المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ لو سلم أن الكذب قد يكون حسنا، فإنما ذلك من الإنسان العاجز المحتاج - آثار عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني - جـ ٦

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌ لو سلم أن الكذب قد يكون حسنا، فإنما ذلك من الإنسان العاجز المحتاج

ثُمّ يقال لهم:‌

‌ لو سُلِّم أنَّ الكذب قد يكون حسنًا، فإنَّما ذلك من الإنسان العاجز المحتاج

.

ولو لم يستحل أن يقع من الله عز وجل ورسوله شيءٌ من هذا الكذب فقد كان يجب أن لا يكون إلَّا عند الحاجة، ولا حاجة إلى تلك الآيات والأحاديث، فكان يكفي أن يُثبت لله عز وجل ما لا بُدَّ منه، ويُعْرِض عمَّا عدا ذلك ممَّا يخطئ النَّاس فيه من الاعتقاد، فلا يردّه عليهم!

فأمَّا أن يُصرِّح بما يوافق اعتقادهم الخاطئ، ويؤكِّده، ويكرِّره في مواضع لا تُحْصَى، فهذا ما لا يُتوهَّم جوازه؛ لأنَّ الإصلاح المقصود لا يتوقَّف عليه.

وقد حكم الله عز وجل بكفر مَن نسب إليه الولد، وقال في ربه بما لا برهان له به وغير ذلك، قبل بعثة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبعدها.

وإذا تدبّرت ما قدَّمناه في تشديد الله ورسوله في الكذب ازددت بصيرةً في هذا إن شاء الله تعالى.

ووجهٌ آخر، وهو: أنَّه قد كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جماعةٌ من أهل الذَّكاء والفِطْنة وسلامة العقل، يلازمون النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم حضرًا وسفرًا، ويصدِّقونه في كلِّ ما يقول؛ أَفَمَا كان ينبغي أن يبوح لهم بالحقيقة، ويأمرهم أن يبوحوا بها لِمَن وثقُوا بذكائه وفِطْنته، وهكذا يتسلسل هذا الأمر في كبار العلماء في كلّ قرن.

فما بالُنا نجد كبار العلماء ــ من الصَّحابة والتَّابعين فمَن بعدهم ــ هم أشدُّ الناس بُعدًا عن هذا الاعتقاد.

ص: 35

وعامَّة من خاض في ذلك هم ممَّن لم ينشأ على العلم، ولا لازم العلماء، ولا تبحَّر في الكتاب والسُّنة، وإنَّما أئمتهم الجعد بن درهم، وجهم بن صفوان، وأشباههم مِمَّن لا تُعرَف له عناية بالعلوم الدِّينية، ولا ملازمة لأئمَّتها، فقام

الأئمة المشهورون بالعلم ومُلازمة أهل العلم فبدَّعوا هؤلاء وضلَّلوهم وكفَّروهم، كما هو معروف.

فإن قال قائلٌ: لعلَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم أوصاهم بالكتمان! قيل له ــ مع العلم ببطلان قوله ــ: وهل كان الكتمان فرضًا، حتى إذا سمعوا مَن يذكر الحق ضلَّلوه وكفَّروه؟

فإن قال: نعم. قيل: فهل كان ذلك حقًّا أم باطلًا؟

فإن قال: بل حقًّا. قيل له: فأنت وأئمَّتك على هذا مُبْطِلون ضالَّون مُضلُّون، محاربون لله ورسوله.

واعْلم أنَّ مِن هؤلاء مَن كابَر أيضًا، ومنهم مَن رأى أنَّ المكابرة لا تجدي ففرَّ إلى ما هو أخبث وأخبث، فقال: إنَّ الأنبياء أناسٌ فضلاء أخيارٌ أرادوا إصلاح البشر، وصَفَت أنفسهم إلى درجة أنَّهم صاروا يتوهَّمون أنَّهم يسمعون كلام الله تعالى وملائكته، وإنّما كان ذلك تخيُّلًا محضًا، غير أنَّ نفوسهم لمَّا كانت طاهرة كانت تتخيَّل ما يناسب ما يريدونه من الإصلاح بحسب معرفتهم، وكانوا يعتقدون ما أخبروا به، ويرون أنّه الحقّ.

ولمَّا رأى بعض هؤلاء أنَّ ما تواتر من صفات الأنبياء ــ ممَّا يدلُّ على نهاية العقل والفِطْنة والمعرفة ــ يأبى ذلك قال: هم أناسٌ عقلاء اخترعوا لأُمَمِهِم ما يصلحونها به في دنياها.

ص: 36

ورأى غير هؤلاء أنَّ ما تواتر عن الأنبياء ممَّا يُبَرْهِن على ملازمتهم للصِّدق والعبادة وشِدَّة الخوف من الله عز وجل، وتقديم طاعته على كل ما عداه، مع ما جاؤوا به من الحكمة التي تبهر العقول= تحيِّر، فقال قائلهم:

نِهايةُ إقدامُ العُقُول عِقَالُ

[وأكثرُ سَعي العَالَمين ضَلالُ

وأرواحُنا في وَحْشةٍ من جُسُومِنا

وحَاصِلُ دُنْيَانا أذًى ووَبَالُ

ولم نَسْتَفِد مِن بَحْثِنا طُولَ عُمْرِنا

سوى أن جَمعنا فيه قِيلَ وقالوا

وكم قد رأينا مِن رجالٍ ودولةٍ

فبَادُوا جميعًا مُسْرِعين وزالوا

وكم من جِبالٍ قد عَلَت شُرُفاتها

رِجالٌ فَزَالُوا والجِبالُ جِبالُ]

(1)

ومنهم من تداركته رحمة الله تبارك وتعالى، فرضي من الغنيمة بالإياب، على أنّه لم يرجع سالمًا مِن كلِّ عاب، وإلى الله المآب، وعليه الحساب.

وأمَّا مَن قال: حياةٌ تليق به، ويدٌ تليق به تعالى، ونحو ذلك، ولا تُؤولُ، فهم فِرَقٌ:

الفرقة الأولى: من يُسلِّم أنَّ ظواهر آيات الصِّفات وأحاديثها تقتضي المُحَال، وأنَّ التَّأويل سائغٌ ولكنَّه خطرٌ. وقال قائلهم:"مذهب السَّلف أسلم ومذهب الخلف أعلم".

(1)

لفخر الدين الرازي، محمد بن عمر التيمي البكري، المتوفى سنة 606 هـ.

وقد ذكر ابنُ تيمية رحمه الله في مواضع من كتبه كـ"درء التَّعارض"(1/ 159) وغيرُه أنَّ الرازي أنشد هذه الأبيات في غير كتاب من كتبه، منها كتاب "أقسام اللذَّات".

ونسبها إليه من ترجم له، ينظر:"معجم الأدباء" لياقوت (6/ 2590)، و"وفيات الأعيان" لابن خلكان (4/ 250)، و"الوافي بالوفيات" للصفدي (4/ 181).

وقد كتب المؤلف صدر البيت الأول، وبيَّض للبقية، فأتممتها.

ص: 37

الفرقة الثانية: كالأولى، إلَّا أنَّها تقول: لا يجوز التّأويل أصلًا.

الفرقة الثالثة: من يقول: كلُّ ما أثبته الله عز وجل لنفسه، وأثبته له رسولُه عليه الصلاة والسلام فهو حقٌّ وصِدقٌ على ظاهره.

أمّا الفرقتان الأُوليان فيلتحقان بالمُؤَوِّلين، وقد تقدَّم ما لهم وعليهم.

وأمَّا الفرقة الثالثة فإنَّها نُسِبَت إلى موافقة مَن قال: حياة كحياتي، ويدٌ كَيَدي، وهي أبعد الناس عن ذلك.

وهاك الإيضاح: غالب الصِّفات يختلف تصوُّرها تبعًا لاختلاف تصوُّر الموصوف بها، فيُقال للصَّبي الغِرِّ والأعرابي الجِلْف: يد إنسانٍ، فيتصوَّر شيئًا، ثم يُقال له: يدُ فَرَسٍ، فيتصوَّر شيئًا آخر، ثم يقال له: يدُ طائر؛ فيتصوَّر شيئًا ثالثًا، وهكذا.

فإذا قيل له: يدُ الله، فقد يتخيَّل شيئًا ما، فإذ رجع إلى عقله عَلِم أنَّ ذلك التَّخيل خَرْصٌ وتَخْمين، ثم يقول: ما رأيتُ الله عز وجل، ولا رأيتُ ما يُماثله فكيف يتهيَّأ لي تصوُّر يَدِه؟!

وهذه حقيقة متفقٌ عليها بين العقلاء، وهي أنَّ الإنسان لا يُدرِك إلّا ما أحسَّ به، أو أحسّ بفردٍ أو أفراد مماثلة له، ولا يدرك ممَّا أحسَّ به أو أحسَّ بما يماثله إلَّا ما تناوله الإحساس، ولا يُدرِك ممَّا أحسَّ بما يماثله إلَّا ما يعلم أنَّه قدرٌ مشتركٌ بينهما؛ فلسنا ندرك من صفات الله عز وجل إلَّا ما يتّصف المخلوق بما يشبهه في الجملة، فاستدللنا بآثاره على وجوده؛ لأنَّنا نعرف الوجود في الجملة بوجود الخلق الذين نُحسُّ بهم، ونعلم أنَّ الأمر يدلُّ على وجود مؤثِّر.

وهكذا بقيَّة الصفات التي تقدَّم ذكرها، مع العلم بأنَّ صفات الربّ عزَّ

ص: 38

وجلَّ واجبةٌ كاملةٌ مُبرَّأةٌ، وأنَّ صفات المخلوق فانيةٌ ناقصةٌ معيبة، ولكنَّ ذلك لا يمنع وجود اشتراك في الجملة يتهيَّأ به الإدراك، على أنَّنا إنَّما نُدرِك صفات الله عز وجل على وجهٍ إجمالي.

فأمَّا اليد ــ مثلًا ــ فإنَّنا لا نجد ذاتًا تشبه ذات الرَّب عز وجل في الصُّورة ــ

تفصيلًا ولا إجمالًا ــ حتى نُدرِك يده تعالى بالقياس على يد تلك الذات التي نعرفها. هذا في الإثبات.

وأمَّا في النَّفي فلم نُدرِك ذاتًا تشبه ذاته عز وجل، وليس لها يدٌ حتى نُدرِك بالقياس عليها أنَّه ليس له سبحانه يدٌ، غاية الأمر أنَّنا نُدرِك أنَّه سبحانه منزَّهٌ عن النَّقص، ولكنَّنا لا نُدرِك أنَّه لو كان له يدٌ تليق به لكان ذلك نقصًا، ومَن زَعَم أنَّه يُدرِك هذا فإنَّه تخيَّل يدًا كيد المخلوق، فلذلك جَزَم بأنَّها نقصٌ.

