الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
ممَّا يتعلَّق بالعقائد تعلُّقًا متينًا حال المكان والزمان، فالضرورة داعية إلى النظر فيهما
.
فأمَّا المكان فقد يطلق على موضع التمكُّن كمجلس زيد على الأرض، وقد يطلق على محلِّ الكَوْن، كموضع ذاك الطائر من الجوِّ، وقد علم كل واحد أنَّ بين السماء والأرض فضاءٌ، وأنّه ليس هذا الفضاء هو الهواء الذي تدفعه المروحة، ويمتلئ به الزق إذا نُفِخ؛ لأنَّ كثيرًا من النّاس لا يتصوَّر أنَّ الهواء جسْمٌ موجود في الفضاء، وهو مع ذلك يعرف الفضاء، ولأنّنا نعقل إمكان إعدام الهواء مع بقاء الفضاء، فالكلام في هذا الفضاء أمعدومٌ هو أم موجودٌ؟
نقلوا إطباق المتكلِّمين على أنَّه عَدَمٌ ويسمُّونه بُعْدًا موهومًا، وعن الفلاسفة ــ وتبعهم أكثر المتأخِّرين من نُظَّار المسلمين ــ أنّه موجود، قال العضد في "مواقفه": "وهو موجودٌ ضرورة؛ أنّه يشار إليه هنا وهناك، وأنّه ينتقل منه الجسم وإليه، وأنّه مقدّر له نصف وثلث، وأنّه متفاوت فيه زيادة ونقصان، ولا يتصور شيء منها للعدم المَحْض وشكَّك عليه بأنّه
…
والجواب أن وجوده ضروري ، وما ذكرتم تشكيك في البديهي، وأنّه سفسطة لا تستحق الجواب"
(1)
.
قال عبد الرحمن: الضرورة كثيرًا ما تشتبه بالوَهْمِيَّات، وهؤلاء القوم
(1)
"المواقف" للإيجي (ص 113)، الموقف 3، المرصد 2، المقصد 9.
يتحكَّمون، فربما يَعْمَدون إلى الوَهْمِيَّات فيدَّعون فيها الضرورة، ويسخرون ممَّن يخالفها، وربما يردُّون الضروريات، ويقولون: هذا وهم فاسد، ويسخرون ممَّن يحتجُّ بها، فينبغي أن نكشف عن هذه الضرورة التي ادَّعوها هنا، فنقول: لو نظرت رجلًا من عقلاء العامة، فرفعت يَدَيْك مبسوطتين في الفضاء متباعدين بنحو شبر مثلًا ثم سألْتَهُ: هل بين يدي شيء موجود لقال لك: لا. فأين الضرورة؟
ثم نقول: قد ذكرتم أنَّ الحكماء متفقون على أنَّ خارج العالم عَدَمٌ مَحْضٌ، وأنَّ المتكلِّمين متفقون أنَّ خارج العالم فضاء أي: بُعْدٌ موهوم، ونصرتم مذهب الحكماء، إذ قيل لكم: لو فُرِض أنَّ إنسانًا في طرف العالم فمدَّ يده إلى خارجه فقلتم: لا تنفذ، فقيل لكم: الجسم بمانع؟ قلتم: لا، ولكن شرطُ النُّفوذِ الفضاءُ، ولا فضاء هناك.
فنقول لكم: فهل يجوز أن يخلق الله تعالى خارج العالم فضاءً مستطيلًا ضيِّقًا بحيث تمتد فيه اليد؟
فإن لم يُكابروا قالوا: نعم! فنقول: لنفرض أنَّ جسمًا مقوَّسًا على شكل نصف دائرة مثلًا يكون له سطح يمكن أن يجلس عليه إنسان، فركب جماعة على هذا القوس، ثم وُجِّه طرفا القوس إلى خارج العالم، ولنفرض على صحة قولكم: أنّ الفضاء شيء موجود، وأنّه ليس خارج العالم فضاء= أنّ الله عز وجل خلق هناك فضاءً بقدر كُوّةٍ ينفذ فيها طرف ذلك الجسم بِمَن عليه، وأنّه أُدِير ذلك القوس، والله عز وجل يخلق الفضاء أمامه حتى أعيد الطرف الذي ابتدئ بإنفاذه إلى موضع آخر من طرف العالم، فكان على شكل قوس وكرة طرف العالم= فهل يكون بين باطن القوس وبين سطح العالم بُعد
ومسافة؟
فإن قالوا: لا، كابروا.
