الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإنَّ العادة كالمقاضية
(1)
بأنّ مراده أنّه سيفعل إذا لم يعرض له ما يغيّر رأيه.
وأمَّا الفجور في الخصومة فمعناه: أنّه يفتري على خصمه ويَبْهَتُه بما ليس فيه، وذلك هو الكذب.
وحسبُك أنّ الإنسان المعروف بالكذب قد سَلَخَ نفسه من الإنسانية، فإنَّ من يعرفُه لم يَعُد يَثِقُ بخبره، فلا يستفيد النَّاس منه شيئًا، ومَن لم يعرفه يَقَعُ بظنِّه صدْقَهُ في المفاسد والمضارّ، فأنت ترى أنَّ موت هذا الرجل خيرٌ للنّاس من حياته، وهَبْهُ يتحرّى من الكذب ما لا يضرُّ فإنَّه لا يستطيع ذلك، ولو اسْطَاعَهُ لكان إضراره بنفسه إذ أفقدها ثقة الناس به. على أنَّ الكذبة الواحدة كافيةٌ لتُزَلْزِلَ ثقةَ الناس به.
التَّرخيص في بعض ما يسمَّى كذبًا
في "الصحيحين"
(2)
من حديث أم كلثوم بنت عقبة عن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "ليس الكذَّابُ الذي يُصِلحُ بين الناس، ويقول خيرًا أو ينمي خيرًا".
قال الحافظ في "الفتح"
(3)
: "قال العلماء: المراد هنا أنّه يخبر بما عَلِمَه من الخير، ويسكت عمَّا علِمَه من الشرّ، ولا يكون ذلك كذبًا".
وزاد مسلمٌ
(4)
في رواية: "قال ابن شهاب: ولم أسمع يرخَّص في شيء ممَّا يقول النّاس كذبٌ، إلَّا في ثلاثٍ: الحرب، والإصلاح بين الناس،
(1)
كذا في الأصل.
(2)
البخاري (2692) ومسلم (2605).
(3)
(5/ 299).
(4)
حديث (2605).
وحديث
الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها".
ثم ذكر أنَّ بعض الرُّواة أدرج هذا الكلام، فجعله من قول أم كلثوم بلفظ: "وقالت: ولم أسمعه يرخِّص
…
".
وبيَّن الحافظ في "الفتح" أنَّ الذي أدْرَجَه في الحديث وَهِم، والصواب أنَّه من قول الزُّهري، ونقل الحُكْمَ بالإدراج عن النسائي وموسى بن هارون وغيرهما، ثم قال: "قال الطَّبري: ذهبت طائفةٌ إلى جواز الكذب لقصد الإصلاح، وقالوا: إنّ الثلاث المذكورة كالمثال، وقالوا: الكذب المذموم إنّما هو فيما
(1)
فيه مضرَّة، أو ما ليس فيه مصلحة. وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيءٍ مطلقًا، وحملوا الكذب المراد هنا على التَّورية والتَّعريض، كَمَن يقول للظالم: دَعَوْتُ لك أمس، وهو يريد قوله: اللهم اغفر للمسلمين
…
".
ثم قال الحافظ: "
…
واتفقوا على جواز الكذب عند الاضطرار، كما لو قصد ظالمٌ قتل رجل ــ وهو مختفٍ عنده ــ فله أن ينفي كونه عنده ويحلف على ذلك، ولا يأثم، والله أعلم".
أقول: مهما خلا الكذب عن المفسدة، فلا يكاد يخلو عن إفقاد صاحبِهِ ثقةَ الناسِ بكلامه، وحرمانِهِم الاستفادة من خَبَرِه بقيَّة عُمره، فهو يستفيد من أخبارهم، ولا يثقون به فيستفيدوا من خبره.
ولعل سقوط ثقتهم بخَبَرِه يوقعُهُم في مضارَّ، ويصرف عنهم مصالح ممَّا يُخبرهم به صادقًا فلا يصدِّقونه.
ولو أبيح الكذب في الإصلاح، فكَذَبَ المصلحُ لأَوْشَكَ أن يُعْرَف كذبه فتسقط الثقة به.
(1)
في الأصل: "ما". والتصويب من "الفتح"(5/ 300).