والإنسان إذا حاول أن يتصوَّر شيئًا؛ فإن كان قد أدركه بواسطة الحواسِّ فذاك، وإلّا فإنْ كان قد أدرك ما يشابهه فإنَّه يتصوَّره بتلك الصُّورة، ولكنَّ العقل إذا عَلِم أنهما لا يتشابهان في كل شيءٍ جَرَّد الصورة المُتَخيَّلة من بعض الأوصاف.

وإذا كانت الصُّور المشابهة لِمَا يحاول تصوُّره كثيرة فإنَّ الفكر يتصوَّر صورةً على القدر المشترك بين تلك الصُّورة التي أدركها مجرَّدة عن الخواص التي تختلف، وربما ضَمَّ إليها صِفةً، أو نقص منها صفةً إذا قام لديه ما يوجب ذلك.

فإذا سمعت برجلٍ إنجليزيٍّ لم تَرَهُ، ولا رأيتَ صورتَه، ولا وُصِف لك، وكلَّفتَ ذهنك أنْ يتصورَّه، وكنت قد رأيت جماعةً من الإنجليز= فإنَّ ذِهْنَك يتخيَّل صُورةً على القدر المشترك بين الذين رأيتهم حتى يتخيّل اللباس.

ص: 39

ولو أردت تصوُّر رجلٍ حبشيٍّ لاختلفت الصُّورة التي تخيَّلتها.

فإذا وُصِف لك الرجل أنَّه أعور، أو أعرج، أو طويل، أو قصير، أَضَفْتَ هذه الصِّفة إلى تلك الصُّورة، ولكن بحسب القَدْر المشترك بين العُور والعُرْج،

والطِّوال والقِصَار الذين قد أدركتهم، على أنَّك لو كلَّفتَ نفسك تصوُّره كبيرًا جدًّا كالجبل، أو صغيرًا جدًّا كالذَّرَّة لأمكنك ذلك.

وإذا تدبَّرتَ وجدتَ الذِّهن إنِّما يستمد التَّصوُّر من القياس على الصُّوَر المخزونة في الحِفظ، ولكنَّه يركِّب ويُقسِّم، فيمكنه أن يتصوَّر شِقَّ رجلٍ، ويتصوَّر رجلًا له وجه فَرَس، وهكذا.

فإذا كلَّفته أن يتصوَّر ما لم يُحسَّ به، ولا بما يشبهه فإنَّه يفرضُ عليك صورًا يستمدّها من خزانته، وقد يركِّب ويُقسِّم، ويزيد وينقص، وكلَّما عَرَض عليك صورةً، فقال العقل: ليس هذا أريد، عاد فاستمدَّ من الخزانة صورةً أخرى.

فإذا كُلِّف الذِّهن تصوُّر يد الله عز وجل فأوَّل ما يفرِضُ يد إنسانٍ؛ لأنَّها أقرب الأيدي حضورًا بالذهن؛ لكثرة تكرُّر إحساسه بها، فإذا لم تقبلها أخذ يزيد في تلك الصورة وينقص، ويستمدُّ الزيادة والنّقص من الأجرام التي قد أدركها، كأنْ يجعلها نورًا على صفةٍ ما، قد أدركه من نور الشمس والقمر وغيرهما، ويعظمها ــ لإدراكه صِفة العَظَمة ــ حتى يجعلها كالجبل أو أعظم منه، وغير ذلك.

والعقل يحكم كلَّ مرَّةٍ أنَّ تلك الصورة فيها نقصٌ وعيبٌ، وأنَّ الله عز وجل مُبرَّأٌ عن ذلك، فإذا يَئِسَ مِن وجدان صورةٍ تليق بربِّ العِزَّة فهو بين أمرين:

ص: 40

إمَّا أنْ يعترف بعجزه وقصوره، وأنَّ الموجودات لا تنحصر فيما يمكنه تصوُّره وتخيُّله، فهذا يُجوِّز أن يكون لله عز وجل يدٌ تليق به، فإذا عَلِم أنَّ الصَّادق المصدوق قد أخبر بذلك آمن به.

وإمَّا أن يغلب عليه الغُرُور والدَّعوى، ويزعم أنّه ما من موجود إلَّا ويمكنه أن يتصوَّره، فهذا يُنْكِر أن تكون لله عز وجل يدٌ، ويزعم أنّ مَن أثبت لله عز وجل يدًا يلزمه أن يثبت له يدًا من تلك الأيدي التي تخيَّل صُوَرَها العقل.

فلو أنّ رجلًا خُلِقَ أكْمَه وكبر، وعُلِّم الكلام ما عدا الألوان، ولم يُخبَر بأنَّ الناس يبصرون، ثم قال له رجلٌ بصيرٌ ذات يومٍ: هذا شيءٌ أبيض، فإنَّه يقول: وما معنى أبيض؟ أكبيرٌ؟ فيُقَال: لا، فيقول: فصغيرٌ؟ فيُقال: لا، فيقول: فأملس؟ فخشن؟ فجامد؟ فمائعٌ؟ إلى غير ذلك من المعاني التي قد عرفها وأحسَّ بها.

فإذا قيل له ــ في كلّ ذلك ــ لا، لا! قال: فهذا عدمٌ!

وإن كان قد أُخْبِر بالألوان، وتواتر عنده أنَّ النَّاس يُبصِرُون، وأنَّ للأشياء ألوانًا فإنَّه يصدِّقهم، ولكنَّه لا يستطيع تصوُّر ذلك. فهذا مثل الإنسان إذا أُخْبِر بصفات الرَّب عز وجل.

وكأنَّه لهذا المعنى زَعَم بعض المتكلِّمين أنَّ رؤية المؤمنين لربِّهم عز وجل في الآخرة إنَّما تكون بحاسَّةٍ سادسةٍ يخلُقُها لهم!

(1)

.

(1)

نسب هذا القول أبو الحسن الأشعري في "مقالات الإسلاميين"(ص 162) وغيره إلى ضرار بن عمرو وحفص الفرد.

ص: 41

ولبيان خطئه أضرب مثلًا ثانيًا:

افرض أنَّه لا يوجد في الدُّنيا من الألوان إلَّا السَّواد والبياض، ثم أُخْبِر إنسان بأنَّ هناك شيء يُرَى، أليس يقول: أسود؟ فإذا قيل: لا! فيقول: أبيض؟

فيقال: لا، فيقول: فليس في الوجود شيءٌ يُرَى إلَّا إمَّا أبيض وإمَّا أسود!

فهذا مثل القوم؛ فإنَّهم لمَّا لم يعرفوا في المرئيَّات إلَّا هذه المحسوسات قالوا: لو أمكن رؤية الله عز وجل لكان من جنس هذه المحسوسات!

والمقصود من المثال التَّفهيم، وإلّا فلا يخفى أنَّ الحُمْرة من جِنْس الألوان، وليس الله عز وجل من جِنْس الخَلْق، ولو فُرِض أنَّ إنسانًا لم يَرَ صقيلًا تنطبع فيه صورته، ثمّ أُخْبِر بأنَّ الإنسان يمكنه أن يدرك بمعونة حاسَّة بصره لون حَدَقَته، فيَعْلَم أنَّها سوداء أو زرقاء أو غير ذلك بدون أن تخرج إحدى عَيْنَيه من موضعها، ولا يتغيَّر شكله، أليس يبادر فيقول: هذا محالٌ!

والمقصود من هذه الأمثلة تقريب المعنى الذي ذكرناه، من أنَّ الإنسان يجحد ما لا يحسُّ به، [وبما لا يشبهه]

(1)

.

ولو قلتَ لبدويٍّ لم يسمع بالآلات المخترعة: إنَّه يمكننا أن نسمع كلام أهل أمريكا ونحن بحضرموت بدون معجزةٍ، ولا سحرٍ، ولا كرامةٍ = لقال: هذا كذب! ولو لم يكن قد سَمِع بالمعجزات والكرامات والسِّحر ما احْتَجْتَ أن تقول له: بدون كذا ولا كذا.

إذا علمتَ هذا؛ فإنَّا نقول: كان الصَّحابة ومَن بعدهم مِمَّن لم يتحكَّك بالبدع يعلمون حقَّ العِلم أنَّه لا سبيل للعقل إلى تصوُّر يد الله عز وجل، ولا

(1)

في الأصل: "ولا بما يشبهه".

ص: 42

سبيل للعقل أن يُدرك أنَّه سبحانه ليس له يدٌ تليق به، فلمَّا أخبرهم الله ورسوله بأنَّ لله يدًا آمنوا وصدَّقوا.

فليس في تلك النُّصوص بحمد الله عز وجل لا كذبٌ ولا إضلال، وليس

في عقيدة السَّلف جهلٌ ولا ضلالٌ؛ فإنَّ الجهل بما ليس في قدرة الإنسان العِلم به لا يُعدُّ نقصًا، وإنَّما الجاهل من يجهل ذلك ويجهل أنَّه جاهل، ويخبُّ ويضَعُ فيما ليس فيه مَطْمعٌ، ويؤول به الأمر إلى ما سمعت وتسمع.

واعْلَم أنَّ سبب ضلال القوم أمور:

الأول: قِلَّة حظِّهم من معرفة الكتاب والسنة.

الثاني: تقديسهم للفلاسفة فوق تقديس الأنبياء بدرجات.

الثالث: ما في فطرة الإنسان من دعوى أنَّ عقلَه يستطيع إدراك كلِّ شيءٍ، فَطَرَه الله على ذلك لئلَّا يكسل ويَتَوَانَى عن المعارف والعلوم، كما فَطَرَه على طُول الأمل ليبقى في عمارة الدُّنيا، وعدّل ذلك بالعقل ليَكْبَحَهُ عن تجاوز الحدِّ في ذينك الأمرين، وهؤلاء القوم نشأوا على التطلُّع والتعمُّق، فاعتَضَدَت الفِطْرة بالعادة، فأغفلهم ذلك عمَّا يُقرِّرونه من أنَّ الإدراك لا يكون إلَّا بإحساس أو قياس كما سلف، فكلَّفوا عقولهم أن تُدرك ما ليس من شأنها إدراكه، فصارت تتَّقيهم بالتَّخْييلات، وقد أُثِرَ عن الشافعي رحمه الله تعالى أنّه قال:"إنّ للعقل حدًّا ينتهي إليه"

(1)

.

(1)

كذا نسبه إلى الشافعي الآلوسيُّ في "روح المعاني"(1/ 142).

ورأيته بنحو هذا مسندًا معزوًّا من الشافعي لابن عباس، فقد أخرجه أبو نعيم في "الحلية" (9/ 141) عن الشافعي قال: قال ابن عباس لرجلٍ أي شيء هذا؟ فأخبره، قال: ثم أراه شيئًا أبعد منه، فقال: أيُ شيءٍ هذا؟ قال: انقطع الطَّرْف دُونَه.

قال: "فكما جُعِل لطَرْفِك حَدٌّ ينتهي إليه كذلك جُعِل لعقلك حدٌّ ينتهي إليه".