وإن قالوا: نعم. قلنا: فالبُعْد والمسافة موجودان أم معدومان؟
فإن قالوا: معدومان، قيل لهم: كيف؟ والمفروض أنَّ ذلك الجسم قوس، والقوس إذا وُضِعت على ما فرضنا كان طرفاها على سطح العالم وباطنها المقوَّس خارجه.
وإن قالوا: موجودان. قلنا: كيف؟ والمفروض أنَّ خارج العالم عَدَمٌ مَحْضٌ، ولم يخلق الله عز وجل فضاء إلَّا بقَدْر ما ينفذ فيه طرف القوس، إلى أن يرجع طرفه إلى موضع آخر من سطح العالم، فذاك الفضاء إذًا على شكل قوس، وما بين مقعَّره وبين العالم على ما كان عليه.
فإن قالوا: إنَّ وجود البُعْد بين الجسمين لا يستلزم أن يكون ما بينهما شيئًا موجودًا، بل يجوز أن يكون ما بينهما عَدَمًا مَحْضًا، ووجود المسافة إنّما معناه كونها بحيث تُعْلَم.
قلنا: فوجود البُعْد بين السماء والأرض لا يستلزم وجود ما به البُعْدُ، وما به البُعْدُ هو الفضاء فهو المسافة، فالضروري إنَّما هو وجوده بمعنى كونه بحيث يُعْلَم، لا بمعنى كونه ليس بِعَدَم، وبعبارة أخرى: فالبُعْدُ معناه عدم التَّماسّ، فوجود البعد عبارة أخرى عن وجود عدم التَّمَاسّ، ووجود العَدَم إنَّما معناه كونه بحيث يُعْلَم.
وأمّا قول العضد: "لأنَّه يشار إليه هنا وهناك" فمثل هذا يقع في المثال الذي فرضناه، فَمَنْ على طرف العالم يشير إلى ما بينه وبين القوس هنا
وهناك، وكذلك مَنْ على القوس.
وهكذا قوله: "وأنَّه مقدار نصف وثلث، وأنّه متفاوت فيه زيادة ونقصان". قد لزم مثل ذلك في المثال السابق.
فأمّا قوله: "وأنّه ينتقل منه الجسم وإليه" فإن أراد به تحقيق التقدر فقد أجبنا عنه، وإن أراد به أنَّ الجسم لا يتحيَّز إلَّا في موجود، ولا ينفذ إلَّا في موجود منعناه، بل إنَّ مجاورة الجسم للعَدَم ونفوذه في العَدَم أسهل من مجاورته للوجود ونفوذه في الوجود، كمجاورته لجسم آخر ونفوذه فيه.
وقد حلَّ عبد الحكيم
(1)
في "حواشي المواقف" الشُبَه العضدية، فراجعه إن شئت.
هذا ونافي الوجود يكفيه المنع والقدح في أدلة مدَّعي الوجود، وقد حصل هذا، وقد تبرَّع المتكلمون بأدلة موجودة في الكتب.
واختلف القائلون بأنّ الفضاء شيء موجود على أقوال، كلٌّ منها يبطل قول الآخر، وكلُّها أدلة للمتكلِّمين، إذ لهم أن يقولوا: لو كان شيئًا موجودًا، فإمّا أن يكون كذا، وإمّا أن يكون كذا، ثم يستدلُّون على بطلان كل قِسْمٍ بما أبطله به المخالف له.
(1)
هو السيالكوتي.