وافرض أنَّه عُلِم عُذْرُه، فإنَّها على ذلك تسقط الثِّقة به في الإصلاح، فإذا قال خيرًا أو نَمَى خيرًا بعد ذلك لم يُصَدَّق، وإن كان صادقًا؛ لأنّه قد عُرِف استحلاله الكذب في ذلك، ومع هذا فإنها تَتَزَلْزَل
(1)
الثقة بخبره في غير الإصلاح أيضًا، إذ يقول الناس: لعلَّه يَرَى في خبره هذا إصلاحًا، فيستحلّ الكذب فيه!
وقريبٌ مِنْ هذا: حالُ الكذب في الحرب، وكذبُ كلٍّ من الزوجين على الآخر.
وأنا نفسي كانت إذا سألتني زوجتي ما لا أريد أقول لها: أفعل إن شاء الله! قاصدًا التَّعليق، فلمَّا قلتُ ذلك ثلاث مرَّاتٍ أو أزْيَدَ فَطِنَت للقضَّية! فصارَت لا تثق بوعدي إذا قلتُ: سأفعل إن شاء الله، فوقعتُ في مشكلةٍ؛ لأنّني أحتاج إلى أن أقول:"إن شاء الله" في كل وعدٍ وإن أردت الوفاء به؛ للأمر الشرعي بذلك
(2)
.
وقولك لظالمٍ: "دعوتُ لك أمس" فيه مفاسد؛ لأنَّه إن كان يُحْسِن الظَّن بك، وحَمَل قولَك على ظاهره جَرَّأَه ذلك على الظُّلم، قائلًا: إنّ دعاء هذا الصَّالح لي يدلُّ على أنَّه يراني من أهل الخير، وأنَّ ما يخطر لي من التأويل في هذه الأمور التي يزعم الناس أنَّها ظلمٌ هو تأويلٌ صحيحٌ! وما من ظالمٍ إلَّا والشيطان يوسوسُ له بتأويلٍ ما يبرِّر به صنيعه.
(1)
كذا في الأصل، والضمير للقصة.
(2)
يعني لأمر الشارع في قوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24].
وإن استبعد دعاءك له اعتقد كَذِبَك ومداهَنَتَك له، وطَمِعَ منك في غيرها، وزالت من قلبه هيبَتُه لك في الله، وأوشك أن تنالك منه مضرَّةٌ؛ لسقوطك من عينه، ويجترئ مع ذلك على المظالم، قائلًا: الناس سواسية، هذا الذي يُقَال صالحٌ يكذب ويُدَاهِن الظَّلَمَة! فلو استطاع الظُّلمَ لَظَلَم!
وإذا تَنَبَّه لاحتمال كلامك التَّورية لَمْ تأمن أنْ يَحْمِل قولَك: "دعوتُ لك" على "دعوتُ عليك"، يقول: كأنَّه أراد "دعوت لأجلك" أي: دعوت الله تعالى أن يريح الناس من شَرِّكَ، أو نحو ذلك.
والحاصل أن الكذب لا يخلو عن المفاسد، ولكن إذا تعيَّن طريقًا لدفع مفسدةٍ عظيمةٍ ــ كالقتل ظلمًا ــ جاز، على قاعدة تعارض المفسدتين.
والمنقول من هذا إنَّما هو في التَّورية، كقول إبراهيم لزوجته: هي أختي؛ لعِلْمِه أنه لو قال: زوجتي لقتلوه.
وقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]؛ لأنَّه أراد أن يتوصَّل إلى تكسير أصنامهم، وفي ذلك دفع مفسدة عظيمة.
وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: 63]؛ لأنّه أراد أن يتوصَّل بذلك إلى إنقاذهم من الشرك، والشرك أعظم المفاسد، مع أنَّهم إذا خَلَصُوا من الشرك خَلَصَ هو من القتل، وظنِّي أنَّ هذه كلَّها كانت قبل أن يُنَبَّأَ إبراهيمُ عليه السلام، كما قرَّرْتُه في "رسالة العبادة".
وكلٌّ من هذه الثلاث فيها تورية قريبة، والحال التي كان عليها شِبْه قرينة تشكِّك في حَمْل كلامه على ظاهره، فيصير بها الكلام كالمُجْمَل.
