إنه ينجيه، وقال: كيف يعذب من قلبه مملوء بالإيمان وهو المقصود الأصلي غير أنه لخفائه نيط بالإقرار الظاهر، وعلى هذا فهو مؤمن عند اللَّه غير مؤمن في الدنيا، كما أن المنافق لما وجد منه الإقرار دون التصديق كان مؤمنًا في أحكام الدنيا كافرًا في الآخرة ومن حجته أن حقيقة الإيمان التصديق، وأنه عمل القلب، وحكى هذا عن الجويني.

راجع: تشنيف المسامع: ق (167/ ب)، والغيث الهامع: ق (167/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 417، وهمع الهوامع: ص/ 458.

(1)

راجع: شرح المقاصد: 5/ 178 - 178.

(2)

التلفظ بالإيمان شرط عند المتكلمين. وأما عند السلف شطر، لأن ظواهر النصوص تدل على أنه حزء الإيمان ككون الشهادة من الإيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتبر إلا بها. ونقل عن الغزالي أن اللفظ واجب من الواجبات للإيمان لا جزء له، ولا شرط، وحديث جبريل يدل له حيث جعل الإسلام شهادة، وأعمالًا، والإيمان تصديقًا، واعتقادًا، ولم يذكر اللفظ إلا في الشرائع الإسلامية.

راجع: تشنيف المسامع: (167/ ب)، والغيث الهامع:(167/ ب).

ص: 283

والخلاف إنما هو عند عدم الإباء عند المطالب وأما المصر لدى المطالبة، فكافر وفاقًا.

وقيل: مركب من الاعتقاد، والقول، وإليه ذهب أبو حنيفة (1). وقيل: منهما، ومن الأعمال (2).

(1) ذهب كثير من الأحناف إلى أن الإيمان: التصديق بالجنان والإقرار باللسان، وهو قول الإمام أبي حنيفة، وقال بعض الأحناف: إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصل، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله، ويروى عن أبي حنيفة، وهذا منهم بناء على أن الطاعة عندهم لا تدخل في مسمى الإيمان، واختاره الفخر الرازي في معالم أصول الدين حيث عرفه بقوله:

"الإيمان: عبارة عن الاعتقاد، والقول سبب لظهوره، والأعمال خارجة عن مسمى الإيمان، والدليل عليه وجوه" وقال -في المحصل-: "لا نزاع في أن الإيمان في أصل اللغة: عبارة عن التصديق، وفي الشرع عبارة عن تصديق الرسول بكل ما علم بالضرورة مجيئه به خلافًا للمعتزلة".

راجع: الفقه الأكبر مع شرحه: ص/ 124 وما بعدها، والطحاوية مع شرحها: 2/ 57 - 59، والمحصل للرازي: ص/ 347 وما بعدها، والمعالم له: ص/ 133 وما بعدها، والتعريفات: ص/ 40، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 42 وما بعدها، وشرح المقاصد: 5/ 178.

(2)

عرف الخوارج، والمعتزلة الإيمان: بأنه تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان. فتارك العمل عند الخوارج خارج عن الإيمان داخل في الكفر، وعند المعتزلة لا يوصف بالإيمان، ولا يدخل في الكفر، وهو القول بالمنزلة بين المنزلتين.

غير أن المعتزلة اختلفوا في المراد من الأعمال فعند أبي علي، وأبي هاشم فعل الواجبات، وترك المحظورات. =

ص: 284

وإليه ذهبت الخوارج (1)، والمعتزلة إلا أن تارك العمل كافر عند الخوارج، فاسق عند المعتزلة.

= وعند أبي الهذيل، وعبد الجبار فعل الطاعات واجبة كانت، أو مندوبة.

غير أن الخروج عن الإيمان، وحرمان دخوله الجنة بترك المندوب مما لا ينبغي أن يكون مذهبًا لعاقل.

وذهبت الكرامية إلى أن الإيمان: هو الإقرار باللسان فقط، فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملوا الإيمان، ولكنهم يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم اللَّه به، وقولهم ظاهر الفساد. وقال الجهم بن صفوان السمرقندي: الإيمان: معرفة القلب، وعلمه.

وبه قال أبو الحسن الصالحي أحد رؤساء القدرية، والشيعة، والمرجئة وهذا يعتبر أفسد قول قيل في الإيمان، ولم يجعلوا أعمال القلب من الإيمان ناهيك عن أعمال الجوارح، لأن الكفر عندهم شيء واحد، وهو "الجهل"، والإيمان عندهم شيء واحد، وهو "العلم"، وعلى مذهبهم الباطل يكون إبليس، وفرعون عندهم مؤمنين، مع أنه قد ثبت كفرهما بنص القرآن، ولهذا نقل عن الإمام أحمد، ووكيع بن الجراح تكفير من يقول بهذا القول.

راجع: الطحاوية مع شرحها: 2/ 58، والمواقف للإيجي: ص/ 384 - 388، وشرح المقاصد: 5/ 176، وما بعدها والإيمان لشيخ الإسلام ص: 178 - 218.

(1)

الخوارج: جمع خارج، وهو الذي خلع طاعة الإمام الحق، وأعلن عصيانه، وألب عليه بعد أن يكون له تأويل، وعلماء الشريعة يسمونهم:"بغاة" ويقال لهم: الحرورية نسبة إلى حروراء بفتح الحاء، والراء، وسكون الواو ويقال: بفتح، فضم قرية، أو كورة بظاهر الكوفة، فقد خرحوا على الإمام علي بعد وقعة صفين، والتحكيم وتجمعوا فيها ويقال لهم: النواصب جمع ناصب، وقد يقال: ناصبي، وهو الغالي في بغض علي رضي الله عنه.

ويقال لهم: الشراة بضم الشين، فجمع شار مثل قضاة، وقاض لزعمهم بأنهم شروا أنفسهم من اللَّه تعالى ويقال لهم: محكمة لقولهم: لا حكم إلا للَّه، ولرفضهم التحكيم في صفين، ويقال لهم: مارقة لمروقهم من الدين كما جاء في الأثر. =

ص: 285

مع اتفاقهم على خلوده في النار.

وما ينقل عن الشافعي، وأهل الحديث أن الإيمان: تصديق الجنان، وعمل الأركان، وإقرار اللسان (1)، فيجب حمله على الإيمان الكامل.

= وقد اتفق الخوارج على القول بإكفار علي، وعثمان، وأصحاب الجمل والحكمين، ومن رضي بالتحكيم، وصوب الحكمين، أو أحدهما، والخروج على السلطان الجائر، وأكثرهم يكفر مرتكب الكبيرة، ورغم اتفاقهم الباطل على ما سبق ذكره، فقد اختلفوا فيما بينهم إلى عشرين فرقة كل واحدة تكفر سائرها.

راجع: مقالات الإسلاميين: ص/ 86 وما بعدها، والفرق بين الفرق: ص/ 24، 72 وما بعدها، والبدء والتأريخ: 5/ 134، والتبصير في الدين: ص/ 26، وشرح المقاصد: 5/ 176، وخطط المقريزي: 2/ 352، والتعريفات: ص/ 102.

(1)

وهو مذهب مالك، وأحمد، والأوزعي، وإسحاق بن راهويه وسائر أهل الحديث، وأهل المدينة، وأهل الظاهر، وجماعة من المتكلمين، والاختلاف بين أبي حنيفة، والأئمة الآخرين خلاف لفظي، صوري فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب، أو جزء من الإيمان -مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان، بل هو في مشيئة اللَّه إن شاء عذبه، وإن شاء عفا عنه- نزاع لفظي لا يترتب عليه فساد اعتقاد، وكذا أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه، وأقر بلسانه، وامتنع عن العمل بحوارحه أنه عاص للَّه ورسوله، مستحق للوعيد، والقائلون بتكفير تارك الصلاة تساهلًا لا نكرانًا لوجوبها ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى، وإلا فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني، والسارق، وشارب الخمر، والمنتهب، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية اتفاقًا.

ولا خلاف بين أهل السنة أن اللَّه تعالى أراد من العباد القول، والعمل والاعتقاد، ولكن هل العمل يدخل في مسمى الإيمان أو لا؟ هذا محل الخلاف وممن ذكر أن الخلاف لفظي بين أهل السنة ابن أبي العز الحنفي، والآمدي، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم. =

ص: 286

لأنهم أجمعوا على أن من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان يخرج من النار (1).

ومن قال: لا إله إلا اللَّه دخل الجنة (2).

= راجع: شرح الطحاوية: 2/ 59 - 60، وكتاب السنة للإمام أحمد: ص/ 24، والإيمان لأبي عبيد: ص/ 67، والجامع لشعب الإيمان: ص/ 2 وما بعدها، وكتاب الإيمان لابن منده: 1/ 116 وما بعدها، والإنصاف للباقلاني: ص/ 55، والإيمان لشيخ الإسلام: ص/ 281 - 282، وفتاوى السبكي: 1/ 63، وتشنيف المسامع: ق (167/ أ - ب)، والغيث الهامع: ق (167/ أ - ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 417، وهمع الهوامع: ص/ 458، وشرح المقاصد: 5/ 176، وصحيح مسلم: 1/ 30، وصحيح البخاري: 10: 1، وشرح النووي على مسلم: 1/ 145.

(1)

ورد في هذا أحاديث نذكر منها: حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يخرج من النار من قال: لا إله إلا اللَّه وفي قلبه وزن شعيرة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا اللَّه وفي قلبه وزن برة من خير، ويخرج من النار من قال: لا إله إلا اللَّه وفي قلبه وزن ذرة من خير".

قال البخاري: قال أبان حدثنا قتادة حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم "من إيمان" مكان "من خير" وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل اللَّه أهل الجنة الجنة يدخل من يشاء برحمته، ويدخل أهل النار النار، ثم يقول: انظروا من وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون منها حممًا قد امتحشوا، فيلقون في نهر الحياة أو الحيا، فينبتون فيها كما تنبت الحبة إلى جانب السيل ألم تروها كيف تخرج صفراء ملتوية".

راجع: صحيح البخاري: 1/ 18، 9/ 150، وصحيح مسلم: 1/ 117 - 118.

(2)

وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها حديث عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا اللَّه دخل الجنة". =

ص: 287

وحديث أسامة (1): "هلا شققت قلبه؟ "(2).

= وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من قال: لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد اللَّه وابن أمته، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق أدخله اللَّه من أي أبواب الجنة الثمانية شاء".

وفي حديث أبي هريرة قوله صلى الله عليه وسلم له: "من لقيت يشهد أن لا إله إلا اللَّه مستيقنًا بها قلبه بشرته بالجنة".

وعنه أيضًا في حديث طويل، وفيه معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأني رسول اللَّه، لا يلقى اللَّه بها عبد غير شاك فيها إلا دخل الجنة".

راجع: صحيح مسلم: 1/ 41 - 42.

(1)

هو الصحابي أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل، أبو محمد، ويقال: أبو زيد حب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وابن حبه، أمه أم أيمن حاضنة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، له مناقب عديدة، فقد أمَّره الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على جيش عظيم فيه أجلة الصحابة رضي الله عنهم، وكان عمره ثماني عشرة سنة أو عشرين، وروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة.

وقد اعتزل الفتن بعد قتل عثمان، وسكن المزة بدمشق، ثم مكة، ثم المدينة ومات بها في خلافة معاوية سنة (564 هـ).

راحع: الإستيعاب: 1/ 57، والإصابة: 1/ 31، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/ 113، والخلاصة: ص/ 26.

(2)

عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سرية، فصبحبنا الحرقات من جهينة، فأدركت رجلًا فقال: لا إله إلا اللَّه فطعنته، فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أقال: لا إله إلا اللَّه، وقتلته؟ قال: قلت يا رسول اللَّه إنما قالها خوفًا من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟ فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ".

راجع: صحيح مسلم: 1/ 67 - 68.

ص: 288

ولاتفاقهم على أن إيمان اليأس غير مقبول (1).

ولا شك أن ذلك الإيمان لا يمكن جمعه مع الأعمال، وإنما عللوا عدم نفعه لمعاينة العذاب، وإشرافه على الدار الآخرة وصيرورته في عدادها (2)، لا، لأن الأعمال داخلة، أو شرط.

ولأن أهل الحديث، والشافعي أعلم الناس بلغة العرب، وبمعاني النصوص.

وقد عطف في الآيات الأعمال على الإيمان في مواضع لا تحصى (3).

(1) لقوله تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 18]، ولقوله:{يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158]، ولقوله:{حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 90 - 91].

(2)

راجع: تفسير ابن كثير: 1/ 465، 2/ 194 - 196، 431 - 432، وفتح القدير للشوكاني: 1/ 439، 2/ 181 - 182، 470 - 472.

(3)

كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس: 9]، ولقوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [هود: 23]، ولقوله:{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [إبراهيم: 23]، ولقوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا =

ص: 289

وكم من آية نطقت بالإيمان، مع وجود المعاصي، {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ} [التحريم: 8].

وليس العجب من متأخري الحنفية إذا التبس عليهم هذا الذي حررناه (1) بل من بعض علماء الغرب (2) المتطلعين على قواعد الشريعة من الآيات والأخبار حيث يصرح بأن الإيمان -عند الشافعي- مركب من ثلاثة أشياء، ويجعل التلفظ، والعمل ركنًا (3).

= الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107]، ولقوله:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96]، ولقوله:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا} [الفرقان: 70]، وقوله:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6]، وقوله:{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] وغيرها كثير في القرآن الكريم.

(1)

حيث قالوا: كيف تكون الأعمال من الإيمان، مع أنه قد ورد عطف الأعمال على الإيمان في آيات كثيرة، والعطف يقتضي المغايرة إلى ما ذكروه. فرد الشارح بأنه يجب حمل كلامهم في تعريف الإيمان على الإيمان الكامل إلى آخر ما حرره، كما رد عليهم ابن أبي العز الحنفي وبين مراتب المغايرة في شرحه للطحاوية: 2/ 77 - 79.

(2)

يعني المغرب، وجاء في هامش (أ، ب)"هو الزركشي".

(3)

قال الزركشي: "وذهب السلف إلى أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان. . . . وعلى هذا فالتلفظ ركن، وماهية الإيمان مركب من الثلاثة"، تشنيف المسامع: ق (167/ ب).

ص: 290

والشافعي يقول: تارك الصلاة (1) يقتل، ويدفن، ويصلى عليه.

(1) للصلاة في الإسلام منزلة لا تعدلها منزلة أية عبادة أخرى فهي عماد الدين لا يقوم إلا به، وهي أول ما أوجبه اللَّه تعالى من العبادات وتولى اللَّه إيجابها بمخاطبة الرسول ليلة المعراج من غير واسطة، وهي أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت، فسد سائر عمله، وهي آخر وصية وصى بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أمته عند مفارقته الدنيا، وهي آخر ما يفقد من الدين. وتاركها إن كان منكرًا لها جاحدًا لوجوبها، فهو كافر خارج عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو لم يبلغه وجوبها.

أما من تركها مع إيمانه بها، واعتقاده فرضيتها، ولكن تركها تكاسلًا، أو تشاغلًا عنها، بما لا يعد في الشرع عذرًا. فللعلماء أقوال في كفره، وقتله، فذهب جماعة من الصحابة، وغيرهم إلى تكفير من ترك الصلاة متعمدًا تركها حتى يخرج جميع وقتها. فمن الصحابة عمر بن الخطاب، وعبد اللَّه بن مسعود، وعبد اللَّه بن عباس وأبو هريرة، ومعاذ بن جبل، وجابر بن عبد اللَّه، وأبو الدرداء رضي الله عنهم ومن غيرهم أحمد ابن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وعبد اللَّه بن المبارك، والنخعي والحكم بن عتيبة، وأبو أيوب السختياني، وأبو داود الطيالسى، وأبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب، وغيرهم رحمهم اللَّه تعالى، فهو عندهم كافر يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل كفرًا، ولا يصلى عليه، ولا يورث ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يكفن، ولا يرث أحدًا.

وذهب كثير من علماء السلف، والخلف منهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعي إلى أنه لا يكفر، بل يفسق، ويستتاب.

فإن لم يتب قتل حدًا لا كفرًا عند مالك، والشافعي، وغيرهما، وقال أبو حنيفة: لا يقتل، بل يعزر، ويحبس حتى يصلي، وهو قول الزهري وأهل الظاهر، وقد استدل كل فريق بأدلة ليس محل ذكرها هنا، وسأحيل إلى مراجعها. =

ص: 291

وإذا تقرر أن الإيمان فعل القلب، وأنه التصديق على الوجه المذكور، فهو يزيد، وينقص (1) عند الأشاعرة، وأهل الحديث، وقد نقل عن الشافعي.

= وقد وقعت مناظرة بين الشافعي، وأحمد بن حنبل رضي الله عنهما، قال ابن السبكي:"حكى أن أحمد ناظر الشافعي في تارك الصلاة، فقال له الشافعي: يا أحمد أتقول: إنه يكفر؟ قال: نعم. قال: إذا كان كافرًا فبم يسلم؟ قال: يقول: لا إله إلا اللَّه محمد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي: فالرجل مستديم لهذا القول، لم يتركه. قال: يسلم بأن يصلي. قال: صلاة الكافر لا تصح، ولا يحكم بالإسلام بها، فانقطع أحمد، وسكت".

أما الشوكاني، فبعد أن ذكر الخلاف في هذه المسألة قال:"والحق أنه كافر يقتل. أما كفره، فلأن الأحاديث قد صحت أن الشارع سمى تارك الصلاة، بذلك الاسم، وجعل الحائل بين الرجل، وبين جواز إطلاق هذا الاسم عليه هو الصلاة، فتركها مقتض لجواز الإطلاق، ولا يلزمنا شيء من المعارضات التي أوردها المعارضون، لأنا نقول: لا يمنع أن يكون بعض أنواع الكفر غير مانع من المغفرة، واستحقاق الشفاعة، ككفر أهل القبلة ببعض الذنوب التي سماها الشارع كفرًا، فلا ملجئ إلى التأويلات التي وقع الناس في مضيقها".

راجع: المغني لابن قدامة: 2/ 442 - 444، وبداية المجتهد: 1/ 90، والمجموع: 3/ 16 - 17، والروضة: 2/ 146 - 147، والطبقات لابن السبكي: 2/ 61، ونيل الأوطار: 1/ 291 - 292، والإيمان لشيخ الإسلام: ص/ 245، وصحيح مسلم: 1/ 61، وشرح النووي عليه: 2/ 69 - 72.

(1)

هذه المسألة تكاد تكون فرعًا لاختلافهم في معنى الإيمان اصطلاحًا، فذهب أهل الحديث، والأشاعرة، والمعتزلة إلى أن الإيمان يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية، والأدلة من الكتاب، والسنة، وأقوال الأئمة تشهد لهذا القول، وتؤيده. =

ص: 292

ومنعه كثير من العلماء، ونسب إلى أبي حنيفة.

ومنهم من بنى الخلاف على أنه التصديق وحده، أو مع الأعمال، فعلى الأول لا يقبل.

= وقال الإمام أبو حنيفة: لا يزيد، ولا ينقص من جهة المؤمَن به ويزيد، وينقص من جهة اليقين، والتصديق.

وقال ملا علي القاري: "فالتحقيق أن الإيمان. . . لا يقبل الزيادة، والنقصان من حيثية أصل التصديق لا من جهة اليقين، فإن مراتب أهلها مختلفة في كمال الدين، فإن مرتبة عين اليقين، فوق مرتبة علم اليقين".

ومنه المثل المشهور: "ليس الخبر كالمعاينة".

وعلى هذا، فالمراد بالزيادة، والنقصان القوة، والضعف. وقال الإمام مالك -في رواية عنه- الإيمان يزيد، ولا ينقص.

وقال عبد اللَّه بن المبارك: "الإيمان يتفاضل".

وقد ذكر الفخر الرازي أن الخلاف لفظي، وذلك لأن الأعمال من ثمرات التصديق فكل ما دل على أن الإيمان لا يقبل الزيادة، والنقصان كان مصروفًا إلى أصل الإيمان وما دل على أنه قابل لهما، فهو مصروف إلى الإيمان الكامل.

راجع: الفقه الأكبر: ص/ 126 - 127، 202 - 205، والإنصاف للباقلاني: ص/ 57، والمحصل للرازي: ص/ 349 - 350، والمواقف للإيجي: ص/ 388، وشرح المقاصد: 5/ 210 - 214، والإيمان لشيخ الإسلام: ص/ 210 - 211، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 51، وشرح الطحاوية: 2/ 73 - 77، وصحيح مسلم: 1/ 61، وصحيح البخاري: 1/ 18، وشرح مسلم للنووي: 1/ 146، وسنن أبي داود: 2/ 522 - 523، وشرح العقيدة الواسطية: ص/ 138 - 141.

ص: 293

وعلى الثاني: يقبل، وإليه ذهب الإمام الرازي منا (1)، وإمام الحرمين (2).

قالوا: الإيمان الذي هو نفس التصديق البالغ حد الجزم، والإذعان لم يكن يقينًا، لأن اليقين لا يتفاوت.

والجواب: منع عدم تفاوت اليقين، وكفاك قول قدوة الموحدين:{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260](3).

وقول علي رضي الله عنه: "لو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا"، إذ لو لم يكن اليقين قابلًا للزيادة لكان قوله:"ما ازددت يقينًا"، لغوًا.

ولقوله تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 7] فإن الإتيان بـ "ثم" دال على أن عين اليقين أعلى مراتب اليقين. ولأنا لا نشك في أن تصديق النبي أعلى، وأكمل من تصديق أبي بكر، وتصديق أبي بكر أعلى من تصديق سائر الناس، وقس على هذا.

(1) ما ذكره الشارح عن الإمام الرازي هنا هو ما سبق ذكره في الهامش من أنه جمع بين القولين في المسألة به.

وأما مذهبه الذي صرح به فقد قال: "الإيمان عندنا لا يزيد، ولا ينقص" بناء على تعريفه للإيمان اصطلاحًا، وقد سبق ذكره، ثم ذكر مذهب السلف وقال:"والبحث لغوي ولكل واحد من الفرق نصوص". المحصل: ص/ 349 - 350.

(2)

راجع: الإرشاد له: ص/ 335 - 336.

(3)

لقوله تعالى حكاية عن الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260].

ص: 294

قوله: "والإسلام".

أقول: الإسلام -لغة-: الانقياد (1)، واستسلام الجوارح:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14](2) أي: انقدنا، وأذعنا.

(1) قال ابن فارس: "ومن الباب -أيضًا- الإسلام: وهو الانقياد لأنه يسلم من الإباء، والامتناع" معجم مقاييس اللغة: 3/ 90.

وراجع: مختار الصحاح: ص/ 311، والمصباح المنير: 1/ 286 - 287.

(2)

وفي حديث سعد: قسم الرسول قسمًا على رهط، وترك فيهم من لم يعطه، وهو أعحبهم إليَّ، فقلت: يا رسول اللَّه ما لك عن فلان؟ فواللَّه إني لأراه مؤمنًا، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"أو مسلمًا أقولها ثلاثًا ويردها على ثلاثًا. . . " فذهب كثير من أهل الحديث، والسنة، وغيرهم إلى أن الإسلام -المنفي في الآية والحديث عن أهله الإيمان- هو إسلام يثابون عليه، ويخرجهم من الكفر، والنفاق.

وذهب فريق آخر إلى أن الإسلام فيهما: هو الاستسلام خوف السبي، والقتل مثل إسلام المنافقين، فإن الإيمان لم يدخل قلوبهم، ومن لم يدخل الإيمان في قلبه فهو منافق. وهذا احتيار البخاري، ومحمد بن نصر المروزي.

وجمع شيخ الإسلام بين القولين، بأن خروجهم من الإيمان لا يعني عند من أخرجهم أنه لم يبق معهم من الإيمان شيء، بل هذا قول الخوارج، والمعتزلة، وإنما هم فساق يخرجون من النار بالشفاعة، وأن معهم إيمانًا يخرجون به من النار، لكنه غير كامل، وتام، وليس إيمانًا مطلقًا يستحقون به الثواب، ودخول الجنة بداية كمن اتصف به.

راجع: صحيح مسلم: 4/ 103، وشرحه للنووي: 7/ 148 - 150، والإيمان لشيخ الإسلام: ص/ 225 - 233، وتفسير ابن كثير: 4/ 219 - 220، ومجموع الفتاوى: 7/ 472 وما بعدها، وصحيح البخاري: 1/ 14.

ص: 295

وأما شرعًا (1): فلا يوجد مؤمن لا يكون مسلمًا، ولا مسلم لا يكون مؤمنًا، وهذا مراد الجمهور بقولهم: مترادفان لاتحاد مفهوم الاسمين كما هو شأن الترادف اللغوي.

(1) عرف الإسلام اصطلاحًا: لأنه الخضوع والانقياد لما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقال الزمخشري: "فاعلم أن ما يكون من الإقرار باللسان من مواطأة القلب، فهو الإسلام، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان" قال الشريف الجرجاني: "هذا مذهب الشافعي، وأما مذهب أبي حنيفة فلا فرق بينهما".

قلت: قد تبين لي بعد الاطلاع على ما قاله العلماء رحمهم الله ما يلي: إذا جمع بين الإسلام والإيمان، فليس لنا أن نجيب بغير ما أجاب به النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور وسيأتي في الشرح.

وعلى هذا فيكون الإسلام: هو الأعمال الظاهرة كالشهادتين، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، ويكون الإيمان ما في القلب من الإيمان باللَّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وهذا صريح حديث أنس عند أحمد:"الإسلام علانية، والإيمان في القلب" وأما إذا أفرد اسم الإيمان، فإنه يتضمن الإسلام، والأعمال الصالحة كما في حديث:"الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها لا إله إلا اللَّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" وكما في حديث وفد عبد القيس حيث فسر الإيمان بأركان الإسلام، وأما هل يكون مسلمًا، ولا يقال له: مؤمن؟ تقدم بيانه، وتحريره قبل هذا.

وأما الإسلام فهل يستلزم الإيمان، فيه خلاف، فالجمهور نعم كما ذكر الشارح. وقال الحافظ ابن كثير:"الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأل عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقى من الأعم إلى الأخص، ثم للأخص منه". =

ص: 296

وهذا لا يمكن أن يشك فيه أحد إذ لا يتصور أن يكون شخص عند اللَّه ليس بمؤمن، ولا العكس.

وما ورد في الآيات من إثبات أحدهما، وسلب الآخر مثل:{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14].

والعطف مثل قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب: 35].

إنما هو بالنظر إلى المعاني اللغوية (1)، ولذلك ذكر الصوم، والصدقة بعدهما بطريق العطف، مع الإجماع (2) على عدم

= وذكر النووي عن ابن الصلاح: أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان، وأن كان مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا.

ثم قال أبو عمرو: "وهذا تحقيق وافر بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان، والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون، وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث، وغيرهم".

راجع: صحيح مسلم: 1/ 35، 46، وصحيح البخاري: 1/ 21 - 22، وشرح النووي على مسلم: 1/ 144 - 148، ومجموع الفتاوى: 7/ 14، والإيمان لشيخ الإسلام: ص/ 246، وتفسير ابن كثير: 4/ 20، والكشاف: 2/ 569، والتعريفات: ص/ 23، ومسند أحمد: 2/ 379، 414، 445، 3/ 135، وشرح المقاصد: 5/ 206.

(1)

راجع: تشنيف المسامع: ق (168/ أ)، والغيث الهامع: ق (167/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 417، وهمع الهوامع: ص/ 456.

(2)

آخر الورقة (145/ ب من أ).

ص: 297

خروجهما عن الإسلام، والإيمان. قيل: قد فصل في سؤال جبريل بين الإيمان، والإسلام، ولا شك أن سؤال جبريل لم يكن إلا عن الإيمان، والإسلام الشرعيين.

