الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونحوها لا يكون المقصود من ذكره التَّعريف بكُنهِهِ وحقيقته وكيفيَّته مُفَصَّلًا، وإنّما يُذْكَر تنبيهًا على الآيات والمَثُلات = كلُّ هذا صحيح، ولكن هل يقتضي هذا جواز أن يكون الواقع في تلك الأمور خلاف ظاهر الخبر الشرعي؟
قد كنت أنكر هذا أشدَّ الإنكار، وأقول: إنَّ الظاهر حجةٌ قطعيةٌ، وإنَّه إذا كان الواقع خلاف ظاهر الخبر كان الخبر كذبًا، وإن لم يكن المقصود من الخبر بيان ذلك الأمر.
ثم رأيتُ في أصول الفقه مسألةً تعضُدُ ما قاله ذلك العالم، وهو قول بعضهم: إنَّ النَّص إذا سِيقَ لمعنًى غير بيان الحكم، وكان عامًّا لا يُحتجُّ بعمومه في الحكم
(1)
.
ويمكن أن يطرد ذلك في سائر الدلالات الظاهرة، ووجه ذلك: أنَّ المتكلِّم إنَّما يعتني بالمعنى المقصود بالذَّات، وأمَّا ما ذُكر عَرَضًا فإنَّه لا يعتني به، كأنَّه يَكِلُ تحقيق حُكْمِه إلى موضعه.
ويقرب من هذا ما يقوله الفقهاء وغيرهم: إنَّ
المسألة إذا ذُكِرَت في غير بابها استطرادًا، ثم ذُكِرَت في بابها مع مخالفةٍ فالمعتمد فيها ما في بابها
.
وههنا معنى آخر يعضد ذلك أيضًا، وهو: أنَّ المتكلِّم في عِلْمٍ قد يذكر في أثناء كلامه مسألة من عِلْمٍ آخر، فربّما ذكر قاعدةً يكون ظاهر كلامه أنّها
(1)
لعله يقصد اختلاف الأصوليين في مسألة النص لو ورد في سياق المدح أو الذم عامًّا هل يفيده في الحكم أم لا؟ الأكثر على إفادته العموم.
ينظر في ذلك: "التحبير شرح التحرير" للمرداوي (5/ 2502 - 2505)، و"شرح الكوكب المنير" لابن النجار (3/ 254)، و"الأحكام" للآمدي (2/ 343)، و"البحر المحيط" للزركشي (3/ 195).
كُلِّية، ومع ذلك فلا يعتدّ بهذا الظاهر، ولا يُنسبُ إلى المتكلِّم أنَّه ادّعى كُلِّيتها، ولا يُعترض عليه بذكرها على ذلك الوجه.
كأن يقول المفسِّر في قوله تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]: أصل (هدى) هُدَيٌ، والقاعدة الصرفية: أنَّه إذا تحركت الياء وانفتح ما قبلها قُلِبَت ألفًا، والقاعدة الأخرى: أنَّه إذا التقى السَّاكنان حُذف الأول.
وهاتان القاعدتان ليستا على إطلاقهما، بل لكلٍّ منهما قيودٌ وشروطٌ معروفةٌ في عِلْم الصَّرْف، ومع ذلك لا يُنْسَب إلى ذلك المفسِّر قصور ولا تقصير، ولا دعوى خلاف ما تقرّر في علم الصَّرْف؛ لأنّه يقال: ليس هو في صَدَد الكلام في علم الصَّرْف حتى يُنْسَب إليه ذلك، وإنّما هو في صَدَد التفسير، ولكن انجرَّ الكلام إلى هاتين القاعدتين فذكرهما على قدر ما دعا إليه الحال. وهكذا في القواعد النحوية والبيانية وغيرها.
وأبلغ من هذا: أنَّ أصحاب الكتب المختصرة في العلوم يذكر أحدهم كثيرًا من قواعد ذلك العلم، بحيث يكون ظاهر الكلام أنّها كلية، ومع ذلك لا ينسب إليهم قصور ولا تقصير، ولا دعوى كُلِّيَّتها، بل يُقال: هذا المختصر وُضِع للحفظ ولتعليم المبتدئين، وكلٌّ من هذين يستدعي الإجمال وترك التفصيل بذكر القيود والشروط، بل يُوْكَل ذلك إلى الشروح والمطوَّلات.
وأبلغ من هذا وأبلغ: أنّ الكتب الموضوعة للمبتدئين قد يُذكَر فيها ما ليس بصحيح في نفسه، ولكن سَلَكَه المؤلِّف لأنّه أقرب إلى فهم المبتدئ، فيقول النحوي مثلًا: الكلام قد يركّب من كلمتين، اسمٍ وفعلٍ، مثل: قام الرجل، والرجل قام، أو اسمين، مثل: زيدٌ قائمٌ، أو: القائمُ زيدٌ، مع أنَّ "قامَ الرجلُ" ثلاث كلمات، و"الرَّجلُ قام" أربع كلمات، فعل وحرف واسمان،
و"زيدٌ قائمٌ" ثلاثة أسماء، و"القائمُ زيدٌ" أربعة أسماء.
ومن كان له ممارسة للنّحو والصَّرْف وَجَد فيها كثيرًا من هذا، ومن عَالَج التعليم يعلم يقينًا أنّه لا غِنَى به عن سلوك هذه الطريق في كثيرٍ من المسائل.
وكما أنَّ المعلّم النّاصح يتجنَّب أن يخرج بالطالب في الدَّرس عن ذلك العلم، فهكذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتجنّب أن يَشْغلَ الناس بما لم يُبعث لأجله، بل كثيرًا ما يُقِرُّهم على ما يعلم أنّه خطأٌ وغلطٌ؛ لأنّ ذلك لا يضرُّهم في دينهم، فإذا دعت المصلحة إلى ذكر ما يتعلّق بشيءٍ من الأمور الطبيعية ذَكَرَه على وجهٍ لا يجرُّ إلى إيقاع السامعين في الخوض في أحواله الطبيعية، فيشتغلوا بذلك عن المقصود.
ومن ضرورة هذا المعنى أن لا يذكر لهم في الأمور الطبيعية خلاف ما يعرفون، أو لا يذكر لهم ممَّا لا يعرفون شيئًا فيه دقةٌ وغرابة، فلا يذكر لهم مثلًا: الأرض كروَّية، أو أنَّها تدور.
فإن قلتَ: فهل يجوز أن يُخبر عن شيء من الطبيعيَّات بكلامٍ ظاهره مخالف للحقيقة؟ هذا هو موضوع السؤال!
قلتُ: أمَّا إذا ثبت أنّ الظَّاهر في مثل ذلك لا يُعتدُّ به، بل يحتمل أنّه مراد، ويحتمل أنّه ليس بمراد، فلا مانع من ذلك؛ إذ لم يبق ذلك الظاهر ظاهرًا، تدبّر!
وقد أجاز جمهور العلماء تأخير البيان إلى وقت الحاجة، فأجازوا أن
يَرِدَ نصٌّ في الحجّ ــ مثلًا ــ يكون وروده في شهر محرَّم، ولذلك النص ظاهرٌ غير مراد، كأن يكون النص عامًّا وهو في علم الله عز وجل غير عامّ، أو مطلقًا وهو في علمه عز وجل مقيّد، أو فيه كلمة مستعملة في علم الله عز وجل في غير ما
وُضِعَت له، ولم تصحب النَّص قرينة، ثم حين حضور الحج يبيِّن الله عز وجل الخصوص والتقييد، وإرادة المجاز.
والوجه في ذلك: أنّ المخاطَبِين لمّا علموا من عادة الشريعة أنَّه قد يقع فيها مثل هذا صار ذلك الظاهر غير ظاهر عندهم، بل هو محتملٌ فقط، فإذا جاء وقت العمل ولم يبيَّن ما يخالف ذلك الظاهر علموا حينئذ أنَّه مراد.
بل قد يقال: لا حاجة إلى علم المخاطَبِين بعادة الشريعة في ذلك، ويكفي أنَّ ذلك جارٍ في العادة مطلقًا، فلو كان لرجلٍ خمسةٌ من الولد صغار، فقال لخادمه: اذهب بالأولاد يوم الخميس إلى المستشفى للتطعيم ضد الجُدَري، وعندما تريد الذهاب أخبرني، فإنَّ الخادم إذا تدبَّر هذا الكلام قال في نفسه: كلمة "الأولاد" تشمل الخمسة كلَّهم، ويمكن أن يكون أراد الخمسة كلَّهم، ويمكن أن يكون ثلاثةً أو أربعةً منهم، وعلى كل حال فحين أريد الذهاب أُخْبِرُه فيظهر ما هو مراده.
وإنّما زدتُ في المثال: "وعندما تريد الذَّهاب أخبرني" لأنَّه لو لم يقل ذلك لضَعُفَ احتمال الخصوص جدًّا؛ لأنّ الإنسان يعلم أنّه ربّما ينسى، أو يغفل، أو ينام، أو يمرض، أو يموت، أو يغيب، وإذا عَرَض له شيء من ذلك عند حضور الوقت فإنّ الخادم يذهب بالأولاد الخمسة، فلو كان يريد الخصوص لاحتاط.
فأمّا الربُّ عز وجل فإنّه مُنَزَّهٌ عن تلك العوارض، فأمرُهُ على الاحتمال حتى يحضر وقت العمل بدون حاجة إلى ما يقوم مقام قول الإنسان:"وعندما تريد الذهاب أخبرني".
وكذلك أمرُ نبيِّه عليه الصلاة والسلام؛ لأنَّه مبلِّغ عن الربّ، والربُّ تعالى متكفِّلٌ بحفظه، أن يَعْرِض له شيء من تلك العوارض يمنع من البيان قبل وقت الحاجة.
والحاصل أنَّ النَّص على الحكم وقد بَقِيَتْ مدَّةٌ إلى حضور وقته إذا كان لذلك النص ظاهرٌ = فهو ظاهر من جهة اللفظ، ولكنّه غير ظاهر من جهة المعنى، بل هو محتمل فقط، فإذا جاء الوقت ولم يُبيَّن عُلِمَ أنّ ما ظهر من اللفظ هو المراد من جهة المعنى أيضًا.
فإذا أطلق الشارع نصًّا في حُكْمٍ لم يحضر وقته، وللنّصِّ ظاهرٌ لفظيٌّ، ثم بيَّن عند الحاجة ما يرفع ذلك الظاهر = لم يلزم من إطلاق النصّ كذبٌ ولا شُبْهَة كذبٍ، فتدَّبر وأمعِن النَّظر.
ثم نقول: معرفة صفات الأمور الطبيعية ليس لها حاجةٌ في الشريعة أصلًا، فلا مانع من ترك بيان ما يتعلق بها أصلًا، وإنَّما يظهر البيان عندما يطَّلِعُ الإنسان على صفة ذلك الشيء، فيتبيَّن له حينئذٍ المعنى المراد من النص، ولا يلزم كذبٌ ولا شُبْهَة كذبٍ إذا تبيَّن أنَّ الواقع خلاف الظاهر اللَّفظي من النَّص.
فلو قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لرجل: اذهب إلى فلان فستجده يأكل لحم إنسان، فذهب إليه فلم يجده يأكل لحمًا، ولكن وجده يغتاب إنسانًا، لقال: صدق الله ورسولُه، إنَّ اغتياب الإنسان كأكل لحمه.
ولو قال صلى الله عليه وآله وسلم لرجل: أتحبُّ فلانًا؟ فقال: نعم! فقال: أَمَا إنّك ستقتله، فلمّا كان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم سَقَطَت من الرجل كلمة كانت سببًا لقتل صاحبه، لقال: صدق الله ورسولُه، أنا قتلته بكلمتي.
وفي هذا نصٌّ واقع، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأزواجه لمَّا سألْنَهُ أيتُهُنّ أسرع لحوقًا به:"أسرعكنَّ لحوقًا بي أطولُكُنَّ يدًا".
قالت عائشة: "فكُنَّا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نمدُّ أيدينا في الجدار نتطاول، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحش، وكانت امرأة قصيرة، ولم تكن أطولنا، فعرفنا حينئذ أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنّما أراد بطول اليد الصَّدَقة، وكانت زينب امرأة صنَّاعة باليد، وكانت تدبغ وتخرز وتصدَّق في سبيل الله".
هذا لفظ رواية الحاكم في "المستدرك"
(1)
، كما حكاها الحافظ في "الفتح"
(2)
. والحديث في "الصحيحين"
(3)
، ولكن وقع في رواية البخاري اختصار ووهمٌ، نبَّه عليه الحافظ في "الفتح"
(4)
.
قال الحافظ: "وفي الحديث عَلَمٌ من أعلام النبوة ظاهر، وفيه جواز إطلاق اللَّفظ المشترك بين الحقيقة والمجاز بغير قرينة، وهو لفظ "أطولُكُنَّ"
(1)
(4/ 25) وقال: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
(2)
"الفتح"(3/ 286).
(3)
البخاري (1420)، ومسلم (2452) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(4)
والوهم والاختصار الذي وقع في رواية البخاري والذي نبَّه عليه الحافظ هو لفظه الموهم أنَّ أول نسائه موتًا بعده "سودة بنت زمعة" رضي الله عنها، والصواب أنَّها "زينب بنت جحش" رضي الله عنها.
إذا لم يكن محذورٌ. قال الزين ابن المُنَيِّر: لمَّا كان السؤال عن آجالٍ مقدَّرةٍ لا تُعْلَم إلَّا بوحيٍ أجابهُنَّ بلفظٍ غير صريح، وأحالهُنَّ على ما لا يتبيَّن إلَّا بآخره، وساغ
ذلك لكونه ليس من الأحكام التكليفيَّة". "الفتح" ج 3 ص 185
(1)
.
وقد يقال: إنّ في الحديث قرينة، بل قرينتين:
الأولى: قوله: "أطولُكُنَّ يدًا"، ولم يقل:"أطولُكُنَّ"، مع أنَّه أخصر، ففي العدول إلى ذكر طول اليد إشارة إلى المعنى المراد.
الثاني: أنَّ سُرعة اللُّحوق به فضيلة، والفضيلة إنَّما تُدْرَك بعملٍ صالح، والطُّول الحِسِّي ليس بعمل صالح.
ويمكن أن يجاب بأنَّ الأُولى مبنيَّة على أنّ الطُّول الحسِّي في اليد ملازمٌ لطول القامة، وليس كذلك ولكنَّه الغالب، وأمَّا الثانية فليست بظاهرة؛ لأنّ الموت عند تمام الأجل، فليس بمرتبط بالفضيلة ارتباطًا ظاهرًا، إذ لا مانع من طول عمر الفاضلة وقصر عمر المفضولة.
وعلى كل حالٍ فإنّما استُنبط هذا بعد العلم بحقيقة الحال، وأمَّا قبل ذلك فقد كان الظَّاهر هو طول اليد الحِسِّي، كما فَهِمَتْهُ أمّهات المؤمنين رضي الله عنهن، ولم يَزَلْنَ على ذلك حتى تبيَّن خلاف ذلك بموت زينب.