وإيضاح هذا: أنَّه قد علم أنَّه لو تبيَّن للظَّلَمة أنَّها امرأته لقتلوه، وإذا عرف ذلك فيبعُدُ أن يعترف بأنَّها امرأته. ومثل هذه الحال تُوْقِعُ عادةً في الكذب المَحْض؛ ولهذا لا يثق الناس بخبر مَنْ وَقَعَ في مثلها، فإذا عَرَفَوا منه التحفُّظ من الكذب قالوا: لعلَّه ورَّى، فهذا شِبْهُ قرينة.
أَوَلَا ترى الناس لا يرتابون في قول الغنيِّ لبعض المال الذي تحت يده: هذا مال امرأتي؟ ويرتابون في مثل هذا القول إذا وَقَعَ من مفلسٍ أو مُصَادَرٍ.
ومع هذا كلّه؛ فقد سمَّى الشارع هذه الثلاث الكلمات كذبات، فقال النّبي صلى الله عليه وآله وسلم: "لم يكذب إبراهيمُ إلَّا ثلاث كذباتٍ، كُلُّهنَّ في ذات الله
…
" والحديث في "الصحيحين"
(1)
.
وجاء في الشرع ما يدلُّ أنَّ مثل هذا من الكذب لا يخلو من مخالفة، ففي "الصحيحين"
(2)
في حديث الشفاعة: "فيأتون آدم فيقولون:
…
اشفع لنا عند ربّك
…
، فيقول: لست هُناكم، ويذكر خطيئته التي أصاب، أكلُهُ من الشَّجرة وقد نُهِيَ عنها
…
فيأتون نوحًا، فيقول: لست هناك، ويذكر خطيئته التي أصاب، سؤاله ربه بغير علم
…
فيأتون إبراهيم، فيقول: إنِّي لست هناكم، ويذكر ثلاث كذبات كذبهنَّ
…
".
وهناك ثلاثة أنواع دون ما ذُكِر:
أوَّلُها: الإيهام: كأَنْ يريد غزوةً جهة الشَّرق، فيسأل عن الطَّريق التي في جهة الغرب، حتى إذا كان جاسوسٌ يرى الاستعداد للغزو، يسمع ذلك
(1)
البخاري (3358) ومسلم (2371)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
البخاري (4476) ومسلم (193)، من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
السؤال، فيَتَوَهَّمُ أنَّ القصد جهة الغرب، فإذا رجع إلى العدو الشرقيِّ أخبرهم بذلك، فيكفوا عن الاستعداد.
وبهذا أو نحوه فُسِّر ما جاء في "الصَّحيح"
(1)
أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد غزوةً وَرَّى بغيرها. وليس ذلك بكذبٍ. على أنَّ مِن شأن مَن يريد غزوةً أن يكتم قصْدَه، ويحرص على إيهام العدوِّ أنَّه لا يقصدهم، وهذا شِبْهُ قرينةٍ تُشكِّك في الإيهام المذكور.
ثانيها: الكلامُ الموجَّهُ، وهو الذي يحتمل معنيين فأكثر على السواء، وليس هذا أيضًا من الكذب في شيءٍ ألبتة.
ثالثها: أن يكون الكلام ظاهرًا في المعنى المراد، ولكنَّه صِيغَ مَصَاغًا يستخفُّ المُخَاطَب، فإذا استعجل فَهِمَ خلاف المقصود.
وقد نُقِل شيءٌ من هذا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان ربّما تعمّده تأديبًا للمُخَاطَبِين، وتعليمًا لهم أن لا يستعجلوا في فهم الكلام قبل التروِّي فيه.
فمن ذلك: ما رُوِيَ أنَّ رجلًا سأله أن يحمِلَه على بعيرٍ، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:"لأحملنَّك على ولد ناقةٍ"، فاستعجل الرجل وقال: وما أصنع بولد ناقةٍ؟ ! فقال: "وهل تَلِدُ الإبلَ إلَّا النُّوقُ؟ "
(2)
.
(1)
البخاري (2947) ومسلم (2769)، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أحمد (3/ 267) وأبو داود (4998) والترمذي (1991) وغيرهم، من طرقٍ عن خالد الطحَّان عن حميد الطويل عن أنسٍ رضي الله عنه به.