فقال: الإيمان: "أن تؤمن باللَّه، وملائكته، وكتبه، ورسله" والإسلام: "أن تشهد أن لا إله إلا اللَّه، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت"(1).

وهذا السؤال، والجواب صريحان في أنهما حقيقتان مختلفتان (2) شرعًا.

الجواب: أن سؤال جبريل كان عن شرائع الإسلام، والدليل عليه أنه جعل ما ذكره في الإسلام في حديث جبريل جوابًا لوفد عبد القيس حين قال لهم:"أتدرون ما الإيمان باللَّه وحده؟ " قالوا: اللَّه، ورسوله أعلم.

قال: "شهادة أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان"(3).

فالتحقيق -الذي لا محيد عنه-: أنهما في الشرع متحدان لا يمكن وجود أحدهما بدون الآخر.

والتوفيق بين الآيات، والأحاديث بما ذكرناه لا مزيد عليه.

(1) راجع: صحيح البخاري: 1/ 20 - 21، وصحيح مسلم: 1/ 30 - 31.

(2)

في (أ): "حقيقة مختلفان".

(3)

راجع: صحيح البخاري: 1/ 21 - 22، 32، وصحيح مسلم: 1/ 35.

ص: 298

وقول المصنف: "الإسلام أعمال الجوارح، ولا يعتبر إلا مع الإيمان" ملاحظ المعنى اللغوي، ولا حاجة إليه.

"والإحسان (1) أن تعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك".

معناه: كمال الإخلاص، وأن الواجب على العابد كف النظر، والخاطر عما سواه تعالى؛ إذ من تصور عظمة اللَّه، وأيقن أنه ناظر إليه بلا حجاب، وهو أقرب من حبل الوريد يستقيم في عبادته غاية الاستقامة.

قوله: "والفسق لا يزيل الإيمان".

أقول: اختلفت الأمة في صاحب الكبيرة، فعند أهل الحق: مؤمن فاسق (2)، ولا واسطة بين الإيمان والكفر.

(1) الإحسان -لغة-: فعل ما ينبغي أن يفعل من الخير، وأحسن فلان إذا فعل الحسن كما قيل: أجاد إذا فعل الجيد، وأحسنت الشيء عرفته وأتقنته.

وفي الشريعة: أن تعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

كما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرفه الجرجاني الشريف بنحو ذلك.

راجع: مختار الصحاح: ص/ 136 - 137، والمصباح المنير: 1/ 136، والتعريفات: ص/ 12.

(2)

الفسق -لغة-: الخروج يقال: فسق -من باب قعد- يفسق فسوقًا فهو فاسق، والجمع فساق، وفسقة، وفسقت الرطبة، إذا خرجت، وظهرت من قشرها، والفويسقة الفأرة قال ابن الأعرابي:"لم يسمع في كلام الجاهلية، ولا في شعرهم فاسق، وهذا عجب، وهو كلام عربي". =

ص: 299

وعند الخوارج: كافر، فلا واسطة أيضًا.

وعند المعتزلة: الفاسق ليس بمؤمن، ولا كافر، وهو مخلد في النار عندهم، وهذا هو القول بالمنزلة بين المنزلتين (1).

= وقد نطق به القرآن الكريم كقوله تعالى: {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: 4]، وقوله:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6].

والفسق أعم من الكفر، ويقع بالقليل من الذنوب، وبالكثير لكن تعورف فيما كان كثيرًا، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع، وأقر به، ثم أخل ببعض أحكامه، أو بجميعها.

واصطلاحًا: هو الخروج عن طاعة اللَّه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.

راجع: معجم مقاييس اللغة: 4/ 502، ومختار الصحاح: ص/ 503، والمفردات للراغب: ص/ 380، والمصباح المنير: 2/ 473، واللسان: 12/ 182 - 183، والحيوان للجاحظ: 1/ 330، 5/ 280، والتعريفات: ص/ 164.

(1)

الفسق بارتكاب كبيرة لا يزيل اسم الإيمان لبقاء التصديق الذي هو حقيقة الإيمان، فهو مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، ولا يعطى اسم الإيمان المطلق لنفي الكتاب، والسنة عنه ذلك الإطلاق، فمن مات من المؤمنين على كبيرته، وفسقه، بأن لم يتب، فهو تحت مشيئة اللَّه تعالى إما أن يعاقبه بإدخاله النار بفترة لا نعلمها، ثم يدخله الجنة لموته على الإيمان ولا يمكن خلوده في النار، وإما أن يسامحه، فلا يدخله النار، ويدخل الجنة إما بمجرد فضل اللَّه تعالى، أو بفضله، مع الإذن منه للنبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة له، وبه قال أهل الحق، فأما الخوارج، والمعتزلة، فيخرجونه من اسم الإيمان، والإسلام معًا، لأنهما عندهم واحد، لكن الخوارج يعتبرونه كافرًا، والمعتزلة تنزله منزلة بين منزلة الإيمان والكفر، مع اتفاقهم على خلوده في النار كما ذكر الشارح وذهب الحسن البصري إلى أن مرتكب الكبيرة منافق. =

ص: 300

لنا: الآيات الدالة صريحًا على أنه تعالى يغفر للعاصين، مثل قوله:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 116]، وقوله:{إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53].

وفي الحديث: "من قال: لا إله إلا اللَّه دخل الجنة، وإن زنى، وإن سرق"(1).

"ويخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان"(2)، والقيد بالتوبة في جميع الموارد خلاف الظاهر، بل خلاف الإجماع على ذلك قبل ظهور أهل البدع، والأهواء.

= ومذهب جمهور الخوارج أن كل معصية كفر سواء كانت كبيرة، أو صغيرة، ومنهم من فرق بين الصغيرة، والكبيرة، وعند الأزارقة منهم مرتكب الكبيرة مشرك، وعند الزيدية كافر لنعمه تعالى.

راجع: الفقه الأكبر مع شرحه: ص/ 102 - 105، والمحصل للرازي: ص/ 349، والمعالم له: ص/ 131، والمواقف: ص/ 389، والإيمان لشيخ الإسلام: ص/ 228، وشرح المقاصد: 5/ 200 - 206، وتشنيف المسامع: ق (168/ أ - ب)، والغيث الهامع: ق (167/ ب - 168/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 418، وهمع الهوامع: ص/ 460.

(1)

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فجلست إليه، فقال:"ما من عبد قال: لا إله إلا اللَّه، ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق. قلت: وإن زنى، وإن سرق؟ قال: وإن زنى، وإن سرق ثلاثًا ثم قال -في الرابعة-: على رغم أنف أبي ذر" قال: فخرج أبو ذر، وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر.

راجع: صحيح مسلم: 1/ 66، وصحيح البخاري: 2/ 85.

(2)

راجع: صحيح البخاري: 1/ 18، 9/ 150، وصحيح مسلم: 1/ 117 - 118.

ص: 301

قالوا: قال اللَّه تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، وقال -في تارك الحج-:{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97].

وقال صلى الله عليه وسلم: "من مات، ولم يحج، فليمت إن شاء يهوديًا، وإن شاء نصرانيًا"(1).

(1) قال الترمذي: حدثنا محمد بن يحيى القطعي البصري، أخبرنا مسلم بن إبراهيم أخبرنا هلال بن عبد اللَّه مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي، أخبرنا أبو إسحاق الهمداني عن الحارث عن علي قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من ملك زادًا، وراحلة تبلغه إلى بيت اللَّه، ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًا، أو نصرانيًا، وذلك اللَّه يقول في كتابه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97] ".

قال الترمذي: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال، وهلال بن عبد اللَّه مجهول، والحارث يضعف في الحديث" وهو الحارث بن عبد اللَّه الهمداني الأعور كذبه الشعبي، وغيره، ورواه ابن جرير، وابن مردويه بسندهما.

قال البخاري: "هلال بن عبد اللَّه مولى ربيعة بن عمرو منكر الحديث".

وقال ابن عدي: "هذا الحديث ليس بمحفوظ".

وقد رواه أبو بكر الإسماعيلي الحافظ بسنده إلى عبد الرحمن بن غنم أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: "من أطاق الحج، فلم يحج فسواء عليه مات يهوديًا، أو نصرانيًا".

قال الحافظ ابن كثير: "هذا إسناد صحيح إلى عمر رضي الله عنه".

راجع: تحفة الأحوذي: 3/ 540 - 541، وتفسير الطبري: 4/ 12، وتفسير ابن كثير: 1/ 387، والميزان للذهبي: 4/ 315.

ص: 302

وقال: "من ترك الصلاة عامدًا، فقد كفر"(1).

الجواب: أن المراد بمن لم يحكم بما أنزل اللَّه هم اليهود سوق الكلام دل عليه، والأمر كذلك، فإنهم كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه، ويبدلون كلام اللَّه وأحكامه (2).

(1) لم أعثر على الحديث بهذا اللفظ مع أن صاحب أسنى المطالب ذكره ثم قال: "رواه الدارقطني بسند ضعيف، وفيه مقال"، فرجعت إلى سنن الدارقطني فلم يروه بهذا اللفظ، والذي رواه مسلم، وأحمد، والدارقطني، وابن ماجه، وغيرهم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة".

وروى أحمد، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني وغيرهم عن بريدة، وأبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:"العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها، فقد كفر".

وعند ابن ماجه -أيضًا-: "ليس بين العبد، والشرك إلا ترك الصلاة فإذا تركها، فقد أشرك" ورواه الدارمي كذلك دون الشرط الأخير، فهذه الأحاديث مصرحة بكفر تارك لصلاة، وقد تقدم الخلاف في ذلك، وبيان مذاهب العلماء: ص/ 291.

راجع: صحيح مسلم: 1/ 62، ومسند أحمد: 2/ 370، 3/ 389، وسنن النسائي: 1/ 231، وسنن ابن ماجه: 1/ 333 - 334، وسنن الدارقطني: 2/ 52 - 53، وأسنى المطالب: ص/ 209 - 210، وسنن الدارمي: 1/ 280.

(2)

اختلف العلماء فيمن المراد بقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ، {لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 44، 45، 47].

فذهب فريق إلى أن المراد بهم اليهود لأن السياق يدل عليه، ومنهم من قال:{الْكَافِرُونَ} للمشركين، و {الظَّالِمُونَ} لليهود، و {الْفَاسِقُونَ} للنصارى، وهذا منقول عن ابن عباس، وجابر بن زيد، وابن أبي زائدة، وابن شبرمة، واختاره ابن العربي قائلًا: لأنه ظاهر الآيات. =

ص: 303

وحديث الحج، والصلاة محمول على التغليظ، أو على الاستحلال جمعًا بين الأدلة.

وقول المصنف: "والمؤمن -ميتًا فاسقًا- تحت المشيئة"، تفريع على أن الفسق لا يزيل الإيمان، فكان الأولى ذكره بالفاء.

والحاصل: أنه بعد ثبوت كونه مؤمنًا، ولم يخرج بالفسق عن الإيمان، إما أن يغفر اللَّه له ما أسلف:{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31، التحريم: 1]، أو يعاقبه قدرًا، تتعلق به إرادته أو يقبل فيه الشفاعة إما قبل الدخول النار، وإما بعده، فالمآل إلى الجنة، وعليه إجماع خير القرون.

قوله: "وأول شافع".

= وذهب فريق آخر كطاووس، وغيره إلى أنه ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر.

قلت: ولعل الذي يوافق مذهب أهل السنة هو التفصيل: فإن حكم الحاكم بما عنده بناء على أنه من عند اللَّه، وهو ليس كذلك فهذا تبديل له، وقد فعله اليهود، فهذا يوجب الكفر بلا خلاف، وإن حكم بما عنده بناء على أنه أولى من حكم اللَّه تعالى معتقدًا ذلك فهذا كفر بلا خلاف.

وأما إن حكم بما عنده هوى، ومعصية، مع اعتقاده بأن حكم اللَّه هو الحق، فهذا ذنب، وكبيرة تدركه المغفرة على أصل أهل السنة في الغفران للمذنبين.

راجع: أحكام القرآن لابن العربي: 2/ 624، وتفسير ابن كثير: 2/ 60، وفتح القدير للشوكاني: 2/ 42.

ص: 304

أقول: لفظه صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شافع، وأول مشفع"(1) أتى به المصنف تبركًا به.

وله صلوات اللَّه عليه خمس شفاعات (2):

(1) رواه الدارمي عن جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا قائد المرسلين، ولا فخر، وأنا خاتم النبيين، ولا فخر، وأنا أول شافع، وأول مشفع، ولا فخر". وقد روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شفيع في الجنة".

كما رواه أيضًا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر، وأنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة، ولا فخر، وأنا أول شافع يوم القيامة، ولا فخر".

وروى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنا أول الناس يشفع في الجنة، وأنا أكثر الأنبياء تبعًا".

وفي رواية: "أنا أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة، وأنا أول من يقرع باب الجنة".

وفي رواية: "أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت وإن من الأنبياء نبيًا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد".

راجع: صحيح مسلم: 1/ 130، ومسند أحمد: 3/ 2، 140، وسنن الدارمي: 1/ 27.

(2)

الشفاعة -لغة-: من الشفع، وهو ضم الشيء إلى مثله، يقال: شفعت في الأمر شفعًا، وشفاعة طالبت بوسيلة، وذمام، والشفاعة: الانضمام إلى آخر ناصرًا له، وسائلًا عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمة، ومرتبة إلى من هو أدق، ومنه الشفاعة في القيامة.

واصطلاحًا: هي السؤال في التجاوز عن الذنوب من الذي وقع الجناية في حقه، والشفاعة من الأمور التي ثبتت بالكتاب، والسنة، وأحاديثها متواترة. =

ص: 305

أولاها، وعظماها: ما يعم نفعها الأولين، والآخرين حتى الأنبياء والمرسلين، وهو في تعجيل الحساب، والإراحة من طول الموقف دل عليه أحاديث كثيرة (1).

= وقد بين اللَّه الشفاعة المقبولة عنده بأنها التي تكون بإذنه، ولمن يرتضي قوله، وفعله، كما قال تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255]، وقوله:{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، وعلى هذا أجمع أهل الحق، وسلف الأمة.

وذهب الخوارج، والمعتزلة إلى نفي الشفاعة جملة، بناءً على أصلهم الفاسد من أن العبد يستوجب العقوبة بالمعصية، ولا يجوز العفو عنه كما استدلوا بعمومات وردت في نفي الشفاعة في القرآن الكريم، وهي عند السلف خاصة بنفي الشفاعة عن الكفار والمشركين لا في غيرهم، إلا أن المعتزلة اعترفوا بالشفاعة التي لزيادة الثواب، ورفع الدرجات وحملوا الآيات الواردة في إثبات الشفاعة، والأحاديث عليها.

وأما النصارى، والمشركون، وغلاة المبتدعين يجعلون شفاعة من يعظمونه عند اللَّه كالشفاعة المعروفة في الدنيا، وهذا باطل لما تقدم ذكره.

راجع: المفردات للراغب: ص/ 663، ومختار الصحاح: ص/ 341، والمصباح المنير: 1/ 317، والتعريفات: ص/ 127، وشرح النووي على مسلم: 3/ 35، والطحاوية مع شرحها: 1/ 274 - 280، والمعالم للرازي: ص/ 133، والعقيدة الواسطية مع شرحها: ص/ 127 - 128، والمواقف: ص/ 380، وشرح المقاصد: 5/ 156 - 161.

(1)

وهذه هي الشفاعة العظمى، وهي المقام المحمود الذي يحمده عليه أهل الموقف جميعًا. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] وسئل عنها - قال: "الشفاعة".

قال ابن جرير: "قال أكثر أهل التأويل: ذلك هو المقام الذي يقومه محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم". =

ص: 306

الثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب (1)، اللهم يا جزيل العطاء، ويا من يهب ما يشاء لمن يشاء، -لا لغرض، ولا لجزاء- اجعلنا -بكرمك- في زمرتهم، وإن لم نكن من الفائزين بمنزلتهم.

= وقال ابن كثير: "أي افعل الذي أمرتك به لنقيمك يوم القيامة مقامًا محمودًا يحمدك فيه الخلائق كلهم، وخالقهم تبارك وتعالى".

وقد ورد فيها أحاديث كثيرة كحديث أنس، وأبي هريرة، وهو حديث طويل يصف شدة الموقف، وهوله، وأنهم يأتون آدم، ونوحًا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، وكلهم يعتذر، ويحيلهم على غيره، ويذكر ذنبًا له في الدنيا إلا عيسى لم يذكر ذنبًا، بل يقول:"لست هناكم ائتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم عبدًا غفر اللَّه له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، فيأتوني، فأنطلق حتى أستأذن على ربي، فيؤذن لي، فإذا رأيت ربي وقعت ساجدًا، فيدعني ما شاء اللَّه، ثم يقال: ارفع رأسك، وسل تعطه، وقل يسمع، واشفع تشفع" الحديث.

راجع: صحيح البخاري: 6/ 21 - 22، وصحيح مسلم: 1/ 127 - 128، ومسند أحمد: 2/ 293، 436، 4/ 174، 5/ 3، وتحفة الأحوذي: 7/ 121 - 127، وتفسير الطبري: 15/ 97، وتفسير ابن كثير: 3/ 56، وسنن الدارمي: 2/ 327.

(1)

ويمكن أن يستدل لهذا النوع من الشفاعات بحديث أبي هريرة، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفًا بغير حساب، فقال رجل: يا رسول اللَّه ادع اللَّه أن يجعلني منهم، قال: اللهم اجعله منهم، ثم قام آخر، فقال: يا رسول اللَّه ادع اللَّه أن يجعلني منهم، قال: سبقك بها عكاشة"، والشاهد من الحديث هو دعاؤه صلى الله عليه وسلم لعكاشة بن محصن الأسدي أن يجعله اللَّه من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.

راجع: صحيح البخاري: 7/ 189، وصحيح مسلم: 1/ 136، ومسند أحمد: 1/ 271، 401، وتحفة الأحوذي: 7/ 129، 139 - 141، وشرح النووي على مسلم: 3/ 88 - 94، وسنن الدارمي: 2/ 328.

ص: 307

وهذه الشفاعة -أيضًا- خاصة به صلى الله عليه وسلم والعجب ممن توقف في هذه الخصوصية (1)، وقال: لا دليل عليه (2).

قلت: الدليل -عليه- الإجماع على أن هذه الأمور لا تدرك بالعقل، ولم يرد النقل إلا في حقه، فلا يثبت لغيره لعدم دليل ثبوتها، والأصل العدم، والبقاء على ما كان.

الثالثة: في عدم دخول النار لمن استحق ذلك.

الرابعة: في إخراج من أدخل النار من الموحدين (3).

(1) جاء في هامش (أ، ب): "رد على ابن دقيق العيد، وعلى والد المصنف".

(2)

وحكى شراح كلامه عن ابن دقيق العيد بأنه قال: "لا أعلم الاختصاص فيها".

راجع: تشنيف المسامع: ق (169/ أ)، والغيث الهامع: ق (168/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 418، وهمع الهوامع: ص/ 460.

(3)

واشتد نكران الخوارج، والمعتزلة لهذه، والتي ذكرت قبلها بناءً على زعمهم الفاسد من أن من استحق النار لا بد أن يدخلها، ومن دخلها لا يخرج منها لا بشفاعة، ولا بغيرها، والأحاديث المستفيضة المتواترة ترد على زعمهم، وتبطله، وهذه الشفاعة يشاركه فيها الملائكة، والنبيون، والمؤمنون، وهي تتكرر منه صلى الله عليه وسلم مرات كما ورد ذلك في الحديث المتفق عليه وفيه: "فأقول: رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة، أو شعيرة من إيمان، فأخرجه منها، فأنطلق، فأفعل، ثم أرجع إلى ربي. . . فأقول: أمتي أمتي، فيقال -لي-: انطلق، فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فأخرجه منها، فأنطلق، فأفعل، ثم أعود إلى ربي. . . فأقول: أمتي أمتي، فيقال -لي-: انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان، فأخرجه من النار فانطلق، فافعل، ثم أرجع فأقول: يا رب ما بقي =

ص: 308

الخامسة: في رفع الدرجات لأهل الجنة (1).

= في النار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يخرج من النار من قال: لا إله إلا اللَّه، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا اللَّه، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال: لا إله إلا اللَّه، وكان في قلبه ما يزن من الخير ذرة".

وعن أنس رضي الله عنه -أيضًا- قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي" وغيره كثير من الأحاديث التي تثبت شفاعته لأهل الكبائر من أمته.

راجع: صحيح البخاري: 9/ 149 - 150، وصحيح مسلم: 1/ 126، ومسند أحمد: 1/ 5، 282، 3/ 213، وتحفة الأحوذي: 7/ 127، 8/ 585 - 588، وسنن ابن ماجه: 2/ 583، وسنن الدارمي: 2/ 328، وسنن أبي داود: 2/ 537.

(1)

وحكي عن النووي جواز اختصاصه بها صلى الله عليه وسلم، وقد أوصل بعضهم الشفاعات إلى أكثر مما ذكر الشارح، وبعضها قد يدخل فيما ذكره الشارح. ومما ذكر زيادة على الذي في الشرح شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة، وتقدم فيها حديث أنس وغيره وفيه:"أنا أول شفيع في الجنة"، وشفاعته صلى الله عليه وسلم في تخفيف العذاب عمن يستحقه كما في حق عمه أبي طالب لحديث العباس بن عبد المطلب أنه قال: يا رسول اللَّه هل نفعت أبا طالب بشيء، فإنه كان يحوطك، ويغضب لك؟ قال:"نعم هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار" وكذا ما ورد في حق عمه أبي لهب وهذه خاصة به صلى الله عليه وسلم.

وشفاعته في التخفيف من عذاب القبر، كما في حديث ابن عباس أنه مر بقبرين يعذبان، فقال صلى الله عليه وسلم:"إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر، فكان يمشي بالنميمة، ثم أخذ جريدة رطبة، فشقها نصفين، ثم غرز في كل قبر واحدة، فقال: يا رسول اللَّه لم صنعت هذا؟ فقال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا"، وفي رواية:"بشفاعتي".

ص: 309

وهذه المرتبة لم يخالف فيها المعتزلة، وحملوا الآيات، والأحاديث عليها (1).

قوله: "ولا يموت أحد إلا بأجله"(2).

= راجع: صحيح البخاري: 2/ 114، وصحيح مسلم: 1/ 134، 166، وشرح الطحاوية: 1/ 279 - 280، وشرح العقيدة الواسطية: ص/ 129، وتشنيف المسامع: ق (169/ أ)، والغيث الهامع: ق (168/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 418، وهمع الهوامع: ص/ 460.

(1)

آخر الورقة (129/ ب من ب).

(2)

الآجال: يعبر بها عن الأوقات، فأجل كل شيء وقته، وأجل الحياة وقتها المقارن لها، وكذا أجل الوفاة، ولا يموت أحد إلا بأجله، وهو الوقت الذي كتب اللَّه تعالى في الأزل نهاية حياته فيه بقتل، أو في غيره، وهو في غير المقتول إجماع بين الأمة وإنما الخلاف فيمن مات بالقتل.

فالمعتمد، والمنصور من الأقوال أنه مات بأجله، وآخر عمره، وهو قول أهل السنة، والجماعة، واختاره من المعتزلة أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم ولهم أدلة من الكتاب والسنة سيأتي ذكرها في الشرح.

وذهب باقى المعتزلة إلى أن القاتل قطع أجله المضروب له، فمات قبل وقته، وأنه لو لم يقتله لعاش إلى أجله المضروب له.

وزعم الكعبي أن للمقتول أجلين: القتل، والموت، وأنه لو لم يقتل لعاش إلى أجله الذي هو الموت.

وزعمت الفلاسفة أن للحيوان أجلًا طبيعيًا هو وقت موته بتحلل رطوبته، وانطفاء حرارته الغريزيتين، وآجالًا اخترامية بحسب الآفات والأمراض.

راجع: الإرشاد للجويني: ص/ 303 - 305، وشرح المقاصد: 4/ 314 - 315، ومجموع الفتاوى: 8/ 516، وتشنيف المسامع: ق (169/ أ)، والغيث الهامع: ق (168/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 418 - 419، وهمع الهوامع: ص/ 461، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 160 - 161.

ص: 310

أقول: الأجل يطلق على آخر الحياة، وعلى جميع المدة، والخلاف في الأول، وليس الخلاف في الموت مطلقًا، بل الخلاف في المقتول.

فعند أهل الحق أنه ميت بأجله الذي علم اللَّه أنه آخر عمره، والقتل سبب من الأسباب كالحمى، والطاعون، وخالفت المعتزلة في ذلك.

لنا: قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً} [الأعراف: 34].

والأحاديث على أن كل حي لا يموت قبل أجله متكثرة متواترة (1) المعنى قالوا: قال اللَّه -تعالى-: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11].

وفي الحديث: "الصدقة تزيد في العمر"(2).

(1) وهي كثيرة منها حديث أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: اللهم أمتعني بزوجي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وبأبي أبي سفيان، وبأخي معاوية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"قد سألت اللَّه لآجال مضروبة، وأيام معدودة وأرزاق مقسومة لن يعجل شيئًا قبل حله، أو يؤخر شيئًا عن حله، ولو كنت سألت اللَّه أن يعيذك من عذاب في النار، أو عذاب في القبر كان خيرًا، وأفضل".

وعن عمران بن حصين قال: إني عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه قوم من بني تميم، فقال: اقبلوا البشرى يا بني تميم، قالوا: بشرتنا فأعطنا، فدخل ناس من أهل اليمن، فقال: اقبلوا البشرى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم قالوا: قبلنا جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال:"كان اللَّه ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السماوات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء".

راجع: صحيح البخاري: 9/ 152، وصحيح مسلم: 8/ 55.

(2)

ورد بلفظ: "صدقة المرء المسلم تزيد في العمر، وتمنع ميتة السوء، ويذهب اللَّه تعالى بها الفخر، والكبر"، رواه أبو بكر بن مقسم في جزئه عن عمرو بن عوف. =

ص: 311

قلنا: الضمير في الآية لمطلق المعمر، أي: المعمرون يزيد بعضهم في العمر على بعض كل ذلك في اللوح مسطور كما يقولون: ثمن هذا درهم ونصف، أي: نصف درهم آخر لا نصف ذلك الدرهم.

ومعنى الحديث: الزيادة بمعنى البركة كما في الطعام القليل الذي يسمى عليه، أو بالنظر إلى ما سطر في اللوح بأن فلانًا إن تصدق يوم كذا بدرهم، فله من العمر كذا، وإلا فكذا، وإليه أشار بقوله:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39].

وأما بالنظر إلى علمه الأزلي، فلا تفاوت، ولا زيادة، ولا نقصان (1). وبما ذكرنا يجمع بين قوله:{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] وبين قوله: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [الرعد: 39].

= كذا قاله السيوطي، وروى القضاعي عن ابن مسعود رضي الله عنه:"صلة الرحم تزيد في العمر، وصدقة السر تطفئ غضب الرب"، وعند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"حسن الخلق نماء، وسوء الخلق شؤم، والبر زيادة في العمر، والصدقة تمنع ميتة السوء".

راجع: المسند له: 3/ 502، والجامع الصغير للسيوطي: 2/ 44.

(1)

ذكر شيخ الإسلام أن الأجل أجلان: أجل مطلق يعلمه اللَّه، وأجل مقيد، ثم بين معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"من سره أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره فليصل رحمه" أن اللَّه أمر الملك أن يكتب له أجلًا، وقال: إن وصل رحمه زدته كذا، وكذا، والملك لا يعلم ذلك، لكن اللَّه يعلم ما يستقر عليه الأمر، فإذا جاء ذلك لا يتقدم، ولا يتأخر، لأن =

ص: 312

والمعتزلة: على أنه لو لم يقتله القاتل لعاش أكثر من ذلك، وهو الأمد الذي علم اللَّه أنه أجله لولا القتل (1).