فإن قيل: كيف هذا وقد تقدَّم في كلمات خليل الله إبراهيم عليه السلام
(2)
ما عَلِمتَ، وتقرَّر هناك أنَّها لا تخلو عن شيءٍ، كأنّ المراد ما
(1)
"الفتح"(السَّلفية 3/ 287).
(2)
يعني كذباته وقد تقدم ذكرها.
يعبِّرون عنه بخلاف الأَوْلَى، وسياق الأحاديث فيها يقتضي أنّ نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كان يتنزَّه عن مثلها، والله سبحانه وتعالى أولى أن يُنزَّه.
قلتُ: يمكن أن يُجاب بأنّ كلمات الخليل عليه السلام تتعلّق بوقائع عادية وَقَعَت له، وليست متعلِّقة بما هو غيب عند عامة الناس أو غالبهم، والبحث المتقدِّم إنّما هو فيما كان غيبًا مطلقًا، أو بالنظر إلى غالب الناس.
الرسالة الثانية
حقيقة البدعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الهادي من يشاء سواء سبيله، الموفق من ارتضى لاتباع كتابه وسنة رسوله، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صلَّيت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنَّك حميد مجيد.
أمَّا بعد، فإنَّني ألَّفتُ رسالة في (رفع الاشتباه عن معنى العبادة والإله، وتحقيق معنى التوحيد والشرك بالله)، ونَبَّهتُ في مقدمتها على الأمور التي يحتجُّ بها الناس، ويستندون إليها، وهي غير صالحة لذلك، فجاء في ضمن ذلك الحديث الضعيف، فرأيت الكلام فيه يطول، فأفردته في رسالة.
ثم وجدتُ إيضاح الحقِّ فيه يتوقَّف على تحقيق البدعة التي قال فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "كل بدعة ضلالة"
(1)
ورأيتُ الكتب والرسائل التي أُلِّفت في التَّحذير من البِدَع منها ما لا يكاد يستفيد منه إلَّا العلماء ككتاب "الاعتصام" للشاطبي. ومنها ما هو غير محرَّرٍ كـ"الباعث" لأبي شامة. ورأيتُ الكلام فيها يحتاج إلى بسط، فآثرت إفرادها برسالةٍ أقتصر فيها على ما لا بد منه، ومن الله تعالى أستمدُّ التوفيق.
(1)
أخرجه مسلم (867) وغيره، من حديث جابر رضي الله عنه.
فصل
ذكر الشاطبي في "الاعتصام" كثيرًا من الأحاديث والآثار عن الصَّحابة والتابعين والأئمة والصَّالحين، وأنا أرى الأمر أوضح من ذلك، فإنَّ البِدْعَة هي:"إلصاق أمر بالدين وليس من الدين"، وهذا ما لا يخالف عاقل في قبحه وذمِّه.
ولن تجد صاحب بدعة فتسأله عن بدعته، أمِنَ الدين هي في نفسها، أم هو جعلها منه= إلَّا أجابك بأنَّها من الدين في نفسها، وإنَّما وقع الاشتباه فيما هو من الدين ممَّا ليس منه.
فأقول: لا خلاف أنَّ الدِّين وضعٌ إلهيٌّ، وأنَّ دين الحق ــ وهو الإسلام ــ هو ما وضعه الله عز وجل، وبلَّغه خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم.
فلْنسأل صاحب البدعة: أرأيتَ هذا الأمر أَمِن الدِّين الذي بلَّغه محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن ربِّه؟ فإن قال: لا، فقد انتهى الأمر.
وإن قال: نعم، قيل له: فاذكر لنا دليله.
وإن قال: لا أدري، وإنَّما أفعله احتياطًا، قيل له: أرأيتَ هذا الاحتياط أَمِنَ الدين الذي بلَّغه الرسول؟ فإن قال: لا، فقد كفانا شأنه، وإن قال: نعم، طالبناه بالدليل، وإن قال: لا أدري، وإنِّما أحتاط احتياطًا، أَعَدْنا عليه السؤال، وهكذا.
وإذا ذكر ما يراه دليلًا فهو على أضرب:
الضَّرْب الأول: ما ليس بشُبهةِ دليلٍ عند أهل العلم، مثل قوله: أنا أرى أنَّ هذا أمر حَسَن، وكالرؤيا، وكالتجربة ونحوها.
الثاني: ما فيه شُبْهةُ دليلٍ للعامِّي، كاستناده إلى قول بعض المقلِّدين من أهل العلم، أو إلى قول بعض من اشتهر بالصلاح والولاية، أو إلى عمل الناس في بعض الجهات بدون إنكار من العلماء، ونحو ذلك.
الضَّرْب الثالث: ما هو ــ من حيث الجملة ــ من الأمور التي يجوز للعامَّة التمسُّك بها، ولكنه لم يثبت، أو عارَضَه ما هو أولى منه، وذلك قول المجتهد.
الضَّرْب الرابع: ما هو ــ من حيث الجملة ــ من الدَّلائل مطلقًا، ولكنَّه لم يثبت، أو عارَضَه ما هو أولى منه، وذلك الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح.
فصل
فأمّا الضَّرْب الأول: فدَفْعُه إجمالًا أن تقول له: أرأيتَ هذا الضَّرْب من الاستدلال أَمِن الدِّين الذي بلَّغه محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن ربِّه؟ فإن قال: نعم، فطالبه بالبُرهان على ذلك، بعد أن تُعلمَه أنَّ البرهان ههنا لا بدَّ من أن يكون قطعيًّا؛ لأن المسألة من أصول الفقه.
فإن طالبك بالحُجَّة على ذلك فاتْلُ عليه قول الله عز وجل: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36]، وبيِّن له أنَّ الآية على عمومها.
فأمَّا العمل في الفروع بخبر الواحد ونحوه ممَّا لا يفيد إلَّا الظنَّ فذلك لأنَّ وجوب العمل بخبر الواحد ثابتٌ قطعًا، والقطع مستفاد من مجموع أدلَّته منضمًّا بعضها إلى بعض.
ونظير ذلك شهادة العَدْلَين على أمر، هي في نفسها تفيد الظَّن، لكن وجوب الحكم بها قطعي، فلم تُغْن من الحق شيئًا من حيث هي ظنٌّ، بل من حيث إنَّ وجوب العمل مقطوع به، وهكذا خبر الواحد بشَرْطه.
وأمَّا التَّفصيل فإذا قال: أنا أراه حسنًا، قيل له ــ مع ما تقدَّم ــ: هل ترى أنَّ للإنسان أن يجزم في كلِّ
(1)
ما يراه حسنًا أنَّه من الدِّين الذي بلَّغَه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ربِّه؟ وقد قال تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53]، وقال سبحانه:{الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104]، وقال تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر: 8]، والآيات في هذا المعنى كثيرة.
وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: "من استحسن فقد شَرَّع"
(2)
. نقله المحلِّي في "شرح جمع الجوامع" وغيره
(3)
، وزاد فيه بعض
(1)
في الأصل: "فيما كل"، وهو سبق قلم.
(2)
بتشديد الراء وتخفيفها، يُنْظَر:"حاشية البنَّاني على شرح المحلِّي لجمع الجوامع"(2/ 353)، و"حاشية العطَّار" عليه (2/ 395).
(3)
"شرح جمع الجوامع"(2/ 353). وقد ذكره الغزالي في "المستصفى"(2/ 267)، و"المنخول"(ص 374)، وغيرُه.
وكأنَّ هذه العبارة تلخيصٌ من بعض العلماء لقول الشافعي في "الأم"(6/ 200): "ومن قال هذين القولين قال قولًا عظيمًا؛ لأنَّه وَضَع نفسه في رأيه واجتهاده واسْتِحْسانه على غير كتابٍ ولا سنَّة موضعهما في أن يُتَّبع رأيُه كما اتُّبعا .. ".
قال العطَّار في "حاشيته على شرح المحلِّي"(2/ 395): "قال المصنِّف في الأشباه والنَّظائر: أنا لم أجد حتى الآن هذا في كلامه نصًّا، ولكن وجدتُ في الأمِّ: أنَّ من قال بالاستحسان فقد قال قولًا عظيمًا .. الخ" وأشار إلى ما تقدَّم نقله.
العلماء
(1)
: "ومَن شرَّع فقد كفر".
فأمَّا الاستحسان الذي حُكِي عن مالك وأبي حنيفة فذاك دليل يقوم في نفس المجتهد، من أثر معرفته بالقواعد الشرعية والأحكام المتعدِّدة، ولكنَّه لا يمكنه أن يُسْنِده إلى نصٍّ معيَّن، وليس هناك دليل أقوى منه يخالفه. وقد حقَّق الشَّاطبي هذا المعنى في "الاعتصام" فراجعه
(2)
.
وأمَّا ما رُوِي عن ابن مسعود: "وما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن"
(3)
، فمُرَاده ما رآه جميع المسلمين، وذلك هو الإجماع.
وإذا استند إلى رُؤْيَا قيل له ــ مع ما تقدَّم ــ: قد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ الرُّؤيا منها ما هو حقٌّ، ومنها ما هو من حديث النَّفْس، ومنها ما هو من الشيطان
(4)
.
(1)
نَسَبه الزَّركشي إلى أصحابه الشَّافعيَّة، فقال في "البحر المحيط" (6/ 87):"قال أصحابنا .. " وذكره. وقال البدخشي في "مناهج العقول"(3/ 140): "من أثبت حكمًا بالاستحسان فهو الشَّارع لهذا الحكم، فهو كفرٌ أوكبيرةٌ".
(2)
"الاعتصام"(3/ 62 - 66، 91).
(3)
أخرجه أحمد (1/ 379)، والحاكم (3/ 79)، والبزَّار (5/ 212) وغيرهم، من طرقٍ عن عاصم بن أبي النجود عن زِر بن حُبيش عن ابن مسعود موقوفًا، وقد صحَّح إسناده أوحسَّنه موقوفًا: الحاكم ووافقه الذَّهبي، وابن القيم في "الفروسية"(ص 238)، وابن عبد الهادي (كما في "كشف الخفاء" 2/ 245)، وابن كثير في "تحفة الطالب"(ص 455)، وابن حجر في "الدِّراية"(2/ 187)، والألباني في "الضَّعيفة"(533)، وغيرهم.
(4)
يشير إلى ما أخرجه البخاري (7017) ومسلم (2263) وغيرهما، من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"والرُّؤيا ثلاثة، فرؤيا الصَّالحة بُشرى من الله، ورؤيا تحزينٍ من الشَّيطان، ورؤيا ممَّا يحدِّث المرءُ نفسه". لفظ مسلم.
وثَمَّ اختلاف في رفع الحديث ووقفه، ذكره الدَّارقطني في "العِلل"(10/ 31 - 34)، ثمَّ صحَّح رفعَه.
وتَضَافرت الأدلة على أنَّ الرُّؤيا الحق تكون غالبًا على خلاف ظاهرها، حتى رُؤيا الأنبياء عليهم السلام، كرُؤيا يوسف إذ رأى الكواكب والشمس والقمر، وتأويلها أَبَواه وإخوته
(1)
، وكرُؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم دِرْعًا حصينة فأَوَّلها المدينة، وسيفًا هَزَّهُ ثم انكسر، ثم هَزَّهُ فعاد سالمًا، فأَوَّلها بقوَّة أصحابه، وبقرًا تُنْحَر، فأَوَّلها بمَن يُقتَل من أصحابه، وسِوارَين من ذهبٍ فأوَّلَهما بمسيلمة والأسود العنسي
(2)
. وأمثال ذلك كثير.
فَمَن رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على صفته التي كان عليها فرُؤياه حقٌّ، ولكن إذا
(1)
يعني: في قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} ، وقوله بعد ذلك:{يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} [يوسف: 4، 100].
(2)
أمَّا رُؤْيَاهُ صلى الله عليه وسلم الدِّرع الحصينة: ففيما أخرجه أحمد (1/ 271)، والنسائي في الكبرى (7647)، والدَّارمي (2205)، وغيرهم، من طريق أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه. وقد صحَّح إسناده ابن حجر في "الفتح"(13/ 341)، و"التغليق"(5/ 332)، وحسَّنه الألباني في "الصَّحيحة"(1100). وفي الباب حديث ابن عباس رضي الله عنهما، يُنْظَر:"التغليق" و"الفتح" لابن حجر، و"الصَّحيحة" للألباني، نفس المواضع الآنف ذكرها.
وأمَّا رُؤْيَاهُ صلى الله عليه وسلم للسَّيف الذي هزَّه والبقر التي تنحر: ففيما أخرجه البخاري (3622) ومسلم (2272)، وغيرهما، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
وأمَّا رُؤْيَاهُ صلى الله عليه وسلم للسِّوارين: ففيما أخرجه البخاري (3621) ومسلم (2274)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
رآه فعل أو قال شيئًا فذلك الفعل أو القول يحتاج إلى تعبير، فقد تراه يأمرك بشيء، ويكون تعبيره أنَّه ينهاك عنه، وعكس ذلك.
ولهذا أجمع الأئمَّة على عدم الاحتجاج بالرُّؤيا، وإنَّما يُسْتَأنس بها إذا وافقت الدليل الثابت من الكتاب والسنة، كأن تراه صلى الله عليه وآله وسلم يحضُّك على صلاة الجماعة، أو يزجرك عن أكل الحرام، ونحو ذلك.
وإذا استند إلى التَّجربة، كما حكى لي بعضهم أنَّ رجلًا اعتاد تقبيل ظُفْرَي إبهامَيْه عند قول المؤذن:"أشهد أنَّ محمدًا رسول الله" ثم تَرَكه لما قال له بعض أهل العلم: إنَّه بدعة، والحديث الذي يُرْوَى في ذلك حَكَم عليه المحدِّثون بأنَّه كذبٌ
(1)
، فلمَّا تَرَك ذلك أصابه وَجَعٌ في عَيْنَيه فأخذ يعالجهما بأدوية مختلفة، فلم تَنْجَع، حتى قال له بعض المتصوِّفة: التزمْ تقبيل إبهامَيْك عند الأذان، فوقع في نفسه أنَّ ذلك الوَجَع إنَّما أصابه عقوبةً على ترك تلك العادة، فعاد لها فبَرِئَت عَيْناه= فقل له ــ مع ما تقدَّم ــ: إنَّ الله عز وجل يبتلي عباده بما شاء، ويستدرج أهل الضَّلال من حيث لا يعلمون،
(1)
تُنْظَر الأحاديث التي في هذا الباب مجموعةً فيما ذكره السَّخاوي في "المقاصد الحسنة"(1/ 604 - 606).
وقد أشار المؤلف رحمه الله إلى هذه القصَّة بإجمالٍ في حاشية تحقيقه لـ"الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" للشوكاني (ص 38 - حاشية 6)، وبيَّن أنَّ الرجل الحاكي للقصَّة لَقِيَه في الهند. قال المؤلِّف رحمه الله:"فقلتُ له: إنَّ الدِّين لا يثبت بالتَّجربة، وسَلْ عبَّاد الأصنام تجد عندهم تجارب كثيرة، وذكرتُ قصَّة ابن مسعودٍ وامرأته".