ص: 43

أقول: وقد جرَّبنا أنَّ مَن كلَّف بصره إدراك ما لا يستطيع إدراكه يُخيَّل إليه أنَّه يُدْرِك ذلك، فكم مرَّة تَرَاءَى النَّاس الهلال فتَرَاءَيتُه معهم، فإذا حدَّقتُ وأمعنتُ في النَّظر يُخيَّل إليَّ أنِّي قد رأيته، ولكنَّها خَطْفةٌ لا تثبت، ثم أيأس من ذلك الموضع، فأنظر إلى موضعٍ آخر، فيخيَّل إليَّ مثل ذلك؛ فعلمتُ أنَّ تلك الخَطْفة هي صورة خيالية لما أتخيَّله؛ تبرز إلى العيان لقوة التَّخيل وكدِّ البصر.

فكثيرًا ما يعرض للعقل مثل هذا إذا كُلِّف إدراك ما لا يُدْرك، والفرق أنَّ خطأ البَصَر يتنبَّه له العقل، ولا يكاد ينتبه لخطأ نفسه.

لو بغير الماء حلقي شَرِقٌ

كنتُ كالغصَّان بالماء اعتصاري

(1)

(2)

وكثيرًا ما يُدرك العقل خطأ ما تصوَّره ولكنَّه لا ييأس، فلا يزال في أخذٍ وردٍّ إلى أن يكِلَّ ويَمَلَّ؛ ولا يَسْمحُ بذهاب تعبه سُدىً فيقنع بالشُّبهة التي وقف عندها، ومثله مثل المسافر يأبى أن ينزل ليستريح إلَّا في موضعٍ حسنٍ جميلٍ، وليس أمامه موضعٌ كذلك، فلا يزال كُلَّما أتى على موضعٍ لم يره على الشَّرط حتى يعقله التعب والإعياء؛ فينزل ويسلِّي نفسه ويُغالطها، يزعم أنَّ ذلك الموضع حسنٌ وجميلٌ.

وأنت إذا كنت قد وقفتَ على بعض الكتب المطوَّلة في الفلسفة وتدبَّرتها تحقَّقتَ هذا المعنى، ولا تكاد تجد شبهةً عقليةً قد قرَّرها أحدُهم

(1)

في الأصل: "اعتصار".

(2)

البيت لعدي بن زيد العبادي في "ديوانه"(ص 93). وهو كذلك منسوب إليه في: "الأغاني"(2/ 106)، و"الحيوان" للجاحظ (5/ 138، 593)، وغيرهما.

ص: 44

على أنَّها برهانٌ قاطعٌ إلَّا وجدتَ غيره قد نقضها، ثم يجيء ثالثٌ فيدفع هذا النقض،

فيجيء رابع فيردُّ الدَّفع، وهكذا.

حُجَجٌ تهافت كالزُّجاج

فكُلٌّ كاسرٌ مكسور

(1)

ثم اعْلم أنَّ أعظم ما يستندون إليه هو الاستقراء؛ فيستقرئون ما يدخل تحت حواسهم حتى تنتظم لهم مقدِّمةٌ كليَّةٌ بالنِّسبة إلى ما استقرؤوه، ثم يزعمون أنَّه لا يخرج موجودٌ عن تلك الكُليَّة، وذلك أمرٌ بديهي البُطلان؛ فإنَّهم يقولون: الحيوان كلُّه يُحرِّك فكَّه الأسفل إلَّا التِّمساح

(2)

، فلو فَرَضْنا أنَّهم لم يَرَوا التِّمساح ولا سمعوا به، كأن كان في أمريكا قبل اكتشافها= فهذا الاستقراء يكون في زعمهم برهانًا قاطعًا على أنَّه لا يوجد حيوانٌ يحرِّك فكَّه الأعلى! وهم يبالغون بزعمهم في نفي مشابهة الربِّ عز وجل لشيءٍ من خلقه، ثم يحكمون عليه بما استقرؤوه من خلقه.

ومن أعظم بلايا العقل دعواه أنَّه لا يَتَعالى عن إدراكه شيء، كثيرًا ما ينظر فإذا لم يُدْرِك جَحَد، ولا سيَّما عقول هؤلاء القوم الذين تسرَّب إليهم

(1)

كذا بالأصل وهو غير موزون، مع وضوح معناه، والمشهور:

حججٌ تهافت كالزجاج تخالها

حقًّا وكُلٌّ كاسرٌ مكسورُ

ولم أر مع شهرة هذا البيت نسبته لقائلٍ.

ولابن الرُّومي في "ديوانه"(2/ 166):

لِذَويِ الجِدَال إذا غَدَوا لجدالهم

حُججٌ تضلُّ عن الهُدَى وتجُوْرُ

وُهْنٌ كآنية الزُّجاج تصادمت

فَهَوَت وكُلٌّ كاسِرٌ مكسورُ

فالقاتل المقتول ثَمَّ لضعفه

وَلِوَهْيِهِ والآسِرُ المأسورُ

(2)

يُنْظَر: "الحيوان" للجاحظ (7/ 103).

ص: 45

تقديس الفلاسفة، والرَّيب في النُّبوة، على تفاوتهم فيه، ومثل ذلك مثل نفرٍ من النَّاس

فيهم رجلٌ يرى أنَّه أحدُّهم نَظَرًا، فيرى آخر منهم الهلال فيخبر أصحابه، فَيَتَراءَاه ذلك الرجل فلا يراه، فيبادر بتكذيب القائل: إنِّي أراه، قائلًا: لو كان الهلال طالعًا لرأيتُه؛ لأنَّني أحدُّ الجماعة نَظَرًا!

وهذا من أعظم غلط العقل، فتراه ينفي وجود بعض الأشياء، وينكر بعض الأحكام، ويردُّ كثيرًا من الأخبار؛ لأنّه لم يدركها، أو لم يدرك وجه صِحَّتها، أو مطابقتها للحِكْمة. ولولا هذا الخطأ ومثلُه لم يكد يغلط عاقل ولا يضل، ولا استحلَّ مسلمٌ أن يذمَّ المعقولات، ويحذّر من شدة الاعتماد عليها، فإنَّ الدِّين لا يقوم إلَّا على العقل كما قدّمنا.

وممَّا يُتَّقى به خطأ العقل ــ إذا زعم أنَّ إدراكه قاطعٌ ــ أن يفرض صاحبه أنَّه اجتمع بِمَن هو أكمل منه وأعقل، فأخبره برأيه في تلك القضية، فقال له الأكمل: أخطأت؛ فإن أحسَّ في نفسه أثرًا لقول الأكمل: "أخطأت" فليعلم أنَّ إدراكه ذلك ليس بقاطع.

وقد بحث معي مسلمٌ في مسألة معروفة، فزعم أنَّ العقل القاطع يدلُّ على نفيها، فقلت له: لو فرضنا أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال حيًّا، وأنّنا سألناه عن هذه المسألة فقال: هي حقٌّ ثابتٌ، فهل تصدِّقه؟

فقال: وكيف لا أصدِّقه؟

فقلتُ له: فأين العقل القاطع هذا؟ أو نحوه.

فإن قلتَ: إنَّهم يجيبون عن مثل هذا: بأنَّه يستحيل أن يقوله النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم.

قلتُ: فإنَّهم يردُّون النصوص الصَّريحة من القرآن بنحو ذلك.

فإن قلتَ: ولكنّهم يتأوَّلونها.

ص: 46

قلتُ: قد تقدَّم أنَّ حملها على التأويل معناه نسبة الكذب إلى الله ورسوله.

وبعد فالمكابرة لا دواء لها، والمقصود إرشاد مَن في قلبه خير إلى أن يفرض ما تقدَّم، ثم ينظر فلعلَّه يتبيَّن له خطَاؤُه في توهُّم القطع.

فإن قال قائلٌ: إنّما استقامت لك الحُجَّة لأنَّك مثَّلتَ بالحياة واليد، ومن الصفات ما لا يظهر استقامة تلك الحُجَّة فيه، ومن ذلك كون الله عز وجل على عرشه فوق السماوات، وكونه ينزل كُلَّ ليلةٍ إلى سماء الدُّنيا، ويجيء يوم القيامة، وغير ذلك.

أقولُ: الحُجَّة مثبتةٌ في هذه كلِّها؛ لأنَّ الفلاسفة ومقلِّديهم أثاروا شبهًا ليست ممَّا فُطِرَت عليه العقول، ولا كان يعرفها العرب الذين تلقوا الشريعة غَضَّةً، وقد كنت أحببت أن أوضح ذلك مفصَّلًا، ثم أضْرَبْتُ عن ذلك لمعنىً سأذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى. فلْأَكتف بجوابٍ إجمالي:

قد عَلِمتَ أنَّ الإخبار بكلامٍ له معنى ظاهر، وليس عند المخاطَب قرينةٌ تُوْجِب صَرْفَه عن ظاهره يكون كذبًا، ولا يغني تورية المتكلِّم في نفسه، أو ملاحظته قرينةً يعلم أنَّ المُكلَّم

(1)

لا يشعر بها، كأن يَقْدَم رجلٌ من اليمن إلى الحجاز، فيسأله رجلٌ عن أبيه، فيقول: إنَّه قد مات، ويريد في نفسه أنّه نامَ، ويزعم أنَّ وجود الأب في اليمن حيًّا يرزق قرينة!

وعلمتَ أنَّ الكذب مُحالٌ أن يقع من الله عز وجل ورسله، والله عز وجل إنّما أنزل الكتب وأرسل الرسُّل لهداية الناس إلى السِّراط المستقيم، لا لإضلالهم، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى

(1)

الأصل: "المتكلم" سهو.

ص: 47

فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر: 41].

فإذا أحَطْتَ بهذا فكلُّ نصٍّ في كتاب الله عز وجل أو في السُنّة المقطوع بها يخبر بصفة من صفات الله عز وجل، وله معنى ظاهر يُعْلَم أنَّ العرب الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يفهمون غيره، فلا مفرَّ للمسلم من الإيمان به.

ثم اعْلم أنَّ من الصِّفات ما لا شُبْهَة لِمَن أنكره أصلًا، كما قدّمنا في الحياة واليد مفصَّلًا.

ومنها ما لم تكن فيه شُبْهة، ولكن نشأت الشُبْهة فيه لمن اطَّلع على كلام الفلاسفة، وهذا لا بدَّ للمسلم من الإيمان به وتكذيب الفلاسفة.

علمًا بأنَّ العقل الإنساني قاصرٌ، وأنَّ إدراكه يتفاوت، وأنَّه كثيرًا ما يتوهَّم أنّه قد أدرك إدراكًا قطعيًّا وهو مخطئ.

ومن تأمّل اختلاف الفلاسفة والمتكلِّمين من كُل أُمَّةٍ، وتخطئة آخرهم لأولهم، مع زعم كلٍّ منهم أنّ عقله أدرك ما قاله إدراكًا قاطعًا= تبيَّن له هذا، ولو اطَّلعت على آراء فلاسفة العصر لرأيت من ذلك كثيرًا جدًّا.

ومنها ما تعرض الشُبهة فيه لكلِّ أحدٍ، وهذا لا بدَّ للمسلم من الإيمان به، وصَرْفِ نفسه عن استرسالها في الفِكْر.