وتشبثوا بظواهر مثل: أنه لو كان ميتًا بأجله لم يجب على القاتل القصاص، ولا الضمان بذبح شاة الغير، وبأنه قد يقتل في معركة جمع تقتضي العادة بامتناع موتهم.

الجواب (2): أن القصاص ليس له تعلق بالموت، بل بالفعل المنهي الذي صدر عنه، وتجاوز حدود الشرع (3).

= اللَّه يعلم ما كان قبل أن يكون، وقد كتب ذلك، فهو يعلم أن هذا يموت بالبطن، أو ذات الجنب، أو الهدم، أو الغرق أو غير ذلك من الأسباب، وهذا يموت مقتولًا، إما بالسم، وإما بالسيف، وإما بالحجر، وإما بغير ذلك من أسباب القتل حين يأتيه أجله، وتنتهي مدته.

راجع: مجموع الفتاوى: 8/ 516 - 517.

(1)

هو قول القدرية منهم، وقال بعض نفاة الأسباب: إنه يموت وبه قال العلاف قال شيخ الإسلام: "وكلاهما خطأ، فإن اللَّه علم أنه يموت بالقتل، فإذا قدر خلاف معلومه كان تقديرًا لما لا يكون لو كان كيف كان يكون. . . فلو فرضنا أن اللَّه علم أنه لا يقتل أمكن أن يكون قدر موته في هذا الوقت، وأمكن أن يكون قدر حياته إلى وقت آخر، فالجزم بأحد هذين على التقدير الذي لا يكون جهل". مجموع الفتاوى: 8/ 517 - 518، وانظر: شرح الجوهرة: ص/ 162.

(2)

آخر الورقة (146/ ب من أ).

(3)

وعلم اللَّه بذلك، وكتابته له لا يمنع المدح، والذم، والثواب، والعقاب.

ص: 313

وقولكم: العادة تقتضي بامتناع ذلك ممنوع إذ قد يموت في الطاعون والزلزال أضعاف ما يموت في معركة القتال.

قوله: "والنفس باقية بعد البدن".

أقول: النفس، والروح لفظان مترادفان عند أهل الحق (1).

(1) اختلف أهل المقالات اختلافًا كثيرًا في حقيقة النفس هل هي جزء من أجزاء البدن، أو عرض من أعراضه، أو جسم مساكن له مودع فيه أو جوهر مجرد؟ وهل الروح هي النفس، أو غيرها؟ وهل الأمارة، واللوامة، والمطمئنة نفس واحدة لها هذه الصفات أو هي ثلاث أنفس؟

أما حقيقة النفس، والروح، فقد ذكر الفخر الرازي أن الإنسان عبارة عن هذا البدن، والهيكل المخصوص، ونسبه إلى الجمهور، وأنه مختار أكثر المتكلمين، وضعفه في المحصل، وصحح غيره في المعالم، ولعله اختاره في المطالب، وقد ذكر ابن القيم الخلاف في ذلك، ورد على الفخر الرازي قوله السابق وذكر بأن الناس لهم أربعة أقوال في مسمى الإنسان، هل هو الروح فقط، أو البدن فقط، أو مجموعهما، أو كل واحد منهما، وكذا الخلاف في كلامه هل هو اللفظ فقط، أو المعنى فقط، أو مجموعهما، أو كل واحد منهما، فالخلاف بينهم في الناطق، ونطقه، ثم اختار بأن النفس: جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون، والنار في الفحم.

وقال: "هذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواه باطلة، وعليه دل الكتاب، والسنة، وإجماع الصحابة، وأدلة العقل، والفطرة" ثم ذكر الأدلة، وعقب بذكر أدلة المخالفين، ثم رد عليها، وهو اختيار الشارح كما هو ظاهر في تعريفه للنفس والروح وسيأتي". =

ص: 314

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وأما أنهما مترادفان فهو مذهب الجمهور.

وذهبت فرقة من أهل الحديث، والفقه، والتصوف إلى أنهما متغايران.

وذكر ابن القيم الخلاف في ذلك، واختار بأن الروح التي تتوفى، وتقبض هي روح واحدة، وهي النفس.

وأما ما يؤيد اللَّه به أولياءه من الروح، فهى روح أخرى غير هذه الروح كما قال تعالى:{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22].

وكذا الروح التي يلقيها على من يشاء من عباده هي غير الروح التي في البدن، وأما القوى التي في البدن، فهى تسمى -أيضًا- أرواحًا كالروح الباصر، والروح السامع، والروح الشام، فهذه الأرواح قوى مودوعة في البدن تموت بموت البدن، وهي غير الروح التي لا تموت بموت البدن، ولا تبلى كما يبلى، كما يطلق الروح على ما هو أخص من هذا كله فللعلم روح، وللإحسان روح، وللإخلاص روح، وللمحبة والإنابة روح، وللتوكل والصدق روح، والناس متفاوتون في هذه الأرواح أعظم تفاوت قوة، وضعفًا.

وأما هل النفس واحدة، أو ثلاث؟ ففيه خلاف أيضًا، فذهب البعض إلى أنها ثلاث أنفس: مطمئنة، ولوامة، وأمارة، وأن من الناس من تغلب عليه هذه، ومنهم من تغلب عليه الأخرى، وذهب آخرون إلى أنها نفس واحدة لها تلك الصفات، وقد ذكر ابن القيم الخلاف ثم قال:"والتحقيق أنها نفس واحدة، ولكن لها صفات، فتسمى باعتبار كل صفة باسم. . . " الروح: ص/ 179.

راجع: مقالات الإسلاميين: ص/ 333 - 337، والمحصل للرازي: ص/ 327 - 331، والمعالم له: ص/ 117، والمواقف: ص/ 229، 258 - 260، وشرح المقاصد: 3/ 304، والروح لابن القيم: ص/ 175 - 220، والتعريفات: ص/ 112، 242 - 244.

ص: 315

معناهما: جسم لطيف نوراني سارٍ في البدن سريان الماء في الورد، والنار في الفحم، اتصالهما بالبدن حياة، ومفارقتهما موت. وقد دلت الآيات، والأحاديث على بقاء النفس بعد المفارقة سعيدة كانت، أو شقية (1).

قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وقال:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] وفي الحديث: "يسلط على الكافر تسعة وتسعون تنينًا إلى يوم القيامة"(2).

(1) اختلف الناس في هذه المسألة على قولين:

فقالت طائفة: تموت الروح، وتذوق الموت لأنها نفس، وكل نفس ذائقة الموت، كما دلت الآيات على أنه لا يبقى إلا اللَّه وحده.

وقال آخرون: لا تموت الأرواح، لأنها خلقت للبقاء، وإنما تموت الأبدان، وقد دلت على هذا الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح، وعذابها بعد الفارقة إلى أن يرجعها اللَّه في أجسادها، ولو ماتت الأرواح لانقطع عنها النعيم والعذاب.

وقد ذكر هذا الخلاف ابن القيم رحمه الله ثم قال: "والصواب أن يقال: موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها، وخروجها منها، فإن أريد بموتها هذا القدر، فهي ذائقة الموت، وإن أريد أنها تعدم، وتضمحل، وتصير عدمًا محضًا، فهي لا تموت بهذا الاعتبار، بل هي باقية في نعيم، أو في عذاب" الروح له: ص/ 34.

وراجع: شرح المقاصد: 3/ 331 - 332، وتشنيف المسامع: ق (169/ ب)، والغيث الهامع: ق (168/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 419، وهمع الهوامع: ص/ 461.

(2)

قال في السند: حدثنا عبد اللَّه حدثني أبي ثنا أبو عبد الرحمن ثنا سعيد بن أبي أيوب قال: سمعت أبا السمع يقول: سمعت أبا الهيثم يقول: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنينًا تلدغه حتى تقوم الساعة، فلو أن تنينًا منها نفخ في الأرض ما أنبتت خضراء". راجع: المسند: 3/ 38.

ص: 316

"وأرواح الشهداء تسرح في الجنة، وتأوي إلى قناديل تحت العرش"(1).

وفي الأحاديث الدالة على ذلك كثرة لا يحتاج إلى إيرادها كلها (2).

وهل تفنى يوم القيامة؟

الصحيح عدم ذلك إذ لم يقم عليه دليل وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] لا يقتضي ذلك، لأن معناه: أن الممكن في ذاته هالك لأن وجوده من الواجب تعالى، أو هلاكها فراقها عن البدن.

وقوله: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68].

قيل: المراد بها الأرواح (3)، ولا حاجة إليه: لأن الاستثناء إنما هو لمن كان حيًا حقيقة، كالشهداء على ما ورد في الحديث، أو الحور العين.

(1) روى مسلم بسنده عن مسروق قال: سألنا عبد اللَّه عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قال: أما إنا قد سألنا عن ذلك، فقال:"أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل" إلى آخر الحديث. راجع: صحيح مسلم: 6/ 38 - 39.

(2)

وروى الترمذي بسنده عن كعب بن مالك عن أبيه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن أرواح الشهداء في طير خضر تعلق من نمر الجنة، أو شجر الجنة". راجع: تحفة الأحوذي: 5/ 270.

(3)

وقيل: هم الشهداء وهو قول ابن عباس، وأبي هريرة، وسعيد بن جبير.

وقيل: هم جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، وهو قول مقاتل، وغيره. =

ص: 317

وأما الأرواح بعد الموت لا يمكن موتها إذ لا تفارق نفسها فتأمل! قوله: "وفي عجب الذنب".

أقول: قد ورد في الحديث: "أنه يبلى من الإنسان كل عضو إلا عجب الذنب (1) منه خلق، ومنه يركب"(2)، وهو مثل حب خردلة في أصل الصلب عند العجز.

= وقيل: هم الذين في الجنة من الحور العين، وغيرهم، ومن في النار من أهل العذاب، وخزنتها، قاله أبو إسحاق بن شاقلا من الحنابلة.

وذكر ابن القيم الخلاف في الآية المذكورة أعني في المراد من الاستثناء ثم قال: "فعلم أنها صعقة فزع لا صعقة موت، وحينئذ، فلا تدل الآية على أن الأرواح كلها تموت عند النفخة الأولى، نعم تدل على أن موت الخلائق عند النفخة الأولى، وكل من لم يذق الموت قبلها، فإنه يذوقه حينئذ، وأما من ذاق الموت، أو من لم يكتب عليه الموت، فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية". الروح: ص/ 36.

وراجع: تفسير القرطبي: 15/ 279 - 281، وتفسير ابن كثير: 4/ 64 - 65، وتفسير الشوكاني: 4/ 475 - 477، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 162.

(1)

العجب: بفتح العين، وسكون الجيم، وآخره باء موحدة، وقد تبدل ميمًا وبعضهم يحكي تثليث أوله فيهما، فلغاته ست.

قال ابن الأثير: "العجب بالسكون: العظم الذي في أسفل الصلب عند العجز، وهو العسيب من الدواب".

راجع: النهاية في غريب الحديث: 3/ 184، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 162، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 419، وشرح النووي: 18/ 91 - 92.

(2)

الحديث ورد عند البخاري، ومسلم بألفاظ متعددة:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق، وفيه يركب". =

ص: 318

وفي صحيح ابن حبان (1) قيل: وما العجب يا رسول؟ ، فقال:"مثل خردلة، أو حبة خردل".

وذهب المزني إلى أنه يفنى أيضًا (2)، لأن لفظ الحديث:"أن كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب"، فإنه يفى بنفسه كملك الموت فإنه يفنى، ويموت بنفسه لا بملك آخر.

= وفي رواية: "إن في الإنسان عظمًا لا تأكله الأرض أبدًا فيه يركب يوم القيامة قالوا: أي عظم هو يا رسول اللَّه؟ قال: عجب الذنب" هذا عند مسلم وعند البخاري، ومسلم عن أبي هريرة بلفظ. . . "ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظمًا واحدًا، وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة".

راجع: صحيح البخاري: 6/ 205، وصحيح مسلم: 8/ 210، وشرح النووي على مسلم: 18/ 91، وسنن أبي داود: 2/ 537، وسنن النسائي: 4/ 111 - 112، وسنن ابن ماجه: 2/ 567.

(1)

هو محمد بن حبان بن أحمد أبو حاتم البستي التميمي كان أحد الأئمة الأعلام ومن أوعية العلم في فنون عدة كاللغة، والفقه، والحديث، والوعظ، وغيرها، وله مؤلفات نافعة كالمسند الصحيح، والجرح والتعديل، والثقات، وغيرها وتوفي سنة (354 هـ).

راجع: ميزان الاعتدال: 3/ 506 - 508، وطبقات السبكي: 3/ 131، وشذرات الذهب: 3/ 16، وراجع الحديث في الإحسان: 7/ 408.

(2)

ووافقه ابن قتيبة وقال: إنه آخر ما يبلى من الميت لقوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26]، وفناء الكل يستلزم فناء الجزء، وقول الجمهور السابق هو الأقوى للأدلة التي سبقت.

راجع: شرح جوهرة التوحيد: ص/ 163، وتشنيف المسامع: ق (169/ ب)، والغيث الهامع: ق (168/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 419، وهمع الهوامع: ص/ 462.

ص: 319

ولعل الحكمة في إبقاء ذلك تكريم بني آدم بإبقاء ما هو أصل خلقته (1) كما أكرم الأنبياء بحفظ أجسادهم جميعًا، وكذا الشهداء، وليكون إعلامًا بأنه سيعاد، وإلا فأي داع إلى إبقائه دون سائر الأجزاء.

قوله: "والروح".

أقول: سئل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن الروح (2) فقال اللَّه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] أي: مخلوق من مخلوقاته (3).

وكانوا في سؤالهم ذلك على أنه إن أتى بتفسيره، فهو ليس بصادق في دعوى الرسالة، لأنه كان في التوراة غير مبين.

(1) واختلف هل بقاؤه تعبدي، أو معلل؟ ورجح أنه تعبدي، وأن التعليل ضعيف، ولهذا، لم يجزم الشارح بالتعليل، بل عبر بلعل التي هي للترجي.

راجع: شرح جوهرة التوحيد: ص/ 163.

(2)

روى البخاري، ومسلم، وأحمد عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه قال:"بينما أنا أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث، وهو متكئ على عسيب إذ مر بنفر من اليهود، فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح، فقالوا: ما رابكم إليه لا يستقبلكم بشيء تكرهونه، فقالوا: سلوه، فقام إليه بعضهم فسألوه عن الروح، قال: فأسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليه شيئًا، فعلمت أنه يوحى إليه، قال: فقمت مكاني، فلما نزل الوحي قال: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ".

راجع: المسند: 1/ 444، وصحيح البخاري: 6/ 109، وصحيح مسلم: 8/ 128.

(3)

راجع: تفسير ابن كثير: 3/ 61 - 62، والكشاف: 2/ 464، وفتح القدير للشوكاني: 3/ 254، 256.

ص: 320

وهذا لا يدل على أن رسول اللَّه لم يعرف حقيقة الروح، بل نقلنا أهل السنة على أنه مرادف للنفس، وأن النفس جسم لطيف نوراني سار في البدن سريان الماء في الورد (1).

(1) الذين أمسكوا عن الخوض في الروح دليلهم ما سبق من جواب اللَّه لهم عندما سألوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية التي سلف ذكرها قائلين: معناها: فاجعلوا علم الروح من الكثير الذي لم تؤتوه، ولا تسألوا عنه، فإنه سر من أسراري، وحكي عن الجنيد قوله: الروح شيء استأثر اللَّه تعالى بعلمه، ولم يطلع عليه أحدًا من خلقه، فلا يجوز لعباده البحث عنه، ولا يعبر عنه بكثر من أنه موجود. ورجحه الثعلبي، وابن عطية، والمصنف، والشوكاني، وغيرهم.

أما الذين ذهبوا إلى تعريف الروح، فقد اختلفوا في ذلك إلى أقوال كثيرة كما تقدم ذكر مراجعها، والقول المختار منها، وقد أجابوا عن الآية المذكورة بجوابين:

الأول: أن اليهود قالوا: إن أجاب عن حقيقة الروح فليس بنببي، وإن لم يجب، فهو صادق، فلم يجب لأن اللَّه تعالى لم يأذن له فيه، ولا نزل عليه بيانه في ذلك الوقت لتحقق أمره عندهم لا لأنه لا يمكن الكلام فيه.

الثاني: أن سؤالهم إنما كان للتعنت، والتعحيز لأن الروح مشترك بين روح الإنسان، وجبريل، وملك آخر يقال له الروح، وصنف من الملائكة، والقرآن، وعيسى ابن مريم، فأراد اليهود أن كل معنى جاءهم به سيقولون ليس هو المراد تغليظًا له، فجاء الجواب مجملًا له، فإن كونه من أمر الرب يصدق على كل معنى من معاني الروح التي سبق ذكرها.

راجع: أحكام القرآن لابن العربي: 3/ 1224 - 1225، وتفسير القرطبي: 10/ 323 - 325، وتفسير الشوكاني: 3/ 254، والروح لابن القيم: ص/ 175 - 179، وتشنيف المسامع: ق (170/ أ - ب)، والغيث الهامع: ق (169/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 419، وهمع الهوامع: ص/ 462.

ص: 321

وذهب الغزالي، وأبو زيد الدبوسي، والراغب الأصفهاني إلى أنها من عالم الأمر، وهو عالم الملكوت، فإنه يسمى عالم الأمر، كما أن عالم الشهادة يسمى عالم الخلق، وإليها أشار بقوله:{أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] وهي عند [هؤلاء جوهر مجرد (1) ولا اعتراض على ما ذهبوا إليه، إلا أن وجود المجردات (2) لم تثبت عند سائر المتكلمين.

وقد فهم بعض] (3) الجهلة -المنتمين إلى العلم المدعين التبحر فيه، وهم دون القلتين- أن التجرد يستلزم القدم، وأن الغزالي قائل بقدم النفس (4) أعاذه اللَّه من ذلك، بل عنده من المجردات الحادثة، إذ عالم الخلق،

(1) قائم بنفسه غير متحيز، وله تعلق خاص بالبدن غير داخل في البدن. ولا خارج منه، وبهذا قال الفلاسفة.

راجع: تشنيف المسامع: ق (170/ ب)، والغيث الهامع: ق (169/ أ).

(2)

المجرد: ما لا يكون محلًا لجوهر، ولا حالًا في جوهر آخر، ولا مركبًا منهما على اصطلاح أهل الحكمة. راجع: التعريفات: ص/ 202.

(3)

من بداية المعكوفة السابقة إلى هنا سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(4)

قال الزركشي: "وقد نسب القاضي ابن العربي هذا إلى الصوفية واستنكر قولهم: العالم عالمان: عالم الخلق، وعالم الأمر، وقال: إنهم تلقفوه من الفلاسفة، ومقصود الفلاسفة منه أن الخلق ما كان كميًا مقدرًا والأمر ما لم يكن مقدرًا، والروح عندهم لا يكون محدثًا قال: وقد أوضحنا أن العالم، وكل ما سوى اللَّه مخلوق داخل في الكمية قال: ويكاد هذا القول تحليفًا على مذهب الحلولية، واعتصامًا بمذهب النصارى في عيسى، وعجب من حكاية الغزالي له" تشنيف المسامع: ق (171/ أ).

ص: 322

والأمر مما سوى اللَّه، وما سواه محدث فانٍ وما ذكره المصنف كلام بعض مشايخ الصوفية وطريقة أهل السنة من المتكلمين ما أوضحناه لك.

قوله: "وكرامات الأولياء حق".

أقول: أهل الحق على أنه يقع من الأولياء -بقصد، وبغير قصد- أمور خارقة للعادة (1).

(1) الكرامة: هي ظهور أمر خارق للعادة من قبل شخص غير مقارن لدعوى النبوة، فما لا يكون مقرونًا بالإيمان، والعمل الصالح يكون استدراجًا، وما يكون مقرونًا بدعوى النبوة يكون معجزة.

ومذهب أهل السنة، والجماعة إثبات كرامات الأولياء، وما يجري اللَّه على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم، والمكاشفات، وأنواع القدرة، والتأثيرات، والمأثور عن سائر الأمم في سورة الكهف، وغيرها وعن صدر هذه الأمة من الصحابة، والتابعين، وسائر فرق الأمة وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة.

ويكفي في تعريف أولياء الرحمن قوله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63].

وذهب المعتزلة إلى إنكار الكرامات، وحكاه الفخر الرازي عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، وذكر الجويني، والآمدي أنه إنما أنكر منها ما كان معجزة لنبي فقط.

وزعمت المعتزلة أن إثبات الكرامات يؤدي إلى اختلاط النبوة بغيرها، فلا يتميز النبي من غيره، ولم يسلم لهم هذا الزعم ورد عليهم من وجهين:

الأول: بالنسبة إلى صاحب النبوة، فإنها تكون بإعلام اللَّه له بذلك.

الثاني: بالنسبة إلى غير النبي فالكرامة لا يقصد بها التحدي، ولا يدعى معها النبوة، إذ لو ادعاها لم يكن وليًا، بل يكون متنبئًا كذابًا، بينما المعجزة يقصد بها التحدي مع دعوى النبوة. =

ص: 323

وقد عرفت قبل هذا حقيقة الكرامة، ووجه امتيازها عن المعجزة، والسحر، وغيرهما (1).

والدليل على جوازها أنها أمور ممكنة لا يلزم من جواز وقوعها محال، وكل ما هذا شأنه، فهو جائز الوقوع.

وعلى الوقوع قضية مريم، ورزقها الآتي من عند اللَّه على ما نطق به القرآن (2) وقضية أبي بكر، وأضيافه كما في الصحيح (3).

= راجع: مختار الصحاح: ص/ 569، والمصباح المنير: 2/ 531، والتعريفات: ص/ 184، وشرح الطحاوية: 2/ 304 - 310، والعقيدة الواسطية: ص/ 151 - 152، والمحصل للرازي: ص/ 322، والإرشاد للجويني: ص/ 266.

(1)

تقدم عند الكلام على المعجزة: ص 277 - 279.

(2)

لقوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَامَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 37].

(3)

روى البخاري بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: "جاء أبو بكر بضيف له، أو بأضياف له، فأمسى عند النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء قالت أمي: احتبست عن ضيفك، أو أضيافك الليلة قال: ما عشيتهم؟ فقالت: عرضنا عليه، أو عليهم، فأبوا، أو فأبى، فغضب أبو بكر فسب، وجدع، وحلف لا يطعمه فاختبأت أنا، فقال: ياغنثر، فحلفت المرأة لا تطعمه حتى يطعمه، فحلف الضيف، أو الأضياف أن لا يطعمه، أو يطعموه حتى يطعمه، فقال أبو بكر: كان هذا من الشيطان، فدعا بالطعام، فأكل، وأكلوا، فجعلوا لا يرفعون لقمة إلا ربا من أسفلها أكثر منها فقال: يا أخت بني فراس ما هذا؟ فقالت: وقرة عيني إنها الآن لأكثر قبل أن تأكل، فأكلوا، وبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أنه أكل منها". راجع: صحيح البخاري: 8/ 41.

ص: 324

وقضية عمر على المنبر (1):

(1) وجه عمر جيشًا بقيادة سارية بن زنيم نحو فارس، فقصد سارية بجيشه مدينة فسا: بالفتح، والقصر كلمة عجمية، وعندهم بسا بالباء وأصلها في كلام الفرس من الرياح الشمالية، إحدى مدن فارس، ودارا بحرد: بعد الألف الثانية موحدة، ثم جيم، ثم راء ودال مهملة ولاية بفارس كذلك، فاجتمع له جموع من الفرس، والأكراد عظيمة، ودهم المسلمين منهم أمر عطم فرأى عمر في تلك الليلة فيما يرى النائم معركتهم، وعددهم في وقت من النهار وأنهم في صحراء، وهناك جبل إن أسندوا إليه ظهورهم لم يؤتوا إلا من وجه واحد، فنادى من الغد الصلاة جامعة حتى إذا كانت الساعة التي رأى أنهم اجتمعوا فيها خرج إلى الناس، وصعد المنبر فخطب الناس، وأخبرهم بصفة ما رأى، ثم قال:"يا سارية الجبل الجبل" ثم أقبل عليهم وقال: إن للَّه جنودًا، ولعل بعضها أن يبلغهم قال: ففعلوا ما قال عمر، فنصرهم اللَّه على عدوهم، وفتحوا البلد. وفي رواية: أن عمر بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ قال: يا سارية بن زنيم الجبل الجبل، فلجأ المسلمون إلى جبل هناك، ثم قدم رسول الجيش من فارس، فسأله عمر فقال: يا أمير المؤمنين هزمنا فبينا نحن كذلك إذ سمعنا صوتًا ينادي: يا سارية الجبل ثلاثًا، فأسندنا ظهورنا إلى الجبل، فهزمهم اللَّه.

قال ابن حجر في الإصابة: إسناده حسن، وذكر السيوطي أنه قد أخرجه البيهقي، وأبو نعيم في دلائل النبوة، واللالكائي في شرح السنة، والديرعاقولي في فوائده، وابن الأعرابي في كرامات الأولياء والخطيب في رواة مالك عن نافع عن ابن عمر وابن مردويه، وغيرهم.

راجع: معجم البلدان: 2/ 419، 4/ 260 - 261، ومراصد الاطلاع: 2/ 505، والإصابة: 2/ 3، والبداية والنهاية: 7/ 130 - 132، وتاريخ الخلفاء: ص/ 125 - 126، وأسنى المطالب: ص/ 265.

ص: 325

"يا سارية (1) الجبل".

وسارية كان في نهاوند (2) أمير الجيش (3)، وبينهما مسافة شهرين. وبالجملة كلما جاز أن يكون معجزة لنبي جاز أن يكون كرامة للولي.

(1) هو سارية بن زنيم بن عبد اللَّه بن جابر الكناني الدئلي صحابي من القادة الفاتحين، والشعراء المجيدين كان عداء يسبق الخيل راجلًا وصاحب غارات كثيرة في الجاهلية، ولما ظهر الإسلام أسلم، وجعله عمر أميرًا على جيش، وسيره إلى بلاد فارس سنة (23 هـ) ففتح فيها بلدانًا وتوفي حوالى سنة (30 هـ).

راجع: الإصابة: 2/ 2 - 3، وتاريخ الإسلام للذهبي: 2/ 49، والنجوم الزاهرة: 1/ 77، والأعلام للزركلي: 3/ 112.

(2)

نهاوند: بالكسر، والفتح في النون، والواو مفتوحة، والنون ساكنة، ودال مهملة مدينة عظيمة في قبلة همذان بينهما ثلاثة أيام، ولما افتتح المسلمون الأهواز، وغيرها من بلاد فارس حز ذللث في نفس الفرس، فتجمعوا في نهاوند من كل فج عميق ليردوا على المسلمين حتى اجتمع منهم مئة ألف وخمسون ألف مقاتل أميرهم الفيرزان، وقيل: بندار، وقيل: ذو الحاجب. وتجمع فيها المسلمون وهم نحو ثلاثين ألفًا بقيادة النعمان بن مقرن المزني الصحابي، وكانت وقعة نهاوند سنة (21 هـ) على الراجح أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال عمر للنعمان: إن أصبت فالأمير حذيفة بن اليمان، ثم جرو ابن عبد اللَّه، ثم المغيرة بن شعبة، ثم الأشعث بن قيس، فقتل النعمان رضي الله عنه، فأخذ الراية حذيفة، وكان الفتح على يده بعد هزيمة ساحقة في الفرس قتل منهم أكثر من مئة ألف، وهذه الوقعة العظيمة لها شأن رفيع، ونبأ عظيم، لذا كان المسلمون يسمونها فتح الفتوح كما أن الفرس لم تقم لهم قائمة بعدها، ولا تجمعوا ضد المسلمين.