وسيأتي ذكر قِصَّة ابن مسعود مع امرأته (ص 96 - 97).
وقد سمعنا عن عِدَّة أشخاص أنَّ أحدهم كان تاركًا للصلاة، ثم رَغَّبَه الواعظون فيها وخوَّفوه من عقوبة تركها فشرع يحافظ على الصلاة، فأصابته مصائب في أهله وماله، فرأى أنَّ ذلك من أثر الصلاة فتركها.
ونحن نقول: يجوز أن يكون ما أصابه من أثر الصلاة. وتفسير ذلك ما جاء في الحديث: "إن الله طيِّب لا يقبل إلَّا طيبًا"
(1)
، فمِن شأنه سبحانه أنَّ العبد إذا تَرَك معصيةً يمتحنه ليظهر حقيقة حاله، وما الباعث له على ترك المعصية، الإيمان أم غيره؟
فإذا صبر على تلك المصائب تبيَّن أنَّ الباعث له على ترك المعصية إيمان ثابت، فيجبره الله عز وجل في الدنيا أو الآخرة، ويكفِّر عنه بتلك المصائب بعض ذنوبه المتقدِّمة، ويدفع عنه بتلك المصائب مصائب أعظم منها كان معرَّضًا للوقوع فيها.
كان رجل من قوَّاد يزيد بن معاوية، فسَقَط من سطح فانكسرت رجلاه فدخل عليه أبو قلابة ــ المحدِّث المشهور ــ يَعُودُه، وقال له: لعلَّ لك في هذا خيرًا، قال: وأيُّ خيرٍ في كسر رجليَّ معًا؟ قال: الله أعلم. فبعد أيام جاء رسولُ يزيدٍ إلى ذلك القائد فأَمَرَه بالخروج لقتال الحسين بن عليٍّ عليهما السلام فقال للرسول: أنا كما تراني، فعذروه، وكان ما كان من قتل الحسين، فكان القائد بعد ذلك [يقول]: رحم الله أبا قلابة، قد جعل الله لي في كسر رجليَّ خيرًا أيَّ خير، نجوتُ من دم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو كما قال
(2)
.
(1)
أخرجه مسلم (1015) وغيره، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
القِصَّة بنحو ما ذكرها المؤلِّف في: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (28/ 307)، و"المنتظم" لابن الجوزي (7/ 92)، وغيرهما.
إلَّا أنَّ فيها أنَّ الرجل من قوَّاد "عبيدالله بن زياد"، ولا تعارض بينهما؛ فعبيد الله بن زياد من قوَّاد يزيد بن معاوية.
وقد يبدل تلك المصائب نعمًا.
وإن سقط فالله غنيٌّ عن العالمين. وقد قال الله عز وجل: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج: 11].
وهؤلاء السَّحَرة والذين يرتكبون بعض الفظائع تقرُّبًا إلى الشياطين كثيرًا ما يحصل لهم بسبب ذلك نفع في دنياهم
(1)
؛ لأنَّ الله عز وجل يخلِّي بينهم وبين الشياطين، فتنفعهم الشياطين نفعًا ظاهرًا في دنياهم وتهلكهم الهلاك الأبدي.
وقد يبتلي الله عز وجل كبارَ المؤمنين فيسلِّط بعض السَّحَرة الفُجَّار عليهم، حتى لقد وَرَد أنَّ بعض اليهود عمل عملًا من أعمال السِّحر فاعترى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرض بسببه
(2)
.
وقد مكَّن الله عز وجل المشركين فأصابوا من المسلمين يوم أُحُدٍ ما أصابوا، فقُتِل حمزة عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكثير من أصحابه، وشُجَّ وجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكُسِرت رباعيته، بأبي هو وأمي، فأنزل الله تعالى: [{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ
(1)
في الأصل: "دينهم". وهو سبق قلمٍ.
(2)
هو لبيد بن الأعصم اليهوديّ. والخبر عند البخاري (3268) ومسلم (2189)، من حديث عائشة رضي الله عنها.
قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 139 ــ 142]]
(1)
.
وتأمّل الأحاديث التي وردت في صِفة الدَّجَّال
(2)
.
وقد روى أبو داود وغيره
(3)
عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: [عن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إنَّ الرُّقى والتَّمائم والتِّوَلَة شِركٌ" قالت: قلتُ: لم تقول هذا؟ والله لقد كانت عيني تقذفُ وكنتُ أختلف إلى فلانٍ اليهودي يرقيني، فإذا رقاني سَكَنَتْ. فقال عبد الله: إنَّما ذاك عمل الشيطان، كان يَنْخَسُها بيده، فإذا رقاها كفَّ عنها، إنَّما كان يكفيك أن تقولي
(1)
بيَّض المؤلِّف للآيات، ولعلَّه أراد كتابة ما أثبتُّه. والله أعلم.
(2)
يعني: ما يجريه الله على يديه من الأمور التي تكون استدراجًا له ولأتباعه، وفتنة للكافرين به.
(3)
أبو داود (3883). وأخرجه أحمد (1/ 381)، والبيهقي (9/ 350)، وغيرهم، من طريق أبي معاوية وعبد الله بن بشر عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار عن ابن أخي زينب امرأة عبد الله بن مسعود عن زينب امرأة عبد الله عن ابن مسعود رضي الله عنه بنحوه. وخالفه عبد الله بن بشر ـ عند ابن ماجه (3530) ـ فرواه عن الأعمش به، لكن قال: عن "ابن أخت زينب" عن زينب. وخالفهما محمد بن مسلمة الكوفي ـ عند الحاكم في المستدرك (4/ 417 - 418) ـ فرواه عن الأعمش به، لكن قال: عن "عبد الله بن عتبة بن مسعود" عن زينب، دون ذكر قِصَّة اليهودي.
وقد ضعَّفه الألباني في "الصَّحيحة" بجهالة ابن أخي زينب، والاضطراب في إسناده، ونكارة القصَّة. يُنظَر كلامه في "الصَّحيحة" تحت الحديث (2972).
كما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "أذْهِب البأس، ربَّ الناس، اشْفِ أنت الشافي، لا شفاء إلَّا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا"]
(1)
.
ومن ذلك ما حكاه لي بعضهم: أنَّه إذا صلَّى المكتوبة منفردًا يَرِقُّ ويخشع، وإذا صلَّى في الجماعة لا يخشع!
والسبب في هذا: أنَّ الشيطان يحاوله على ترك الجماعة، فيخشِّعه إذا صلَّى منفردًا، ويهوِّش عليه
(2)
إذا صلَّى جماعةً ليَحمِلَه على ترك الجماعة، مع اعتقاد أنَّ الانفراد أفضل، فيكون في ذلك من مخالفة الشريعة ما هو أضرّ عليه من ترك الجماعة.
ومن ذلك: ما وجدتُه أنا، فإنِّي كنتُ في حال حسنةٍ في أهلي ومالي، فأنفقتُ نفقةً في وجهٍ من وجوه الخير، وهَمَمْتُ بغيرها فأصابني بعض نوائب في أهلي ومالي، ولكنِّي بحمد الله عز وجل لم ألتفت إلى ذلك، فنفَّذتُ ما همَمَتُ به، ثم فعلتُ مثله مرَّةً ثالثة، وإلى الآن وتلك النَّوائب لم يتم انجلاؤها.
وظهر لي توجيهٌ لتلك النَّوائب، وهو أنَّه يمكن أنَّ تلك النفقة وقعت موقع القبول عند الله عز وجل، فأراد أن يكافئني عليها بأن يطهِّرني من بعض الذنوب التي عليَّ، وهذه النَّوائب من ذلك التَّطهير.
ومن ذلك: أنَّني كنتُ رأيتُ بعض المشايخ يكتب كلمة (بدُّوح)
(3)
على
(1)
بيَّض المؤلِّف للحديث، واكتفى بقوله:"عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت: "، ولعلَّه أراد كتابة ما أثبتُّه. والله أعلم.
(2)
يعني: يخلِّط عليه.
(3)
كلمة "بدُّوح": تميمة تكتب على وفق معين، كمثلَّث، أومربع، أومخمَّس، أونحو ذلك، لجلب خير أولدفع شر، وتكتب أوتعلَّق مكتوبةً فيمن يراد تعويذه، إنسانًا كان أوغيره، وهي مستعملة كثيرًا عند أرباب الشَّعبذة.
صفةٍ مخصوصةٍ، ويتعلَّقها المَحْمُوم، فكنت أنا أكتب ذلك لِمَن به حُمَّى، فكانوا يقولون: إنَّها تنقطع الحُمَّى عنهم، حتى لقد كتبتها لرجل في تهامة فعاد إليَّ بعد مدَّةٍ، وأخبرني أنَّه علَّقَها فلم تعاوده الحُمَّى، وأنَّ رجلًا من أصحابه أصابته الحُمَّى، فأعطاه تلك التَّميمة عينها فانقطعت عنه، وأظنُّه ذكر ثالثًا، وقال: إنَّ تلك التَّميمة اشْتَهَرت في قريتهم، فصار كل من أصابته الحُمَّى يستعيرها، ثم إنِّي تدبَّرت أحكام السنة والبدعة ووقفت على ما ورد في التَّمائم فامتنعت من كتابة (بدُّوح)، حتى إنَّه يُصاب ولدي وغيره ممَّن يعزُّ عليَّ بالحُمَّى فتحدِّثُني نفسي أن أكتبها فأمتنع، أسأل الله تعالى أن يوفقني لما يحبُّه ويرضاه. وأقول كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:"يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك"
(1)
، اللَّهم لا تكلني إلى نفسي، فإنَّك إن تكِلْني إلى نفسي تكلني إلى ضعفٍ وعورةٍ وعجزٍ.
والمقصود: أنَّ الاستناد إلى التَّجربة وإن كثر من المتصوِّفة ونحوهم ليس حُجَّة، ولا شِبْه حُجَّة، ولم يقل بأنَّه حُجَّة أحدٌ من سلف الأمة، ولا أحد من الأئمَّة والعلماء الرَّاسخين.
وقد رأيتُ جماعة من الناس يعتمدون في أمور دنياهم على القُرْعة
(1)
أخرجه الترمذي (2140)، وأحمد (3/ 257)، والحاكم (1/ 526)، وغيرهم، من حديث أنس رضي الله عنه. وقد حسَّنه الترمذي، وصحَّحه الحاكم.
وفي الباب حديث النواس بن سمعان، وعبد الله بن عمرو، وأم سلمة، وعائشة، وغيرهم رضي الله عنهم.
ويُنْظَر: "السلسلة الصَّحيحة" للألباني (2091).
والفأل، إمَّا بالنَّظر في المصحف أو كتاب آخر، وإمَّا بالسُّبحة ونحوها.
ويمكن أن يغلو بعضهم فيعتمد مثل ذلك في إثبات الأحكام الدينية، وذلك جهل وضلال.
وقد حُكِي أنَّ بعض الطُّغاة ــ وكان اسمه الوليد ــ تفاءَلَ في المصحف يومًا، فوقع على قول الله عز وجل:{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم: 15]، فمزَّق المصحف ورمى به، وقال:
تُهَدِّدُني بجبَّارٍ عنيدٍ
…
فَهَا أنَا ذاكَ جَبَّارٌ عنيدُ
إذا ما جئتَ ربَّك يوم حَشْرٍ
…
فقل: يا ربِّ مزَّقني الوليدُ
(1)
وهذه الطريقة التي اعتادها الناس في التَّفاؤل قبيحة جدًّا، فإنَّه ربَّما يريد شراء دار ــ مثلًا ــ فيتفاءل، فيَظْهَر الفألُ بما يراه أمرًا بالشراء، ثم يظهر له بالدلائل العادية أنَّ شراءها ضررٌ عليه في دينه ودنياه، فإن غلا بعضهم واستعمل مثل هذا في الأمور الدِّينية كالحج، بأن يستخبر الفأل، أَيَحجُّ أم لا؟ فربَّما خرج الفأل [ينهى]
(2)
عن الحج.
(1)
الطاغية المقصود هو: الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، أحد ملوك بني أميَّة، قتل سنة 126 هـ.
والخبر في: "المنتظم" لابن الجوزي (7/ 241)، و"الكامل" لابن الأثير (4/ 486)، و"الأغاني" للأصفهاني (6/ 121)، و"نهاية الأرب" للنويري (21/ 294)، وغيرها من مصادر التاريخ والأدب بنحو سياق المؤلِّف، وفيها: أنَّه نصب المصحف ثم رماه بسهمٍ، ثم أنشد البيتين. ولفظهما في بعضها:"أَتُوْعِدني" بدل "تهددني"، و"خرَّقني" بدل "مزَّقني".
(2)
زيادة يقتضيها السياق.
وأشد من ذلك إن استعملها في إثبات الأحكام، كأَنْ يستخبر في صيام يوم معيَّن، أَمِنَ السُّنَّة هو أم لا؟ فيخرج الفأل بأحدهما على خلاف الدليل الشرعي، فيقع في الحيرة؛ لأنَّه يزعم أنَّ الفأل بمثابة أمرٍ من الله عز وجل، وهو كاذب في هذا الزَّعم، مخطئ في تفاؤله.
هذا الضَّرْب من التَّفاؤل الذي هو من باب الاستقسام بالأزلام، قال الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90].
ولكن انظر إلى ما شَرَعَه الله عز وجل لعباده عوضًا عن ذلك، وهو الاستخارة الشرعية، فيصلِّي ركعتين من غير الفريضة، ثم يدعو الله عز وجل فيقول:"اللَّهم إنِّي أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنَّك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علَّام الغيوب، اللَّهم إن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر خيرٌ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ــ أو قال: عاجل أمري وآجله ــ فاقدره لي ويسِّره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أنَّ هذا الأمر شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ــ أو قال: في عاجل أمري وآجله ــ فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به" قال: "ويسمِّي حاجته"
(1)
.
فهذا هو النُّور والهُدى الذي لا يوقع في حيرة ولا ارتباك، ولا فيه دعوى أنَّ الله أمر أو نهى، وإنَّما فيه دعاء يرجو العبد أن يستجاب له.
(1)
أخرجه البخاري (1162) وغيره، من حديث جابر رضي الله عنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلِّمُنا الاستخارة في الأمور كما يعلِّمُنا السُّورة من القرآن، يقول: إذا هَمَّ أحدُكم بالأمر فلْيَركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: .. " وذكره.
وقد كنتُ أولًا جريًا على العادة أتفاءل بالقرآن، فتفاءلتُ يومًا فوقعتُ على قول الله عز وجل:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} [المائدة: 101]. فبدا لي أنَّ فيها كالدلالة على النَّهي عن التَّفاؤل بالقرآن، فنظرتُ في هذه المسألة فظهر لي النَّهي من الأدلة الثابتة، فتركتُ ذلك. والحمد لله.