ففي "الصَّحيحين"

(1)

من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "يأتي الشيطان أحدَكم، فيقول: مَن خلق كذا؟ مَن خلق كذا؟ حتى يقول: مَنْ خَلَق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله وَلْيَنْتَهِ".

(1)

البخاري (3276) ومسلم (134)، وهذا لفظ البخاري.

ص: 48

وفيهما

(1)

من حديثه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا يزال الناس

يتساءلون حتى يُقال هذا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ فمَن خَلَقَ اللَّهَ؟ فمَن وَجَدَ من ذلك شيئًا؛ فليقل: آمنت بالله ورُسُلِه".

وفي روايةٍ لأبي داود

(2)

: "لا يزال الناس يتساءلون، حتى يُقَال هذا خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ فمَن خَلَق اللَّهَ؟ فإذا قالوا ذلك، فقولوا: الله أحدٌ، الله الصَّمدُ، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، ثم ليَتْفُلْ عن يساره، ولْيَستعذ بالله من الشيطان الرجيم".

وذلك أنَّ الفكر إذا أراد أن يتصوَّر أن الله عز وجل لم يزل ولا نهاية لأوَّليَّته تاه وتحيَّر.

فصلٌ

قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].

اختلف النّاسُ في هذه الآية حتى كادت تصير هي نفسها من المتشابه، وقد يُسِّرَ لي في فهم معناها سبيلٌ واضحٌ إن شاء الله تعالى.

(1)

مسلم (134) بنحوه، وأخرجه البخاري من حديث أنس (7296) بلفظ:"لن يبرح الناس يتساءلون حتى يقولوا: هذا اللهُ خالقُ كلِّ شيءٍ، فمَن خَلَق اللَّهَ؟ ".

(2)

حديث (4722) بنحوه.

ص: 49

فأقول: قد ثبت أنَّ القرآن كلَّه محكمٌ، لقوله تعالى:{كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1]، وأنَّه كلَّه متشابهٌ؛ لقوله تعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ

الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ

} [الزمر: 23].

وثبت بالآية المصدَّر بها أنَّ منه ما هو محكمٌ غير متشابهٍ، ومنه ما هو متشابهٌ غير محكمٍ.

واتُّفِقَ على أنَّ المراد بالإحكام في قوله تعالى: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} عدم الخَلَل في الحُسْن والصِّدق ومطابقة الحِكْمة، وبالتَّشابه في قوله:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا} أنَّ بعضه يشبهُ بعضًا في الحُسْن والصِّدق ومطابقة الحِكْمة، فلا منافاة بين هذا الإحكام وهذا التَّشابه.

وأمَّا الإحكام والتَّشابه في الآية المصدَّر بها فهي صريحةٌ في تنافيهما، وبذلك يُعْلَم أنَّ لكلٍّ منهما معنًى غير المعنى المتقدِّم، فبَحَثْنَا عن ذلك فوَجَدْنَا المُحْكَم مُحْكَمًا لا يحتمل إلَّا ذلك المعنى الواحد، وأنَّه لا خَلَل فيه، والقرآن كلُّه مُحْكَمٌ لا خلل فيه ألبتَّة.

ولكن يمكن أن يقال: الخَلَل المنتفي عن القرآن ألبتَّة هو الخَلَل الحقيقي.

فأمَّا ما يُتَوَهَّم خَلَلًا وليس في الحقيقة بخَلَلٍ فهو موجود في القرآن.

فيجوز أن يُقَال: أُحْكِمَت آياته في الحقيقة، ومنه آياتٌ محكماتٌ ليس فيها خَلَلٌ ولا ما يُتَوَهَّم خَلَلًا، وأُخرُ فيها ما يُتَوَهَّم خَلَلًا؛ فهي المتشابهات.

وقبل أنْ نَبُتَّ الحُكْمَ في هذا ننظر في معنى {مُتَشَابِهَاتٌ} فنجد المعنى

ص: 50

المتبادر: أنَّ كلَّ آيةٍ منها تشبه الأخرى، وهذا عامٌّ في آيات القرآن كُلِّها، كما قال تعالى:{كِتَابًا مُتَشَابِهًا} .

فإنْ قيل: إنَّ هناك وجهًا تتشابه فيه الآيات التي يكون فيها ما يُتَوَهَّم خَلَلًا

مختصَّة به، وهو تَوَهُّم الخَلَل في كُلِّ آيةٍ منها.

قلتُ: ولكنَّ هذا لا يكفي لتخصيصها بلفظ: {مُتَشَابِهَاتٌ} ؛ فإنَّ المحكمات أيضًا فيها وجهٌ تتشابه فيه، وهو خاصٌّ بها، وهو أنَّه ليس في كُلٍّ منها خَلَلٌ، ولا ما يُتَوَهَّم خَلَلًا.

ويمكن أنْ يُقَال: كلُّ آيةٍ من المتشابهات متشابهةٌ في نفسها، على أن يكون المعنى: متشابهات معانيها، أي: يتشابه فيها معنيان، أو معاني، كما يُقَال: اشتبه عليَّ الأمر، أي: اشتبه صوابُه بخطائه، ويُقَال: اشتبه عليَّ الأمران، أي: لم تُميِّز بينهما.

فإنْ قلتَ: ولكنَّه لا يُقَال: تشابه عليَّ الأمر!

قلتُ: لا أستحضر شاهدًا لذلك، ولكن "اشتبه" و"تشابه" بمعنًى، قال تعالى:{مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ} [الأنعام: 99].

وقد قال المولَّد

(1)

:

رَقَّ الزُّجَاجُ ورَاقَت الخَمْرُ

فَتَشَابَهَا وتَشَاكَلَ الأَمْرُ

(2)

الشاهد في قوله: "وتشاكل الأمر".

فلنترك هذا ههنا، ولننظر في بقية الآية، لعلَّنا نجد فيها ما يبيِّن المقصود،

(1)

هو الصاحب بن عبَّاد، في "ديوانه"(ص 176).

(2)

كذا في الأصل، وفي "الديوان":"وتشابها فتشاكل".

ص: 51

قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} .

دلَّت الآية أنَ المتشابه من شأنه أن يتَّبعه الزَّائغون؛ ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله.

ومن المعقول أنَّ الآية التي تتشابه معانيها يتَّبعها الزَّائغ ابتغاء الفتنة؛ ليحملها على المعنى الذي يوافق هواه، ولكنّ قوله تعالى:{وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} يدلُّ أنَّ ابتغاء تأويل المتشابه زيغٌ.

فإن قيل: إنَّما يكون زيغًا في حقِّ الزَّائغين؛ لأنَّهم يبتغون الفتنة.

قلتُ: لا أرى هذا شيئًا؛ إذ لو كان كذلك لكان المدار على ابتغاء الفتنة، ولَمَا ظهر معنًى لزيادة {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ، بل ولا تخصيص المتشابه؛ لأنَّ مبتغي الفتنة يبتغيها في كل آية من القرآن، وإن كان ابتغاؤه إيَّاها فيما تشابهت معانيه أكثر.

فإن قيل: فإنَّما يكون ابتغاء تأويله زيغًا في حقِّ هؤلاء؛ لأنَّهم غير راسخين في العلم.

قلتُ: لا أراه كذلك؛ لأنَّ مَن ليس براسخٍ في العلم قد يخطئُ في فهم المحكم أيضًا.

وأوضح من هذا كلِّه قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، فقصر علم تأويل المتشابه على الله عز وجل.

فإن قلتَ: فقد قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ؟

ص: 52

قلتُ: ليس هذا عطفًا ألبتَّة، وإنَّما هو معادل قوله:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ، فكأنه قال: (وأما الراسخون في العلم

).

فالآية كقولك: أمّا زيدٌ ففي المسجد وعمرو ذهب إلى السوق، اختار هذا المعنى ابن هشام في "المغني"

(1)

، وهو المختار؛ لأنَّ "أمَّا" للتَّفصيل، وذِكْرُ القسمين أو الأقسام بعدها هو الأصل، والحذف خلاف الأصل. فلمّا كان قوله:{وَالرَّاسِخُونَ} يحتمل أنَّه القسم الثاني، ويحتمل خلافه، فحمله على أنَّه القسم الثاني هو الظَّاهر حتمًا.

ويؤيِّد ذلك أنَّ القائلين بالعطف قالوا: إنَّ قوله: {يَقُولُونَ} خبرُ مبتدأ محذوف، أي: هم يقولون، ولا يخفى أنَّ الأمر إذا دار بين الإضمار وعدمه فالأصل عدمُهُ.

ومنهم مَن جَوَّز أن يكون حالًا، وهو باطل؛ لأنَّ الحال قيدٌ في عاملها، فيصير المعنى:"وما يعلم تأويله في حال قول الراسخين كذا وكذا إلَّا الله والراسخون"، فيُفْهَم منه أنَّ غير الله والراسخين قد يعلم تأويله في غير تلك الحال! ولا وجه لهذا.

وإن قُدِّرَ أنَّه حالٌ من ضميرٍ محذوفٍ، والتَّقدير:"هم يعلمونه حال كونهم يقولون"[فـ]ـتعسُّفٌ بتكثير الإضمار، ولزوم أنَّ الله والرَّاسخين لا يعلمون تأويله إلَّا في تلك الحال! وهذا محالٌ.

فإن حُمِلَ قولنا: "هم يعلمونه" على الرّاسخين وحدهم، فكذلك يلزم منه أنَّهم لا يعلمونه إلَّا في تلك الحال!

(1)

"مغني اللبيب عن كتب الأعاريب"(ص 81 - 82).

ص: 53

وهناك مصارعات ومقارعات، انظرها في:"روح المعاني"

(1)

إنْ

أحببت.

وأوضح من هذا كلِّه: أنّه صحَّ ــ كما في "المستدرك" وغيره

(2)

ــ عن ابن عباس ــ وهو المَدْعوُّ له بتعلُّم التأويل

(3)

ــ كان يقرأ: (وما يعلم تأويله إلَّا الله ويقول الراسخون .. ).

وحُكيَ مثله عن أُبيِّ بن كعب

(4)

. وقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "أقرؤكم أُبيّ"

(5)

. وجاء عن ابن مسعود ــ وهو هو ــ أنه كان يقرأ: (وإن

(1)

للآلوسي (3/ 83 ــ 87).

(2)

"المستدرك"(2/ 289)، وأخرجه عبد الرزاق في "تفسيره"(1/ 116) ومن طريقه ابن أبي داود في "المصاحف"(1/ 348)، والطبري في "تفسيره"(5/ 218)، وأخرجه ابن الأنباري في "الأضداد"(ص 426) وغيرهم، من طريق معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه به.

(3)

تقدم ذكره (ص 8 - 9) من هذه الرسالة.

(4)

أخرجه الطبري (5/ 219) وابن أبي حاتم (2/ 599) من طريق ابن وهب عن ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أُبَيٍّ رضي الله عنه بنحوه.