راجع: معجم البلدان: 5/ 313 - 314، ومراصد الاطلاع: 3/ 1397، والبداية والنهاية: 7/ 105 - 113، وتاريخ الخلفاء: ص/ 132.

(3)

لعل الشارح يعني أنه كان أميرًا على ولاية من ولايات نهاوند كما سبق ذكر فسا، ودارابجرد وأنه كان هو الأمير فيها أما نهاوند فكان أميرها النعمان بن مقرن، ثم حذيفة كما سبق.

ص: 326

وقال بعض أهل السنة: بل الشرط في الكرامة أن تكون أحط رتبة من المعجزة، وإليه أشار المصنف بقوله: وقال القشيري: لا ينتهون إلى ولد دون والد، أي: إلى تحصيل حيوان من غير أب وأم، وقلب الجماد حيوانًا (1) وليس هذا بشيء، لأن الأمر الخارق إذا جاز وقوعه جاز جميع فروعه، وعليه إطباق أهل السنة من القدماء.

وكأن هذا القائل أراد انحطاط الولاية عن النبوة، والأمر كذلك إلا أن صدور [الكرامة](2) على يد آحاد الأمة دال على كون من آمن به نبيًا، وإلا لم يكن التابع في هذه الطريقة مهتديًا، بل ضالًا. وشبهة من أنكر الكرامة التباسها بالمعجزة، وقد علمت الفرق بالتحدي، وعدمه.

قوله: "ولا نكفر أحدًا من أهل القبلة".

أقول: هذا كلام قد اشتهر بين الناس، ونقل عن الأئمة مثل الشافعي، وأبي حنيفة، وليس على إطلاقه إذ المجسم كافر (3)، وإن صام، وصلى.

(1) قال الزركشي: "وهذا هو مذهب الأستاذ أبي إسحاق، وبه يظهر غلط الإمام فخر الدين، وغيره ممن نقل عنه إنكارها على الإطلاق كالمعتزلة والذي رأيته في كتبه التصريح بإثابتها إلا أنها لا تبلغ مبلغ المعجزات الخارقة تفرقة بينها، وبين المعجزة قال: وكلما كان تقديره معجزة لنبي لا يجوز ظهور مثله كرامة لولي" تشنيف المسامع: ق (171/ ب). وراجع: الغيث الهامع: ق (169/ أ - ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 420، وهمع الهوامع: ص/ 464.

(2)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(3)

الكفر -لغة- الستر، والتغطية، ومنه سمي الكافر كافرًا لأنه يستر نعم اللَّه عليه، والكافر الزارع لأنه يغطي البذر بالتراب، والكفار الزراع ومنه قوله تعالى: {كَمَثَلِ غَيْثٍ =

ص: 327

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [الحديد: 20] والكفر ضد الإيمان، وهو أعم من التكذيب لشموله الكافر الخالي عن التصديق، والتكذيب.

وقال القاضي: هو الجحد باللَّه، وفسر بالجهل، ورد بأن الكافر فد يعرف اللَّه، ويصدق به، والمؤمن قد لا يعرف بعض أحكامه.

فأجيب بأن المراد الجحد به في شيء مما علم قطعًا أنه من أحكامه، أو الجهل بذلك إجمالًا، وتفصيلًا.

وقالت المعتزلة: هو ارتكاب قبيح، أو إخلال بواجب يستحق به أعظم العقاب.

وقيل: إن الكفر عند كل طائفة مقابل لما فسروا به الإيمان.

قال التفتازاني: "لا يستقيم على القول بالمنزلة بين المنزلتين أصلًا ولا على قول السلف ظاهرًا"، وباب التكفير عظمت الفتنة فيه، وكثر فيه الافتراق، وتشتت فيه الأهواء، والآراء، وتعارضت فيه دلائلهم.

فطائفة تقول: لا نكفر من أهل القبلة أحدًا بذنب، فتنفي التكفير نفيًا عامًا، مع العلم أن في أهل القبلة المنافقين الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب، والسنة، والإجماع، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم، وهم يتظاهرون بالشهادتين، ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول: بأنا لا نكفر أحدًا بذنب، بل يقال: لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بكل ذنب كما تفعله الخوارج، وبهذا القول يظهر الفرق بين النفي العام، ونفي العموم والواجب إنما هو نفي العموم مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب وهذا هو مذهب أهل السنة، والجماعة، لأن هناك بعض الذنوب القولية، والفعلية يكفر بها صاحبها بدليل منفصل علمًا بأنه لا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواترة، والمحرمات الظاهرة المتواترة، ونحو ذلك أنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل كافرًا مرتدًا، لكونه أنكر، واستحل ما هو معلوم من الدين ضرورة، ثم اختلفوا في غير ذلك إلى أقوال متعددة، =

ص: 328

والحاصل: أن كل ما كان وجوده معتبرًا في حصول الإيمان نافيه كافر، وإن قال بالتوحيد، وصام، وصلى.

ولا يجوز الخروج على السلطان عادلًا كان، أو جائرًا إذ بفسقه لا ينعزل، لأن الضرر على المسلمين بانعزاله أكثر من بقائه.

ونقل عن المعتزلة تجويزه بناء على انعزاله بالظلم (1) ويجب الاعتقاد

= للخوارج، والمعتزلة، وغيرهم وقد تقدم القول الحق في هذه المسألة، وسنحيل ذكر باقي الأقوال وأدلتها إلى مراجعها.

راجع: مختار الصحاح: ص/ 573 - 574، والمصباح المنير: 2/ 535، وشرح الطحاوية: 2/ 32 - 34، والمحصل للرازي: ص/ 350، والمعالم له: ص/ 137 - 138، والمواقف: ص/ 388 - 389، وشرح المقاصد: 5/ 224 - 228، وتشنيف المسامع: ق (172/ أ - ب)، والغيث الهامع: ق (169/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 420، وهمع الهوامع: ص/ 464 - 465.

(1)

من انعقدت له الإمامة بعقد واحد، فقد لزمت، ولا يجوز خلعه من غير حدث، وتغير أمر، وهذا مجمع عليه بين الأمة في الإمام العادل وأما إذا فسق، وفجر، وظلم فكما ذكر الشارح من الخلاف.

فأهل الحق يحرمون الخروج عليه لما يترتب على ذلك من مفاسد كبيرة وأما المعتزلة فيجوزون الخروج عليه لظلمه.

راجع: الإرشاد للجويني: ص/ 358، والمغني لابن قدامة: 8/ 7 - 10، وشرح فتح القدير: 6/ 99 - 180، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 420 - 421، وتشنيف المسامع: ق (173/ أ - ب)، والغيث الهامع: ق (170/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 465، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام: 35/ 5 - 15، وشرح الطحاوية: 2/ 132 - 136.

ص: 329

بعذاب القبر للكفار، ولمن أراد اللَّه من العصاة (1)، دلت عليه أحاديث كثيرة (2).

(1) أجمع علماء السنة، والأمة على أن عذاب القبر حق، وقد نطق بذلك الكتاب، والسنة قال تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} أي: في البرزخ بدليل قوله بعده: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46].

وذهب أبو الهذيل العلاف، والمريسي إلى أن من خرج عن سمة الإيمان فإنه يعذب بين النفختين، والمساءلة في القبر إنما تقع في ذلك الوقت.

وذهب الجبائي، وابنه أبو هاشم إلى إثبات عذاب القبر لأصحاب التخليد من الكفار، والفساق على أصولهم، ولكنهم نفوه عن المؤمنين.

وذهبت الكرامية، وغيرهم إلى أن عذاب القبر يجري على المؤمن من غير رد الأرواح إلى الأجساد، والميت يجوز أن يألم، ويحس بلا روح وقال بعض المعتزلة يعذب اللَّه الموتى في قبورهم، ويحدث فيهم الآلام وهم لا يشعرون، فإذا حشروا وجدوا تلك الآلام، وأحسوا بها كمثل السكران لو ضرب حال سكره لا يحس بالألم، فإذا عاد إليه عقله أحس بألم الضرب. وذهب ضرار بن عمرو، ويحيى بن كامل، والمريسي إلى إنكار عذاب القبر رأسًا.

وعذاب القبر هو عذاب البرزخ، فكل من مات، وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه، قبر، أو لم يقبر، فلو أكلته السباع، أو أحرق حتى صار رمادًا ونسف في الهواء، أو صلب، أو غرق في البحر، وصل إلى روحه، وبدنه من العذاب ما يصل إلى القبور.

راجع: الطحاوية مع شرحها: 2/ 157 - 164، والعقيدة الواسطة: ص/ 120، والمعالم للرازي: ص/ 127، والمواقف للعضد: ص/ 382 - 383، وشرح المقاصد: 5/ 111 - 116، والروح لابن القيم: ص/ 57 - 58، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 169، وتفسير ابن كثير: 4/ 82 - 83، والإبانة: ص/ 215 - 217، ومجموع الفتاوى: 3/ 145.

(2)

وردت أحاديث في هذا الباب عن علي، وزيد بن ثابت، وابن عباس والبراء بن عازب، وأبي أيوب، وأنس، وحابر، وعائشة، وأبي سعيد كلهم روى عن النبي صلى الله عليه وسلم في عذاب القبر ومنها: =

ص: 330

وقد صح أن قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] نزل في عذاب القبر (1).

= ما رواه أحمد، والحاكم، عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم، فقعد، وقعدنا حوله كأن على رؤوسنا الطير، وهو يلحد له، فقال:"أعوذ باللَّه من عذاب القبر ثلاث مرات".

وعند مسلم، والبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت:"فما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد صلى صلاة إلا تعوذ من عذاب القبر".

وفي البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يدعو: "اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، ومن عذاب النار، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال".

وفيه أيضًا عن البراء بن عازب عن أبي أيوب رضي الله عنهما قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وجبت الشمس، فسمع صوتًا، فقال:"يهود تعذب في قبورها".

وقوله: "إنما القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار" رواه الترمذي.

وقد تقدم حديث ابن عباس في ذكره صلى الله عليه وسلم صاحبي القبرين، وأنهما يعذبان في قبريهما بسبب عدم استتار أحدهما من البول، ومشى الآخر بالغيبة بين الناس والأحاديث في ذلك كثيرة نكتفي بما ذكرناه.

راجع: صحيح البخاري: 2/ 117، وصحيح مسلم: 3/ 30، 8/ 160 - 164، ومسند أحمد: 1/ 293، 4/ 295، وسنن ابن ماجه: 2/ 567 - 568، والمستدرك: 1/ 379، 533، وتحفة الأحوذي: 4/ 181 - 185، 7/ 160.

(1)

عن البراء بن عازب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقعد المؤمن في قبره أُتي، ثم شهد أن لا إله إلا اللَّه، وأن محمدًا رسول اللَّه فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] وفي رواية: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} نزلت في عذاب القبر".

راجع: صحيح البخاري: 2/ 116 - 117، وسنن ابن ماجه: 2/ 568 - 570.

ص: 331

ولا يستبعد عذاب الجسد البالي بعد مضي الدهور، والأعصار عليه، لأن أمور الآخرة بناؤها على خلاف عالم الشهادة، واللَّه تعالى كما جعل الروح متعلقة بالجسم حال كونه غضًا طريًا قادر على أن يجعله متعلقًا به يابسًا بعد ما صار غبارًا، ليس الحال يتفاوت بالنظر إلى القدرة (1).

وكذا سوال الملكين قد نطق به الأحاديث الصحاح (2) مع إمكانه،

(1) مذهب سلف الأمة، وأئمتها أن عذاب القبر، ونعيمه يكون للروح، والبدن، وأن الروح تبقى بعد مفارقة البدن منعمة، أو معذبة، وإنما تتصل بالبدن أحيانًا، ويحصل له معها النعيم، أو العذاب، ثم إذا كان يوم القيامة الكبرى أعيدت الأرواح إلى الأجساد، وقاموا من قبورهم لرب العالمين.

ومعاد الأبدان متفق عليه بين المسلمين، واليهود، والنصارى، وذهبت الفلاسفة إلى أن النعيم والعذاب لا يكون إلا للروح فقط، وأن البدن لا ينعم، ولا يعذب، وهؤلاء ينكرون معاد الأبدان وقد أجمع المسلمون على تكفيرهم.

وقال كثير من المعتزلة: الأرواح هي المنعمة، أو المعذبة في البرزخ فقط، فإذا كان يوم القيامة عذبت الروح، والبدن معا، واختاره طائفة من أهل الكلام، والحديث، ورجحه ابن حزم، وابن مرة، وذهب البعض إلى أن العذاب، أو النعيم يكون على البدن فقط بناء على إنكارهم بقاء الروح بعد فراق البدن.

راجع: الروح لابن القيم: ص/ 51 - 52، وشرح الطحاوية: 2/ 163، وشرح المقاصد: 5/ 117.

(2)

ورد أحاديث في ذلك نكتفي بذكر حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا وضع في قبره، وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم أتاه ملكان، فيقعدانه، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل لمحمد صلى الله عليه وسلم، فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد اللَّه، ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد =

ص: 332

فوجب القول به (1).

وما يقال: أنا نرى الكافر بعد موته في قبره على (2) الحالة التي دفن غير متغير، وأنتم تقولون: "سلط عليه أعمى، أصم

= أبدلك به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعًا، وأما المنافق، والكافر، فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري، كنت أقول: ما يقول الناس، فيقال: لا دريت ولا تليت، ويضرب بمطارق من حديد ضربة، فيصيح صيحة يسمعه من يليه غير الثقلين".

راجع: صحيح البخاري: 2/ 117 - 118، وصحيح مسلم: 8/ 161 - 162، وتحفة الأحوذي: 4/ 181 - 184، وسنن ابن ماجه: 2/ 568 - 569، والروح لابن القيم: ص/ 52 - 57، فقد جمع الأحاديث الواردة في هذه المسألة.

(1)

وهو قول أهل السنة، والجماعة، وأن الملكين هما منكر، ونكير كما ورد مبينًا في حديث أبي هريرة.

وقال كثير من المعتزلة: لا يجوز تسمية ملائكة اللَّه بمنكر، ونكير، وإنما المنكر ما يبدو من تلجلجه إذا سئل، والنكير تقريع الملكين له. واختلف في سؤال القبر هل خاص بهذه الأمة أو لا؟

فقال فريق: إنه خاص بهذه الأمة لحديث زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها".

ومنهم من قال: إنه عام وليس خاصًا بهم، ورجحه ابن أبي العز الحنفي، ومنهم من توقف واختاره أبو عمرو بن عبد البر.

راجع: صحيح مسلم: 8/ 161، والروح لابن القيم: ص/ 55، 58، وشرح المقاصد: 5/ 113، وشرح الطحاوية: 2/ 165 - 166، والإحياء للغزالي: 4/ 499 - 503، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: 3/ 145.

(2)

آخر الورقة (147/ ب من أ).

ص: 333

بيده مرزبة يضربه بها إلى يوم القيامة" (1) "ويسلط عليه تسعة وتسعون تنينًا" وتقولون -ثانية-: "ملكان، فيجلسانه، ويسألانه عن دينه، ونبيه"، ونحن نضع كفًا من البر، أو من الدخن على صدره، فنأتي بعد ذلك ونشاهده على حاله لم يتغير بوجه، ولا وقع حبة مما كان عليه فكيف وجه ذلك؟

الجواب: أنا قد قدمنا أن مبنى تلك الأمور على خلاف العادة، وبه يحصل الابتلاء، ويتميز المؤمن الكامل القائل بقدرته تعالى على كل شيء عن القاصر المتزلزل.

فمن أمن بأن اللَّه تعالى أبرز العالم العلوي، والسفلي من العدم من غير سبق مثال يعلم بالطريق الأولى أنه قادر على أن يعذب الكافر بأنواع العذاب بحيث لا يتغير شيء من جسمه، ولا يقع ما وضع على صدره.

ومن أراد أن يحيط بجوانب الكلام في هذا، فعليه بمطالعة إحياء العلوم للإمام حجة الإسلام الغزالي (2).

(1) لم أعثر على هذا الحديث بهذا اللفظ في الكتب التي اطلعت عليها إلا أن الإمام الغزالي قال: "وقال محمد بن المنكدر: بلغي أن الكافر يسلط عليه في قبره دابة عمياء صماء في يدها سوط من حديد في رأسه مثل غرب الجمل تضربه به إلى يوم القيامة لا تراه فتتقيه، ولا تسمع صوته فترحمه" الإحياء: 4/ 503.

(2)

راجع: الإحياء للغزالي: 4/ 500 - 502، وتشنيف المسامع: ق (173/ ب - 174/ أ)، والغيث الهامع: ق (170/ أ - ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 421، وهمع الهوامع: ص/ 465 - 466.

ص: 334

فإنه قد بسط الكلام فيه غاية البسط، والعاقل تكفيه الإشارة.

قوله: "والحشر، والصراط".

أقول: مما يجب الإيمان به حشر (1) الأجساد، والأرواح للجزاء نطق به الكتب الإلهية (2)، وتواترت الأخبار بذلك (3) عن جميع الأنبياء والرسل.

(1) حشر بابه ضرب، وحشر الناس جمعهم، والحشر الجمع مع سوق. واصطلاحًا له معنيان: الأول: إحياء اللَّه تعالى الخلق بعد الإماتة، والجمع بعد التفريق.

والثاني: الإيجاد، والإعادة بعد العدم، وبكل واحد من التعريفين قال فريق من العلماء، وذكر الزركشي أن كلا المعنيين للحشر جائزان من اللَّه، والعقل يجوزهما جميعًا، والسمع لم يرد قاطعًا بأحدهما، ولعل الغالب على ما دل عليه السمع ظاهرًا أن الحشر الواقع هو الإحياء بعد الإماتة، والجمع بعد التفريق ورجح العلامة التفتازاني التوقف.

راجع: مختار الصحاح: ص/ 137، والمصباح المنير: 1/ 136 - 137، وتشنيف المسامع: ق (174/ أ)، والغيث الهامع: ق (170/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 421، وشرح المقاصد: 5/ 100 - 107، وهمع الهوامع: ص/ 466.

(2)

وقد أفاض القرآن الكريم في التحدث عن الحشر في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 122]، وقوله:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَامَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ} [الأنعام: 128]، وقوله:{وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47]، وقوله:{يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم: 85 - 86].

(3)

والأحاديث في ذلك كثيرة منها:

عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقى ليس فيها علم لأحد". =

ص: 335

وهو أمر ممكن في نفسه: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].

والصراط (1): جسر يضرب على ظهراني جهنم يمر الناس عليه.

= وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إنكم ملاقو اللَّه حفاة عراة مشاة غرلًا".

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "تحشرون حفاة عراة غرلًا قالت عائشة فقلت: يا رسول اللَّه الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال: الأمر أشد من أن يهمهم ذاك".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحشر الناس على ثلاث طرائق راغبين، راهبين، واثنان على بعير وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتحشر بقيتهم النار تبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا".

ولهذه النصوص من الكتاب، والسنة، وغيرها آمن أهل الحق من سلف الأمة، وخلفها بالحشر، والنشور للأجساد، والأرواح معًا. والنشر: هو بعث اللَّه الخلق من القبور، وجمعهم جميعًا في عرصة القيامة، وأنكرت الفلاسفة حشر الأجساد، وقالوا باستحالة ذلك، قائلين: إن الأرواح هي التي تحشر فقط.

راجع: صحيح البخاري: 8/ 186، وصحيح مسلم: 8/ 156 - 157، وتحفة الأحوذي: 7/ 107 - 110، ومسند الإمام أحمد: 1/ 223، 229، 2/ 354، 392، 3/ 395، وسنن النسائي: 4/ 144 - 117، وسنن ابن ماجه: 2/ 570، وانظر: تشنيف المسامع: ق (174/ أ)، والغيث الهامع: ق (170/ ب)، والمعالم للرازي: ص/ 126، والمحصل له: ص/ 339 - 343.

(1)

الصراط: بالصاد، أو بالسين، أو بالزاي المحضة، أو بالإشمام وقرئ في السبع بما عدا الزاي المحضة. =

ص: 336

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ومعناه لغة: الطريق الواضح، مأخوذ من صرطه يصرطه إذا ابتلعه لأنه يبتلع المارة.

وشرعًا: جسر ممدود على متن جهنم يرده الأولون، والآخرون حتى الكفار، وإذا توافوا إليه قيل للملائكة:{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24].

وذهب الحليمي إلى أن الكفار لا يمرون على الصراط، وحمل قوله هذا على الطائفة التي ترمى في جهنم من الموقف بلا صراط.

وقد آمن به أهل الحق من سلف الأمة للأحاديث التي سيأتي ذكر بعضها بعد قليل وأنكره القاضي عبد الجبار، وكثير من المعتزلة زعمًا منهم أنه لا يمكن الخطور عليه، ولو أمكن ففيه العذاب، ولا عذاب على المؤمنين، والصلحاء يوم القيامة.

وقالوا: بل المراد بالصراط طريق الجنة المشار إليه بقوله تعالى: {سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 5]، وطريق النار المشار إليه بقوله:{فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23].

وقيل: المراد به الأدلة الواضحة، وقيل: العبادات كالصلاة، والزكاة، ونحوهما.

وقيل: الأعمال الرديئة التي يسأل عنها، ويؤاخذ بها كأنه يمر عليها، ويطول المرور بكثرتها، ويقصر بقلتها.

وتردد قول الجبائي فيه نفيًا، وإثباتًا، وذهب العز بن عبد السلام، والقرافي، والزركشي، وغيرهم إلى تأويل النصوص الواردة في ذكر الصراط بأن تؤول على أنه كناية عن شدة المشقة.

قال الزركشي: "وأما الصراط فوردت فيه الأخبار الصحيحة، واستفاضت، وهو محمول على ظاهره بعد تأويل واللَّه أعلم بحقيقته".

راجع: الإرشاد: ص/ 320، والمواقف للإيجي: ص/ 383 - 384، وشرح المقاصد: 5/ 119 - 120، وتشنيف المسامع: ق (174/ أ)، والغيث الهامع: ق (170/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 466 - 467، وشرح العقيدة الواسطية: ص/ 126 - 127، والمحصل للرازي: ص/ 343، ومجموع الفتاوى: 3/ 146.

ص: 337

فالكفار يتساقطون في جهنم، مع بعض العصاة، والناجون متفاوتون في المرور عليه، منهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم كأجاويد الخيل، ومنهم دون ذلك على ما صح في الأحاديث (1).

وفي كلام بعض المشايخ أنه عبارة عن الشريعة (2)، فيصورها اللَّه تعالى في صورة الصراط، فمن كان مستقيمًا على الشريعة يمشي عليه مستقيمًا فالاستقامة هنا سبب للاستقامة هناك، ويناسب هذا القول ما

(1) روى مسلم، وأحمد، وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه عند مسلم:"ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلم سلم قيل: يا رسول اللَّه وما الجسر؟ قال: دحض مزلة فيه خطاطيف، وكلاليب، وحسك تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان، فيمر المؤمنون كطرف العين، وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل، والركاب فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكدوس في نار جهنم. . . " إلى آخر الحديث.

ورواه البخاري، وأحمد أيضًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وفيه. .

"ويضرب جسر جهنم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فأكون أول من يجيز، ودعاء الرسل يومئذ اللهم سلم سلم، وبه كلاليب مثل شوك السعدان أما رأيتم شوك السعدان؟ غير أنها لا يعلم قدر عظمها إلا اللَّه، فتخطف الناس لأعمالهم منهم الموبق بعمله، ومنهم المخردل".

وعند الترمذي عن المغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك عن أبيه بلفظ آخر.

راجع: صحيح البخاري: 8/ 147، وصحيح مسلم: 1/ 115 - 117، والمسند: 2/ 572، 3/ 11، 16 - 17، وتحفة الأحوذي: 7/ 119 - 120، وسنن ابن ماجه: 2/ 572.

(2)

راجع: شرح المقاصد: 5/ 120، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 180.

ص: 338

روي أنه أدق من الشعرة، وأحد من السيف (1)(2) وكذلك يجب الإيمان بالميزان (3)، قال اللَّه تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ

(1) رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري بلاغًا حيث قال: قال أبو سعيد: "بلغني أن الجسر أدق من الشعرة، وأحد من السيف". راجع: صحيح مسلم: 1/ 117.

(2)

آخر الورقة (130/ ب من ب).

وجاء في نهايتها في الهامش: "بلغ مقابلة على أصلها المنقول منه، وهو بخط مؤلفها متعه اللَّه بحياته".

(3)

جاء في بداية ورقة (131/ أمن ب): (الخامس عشر) يعني من الأجزاء بتجزئة الناسخ كما تقدم.

ومذهب أهل الحق الإيمان بالموازين، وأنها تنصب يوم القيامة فتوزن بها أعمال العباد، وهي موازين حقيقية كل ميزان منها له لسان، وكفتان وساقان عملًا بالحقيقة لإمكانها، ولظواهر النصوص الواردة في ذلك، ويقلب اللَّه أعمال العباد، وهي أعراض أجسامًا لها ثقل، فتوضع الحسنات في كفة، والسيئات في كفة، وهذا هو القول الذي تشهد له النصوص من الكتاب، والسنة كما سيأتي ذكر بعض منها بعد قليل.

وذهب البعض إلى أن المراد من وزن الأعمال وزن صحائف الأعمال، أو أن اللَّه تعالى يظهر الرجحان في كفة الميزان على وفق مقادير أعمالهم في الخير والشر.

وذهبت المعتزلة إلى إنكار الميزان زاعمين أن الأعمال أعراض لا يمكن وزنها، فكيف إذا زالت، وتلاشت؟ بل المراد به العدل الثابت في كل شيء، ولذا ذكره، بلفظ الجمع، وإلا فالميزان المشهور واحد.

وقيل: هو الإدراك، فميزان الألوان البصر، والأصوات السمع، والطعوم الذوق، وكذا سائر الحواس، وميزان المعقول العلم، والعقل.

راجع: الإرشاد: ص/ 320، والمحصل للرازي: ص/ 343، والمعالم له: ص/ 128، والمواقف للعضد: ص/ 384، وشرح المقاصد: 5/ 120 - 121، وشرح العقيدة الواسطية: ص/ 122 - 124، وشرح الطحاوية: 2/ 188 - 193، والكشاف للزمخشري: 2/ 574، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 178 - 179.

ص: 339

لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47](1)، وجمع الميزان في الآية للاستعظام، وقيل: بالنظر إلى أفراد المكلفين (2).

وفي الحديث أنه ميزان له كفتان، ولسان يقف المكلف بين الكفتين، وتوضع حسناته في إحدى الكفتين، وسيئاته في الأخرى (3).

(1) وقوله تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102 - 103]، وقوله:{فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 6 - 9].

قال العلماء: إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال لأن الوزن للجزاء، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة، إذ إن المحاسبة لتقرير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها. راجع: شرح الطحاوية: 2/ 189.

(2)

قال ابن أبي العز الحنفي: "يحتمل أن يكون ثم موازين متعددة توزن فيها الأعمال، ويحتمل أن يكون المراد الموزونات، فجمع باعتبار تنوع الأعمال".

راجع: شرح الطحاوية: 2/ 189، 192، وانظر: تفسير ابن كثير: 3/ 181، وفتح القدير للشوكاني: 4/ 410 - 411، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: 3/ 145 - 146.