ومن التَّجربة التي وقع فيها الناس من كتابة العُوَذِ
(1)
التي تشتمل على تعظيم الملائكة والكواكب والجن، أو على ألفاظ غير معروفة المعنى، أو غير ذلك ممَّا لم يكن معروفًا في سلف الأمة، وإنَّما أخذه الناس عن الصَّابئة كما ذكره الشَّهْرِسْتَاني في "المِلَل والنِّحَل"
(2)
، وقد يتعدَّون ذلك، فيذبحون للجن، ويقرِّبون لهم الأطعمة وغير ذلك، يعملون هذا للمصاب بالصَّرَع ونحوه، وقريبٌ من ذلك عند الزواج أو بناء دار أو نحو ذلك؛ ليدفعوا شرَّ الجن.
وقد كان العلماء إذا أُتوا بمصروع قرأوا عليه الرُّقية النَّبوية ونحوها من الآيات والأدعية، ويكتفون عند الزَّواج والبناء ونحوه بذكر اسم الله ودعائه، فنَشَأ من المعزِّمين
(3)
من ليس له دين ولا يقين، فلم تنفع رقيتهم بالآيات والدعاء فرجعوا إلى استرضاء الشياطين بما يُعدُّ عبادة لهم، والعياذ بالله.
(1)
جمع: "عُوْذَة"، وهي: الرُّقْيَة. كما في "القاموس المحيط"(مادة: عوذ).
(2)
(2/ 359).
(3)
جمع "معزِّم"، وهو قارئ "العزائم" أي: الرُّقى. كما في "القاموس المحيط" وغيره (مادة: عزم).
ولقد أصيب ولدي بالمرض الذي يعتري الأطفال ويسميه الأطباء "أمَّ الصبيان"
(1)
، فقالت بعض العجائز لامرأتي: ينبغي أن تَفْدُوا عنه بذبيحة، فقالت لي زوجتي: فقلت لها: الفِدية إنَّما تكون مرَّةً واحدة، وهي العقيقة، وقد عملناها، ثم رأيتُ زوجتي اشترت دجاجة فظننتُ أنَّها تريد تذبحها لأهل البيت، ثم فقدتُ الدجاجة، فتوهَّمتُ أنَّها أَرْسَلَت بها، فأُطْلِقَت في الصِّحراء، فأنكرت عليها ذلك، وعرَّفتها أنَّ هذا الفعل خطر على الدِّين، وأنِّي أرى هلاك ولدي وهلاك أمِّه وهلاكي وهلاك كل من نحبُّه خيرًا لنا من مثل هذا الفعل.
ثم لم تلبث زوجتي أن عَرَفَت أنَّ الذي بالطِّفل مرضٌ من الأمراض، ينشأ عن القَبْض وغيره، وينفع الله فيه بالأدوية، فزال عنها اتِّهام الشيطان.
ثم بعد مدَّة طويلة أصيبت هي بالمرض الذي يسمَّى "اختناق الرَّحِم"
(2)
، واشتدَّ عليها حتى خُولِطَت في عقلها، وكانت تعرض لها عوارض شديدة من التشنُّج والحركات المضطربة وغير ذلك، وصادف حدوث ذلك بعد أن وقعت بينها منافرة وبين بعض النساء فتوهَّمَتْ أنَّ ذلك سِحْرٌ.
(1)
أم الصِّبيان: الحاصل من كلام المتقدمين أنَّه: تشنُّجٌ يصيب الطفل بسبب الحمَّى. فأهل اللغة ذكروا أنَّه: ريح تَعْرِضُ للصبيان فربما يُغشى عليهم، وقدماء الأطباء كابن البيطار وابن سينا والأنطاكي قالوا: إنَّه نوع من الصَّرع، وقد يقتل من أصيب به. وقال في "بحر الجواهر في تحقيق المصطلحات الطبِّية" (ص 36):"هو الصرع الصفراوي". ويُنظَر أيضًا: "القانون" لابن سينا (2/ 78).
(2)
اختناق الرَّحِم: الحاصل من كلام الأطبَّاء المتقدمين كابن سينا وغيره أنَّه: آلام وأوجاع في الرَّحِم تتعدَّى إلى غيره فيصيب المرأة غشي، سببه احتباس دم الطَّمث عن المرأة.
ويُنظَر: "القانون" لابن سينا (2/ 77)، و"الحاوي" للرازي (9/ 56).
واختلط الأمر على أمِّها ونسائها، فتارةً يقُلْنَ: إنَّه سِحْرٌ، وتارة يقُلْنَ: إنَّه من الشيطان، وتارة يقُلْنَ: مرضٌ. أمَّا أنا فلم أشك أنَّه مرض، ولكنِّي جوَّزت أن يكون الشيطان ربَّما يَعْرِض للمريض فيخيِّل له ويسوِّل، كما يَعْرِض لمن يقع سببٌ يُغْضِبه فينفخ فيه ويزيد في إشعال غَضَبه.
وأرى أنَّ ما اشتهر عن جماعة من الصَّالحين قبلنا أنَّهم كانوا يرقون المصروع ونحوه فيفيق= أنَّ ذلك حقٌّ، وأنَّ ما يقع للمُعَزِّمين من معالجة المصروع ونحوه بالأعمال المحظورة شرعًا فيفيق= أمر واقع.
وإنَّما الفرق: أنَّ الصالحين عندهم من الإيمان واليقين ما يستجاب به دعاؤهم فيُطْرَد الشيطان، وأنَّ المُعَزِّمين يُرْضُون الشيطان بالأعمال المحظورة فيفارق المريض، وإذا فارق الشيطان المريض خَفَّت وطأة المرض.
لا أرى أنَّ الصَّرَع من أصله من فعل الشَّيطان، بل أرى أنَّ الشيطان يَعْرِض لمن يعتريه ما يُضْعِف عقله فتتضاعف عليه عوارض المرض.
وجوَّزت أن يكون اقترنت بالمرض عينٌ خبيثة؛ لأنَّه كانت قُبَيْل المرض في بيتي دعوة، وكانت المريضة تكرِّر في هذيانها طلب الشكوى من عدم إعطائها من الأطعمة التي طُبِخَت للدَّعوة، مع أنَّ الأطعمة كانت تحت يدها، وكان يظهر من بعض كلامها أنَّها تتخيَّل امرأةً تؤذيها.
فقلت: العين حق، ويمكن أن تكون مرَّت على الباب امرأة فشاهدت الأطعمة ولم تُعْطَ منها فبَقِيَتْ نفسُها متعلِّقة بها.
وعلى كلِّ حالٍ فقد كنتُ أعالج زوجتي بالأدوية التي يشير بها الطبيب، وأرقيها بالرقية النبوية وغيرها من الآيات والأدعية، وألحَّت أمها ونساؤها
في أن نذهب بها إلى بعض من عُرِف بالرُّقية، فتطييبًا لنفوسهنَّ قلتُ: على شرط أنَّه إذا أشار بذبحٍ أو تقريبٍ أو فعل شيء لا ينفَّذ ذلك، فإنِّي أخشى أن يكون في ذلك ضررٌ أكبر من هذا الضَّرر.
فمِن لطف الله تعالى بي أنَّ ذلك الرجل لم يُشِر بشيء من ذلك، وإنَّما أعطاهم تميمةً لا أدري ما كُتِب فيها، وأشار بِشمِّ الحِلْتِيت
(1)
ونحوه.
فأمَّا شمُّ الحِلْتِيت ونحوه فقد أشار به الأطباء، وأمَّا التَّميمة فإنَّهنَّ رَمَيْنَ بها لمَّا رأينَ أنَّ المرض زاد بعد تعليقها.
ثم قال لي بعض أصحابي: إنَّ هاهنا رجلًا صالحًا يرقي من هذه الأمراض، وقد انتفع به كثير، حتى إنَّه إذا وصل قريب البيت الذي فيه المريض يصيح الجنِّي بلسان المريض: سأخرج ولا أعود، لا تحرقني، وأشباه ذلك.
فقلتُ له: وما رقيته؟ قال: يقرأ شيئًا من كتاب الله والأدعية، ثم بعد أن يفيق المريض يعطيه سِوارًا من صُفْر قد نُقِش عليه أسماء.
فقلتُ: أمَّا السِّوار الصُفْر فلا يجوز، وأمَّا الرقية بالقرآن والدعاء فلا بأس. فذهب صاحبي ليدعو ذلك الرَّاقي، ثم بدا لي فأرسلت إلى صاحبي أن لا يَدْعُوه، فلم يدْعُهُ، ولكنَّه أخذ منه تميمة وكانت مكشوفة، فأخذتها منه فإذا فيها أسماء وأدعية وآيات، ولكنها في جداول، وبعضها بحروفٍ مقطَّعةٍ، وبعضها بالأرقام الهندية، والكتابة كأنَّها بليفة الزَّعفران، فأحَرْقْتُها.
(1)
الحِلْتِيت: صمغ يستخرج من نبات يسمَّى الأنجدان، له خواص علاجية عديدة. يُنْظَر:"التَّذكرة" لداود الأنطاكي (ص 130)، و"الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" لابن البيطار (1/ 283)، و"معجم الأعشاب المصوَّر" لمحسن عقيل (2/ 163).
ثم منعتُهُنَّ من كلِّ شيءٍ غير تناول الأدوية، وما أرقيها أنا به، ورَزَقَ الله تعالى العافية، وزالت تلك الأوهام عنها وعن أمِّها ونسائها، وعَلِمْنَ أنَّ هذا مرض من الأمراض المعتادة. والحمد لله.
فصل
وأمَّا الضَّرْب الثاني
(1)
: فدَفْعُه إجمالًا بما تقدَّم في الضَّرْب الأول، وتفصيلًا بأن تقول لمقلِّد المقلِّد: إنَّ هذا العالم الذي تحتجُّ بقوله لم يكن مجتهدًا، وإنَّما كان مقلِّدًا، وقد نصَّ العلماء أنَّ المقلد لا يجوز له أن يفتي، وإنَّما له أن ينقل قول المجتهد، ولا يجوز العمل بفتواه التي لم ينقلها عن المجتهد، ثم تذكر له من خالف ذلك العالم ممَّن هو مثله أو فوقه.
وإن وجدتَ نصًّا عن إمامه يقتضي ولو بعمومه أو إطلاقه خلافه ذكرتَه، وإلَّا فإذا كانت تلك البدعة ممَّا يدَّعِي استحبابه ــ وهو الغالب في البدع ــ قلتَ له: إنَّ سلف الأمَّة ــ ومنهم إمامك وإمام ذلك العالِم ــ مجمعون على عدم استحباب هذا الأمر.
والدليل على ذلك أنَّه لم يُنْقَل عن أحد منهم استحبابه ولا فعله، وعدم النَّقل كافٍ في الحُجَّة؛ لأنَّ الأمور التي لا تستحبُّ لا تتناهى، فيستحيل استيعابها بالنص عليها فردًا فردًا، وإنَّما جاءت الشريعة ببيان المستحبَّات؛ لأنَّها أقرب إلى الحصر.
وجَزَمتُ بأنَّ ما عدا ذلك فهو من المحدثات التي هي شرُّ الأمور، كما في الحديث الصحيح الذي تواتر عن جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر
(1)
وهو الذي تقدم ذكره (ص 89).
عن جابر بن عبد الله الأنصاري: "أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتاب الله، وخير الهَدْي هَدْي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة"
(1)
.
وسكوت السَّلَف ــ ومنهم إمامك ــ عن بيان استحباب هذا الأمر، وعدم فعلهم له كاف في الدلالة على أنَّه ليس من الدين، وأنَّ زَعْمَ أنَّه من الدِّين إحداثٌ في دين الله، وكذبٌ على الله.
على أنَّنا نرى أنَّ لهذا العالِم الذي تحتجُّ بقوله عذرًا يخرجه من زُمْرة المبتدعين الخاطئين، ويكون به من جملة المخطئين المعذورين، المأجورين إن شاء الله تعالى. وأمَّا أنت فلا عذر لك.
وإنَّما مَثَلُه مَثَل رجل عالِم تزوج امرأة، فأُهْدِيَت إليه أختها، فظنَّها زوجته فعاشرها معاشرة الأزواج حتى مضى لسبيله ولم يعلم بالحقيقة، فهذا معذور مأجور؟
ومَثَلُك مَثَل رجل أُهْديَت إليه أخت امرأته، فأُخْبِر بذلك قبل أن يقرَبَها، أو بعدما عاشرها مدَّة، فهل له بعد الإخبار أن يستمر على معاشرة أخت امرأته مقتديًا بذلك العالِم؟
وإذا لم يؤثِّر فيه هذا فقل له: إن لم يتبيّن لك الأمر فعليك الاحتياط، واعلم أنَّك إن تركت هذا الأمر كان لك أسوة بِمَن تَرَكَه، من نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه، ومن بعدهم من الصدِّيقين والشهداء والصالحين إلى قرون عديدة، وحسن أولئك رفيقًا.
(1)
تقدَّم تخريجه (ص 87) وأنَّه عند مسلمٍ.
وإن عَمِلْتَه لم تكن [لك]
(1)
أسوة إلَّا بذلك العالِم المقلِّد، ولعلَّ له عذرًا ليس لك مثله.
وأقصى ما في هذا الأمر أنَّ الظاهر أنَّه بدعة، وهناك شُبْهَة ضعيفة بأنَّه مستحب، فما هو الأحوط؟ وقد صحَّ في الحديث [عن عقبة بن الحارث أنه تزوج ابنةً لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: قد أرضعتُ عقبة والتي تزوَّجَ، فقال لها عقبة: ما أعلم أنكِ أرضعتِني، ولا أخبرتِني، فأرسل إلى آل أبي إهاب يسألهم، فقالوا: ما علمنا أرْضَعَتْ صاحبنا، فركب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة، فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:"كيف وقد قيل؟ " ففارقها ونكحت زوجًا غيره
(2)
]
(3)
.
وأمَّا تقليد من اشتهر بالصلاح وليس بمجتهد فالفتوى من حيث هي مَدَارها على العلم والعدالة، فإذا كان المشهور بالصلاح عالمًا بالعلوم الشرعية فهو بمنزلة من كان مثله في العلم من العُدُول ولم يشتهر بالصلاح، وإنَّما الإخبار عن الشرع بمنزلة الشهادة.
فكما أنَّ الشريعة قَضَت في القضاء أنَّ شهادة شاهِدَين عَدْلَين لم يشتهرا بالصلاح وشهادة شاهِدَين عَدْلَين مشهورَيْن بالصلاح والولاية سواء= فهكذا حال الفتوى.
بل لو قيل برجحان فتوى العَدْل الذي لم يشتهر بالصَّلاح لَمَا كان بعيدًا؛ لأنَّ الصالحين اشتهروا بسلامة القلب إلى حدِّ الانخداع، وتحسين
(1)
في الأصل: "له".
(2)
أخرجه البخاري (2640) وغيره.
(3)
بيَّض المؤلف للحديث، وأشار إليه في هامش الصفحة بقوله:"كيف وقد قيل"، فأكملته.