(5)

أخرجه أحمد (3/ 184) والترمذي (3791) وابن ماجه (154) وابن حبان (7131، 7137، 7252) والحاكم في "المستدرك"(3/ 422) وغيرهم، من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه بلفظ: "أرحم أمتي بأمتي أبو بكر

" وفيه: "وأقرؤهم لكتاب الله أُبي بن كعب". قال الترمذي عقِبه: "حسنٌ صحيحٌ"، وقال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذه السياقة؛ وإنَّما اتفقا بإسناده هذا على ذكر أبي عبيدة فقط، وقد ذكرتُ علَّته في كتاب التلخيص".

وصحَّح إسناده ابن حجر في "الفتح"(7/ 93)، وقال:"إلَّا أنَّ الحفَّاظ قالوا: إنَّ الصَّواب في أوَّله الإرسال، والموصول ما اقتصر عليه البخاري".

وقال في "التلخيص الحبير"(3/ 79 ــ 80): "أُعِلَّ بالإرسال، وسماع أبي قلابة من أنسٍ صحيحٌ؛ إلَّا أنه قيل: لم يسمع منه هذا، وقد ذكر الدارقطني الاختلاف فيه على أبي قلابةً في "العِلل"، ورجَّح هو وغيره ــ كالبيهقي والخطيب في "المدرج" ــ أنَّ الموصول منه ذكرُ أبي عبيدة، والباقي مرسلٌ.

ورجَّح ابن الموَّاق وغيره رواية المرسل" ثم ذكر طرقًا للحديث لا يخلو شيءٌ منها من ضعفٍ.

وصحَّح الألباني الحديث في "الصحيحة"(1224) متصلًا، واستغرب إعلاله بالإرسال.

تنبيه: الحديث الذي اقتصر عليه البخاري هو ما أخرجه (3744) ومسلم (2419)، بلفظ:"لكل أمةٍ أمينٌ، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرَّاح".

ص: 54

تأويله

إلَّا عند الله والراسخون في العلم)

(1)

.

فلو كان المعنى على العطف لقال: "والراسخين"، كما لا يخفى.

وقد رُوِيَت عن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه آثارٌ كثيرة تصرِّح بأنَّ المتشابه لا يعلمه إلَّا الله تعالى وحده. انظرها في "الدُّر المنثور"

(2)

.

وسياق الآيات يدلُّ على ذلك؛ فإنّ قول الراسخين: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} ظاهرٌ في عدم علمهم بتأويله، وإنَّما علموا أنَّه حقٌّ لأنَّه من عند ربهم، فكأنَّهم قالوا: أمَّا ما عَلِمْنَا تأويله فقد عَلِمْنَا أنَّه حقٌّ بعِلْمِنَا بتأويله، وأمَّا المتشابه فإنَّنا نؤمن به؛ لأنَّه أيضًا من عند ربِّنا، فهو حقٌّ وإن لم نعلم تأويله.

(1)

ينظر: "كتاب المصاحف" لابن أبي داود (1/ 309) ولفظه فيه: "قراءة عبد الله: (وإنْ حقيقة تأويله إلَّا عند الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به

).

وذكره الطبري في "تفسيره"(5/ 221) بلفظ المؤلف.

(2)

(3/ 459 ــ 461).

ص: 55

وقولهم بعد ذلك: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] ظاهرٌ في أنَّ المُتَشابه مَظِنَّة لأنْ يكون سبب الزَّيغ.

ولو كانوا قد علموا تأويلَه لكان بالنَّظر إليهم كالمُحْكم.

وتعليل اتِّباع الزَّائغين للمتشابه بقوله: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ظاهرٌ في أنّ ابتغاء تأويله زيغٌ؛ إذ لو كان الزَّيغ إنَّما هو في اتِّباعه ابتغاء الفتنة لَمَا كان لقوله: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} معنى!

فإن قيل: سَلَّمنا أنَّ ابتغاء تأويله زَيغٌ، ولكن لغير الراسخين.

قلتُ: الرُّسوخ في العِلْم أمرٌ خفيٌّ، ليس هو كثرة العِلْم، فكم مِن رجلٍ كثير العِلْم ليس براسخٍ، قال تعالى:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف: 175، 176]، وقال عز وجل:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23].

وفي الحديث: "إنَّ أخوف ما أخاف على أمّتي كلُّ منافقٍ عليم اللِّسان"

(1)

.

(1)

أخرجه أحمد (1/ 22، 44)، وعبد بن حميد (المنتخب: 11)، والبزَّار (1/ 434)، وغيرهم، من طرقٍ عن ميمون الكردي عن أبي عثمان النَّهدي عن عمر رضي الله عنه مرفوعًا. قال الهيثمي في "المجمع" (1/ 187):"رجاله موثقون" وصحَّح إسناده الألباني في "الصحيحة"(1013).

وللحديث طرقٌ أخرى اختلف في رفعه ووقفه على عمر رضي الله عنه، قال الدارقطني في "العِلل" (2/ 246):"والموقوف أشْبَه بالصَّواب".

وله شاهد من حديث عمران رضي الله عنه مرفوعًا، وَهَّمَه الدارقطني في "العِلل"(2/ 170). ومن حديث عليٍّ رضي الله عنه مرفوعًا، ولا يصح، ويُنظر:"مجمع الزوائد" للهيثمي (1/ 187).

والحاصل في هذه الرواية كما قال الحافظ ابن كثير في "مسند الفاروق"(ص 663): "هي صحيحة عن عمر، وفي رفع الحديث نظر".

ص: 56

وقال الحسن البصري: "العِلْم عِلْمان: فعِلْمٌ في القلب، فذلك العِلم النَّافع، وعلمٌ على اللِّسان، فذلك حُجَّة الله على ابن آدم". "سنن الدارمي"(ج 1 ص 102)

(1)

.

والأحاديث والآثار في هذا كثيرة.

وقد كان عبد الملك بن مروان وأبو جعفر المنصور العباسي من كبار العلماء، وهما طاغيتان. وكذلك الواقدي، والشَّاذكوني، ومحمد بن حميد الرازي، وهؤلاء رماهم أئمَّة الحديث بأنَّهم كانوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمثالهم كثير. ومن العلماء مَن هو دون هؤلاء في العلم ولكنَّه معدودٌ من الراسخين.

(1)

حديث (376) ط حسين سليم.

وقد رُوي الحديث مرفوعًا من مرسل الحسن البصري، ومن حديث جابر وأنس رضي الله عنهما، ولا يسلم واحدٌ منها من مقال وضعفٍ. ويُنظر:"الضعيفة" للألباني (1098).

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "درء التعارض"(7/ 453): "رُوِيَ ذلك عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلًا، وقد قيل إنَّه من كلام الحسن، وهو أقرب".

ص: 57

فالرسوخ إذن حالٌ قلبية؛ كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الغِنَى: "ليس الغِنَى عن كثرة العَرَض، ولكنَّ الغِنَى غِنَى النَّفس"

(1)

؛ فكذلك نقول: ليس الرُّسوخ عن كثرة العِلْم، ولكنَّ الرُّسوخَ رسوخُ الإيمان في القلب، ويوشك أن يكون هو

اللُّب في قوله تعالى: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7].

وإنَّه ليشمُّ روائح الرسوخ من قولهم: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: 7 ــ 9].

فالرّاسخ دائم الخوف والخشية من ربه عز وجل، مسيءٌ للظَّنِّ بنفسه، فكم من راسخٍ لا يرى أنَّه من أرسخ الرَّاسخين؟

فالخائف الخاشي المسيءُ الظَّنَّ بنفسه جديرٌ بأن لا يستخفَّه ما عنده من العِلْم على الخوض فيما ليس له به علم، وعلى البحث فيما لم يُكلَّف البحث فيه، وهو من موارد الخَطَر، ومزالق النَّظَر.

هذا لو كان يمكن العِلْم به؛ فكيف إذا كان ممَّا لا سبيل إلى العِلْم به؟! وإنَّما الزَّائغ الجريء على ربه، المُتَّكِل على عقله، الفَرِح بما عنده من العِلْم هو الجدير بأن يَتَعَاطى الخوض في كُلِّ شيءٍ، ويحمِلُه ثقتُهُ بنفسه، وأَمْنُهُ مكرَ ربِّه، ودعواه أنَّه لا يَتَعَالى عن فهمه شيءٌ، وحرصه على أن يطير ذكرُهُ في النَّاس، وكبره عن أن يعترف بالجهل= تحمِلُهُ هذه الأشياء على الجهل بحقيقة حاله، وبأنّ العقل له حدٌّ ينتهي إليه، كما أنَّ للبَصَر حدًّا ينتهي إليه،

(1)

أخرجه البخاري (6446) ومسلم (1051) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 58

ورُبَّما حَمَلَتْه على الخوض والكلام، والنَّقض والإبرام فيما يعلم أنَّه لا سبيل له إليه، وكم من راسخ يرميه النّاس بالكفر والضَّلال، وكم من زائغٍ يتَّخذونه إمامًا في الدِّين!

فالحقُّ أنَّ هذه الآيات أفادت علامة الزَّائغ، وآية الرَّاسخ.

فعلامة الزَّائغ اتِّباع المتشابه ابتغاء الفِتْنة وابتغاء تأويله، وإذا خَفِيَ علينا

ابتغاء الفتنة لم يَخْفَ ابتغاء التأويل. وآية الرَّاسخ الكفُّ عن ذلك، والاكتفاء بقوله: {آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا

}.

وفي "الصَّحيحين" وغيرهما

(1)

من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلا هذه الآيات، ثم قال:"إذا رأيتم الذين يتَّبِعُون ما تَشَابَه منه فأولئك الذين سمَّاهم الله فاحذروهم".

فأطْلَق الحديث ولم يقيِّد؛ لكنَّه قد عُلِم إخراجُ الاتِّباع على معنى التِّلاوة والإيمان، وبقي الاتِّباع ابتغاءَ التَّأويل، ولم يُقيِّده بابتغاء الفِتْنة ولا غيرها، فعُلِم صِحَّة ما قلناه، وهو: أنَّ ابتغاء التأويل زيغٌ، كما أنَّ ابتغاء الفِتْنة زيغٌ، ولم يقيِّده صلى الله عليه وآله وسلم بعدم الرسوخ، فعُلِم أنَّ كلَّ من ابتغى تأويله فهو زائغٌ وليس براسخٍ، وأكَّد هذا ما يُفْهَم من الحديث: أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم كان واثقًا بأصحابه الذين خاطبهم أنَّهم لا يتبِّعون المتشابه، وإنَّما حذَّرهم ممَّن نَشَأَ بعدهم، وهم رضي الله عنهم أولى بالرسوخ من غيرهم؛ فعُلِمَ أنَّ الرَّاسخ لا يتَّبع المتشابه أصلًا إلَّا على معنى تلاوته والإيمان به.

(1)

البخاري (4547)، ومسلم (2665)، وأبو داود (4598)، والترمذي (2993)، وأحمد في "مسنده"(6/ 48، 256) وغيرهم، بألفاظ متقاربة.

