الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأول: أنَّ هناك قرينة اعتقادية راسخة في فِطَر العَرَب وعقولهم، كافرهم
ومسلمهم؛ وهي اعتقادهم أنَّ الله عز وجل على عرشه فوق سماواته.
الثاني: أنَّ أهل الحديث ينقلون ما قالوه في هذه الآيات عن سلفهم من الصَّحابة والتَّابعين.
فصلٌ
واعْلم أنَّه يتّصل بالأمور الضَّرورية للإيمان تفصيلاتٌ لا يتوقَّف الإيمان على العِلم بها، مثل كيفية الحياة والعِلم وغير ذلك، وهناك أمورٌ أخرى لا يتوقَّف الإيمان على العِلم بها أصلًا، وإنَّما وَجَب الإيمان بها بخبر الصادق المصدوق، وعلى هذين تدور رَحَى التّأويل.
فمِنْ قائلٍ: هي حياةٌ كَحَيَاتي، ويدٌ كَيَدي، ووَجْهٌ كَوَجْهي، إلى غير ذلك.
ومِنْ قائلٍ: هذا يستلزم حدوث الربِّ ونقصه، تعالى عن ذلك، فلا بدَّ من تأويله!
ومِنْ قائلٍ: حياةٌ تليق به عز وجل، ويدٌ تليق به سبحانه، ولا أُؤَوِّلُ.
ويحتجُّ الأوَّل بأنَّ الله عز وجل قد وصف نفسه بذلك، ووصفه به رسله، وقد
قام البرهان على وجوب حَمْل النُّصوص على ظواهرها
؛ إذ لو كان المراد بها غير ظاهرها لكانت كذبًا! على ما حقَّقناه في [الباب
(1)
] الثاني
(2)
، وذلك محال.
(1)
في الأصل: "الفصل".
(2)
(ص 10).
وأجاب الثاني عن هذا بأجوبة:
أحدُها: أنّ اللَّفظ إنَّما يبقى على ظاهره ما لم تكن هناك قرينة تصرفه إلى معنى آخر.
وتحقيق هذا: أنَّ اللَّفظ قد يكون له ظاهر في نفسه، ولكنَّه اقترن به ما صار الظاهر معنى آخر، فقولُك:"إنَّ زيدًا رجع اليوم" ظاهره أنَّه رجع هو نفسه.
وقولك: "إنَّ أمس رجع اليوم" لا يظهر منه ذلك، بل يظهر منه أنَّ اليوم مشابهٌ لأمس في كونه صحوًا أو غيمًا أو نحو ذلك، وهذا حقٌّ في نفسه، ولكن لما سُئِل المُؤَوِّلون عن القرينة ذكروا أمورًا.
منها العقل، فقيل: إنَّ العقل لا يصحُّ أن يكون قرينةً إلَّا إذا كان بديهيًّا حاصلًا للمخاطبين، وفي المعاني العقلية التي تجعلونها هي القرينة ما اعترفتم أنّه لا يحصل للإنسان إلَّا بعد ممارسته المعقولات، من المنطق والفلسفة وغير ذلك. هذه النُّصوص الدَّالة على أنَّ الله عز وجل في جِهة العُلُو تُؤَوِّلُونها لمخالفتها العقل، زعمتم!
وأنتم تعترفون أنَّ الإيمان بموجودٍ ليس في جهةٍ لا يتهيَّأ للإنسان حتى يمارس المعقولات، ويُوغِل فيها، فعند ذلك تَأْنَسُ نفسه بالتَّصديق بذلك! ذكر هذا الغزالي في كتبه، وغيره
(1)
.
وإذا كان الحال هكذا، فلو كانت تلك النصوص غير مراد بها ظواهرها لكانت كذبًا؛ لأنَّ القرينة التي يعلم المتكلِّم أنَّ المخاطَب لا يُدركها لا
(1)
يُنظَر: "إحياء علوم الدين"(1/ 185 ــ 186) و"الاقتصاد في الاعتقاد"(ص 59).
تُخْرِج الكلام عن الكذب، كما تقدم.
قالوا: هناك قرينةٌ أخرى، وهي قول الله عز وجل:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقوله عز وجل:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4].
قيل لهم: هاتان الآيتان غير ظاهرتين في المعنى الذي تريدون.
أمَّا الأول: فلو قلتَ لرجلٍ: "عندي شيء ليس كمثله شيءٌ" لَمَا فهم أنَّه ليس في الكون ما يشبهه من بعض الوجوه، وإنَّما يفهم أنَّه ليس كمثله من جميع الوجوه شيءٌ. وقريبٌ من هذا يُقال في الآية الثانية.
فكيف يجوز أن يُكْتَفى في هذا المطلب العظيم بقرينةٍ ظاهرها أنَّها ليست بقرينة؟!
وفوق هذا: فقد تقرَّر في الأصول أنَّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، والحاجةُ في النُّصوص الاعتقادية هي وقت الخطاب، فلو كان المراد جعل هاتين الآيتين قرينةً لوجب قَرْنُهُما، أو إحداهما، أو ما يقوم مقامهما بكلِّ آيةٍ أو حديثٍ يتعلَّق بالصفات، وإلَّا لزم الكذب.
فإن قالوا: إذا سمع الإنسان القرينة الواضحة أوّلًا أغنى ذلك عن إعادتها مع كل آيةٍ من آيات الصفات.