الظَّن المُفْرِط، والغفلة عن حِيَل المحتالين، إلى أمور أُخَر قد بيَّنتُ بعضها في "رسالة العبادة"، فعليك بها.
وأمَّا عمل أهل جهةٍ من الجهات فلم يسلِّم الأئمة لمَالكٍ احتجاجه بعمل أهل المدينة، مع أنَّها معدن الإسلام، وأهلُها حينئذٍ الصَّحابة والتابعون، وكثير منهم أئمَّة مجتهدون، وكانوا من العلم والمعرفة والحرص على اتباع السنة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أعلى الطبقات، فما بالك بعمل أهل جهةٍ أخرى بعد أن عزَّ العلم الصحيح، وكثر علماء السوء، وانتشر دعاة البدع، وفُقِد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصار من بقي من العلماء شعارهم: عليك بخويصة نفسك، ودَعْ عنك أمر العامة.
فصل
ساق المحقِّق الشاطبي في "الاعتصام"
(1)
كثيرًا من الآيات والأحاديث والآثار عن الصحابة والتابعين والأئمَّة المهديين في ذمِّ البدع والتحذير منها، وفاته كثير.
وأنا أرى أنَّ الأمر أوضح من ذلك فإنَّ البدعة هي: إحداث حُكْم في دين الإسلام وليس منه.
ولا خلاف أنَّ دين الإسلام هو: ما شرعه الله عز وجل وبلَّغه خاتم أنبيائه صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين، وأنَّ كل أمرٍ لم يبلِّغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمَّته أنَّه من دين الإسلام فليس منه، وزَعْمُ أنَّه منه هو البدعة ، ومثل هذا لا يخالف مسلم في أنَّه منكر مذموم.
(1)
يُنْظَر: (1/ 13 - 35، 68 - 89، 99 - 146).
وإنَّما اشتبه على الناس أمران:
الأول: في حكم صاحبه.
الثاني: في الطريق التي يُعْلَم بها في الأمر أنَّه بدعة.
فلنعقد لكل منهما بابًا.
الباب الأول
فأما الأمر الأول فأصحاب البِدَع على أربعة أقسام
(1)
:
القسم الأول: الذي يعلم أنَّ بدعته ليست من دين الإسلام الذي بلَّغه محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه، ومع ذلك فيزعم أنَّها ممَّا يحبُّه الله ويرضاه، فهذا قد جمع بين الكذب على الله والتكذيب بآياته.
أما الكذب على الله: فبزعمه أنَّ الله يحبُّ ذلك الفعل ويرضاه، وليس عنده من الله عز وجل برهان على ذلك، فقد اعترف أنَّه ليس من دين الإسلام الذي بلَّغه محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
فإمَّا أن يزعم أنَّ له أو لغيره أن يشرع من الدين ما لم يأذن به الله، وفي ذلك دعوى الرُّبوبية؛ لأنَّ شرع الدين من خواصها، قال الله تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21]. وقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31].
وإمَّا أن يزعم أنَّه أو شيخه علم أنَّ الله عز وجل يحبُّ ذلك الأمر ويرضاه بإعلام الله تعالى، ففيه دعوى أنَّه أو شيخه نبي ورسول بشريعةٍ تَنْسَخُ بعض
(1)
لم يذكر المؤلِّف ــ فيما وجدته من رسالته ــ القسم الرابع.
الشريعة المحمَّدية.
وأمَّا كونه مكذِّبًا بآيات الله: فواضح.
والآيات القرآنية والأحاديث النبوية كثيرة في أنَّ شرع الدين خاص بالله عز وجل، وفي أنَّ الدين قد كَمَل، وأنَّ عِلْم حُكْمِ الله قد انسدَّ إلَّا بواسطة كتاب الله تعالى وسنة رسوله، وفي أنَّ النبوة قد خُتِمَت ولم يبق منها إلَّا الرُّؤيا الصالحة، والكشف نوع منها يحتاج إلى التعبير مثلها، فإذا تضمَّن الزيادة في الدِّين على ما بلَّغه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذلك برهانٌ على كَذِبه أو على أنَّ له تعبيرًا يخرجه عن ظاهره.
وقد حقَّقنا هذا في "رسالة العبادة"، وحقَّقنا فيها أنَّ التَّحديث المذكور في قوله: "إنَّه كان فيمن قبلكم محدَّثون
…
"
(1)
إنَّما يحصل به الظَّن، ولا يعلم المُحَدَّث أنَّ ذلك الظن من التحديث، لأنَّ الظَّن كما يحصل به فقد يحصل بالوسوسة، وبالتوهُّم المبنيِّ على سببٍ خفيٍّ قد لا يتنبَّه له المتوهِّم، وإن كانت نفسه قد بَنَتْ عليه ما بَنَتْ.
ومثال ذلك: أن ينالك أذى وضُرٌّ من إنسان، ثم بعد بُرْهةٍ من الزَّمان رأيتَ إنسانًا آخر، فوقع في نفسك أنَّه يريد بك شرًّا وأذى.
والسبب أنَّ بينه وبين المؤذي مشابهة ما في الصورة أدْرَكَتْها نفسُك لأول نظرةٍ، ولم يضبطها عقلك، ولهذا الاشتباه لم يكن عمر نفسُه يحتجُّ بظنِّه، ولا يبني عليه الأحكام.
(1)
أخرجه البخاري (3469) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم (2398) من حديث عائشة رضي الله عنها، وغيرهما.
هذا وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: 93].
وقد حقَّقنا هذا المعنى في "رسالة العبادة"، والحمد لله.
القسم الثاني: من يشكُّ في بدعته، أمِنْ دين الإسلام الذي بلَّغه محمد صلى الله عليه وآله وسلم عن ربِّه أم لا؟ ولكنَّه يجزم بأنَّها ممَّا يحبُّه الله ويرضاه، وحُكْمُه كالأول.
القسم الثالث: من يجزم بأنَّ بدعته من دين الإسلام الذي بلَّغه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن ليس عنده برهان على ذلك، وهذا على أضْرُب:
الضَّرْب الأول: المجتهد الذي قامت عنده شُبْهَةٌ هي من جنس الأدلة المقرَّرة في الشريعة، على ما هو مفصَّل في أصول الفقه، ولكن اختلَّ شرط من شروطها، ولم يعلم باختلاله، أو قام لها معارض ولم يعلم به ونحو ذلك، وقد بَحَثَ ونَظَرَ بقدر وُسْعِه، وذلك كأن يبلُغَه حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فينظر في سنده فيراه مستجمعًا لشروط الصِّحة أو الحُسْن، ويتدبَّر الكتاب والسُّنة فلا يجد له معارضًا، ولم تكن الأمة أجمعت على خلافه= فيقول به.
ويطَّلِع غيرُه على ما خفي عليه، إمَّا على قدحٍ في أحد الرُّواة، أو على عِلَّةٍ تُوْهِن الحديث، أو على دليل آخر يعارضه، أو على أنَّه ليس ظاهرًا في المعنى الذي فهمه ذاك.
فالأول معذور مأجور، اللهم إلَّا أن يُنَبَّه على خطئه فيُصرَّ ويستكبر، فهذا هالك لا محالة.
وفي حكم المجتهد من قلَّده عارفًا لدليله، فإن كان المقلِّد يرى صحَّة
دليل مُقلَّده فهو معذور مأجور، وإن تبيَّن له بطلان دليل مُقلَّده وأصرَّ على تقليده فهو هالك، وإن لم يعلم دليل مُقلَّده أصلًا، أو عَلِمَه ولم يتبيَّن له أصحيح هو أم باطل فهو معذور، ولكن إذا علم بأنَّ بعض المجتهدين يُخالِف إمامه في ذلك فعليه أن ينظر في أدلَّتهم ــ إن تيسَّر له ــ ثم يقلِّد من ظَهَر له رُجْحَانُ دليله، فإن لم يتيسَّر له ذلك فقد قال جماعة من العلماء: يلزمه الاحتياط، وقال بعضهم غير ذلك.
والذي تقتضيه الأدلَّة أنَّ عليه الاحتياط، وفي "الصحيح"
(1)
: "الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهُنَّ كثير من الناس، فمن اتَّقى الشُّبهات فقد استبرأ لدِينِه وعِرْضه
…
" الحديث. والمختلف فيه مشتبه.
اللَّهم إلَّا أن يشقَّ عليه الاحتياط مشقَّة شديدة فقد يقال له حينئذٍ أن يأخذ بالأخف؛ لقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
الضَّرْب الثاني: من لم يبلغ درجة الاجتهاد، وإنَّما يتعاطى النَّظَر في الأدلَّة، ويحكم بما يظهر له بدون استنادٍ إلى موافقة مجتهدٍ من المجتهدين فهذا ضالٌّ مُضِلٌّ، وهو من الرُّؤساء الجُهَّال الذين وَرَد فيهم الحديث
(2)
.
(1)
البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه، ولفظ المؤلف أحد ألفاظ مسلم.
(2)
يعني: ما أخرجه البخاري (100) ومسلم (2673)، وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا، ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا، اتخذ النَّاس رؤوسًا جهالًا فسُئِلُوا، فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأضلُّوا".
تنبيهٌ: قوله: "لم يُبقِ عالمًا" وصحَّت الرواية بلفظ: "حتى إذا لم يبقَ عالمٌ".
وقوله: "رُؤُوسًا" جمع "رأس"، ولفظ المؤلِّف:"رُؤَسَاء" جمع "رئيس" هي روايةُ أبي ذرٍّ للصَّحيح، وهي رواية ابن حبَّان في "صحيحه" (4571). ويُنْظَر فيما تقدَّم:"الفتح" لابن حجر (1/ 195).
وأكثر البِدَع من اختراع هؤلاء، وإنَّما تبعهم الناس فيها لاشتهار بعضهم بالزُّهد والتصوُّف، أو بعلمٍ آخر غير العلم المشروط في الاجتهاد.
وقد حقَّقنا في "رسالة العبادة" أنَّ الزُّهاد والعُبَّاد لا يعتدُّ بأقوالهم ما لم يكونوا من العلوم المعروفة بدرجة الاجتهاد، وأنَّ الكَشْف ليس من الحُجَج الشرعية، وأنَّ الوَلِيَّ يخطئُ كما يخطئُ غيره، بل الخطأ أقرب إليه؛ لغلبة حُسْن الظن عليه.
وحقَّقنا أنَّ الأحوال المكتسبة بالرِّياضة التي لم يندب إليها الشرع ليست من الولاية الصحيحة في شيءٍ، وإن صارت حياة صاحبها كُلَّها خوارق وغرائب، وأوضحنا ذلك ببراهينه.
نعم قد يكون للرجل من هذا الضَّرْب عذر يرفع عنه الملامة، وكذا لِمَن تَبِعَه جاهلًا بحقيقة الأمر معذورًا بجهله.
وقد حقَّقنا في "رسالة العبادة" ما يكون من الجهل عذرًا، وما لا يكون، فمهما أمكن أن يكون له عذر فلا يجوز الحكم عليه بالهلاك أو الإثم، بل لعلَّه يكون في نفسه من الصَّالحين الأخيار، ولكن احتمال كونه معذورًا لا يكون مسوِّغًا لاتِّباعه.
الضَّرْب الثالث: من يقيس على نصوص المجتهدين ويستنبط منها، وهو
الذي يسمُّونه: "مجتهد المذهب"، وهو كما يُؤْخَذ من كلامهم: مَنْ أحرز شروط الاجتهاد المطلق، إلَّا أنَّه قاصر في معرفة التفسير، وفي معرفة السُّنة، ويكون مع ذلك واسع الخبرة بمذهب إمامه أصولًا وفروعًا.
ومن شرطه ــ أيضًا ــ أن يعلم مَأْخَذ إمامه في المسألة التي يريد الاستنباط منها.
ومدار الاستنباط على تحصيل دلالة ظنية من نصوص المجتهد بأنَّ الحُكم في هذه المسألة هو كيت وكيت، وقد تكون تلك الدلالة عمومًا أو مفهومًا، والغالب فيها هو القياس، وكلٌّ من هذه الدلالات قد يَضْعُف جدًّا.
فأمَّا العموم فإنَّه قد يدخل تحت النص العام صور نادرة قد لا تكون خَطَرَت على ذهن المجتهد.
وإنَّما قلنا إنَّ عموم نص الكتاب أو السنة يشمل الصورة النادرة لأنَّ الله تبارك وتعالى لا يعزُبُ عن علمه شيء، وهو رقيب على لسان رسوله، يعْصِمُه عن الخطأ، ومع ذلك فقد قال جماعة من العلماء بعدم دخول الصورة النادرة في النص الشرعي أيضًا.
وأمَّا غير المعصوم فإنَّنا لا نثق بأنَّه خَطَرت على ذهنه الصورة النادرة.
وإذا لم تكن خَطَرت على ذهنه فلا يثبت أنَّ لها عنده ذلك الحكم، فلعلَّه لو سُئِل عنها لرأى لها حكمًا آخر، واعتذر عن ذلك العموم بأنَّها صورة نادرة لم تخطر على ذهنه.
فإن قيل: فقد قال جماعة من العلماء بدخول الصور النادرة في عموم كلام غير المعصوم، في نحو النَّذر واليمين والوكالة.
قلتُ: نعم، قد قالوا ذلك، ولكن الوجه في ذلك أنَّهم رأوا أنَّ الصِّيغة سبب تامٌّ في انعقاد العقد، ولهذا قالوا بدخول الصُّوَر التي لم يقصدها العاقد، وبالانعقاد بالصيغة التي لم يقصد بها الإيقاع، وإنما قصد بها الهزل.
وفتوى المجتهد ليست بسبب تامٍّ لثبوت الحكم؛ إذ ليست بإنشاءٍ للحُكْم كما كانت صيغة النَّذر إنشاءً للنذر مثلًا، وإنَّما الفتوى إخبار من المجتهد بما فهمه من الشريعة، فيحصل ظنٌّ بصحة ذلك؛ لأنَّه عدل عالم، وهذا خاص بما قَصَدَه في عبارته، فكيف تدخل الصُّوَر التي لم يظهر أنَّه قصدها؟ !
وهكذا يقال في دلالة الإشارة، فإنَّها عندهم: دلالة اللَّفظ على ما يلزم معناه، ولا يظهر من اللَّفظ أنَّه قصد به، فنقول بها في كلام الله تعالى؛ لإحاطة علمه بما يلزم، وكذا في كلام رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنَّ الله تعالى رقيبٌ عليه كما تقدَّم، وكذلك يقول بها في العقود من يرى العقود أسبابًا تامَّةً؛ لأنَّها إنشاء لأحكامها، ولا يصح أن يقال بها في فتاوى العلماء؛ لما سبق.
وأمَّا المفهوم فمفهوم الموافقة إن كان واضحًا فهو كالمنطوق الصَّريح، وإلَّا فهو من القياس، وسيأتي ما فيه.