(3)

ورد في ذلك أحاديث منها:

ما رواه الإمام أحمد عن عبد اللَّه بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه سيخلص رجلًا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلًا كل سجل مد البصر، ثم يقول له: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمتك كتبتي الحافظون؟ قال: لا يا رب، فيقول: ألك عذر، أو حسنة؟ فيبهت الرجل، فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم، =

ص: 340

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه، فيقول: أحضروه، فيقول: يا رب وما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال: إنك لا تظلم قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، قال: فطاشت السحلات، وثقلت البطاقة، ولا يثقل شيء بسم اللَّه الرحمن الرحيم" وهذا دليل على وزن صحائف الأعمال.

وفي رواية أخرى: "توضع الموازين يوم القيامة، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة" وهو يدل على أن العامل يوزن مع عمله.

ويشهد له ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللَّه جناح بعوضة قال: اقرؤوا إن شئتم: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] ".

وعند الإمام أحمد عن ابن مسعود: إنه كان يجنى سواكًا من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:"مم تضحكون؟ قالوا: يا نبي اللَّه من دقة ساقيه، فقال: والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد". كما أنه قد وردت الأحاديث في وزن الأعمال نفسها كما في صحيح مسلم. عن ابن مالك الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان والحمد للَّه تملأ الميزان" وفي البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان سبحان اللَّه وبحمده سبحان اللَّه العظيم"، وروى أبو نعيم في الحلية عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يؤتى بابن آدم يوم القيامة، فيوقف بين كفتي الميزان، ويوكل به ملك، فإن ثقل ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبدًا، وإن خف ميزانه نادى الملك بصوت يسمع الخلائق شقي شقاوة لا يسعد بعدها أبدًا".

راجع: صحيح البخاري: 6/ 117، 8/ 107، 9/ 199، وصحيح مسلم: 1/ 140، 8/ 70، 125، وتحفة الأحوذي: 9/ 498، 501، وسنن ابن ماجه: 1/ 120 - 121، 2/ 422 - 423، 578 - 579، ومسند الإمام أحمد: 1/ 421، 2/ 213، 4/ 260، 5/ 131، 342، 343، 370، وسنن أبي داود: 2/ 541 - 542.

ص: 341

والموزون قيل: صحائف الأعمال [وقيل: بل الأعمال](1) الصالحة تجعل أجسادًا نورانية، والسيئات أجسادًا ظلمانية (2)، واللَّه تعالى قادر على أن يجعل العرض جوهرًا، كما أوجده من العدم.

وكان على المصنف ذكر الحوض، فإنه وردت به الأحاديث الصحاح (3)، وأجمعت عليه الصحابة ومن بعدهم.

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

تقدم في الأحاديث التي سبق ذكرها آنفًا أن الوزن يكون للأعمال، والعامل، وصحائف الأعمال.

وراجع: تشنيف المسامع: ق (174/ ب)، والغيث الهامع: ق (170/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 421، وهمع الهوامع: ص/ 467.

(3)

الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حد التواتر، رواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابيًا، وقد استقصى طرقها الحافظ ابن كثير في كتابه النهاية بما لا مزيد عليه وإليك بعضًا منها:

عن سهل بن سعد قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إني فرطكم على الحوض من مر عليَّ شرب ومن شرب لم يظمأ أبدًا، ليردن عليَّ أقوام أعرفهم، ويعرفوني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا لمن غير بعدي".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي".

عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "إن قدر حوضي كما بين أيلة إلى صنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء".

وعن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "حوضي مسيرة شهر ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء من شرب منها، فلا يظمأ أبدًا". =

ص: 342

وجمهور المفسرين على أنه المراد من قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1](1)، هو حوض في غاية العظم، اختلفت الأحاديث في قدر مساحته (2) ماؤه أبيض من اللبن، وطعمه أحلى من العسل، وريحه

= وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمامكم حوض كما بين جرباء، وأذرح".

وفي رواية: "حوضي كما بين الكوفة إلى الحجر الأسود" وعن معبد بن خالد أنه سمع حارثة ابن وهب يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وذكر الحوض، فقال:"كما بين المدينة، وصنعاء".

راجع: صحيح البخاري: 8/ 148 - 152، وصحيح مسلم: 7/ 65 - 72، وسنن أبي داود: 2/ 538 - 539، وتحفة الأحوذي: 7/ 133 - 139، وسنن ابن ماجه: 2/ 579 - 581، ومسند أحمد: 3/ 225، 230، 4/ 149، 154، 5/ 149، والنهاية لابن كثير: 2/ 3 - 38.

(1)

وقد اختلف أهل التأويل في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أقوال كثيرة، سأحيل على المراجع التي ذكرت فيها.

وقد روى البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال: "أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ مجوفًا، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر".

وعن أبي عبيدة عن عائشة رضي الله عنها قال: سألتها عن قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قالت: "نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم شاطئاه عليه در مجوف آنيته كعدد النجوم".

وقال ابن عباس في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه اللَّه إياه. راجع: صحيح البخاري: 6/ 219، 8/ 148.

وانظر: تفسير الطبري: 30/ 207، 213، وتفسير القرطبي: 2/ 216 - 218، والكشاف: 4/ 290 - 291، وتفسير ابن كثير: 4/ 557 - 560، وفتح القدير للشوكاني: 5/ 502 - 504.

(2)

تقدم ذكر الأحاديث التي ذكرت مساحة الحوض على اختلافها في ذلك في صدر المسألة.

ص: 343

أطيب من المسك، وآنيته أكثر من نجوم السماء، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أبدًا (1).

اللهم بحرمة (2) من أكرمته بالحوض الكوثر نسألك أن تسقينا منه شربة لا نظمأ بعدها أبدًا.

(1) مذهب سلف الأمة، وعلمائها وجوب الإيمان بالحوض الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهو جسم مخصوص كبير متسع الجوانب يكون طوله وعرضه سواء، وسوف يكون في الأرض المبدلة، وهي أرض بيضاء كالفضة، لم يسفك فيها دم، ولم يظلم على ظهرها أحد قط، تظهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء.

والقول الراجح: أن الحوض قبل الميزان، والصراط، لأن الناس يخرجون عطاشًا من قبورهم، واختاره الغزالي، والقرطبي، وابن أبي العز الحنفي، وابن كثير وغيرهم وذهب المعتزلة إلى نفيه، وهم محجوجون بما تقدم من الأدلة.

راجع: النهاية لابن كثير: 2/ 36، والمواقف: ص/ 383، والطحاوية مع شرحها: 1/ 268 - 272، والعقيدة الواسطية مع شرحها: ص/ 125 - 126، وشرح المقاصد: 5/ 121، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 184 - 186.

(2)

التوسل بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبته، وطاعته، وبدعائه، وشفاعته، والصلاة والسلام عليه، ونحو ذلك مما هو من أفعاله، وأفعال العباد المأمور بها في حقه، فهذا مشروع باتفاق المسلمين.

وأما التوسل بذاته، فللعلماء فيه قولان منهم من جوزه لحديث الأعمى ومنهم من منعه، وحمل حديث الأعمى على أنه توسل بدعائه لا بذاته، كما أنهم اختلفوا في جواز الحلف به إلى قولين: الجواز، والمنع.

وقد ذكر الخلاف شيخ الإسلام ابن تيمية، وفصل في ذلك بما لا مزيد عليه ورجح المنع.

راجع: مجموع الفتاوى: 1/ 140 - 141، 222، 265، 285، 310، 324.

ص: 344

ومما يجب الإيمان به أن الجنة، والنار مخلوقتان الآن بالفعل، وخالف في ذلك المعتزلة (1).

لنا -على ذلك-: قصة آدم نطق بها التنزيل (2) بحيث لا تقبل التأويل وانعقد عليه الأجدع قبل ظهور البدعة.

(1) اتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان، موجودتان الآن لنصوص الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، وسيأتي في الشرح ذكر بعض الأدلة.

وأنكرت طائفة من المعتزلة وجودها الآن، وقالت: بل ينشئها اللَّه تعالى يوم القيامة، ثم منهم من أحال ذلك عقلًا كعباد بن سليمان الصيمري، ومنهم من أجازه عقلًا، وأحاله سمعًا كعبد الجبار، وأبى هاشم ومن تبعهما، ولهم شبه استدلوا بها على ما ذهبوا إليه، وهي كلها ترجع إلى أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله اللَّه، وأنه ينبغي أن يفعل كذا، ولا ينبغي له أن يفعل كذا، وقاسوه على خلقه في أفعالهم، فهم مشبهة في الأفعال، ودخل التجهم فيهم، فصاروا مع ذلك معطلة، وقالوا: خلق الجنة قبل الجزاء عبث؛ لأنها تصير معطلة مددًا متطاولة، فردوا بذلك نصوص الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة.

راجع: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: ص/ 11 - 19، 34 - 37، وشرح الطحاوية: 2/ 193 - 199، وشرح المقاصد: 5/ 107 - 111، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 421، وتشنيف المسامع: ق (174/ ب)، والغيث الهامع: ق (170/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 467.

(2)

قال تعالى: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 35]، وقوله:{وَيَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 19].

وقد اختلفوا في الجنة إلى أسكنها آدم عليه الصلاة والسلام، وأهبط منها هل هي جنة الخلد، أو جنة أخرى غيرها؟ فذهبت طائفة إلى أن اللَّه أسكن آدم جنة الخلد =

ص: 345

والآيات الدالة على ذلك كثيرة، والأخبار بذلك على الإجمال متواترة معنى، وإن كان تفاصيلها آحادًا.

منها قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 13 - 15](1)، ومنها قوله:{أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}

= التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة، وهي دار الثواب وهو قول الجمهور. وقال آخرون: هي جنة غيرها جعلها اللَّه له، وأسكنه إياها ليست جنة الخلد، وقد جعلها له ابتلاء ثم اختلفوا في مكانها على قولين:

الأول: أنها في السماء، لأنه أهبطهما منها، وهذا قول الحسن، والجبائي.

الثاني: أنها في الأرض لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نهيا عنها، وحمل الإهباط على الانتقال من بقعة إلى بقعة، كما في قوله:{اهْبِطُوا مِصْرًا} [البقرة: 61] واختاره أبو مسلم الأصبهاني، وأبو القاسم البلخي وهذا حكي عن أبي حنيفة، وأصحابه.

وذهب فريق إلى أن الكل ممكن، والأدلة متعارضة فوجب التوقف، وترك القطع بأي قول منها، واختاره ابن الخطيب.

وقد ذكر العلامة ابن القيم الأقوال، وأدلة كل قول، وما رد به على غيره بإسهاب مفيد في كتابه حادي الأرواح: ص/ 19 - 34.

(1)

وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، ورأى عندها جنة المأوى كما في حديث أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء، وفي آخره:"ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألران لا أدري ما هي قال: ثم دخلت الجنة، فإذا هي جنابذ اللؤلؤ، وإذ اترابها المسك".

راجع: صحيح مسلم: 1/ 103، وصحيح البخاري: 4/ 68.

ص: 346

[آل عمران: 133]، {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحديد: 21] (1). وفي الحديث الصحيح دخول النبي الجنة، ورؤيته قصر عمر (2) وعرض الجنة، والنار عليه في عرض الحائط، وهو في صلاة الكسوف (3) وفيه -أيضًا- الحديث القدسي:"أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"(4).

وتأويل الآيات، والأحاديث بأنها أمور محققة الوقوع -عبر عنها بالماضي- بعيد جدًا، المقام يأباه، بل لا يصح في بعض الأحاديث مثل

(1) وجاء في النار قوله تعالى: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131]، وقوله:{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا} [النبأ: 21 - 22].

(2)

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا نحن عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ قال: "بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر، فذكرت غيرته، فوليت مدبرًا، فبكى عمر، وقال: أعليك أغار يا رسول اللَّه؟ ".

راجع: صحيح البخاري: 4/ 12.

(3)

ورد في ذلك حديث جابر، وابن عباس، وعائشة، وغيرهم وحديث الكسوف طويل ومحل الشاهد منه هنا في رواية ابن عباس:"قالوا: يا رسول اللَّه رأيناك تناولت شيئًا في مقامك هذا، ثم رأيناك كففت؟ فقال: إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودًا، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ورأيت النار، فلم أر منظرًا كاليوم قط أفظع. . . .".

راجع: صحيح البخاري: 2/ 44، وصحيح مسلم: 3/ 31 - 34.

(4)

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: قال اللَّه تبارك وتعالى: "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت. . . ." الحديث. قال أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17].

راجع: صحيح البخاري: 6/ 145.

ص: 347

قصر عمر، وعرض النار عليه، وهو في الصلاة بحيث تكعكع (1) فيها وقال:"أي رب وأنا معهم"(2).

والمخالف مصادم للنصوص، والإجماع، فلا حاجة إلى المناظرة معه، والاشتغال بالرد عليه.

قوله: "ويجب نصب الإمام".

أقول: مباحث الإمامة بالفروع أشبه، لأن نصب الإمام من فروض الكفاية، ولا شك أنه من العمليات، إلا أنه لما كثر الخلاف فيها بأن أوجبها بعضهم على اللَّه، وهم الشيعة، وبعض المعتزلة (3).

(1) راجع: صحيح البخاري: 2/ 44.

(2)

جاء في سنن ابن ماجه من حديث أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما وفيه فقال: "لقد دنت من الجنة حتى لو اجترأت عليها لجئتكم بقطاف من قطافها، ودنت من النار حتى قلت: أي رب وأنا فيهم". راجع: سنن ابن ماجه: 1/ 382 - 383.

(3)

اختلف في حكم الإمامة إلى أقوال: فذهب أهل السنة، وأكثر المعتزلة، والزيدية إلى أن السمع وحده هو الذي دل على وجوب نصب الإمام على الأمة.

وذهب الأصم من المعتزلة إلى وجوب ذلك على الأمة حال السلامة، وظهور العدل أما في وقت الحرب، والاضطراب، فلا يجب لئلا يزيد الشر في نصبه.

وذهب الفوطي هشام وهو من المعتزلة أيضًا إلى العكس مما قاله أبو بكر الأصم وذهبت الشيعة الإمامية إلى وجوب الإمامة عقلًا على اللَّه تعالى.

وذهب أبو الحسين البصري، والكعبي، والجاحظ، وغيرهم إلى وجوبها عقلًا على الخلق. وذهب الخوارج إلى عدم الوجوب مطلقًا، وهو رأي النجدات منهم، ومنهم من فصل. =

ص: 348

وأيضًا كثر خلاف أهل البدعة في خلافة الخلفاء الراشدين، فلذلك ألحقت بأصول الدين، ثم ألحق أن نصب الإمام واجب على الأمة بالدليل السمعي لينصف المظلوم من الظالم، ويحفظ حوزة الإسلام من قهر الكفار، ويجهز الحجيج، ويجيش للجهاد، ويصرف مال الفيء (1)، والغنيمة (2) على المستحقين (3).

= راجع: الإرشاد للجويني: ص/ 345، والمحصل للرازي: ص/ 351 - 352، والمعالم له: ص/ 141 - 142، والمواقف: ص/ 395 وما بعدها، وشرح المقاصد: 5/ 232 وما بعدها وتشنيف المسامع: ق (174/ ب - 175/ أ) والغيث الهامع: ق (170/ ب - 171/ أ) والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 421، وهمع الهوامع: ص/ 468.

(1)

فاء: الرجل يفئ فيئًا من باب رجع، وفي التنزيل:{حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أي: حتى ترجع إلى الحق.

والفيء: ما نسخ الشمس، وهو من الزوال إلى الغروب، كما أن الظل ما نسخته الشمس، وهو من الطلوع إلى الزوال.

واصطلاحًا: ما رده اللَّه تعالى على أهل دينه من أموال من خالفهم في الدين بلا قتال ابتداء إما بالجلاء، أو بالمصالحة على جزية، أو غيرها، أو بعد انتهاء الحرب كلية، ووضع أوزارها.

راجع: مختار الصحاح: ص/ 516، والمصباح المنير: 2/ 486، والتعريفات: ص/ 170.

(2)

غنم الشيء إذا أصابه، والمغنم، والغنيمة بمعنى، وغنمه الشيء إذا نفله.

واصطلاحًا: اسم لما يؤخذ من أموال الكفار بقوة الغزاة، وقهر الكفرة، على وجه يكون فيه إعلاء كلمة اللَّه تعالى، فالغنيمة أخص من الفيء كما أن النفل أخص من الغنيمة لأنه زيادة تزاد على سهم الغازي.

راجع: مختار الصحاح: ص/ 482، المصباح المنير: 2/ 454، والتعريفات: ص/ 162، والمغني لابن قدامة: 8/ 378.

(3)

فالغنيمة تخمس إلى خمس أخماس: فأربعة أخماس تقسم على من شهد الواقعة، فيعطى للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم، وشرط من يسهم له خمسة شروط: الإسلام، =

ص: 349

وله شروط منها: كونه قرشيًا (1)، فإن لم يوجد، فكناني، فإن لم يوجد، فرجل من ولد إسماعيل، فإن لم يوجد، فرجل من المعجم.

= البلوغ، العقل، الحرية، الذكورية، فإذا حضر المعركة من اختل في حقه شرط من الشروط السابقة، فلا يسهم له، بل يرضخ له حسب ما يقدره الإمام بشرط أن لا يبلغ الرضخ سهم الراجل، أما الخمس الباقي من الغنيمة فيقسم على خمسة أسهم:

سهم: لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويصرف بعده للمصالح، وسهم: لذوى القربي، وهم بنو هاشم، وبنو المطلب، وسهم: لليتامى، وسهم: للمساكين، وسهم: لأبناء السبيل، وكذلك الفيء يخمس إلى خمسة أخماس: فيصرف خمسة على من يصرف عليهم خمس الغنيمة الذين سبق ذكرهم، وأما الأربعة الأخماس الباقية فتعطى للجند المنقطعين لرصد العدو، وحماية الثغور، والمتأهبون دائمًا للجهاد يقسم بينهم حسب ما يرى الإمام، كما يصرف منه في المصالح العامة للمسلمين كإعداد العدة من سلاح، وكراع، وغير ذلك.

راجع: المغني لابن قدامة: 8/ 403 وما بعدها، وشرح فتح القدير: 5/ 469، وما بعدها، ومغني المحتاج: 3/ 92 وما بعدها، ومتن الغاية والتقريب: ص/ 227 - 230، وصحيح مسلم: 5/ 151.

(1)

ذهب الأكثر إلى أن الإمام يشترط أن يكون قرشيًا إن وجد. وذهب الخوارج، وبعض المعتزلة، وغيرهم إلى أنه لا يشترط ذلك. واستدل الجمهور بحديث علي، وأنس وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"الأئمة من قريش، ولي عليكم حق عظيم، ولهم مثله ما فعلوا ثلاثًا إذا استرحموا ورحموا، وحكموا، فعدلوا، وعاهدوا فوفوا، فمن لم يفعل ذلك منهم فعليه لعنة اللَّه، والملائكة، والناس أجمعين"، وفي رواية أنس الأخرى "الأمراء من قريش ما عملوا فيكم بثلاث ما رحموا إذا استرحموا، وأقسطوا إذا أقسموا، وعدلوا إذا حكموا" والحديث رواه أحمد، والنسائي، والطبراني، والبزار، والحاكم، والبيهقي، ورواه أبو بكر بن أبي عاصم عن أبي بكر بن أبي شيبة من حديث أبي برزة الأسلمي، وإسناده حسن كما قال الحافظ، وقد اختلف في رفعه، ووقفه، ورجح =

ص: 350

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الدارقطني في العلل الموقوف، قال الحافظ:"وقد جمعت طرقه في جزء مفرد عن نحو من أربعين صحابيًا".

قلت: ويؤيد ذلك ما جاء في البخاري، ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الناس تبع لقريش في هذا الشأن، مسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم، والناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا" وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى منهم اثنان" وعن معاوية رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: "إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه اللَّه على وجهه ما أقاموا الدين".

وقد احتج بذلك أبو بكر الصديق على الأنصار رضي الله عنهم جميعًا- يوم السقيفة، فرجعوا إلى قوله تاركين ما كانوا قد عزموا عليه بعد ما سمعوه يذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم الذي سبق ذكره آنفًا، أما الذين لم يعتبروا هذا الشرط، فقد استدلوا بأحاديث وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وهي كثيرة جدًا كما أنها جاءت مطلقة في كل أمير تولى أمر المسلمين دون تقييد بقرشي، أو غيره، وذلك دليل على عدم اعتبار الشرط المذكور، منها: حديث أبي ذر رضي الله عنه قال: "إن خليلي صلى الله عليه وسلم أوصاني أن أسمع، وأطيع، وإن كان عبدًا مجدع الأطراف" وفي رواية يحيى بن حصين: "إن أمر عليكم عبد مجدع، أسود يقودكم بكتاب اللَّه فاسمعوا، وأطيعوا" وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "على المرء المسلم السمع، والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية، فلا سمع، ولا طاعة" وفي حديث عبادة "بايعنا على السمع، والطاعة في منشطنا، ومكرهنا، وعسرنا، ويسرنا وأثره علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله قال: إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من اللَّه فيه برهان"، وكل فريق حمل أدلة الفريق الآخر على محمل يصرفه عن ظاهره، والجمهور مع أنهم اشترطوا أن يكون قرشيًا إلا أنهم لا يجوزون الخروج على غيره إذا انعقدت له البيعة وعلى هذا حملوا أحاديث وجوب الطاعة لهم، وقد تقدم ذلك في ذكر الشارح الخلاف في الخروج على الإمام الفاسق، ورجح قوله الجمهور في تحريم الخروج عليه ولو كان ظالمًا، فاسقًا. =

ص: 351

ولا يشترط كونه هاشميًا (1)، لإجماع الصحابة على [إمامة](2) أبي بكر.

وشرطه: أن يكون مكلفًا، حرًا، ذكرًا، مسلمًا، ذا رأي، شجاعًا، مجتهدًا، سميعًا، بصيرًا، ناطقًا (3).

= راجع: صحيح البخاري: 4/ 60 - 61، 217 - 218، وصحيح مسلم: 6/ 2 - 4، 13 - 17، ومسند أحمد: 3/ 129، وسنن البيهقي: 8/ 143 - 144، والمستدرك: 4/ 501، وتلخيص الحبير: 4/ 42.

وراجع الخلاف في هذا الشرط: الإرشاد للجويني: ص/ 359، والمواقف: ص/ 398، وشرح المقاصد: 5/ 243 - 245.

(1)

هناك شروط انفرد بها الشيعة الإمامية، وغلاتهم، والإسماعيلية منها: أن يكون الإمام عندهم هاشميًا، بل علويًا، وأن يكون عالمًا بكل أمر حتى المغيبات، وأن يكون معصومًا إلى غير ذلك من مزاعمهم.

وليس لهم في ذلك شبهة فضلًا عن حجة، وإنما قصدهم نفي إمامة أبي بكر وعمر، وعثمان رضي الله عنهم، ونفي خلافة بني العباس باشتراطهم كونه علويًا، وكفى بإجماع المسلمين على إمامة الأئمة الثلاثة حجة عليهم.

راجع: المواقف: ص/ 398، وشرح المقاصد: 5/ 246 - 252.

(2)

ما بين المعكوفتين سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(3)

هناك شروط يجب أن تتوفر في الإمام بالإجماع وهي أن يكون مسلمًا، مكلفًا، عاقلًا، بالغًا، عدلًا، ذكرًا، حرًا، سميعًا، بصيرًا، ناطقًا.

واختلفوا في اشتراط كونه مجتهدًا، وذا رأي، وشجاعة، فذهب الأكثر إلى اشتراط الاجتهاد في الأصول، والفروع ليقوم بأمور الدين، وأن يكون ذا رأي ليقوم بأمور الملك، وتدبير الدولة، وأن يكون شجاعًا ليقوى على الذب عن الحوزة بتجهيز الجيوش، وسد الثغور، وضرب الرقاب، والتنكيل بمستوجبي الحدود. =

ص: 352

وطريق صيرورته إمامًا: إما باتفاق أهل الحل والعقد، أو استخلاف الإمام القائم بها، أو القهر والغلبة، بحيث تنفذ أحكامه.

والصحيح: أنه بالغلبة يصير إمامًا، وإن كان فاسقًا، أو جاهلًا (1). ولا يشترط كونه فاضلًا، بل نصب المفضول، مع الفاضل جائز: لأن

= وذهب البعض إلى أنه لا تشترط هذه الصفات لأنها لا توجد، فيكون اشتراطها عبثًا، أو تكليفًا بما لا يطاق، ومستلزمًا للمفاسد التي يمكن دفعها بنصب فاقدها.

راجع: الإرشاد للجويني: ص/ 359، والمواقف: ص/ 398 - 399، وشرح المقاصد: 5/ 246 - 252، 257.

(1)

اتفقت الأمة على أن الرجل لا يصير إمامًا بمجرد صلاحيته للإمامة واجتماع الشرائط فيه، بل لا بد من أمر آخر به تنعقد الإمامة، وهي طرق منها ما اتفق عليها، ومنها ما اختلف فيها.

فالمتفق عليها من الطرق طريقة النص، وذلك فيما لو نص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على تعيين شخص لذلك، أو كان النص من الإمام السابق على شخص بعينه بأن يتولى الأمر من بعده كما فعل أبو بكر في استخلافه لعمر رضي الله عنهما.

والمختلف فيها إذا اتفق أهل الحل، والعقد على مبايعة شخص، فهل يصير بذلك إمامًا، وتثبت بيعته؟

فذهب أهل الحق من أهل السنة والجماعة إلى أنها تثبت، وتنعقد بذلك ولا يشترط إجماعهم على ذلك، ولا عدد محدود، بل تنعقد بعقد واحد، كما في بيعة أبي بكر رضي الله عنه، واشترط البعض أن يكون العقد بمشهد من الشهود لئلا يدعي آخر أنه عَقْد عُقِدَ سرًا متقدمًا على هذا العقد.

وبقول الجمهور قالت الخوارج، والصالحية، والمعتزلة غير أنهم اشترطوا عدد خمسة ممن يصلح للإمامة أخذًا من أمر الشورى. =

ص: 353

المقصود يحصل به. وعليه الجمهور، وقيل: لا يجوز، مع وجود الفاضل (1).

قوله: "ولا يجب على الرب شيء".

أقول: الوجوب يستعمل بمعنى اللزوم العقلي تارة، وبمعنى صفة فعل يستحق فاعله الثواب، وتاركه العقاب، وكلا المعنيين في حقه تعالى محال (2). أما الثاني فواضح.

= وذهبت الزيدية غير الصالحية إلى أن كل فاطمي خرج شاهرًا لسيفه داعيًا إلى سبيل ربه يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فهو إمام، وبه قال الجبائي، والجمهور على خلاف ذلك. وذهبت الشيعة الإمامية، ومن تبعهم إلى أنها لا تثبت إلا بالنص، ولهم شبه اعتبروها أدلة على ما ذهبوا إليه، ردها الجمهور وأبطلها.

أما من أخذ السلطة بالقهر والغلبة، فإنه يصر إمامًا عند الجمهور، دفعًا للمفاسد التي تترتب على مقاومته ومنعه.

وخالف في ذلك آخرون، وقول الجمهور هو الأسلم والأصح.

راجع: الإرشاد للجويني: ص/ 357، والمواقف للإيجي: ص/ 399 - 400، وشرح المقاصد: 5/ 252 - 257.

(1)

وهذا مذهب الأشعري، وطائفة، وعلى هذا القول إذا عقدت الإمامة للمفضول، مع وجود الفاضل يكون ملكًا لا إمامًا، وذكر الجويني أن المسألة على ذلك تكون اجتهادية، فإنها لو كانت قطعية لعصى العاقدون للمفضول، مع وجود من هو أفضل منه.

راجع: الإرشاد: ص/ 363، والمواقف للإيجي: ص/ 412 - 413، وتشنيف المسامع: ق (175/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 422، وهمع الهوامع: ص/ 468، والغيث الهامع: ق (171/ أ).