ص: 59

فإن قلتَ: المتشابه في اختيارك هو ما اشتبه معناه، بأن يتساوى المعنيان أو الثلاثة في الاحتمال، فهل يدخل فيه ما اشتبه مَعْنَيَاه أو معانيه، ولكنَّه يمكن ترجيح أحدها بدليلٍ آخر؟

قلتُ: كلَّا، ليس هذا بمتشابه، بل هذا ممَّا يعلم تأويله الرَّاسخُ وغيرُه، وممَّا أُمِرْنا بالتَّدبُّر فيه والنَّظَر في تأويله.

فإن قلتَ: فالمتشابه عندك ما اشتبه معناه، بحيث لا يوجد دليل يُبيِّنه؟ قلتُ: نعم.

فإن قلتَ: وما فائدةُ إنزال مثل هذا في القرآن، والقرآن إنَّما نَزَلَ هُدًى للعالمين، وأُمِرْنا بتدبره مطلقًا؟

قلتُ: ينبغي أولًّا أن تُعيِّن المتشابه، ثم أجيب عن هذا السُّؤال إن شاء الله تعالى.

فأقول: مشتبه المعنى على أنواعٍ، كما فصَّلَه الرَّاغب في "المفردات"

(1)

:

الأول: المُتَشابه من جهة اللَّفظ، وذكر له خمسة أضرب:

1 ــ الكلمة الغريبة، كالأَبِّ.

2 ــ المشتركة، كالقُرْءِ.

3 ــ ما اختُصر فيه الكلام، نحو:{وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3].

(1)

(ص 443 - 445).

ص: 60

4 ــ ما بسط فيه، نحو:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].

5 ــ ما يشتبه في نظم الكلام، مثل:{أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا} [الكهف: 1 - 2]، فيتوهَّمُ السَّامع أنَّ {قَيِّمًا} نعتٌ لـ {عِوَجًا} ، وإنَّما هو حال من {الْكِتَابَ} .

ومنه قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، إلّا أنَّ المتبادر في هذه الآية هو الصَّواب

كما قدّمنا، بخلاف قوله:{عِوَجًا (1) قَيِّمًا} .

الثاني: المتشابه من جهة اللَّفظ والمعنى جميعًا، وذكر له خمسة أضرب أيضًا:

1 ــ من جهة الكميَّة، كالعموم والخصوص، نحو:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5].

2 ــ من جهة الكيفية، كالوجوب والتَّحريم في قوله {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40].

3 ــ من جهة الزمان، كالنَّاسخ والمنسوخ.

4 ــ من جهة المكان والأمور التي نَزَلَت فيها الآيات، نحو:{وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} [البقرة: 189]، وقوله:{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37].

قال: "فإنَّ من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذَّرُ عليه معرفة تفسير هذه الآية".

ص: 61

5 ــ من جهة الشُروط التي يصحُّ بها الفِعْل أو يفسد، كشُرُوط الصَّلاة والنِّكاح.

الثالث: ما ذكره بقوله: "والمتشابه من جهة المعنى: أوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة، فإنَّ تلك الصِّفات لا تُتَصَوَّر لنا، إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورةُ ما لم نُحسّه أو لم يكن من جنس ما نُحسُّه".

أقول: وأنت إذا كنت قد تَدَبّرت ما تقدَّم ــ تعلم أنَّ النَّوعين الأوَّلين لا

يصحُّ تفسير المتشابه في الآية بهما، فإنَّ الأَبَّ والقُرْء وسائر ما ذُكِر في النَّوعين الأوَّلين ليست ممَّا يُتَّبَع ابتغاءَ الفِتنة، ولا ممَّا يتَّبعه الزَّائغون ابتغاءَ تأويله، ولا غير ذلك ممَّا تقدَّم، بل في ذلك ما يخفى على الرَّاسخ، ولا يخفى على الزَّائغ، وفيه ما يُخطئ فيه الرَّاسخ ويصيب فيه الزَّائغ، ولم يزل العامَّة يسألون عمَّا يُشْبِهُ ذلك، ولم يتَّهِمهُم أحدٌ بالزَّيغ.

والحاصل: أنّ ذلك لا يَصدُق على المُتَشَابه الذي وَرَدَت به الآية والأحاديث والآثار، بل ولا يَصدق عليه أنَّ معانيه مُشْتَبِهَةٌ؛ لأنَّ الاشتباه فيه يزول بالتَّدبُّر، فالأَبُّ مثلًا يُعْرَف معناه بسؤال أهل اللُّغة، والنَّظَر في القرائن، وهكذا.

وليس في القرآن شيءٌ من ذلك يتوقَّف العلماء عن اتّباعه والنَّظر في تأويله، مع أنَّ الجمهور يقولون في الآية بما قلناه، وهو أنّ المتشابه لا يعلم تأويله إلَّا الله، وقد تقدَّم حديث "الصَّحيحين"

(1)

، ونحن نعلَم أنَّ الصحابة عملوا بمقتضاه، ونعلم أنَّهم تكلَّموا في النَّوعين الأوَّلين، واختلفوا في

(1)

(ص 59).

ص: 62

بعضها كثيرًا، ثمَّ رَأَوا مَن بَعْدَهم يتَّبِعُون ذلك ويبتغون تأويله فلم ينكروا عليهم ذلك.

فما بقي إلَّا النَّوع الثالث، فهو الذي لم يكن يُؤَوِّلُه النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه، ولا كانوا يبتغون تأويله، ولا يختلفون فيه، ولمَّا رَأَوا من يتَّبعه مِنْ بَعدِهم ويتكلَّم في تأويله حَذَّرُوهم، وحذَّروا الناس منهم.

فإن قلتَ: فإنَّكم تتكلَّمون في معنى ذلك، فتقولون: لله عز وجل حياةٌ

تليق به، ويدٌ تليق به، وتقولون: إنَّ لوجوده وحياته وقدرته وعلمه وحكمته مناسبةً ما لهذه الصِّفات في المخلوق، ولذلك أمكننا تصوُّرها إجمالًا.

قلتُ: الآن حَصْحَصَ الحقُّ، ارجع إلى معنى كلمة "تأويل".

فقد قدَّمنا أنَّ تأويل اللَّفظ قد يُطْلَق على المعنى، وقد يُطْلَق على نفس ذلك المعنى، وقد يُطْلَق على الحقيقة المعبَّر عنها باللَّفظ.

وقلنا: إنَّ قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15]، فإذا قال قائلٌ:"ويلٌ" وادٍ في جهنَّم، فقد أوَّله، ويُطْلَق على قوله إنَّه تأويلٌ، ويُطْلَق على نفس ذلك المعنى أنَّه تأويل.

يقال: ما تأويل {وَيْلٌ} ؟ فيُقال: تأويلُه وادٍ في جهنم، ويطلق على تلك الحقيقة ــ وهي عين ذلك الوادي ــ أنَّها تأويل.

ولم نجد في القرآن مثالًا للإطلاقين الأَوَّلَين، وفيه ثلاثة أمثلة جاءت على الإطلاق الثالث، كما ذكرنا هناك.

إذن فالتَّأويل في آية المتشابه من الإطلاق الثالث، فقولنا في حياة الله عز وجل:"صفةٌ ثابتة له سبحانه لها مناسبةٌ ما بحياة المخلوق"= قولنا ذلك

ص: 63

تأويلٌ لِلَّفظ على الإطلاق الأوَّل، وهذا المعنى تأويله بالإطلاق الثَّاني، وتلك الصِّفة نفسها هي تأويلُه بالإطلاق الثَّالث، والتَّأويل بالإطلاق الثالث هو الذي لا يعلمه إلَّا الله، وابتغاؤه زيغٌ، ولم يكن الصَّحابة والرَّاسخون في العِلْم يبتغونه، ولمَّا رَأَوا من يبتغيه حذَّرُوه، وحذَّرُوا منه.

وقد عَرَفْتَ أقسام متَّبعيه ممَّا سبق.

فمَن قال: يدٌ كيدي، فقد حكم على الحقيقة المعبَّر عنها باليد بأنَّها كَيَدِه، وتصوَّرَها هذا التَّصور المحدود.

ومَن قال: إنَّما هي القُدرة أو النِّعمة، فقد حكم عليها هذا الحكم، وزعم أنّه قد أدرك حقيقتها.

ومَن قال: لله عز وجل يدٌ تليق به لا يمكنني تصورها، ولا العلم بكنهها، ولكن لمَّا أخبر الله عز وجل عن نفسه أنَّ له يدًا آمنت بأنَّ له يدًا تليق به، فهذا هو القائل:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7].

وهذا أوان الجواب عن سؤالك بقولك: وما فائدة إنزال مثل هذا في القرآن والقرآن إنّما نزل هدى للعالمين وأمرنا بتدبّره مطلقًا؟

فأقول: أمّا الصفات التي نُدْرِكها إجمالًا لمناسبة ما بينها وبين صفاتنا، مع العلم بأنّها في حقّه عز وجل كاملة كما يليق، وفي حقّنا ناقصةٌ كما يليق بنا، كالقدرة والعلم ونحوها = فلا إشكال في إنزالها في القرآن؛ إذ يُقال: المقصود منه الإيمان بها مع العلم الإجمالي، وهو كافٍ في ذلك.

وقد عَلِمتَ أنّ من تلك الصفات ما يتوقّف ثبوت الشريعة على العلم بها، ويتبعها صفات أخرى مثلها في إمكان العلم بها إجمالًا، وفي العلم بها

ص: 64

تثبيتٌ للشريعة، وتأكيد للإيمان، ودونها صفات أخرى تُذْكَر في القرآن في صَدَد تقرير معنًى من المعاني لا يتوقَّف فَهمُه على العلم بكُنْهها، ولكن ذكرها معه يفيدُه قوةً لا تحصل بدونها، كقول الله تعالى:{قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]. فأصل المقصود إظهار زيادة الاعتناء بآدم عليه السلام، وتشريفه على ما سواه، وهذا المعنى معروف من الكلام، لا يتوقّف على العلم

بكُنهِ اليدين، ولا نقول كما يقول بعضهم: هذا الكلام تمثيلٌ لابد، فيه إظهار العناية والتّشريف وليس هناك يدان، وإنَّما هو تخييل كما قالوه في قول الشاعر

(1)

:

إذْ أَصْبَحَتْ بِيَدِ الشِّمَالِ زِمَامُهَا

لا والله لا نقول ذلك، فإنَّه من الزَّيغ، بل نقول: إنَّ لله عز وجل يَدَين خلق بهما آدم عليه السلام، ولكنّنا لا نعلم كُنْهَهُمَا، وجَهْلُنا بكُنهِهِما لا يمنع من فهم معنى الكلام، ولا يلزمُ منه أنَّ ذِكرهُمَا لا فائدة له، بل له أعظم الفائدة كما عَلِمْتَ.

ومع هذا فلا نقول: إنَّ فائدة ذكر الصفة مقصورة على ما ذُكر، بل هناك فائدةٌ أخرى، وهي الابتلاء؛ {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [المدثر: 31].