وأمَّا مفهوم المخالفة فقد نقل ابن السُّبكي عن والده: أنَّه لا عبرة به في غير الشرع
(1)
، قال المحلِّي في "شرح جمع الجوامع":"من كلام المصنِّفين والواقفين لغلبة الذُّهول عليهم بخلافه في الشرع من كلام الله ورسوله المبلِّغ عنه؛ لأنَّه تعالى لا يغيب عنه شيء"
(2)
.
(1)
"جمع الجوامع"(ص 24) حيث قال: "والشيخ الإمام في غير الشرع".
(2)
"شرح المحلِّي" مع "حاشية البنَّاني" عليه (1/ 255)، و"حاشية العطَّار" عليه (1/ 335).
وهذا قوي جدًّا بالنسبة إلى كلام المصنِّفين، ومَن في معناهم مِن المفتين.
ويؤيِّده أنَّ القائلين بمفهوم المخالفة يشترطون أن لا يكون المتكلِّم جاهلًا بحكم المسكوت عنه، والجهل ممكن في المصنِّفين والمفتين.
ويشترطون أن لا يكون القيد خرج مخرج الغالب، وقد خالف في هذا إمام الحرمين
(1)
، وخلافه قويٌّ بالنسبة إلى كلام الله تعالى وكلام رسوله؛ لأنه يبعد أن يُحْمَل قوله تعالى:{اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] على أنَّه لا معنى له، وإنَّما جَرَى مَجْرَى الغالب؛ إذ ليس في موافقة الغالب فائدة تُذكر، مع أنَّ زيادة ذلك تُنْقِص الفائدة، وتُوقِع في الخطأ. وعلى نحو هذا يقال في كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فأمَّا المصنِّفون ونحوهم فلا يبعد أن يجري على ألسنتهم زيادة الكلمة موافقة للغالب.
وأمَّا القياس فمالك لا يكاد يعتدُّ به في العبادات، كما قرَّره الشاطبي في "الموافقات"
(2)
، وعامَّة البدع التي نحن في صدد البحث عنها إنَّما هي في العبادات.
وشرط الاحتجاج بالقياس أن لا توجد دلالة أقوى منه من كتاب أو سنة. وعدم الوجدان إنَّما يُعْتَدُّ به في حقِّ المجتهد المستقل، وأمَّا مجتهد المذهب فلا أثر لعدم وجدانه؛ لقصور معرفته بالكتاب والسنة. على أنَّ كثيرًا
(1)
كما في "البرهان" له (1/ 477).
(2)
"الموافقات"(2/ 519)، وبنحوه في:"الاعتصام" له (3/ 54).
من علماء المذاهب يرجِّحون قياس قول إمامهم على نصوص شرعية قد وقفوا عليها!
ثم نقول: إن كان مجتهد المذهب قاس على قول إمامه بدون أن يعرف دليل إمامه = فإنَّنا نخشى أن يكون إمامه استند إلى قياس، فيكون قياس هذا المقلِّد مركَّبًا على قياس، وهو باطل عندهم، كما قرَّروه في كتب الأصول.
وإنْ عَلِم دليل إمامه وكان قياسًا فالأمر واضح.
وإن كان نصًّا فشرط القياس على النَّص أن لا توجد دلالة أقوى منه من كتاب أو سنة، ولا اعتداد بعدم وجدان من ليس بمجتهد مستقل؛ إذ لو كان لمجتهد المذهب من المعرفة بالكتاب والسنة ما يصحِّح الاعتداد بعدم وجدانه= لكان مجتهدًا مستقلًا، والمفروض خلافه.
هذا مع أنَّ من الأقيسة ما هو ضعيف جدًّا، كقياس الشَّبَهِ وغيره.
والحاصل: أنَّ الاستنباط من كلام المجتهد على جانبٍ من الضعف، فإن جاز الاستناد إليه فعلى قدر الضرورة مع وجوب الاحتياط، ويشتدُّ الأمر إذا علمنا أنَّ أكثر المسائل المدوَّنة في كتب الفروع ليست من نصِّ الإمام، ولا مستنبطة من نصِّه، بل كل متأخر يستنبط مِن كلام مَن قَبْله، ففي مذهب الشافعي مثلًا تجد "دحلان" يستنبط من كلام "الباجوري"، و"الباجوري" يستنبط من كلام "البجيرمي"، و"البجيرمي" يستنبط من كلام "الشبراملسي"، و"الشبراملسي" من كلام "ابن حجر"، و"ابن حجر" من كلام "الزركشي"، و"الزركشي" من كلام "النَّووي" وهكذا.
ولعلَّك لا تصل إلى الإمام إلَّا بعشر درجات وأكثر.
هذا مع أنَّ كثيرًا من العلماء يبنون الأحكام على استحسانهم.
ومنهم مَن غَلَب عليه الميل إلى بعض المبتدعة، وكثير منهم من كان يعتقد الولاية لكل من حُكِي عنه ضَرْب من الغرائب التي يسمُّونها كرامات، ويتعصَّب له، ويؤلِّف في فضائله، ويكاد يجعل أقواله براهين قطعيَّة.
ومنهم من كان يعرض له الميل إلى أهل الدنيا والتعصُّب لهم.
ومنهم من كان بينه وبين علماء عصره منافسة تَحْمِلُه على مخالفتهم، كما وقع في قضية الصلاة المُبْتَدَعَة في ليلة أول جمعةٍ من رجب، كما حكاه أبو شامة في "الباعث"
(1)
.
وبالجملة فالعوارض المشكِّكة في صحَّة أقوالهم كثيرة.
وما مَثَلُ الشريعة إلَّا مثل ينبوع يخرج من جبل ويجري إلى مراحل كثيرة، وقد تكفَّل المَلِك بحفظ مجراه وتنظيفه، ومنع اختلاط الأوساخ والأقذار والمياه المتغيِّرة به، وهناك سَوَاقٍ قد اسْتَقَت منه، ويجري فيها من مائه إلى مراحل كثيرة أيضًا، ولكن المَلِك لم يتكفَّل بحفظها ولا حراستها، فهي مُعرَّضة لاختلاط الأقذار والأوساخ والمياه الرديئة والمتغيِّرة بمائها، وكثير من تلك السَّواقي قد عَظُم وغزُر ماؤه، فَمِن الناس من يستقبل من تلك السَّواقي ساقية أو ساقيتين أو أكثر، فيملأ من مائها بحيرة، ومنهم من يتجشَّم السفر إلى المجرى الذي تكفَّل المَلِك بحفظه، فيملأ جرَّة أو جرَّتين أو ما قُسِمَ له.
(1)
"الباعث على إنكار البدع والحوادث"(ص 42 - 43)، وفيه قصَّة العز بن عبد السلام مع أحد منافسيه.
والمقصود: أنَّ الاستنباط من المذاهب جائز بقدر الضرورة، فمن كان أهلًا للاستنباط واضطرَّ إليه في مسألة، ولم يقدر على تحصيل ما هو أوثق منه، واحتاط بقدر إمكانه= فلا حرج عليه إن شاء الله وإن أخطأ، وكذلك من تبعه ولم يقدر على تحصيل ما هو أوثق من قوله، ومع ذلك احتاط بقدر الإمكان.
ومن حكمة الله البالغة ورحمته السَّابغة أنَّ غالب البدع لا يدَّعي أصحابها ومن شُبِّهت عليهم أنَّها من أركان الإيمان، ولا فرائض الإسلام، ولا الواجبات المحتَّمة، وإنَّما غايتهم دعوى أنَّها مستحبَّة، وذلك تيسير من الله عز وجل لطريق الاحتياط لمن أراده، فما عليك إلَّا أن تتحرَّى فيما قيل إنَّه مستحب، وقيل إنَّه بدعة.
فإن كنت ممَّن يستطيع الوصول إلى المجرى المحفوظ فانظر، فإن وجدتَ ما يُثلج صدرك من الدلالة على أنَّه من الدِّين، أو على أنَّه ليس منه= فالزم ذلك.
وإن اشتبه عليك فدَعْه عالمًا أنَّ اجتناب البدعة أحق من فعل المستحب، وأنَّ ارتكاب البدعة من الخطر بحيث لا يوازنه ترك المستحب.
على أنَّك بتركك لذلك الشيء حذرًا من أن يكون بدعة، لك أجر عظيم أعظم مِن أجر مَنْ فَعَل مستحبًّا، وإن فعلتَه مع خشية أن يكون بدعة فعليك إثم البدعة، وإن كان في نفس الأمر غير بدعة!
وإن لم تستطع الوصول إلى المجرى المحفوظ فإن ظفرت بمَن وصل إليه وهو ثقة مأمون بريء من التعصب، وقد اطَّلَع على قول من قال: إنَّ ذلك
الأمر مستحب، وقول من قال: إنَّه بدعة، وعَرَض القولين على نصِّ الشرع= فخذ بقوله.
وإن بقي عندك تردُّد في صحَّة قوله فالزم الاحتياط، وإن لم تظفر بواصلٍ فلابدَّ من الاحتياط، وعليك بالاحتياط لنفسك، وحسن الظَّن بغيرك على قدر الإمكان، ولا يصدنَّك أحدهما عن الآخر.
فإذا علمتَ أنَّ فلانًا كان يقول: إنَّ هذا الأمر مستحب، ويعمل به، فلا تتَّخذ ذلك دليلًا على أنَّه ليس بدعة.
وإذا بان لك أنَّه بدعة أو شَكَكْت فيه فلا تسئ الظن بذلك القائل، بل قل: لعلَّ له عذرًا، والأعذار ههنا كثيرة، ولعله يكون في نفسه خيِّرًا فاضلًا صالحًا من أولياء الله تعالى، ولا يلزم من ولايته عصمته عن الخطأ، ولا يلزم من كونه معذورًا مأجورًا في قول أو فعل أن يكون كل مَنْ وافقه على ذلك معذورًا مأجورًا أيضًا.
وههنا مَثَلٌ: رجل خاف على نفسه الزِّنا، فأسرع إلى بيته ليواقع زوجته فتسكن نفسه عن الجماح، فعَمَد إلى السَّرير الذي تنام عليه زوجته، فقضى حاجته، وبعد الفراغ تأمَّل المرأة وإذا هي أُمُّه، قد نامت تلك الليلة على سرير زوجته، خلافًا للعادة، فهذا الرجل معذور مأجور.
ولو عكس فعَمَد إلى السرير الذي تنام عليه أُمُّه ليقع على أُمِّه فوقع، ثم تبيَّن له أنَّ التي وقع عليها زوجته فإنَّه آثم فاجر.
قال الأشخر في "شرح ذريعته": "لو وطئ زوجته على ظنِّ أنَّها أجنبية فتحل لمطلِّقها ثلاثًا وإن أثم (الواطئ) قطعًا، بل حكى ابن الصَّلاح وجوب
الحدِّ"
(1)
.
ولو اشتبه عليه الحال فلم يدر، أَزَوجته هي أمْ أُمُّهُ فإنَّه يحرم عليه الوقوع عليها حتمًا.
ولو أنَّ رجلًا تزوَّج امرأةً فأُهديت إليه أختُها وهو لا يشعر، بل يظنُّ المُهْدَاة زوجته، فعاشرها طول عمره فهو معذور مأجور.
ولو أنَّ رجلًا آخر تزوَّج وأُهديت إليه أخت زوجته فأُخْبِر بذلك، فهل له أن يستمر على معاشرتها، محتجًّا بأنَّ الأول كان عالمًا صالحًا وقد استمرّ على معاشرة أخت زوجته، وأفتى العلماء بأنَّه معذور مأجور؟ أَوَ لا يقول له العقلاء جميعًا: يا أحمق! ذاك لم يكن يعلم، وأنت قد علمتَ!
(1)
"شرح ذريعة الوصول إلى اقتباس زبد الأصول للأشخر الزبيدي"(1/ 54). رسالة جامعية.
الرسالة الثالثة
صدع الدُّجنة في فصل البدعة عن السنة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الهادي إلى سواء السراط، جاعل دينه عدلًا وسطًا بعيدًا عن التفريط والإفراط، منزل الكتاب تبيانًا لكل شيء من أمر الدين، باعث الرسل هداة مهديين، مبشرين ومنذرين.
وأشهد ألَّا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين، وهاديًا إلى السبيل المبين؛ ليبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم، ويفسِّر لهم ما أشكل عليهم، وجعل محبَّته اتِّباعه، وطاعته له طاعة. قال تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31]، وقال سبحانه:{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80].
وأكمل له الدِّين، وأتمَّ النعمة على المؤمنين، ورضي لهم الإسلام دينًا، إلى أن يرث الأرض ومَن عليها، وهو خير الوارثين، فلا دين إلَّا ما ثبت عنه، ولا نور إلا ما اقتُبِس منه، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه، وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الهداة المهديين، الذين أكمل لهم اليقين، وأقام بهم الدين، وحفظ بهم الكتاب والسنة، وأتمّ بهم على الخلق المِنَّة، فبلَّغوا الدين بأمانته، وبالغوا في حفظه وصيانته.
تكفَّل الله عز وجل بتوفيقهم لسبيله، وتثبيتهم على اتِّباع رسوله، وأَعْلَمَ رسولَه بما يكون منهم بعده، وكيف يتحرَّون اتِّباعه، ويحفظون عَهْدَه، فيجعل سنَّتهم من سنَّته، وإجماعهم من شريعته، فلم يزل الناس على ذلك حتى اشتهر الحق على التحقيق، وأمن السِّراط المستقيم أن يشتبه على طالبه
ببنيَّات الطريق، ثم حدثت أحداث، وخَلَف خُلُوف، وغلا غالون، وقصَّر آخرون، ووقف وُقُوفٌ.
وكثرت الخدع، وانتشرت البدع، وعُبِد الهوى، وبئس المعبود، واشتبه المحمود بالمذموم، والمذموم بالمحمود.
وكانت البليَّة العظمى والرَّزية الكبرى قِلَّة العلماء وتقاعدهم عن نصر الحق، ما بين خوَّار يخاف الناس أشدَّ من خوف الله، وجبّارٍ يرغب في الشُّهرة والسُّمعة والجاه، ومفتون بحبِّ الحُطام وخوف الفِطام، وآخر وآخر لا نطيل بذكرهم، ولا نبالغ الآن في هتك سترهم.
لا جرم اتخذ الناس رؤساء في الدِّين جهَّالًا، فلم يألوا أنفسهم وغيرهم خبالًا، فلا يكاد يُرى لهم رادع، ولا لأنوفهم جادع، بل ولا قادع.
إذا غابَ ملَّاحُ السَّفينةِ وارْتَمَتْ
…
بها الرِّيح يومًا دبَّرَتْها الضَّفادِعُ
(1)
وخلا الجو للملحدين وأعداء الدين، فبالغوا في العَيْث والعَبَث، ودفنوا المحض، ونشروا الخبث، وكان ما كان، والله المستعان.