قيل لهم: بعد فرض تسليم الوضوح لم يكن العمل على هذا، أي: أن لا يتلو النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا من آيات الصفات على أحدٍ حتى يتلو [عليه
(1)
] الآيتين
(1)
في الأصل: "عليهما".
المذكورتين أو إحداهما، بل قد نزل قبلهما كثير من القرآن، وقد كان الرجل
يُسْلِم ثم يصلِّي مع النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم فيتلو في صلاته من القرآن ما شاء الله، ولا يبدأ بإحدى الآيتين، ولعلَّ كثيرًا من الأعراب الذين أسلموا لم يسمعوا الآيتين ولا إحداهما، ولم يقل أحدٌ من العلماء: إنَّه يجب على قارئ القرآن أن لا يقرأه بمَحْضَرٍ من العامَّة إلَّا بعد أن يذكر لهم الآيتين أو إحداهما، أو ما يقوم مقام ذلك.
فإن قالوا: فإنَّه يلزم مثل هذا في آيات التَّحليل العامَّة التي دلَّت آياتٌ أُخَر على تخصيصها، وليست في سياقها، فيمكن أن يكون بعض الأعراب سمع الآية العامَّة فذهب يستحِلُّ كلَّ ما تناولته، مع أنَّ بعضه مُحَرَّم بآيةٍ لم يسمعها، ومثل هذا يُقَال في الأحاديث، وهكذا ما يشبه العموم من كُلِّ دليلٍ ظاهُرُه تحليل شيءٍ، وقد بيَّنه دليلٌ آخر.
فالجواب: أنَّ الخطأ في التَّحليل والتَّحريم سهلٌ، فلا يكون المخطئُ كافرًا ولا فاسقًا؛ بل هو معذور مأجور، كما سيأتي إيضاحه. وليس الخطأ في الكفر كذلك، بل قال جَمٌّ غفيرٌ: إنَّ كلَّ مجتهدٍ في الأحكام مصيب. وله غَوْرٌ، وقد أوضحنا ذلك في موضع آخر.
حاصله: أنَّ كثيرًا من القوانين لا يكون مطابقًا للحكمة في كلِّ فردٍ من الأفراد، وإنَّما رُوعِيَ مطابقتُه في الأَعَمِّ الأغلب، ومثَّلناه بحدِّ الزِّنا، فرُبَّ شيخٍ غنيٍّ، ضعيف الشَّهوة، قادرٍ على التزوُّج فتَرَكَه، واحتال للاجتماع بامرأة قبيحة يستطيع التزوج بها ولا يعشقها، فزَنَى بها، ولمَّا كان غير مُحْصنٍ فحدُّه الجلد.
وآخر شابٌّ فقير، شديد الشهوة، لا يقدر على التزوُّج، صادَفَتْه امرأةٌ
جميلة يعشقها، ولا يستطيع زواجها، فلم يتمالك نفسه أن وقع عليها، وكان قد تزوَّج امرأةً، وبات معها ليلةً واحدةً ثمَّ ماتت، ولمَّا كان مُحْصنًا فحدُّه الرَّجم.
فأنت ترى الثاني أحقّ من الأول بالتَّخفيف، ولكنَّ الشرع لم يُخفِّف عنه؛ وإنَّما كان ذلك لأنَّ الجُرأة على المعصية أمرٌ يخفى ولا ينضبط، فأناط الشرعُ الأمر بصفةٍ واضحةٍ منضبطة، وهي الإحصان وعَدَمه؛ لأنَّ الغالب في الزَّاني المُحْصَن أن تكون نفسُه أرغب عن الزِّنا من غير المُحْصَن، فإذا زنى مع ذلك كانت جُرأته أشدّ من غير المُحْصَن.
ولكنَّ الحَكَمَ العَدْل تبارك وتعالى يَجْبُر ما يستلزمه القانون العام من خَلَلٍ في بعض الجزئيات بقَدَرِه الذي لا يعجزه علم الحقيقة، ولا تقدير ما يوافق الحكمة.
ولذلك صورٌ قد ذكرت بعضها في غير [هذا] الموضع، والذي يختصُّ بهذا الموضع هو أنَّ الله عز وجل قد يعلم أنَّ هذا الشيء الذي دلَّت الآية بعمومها على أنَّه حلالٌ، وبيَّنت آيةٌ أُخرى أنّه حرام= يعلم سبحانه أنَّ الحِكْمة لا تقتضي تحريم ذلك الشيء على هذا الشخص، فيَسَّره سبحانه بقَدَرِه إلى أن يسمع الآية العامَّة ولا يسمع الآية الأخرى، فهو وإن كان مخطئًا بالنَّظر إلى الحكم الشرعيِّ، فهو مصيبٌ بالنَّظر إلى الحكم الذي علم الله عز وجل أنّه أنسب به، ولا يأتي مثل هذا في الكفر.
واعْلَم أنَّ المُؤَوِّلين يُكابِرون، والمكابرة لا علاج لها إلَّا الكَيُّ، ولكنَّ جماعةً من متبحِّريهم أَنِفُوا من المكابرة ووقعوا في شرٍّ منها؛ لأنَّهم أصرُّوا على شُبهاتهم الفلسفية.