وأمّا التدبُّر فقد أُمِرنا به مطلقًا، ولا يتوقَّف فائدة التدبُّر على العِلْم بكُنْهِ

(1)

هو لبيد بن ربيعة، من معلقته، كما في "ديوانه"(ص 114)، وهو عجز بيتٍ صَدْرُه:

وَغَدَاةِ رِيْحٍ قد وَزَعْتُ وَقَرَّةٍ

ص: 65

اليَدَين مثلًا، إذ لا يتوقَّف العِلْم بمعنى الكلام على ذلك، أَلَا تَرَى أنّك إذا أخبرت الأَكْمَهَ بأنّك ترى ولدَه مُقبلًا يعلم معنى هذا الكلام تحقيقًا، وإن كان لا يدري كُنْهَ الإبصار.

* * * *

ص: 66

الفصل الثاني: في تأويل الإخبار عن الوقائع

أمّا الوقائع المتعلقة بالرّب عز وجل من حيث تعلُّقها به من العقائد، وقد مرَّ الكلام عليها.

وأمّا ما عدا ذلك، فإن كان يتعلّق بما لا نُحسُّ به، ولا هو من جنس ما نُحسُّ به فحكمه حكم العقائد، وذلك كالملائكة، والجنّ، والأرواح، وأحوال الجنة والنار، ونحو ذلك، إلَّا أنّ للملائكة مثلًا صفات يصدق عليهم بالنَّظر إليها أنَّهم من جِنْس ما نُحسُّ به؛ ككونهم موجودين

(1)

مخلوقين مربوبين، فمن هذه الجهة يكون حُكْمُهُم كحكم غيرهم ممّا نُحسُّ به، أو نُحسُّ بما هو من جنسه.

والوقائع المتعلقة بما نُحسُّ به أو هو من جنس ما نُحسُّ به هي موضوع هذا الفصل.

فنقول: يزعم كثيرٌ من النّاس أنّ في الكتاب والسنّة إخبارًا عن أشياء من هذا القبيل، والعقل أو الحِسُّ أو الخبر المتواتر يدلُّ على خلاف ظاهر ذلك الخبر، فغالبهم يذهبون إلى تأويل الأخبار بحَمْلِها على معانٍ خلاف ظاهرها، ولكنّها موافقةٌ للمعقول أو المحسوس أو المتواتر، وحُجَّة هؤلاء أنَّهم إذا تركوا تلك الأخبار على ظاهرها يلزم من ذلك في حق الله عز وجل ورسوله عليه السلام الكذب أو الجهل! وإذ كان من المعلوم امتناع ذلك يجعل الخصمُ هذا حُجَّة على بطلان دين الإسلام!

(1)

في الأصل: "موجود".

ص: 67

أقول: وهذا القول قد أَرْعَبَ غالب المسلمين، وزَلْزَلَ قلوبهم وحُلُومَهُم، فخضعوا لوجوب التأويل، ولكنّ هذا لم يغنهم شيئًا، فإنّ أهل الكفر والإلحاد قالوا: إنّ هذه التأويلات التي تبدونها خلاف ظاهر الكلام!

فإن قلتم: إنَّ الدليل العقلي أو الحِسِّيَّ أو التَّواتري قرينةٌ تجعل [خلاف]

(1)

ظاهر الكلام هو المعنى الذي حملناه عليه.

قيل لكم: هذا الدليل لم يكن معلومًا للمُخَاطَبين، بل لم يكن معلومًا لأحد من أهل الأرض حينئذٍ، ولا يكفي أن يُقال: كان الله يعلمه، أو كان رسوله يعلمه؛ فإنّ الاعتماد على قرينةٍ يعلمها المتكلِّم، ويعلم أنّ المخَاطَبين لا يعلمونها لا يجوز، ولا يخرج الكلام بذلك عن الكذب؛ فظهر أنّ ما تُبْدُونه من التأويل لا ينفي لزوم الكذب أو الجهل في قرآنكم ونبيّكم.

لعلَّ أكثر النَّاس ينكر عليَّ تقرير هذا المعنى؛ فأقول له: اعلم أنّ الكفّار والمُلْحدين يقرِّرون ذلك، ويَسْطُون به على علماء المسلمين فضلًا عن غيرهم، ولاسيَّما الشباب الذين سيقوا إلى أن يكونوا في مدارس معلِّمُوها من هؤلاء الملحدين أو الكفّار.

والدِّين الحقّ لا يضرُّه تقرير الشُّبه، وإنّما يحظر على العالِم أن يثير شُبْهةً لا يزال أهل الكفر والضلال غافلين عنها، فأمّا مثل هذه الشُبْهَة ممّا قد أثاروه وأضلُّوا به فلا بدّ للعالِم مِن ذِكره وإقامة البُرهان بما يزيله.

(1)

زيادة يقتضيها السياق.

ص: 68

حَلُّ الشُّبهَة

اعْلم أنّ عامّة شبهات الكفّار والملحدين في هذا العصر تدور على هذه الشُّبْهة، فيجب الاعتناء بحلِّها وإيضاح الحق، وأسأل الله عز وجل التوفيق والهداية.

لعلّه يطّلع على هذا مُلْحدٌ فيقول: إنّ هذا الكاتب وأمثاله مقلِّدون متعصِّبون، ليس لهم من حريّة الفِكْر نصيب، يَرِدُ عليهم البُرهان الذي يَدْمَغ دِيْنهم فيفرُّون إلى المعاذير، وكان عليهم أن يتدبَّروا ذلك البرهان ويعترفوا بمقتضاه، هذا مقتضى الحرية والشجاعة الأدبية، وطلب الحقّ من حيث هو حقٌّ، فهم يزعمون أنَّهم يتَّبعون الحقَّ، ويَدْعُون إلى الحقّ، وهم أبعد الناس منه.

فأقول له: أنت تعلم أنّ لثبوت الحقائق طُرُقًا مختلفة، فمعرفة أنّ فلانًا حاضرٌ ــ مثلًا ــ قد تحصل بواسطة الإبصار، وبواسطة سَمْعِ كلامه، وبواسطة إخبارٍ متواتر وغير ذلك، والإدراك بواسطة البصر لا يحصل للأعمى، وبواسطة سماع كلامه لا يحصل للأصمّ، وقِسْ على ذلك.

وقد يحصل الإدراك اليقينيُّ لحقيقةٍ بطريقٍ صحيحٍ، وإذا نُظِر من طريق أخرى وَجَدْتَ شُبهات تنفي تلك الحقيقة، فأمّا مَن حصل له الإدراك بذاك الطريق الصحيح فإنَّه إذا عُرِضَت عليه تلك الشُبهات لا يلتفت إليها، ولا يبالي بها، إلَّا أنّه إذا عجز عن إطْلاع المعترض على ذاك الطريق الصحيح فقد يحاول حلَّ تلك الشُبهات، وربَّما يعجز عن حلِّها، وهو مع ذلك غير مُتَزَلْزِلٍ فيما قد تيقَّنه، بل هو مؤمن أنّ لتلك الشبهات حلًّا لم يتيسَّر له، ومَن شكَّكَتْه الشُبهات فيما قد عَلِمَه يقينًا يُعدُّ عند العقلاء أحمق!

ص: 69

فمن ذلك قول علماء الطبيعة: إنّ تقرير كيفيّة الإبصار يقتضي أن ترى الصُّوَر معكوسة، وهو خلاف المُشاهَد، فيا تُرى من يشاهد الصُّوَر ــ ويعلم أنّه يشاهدها مستقيمةً ــ إذا عُرِضَت عليه تلك الشبهة هل يَتَزَلْزَل عمّا يشاهده من أنّه يرى الصور مستقيمة؟!

وفي الفلسفة الحِسِّية العصرية أمثلة كثيرة من هذا.

فهكذا نحن، قد قام عندنا من البراهين ما تَيَقَنَّا به أنّ القرآن كلام الله، وأنّ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله، فهذا اليقين هو الذي جعلنا نبادر إلى ردّ الشبهات، وإنّما نعتني بحلِّها رعاية لحال من لم يسلك الطُرُق التي سلكناها، وبها حصل لنا ذلك اليقين، وهي تحتاج إلى ممارسة وعناية، فلا يمكننا أن نحصِّلَها لِمَن لم تحصل له في مقالةٍ أو رسالةٍ؛ فلذلك نحتاج إلى حلِّ الشُّبهات.

والمقصود تقرير عُذْرِنا، ودفع تهمة التقليد والتعصُّب عنّا.

على أنّنا لا ندَّعي أنّنا نستطيع حلَّ جميع الشبهات حلًّا يقنع الخصم، ولكنّنا ندَّعي أنّه لو سَلَكَ الطُرُق التي سلكناها، وتَحَرَّى إصابة الحقّ، وتخلَّى عن التقليد والتعصب لوصل إلى ما وصلنا إليه، ولَعَلِم أنّ تلك الشبهات التي أثارها أوّلًا باطلة، سواء أعلم وجه حلّها أم لا.

فمثلُنا ومثلُ الخصم مَثَلُ رجل قال لآخر: إنّ الأرض تدور، فعَارَضَه ذاك بأنّها لو كانت تدور لتَسَاقطت الأجرام التي عليها، وكان كذا وكذا! ولْنَفْرِض أنّ المُخْبِر قد كان وقف على الدلائل التي تثبت دوران الأرض، ولم يقف على جواب الشُّبهة، فإنّه يقول للخصم: تعال معي وانظر وتفكَّر

ص: 70

لِتَقِفَ على ما وقفت عليه، فأبى هذا، مُصِرًّا على الإنكار؛ بحُجَّة أنّها لو كانت تدور لكان

كذا وكذا! أفلا يكون من واجب المعترض إذا كان طالبًا للحق أن يجيب الأوّل إلى ما يدعوه إليه من النظر، وإن كان في ذلك مشقَّة وتعب؟!

وبعد هذا التمهيد نشرعُ في حَلِّ الشُّبهة.

* * * *

أقوال العلماء

رأيت كتابًا لبعض الفضلاء يُكذِّب صاحبُه أهلَ الطَّبيعة والفَلَك والجغرافية وغيرها في كلِّ ما يقولونه ممَّا يراه مؤلِّف الكتاب مخالفًا لظاهر القرآن أو السنة، وفي كلامه مؤاخذات:

منها دعواه في مواضع ظُهُور دلالة القرآن، وليس كذلك.

ومنها في السنة كذلك.

ومنها الاستناد إلى أحاديث غير ثابتة، وغير ذلك.

وغالب العلماء يذهبون إلى التَّأويل كما قدَّمنا، وفيه ما عَرَفْتَ من الإشكال.

وسمعتُ بعض العلماء يقول: إنّ القرآن لم يُنزَّل لتعليم الطبيعة والفَلَك والتاريخ والتشريح والطِّبِّ، ونحو ذلك من العلوم الكونية، وإنّما نُزِّل لبيان الدين، عقائد وأحكامًا، وإنّما يُذْكَر بعض ما يتعلَّق بالطبيعة والفلك والتاريخ ونحوها لمغزًى دينيّ، كالتَّنبيه على آيات الله وآلائه، والتذكير بالعِبَر والمَثُلات، وهكذا السُّنَّة، فالأنبياء إنّما بُعِثُوا لتعليم الدِّين.