وبعد، فإني ــ ولله الحمد والمِنَّة ــ ممَّن أوتي نصيبًا من فهم الكتاب، ومعرفة السُّنة، وعلمتُ أنَّ لله عز وجل عليَّ حقًّا في النصيحة للدِّين والعباد، والدعاء إلى سبيل الرشاد، ولكنَّه يثبِّطني عن ذلك خَوَر العزيمة، والحرص على مصالح الدُّنيا الذَّميمة، وزعمي أنَّه إنَّما يصلح للنصيحة من خَلَت
(1)
لم أقف على قائله. وقد أنشده الناصري في "الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى"(6/ 67) دون نسبةٍ لقائلٍ، وعنده:"فارتمت" بدل "وارتمت"، و"هوجًا" بدل "يومًا".
صحيفته من الذنوب، ونَقَّى عِرْضَه عن العيوب، وخلصت نيَّته لإرضاء علَّام الغيوب، ولستُ هنالك ولا قريبًا من ذلك، ونفسي تعلِّلني بأنَّها ستصلح أو تقارب، وأنَّ الأحوال ربَّما تحول إلى ما يناسب، أو أنَّه سيقوم بهذا الفرض من يكون أوسع مني علمًا، وأقوى هِمَّة وعزمًا، فيبلغ فيه الغاية، وتحصل به الكفاية، والأيام تمرُّ، والأَجَل يدنو، والأمر لا يزداد إلَّا شِدَّة.
وقد تدبَّرتُ أنواع الفساد فوجدتُ عامَّتها نَشَأَت عن إماتة السُّنن، أو إقامة البدع، ووجدتُ أكثر المسلمين يبدو منهم الحرص على اتباع السُّنن واجتناب البدع، ولكن التبس عليهم الأمر، فزعموا في كثير من السنن أنَّه بدعة، وفي كثير من البدع أنَّه سُنة.
وكلَّما قام عالم فقال: هذا سنة، أو هذا بدعة عارَضَه عشرات، أو مئات من الرؤساء في الدِّين، الذين يزعم العامة أنَّهم علماء، فردُّوا يده في فِيهِ، وبالغوا في تضليله والطَّعن فيه، وأفتوا بوجوب قتله أو حبسه أو هجرانه، وشمَّروا للإضرار به وبأهله وإخوانه، وساعدهم ثلاثة من العلماء، عالم غالٍ، وعالم مفتون بالدنيا، وعالم قاصر في معرفة السنة وإن كان متبحِّرًا في غيرها.
فإذا سمع بذلك من بقي من أفراد العلماء الصادقين كان نصرهم لأخيهم أن يحرقوه باللَّوم والتَّعنيف، قائلين: قد كان يَسَعُك ما وسع غيرك من السكوت!
فرأيتُ من أهم الواجبات إيضاح الفرق بين السنة والبدعة، وتعيين الحدود الفاصلة بينهما، علمًا بأنَّه إذا يسَّر الله تعالى ذلك على طريق واضح زال الالتباس من حيث الجملة، وكذا من حيث التفصيل في حقِّ من تكون له معرفة صالحة بالكتاب والسنة.
وإذا زال الالتباس عن هؤلاء رُجِيَ أن يزول الالتباس عن غيرهم؛ إذ لا يبقى إلَّا دعاة الضَّلالة والعامة.
فأمَّا دعاة الضلالة فإنهم وإن زال الالتباس عنهم لا يخضعون للحق، ولا يرجعون إليه، ولا حرج في ذلك، فقد كان فريق من هؤلاء موجودين في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأمَّا العامة فإنَّما مَثَلُهم مَثَل قَلْعةٍ بابُها من حديد، وسائرها من حشيش، فإذا قام فيهم دعاةٌ حكماء صابرون مصابرون أوْشَكَ أن ينكسر الباب، فيتم الفتح. والتاريخ شاهدُ عدلٍ أنَّه لم يكد يقوم في العامة داعٍ بحق أو باطل إلَّا تنمَّروا عليه، وتسارعوا في إيذائه، ولكنَّه إذا كان ذا حكمة وصبر، أو دهاء ومكر، لم يكن بأسرع من أن يصطادهم واحدًا واحدًا، وجماعة جماعة، فلم يلبث أن يصبح معه طائفة قوية يمتنع بهم عمَّن خالفه، ويتمكَّن من إعلان دعوته. ولعلَّه إذا اتَّضح السبيل لأهل العلم أن لا يخلو بلد من واحد منهم أو أكثر، يكون له حظٌّ من الحكمة والصبر، فيهتدي به نفر من الناس، والحق إذا استجيب له بمنزلة المصباح إذا أُسْرِج فإنَّه يضيء ما حوله، ثم يُقْتَبَس منه لعدَّة مصابيح تضيء مثله. وهكذا.
وإذا رأيتَ من الهِلال نموَّهُ
…
أيْقَنْتَ أنْ سيصير بدرًا كاملًا
(1)
هذا، وقد وقفتُ على عِدَّة مؤلفات في الزَّجر عن البِدَع، منها كتاب
(1)
البيت لأبي تمَّام، وهو في "ديوانه":
إنَّ الهِلالَ إذا رأيتَ نُمُوَّهُ
…
أيقَنْتَ أن سيكون بدرًا كاملا
يُنظَر: "شرح الصُّولي"(3/ 334)، و"شرح الخطيب التبريزي"(4/ 115).
"الاعتصام" للإمام أبي إسحاق الشاطبي المالكي، صاحب كتاب "الموافقات" في أصول الفقه، و"الباعث في ذمِّ البدع والحوادث" للإمام أبي شامة الشافعي، و"المدخل" لابن الحاج المالكي، ورسائل أخرى، وفصول في بعض الكتب.
وأعظم ذلك وأجلُّه: كتاب "الاعتصام"، إلَّا أنَّه كبير الحجم، تحرَّى مؤلِّفه رحمه الله أن يطيل البحث في كل فرع، ويذكر الوجوه المحتملة، وكيف يرجح بعضها على بعض، مع تطبيق ذلك على القواعد الأصولية، وكثيرًا ما يذكر الأحاديث والآثار، ولا يسندها إلى الكتب المعروفة، ولا يبيِّن حالها من الصِّحة وغيرها، فيكاد لا يستفيد منه إلَّا كبار العلماء.
فأردتُ أن أجمع رسالة صغيرة أعتني فيها بتحقيق حقيقة البدعة المذمومة شرعًا، وأوضح ذلك بالحجج الصريحة، وأتحرَّى أن يكون البيان على وجه يفهمه أكثر طلبة العلم، ويشاركهم العامي الذكي في فهم كثير منه، ومِن الله سبحانه أستمد التوفيق والمعونة.
تعريف السُّنَّة:
السُّنة في اللُّغة: الطريقة، وأكثر ما تستعمل في الطريقة المعنوية، يقال: سنَّ فلانٌ سنةً، أي: وقع منه أمر يتْبَعُه فيه غيره، ومن هذا سنن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وكثيرًا ما تطلق السُّنَّة ويراد بها مجموع السيرة، أي:"كل ما جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم من أقواله وأفعاله وتقريره وما همَّ بفعله"، كما في "فتح الباري" ج 13 ص 191
(1)
.
(1)
"الفتح"(13/ 245) السلفية.
ثم قد تُخصُّ بما عدا ما ثبت في القرآن، وعلى هذا يُقال: الكتاب والسنة.
وقد تعمّ ما ثَبَت في القرآن؛ لأنَّ القرآن ثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن سنته العمل به، وعلى هذا يقال:"أهل السُّنة".
فأما قولنا: "هذا سنة، وهذا بدعة"، فالسُّنة فيه: خاصٌّ بكل أمر ثبت بكتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه مطلوب على الفرض والوجوب، أو على أنَّه مندوب.
تعريف البدعة:
قال الحافظ ابن حجر في شرح حديث: "إنَّ أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهَدْي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وشر الأمور محدثاتها .. إلخ": "والمُحْدَثات بفتح الدال: جمع مُحْدَثة، والمراد بها ما أُحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمَّى في عُرْف الشرع: بدعة. وما كان له أصل يدلُّ عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عُرْف الشرع مذمومة، بخلاف اللُّغة، فإنَّ كل شيء أُحْدِث على غير مثال يسمَّى: "بدعة"، سواء كان محمودًا أو مذمومًا. وكذا القول في المُحْدَثة، وفي الأمر المُحْدَث، الذي ورد في حديث عائشة: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"
…
". "فتح الباري" ج 13 ص 195
(1)
.
وهذا الذي قاله في تفسير البدعة والمُحْدَثة هو المشهور بين العلماء. وحاصله: أنَّ البدعة والمُحْدَثة نُقلا عن معناهما اللُّغوي إلى معنى شرعي،
(1)
"الفتح"(13/ 253).
فإمِّا أن يكون النقل من الشارع، وإمَّا أن يكونا في كلام الشارع باقيين على المعنى اللُّغوي، ولكن قام الدليل على تخصيصهما، ثم شاع استعمالهما في المعنى الخاص.
وعلى هذا التعريف اعتراضات:
الاعتراض الأول: أنَّه يتناول المعاصي المُحْدَثة، التي يعترف أصحابها أنَّها معاصي.
ومن تأمَّل النصوص الواردة في ذمِّ البدع، والآثار التي فيها الحكم على بعض الأمور بأنَّها بدع تبيَّن له أنَّ الأمر لا يكون بدعة حتى يزعم صاحبه أنَّه من الدِّين، فلا يُقال لمسلم تَرَك الصلاة أو صوم رمضان لغير عذر معترفًا بفرضيَّتهما: مبتدع، وإن كان ذلك ممَّا أُحْدِث، وليس له أصل في الشرع؛ إذ لم يُنْقَل أنَّ ذلك وقع من أحد من المسلمين في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
ويمكن أن يُجاب بأنَّه إنَّما لم يصرِّح بإخراج المعاصي المُحْدَثة؛ لشهرة إخراجها، ولأنَّ المهم إنَّما هو تمييز البدعة المذمومة عما لا يُذَمُّ، والمعاصي مذمومة.
الاعتراض الثاني: أنَّه يتناول المباحات المُحْدَثة التي لم يدَّعِ أصحابها لها حكمًا غير الإباحة، كلبس الثياب التي لم تكن معروفة بين الصحابة في العهد النبوي، ويُجاب عن هذا بأنَّه خارجٌ بقوله:"ليس له أصل في الشرع"، وهذا ممَّا له أصل في الشرع، وهو أدلة الإباحة، كقوله تعالى:{خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29].
الاعتراض الثالث: أن يُقال: قوله: "ليس له أصل في الشرع" لا يخلو أن
يُراد بـ"الأصل": مُسْتَندٌ يُسنَد إليه الحادث وإن لم يصلح للاستناد، كاستناد الخوارج إلى قول الله عز وجل:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57]، واستناد غلاة المرجئة ــ القائلين بأنَّه لا يضر مع الإيمان عمل ــ إلى قول الله عز وجل:{لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [الليل: 15 ــ 16]، ونحو ذلك.
أو يُراد به مُسْتَندٌ يصلح للاستناد.
لا يصحُّ الأول حتمًا، وإلَّا لم يكن على وجه الأرض بدعة؛ إذ ما من بدعة إلَّا وأصحابها يتشبَّثون بآية، أو حديث، أو قياس، أو دعوى إجماع.
ولا الثاني؛ لأنَّ المفروض أنَّ المُحْدَث لم يكن موجودًا في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيكون قد تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتَرْكُه له حُجَّة بالغة على أنَّه ليس من الدين. وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله تعالى.
والجواب باختيار الثاني، وترك النبي صلى الله عليه وآله وسلم للشيء لا يستلزم أن لا يكون من الدِّين مطلقًا، بل أنْ لا يكون في الدين في مثل الحال التي تركه فيها صلى الله عليه وآله وسلم.
فقد يكون الأمر من الدين بدلالة الكتاب والسنة، ولكنَّه موقوف على وجود أمر آخر لم يقع في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم وقع بعده، وذلك كركوب البواخر والقطار والسيَّارات والطيَّارات للحج، وكالقتال بالبنادق والمدافع في الجهاد.
فقد قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}
[آل عمران: 97]، وركوب الطيّارة ــ مثلًا ــ سبيل. وقال سبحانه:{وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60] والبنادق والمدافع قوَّة.
وواضح أنَّ البواخر والقطار والسيَّارات والطيَّارات والبنادق والمدافع لا يمكن استعمالها قبل وجودها، فَترْكُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم استعمالها إنَّما كان لعدم وجودها حينئذٍ، فلا يكون مثل هذا الترك حُجَّة يُرَدّ بها دلالة الآيتين المذكورتين وغيرهما، وقس على هذا.
قال ابن حجر المكي في "الفتاوى الحديثية" ص 200: "وفسَّر بعضهم البدعة بما يعمُّ جميع ما قدَّمنا وغيره، فقال: هي ما لم يقم دليل شرعي على أنه واجب أو مستحب، سواء أَفُعِل في عهده صلى الله عليه وآله وسلم، أو لم يفعل، كإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب
(1)
، وقتال التُّرْك
(2)
، لمَّا كان مفعولًا بأمره لم يكن بدعة، وإن لم يُفْعَل في عهده، وكذا جمع القرآن في المصاحف
(3)
، والاجتماع على قيام شهر رمضان، وأمثال ذلك ممَّا ثبت
(1)
يشير إلى ما أخرجه البخاري (3035) ومسلم (1637) وغيرهما، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال:"أخرجوا المشركين من جزيرة العرب .. " الحديث. وما أخرجه مسلم (1767) وغيره، من حديث عمر صلى الله عليه وسلم: أنَّه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لأخرجنَّ اليهود والنَّصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلَّا مسلمًا".
(2)
يشير إلى ما أخرجه البخاري (2927) ومسلم (2912) وغيرهما، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك .. " الحديث.
(3)
يشير إلى ما أخرجه البخاري (4679) وغيره، من حديث زيد بن ثابت في قصَّته مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهم في جمع القرآن.
وجوبه أو استحبابه بدليل شرعي، وقول عمر رضي الله عنه في التراويح:"نِعْمَت البدعة هي"
(1)
أراد البدعة اللُّغوية، وهو ما فُعِل على غير مثال، كما قال تعالى:{قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9]، وليست بدعة شرعًا، فإن البدعة الشرعية ضلالة كما قال صلى الله عليه وآله وسلم.
ومن قسَّمها من العلماء إلى حسنٍ وغير حسنٍ فإنَّما قسَّم البدعة اللُّغوية، ومن قال:"كل بدعة ضلالة" فمعناه البدعة الشرعية، أَلَا ترى أنَّ الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان أنكروا فرضية غير الصلوات الخمس، كالعيدين، وإن لم يكن فيه نهي، وكرهوا استلام الركنين الشاميين، والصلاة عقيب السَّعي بين الصفا والمروة قياسًا على الطواف، وكذا ما تركه صلى الله عليه وآله وسلم مع قيام المقتضي، فيكون تركه سنة، وفعله بدعة مذمومة.