(2)

وهذا هو مذهب أهل الحق، وأما المعتزلة، فقد أوجبوا عليه أمورًا: =

ص: 354

وأما الأول: فلأنه فاعل بالاختيار يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ومن كان شأنه هذا لا يتصور في حقه لزوم شيء.

وأما قوله تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54]، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] فليس محل النزاع، إذ ذلك اللزوم إنما نشأ من وعده السابق، واللَّه لا يخلف الميعاد (1).

= الأول: اللطف، وفسروه بأنه الذي يقرب العبد إلى الطاعة، ويبعده عن المعصية كبعثة الأنبياء.

الثاني: الثواب على الطاعة، لأنه مستحق للعبد.

الثالث: العقاب على المعصية زجرًا عنها، فإن تركه يساوي بين المطيع والعاصي، مع ما فيه من الإغراء للعصاة على المعصية، وهذه تقدم ذكرها.

الرابع: الأصلح للعبد في الدنيا.

الخامس: العرض عن الآلام، لأن الألم عندهم إن وقع جزاء لِمَا صدر من العبد من سيئة لم يجب على اللَّه عوضه، وإلا فإن كان الإيلام من اللَّه وجب العوض، وإن كان من مكلف آخر، فإن كان له حسنات أخذ من حسناته، وأعطى المجني عليه عوضًا لإيلامه له، وإن لم يكن له حسنات وجب على اللَّه تعالى إما صرف المؤلم عن إيلامه، أو تعويضه من عنده بما يوازي إيلامه.

راجع الخلاف في هذه المسألة بين الجمهور، والمعتزلة، ثم بين المعتزلة أنفسهم: الإرشاد للجويني: ص/ 236 - 256، والمواقف: ص/ 328 - 330، وشرح المقاصد: 4/ 321 - 334، وشرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار: ص/ 611، 644 - 647، والمحصل للرازي: ص/ 295.

(1)

فهذا الوعد محض إحسان، وإنعام، وتفضل منه سبحانه وتعالى، لا إيجاب، وإلزام. إذ كيف يتصور الوجوب عليه، ولا حكم إلا له سبحانه.

راجع: تشنيف المسامع: ق (175/ أ)، والغيث الهامع: ق (117/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 422، وهمع الهوامع: ص/ 468.

ص: 355

قوله: "والمعاد (1) الجسماني".

أقول: قد اختلف في المعاد بعد العدم، ولو قدم المصنف هذه المسألة على الصراط، والميزان كان أولى.

فنقول: ذهب جمهور المتكلمين القائلين بأن الروح جسم لطيف إلى أن المعاد جسماني فقط (2)، ومن قال: بأن الروح مجرد، أي: جوهر ليس بجسم، ولا جسماني فالمعاد -عندهم- جسماني، وروحاني، وإليه ذهب الغزالي، والراغب الأصفهاني، والقاضي أبو زيد، والكعبي من المعتزلة صرح بهذا في شرح المقاصد (3).

فمن قال (4): المعاد الجسماني، والروحاني مذهب المسلمين، والمعاد الجسماني وحده لم يَعلم قائلًا به، فلم يدر مذهب أهل السنة في النفس، والروح، وأنهما من قبيل الأجسام النورانية، والفلاسفة على أن المعاد روحاني ليس إلا: لأن إعادة المعدوم غير معقولة (5).

(1) آخر الورقة (148/ ب من أ).

(2)

وهذا هو الراجح، والصواب كما تقدم عند الكلام على الروح وتعريفها.

(3)

راجع: شرح المقاصد: 5/ 88 - 90.

(4)

جاء في هامش (أ): "وهو الزركشي"، راجع: تشنيف المسامع: ق (175/ أ).

(5)

اختلف الناس في المعاد إلى المذاهب إلى ذكرها الشارح وهناك مذهب الدهريين، والطبعيين حيث أنكروا معاد الأبدان، والأرواح معًا، لأن الإنسان عندهم هو هذا الهيكل المحسوس الذي يفني بصورته، وأعراضه، فلا يعاد. =

ص: 356

وجنة الروح، كمالاتها العلمية التي اكتسبت حين اتصالها بالجسم، والنار الجهل، والحسرات على فوات الفرص، وتضييع العمر في اللذات.

وهذا الكلام مبني على قانون الفلسفة من عدم فناء العالم واستحالة طيِّ السماوات، وخرق الأفلاك، وكلها كفر صريح مصادم لقانون الشريعة المطهرة، فالأولى عدم تسويد الصحائف بها، فإنه يظلم طريق السالكين، ولا نفع فيه للمسترشدين، بل نعتقد أن العالم فانٍ، لأنه محدث إلى الفناء، والباقي هو الذات الأحدية تعالى، وتقدس.

ويعيد الخلق بعد الفناء، كما بدأهم أول مرة لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، وكما بدأ بعد العدم يعيد، لا يتفاوت الحال بالنسبة إلى قدرته.

قوله: "ونعتقد".

أقول: مما يجب الإيمان به أن أبا بكر أفضل الخلق بعد الأنبياء، لأنه خير هذه الأمة، وهذه الأمة خير الأمم.

= وتوقف جالينوس لتردده في أن النفس هل هو المزاج، أو جوهر باق؟ ومذهب الفلاسفة، والدهريين لا شك في كفر قائله لأنه مكذب للَّه تعالى حيث أثبت سبحانه المعاد في كتبه المنزلة، وعلى ألسنة رسله وأنبيائه.

راجع: المحصل للرازي: ص/ 339 - 342، والمعالم له: ص/ 125 - 127، والمواقف للعضد: ص/ 371 - 372، وشرح المقاصد: 5/ 88 - 96، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 170 - 172.

ص: 357

وقد انعقد إجماع الصحابة على خلافته بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد سبق نزاع من الأنصار (1)، ثم بعد وقوفهم على النص رجعوا إلى الحق فلم يبق له مخالف، وكما أجمعوا على إمامته أجمعوا على أفضليته (2).

والمخالف محجوج بالإجماع، ولم يخالف في هذا إلا الشيعة.

وقول على يرد عليهم، لأنه قد استفاض عنه أنه سأله محمد ابن الحنفية (3) من أفضل الناس بعد رسول اللَّه؟

(1) حيث قالوا: منا أمير، ومنكم أمير، عندنا اجتمعوا مع المهاجرين في سقيفة بني ساعدة بعد وفاة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكر الأدلة إلى أرجعهم بها أبو بكر إلى الاتفاق فبايعوه رضي الله عنهم جميعًا.

(2)

مذهب أهل السنة، والجماعة أن الإمام بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أبو بكر وبه قالت المعتزلة، وأكثر الفرق، كما أن أهل الحق أجمعوا على أن أبا بكر أفضل الصحابة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وذهبت الشيعة إلى أن الإمام بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب، وأنه أفضل الصحابة بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ووافقهم أكثر المعتزلة في الأفضلية أعني متأخري المعتزلة، أما قدماؤهم فهو مع الجمهور.

راجع: الإرشاد للجويني: ص/ 361، 363، والمحصل للرازي: ص/ 351، والمعالم له: ص/ 144 - 151، والمواقف للإيجي: ص/ 400 - 412، والعقيدة الواسطية: ص/ 144 - 146، وشرح المقاصد: 5/ 263، 290، وشرح الطحاوية: 2/ 267، وتأريخ الخلفاء: ص/ 44 وما بعدها، وشرح كتاب الفقه الأكبر: ص/ 96 وما بعدها، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 144.

(3)

هو محمد بن علي بن أبي طالب الهاشمي القرشي، أبو القاسم المعروف بابن الحنفية أحد الأبطال الأشداء في صدر الإسلام، وهو أخو الحسن والحسين غير أن أمهما فاطمة الزهراء، وأمه خولة بنت جعفر الحنفية، ينسب إليها تمييزًا له عنهما، وكان =

ص: 358

فقال: أبو بكر، فقال: ثم من؟ فقال: عمر، فقال: ثم من؟ فقال: عثمان.

قال: قلت: وأنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين (1).

والقول: بأن الأخبار الواردة في فضائلهم (2) متعارضة، إلا أن الغالب على الظن أن أبا بكر أفضل (3).

= يقول: الحسن، والحسين أفضل مني، وأنا أعلم منهما، كان ورعًا واسع العلم، قويًا، شجاعًا، أسود اللون، وكان المختار الثقفي يدعو الناس إلى إمامته، ويزعم أنه المهدي وتزعم الكيسانية أنه لم يمت، وأنه مقيم برضوى، جبل قرب المدينة المنورة، مولده سنة (21 هـ) بالمدينة، ووفاته سنة (81 هـ) بها، وقيل بالطائف.

راجع: طبقات ابن سعد: 5/ 91، 116، ووفيات الأعيان: 1/ 499، وصفة الصفوة: 2/ 42، وحلية الأولياء: 3/ 174، والبدء والتأريخ: 5/ 75، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/ 88، ونزهة الجليس: 2/ 254.

(1)

رواه البخاري عن محمد ابن الحنفية وفيه: "وخشيت أن يقول: عثمان قلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين".

راجع: صحيح البخاري: 4/ 9، وتأريخ الخلفاء: ص/ 45، ومجموع الفتاوى: 3/ 153.

(2)

انظر ما جاء في فضائل الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين: صحيح البخاري: 4/ 2 - 25، وصحيح مسلم: 7/ 108 - 119، وسنن أبي داود: 2/ 511 - 519،

وتحفة الأحوذي: 10/ 137 - 239، وتأريخ الخلفاء: ص/ 27 - 187، وسنن ابن ماجه: 1/ 48 - 58.

(3)

جاء في هامش (أ): "قاله التفتازاني في شرح المقاصد".

قلت: والأصح أن التفتازاني حكاه عن إمام الحرمين لا أنه من كلامه كما قد يفهم من التعليق المذكور في الهامش.

راجع: الإرشاد للجويني: ص/ 363، وشرح المقاصد: 5/ 291.

ص: 359

ليس بمرضي، بل يجب الجزم بأفضليته للإجماع على ذلك قبل ظهور البدع.

وبعده أفضل الناس عمر كذلك بالإجماع من الصحابة (1).

ثم بعده عثمان، ولبعض أهل السنة في ذلك وقفة (2)، ثم علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، وإمام المسلمين، وأول الفئة الباغية في الإسلام من شق عليه العصا، ونازعه في الإمامة بعد انعقادها (3).

(1) راجع: المواقف: ص/ 407 وما بعدها، وشرح المقاصد: 5/ 290 وما بعدها.

(2)

أجمع أهل السنة: والجماعة على أن أبا بكر أفضل الصحابة، ثم عمر كما تقدم، واختلفوا في التفاضل بين عثمان، وعلي، ومذهب جمهور أهل السنة أن عثمان أفضل من علي حسب ترتيبهم في الخلافة. وذهب بعض أهل السنة إلى التوقف في ذلك لتقارب فضائلهما، وحكي عن مالك، وذهب بعض أهل الكوفة، والبصرة إلى تفضيل علي على عثمان وهذا مروى عن سفيان الثوري، وأبي حنيفة، والظاهر من قوله أنه مع جمهور أهل السنة.

راجع: شرح المقاصد: 5/ 290 - 291، وكتاب الفقه الأكبر مع شرحه: ص/ 98 - 99، 178، وتشنيف المسامع: ق (176/ أ - ب)، والغيث الهامع: ق (171/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 469 - 470، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 422، وشرح جوهرة التوحيد: ص/ 144.

(3)

هذه إشارة من الشارح إلى ما وقع من الاختلاف بين علي، ومعاوية رضي الله عنهما، وأهل السنة لا يشكون في أن الحق مع علي رضي الله عنه، وأن معاوية متأول في خروجه على علي، والصحابة ليسوا معصومين من الخطأ.

كما تقدم ذكر ذلك عند الكلام على معنى عدالة الصحابة: 3/ 114.

ص: 360

ومما يجب الإيمان به براءة عائشة رضي الله عنها، من كل ما يشينها مما نسب إليها أهل الإفك. نطق بذلك التنزيل على أبلغ وجه (1).

(1) ملخص قصة الإفك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذ أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فلما أراد التوجه إلى غزوة بني المصطلق، وهي غزوة المريسيع أقرع بينهن، فخرجت القرعه على عائشة، فتوجهت معه، وعند رجوعهم منها ضاع عقدها، فتخلفت في طلبه، فحملوا هودجها ظنًا منهم أنها فيه، وساروا فرجعت إليهم، فلم تجدهم، فمكثت مكانها، فأخذها النوم، فمر بها صفوان بن المعطل، وكان يعرفها قبل نزول آية الحجاب، فأناخ ناقته، وولاها ظهره، وحملها عليها حتى لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فرموها به، والذي تولى معظم إنشاء الإفك، ونشره هو عبد اللَّه ابن أبي ابن سلول لعنه اللَّه حتى إن ضعفاء المسلمين جعلوا يرددون ذلك نقلًا من المنافقين، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فجمع الصحابة، وقال:"يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي، فواللَّه ما علمت على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا"، فأنزل اللَّه في براءتها قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} إلى قوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [النور: 11 - 26].

ولذلك انعقد على براءتها إجماع الأمة، فمن جحد براءتها، أو شك فيها كفر بلا خلاف لتكذيبه للقرآن، والسنة.

وأما من سب غير عائشة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فالأصح أنه كقذف عائشة رضي الله عنها بلا فرق، لأن فيه أذى، وعارًا، وغضاضة على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

راجع: صحيح البخاري: 5/ 147 - 148، وصحيح مسلم: 8/ 112 - 119، وتحفة الأحوذي: 9/ 29 - 37، وسنن ابن ماجه: 2/ 120، والصارم المسلول على شاتم الرسول: ص/ 45 - 53، 565 - 567.

ص: 361

وسب الشيخين ليس بكفر على الأصح (1).

ومما يجب الإيمان به أن الصحابة كلهم عدول هم خير القرون (2) أفضل من جاء بعدهم لم يلحق شأو أدناهم، ولو أنفق

(1) الأولى في هذا التفصيل، وهو، إن سبهم سبًا لا يقدح في عدالتهم، ولا في دينهم مثل وصف بعضهم بالبخل، أو الجبن، أو قلة العلم، أو عدم الزهد، ونحو ذلك، فهذا يستحق التأديب، والتعزير، ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك، وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من أهل العلم.

وأما من لعن، وقبح مطلقًا، فهذا محل الخلاف فيهم لتردد الأمر بين لعن الغيظ، ولعن الاعتقاد.

وأما من اقترن بسبهم دعوى أن عليًا إله، أو أنه كان هو النبي، وإنما غلط جبريل في الرسالة، فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره، وكذلك من زعم منهم أن القرآن نقص منه آيات، وكتمت، أو زعم أن له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة، ونحو ذلك، وهؤلاء يسمون القرامطة، والباطنية، ومنهم التناسخية، وهؤلاء لا خلاف في كفرهم، وكذلك من جاوز في سبهم إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلا نفرًا قليلًا لا يبلغون بضعة عشر نفسًا، أو أنهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب أيضًا في كفره، لأنه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضا عنهم، والثناء عليهم، وأنهم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] وخيرها هو القرن الأول، وغير ذلك.

وبالجملة فمن أصناف السابة من لا ريب في كفره، ومنهم من لا يحكم بكفره ومنهم من تردد فيه، وذكر هذا التفصيل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

راجع: الصارم المسلول على شاتم الرسول: ص/ 567 - 587.

(2)

للحديث الوارد في ذلك وقد تقدم 3/ 112 - 113، التعليق (3).

ص: 362

ملء الأرض ذهبًا (1): لأنهم فازوا بشرف صحبته صلى الله عليه وسلم، ومن أضيف إلى الصدور تصدر، وما جرى بينهم محمول على الاجتهاد.

وبعضهم، وإن أخطأ لا ينقص من مقداره شيئًا، فإنه ليس بمعصوم هذا مع وجوب اعتقاد أن مقاتل عليٍّ باغ بإجماع أهل العصر الثاني وإلى يومنا هذا.

ومما يجب اعتقاده أن أئمة الهدى كأبي حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد، وسائر المجتهدين من التابعين، ومن بعدهم بذلوا وسعهم في حل المشكلات، والجمع بين الأحاديث والآيات، ولم يألوا نصحًا للمسلمين رضوان اللَّه عليهم أجمعين (2).

عاملهم اللَّه فوق ما أملوا من أنواع الكرامة، وحشرنا في زمرتهم إنه على ذلك قدير.

ونعتقد أن الشيخ أبا الحسن الأشعري شيخ أهل السنة في أصول الدين على الحق، ومخالفوه على الباطل كالكرامية، والحشوية.

ونعتقد أن المشايخ من الصوفية (3) الذين تواتر أنهم كانوا على جادة

(1) تقدم ذكر الحديث في ذلك 3/ 88. وراجع: مجموع الفتاوى: 3/ 152.

(2)

راجع: التنبيه للبطليوسي: ص/ 7 وما بعدها ورفع الملام عن الأئمة الأعلام: ص/ 9، وما بعدها، والإنصاف للدهلوي: ص/ 34 وما بعدها.

(3)

لفظ الصوفية لم يكن مشهورًا في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر بعد ذلك إلا أنه قد نقل التكلم به عن بعض الأئمة، والشيوخ، كسفيان الثوري والحسن البصري، والإمام =

ص: 363

الشريعة ماشين، وكانوا عن البدع ناكبين، أهل النجاة ومن سادة الفرقة الناجية (1).

قوله: "ومما لا يضر جهلُه، وتنفع معرفتُه".

أقول: قد اشتهر بين الناس أن الوجود فيها مذاهب ثلاثة:

= أحمد بن حنبل، وأبي سليمان الداراني، وغيرهم وقد وقع نزاع في المعنى الذي أضيف إليه الصوفي.

فقيل: إنه نسبة إلى أهل (الصفة) ورد هذا لأنه لو كان كذلك لقيل: صُفِّيّ.

وقيل: نسبة إلى الصف المقدم بين يدى اللَّه، وهو غلط إذ لو كان كذلك لقيل: صَفِّيّ.

وقيل: نسبة إلى الصفوة من خلق اللَّه ورد، لأنه لو كان كذلك لقيل: صَفَوَيّ.

وقيل: نسبة إلى صوفة بن بشر بن أد، وهو جاهلي وهذا مردود، لأن من تكلم بذلك من النساك لا يعرف هذا الاسم.

وقيل: إنه نسبة إلى لبس الصوف، وهذا هو المعروف؛ لأن بداية ظهور الصوفية كان بالبصرة وكانوا يلبسون الصوف زهدًا، وورعًا، لذا فقد اشتهر أهل البصرة بالزهد، وأهل الكوفة بالفقه.

راجع: مجموع الفتاوى: 11/ 5 - 7 وما بعدها.

(1)

وذلك كالإمام الجنيد فإنه إمام هدى كما قال شيخ الإسلام.

وكذا الشيخ عبد القادر الجيلاني، وذي النون المصري، وغيرهم ممن اتصف بما ذكره الشارح، أما من انتسب من المتأخرين إلى هذه النسبة وابتدع، وخالف الشرع قولًا، وفعلًا فلا يعتبرون من الفرقة الناجية.

راجع: تشنيف المسامع: ق (177/ أ - 178/ أ)، والغيث الهامع: ق (172/ أ - ب)، والمحلي على جمع الجوامع:(2/ 422)، وهمع الهوامع: ص/ 470 - 471.

ص: 364

مذهب الشيخ الأشعري أن وجود كل شيء عينه (1) ومذهب سائر المتكلمين ما عدا الشيخ أن الوجود زائد على الماهية مقول على الوجودات الخاصة بالتواطؤ.

ومذهب الفلاسفة أن وجود الباري تعالى عين ذاته وفي الممكنات زائد مقول بالتشكيك.

وقد كثر في ذلك الكلام، والقيل، والقال.

والتحقيق الذي لا محيد عنه أن الوجود المطلق هو الكون في الأعيان وذلك معنى مشترك لا ريب فيه.

فقول الشيخ: إن وجود الشيء عينه ليس معناه أن كون الشيء في الأعيان مفهومه ذلك الشيء الذي هو الإنسان، والفرس بل أراد أن معروض الوجود كزيد مثلًا لا يمتاز في الخارج عن الوجود امتياز السواد

(1) وهو مذهب أبي الحسين البصري، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية قال:"الصواب أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودة في الخارج بخلاف الماهية في الذهن، فإنها مغايرة للوجود في الخارج" ورجحه المصنف.

راجع: المذاهب إلى ذكرها الشارح في المسألة: مجموع الفتاوى: 3/ 77، 191، والمحصل للرازي: ص/ 93 - 97، والمعالم له: ص/ 30، والمواقف للعضد: ص/ 48 - 52، وشرح المقاصد: 1/ 303، 307 وما بعدها، وتشنيف المسامع: ق (178/ ب)، والغيث الهامع: ق (172/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 461، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 423 - 424.

ص: 365

عن الجسم الأسود، وهذا لا يخالف الشيخ فيه أحد من العقلاء، إذ ليس في زيد ما يشار إليه بأنه وجود زيد.

والجمهور، فهموا من قوله: إن الوجود عين الماهية التنافي بين كونه عينًا، وبين كونه زائدًا مشتركًا.

وقد عرفت أنه لم يرد ذلك، فلا خلاف بينه وبين المتكلمين، وأنت يجب عليك التمسك. مما ذكرت لك، وتعض عليه بالنواجذ، فإنه ينجيك عن ضلالة ضل فيها أقوام، وزل فيها الأقدام (1).

قوله: "فعلى الأصح المعدوم ليس بشيء".

أقول: قد اختلف في أن المعدوم هل يطلق عليه اسم الشيء، أم لا؟ وليس الخلاف مبنيًا على اللغة، بل في اللغة يطلق اسم الشيء على الموجود والمعدوم ممكنًا كان، أو محالًا باتفاق العلماء، إنما النزاع في إطلاق اسم الشيء على المعدوم بمعنى الثابت المتقرر، فعند أهل الحق الشيء، والثابت، والموجود ألفاظ مترادفة لا يطلق الشيء إلا على الموجود الخارجي الكائن بين الأعيان (2).

(1) قال الأشموني في بداية هذه المسألة: "هذا هو القسم الثاني من قسمى أصول الدين وهو ما لا يجب معرفته في العقائد، وإنما هو من رياضته، فينفع علمه ولا يضر جهله وهو ما يذكر من هنا إلى الخاتمة" همع الهوامع: ص/ 471.

(2)

ووافق الجمهور من المعتزلة أبو الهذيل العلاف وأبو الحسين البصري من أن المعدوم الممكن الثبوت نفي محض خلافًا لباقي المعتزلة كما سيذكره الشارح.

راجع: المحصل للرازي: ص/ 78 - 82، والمعالم له: ص/ 30 - 31، والمواقف: ص/ 53 - 57، وشرح المقاصد: 1/ 355، 364 وما بعدها.

ص: 366

وعند المعتزلة: الثبوت أعم من الوجود، والمعدومات إما مستحيلة الوجود كاجتماع الضدين، أو ممكنة الوجود كجبل من ياقوت، فالمستحيلات ليست بشيء عندهم أيضًا (1)، والممكنات ثابتة متقررة (2). واستدلوا على ذلك بأن المعدوم معلوم متميز، وكل متميز ثابت، فالمعدوم ثابت.

قلنا: الكبرى ممنوعة، إذ لا يلزم من التمييز الثبوت، وإلا لزم ثبوت المحال، لأنه يمتاز عند العقل، وإلا لاستحال عليه الحكم.

قوله: "وأن الاسم المسمى".

أقول: تارة يطلق الاسم على اللفظ الدال على معناه استقلالًا غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة، وتارة على نفس التسمية، أي: وضع اللفظ في مقابلة المعنى المذكور.

ولا يخفى على أحد أنه على التقديرين ليس عين المسمى، بل يطلب هناك معنى ثالث يحمل عليه كلام الشيخ الأشعري، وأهل السنة القائلين بأن أسماء اللَّه تعالى ثلاثة أقسام:

ما يدل على الذات مثل لفظ الجلالة، فهو عين المسمى، وما يدل على غير الذات كالخالق، والرازق، وما ليس بعين، ولا غير، كالعالم، والقادر.

(1) آخر الورقة (113/ ب من ب).

(2)

آخر الورقة (149/ ب من أ).

ص: 367

فقد ظهر أن الشيخ أراد بالاسم مدلول اللفظ أعم من المطابقي، والتضمني (1).

فحيث قيل -في لفظ الجلالة-: إن الاسم عين المسمى، أراد مدلول اللفظ مطابقة هو عين الذات المقدسة، وفي الخالق اعتبر معنى الخلق وحده.

فقال: مدلول اللفظ، أي: مدلوله التضمني، وهو غير الذات المقدسة وكذلك العلم.

وغير الشيخ اعتبر المدلول المطابقي، وقال: الاسم عين المسمى، أي: المدلول عين الذات في الخارج، لأن الخالق مدلوله شيء له الخلق، وهو عين الذات المتصفة بالخلق، وكذلك العالم مدلوله شيء له العلم (2).

(1) اختلف في الاسم هل هو عين المسمى، أو غيره؟ فذهب الجمهور إلى أن الاسم عين المسمى، وقالت المعتزلة: الاسم غير المسمى، وقد ذكر الشارح في آخر المسألة أن الخلاف لفظي، وهو ما رجحه غيره كابن الحاجب كما سيأتي.

راجع: المحصل: ص/ 299، والمواقف: ص/ 333، وشرح المقاصد للتفتازاني: 5/ 337 وما بعدها، وتشنيف المسامع: ق (179/ أ - ب)، والغيث الهامع: ق (173/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 425، وهمع الهوامع: ص/ 472، والإرشاد للجويني: ص/ 135 - 136.

(2)

سبق أن الجمهور قالوا: الاسم عين المسمى ثم اختلفوا هل ذلك في كل اسم؟

فذهب الأكثر إلى أن كل اسم هو المسمى بعينه، وصاروا إلى أن الرب سبحانه وتعالى إذا سمي خالقًا، فالخالق هو الاسم، وهو الرب تعالى وليس الخالق اسمًا للخلق، ولا الخلق اسمًا للخالق، وطردوا ذلك في جميع الأقسام.

وذهب الأشعري إلى أن أسماء الرب ثلاثة أقسام كما تقدم في الشرح، ورجحه الجويني، وغيره. راجع: الإرشاد: ص/ 137 - 138.

ص: 368

قيل: الاسم لو كان غير الذات والمسمى، لزم حدوثه، فلم يكن الباري تعالى في الأزل إلهًا، وعالمًا، وقادرًا، بخلاف الخالقية، فإنها من صفات الفعل، وصفات الأفعال حادثة عندهم.

ولقوله -تعالى-: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] والتسبيح للمسمى دون اللفظ ولقوله: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم: 23]، {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} [يوسف: 40] إلى غير ذلك. والعبادة للمسمى لا الاسم، والكل ضعيف (1).

أما أولًا: فلأن المعتبر ثبوت المعنى في الأزل، ولا يضير كون اللفظ حادثًا.

على أن قول الشيخ: الاسم عين المسمى لم يرد به اللفظ، بل مدلول اللفظ كما تقدم.

وأما الثاني: فلأن المراد تقديس اسمه تعالى من أن يسمى غيره إلهًا، وذلك أمر مطلوب مأمور به كل أحد.

(1) واستدل للمعتزلة بقوله تعالى: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} [البقرة: 31]، وقوله:{اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 45].

قال الزركشي: "مطلع الخلاف في هذه المسألة أن المعتزلة لما أحدثوا القول بخلق القرآن، وأسماء اللَّه قالوا: إن الاسم غير المسمى تعريضًا بأن أسماء اللَّه غيره، وكل ما كان سواه مخلوق كما فعلوا في الصفات حيث لم يثبتوا حقائقها بل أحكامها تعلقًا بأن الصفة غير الموصوف، فلو كان له صفات لزم تعدد القديم" تشنيف المسامع: ق (179/ ب).