ص: 71

ومقصود هذا العالِم على ما فهمتُه: أنّه لا يصحّ الاستناد إلى ظاهر آية من

القرآن أو حديث من السنة في تقرير أمرٍ من تلك العلوم الكونية، ممَّا هو بالنسبة إلى غالب الناس غيب.

فأمّا قوله: "إنّ الشريعة إنّما جاءت لتعليم الدين عقائد وأحكامًا، ولم تجئ لتعليم العلوم الكونية" فحقّ.

والحكمة في ذلك: أنّ العُلُوم الكونية منها ما لا فائدة في عِلْمِه، ومنها ما في عِلْمِه فائدة، ولكنّ عِلْمَه لا يتوقَّف على الوحي، بل يُعْلَم بالبحث والنَّظر، وقد قضى الله عز وجل أن يكون ظهور ذلك في أوقات متراخية، كما وقع من اكتشاف الكهرباء والهاتف والمذياع وغير ذلك.

والعلوم الكونية مُتَّسعةٌ جدًّا لا يكفي لتعلُّمها كلها عشر سنين أو عشرون سنة، فكان الواجب صَرْف هذه المدَّة في تعليم ما لا بدّ منه، ممَّا يتعلَّق بالغيب، ولا يُعْلَم إلَّا بطريق النُّبوة، وهذا هو الدِّين.

أمّا العقائد والعبادات فظاهرٌ؛ وأمّا الأحكام فلأَنَّ منها ما لا يُدرَك بالنظر، وما قد يُدْرَك بالنظر فهو مظِنَّة الاختلاف والتنازع، وجَوْر الحُكّام واتِّهامهم، وغير ذلك مما يكون سببًا للفتن والفساد، وامتناع الأقوياء عن قبول الحكم وغير ذلك.

على أنّ الناس محتاجون إلى كثرة الحُكَّام، وليس كلُّ حاكم كاملًا في العقل والفهم والنظر حتى يُدْرِك جميع الأحكام بنَظَره، واجتماع جماعة من العقلاء لوضع القوانين لا يكفي؛ لقِصَر نَظَرِهم، واحتمال ميلهم وتعصُّبهم؛ ولأنّ غالب القوانين تختلُّ الحكمة المقصودة منها في كثير من الجزئيَّات

ص: 72

الداخلة فيها، فأمّا القوانين الشرعية فإنَّها يُؤْمَن الغلط والمَيْل والعصبية فيها، ويمتثلها

المتدينون تديُّنًا، ويقبلونها طيِّبةً أنفسُهُم منشرحةً صدورُهم؛ لأنّهم يرون القبول خيرًا لهم في دينهم ودنياهم، ويلتزمونها غالبًا بدون إلزام حاكم، لا فرق في ذلك بين قويِّهم وضعيفهم، وما فَرَضَها على الغالب بحيث يمكن تخلُّف الحكمة في بعض الجزئيات فإنّ الله عز وجل يُجيزُه بقَدْرِه.

والمقصود: أنّ الخلق مفتقرون إلى تلقِّي الأحكام من طريق الرب عز وجل، وليسوا مفتقرين إلى تلقِّي العلوم الطبيعية ونحوها.

وقد قيل في تفسير قول الله عز وجل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189]: إنّ القوم إنّما سألوا عن الأَهِلَّة ما بالُها تبدو صِغَارًا ثم تكبر، ثم تعود فتصغر ثم تكبر، وهكذا

(1)

؟ فتُرِك الجواب عن هذا المعنى الطبيعي، وأُجيبوا بما يتعلَّق بالأهلَّة من الأحكام الدينية، ثم أُمِروا بأن يأتوا البيوت من أبوابها، فإذا سألوا النَّبي

(1)

أخرجه أبو نعيم في "معرفة الصحابة"(1/ 493)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(1/ 25) من طريق السُّدِّي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما بنحوه.

والأثر ضعَّف إسناده السيوطي في "الدُّر المنثور"(2/ 304)، وفيه محمد بن مروان السُّدي الصَّغير ومحمد بن السَّائب الكلبي، وهما ضعيفان، بل متَّهمان بالكذب، وأبو صالح هو: باذام، وهو ضعيف الحديث.

وقد قال ابن حجر في "العُجاب"(1/ 263) عن هذا الإسناد: "سِلْسلة الكذب"!

ص: 73

ــ المبعوث لتعليم الدِّين ــ فلْيَسألوه عمّا يتعلَّق بالدِّين، ولا يأتوا البيوت من ظهورها؛ بأن يسألوه عمّا لم يُبعث لأجله، ولا تتعلّق به ضرورة دينية.

ولمّا وَرَدَ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة رآهم يُؤَبِّرون النخل، فظنَّ أن لا حاجة لذلك؛ لأنَّه كان قد رأى كثيرًا من الأشجار فرآها تُؤتي ثَمَرَها بدون تلقيح، فقال لهم:"ما أظنُّ يغني ذلك شيئًا"، فَتَركوه، قال: فخرج شِيصًا

(1)

، فمرّ بهم فقال:"ما لِنَخْلِكم؟ " قالوا: قلتَ كذا وكذا! قال: "أنتم أعلم بأمر دنياكم"

(2)

.

وفي رواية

(3)

: "إنّما ظننتُ ظنًّا، فلا تؤاخذوني بالظَّن، ولكن إذا حدَّثْتُكم عن الله شيئًا فخذوا به، فإنّي لن أكذب على الله عز وجل".

وفي رواية

(4)

: "إنّما أنا بشر؛ إذا أمرتكم بشيءٍ من دِينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رَأْيٍ فإنَّما أنا بشر".

والحديث في "صحيح مسلم" وغيره، من حديث أمّ المؤمنين عائشة، وطلحة بن عبيد الله، وثابت بن قيس

(5)

، ورافع بن خديج رضي الله عنهم.

وصحَّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لقد هَمَمتُ أن أنهى عن الغِيلة، فنظرتُ في الرُّوم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضرُّ أولادَهم ذلك"

(6)

.

(1)

يعني: تمرًا رديئًا، وهو الذي لا يشتد نواه، كما في "النهاية" لابن الأثير (2/ 518).

(2)

أخرجه مسلم (2363) من حديث عائشة وأنس رضي الله عنهما.

(3)

أخرجه مسلم (2361) من حديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه.

(4)

أخرجه مسلم (2362) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه.

(5)

لم أرَهُ فيه عن ثابت بن قيس، فلعلَّه سبق عينٍ؛ إذ فيه من حديث ثابت عن أنس، لا ثابت بن قيس.

(6)

أخرجه مسلم (1442) من حديث جدامة بنت وهبٍ رضي الله عنها.

ص: 74

وجاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "لا تقتلوا أولادكم سرًّا فإن الغَيْل

(1)

يُدْرك

الفارس فيُدَعْثِرُه

(2)

عن فرسه"

(3)

.

قال الطحاوي

(4)

: إنّ هذا الحديث الثاني يُظهِر أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاله أولًا لمّا كان يظنّ أنّ الغَيْلَ يضرُّ، ثم لمّا تبيَّن له أنَّه لا يضرُّ قال: لقد هَمَمْتُ

إلخ.

والظَّاهر خلاف هذا؛ لوجوه:

الأوّل: أنّ أقواله صلى الله عليه وآله وسلم التي يبنيها على الظنّ بيَّن أنّه إنّما قالها بناءً على الظنّ، والحديث الثاني جزم.

الثاني: أنّ قوله: "إنَّ الغَيْلَ يُدْرِكُ الفارسَ فيُدَعْثِرُهُ" ممّا لا يظهر بناؤُه على الظَّن.

الثالث: أنّ قوله في الحديث الأول: "لقد هَمَمْتُ

" ظاهرٌ في أنَّه لم يكن قد نهى، فالظاهر أنّه أراد أن ينهى أولًا بناءً على ما كان مشهورًا بين العرب

(1)

الغَيل ــ بالفتح ــ هو: أن يجامع الرجل زوجته وهي مرضع، كما في "النهاية" لابن الأثير (3/ 402).

(2)

أي: يصرعه ويهلكه، كما في "النهاية" لابن الأثير (2/ 118).

(3)

أخرجه أبو داود (3881) وابن ماجه (2012) وأحمد (6/ 453، 458) وابن حبان (5984) وغيرهم، من طريق المهاجر بن أبي مسلم الأنصاري عن أسماء بنت يزيد ابن سَكَن الأنصارية رضي الله عنها به.

وقد حسَّن إسناده الحافظ ابن حجر في "الإصابة"(7/ 498).

وضعَّفه الألباني في "غاية المرام"(242) لجهالة المهاجر بن أبي مسلم.

(4)

"شرح مشكل الآثار"(9/ 291)، و"شرح معاني الآثار"(3/ 47).

ص: 75

من أنَّ الغَيْلَ يضرُّ، ثم تفكَّر في حال فارس والروم فقال الحديث الأول، ثُمّ أَعْلَمَه الله عز وجل بأنّ الغَيْلَ يَضُرُّ ولو بعد حين، فقال الحديث الثاني.

وقد يجيء في الشريعة ما يشير إلى مسائل طبيعية إذا دَعَت إليها ضرورة،

ولكنّها تُعْرَض بمَعْرِضٍ ديني، أو يُنبَّه عليها إجمالًا.

فمِن الأوّل النّهي عن الشرب قائمًا، وقوله:"إنَّ الشيطان يشرب معه"

(1)

.

ومن الثاني النّهي عن النفخ في الطعام والشراب

(2)

، وغير ذلك.

والمقصود: أنَّ قول ذلك العالم: إنَّ الشريعة إنَّما جاءت لتعليم الدين عقائد وأحكامًا، وإنَّ ما جاء فيها ممّا يتعلَّق بشيءٍ من علوم الطبيعة والتاريخ

(1)

أمَّا النَّهي عن الشُّرب قائمًا فأخرجه مسلم (2024، 2025، 2026) من حديث أنس وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهم.

وأمَّا ذكر أنَّ علَّة ذلك شُرب الشَّيطان معه فقد أخرجه أحمد (2/ 301) والدارمي (2174) ومسدَّد وابن أبي شيبة (كما في "إتحاف الخيرة" للبوصيري 4/ 341) والبزار كما في "كشف الأستار"(3/ 342) وغيرهم، من طرق عن شعبة عن أبي زياد الطحَّان عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.

قال الهيثمي في "مجمع الزوائد"(5/ 79): "رجال أحمد ثقات".

وقال الحافظ في "الفتح"(10/ 82): "أبو زياد لا يُعرف اسمه، وقد وثَّقه يحيى بن معين".

وصحَّحه الألباني في "الصحيحة" تحت الحديث (175).

(2)

أخرجه أحمد (1/ 220) وأبو داود (3727) والترمذي (1888) وغيرهم، من طريق ابن عيينة عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما.

قال الترمذي: "حسنٌ صحيح"، وصحَّحه الألباني في "الإرواء"(1977) على شرط البخاري.

ص: 76