وقد صحَّحه الترمذي عقبه، والألباني على شرط الشيخين في "مختصر الشمائل" للترمذي (203) و"صحيح الأدب المفرد"(202).
العرفُ قد صيَّر الظَّاهر من قولنا: "ولد ناقةٍ"، أو "ولد بقرةٍ"، أو نحو ذلك هو الصَّغير، ولكنّ قوله:"لأَحْمِلَنَّك" قرينةٌ واضحةٌ أنَّه لم يُرِد الصَّغيرة؛ لأنَّ الصَّغير لا يُحْمَل عليه.
ومثله ما يُروَى: أنَّ امرأةً مَرَّت تسأل عن زوجها، وقد كان خرج من عندها قبل قليل؟ فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم:"هو ذاك في عينيه بياض"
(1)
.
فالعُرْفُ قد جعل الظَّاهر من قولنا: "في عَيْنَي فلان بياضٌ" هو البَيَاض العارِض، ولكنَّ العادة قاضيةٌ بأنَّ البَيَاض العارض لا يَحْدُث في ساعةٍ.
ومنه ما يُروَى أنَّه قال لامرأةٍ من المسلمات قد قرأت القرآن وفهمته: "لا تدخل الجَنَّة عجوزٌ"! فلمَّا فَزِعَت قال لها: "أَمَا تقرئين القرآن: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة: 35، 36]؟ "
(2)
.
(1)
أخرجه الزبير بن بكار في "الفكاهة والمزاح" من حديث زيد بن أسلم مرسلًا، وابن أبي الدنيا من حديث عبدة بن سهم الفِهري، مع اختلاف؛ كما في "تخريج أحاديث الإحياء" للعراقي (3/ 1574)، وقد أورده ابن الأثير في "جامع الأصول"(11/ 55) وجعله من زوائد رزين بن معاوية في "التجريد".
وينظر في الكلام على زوائد رزين في "التجريد": "سير أعلام النبلاء"(20/ 205)، و"تاريخ الإسلام"(36/ 376)، كلاهما للذهبي.
(2)
أخرجه عبد بن حميد كما في "تفسير ابن كثير"(7/ 532) ومن طريقه الترمذي في "الشمائل"(240) ومن طريقه البغوي في "تفسيره"(4/ 283) والبيهقي في "البعث والنشور"(346) وغيرهم، من طريق مبارك بن فضالة عن الحسن البصري مرسلًا.
وأخرجه الطبراني في "الأوسط"(5/ 357) من طريق مسعدة بن اليسع عن ابن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة بنحوه مرفوعًا. وفي إسناده "مسعدة"، وهو متروك.
وأخرجه البيهقي في "البعث"(343) وأبو الشيخ في "أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم"(186) من طريق الليث عن مجاهد عن عائشة بنحوه مرفوعًا. وفيه "ليث" وهو ابن أبي سليم، ضعيف في الرواية.
وقد صحَّحه الألباني في "الصحيحة"(2987) بعد أن كان يحسِّنه في "غاية المرام"(375) و"مختصر الشمائل"(205).
فقد علمتَ فيما تقدَّم حقيقة الكذب وقبحه، وأنّه غير محمود حتى في حال الضرورة، كما في قول إبراهيم عليه السلام:"هي أختي"، وتعلم أنّ الله عز وجل سمّى نفسه الحقّ، وبعث الرسول بالحقّ، وأنزل الكتاب بالحق، وأنزل الكتاب هدىً للناس، وبعث الرسول هدى للنّاس، وهو سبحانه وتعالى الغني عن العالمين، فكيف يجوز عليه تبارك وتعالى أن يكذب، أو يأمر رسوله بالكذب، أو يقرّه على الكذب؟! وكيف يجوز على رسوله الكذب؟!
وقد جعل الله تعالى الكذب عليه من أشد الكفر، فقال: {فَمَنْ
(1)
أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} [الزمر: 32]، وقال لرسوله:{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].
فأنّى يُجَوِّزُ مسلمٌ أنْ يكذِبَ ربُّ العالمين، أو أنْ يكذِبَ رسوله الصّادق الأمين؟!
(1)
في الأصل: "ومن".