ص: 369

وأما الثالث: فلأن المراد بالأسماء أسماء الآلهة، أي: تعبدون الأصنام، وتسمونها آلهة، وليس لتلك الأصنام من صفات الألوهية [إلا الاسم الذي تطلقونه عليها، كمن يسمي نفسه سلطانًا، وليس عنده من أسبابه شيء، يقال: رضي من السلطة بالاسم.

وأنت إذا تأملت لم تجد خلافًا] (1) في المسألة، لأن أحدًا لا يقول: إن اللفظ المركب من الحروف نفس الذات، ولا إن مدلول اللفظ غير الذات.

وإن اصطلح الشيخ على أن الدال على المعنى مطابقة عين المسمى، وما دل تضمنًا غير المسمى، فلا مشاحة معه.

وأما من لم يفصل كما فصله، فليس لقوله كثير معنى: لأن حاصله ذات الشيء ذاته، ومدلول اللفظ هو المسمى.

قوله: (وأن أسماء اللَّه توقيفية).

أقول: ما ورد الإذن من الشارع بإطلاقه عليه تعالى من الأسماء، والصفات لا خلاف في جوازه، وما ورد المنع من الإطلاق كذلك لا خلاف في عدم جوازه.

إنما الخلاف فيما كان معناه قائمًا به تعالى، ولم يكن موهمًا بالنقص ولم يرد الإذن والمنع من إطلاقه.

فعند الأشاعرة لا يجوز الإطلاق، ويجوز عند المعتزلة، وإليه مال القاضي أبو بكر، وتوقف إمام الحرمين، وفصل الغزالي، فقال: يجوز في

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 370

الصفة، وهو ما يدل على معنى زائد على الذات ولا يجوز في الاسم، وهو الدال على الذات (1).

لنا -على عدم الجواز-: أن تسمية النبي بغير اسمه غير جائز، فتسمية الإله بالطريق الأولى.

ولأن آحاد الناس لو سمى إنسان ابنه بغير اسمه لما ارتضاه، وأنف من ذلك.

قالوا: لو لم يجز ذلك لما جاز تسمية أهل كل لغة بلغتهم، والإجماع على خلافه.

قلنا: كفى بالإجماع دليلًا على ذلك.

قال إمام الحرمين: معنى الجواز، وعدمه الحل، والحرمة، وكل منهما حكم شرعي لا بد له من دليل شرعي، والقياس إنما يجوز في العمليات دون الأسماء والصفات، والجواب: أن التسمية من العمليات.

(1) تسميته تعالى بالأسماء توقيفية، أي: يتوقف إطلاقها عليه سبحانه على الإذن فيه، وذلك للاحتياط، والاحتراز عما يوهم باطلًا، لعظم الخطر في ذلك.

والذي ورد به التوقيف في المشهور تسعة وتسعون اسمًا، وهذا هو مذهب الجمهور، وذهب غيرهم إلى غير ذلك كما ذكر الشارح.

راجع: المواقف للإيجي: ص/ 333 - 336، وشرح المقاصد: 5/ 343 - 345، وتشنيف المسامع: ق (180/ أ)، والغيث الهامع: ق (173/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 425، وهمع الهوامع: ص/ 472 - 473.

ص: 371

قال الغزالي: إجراء الأسماء، والصفات إخبار بثبوت مدلولاتها فيجوز إلا لمانع، والفرض أن لا مانع، لأن الكلام فيما إذا خلا عن إيهام النقص، بل أشعر بالتعظيم.

والحق هو هذا، وبه ينحل الإشكال عن ألفاظ كثيرة، أطلقت عليه تعالى من غير ورد الإذن كالصانع، والواجب، والمختار والمبدع، وغيرها.

فإن قلت: فلم لا يقال له على هذا: السخي، والعاقل، والفطن، ونظائرها؟

قلت: لإيهامها خلاف التعظيم لأن العقل -لغة- المنع.

والفطانة: شدة الفهم الذي (1) من شأنه أن يكون مسبوقًا بالعدم، والسخاء: الجود مع قابلية المحل لغيره.

واعلم أن الإذن أخص من وقوع الاسم في كلام الشارع، فإن مثل الماكر، والمستهزئ، والزارع، والحارث، وإن كان واقعًا في كلام اللَّه لا يجوز لأحد أن يقول: يا ماكر يا زارع، بل الإذن أن يرد في كلامه، مع إشعار أنه اسم من أسمائه الحسنى.

قوله: "وأن المرء يقول: أنا مؤمن إن شاء اللَّه".

أقول: ذهب جمهور السلف، وهو المروي عن ابن مسعود والمنقول عن الشافعي أن الإيمان يدخله الاستثناء.

(1) راجع: مختار الصحاح: ص/ 446، 507، والمصباح المنير: 2/ 422 - 423، 477.

ص: 372

وذهب أبو حنيفة، وأصحابه إلى عدم جواز ذلك، وعللوه بأنه شك، والشك لا يجامع الإيمان (1).

(1) مسألة الاستثناء في الإيمان فيه ثلاثة أقوال:

منهم من يوجبه، لأن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه، والإنسان إنما يكون عند اللَّه مؤمنًا، أو كافرًا باعتبار الموافاة، وما سبق في علمه أنه يكون عليه، وما قبل ذلك لا عبرة به، وهذا مأخذ كثير من الكلابية. ولأن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر اللَّه به عبده كله، وترك ما نهاه عنه كله، فإذا قال العبد: أنا مؤمن بهذا الاعتبار فقد زكى نفسه، وهذا منهي عنه في قوله تعالى:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] هذا المأخذ لبعض السلف الذين يوجبون الاستثناء في مثل هذه الحالة، ومنهم من حرمه كأبي حنيفة، وأصحابه، لأن الإيمان شيء واحد فمن استثنى في إيمانه، فهو شاك فيه. وذهب جمهور السلف إلى جوازه باعتبار، ومنعه باعتبار آخر فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه منع من الاستثناء بالإجماع، وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم اللَّه في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 2 - 4]، وقوله:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15]. فهذا الاستثناء جائز، وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة، أو استثنى تعليقًا للأمر بمشيئة اللَّه لا شكًا في إيمانه.

وعند التحقيق، والتدقيق في المسألة يتبين أن الخلاف لفظي، لأن من قطع بالحصول أراد بالإيمان مجرد الإذعان، وقبول العبادة، ومن فوض إلى المشيئة أراد ما يترتب عليه النحاة، والثمرات في المآل. =

ص: 373

والقائلون يحوازه لم يجعلوه بمعنى الشك في الإيمان الحالي، بل لما كان آية النجاة إيمان الموافاة، والأعمال بخواتيمها، وذلك غيب لا سبيل لعلم المخلوق إليه، فوض إلى المشيئة، وهذا لا يمكن لأحد النزاع فيه.

أو يقال: على سبيل التبرك، وإحالة الأمور إلى مشيئته تعالى تأدبًا، كما في الحديث الصحيح، السلام على أهل المقابر:"وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون"(1) مع [كونه مقطوعًا به](2).

قوله: "وأن ملاذَّ الكافر".

أقول: ملاذُّ الكافر -في الحقيقة- ليست نعمًا، وإن التذ بها، لأنه بالآخرة مصيره إلى النار، بل ذلك استدراج منه تعالى كما قال:{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182، القلم: 44]، وإن سميت نعمة نظرًا إلى الظاهر، فلا مشاحة فيه، بل بعض الآيات (3) فيه دلالة ظاهرة.

= راجع: المحصل للرازي: ص/ 350، والمعالم له: ص/ 135 - 136، وشرح الطحاوية: 2/ 88 - 92، والإيمان لشيخ الإسلام: ص/ 410، وشرح المقاصد: 5/ 214 - 217، وشرح الفقه الأكبر: ص/ 212 - 213.

(1)

عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غدًا مؤجلون وإنا إن شاء اللَّه بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد"، راجع: صحيح مسلم: 3/ 63.

(2)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

آخر الورقة (150/ ب من أ).

ص: 374

(1) اختلف هل للَّه على الكافر نعمة إلى مذاهب:

الأول: أن ما أعطوه من متاع الدنيا هو مجرد استدراج لا نعمة، بل ذلك نقمة عليه يزداد بها عذابه بمثابة الضيافة بالعسل المسموم قال تعالى:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 - 56] وهذا القول نسب إلى الأشعري في إحدى الروايتين عنه.

وذهبت المعتزلة إلى أن للَّه على الكافر النعمة الدينية، والدنيوية لقوله:{فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74]، ولقوله:{يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل: 83].

والثالث: إثبات الدنيوية دون الدينية واختاره القاضي أبو بكر، وحكي عن بعض الحنابلة، وهو مروي عن الأشعري.

قال الزركشي: قال الآمدي في الأبكار: "لا نعلم خلافًا بين أصحابنا أن اللَّه تعالى ليس له على من علم إصراره على الكفر نعمة دينية، وأما النعمة الدنيوية فاختلفوا فيها" ثم ذكر المذاهب التي سبق ذكرها.

والخلاف في هذه المسألة لفظي كسابقتها، لأن من نفى النعم مطلقًا لا ينكر الملاذ في الدنيا، وتحقيق أسباب الهداية غير أنه لا يسميها نعمًا لما يعقبها من الهلاك، ومن أثبت كونها نعمًا لا ينازع في تعقيب الهلاك لها غير أنه سماها نعمًا للصورة كما ذكر الشارح ذلك.

راجع: تشنيف المسامع: ق (181/ أ)، والغيث الهامع: ق (174/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 425، وهمع الهوامع: ص/ 473.

ص: 375

أقول: ذهب بعض الناس إلى أن النفس الإنسانية ما يشير إليه كل أحد بأنا (1).

فقال المصنف: ما يشير إليه الإنسان بأنا ليس هو النفس؛ بل هو الهيكل المخصوص.

وقد سبق تحقيق المسألة، وأن النفس والروح مترادفان عند أهل السنة، وأنهما عبارة عن جسم نوراني باتصاله الحياة، وبانفصاله الممات، وفي النفس أقوال آخر ضعيفة أعرضنا عن ذكرها (2).

قوله: "وأن الجوهر الفرد، وهو الجزء الذي لا يتجزأ".

أقول: الجسم عند المتكلمين قاطبة، وأكثر المعتزلة مركب من الأجزاء التي لا تتجزأ.

والجزء الذي لا يتجزأ: ما لا يقبل القسمة لا حسًا، ولا عقلًا، ولا وهمًا، وهو قابل للحياة وحده عند الأشاعرة، ونفاه الفلاسفة (3)، فعندهم

(1) راجع: المحصل للرازي: ص/ 327 وما بعدها، والمعالم له: ص/ 115 - 117.

(2)

سبق بيان ذلك فيما تقدم عند الكلام على الروح، والنفس: ص/ 314.

(3)

مذهب أهل الحق: أن الجسم مركب من أجزاء لا تتجزأ بالفعل، ولا بالوهم للعجز عن تمييز طرف منها، ولا بالفرض لاستلزام خلاف المقدور، وتسمى تلك الأجزاء جوهرًا فردًا، وخالف في ذلك معظم الفلاسفة، والنظام، والكندي من المعتزلة، قائلين: الجوهر المتحيز، وإن انتهى إلى حد لا يقبل القسمة بالفعل، فلا بد أن يكون قابلًا لها في الوهم، والتعقل، وهو مذهب فاسد لأنه يؤدي إلى وجود اتصالات لا نهاية لها، ويؤدي كذلك إلى أن تكون أجزاء الخردلة مساوية لأجزاء الجبل لأن كل =

ص: 376

الجسم مركب من الهيولى، والصورة والهيولى: جوهر يكون الجسم معه جسمًا بالقوة، والصورة: جوهر يكون الجسم معه جسمًا بالفعل، والأول: المحل، والثاني: الحال.

قوله: "وأنه لا حال".

أقول: جمهور المتكلمين على انحصار المعقول في الموجود، والمعدوم، ولا واسطة، وأثبت المعتزلة الحال واسطة.

وتعريف الحال: بأن يقال: صفة لا موجودة، ولا معدومة قائمة بموجود.

ووافقهم القاضي، وإمام الحرمين (1)، وقال: قيام الصفة بمحل كالعلم مثلًا يوجب له صفة كالعالمية مثلًا.

= واحد منها لا يتناهى، كما أنه إذا حكم الوهم على الجوهر الفرد بالانقسام، وحكم العقل بإحالته لقيام الدليل على ذلك انعدم الوهم.

راجع: المحصل للرازي: ص/ 168 - 169، والمعالم له: ص/ 35 - 36، والمواقف للإيجي: ص/ 184 - 186، وشرح المقاصد: 3/ 28 وما بعدها، وتشنيف المسامع: ق (181/ ب)، والغيث الهامع: ق (174/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 426، وهمع الهوامع: ص/ 474 - 475.

(1)

القاضي له قولان قول يوافق الجمهور، والآخر يوافق المعتزلة، وأما إمام الحرمين، فقد رجع إلى قول الجمهور، وقد ذكر الزركشي، والعراقي، والأشموني أنه قال -في كتابه المسمى بالمدارك-:"اخترنا في الشامل المشي على أساليب الكلام في القطع بإثبات الأحوال، ونحن الآن نقطع بنفيها". =

ص: 377

والحق: عدم ذلك، إذ ليس للمحل وراء العلم صفة أخرى (1).

قوله: "وأن النِّسب، والإضافات".

أقول: مذهب أهل الحق أن النسب، والإضافات ليست بموجودة، بل أمور اعتبارية سوى الأين، فإنه قالوا به والأعراض النسبية ما عدا الكم، والكيف (2).

= راجع: المحصل للرازي: ص/ 85 - 90، والمعالم له: ص/ 30 - 31، والمواقف للإيجي: ص/ 57، وتشنيف المسامع: ق (182/ ب)، والغيث الهامع: ق (174/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 475.

(1)

قال الأشموني -في الرد على المعتزلة-: "والجواب المطلق أن العدم هو عين انتفاء الوجود، وكل ما لا يكون موجودًا يكون معدومًا، وبالعكس، وهم سلموا أن الحال ليست بموجودة، فذلك عين تسليمهم أنها معدومة اللهم إلا أن يفسروا الوجود، والعدم بمعنى آخر، وحينئذ لا يبقى نزاع، ويصير البحث لفظيًا" همع الهوامع: ص/ 475.

(2)

ذهب أكثر المتكلمين إلى أن النسب، والإضافات أمور اعتبارية ذهنية لا وجودية بالوجود الخارجي.

وقال الفلاسفة - الحكماء: الأعراض النسبية موحودة في الخارج، وهي مفهومات تعقل بالقياس إلى الغير، والمشهور أن الأعراض النسبية سبعة:

الأين: وهو حصول الشيء في المكان مثل فوق، وتحت.

والمتى: وهو حصول الشيء في الزمان كساعة، ويوم، وليلة، وشهر، وسنة.

والوضع: وهو هيئة حاصلة للشيء بسبب نسبتين هما نسبة أجزائه إلى بعض، ونسبة أجزائه إلى الأمور الخارجية عنه، كهيئة الإنسان، فإنه يعتبر فيه نسبة أجزاء الجسم بعضها إلى بعض، ونسبة تلك الأجزاء إلى أمور خارجة عنها، كمثل كون رأسه فوق، ورجليه من أسفل. =

ص: 378

قالوا: لو وجدت لكانت حاصلة في محلها، لأنه لازم للعرض، ولو وجدت في محالها لوجد حصولها في المحال أيضًا، لأنه من الأمور النسبية، والفرض، وجود النسب، فيلزم أن يكون للحصول محل آخر، وللحصول حصول آخر، وهلم جرًا، فيحصل التسلسل.

لا يقال: يجوز أن يكون حصول الحصول نفس الحصول وأيضًا يرد النقض بالأين، لأنا نقول:

= والملك: وهو هيئة حاصلة للشيء بسبب ما يحيط به، أو ببعضه، وينتقل بانتقاله كالهيئة الحاصلة بالتعمم، والتقمص، والتسلح.

والإضافة: وهي النسبة العارضة للجسم بالقياس إلى نسبة أخرى كالأبوة العارضة للأب، والبنوة العارضة للابن، فإن كلًا منهما نسبة تعقل بالقياس إلى نسبة أخرى.

وأن يفعل: وهو كون الشيء مؤثرًا في غيره كالقاطع ما دام قاطعًا.

وأن ينفعل: وهو كون الشيء، متأثرًا من غيره كالمنقطع ما دام منقطعًا.

وأما ما استثناه الشارح من الأعراض النسبية فهما:

الكم: وهو المقدار، وشأنه أن يقبل القسمة لذاته.

والكيف: وهو عرض شأنه أن لا يقبل القسمة، واللاقسمة لذاته، وأن لا يتوقف تصوره على تصور غيره كالألوان، والحلاوة، والمرارة، والروائح، والأصوات، والنور، والظلمة، والنعومة، والخشونة.

راجع: معيار العلم: ص/ 107، والمعالم: ص/ 33 - 35، والمواقف: ص/ 97، وشرح المقاصد: 2/ 461، والتعريفات: ص/ 225، ومذكرات في علم المنطق: ص/ 50، ورسالة في علم المنطق لمحمد ياسين: ص/ 17 - 18، وضوابط المعرفة: ص/ 339، وتسهيل المنطق: ص/ 26.

ص: 379

الجواب -عن الأول-: إذا فرض أن النسب موجودات خارجية، لا يجوز أن يكون حصول الحصول [نفس الحصول](1).

لأن أحد الموجودين في الخارج لا يعقل كونه عين الآخر فيه، وإنما يتم ذلك في الأمور الاعتبارية.

وعن الثاني: أن المتكلمين لم يدعوا وجود النسب مطلقًا، بل أثبتوا الأين بالدليل القائم على وجوده، ولا يلزم جريان ذلك الدليل في كل نسبة حتى يتوجه النقض.

احتج الفلاسفة -على وجودها-: بأنا نحكم على السماء بأنها فوق الأرض، وهذه الفوقية حاصلة في نفس الأمر، وإن لم يكن هناك فرض وتقدير، وليست من الأعدام: لأنها حصلت بعد ما لم تكن، والحاصل بعد لم يكن ليس بعدم.

الجواب: النقض بالفناء، والمضى، أي: لو صح ما ذكرتم لزم كون الفناء، والمضي موجودين: لأنهما حدثا بعد العدم، وقد قلتم: إن الحاصل بعد العدم لا يكون عدمًا.

ونحن قاطعون بأن الفناء، والمضي ليسا بموجودين، لأنهما لو وجدا لزم وجود الأمس، بل يوم الطوفان، لأن الفناء الموجود لا يقدم إلا بالموجود، وهو محال.

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 380

قوله: "وأن العَرَضَ لا يقوم بالعَرَضِ".

أقول: قد اختلف في قيام العرض بالعرض، المتكلمون على عدم جوازه مستدلين عليه بوجهين:

الأول: أن معنى قيام الشيء بالشئ كونه تابعًا له في التحيز، ولا متحيز بالذات إلا الجوهر.

الثاني: لو قام عرض بآخر، وآخر بآخر، فلا بد من الانتهاء إلى الجوهر إذ لا يعقل قيام العرض بنفسه، وإذا كان كذلك، فلا وجه لجعله قائمًا بالعرض المحتاج إلى المحل، بل يجعل قائمًا بالجوهر المحل ابتداء.

والفلاسفة على (1) الجواز، مستدلين بأن معنى القيام ليس تبعية في التحيز (2)، بل هو الاختصاص بحيث يكون المحل منعوتًا، والحال ناعتًا، كما تقولون أنتم أيها المتكلمون في صفات الباري، مع كون المحل غير متحيز اتفاقًا، وإذا كان معنى القيام ما ذكرنا يجوز أن يكون عرض صفة لعرض آخر قائمًا به كالسرعة، فإنها صفة الحركة لا

(1) جاء في (أ، ب): "على عدم الجواز" وهو خطأ من الناسخ، والصواب المثبت ليقابل مذهب الجمهور، وليستقيم ما ذكره الشارح من أدلتهم على جوازه وهو المذكور في كتب المتكلمين.

راجع: المحصل للرازي: ص/ 161، والمواقف للإيجي: ص/ 100 - 101، وشرح المقاصد: 2/ 157 - 159، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 426.

(2)

آخر الورقة (132/ ب من ب).

ص: 381

المتحرك، وكالنقطة فإنها قائمة بالخط [لأنها نهاية الخط](1)، والملامسة والاستقامة.

والجواب: أن السرعة أمر اعتباري، فإن الحركة السريعة بطيئة بالنسبة إلى أسرع منها، والنقطة أمر عدمي، وكذا الاستقامة، والملاسة، ولو سلم وجودها، فهي قائمة بالجسم.

قوله: "ولا يبقى زمانين".

أقول: كما اختلف في قيام العرض بالعرض اختلف في بقائه، فالأشعري، وسائر المتكلمين على عدم بقائه، والفلاسفة على أنه يبقى (2).

واستدل الشيخ وأصحابه على عدم الجواز بأن البقاء أيضًا عرض، فلو كان العرض باقيًا لكان بقاؤه أيضًا باقيًا، وبقاء الباقي أيضًا كذلك، وهلم جرًا إلى ما لا نهاية له.

ورد بأن البقاء أمر عدمي، وهو استمرار الوجود، وإلا لزم التسلسل في الأمور الموجودة، لأن البقاء أيضًا يحتاج إلى بقاء آخر، وهلم جرًا.

والحق: أن عدم بقاء الأعراض -وإن كان مذهب الأشاعرة، وعليه يبنون كثيرًا من مطالبهم- لكن بقاء بعضها ضروري كالألوان، والأشكال، والعلوم، والمعارف، ودعوى تجدد الأمثال فيها في غاية البعد.

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع: المحصل: ص/ 162 - 163، والمعالم: ص/ 37، والمواقف: ص/ 101 - 103، وشرح المقاصد: 2/ 160 - 166.

ص: 382

والفلاسفة قسموا الأعراض إلى السيالة كالزمان، والحركة، والتكلم، فهذه لا يمكن بقاؤها، وإلى القارة: كالعلوم، والألون، فقولهم بالبقاء إنما هو في هذا القسم (1).

والعجب ممن يقول (2): إن القول ببقاء الأعراض إحدى مقدمتي الدليل على قدم العالم، والفلاسفة إنما ذهبوا إليه بناء على ذلك، ولم يعلم أن بين هذه المسألة، وبين القول بالقدم أبعد من السماء إلى الأرض، إذ لو قالوا: بأن الأجسام قديمة، وأعراضها متبدلة ساعة، فساعة ماذا كان يقدح في قولهم؟

ألا ترى أنهم قائلون: بأن الأفلاك قديمة، وحركاتها متجددة لا إلى أول، بل هم مطبقون على أن الممكن حال بقائه لا يستغني عن المؤثر، -كما سنذكره بعد هذا في شرح كلام المصنف-: الباقي محتاج إلى المؤثر والفلاسفة في إثبات قدم العالم أصلهم الذي بنوا عليه أن الواجب تعالى موجب في إيجاد العالم (3)، لا مختار وكما سبق منا تحقيق المسألة.

قوله: "ولا يحل محلين".

(1) راجع: تشنيف المسامع: ق (183/ ب)، والغيث الهامع: ق (175/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 476، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 427.

(2)

جاء في هامش (أ): "الزركشي". وراجع: تشنيف المسامع: ق (183/ ب).

(3)

آخر الورقة (151/ ب من أ).

ص: 383

أقول: قد اختلف في قيام العرض الواحد بمحلين (1)، منعه الجمهور: لأن تشخص العرض إنما هو بمحله إذ ما لم يحل محلًا لا يمكن تشخصه وإذا تشخص لمحل، فلو كان قائمًا بمحلين لزم تشخصه بهما، وهو محال، لأنه يلزم توارد علتين على محل واحد، وقد سبق بطلانه، ولأنه لو جاز قيام عرض واحد بمحلين لما حصل الجزم، بأن بياض العاج غير بياض الثلج، وبطلانه واضح.

قالوا: الأخوة قائمة بالأخوين، والجوار بالمتجاورين، والقرب بالمتقاربين.

ورد بأن القائم بأحدهما غير القائم بالآخر، والكلام في الواحد بالشخص.

قالوا: قالت الفلاسفة: الوحدة قائمة بالعشرة، والتثليث بالمثلث، وكذلك التربيع بالمربع.

(1) في هذه المسألة مذاهب:

مذهب الجمهور المنع، فهم يجزمون بأن السواد القائم بهذا المحل غير السواد القائم في المحل الآخر، وإن تشاركا في الحقيقة.

وزعم أبو هاشم أن التأليف عرض واحد حال في محلين، ثم وافق الجمهور بأنه يستحيل قيامه بأكثر من محلين.

وذهب جمع من قدماء الفلاسفة إلى أن الإضافات عرض واحد قائم بمحلين.

راجع: المحصل: ص/ 163، والمواقف: ص/ 103 - 104، وشرح المقاصد: 2/ 397 - 400، وتشنيف المسامع: ق (183/ ب)، والغيث الهامع: ق (175/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 427، وهمع الهوامع: ص/ 476 - 477.

ص: 384

قلنا: ليس محل النزاع إذ المحل واحد، وهو المجموع من حيث هو المجموع.

قوله: "وأن المثلين".

أقول: الغيران، إما مثلان: وهما المتفقان في الماهية كالبياض القائم بالورق، وبالثلج، وإما ضدان، كالحركة، والسكون، وإما خلافان، كالحلاوة، والسواد، وإما نقيضان، كالقيام، وعدمه (1).

إذا علم ذلك، فنقول: لا يجوز اجتماع المثلين، أي: العرضين المتماثلين في محل واحد؛ لأن البياضين، أو السوادين لو جاز اجتماعهما في محل لم يعقل بينهما تمايز (2).

ولأنه لو جاز ذلك لجاز لمن له العلم بمسالة أن يحصل علمًا آخر به، ولأنه لو جاز ذلك لما حصل الجزم بوحدة شيء من الأعراض لاحتمال أن تكون أمثالًا مجتمعة، واللوازم كلها ظاهرة البطلان.

احتجت المعتزلة -على جوازه-: بأن الجسم يعرض له السواد، ثم آخر، وآخر إلى أن يتكامل.

الجواب: أن تلك السوادات ليست متماثلة، بل ألوان مختلفة بالنوع غايته: أن يقال -على جميعها-: السواد بالتشكيك، والضدان أمرهما

(1) راجع: المحصل للرازي: ص/ 206.

(2)

وهذا مذهب الجمهور، وبه قالت الحكماء خلافًا للمعتزلة كما سيأتي.

راجع: المحصل للرازي: ص/ 207 - 208، والمواقف: ص/ 83.

ص: 385

واضح في عدم جواز الاجتماع، حتى يتكلم به العوام: الضدان لا يجتمعان، ولكن المهم معرفة الضدين.

فالضدان: هما الأمران الوجوديان اللذان بينهما غاية الخلاف. فالعمى والبصر ليسا بضدين؛ لأن أحدهما وجودي، والآخر عدمي. ولا البياض والخضرة؛ لأنهما، وإن كانا وجوديين، إلا أن الخلاف بينهما ليس في غاية، [بل غاية](1) الخلاف إنما هو بين السواد والبياض إذ لا يتصور فوقه خلاف آخر.

والنقيضان: هما الإيجاب والسلب، فلا يجتمعان ولا يرتفعان (2)، فلا يمكن أن يعقل شيئان إلا بينهما إيجاب بأن يقال: أحدهما هو الآخر، أو السلب بأن يقال: أحدهما ليس الآخر.

قوله: "وأن أحد طرفي الممكن ليس أولى به".

أقول: الإمكان نوعان، الإمكان الخاص: وهو سلب الضرورة من جانبي الوجود والعدم، مثل الإنسان، فإن وجوده وعدمه ليسا ضروريين.

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(2)

وبهذا يتبين الفرق بين الضدين والنقيضين، فالنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان كالعدم والوجود، والضدين لا يجتمعان، ولكن يرتفعان كالسواد والبياض.

راجع: التعريفات: ص/ 137.

ص: 386

والإمكان العام: وهو سلب الضرورة من أحد الطرفين، فيشمل الواجب، والممكن، والممتنع. إذا تقرر هذا، فنقول: لا يجوز أن يكون أحد طرفي (1) الممكن، أولى به من الآخر.

وقيل: العدم أولى به، لأن الوجود يحتاج إلى علة موجودة، والعدم يكفيه انتفاء شيء من أجزاء علة الوجود. وقيل: الأعراض السيالة كالحركهَ، والتكلم العدم أولى به، لاستحالة بقائها (2).

والجواب: أن الكلام في الممكن بالنظر إلى ذاته لا بالنظر إلى الخارج عنه، وما ذكرتموه ليس بالنظر إلى ذاته.

قوله: "وأن الباقي".

أقول: اختلف في أن الباقي حال بقائه هل يحتاج إلى السبب المؤثر، أم لا؟

الحق: أنه يحتاج، وهذا مبني على أن سبب احتياج الممكن، هل هو الإمكان، أو الحدوث، أو مجموعهما، أو الإمكان بشرط الحدوث؟

فبالأول: قال الفلاسفة، وبالثلاثة الأخيرة قال المتكلمون.

(1) أحد طرفي الممكن هنا: الوجود، والعدم.

(2)

راجع الخلاف في هذه المسألة: المحصل للرازي: ص/ 113، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 427، وتشنيف المسامع: ق (184/ أ)، والغيث الهامع: ق (175/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 477.

ص: 387

ومعنى كلام المصنف أن العلة، والسبب في الاحتياج أيًا ما كان من هذه الأمور يوجب احتياج الممكن حال بقائه إلى المؤثر، لأن الإمكان، والحدوث لا زمان للموجود الحادث.

قيل: لو احتاج حال البقاء، فالتأثير إما في الحاصل، وهو محال، أو في المتجدد، وليس ذلك تأثيرًا في الباقي.

قلنا: تأثيره في المتجدد، وهو الوجود بالإضافة إلى الزمان الثاني، وهو تأثير في الباقي، لأنه أفاده لدوام وجوده، إذ لو زال المؤثر لانتفى ذلك الدوام.

وقد فهم بعضهم (1): أن مراد المصنف من هذا الكلام الرد على الفلاسفة، فإنهم لم يقولوا باحتياج الباقي إلى المؤثر.

وليس كما فهمه: لأن مذهب الفلاسفة أن الإمكان علة الاحتياج، ولا شك أنهم مجمعون على أن الإمكان ذاتي للممكن لا يفارقه، بل مراد المصنف أنه على كل تقدير يلزم احتياج الباقي، وأعجب من هذا أنه بنى مسألة الحال على هذا.

قوله: "والمكان".

أقول: لا خفاء في ثبوت شيء ينتقل منه الجسم، وإليه، ويسكنه بحيث لا يسعه غيره، وهو المعني بالمكان، وإنما النزاع في حقيقته ما هي؟

(1) جاء في هامش (أ): "الزركشي". راجع: تشنيف المسامع: ق (184/ ب).

ص: 388

ذهب الفلاسفة المتأخرون مثل أرسطوطاليس (1)، وكثير من المتكلمين إلى أنه السطح الباطن من الجسم الحاوي المماس للسطح الظاهر من المحوي، فالسطح عبارة عن العرض القائم بظاهر الجسم له عرض، وطول، ولا عمق له، والحاوي كالكوز مثلًا، والمحوي كالماء الكائن [فيه](2).

وقيل: المكان بعد مجرد موجود، والمراد بالمجرد أنه ليس جسمًا، ولا جسمانيًا ينفذ فيه الجسم، ويحصل فيه، ويكون شاغلًا (3) له، وهذا مذهب شيخ أرسطوطاليس أفلاطون (4)، وكثير من قدماء الفلاسفة. وقيل: بعد مفروض، أي عدم محض، ونفي صرف ممكن أن لا يشغله شاغل، والذين يقولون: إنه الفراغ المتوهم الذي يشغله الجسم، حتى لو لم يشغله لكان خلاء.

(1) هو حكيم يوناني يعتبر فيلسوف الروم، وعالمها، وجهبذها، وخطيبها وطبيبها ولد في استاغير في مقدونيا، كان مؤدب، وصديق الإسكندر الكبير، وهو مؤسس المدرسة المشائية، وقد ترجم له ابن أبي أصيبعة، وأطال في ذكر حكمه، ومؤلفاته وغير ذلك.

راجع: عيون الأنباء: ص/ 86 - 105.

(2)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(3)

راجع تعريف المكان عند الحكماء، والمتكلمين: المواقف للإيجي: ص/ 113 - 120، وشرح المقاصد: 2/ 198 - 215، والتعريفات: ص/ 227.

(4)

أفلاطون: ويقال: فلاطن، وأفلاطن ومعناه العميم الواسع، وهو حكيم يوناني من أهل أثينا، فيلسوف الروم، وكان طبيبًا، عالمًا بالهندسة وغير ذلك من علوم الفلسفة له مؤلفات في الطب، والفلسفة وترجم ابن أبي أصيبعة له بإسهاب.

راجع: عيون الأنباء: ص/ 79 - 86.

ص: 389

استدلوا على أنه السطح المذكور، بأنه لو كان بعدًا مجردًا وجوديًا، فإذا نفذ فيه الجسم يلزم تداخل البعدين، أي: بعد المكان، وبعد المتمكن، بحيث يرتفع التمايز بينهما في الوضع، والمقدار، وتجويز ذلك يفضي إلى جواز تداخل العالم في حيز الخردلة وهو محال.

ولو كان بعدًا مفروضًا، أي: نفيًا محضًا لما قبل الزيادة، والنقصان، والثاني: باطل لأن البعد بين المدينتين أكثر من البعد بين الجوارين.

والجواب -عن الأول- أنه لا يلزم من جواز تداخل بعدين أحدهما مادي، والآخر مجرد تداخل البعدين الماديين.

وعن الثاني: بأن الزيادة، والنقصان باعتبار الفرض على معنى أن لو كان بين المدينتين (1) مقدار موجود، لكان ذلك المقدار الموجود أعظم من المقدار الموجود بين الجوارين.

قوله: "والخلاء جائز".

أقول: لما كان مذهب المتكلمين أن المكان عبارة عن الفراغ المتوهم الذي يشغله الجسم بمعنى أنه لو لم يشغله لكان خلاء أشار إلى أن الخلاء ممكن.

فإن قلت: كيف يتصور جواز الخلاء عند المتكلمين القائلين، بأن المكان نفي محض، وأمر وهمي؟

قلت: معناه أنه يمكن أن يكون جسمان لا يتماسان، ولا يكون بينهما ما يماسهما، كما أشار إليه المصنف.

(1) آخر الورقة (152/ ب من أ).

ص: 390

والدليل على جواز ذلك أنا لو طبقنا صفحة ملساء على أخرى مثلها بحيث لا يكون بينهما هواء لتساوى الأجزاء، فإذا رفعنا الصفحة العليا دفعة -ولنفرض الصفحتين عظيمتين- ففي أول الارتفاع يخلو الوسط جزمًا لأن نفوذ الهواء إنما هو من الأطراف (1).

قوله: "والزمان".

أقول: كما اختلف في حقيقة المكان، فكذا في حقيقة الزمان. فذهب قدماء الفلاسفة إلى أنه جوهر مجرد ليس بجسم، ولا جسماني. وقيل: هو الفلك التاسع، وهو -أيضًا- مذهب الفلاسفة، ومعدل النهار دائرة على الفلك الأعظم أعني التاسع (2)، وإنما سميت معدل النهار لتعادل الليل والنهار إذا كانت الشمس على سمتها.

(1) راجع: المواقف: ص/ 117 - 120، وشرح المقاصد: 2/ 204 - 215، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 428 - 429، وتشنيف المسامع: ق (185/ أ - ب)، والغيث الهامع: ق (176/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 478، والمحصل: ص/ 191.

(2)

هذا من علم الهيئة الباحث عن أحوال الأجسام البسيطة العلوية والسفلية من حيث كمياتها، وكيفياتها، وأوضاعها، وحركاتها اللازمة لها، وزعم الفلاسفة أن الأفلاك الثابتة بالرصد تسعة:

فلك الأفلاك، وهو المسمى بالفلك الأطلس لأنه غير مكوكب، وهو التاسع وبالعرش المجيد في الاصطلاح الشرعي، ويحرك الأفلاك الثمانية الأخرى، وتحته فلك الثوابت، ثم فلك زحل، ثم فلك المشتري، ثم فلك المريخ، ثم فلك الشمس، ثم فلك الزهرة، ثم فلك عطارد، ثم فلك القمر، وهو السماء الدنيا.

راجع: المواقف للإيجي: ص/ 200 وما بعدها، وشرح المقاصد: 3/ 139 وما بعدها.

ص: 391

وقيل: ليس نفس الفلك المذكور بل حركته.

وقيل: بل مقدار حركنه، وهو مختار أرسطوطاليس، ومتأخري الفلاسفة.

وذهب المتكلمون إلى أنه أمر عدمي، وعرفوه بأنه: متجدد معلوم يتقدر به متجدد غير معلوم، كما يقال: آتيك طلوع الشمس (1).

قال المصنف: والمختار أن (2) الزمان مقارنة متجدد [موهوم لمتجدد](3) معلوم إزالة للإيهام، وقد تبع في هذا الكلام الآمدي، وفي عبارته تسامح ظاهر، إذ لا يخفى أن حقيقته ليست عبارة عن المقارنة، بل تحصل من تقدير المتجدد الموهوم بالمتجدد المعلوم، حالة تسمى بالمقارنة، مثل مقارنة إتيانك لطلوع الشمس، فالإتيان هو المتجدد الموهوم، وطلوع الشمس المتجدد المعلوم، ولكل من أصحاب المذاهب أدلة أعرضنا عن ذكرها، لأن المسألة قليلة الجدوى، فالإحاطة بمآخذ الأقوال كافية.

قوله: "ويمتنع تداخل الأجسام".

(1) فإن طلوع الشمس معلوم، ومجيئه موهوم، فإذا قرن ذلك الموهوم بذلك المعلوم زال الإيهام.

راجع: المواقف للعضد: ص/ 110 - 112، وشرح المقاصد: 2/ 179 وما بعدها، والتعريفات: ص/ 114، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 429.

(2)

آخر الورقة (133/ ب من ب).

(3)

ما بين المعكوفتين سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

ص: 392

أقول: اتفق العقلاء على عدم جواز التداخل (1).

وقد عرفت أن المراد منه اتحاد الشيئين، أو أكثر بحيث لا يزداد الحجم.

ومن قال (2): إن دخول الملك في الرحم لتصوير النطفة يشكل على من لم يجوز التداخل (3) لم يدر معنى التداخل.

قوله: "وخلو الجوهر".

أقول: ذهب جميع العقلاء الذين يعتد بهم في الإسلام، والفلاسفة إلى أن الجوهر لا يخلو عن العرض (4).

(1) وذهب النظام إلى أن اللون، والطعم، والرائحة كل منها جسم لطيف، فإذا تداخلت هذه الأجسام اللطيفة حصل من مجموعها جسم كثيف.

راجع: المحصل للرازي: ص/ 189، والمواقف للإيجي: ص/ 251، وتشنيف المسامع: ق (185/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 429.

(2)

جاء في هامش (أ): "نقله الزركشي عن ابن أبي حمزة".

(3)

قال الزركشي: "وقال ابن أبي حمزة - في حديث إرسال اللَّه الملك إلى الرحم لينفخ فيه الروح، وهذا يرد على من قال: إن الجوهر لا يدخل في جوهر، ويدخل في الرحم ليصور، والرحم جوهر، ولا يشعر صاحبه به". تشنيف المسامع: ق (185/ ب).

(4)

وجوزه بعض الدهرية في الأزل، وهم بعض القائلين بأن الأجسام قديمة بذواتها محدثة بصفاتها، وجوزه الصالحية فيما لا يزال، وللمعتزلة تفصيل: فالبصرية منهم يجوزونه في غير الأكوان، والبغدادية يجوزونه في غير الألوان، وأما الجمهور وهم الذين منعوا خلو الجوهر عن العرض فبناء على أن الأجسام متجانسة، وإنما تتميز بالأعراض، فلو =

ص: 393

أما الفلاسفة، فلأنهم لم يقولوا بوجود الجوهر الفرد، والجسم مركب -عندهم- من الهيولى والصورة، وهم متفقون على عدم وجود إحديهما بدون الأخرى، فالموجود هو الجسم، وكل جسم لا يخلو عن شكل طبيعي، وحيز طبيعي.

وعند المتكلمين: الجوهر الفرد، والجسم المركب من الجواهر الفردة لا يخلو عن العرض، لأنه متناه، وكل متناه ذو شكل وهيئة.

وتوهم بعضهم (1) أن القائلين بقدم العالم من الفلاسفة يجوزون تجرد الجسم عن العرض، وهذا غلط، إذ القائلون بقدم الأفلاك قائلون بقدم أشكالها.

قوله: "والجوهر غير مركب من الأعراض".

أقول: مذهب الجمهور أن الجواهر غير متألفة من الأعراض ونسب خلافه إلى النظام، والنجار (2) من المعتزلة وبنوا على ذلك أن

= خلا عنها لم يكن شيئًا من الأجسام المخصوصة، بل جسمًا مطلقًا، والمطلق لا وجود له بالاستقلال ضرورة، ووافقهم النظام، ومنهم من احتج عليه بامتناع خلوه عن الحركة، والسكون، وضعف.

راجع: المواقف للإيجي: ص/ 252، وشرح المقاصد: 3/ 89 - 92، وتشنيف المسامع: ق (185/ ب - 186/ أ)، والمحلي في جمع الجوامع: 2/ 429.

(1)

جاء في هامش (أ): (الزركشي). راجع: تشنيف المسامع: ق (186/ أ).

(2)

هو الحسين بن محمد بن عبد اللَّه الرازي، أبو عبد اللَّه، رأس الفرقة النجارية من المعتزلة، وإليه نسبتها، كان حائكًا، وقيل: كان يعمل الموازين من أهل قم، وهو من متكلمي =

ص: 394

الجواهر غير متماثلة لكون ما تألف منها كذلك، هكذا وقع في المواقف (1).

والصواب: أن المخالف ضرار (2) لا النظام لأن مذهب النظام أن الجسم مركب من أجزاء غير متناهية هي الجواهر الفردة.

قوله: "والأبعاد متناهية".

أقول: اتفقت الفلاسفة، والمتكلمون على أن الأبعاد (3) القائمة بالأجسام متناهية.

= المجبرة، وله مع النظام عدة مناظرات وله مؤلفات منها: البدل في الكلام، وإثبات الرسل، والإرجاء، والقضاء والقدر، والثواب والعقاب، وغيرها، وتوفي سنة (220 هـ).

راجع: الفهرست لابن النديم: ص/ 229، واللباب: 3/ 215، والأعلام للزركلي: 2/ 276.

(1)

راجع: المواقف: ص/ 185.

(2)

وهذا هو الذي ذكره الفخر الرازي حيث قال: "زعم ضرار، والنجار أن ماهية الجسم مركبة من لون، وطعم، ورائحة، وحرارة، وبرودة، ورطوبة، ويبوسة" المحصل: ص/ 169، ثم أبطل ما ذهبا إليه، ورد عليهما.

وراجع: شرح المقاصد: 3/ 37 - 38.

(3)

أبعاد الجوهر هي الطول، والعرض، والعمق، ومعنى متناهية، أي: لها حدود تنتهي لها، والنهاية حد الشيء، وهو الطرف الذي إذا تحرك إليه متحرك وقف عنده بحيث لا يجد بعده شيئًا آخر، مثل النقطة للخط، وذهب بعض الأوائل، وحكماء الهند إلى إثبات أبعاد لا نهاية لها.

راجع: المحصل للرازي: ص/ 193 - 194، والمواقف للإيجي: ص/ 186 - 189، وشرح المقاصد: 3/ 33 - 38.

ص: 395

ونقل عن حكماء الهند، وجمع من المتقدمين، وأبي البركات (1) من المتأخرين خلافه.

لنا -على التناهى- أن لو أخرجنا خطين من نقطة مثل السلم، ويمشيان على الانفراج، والانفتاح هكذا إلى غير النهاية، لزم أن يكون غير المتناهي محصورًا بين الحاصرين، وهو محال.

ولنا -أيضًا- لو وجد بعد غير متناه نفرض نقصان ذراع منه، ثم نطبقه على بعد تام غير ناقص، فإما أن يقع بإزاء كل ذراع من الناقص ذراع من التام وهو باطل، وذلك لاستلزامه تساوي الناقص، والتام، أو ينقطع الناقص عن التام، ويزيده التام بذلك الذراع، والزائد على المتناهي بمقدار متناه، متناه لا محالة.

قوله: "والمعلول".

(1) هو عبد اللَّه بن أحمد بن محمود النسفي، الحنفي، حافظ الدين أبو البركات، كان فقيهًا، أصوليًا، متكلمًا، مفسرًا، نحويًا، وله مؤلفات منها: عمدة العقائد في الكلام، ثم شرحها، وسماها الاعتماد، مدارك التنزيل وحقائق التأويل في التفسير، منار الأنوار في أصول الفقه، والكافي في شرح الوافي، وكنز الدقائق، وكلاهما في فروع الفقه الحنفي، وتوفي سنة (710 هـ).

راجع: الجواهر المضيئة: 1/ 270 - 271، 2/ 267، والدرر الكامنة: 2/ 247، والفوائد البهية: ص/ 101 - 102، وتاج التراجم: ص/ 22، وكشف الظنون: 1/ 1168، وإيضاح المكنون: 1/ 98، وهدية العارفين: 1/ 464، ومعجم المؤلفين: 6/ 32.

ص: 396

أقول: علة الشيء بمعنى المؤثر في وجوده، تقدمه على المعلول بالذات لا بالزمان، كتقدم جرم الشمس على الإضاءة.

وقد تطلق العلة على ما يحتاج إليه الشيء (1)، وذلك المحتاج إليه إما داخل، أو خارج، والداخل إما أن يكون الشيء به ذلك الشيء بالقوة، وهي العلة المادية كالخشب للسرير، أو يكون ذلك الشيء بالفعل، وهي العلة الصورية كالهيئة الحاصلة للسرير بعد ضم الأخشاب.

والخارج إما أن يكون حصول الشيء، ووجوده منه، وهي العلة الفاعلية، أو لأجله، وهي العلة الغائية كالجلوس على السرير. هذا ومرادهم بأن العلة مع المعلول زمانًا، أو يعقبها مطلقًا، يريدون بذلك العلة الموثرة على طريق الإيجاب دون الاختيار، كحركة المفتاح مع حركة اليد، ولا يمكن ذلك إلا مع المعية الزمانية.

ومختار المصنف مع والده لا يستقيم على ما عليه المحققون (2) وإن اصطلحوا على شيء، فلا مشاحة معهم.

(1) راجع: شرح المقاصد: 2/ 77 - 80، والمواقف: ص/ 85، والمحصل للرازي: ص/ 209، والتعريفات: ص/ 154.

(2)

اتفقوا على أن العلة تتقدم المعلول بالمرتبة، ثم اختلفوا هل تسبقه في الزمان، أو تقارنه؟ على المذاهب إلى ذكرها الشارح مجملة، وبيانها:

ذهب الأكثر إلى أن العلة تقارن المعلول، وارتضاه إمام الحرمين، ونسبه إلى المحققين.

الثاني: أنها تسبقه، وهو يعقبها مطلقًا، وهو مختار المصنف تبعًا لوالده. =

ص: 397

وكذلك القول بالفرق بين الوضعية، والعقلية لا يصح على ما ذكرناه: لأن الوضعية تأثيرها بالإيجاب، أو بالاختيار، فعلى الأول: لا يتصور تأخر زماني، وعلى الثالث: ليست بعلة اصطلاحًا عندهم.

وشبهتهم -بأنه إذا قال - لغير المدخول بها-: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم قال -لها-: أنت طالق لم تقع إلا الطلقة الواحدة (1)، فلو كان العلة، والمعلول معًا زمانًا، لوقعتا - واهية: لأن المعية وإن كانت زمانية، ولكن معها تقدم ذاتي، لأنهما مجتمعان.

وإذا تقدمت الطلقة المعلق عليها ذاتًا لم يبق المحل قابلًا للطلاق فعدم وقوع (2) التقدم الذاتي، تأمل فإنه في غاية الحسن!

قوله: "واللذة".

= الثالث: التفصيل، فإن كانت العلة وضعية سبقت المعلول، وإن كانت عقلية قارنته، لكونها مؤثرة بذاتها، وقد ذكر العضد، والتفتازاني أن العلة إذا كانت مشتملة على المادة، والصورة يمتنع تقدمها على المعلول، أما العلة الناقصة، أو التامة التي هي الفاعل وحده، أو مع الشرط، والغاية، ففيها الخلاف.

راجع: المواقف: ص/ 85 - 86، وشرح المقاصد: 2/ 80 - 81، وتشنيف المسامع: ق (186/ أ)، والغيث الهامع: ق (176/ ب).

(1)

راجع: الأم للشافعي: 5/ 166، والروضة للنووي: 8/ 79، 128 - 129، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 429، وهمع الهوامع: ص/ 479.

(2)

آخر الورقة (153/ ب من أ).

ص: 398

أقول: الجمهور على أن من الكيفيات النفسانية اللذة، والألم وتصورهما بديهي: لأنهما من الوجدانيات، وربما يفسران قصدًا إلى تعيين المسمى، وتلخيصه (1).

قال ابن سينا (2): "اللذة: إدراك، ونيل لما هو عند المدرك كمال، وخير.

والألم: إدراك، ونيل لما هو شر، وآفة عند المدرك".

فإدراك الحلاوة لذة تدرك بالذائقة، وإدراك الجمال لذة تدرك بالباصرة، وإدراك الصوت الحسن لذه تدرك بالسامعة وإدراك الحقائق على ما هي عليه في نفس الأمر لذة تدرك بالقوة العاقلة.

(1) راجع: المحصل للرازي: ص/ 230، والمعالم له: ص/ 50، والمواقف للإيجي: ص/ 158 - 159، والتعريفات: ص/ 34، 191، وتشنيف المسامع: ق (186/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 2/ 429، والغيث الهامع: ق (177/ أ).

(2)

هو الحسين بن عبد اللَّه بن سينا أبو علي الرئيس الحكيم المشهور صاحب التصانيف الكثيرة في الفلسفة، والطب، أبوه من بلخ، ثم انتقل إلى بخارى، وتنقل ابن سينا في البلاد، واشتغل بالعلوم وحصل الفنون، وأتقن علم القرآن، والأدب، وحفظ أشياء من أصول الدين، والحساب، والجبر، ثم نظر في علوم المنطق، واليونان فرغب في علم الطب، فمارسه، ودرسه حتى فاق فيه غيره. له مصنفات كثيرة منها: الشفاء في الحكمة والفلسفة، والنبات والحيوان، والإشارات، والقانون، والأوسط، وغيرها، وقد طعن فيه الكثير كاليافعي، وابن الصلاح، بل كفره البعض كالغزالي، وغيره لموافقته قول الفلاسفة في أمر المعاد، وغيره من أركان الإيمان، وتوفي بهمذان سنة (428 هـ).

راجع: وفيات الأعيان: 1/ 419، ومرآة الجنان: 3/ 47، وعيون الأنباء: ص/ 437، وشذرات الذهب: 3/ 234.

ص: 399

وقول الإمام: بالحصر (1) في المعارف -واقتدى به والد المصنف- ليس حصرًا حقيقيًا، بل ادعائي في أشرف الأنواع مثل الحصر في:{ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2]، و"الحج عرفة"(2).

وأما قول ابن زكريا (3): بأن اللذة هي النجاة من الألم فقد أبطله ابن سينا، وغيره، بأنه قد تحصل اللذة من غير سابقة ألم، كمن لم يكن ذاق

(1) الحصر: عبارة عن إيراد الشيء على عدد معين، والحصر في الأمثلة المذكورة يؤدي إلى معنى القصر المعروف في علم المعاني بأنه تخصيص شيء بشيء، وحصره فيه.

راجع: الإيضاح في علوم البلاغة: 1/ 213، والتعريفات للجرجاني: ص/ 175، 588.

(2)

روى الإمام أحمد، وأبو داود، وغيرهما عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال:"أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو بعرفة، فجاء ناس -أو نفر- من أهل نجد، فأمروا رجلًا، فنادى رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم كيف الحج؟ فأمر رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم رجلًا فنادى: الحج، الحج يوم عرفة، من جاء قبل صلاة الصبح من ليلة جَمْع فتم حجه. . ." هذا لفظ أبي داود.

راجع: مسند أحمد: 4/ 309، 310، 335، وسنن أبي داود: 1/ 452، واللفظ الذي ذكره الشارح رواه أحمد.

(3)

هو محمد بن زكريا الرازي أبو بكر، طبيب، حكيم، كيماوي، ولد بالري، ونشأ بها، ثم اشتغل بعلم الإكسير، وكان في بدء أمره صائغًا، وكان يغني، ويضرب بالعود، وسافر إلى بغداد، واشتغل بالعلوم العقلية، والأدبية، واعتنى بالطب في أواخر عمره، وكف بصره، وتوفي ببغداد سنة (311 هـ)، وله مؤلفات منها: الحاوي في صناعة الطب، والطب الروحاني، والترتيب في الكيمياء، ومنافع الأغذية، وغيرها.

راجع: تأريخ الحكماء: ص/ 271 - 277، وتأريخ حكماء الإسلام: ص/ 21 - 22، ومروج الذهب: 8/ 177، وعيون الأنباء: 1/ 309 - 321، ووفيات الأعيان: 2/ 103، 104، وتأريخ مختصر الدول: ص/ 274، والوافي: 3/ 75 - 77، ومرآة الجنان: 2/ 263، والبداية والنهاية: 11/ 149.

ص: 400

الحلو قط، ولا سمع به، فأول ما يذوقه يحصل له لذة، ولا سابقة ألم هنا، ولا داعية شوق.

قال المصنف: والحق: أن إدراك الملائم ليس نفس اللذة، بل هي حالة لازمة لإدراك الملائم (1)، وهذا كلام في غاية الحسن، والوجدان يشهد له.

قوله: "وما تصوره العقل".

أقول: ما يتعقله الإنسان إذا قيس إلى الوجود الخارجي لا يخلو إما أن تكون ذاته مقتضية لوجوده، وهو الواجب تعالى، إذ ما يكون مقتضى الذات لا يعقل انفكاكه.

وإما أن تكون مقتضية لعدمه، فهو الممتنع لذاته، إذ لا يمكن اتصافه بالوجود، لأن الامتناع من لوازم الذات لا يمكن زواله. وإما أن لا تقتضي شيئًا من الوجود، والعدم، وهو الممكن، لما سبق من استواء طرفيه أعني الوجود، والعدم.

ثم الممكن تارة يكون واجبًا بالغير إذا وجدت علة وجوده، وتارة ممتنعًا بالغير إذا انتفى علة وجوده (2).

(1) وهذا ما حققه شيخ الإسلام، في رده على الفلاسفة في قولهم: إن اللذة إدراك الملائم. راجع: مجموع الفتاوى: 10/ 325 وما بعدها.

(2)

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 2/ 430، وتشنيف المسامع: ق (186/ ب)، والغيث الهامع: ق (177/ أ)، وهمع الهوامع: ص/ 480.

ص: 401