وخرج بقولنا: "مع قيام المقتضي في حياته تركه" إخراجُ اليهود من جزيرة العرب، وجمعُ المصحف، وما تركه لوجود المانع كالاجتماع للتراويح؛ فإنَّ المقتضي التام يدخل فيه عدم المانع".
أقول: وهذا التفسير أحسن من التفسير السابق، وإن كان المآل واحدًا.
ولك أن تقول في تعريف البدعة: "هي كل أمر أُلصق بالدين ولم يكن من هَدْي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا بالفعل ولا بالقُوَّة"
(2)
، فقولك:"ولا بالقُوَّة" يخرج
(1)
أخرجه البخاري (2010) وغيره، من حديث عبد الرحمن بن عبدٍ القاري.
ولفظ البخاري: "نِعْمَ البدعة هذه"، وقوله:"نِعْمَت" بالتاء هو إحدى روايات البخاري، كما في "الفتح"(4/ 253).
(2)
يعني: بالقدرة على فعله؛ لأنَّ المقصود بالقُوَّة: الاستعداد والإمكان الذي في الشيء لأنْ يوجد بالفعل. يُنظَر: "المعجم الفلسفي" لجميل صليبا (2/ 202).
به كل ما لم يقع في العهد النبوي لعدم المقتضي أو لوجود مانع؛ إذ قد قام الدليل على أنَّه لو وُجِد المقتضي أو زال المانع لَمَا تركه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهو من هديه بالقوة.
ولك أن تستغني بقولك: "كل أمر أُلصق بالدين، ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم "؛ فإنَّ هَدْيه هو سُنَّته، والدليل الدَّال على أمرٍ أنَّه من الدِّين وأنَّه إنَّما تركه صلى الله عليه وآله وسلم لعدم مقتضيه، أو لوجود مانع عنه في حياته= لا بد أن يكون ذلك الدليل من أقسام السُّنَّة.
وأبلغ من هذا كلِّه أن يُقال: إنَّ كلمتي "البدعة" و"المُحْدَثة" الواردتين في الأحاديث باقيتان على معناهما اللغوي، ولكن ليس المراد بهما صورة الفعل، وإنَّما المراد الحكم المزعوم له وجوبًا، أو ندبًا، أو غيرهما من الأحكام الشرعية التكليفية والوضعية.
فمَن زعم أنَّ التَّختُّم بالعقيق واجب، أو مندوب، أو حرام، أو مكروه، فقد ابتدع؛ لأنَّ هذا الحكم الذي زَعَمَه مُحْدَث.
وهكذا من زعم أنَّ شرب قليل الخمر مباح لِمَن وَثِق من نفسه أنَّ قليله لا يجرُّه إلى كثيره فقد ابتدع؛ لأنَّ هذا الحكم ــ وهو الإباحة ــ في تلك الحال مُحْدَث.
وكذا من زعم أنَّ الغِنَى شرط لصحة النكاح، أو سبب تام لوجوبه، أو مانع من وجوب صوم رمضان، أو أنَّ صوم مَن شَرِب الدَّواء عمدًا صحيح، أو أنَّ صوم من تعطَّر عمدًا باطل.
فإن قلتَ: لكن السَّلف كثيرًا ما يطلقون على الأفعال أنفسها أنَّها "بدع"،
كإخراج المنبر يوم العيد، وتقديم خطبة العيد على الصلاة
(1)
، وأطلق بعض الصحابة البدعة على الاضطجاع بعد سُنَّة الفجر
(2)
، وعلى القنوت في الفجر
(3)
، وعلى صلاة الضحى
(4)
.
(1)
يشير إلى ما أخرجه البخاري (956)، ومسلم (889) وغيرهما، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في قصَّته مع مروان بن الحكم، حين قدَّم خطبة العيد على الصلاة وخطب على منبرٍ صنعه كثير بن الصَّلت.
(2)
يشير إلى ما ساقه عبد الرزاق (3/ 42 - 43)، وابن أبي شيبة (4/ 387 - 389)، والبيهقي في "الكبرى"(3/ 46)، من آثار عدَّةٍ، عن جمع من الصَّحابة والتابعين رضي الله عنهم في تبديع الاضطجاع بعد راتبة الفجر أو كراهة ذلك أو النهي عنه.
(3)
يشير إلى ما أخرجه الترمذي (402)، والنسائي في "الكبرى"(1080)، وابن ماجه (1241)، وأحمد (3/ 472)، (6/ 394)، وغيرهم، من حديث أبي مالك الأشجعي قال: قلتُ لأبي، يا أبت إنَّك قد صلَّيت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي بن أبي طالب ههنا بالكوفة نحوًا من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أي بُنَيَّ مُحْدَثٌ".
قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصحَّحه الألباني في "الإرواء"(435).
وقد ساق عبد الرزَّاق (3/ 105 - 108، 111)، وابن أبي شيبة (5/ 21 - 29)، والبيهقي في "الكبرى"(2/ 213 - 214) جملة آثارٍ عن جمع من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم في تركهم القنوت في الفجر أوالقول بعدم مشروعيَّته.
(4)
يشير إلى ما أخرجه البخاري (1775)، ومسلم (1255)، وغيرهما، من حديث مجاهد قال: دخلتُ أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما جالسٌ إلى حجرة عائشة، وإذا ناسٌ يصلُّون في المسجد صلاة الضُّحى، قال: فسألناه عن صلاتهم، فقال:"بدعةٌ".
وقد ساق الحافظ ابن حجر في "الفتح"(3/ 52) عدَّة آثار بأسانيد صحَّحها عن ابن عمر رضي الله عنه تسميته لها بالبدعة والمُحْدَثة، ثم قال رحمه الله:"وفي الجملة: ليس في أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضُحى؛ لأنَّ نفيه محمولٌ على عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع في نفس الأمر، أو الذي نفاه صفة مخصوصةٌ .. قال عياض وغيره: إنَّما أنكر ابن عمر ملازمتها، وإظهارها في المساجد، وصلاتها جماعة، لا أنَّها مخالفة للسُّنَّة .. ".
وينظر أيضًا: مصنَّف عبد الرزَّاق (3/ 78 - 81)، ومصنَّف ابن أبي شيبة (5/ 253 - 257).
قلتُ: لِقائلٍ أن يقول: إنَّ ذلك كله تجوُّز سهَّلَه ما بين الأفعال وأحكامها من التلازم، فإنَّ من أخرج المنبر يوم العيد، وقدَّم الخطبة على الصلاة يدلُّ فعلُه ذلك على أنَّه يزعم أنَّه جائز، أو مندوب، فهذا الحكم المزعوم هو البدعة في الحقيقة، والفعل قرينة عليه.
وأمَّا بقية الأمور المذكورة فلا إشكال فيها؛ لأنَّ من أطلق على الاضطجاع بعد سُنَّة الفجر أنَّه بدعة إنَّما أطلقه لمَّا رأى قومًا يتحرَّونه زاعمين أنَّه سُنَّة، وأوضح من ذلك حال القنوت، وصلاة الضحى، فإنَّ من يقنت إنَّما يقنت زاعمًا أنَّ القنوت سُنَّة، وكذا من يصلِّي الضُّحى.
والذي ينبغي أن يعتمد في تعريف البدعة هو التعريف الثالث، أي:"أمر أُلْصِق بالدِّين، ولم يكن من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا بالفعل ولا بالقوَّة".
الرسالة الرابعة
الحنيفيَّة والعَرَب
الحَنيفيَّة والعَرَب
الحنيفيَّة مِلَّة إبراهيم عليه السلام، وبقيت بعده في ابنَيْه إسماعيل وإسحاق وذريَّتهما. فأمَّا إسحاق فكان ابنه يعقوب ــ وهو إسرائيل ــ نبيًّا، وجرى له مع بَنِيه ما جرى.
وكان يوسف بن يعقوب نبيًّا، وبسببه صار يعقوب وذريَّته إلى مصر، وبها مات. ثم مات يوسف، وبقي بنو إسرائيل هناك مضطهدين، حتى بعث الله تعالى موسى وهارون.
وأخبار بني إسرائيل مع موسى تدلُّ على أنَّ دينهم قد ضعُف جدًّا، مع أنَّه ليس بين وفاة يوسف ومبعث موسى إلَّا نحو مائة سنة.
ثم أنزل الله تعالى على موسى التوراة، وصارت له شريعةٌ مستقلَّة، ولكن بني إسرائيل لم يكادوا ينتفعون بها! أنجاهم الله من فرعون، فمرُّوا بقومٍ يعبدون أصنامًا، فقالوا لموسى:{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} ! [الأعراف: 138].
ثم دعاهم موسى إلى قتال عدوٍّ لهم، وأخبرهم أنَّ الله تعالى وعَدَهُم النَّصر، فقالوا لموسى:{فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ! [المائدة: 24].
وعبدوا العِجْل، وفعلوا الأفاعيل.
وبعد موسى عليه السلام بقليلٍ ارتدُّوا وعبدوا الأوثان، ثم أظهروا التوبة، ثم عادوا.
وهكذا، لم يكد الدِّين يستقرُّ فيهم، مع أنَّ الله تعالى لم يَزَل يبعث فيهم بعد موسى نبيًّا بعد نبيٍّ، وقد يجتمع في وقتٍ نبيَّان أو أكثر، ولم يكد ذلك يؤثِّر فيهم.
بل كذَّبوا كثيرًا من الأنبياء، وآذوهم، وقتلوا بعضهم، وكان يتنبأُ فيهم رجال ونساء، يماشون أهواءهم، فيصدِّقون الكاذب، ويكذِّبون الصَّادق، حتى بعث الله تعالى عيسى، فكذَّبوه وأرادوا قتله.
وأمَّا إسماعيل فإنَّ أباه أسكنه في بلاد العرب بمكَّة المكرَّمة، فنَشَأ بها، وبنى مع أبيه الكعبة البيت الحرام، وتزوَّج إسماعيل من العرب، ونَشَأ بنوه عَرَبًا، واستجاب من العرب للحنيفيَّة من استجاب.
وبقاء البيت معمورًا، والحرمِ معظَّمًا، وما عُرِف عن العرب قاطبةً أنَّهم لم يزالوا يعظِّمون مكَّة والبيت، ويحجُّونه، سواء منهم من كان من ذريَّة إسماعيل، ومن كان من غيرهم = يدلُّ على ذيوع الحنيفيَّة في العرب ورسوخها.
وقد قامت الأدلَّة ــ كما يأتي ــ على أنَّ الدِّين الحقَّ بقي في عرب الحجاز وما حولها فوق عشرين قرنًا بعد إبراهيم عليه السلام، ثم غيَّروا أشياء، وبقوا متمسِّكين بأشياء، حتى بعث الله خاتم أنبيائه، محمدًا صلى الله عليه وسلم.
في «مجموعة كتب أهل الكتاب» ، الترجمة المطبوعة ببيروت سنة 1870 م
(1)
، في الفقرة (10 - 11)، من الإصحاح الثاني، من «سفر أرميا» ،
(1)
في مقدِّمة الطبعة المعرَّبة الحديثة أنَّ هذه الطبعة انتهوا من إصدارها عام 1881 م، ولكنَّهم أعادوا النَّظر في هذه التَّرجمة عام 1949 م، فأخرجوها في ترجمةٍ أفضل من حيث الأسلوب والتَّراكيب، مع العناية بفنِّ الطباعة، وأتمُّوا العمل فيها عام 1980 م.
وقد بيَّنتُ الفروق المهمَّة الظَّاهرة بين نصِّ التَّرجمة عند المؤلِّف ممَّا يخالف التَّرجمة الحديثة المشار إليها.
في صَدَد توبيخه اليهودَ على عبادة الأصنام: «لذلك أخاصمكم بعد. يقول الربُّ: وبني نبيِّكم أخاصم، فاعبروا جزائر كتيم، وانظروا، وأرسلوا إلى قيدار، وانتبهوا جدًّا، هل صار مثل هذا؟ هل بدَّلت أمَّةٌ آلهةً، وهي ليست آلهةً؟ أمَّا شعبي [يعني: بني إسرائيل] فقد بدَّل مجده بما لا ينفع»
(1)
.
ففي هذا أنَّ «بني قيدار» كانوا في عهد «أرميا» ثابتين على الدِّين الحق.
وقيدار هو: ابنُ إسماعيل عليه السلام، كما في الفقرة (13) من الإصحاح (25) من «سفر التَّكوين»
(2)
.
وفي الفقرة (13 - 17) من الإصحاح (21) من «سفر أشعيا» : «وَحْيٌّ من بلاد العرب، من الوعر من بلاد العرب
…
في مدَّة سنى كسنى الأجير يفنى كلُّ مجدِ قيدار، وبقيَّة عدد قسي بني قيدار تقل»
(3)
. يعني: أنَّه سيغزوهم مَلِك بابل.
(1)
بنحو هذه الترجمة في الطبعة الحديثة (ص 1645).
(2)
في الأصل: «الإصحاح (15)» ، ولعلَّ الصواب ما أثبتُّ؛ إذ الذي في (15/ 13):«فقال لأبرام: اعْلم يقينًا أنَّ نَسْلَك سيكون غريبًا في أرضٍ ليست لهم، فيذلُّونهم أربعمائة سنة» . وهذا النصُّ ليس فيه كلام عن كونه ابن إسماعيل.
أمَّا الذي فيه الكلام عن هذا الأمر فهو في (25/ 13) من «سفرالتَّكوين» ، (ص 104 الطبعة الحديثة):«هذه أسماء بني إسماعيل بحسب أسمائهم وسلالتهم: نبايوت بِكرُ إسماعيل، وقِيدار، وأدْبَئيل، ومِبْسام .. » .
(3)
(ص 1560 - 1561) في الطبعة الحديثة منه، بنحوه.
ففي الفقرة (28)، من الإصحاح (49)، من «سفر أرميا»: «عن قيدار وعن ممالك حاصور التي ضَرَبَها نبوخذ راصر
(1)
ملك بابل، هكذا قال الرب: قوموا، اصعدوا إلى قيدار».
و«حاصور» هذه يقول مؤرِّخُو العرب إنَّها «حَضُور» من بلاد اليمن، وأنَّ مَلِك بابل
(2)
لمَّا غزا العرب بَلَغَها وبَطَش بأهلها
(3)
.
وفي الفقرة (21)، من الإصحاح (27)، من «سفر حِزْقِيال»:«العَرَب وكل رؤساء قيدار هم تجَّار يدك»
(4)
.
وانظر الفقرة الخامسة، من الإصحاح (120)، من «المزامير»
(5)
، والفقرة الخامسة، من الإصحاح الأول، من «نشيد الأنشاد»
(6)
، والفقرة
(1)
(ص 1728) من الطبعة الحديثة، ولفظه:«إلى قيدار وممالك حاصور .. نبوكدنصَّر» .
(2)
يسمِّيه العرب: «بختنصَّر» . [المؤلِّف].
(3)
يُنظَر: «نسب معد واليمن الكبير» لابن الكلبي (5/ 539)، و «صفة جزيرة العرب» للهمداني (ص 83)، و «تاريخ الرسل والملوك» للطَّبري (1/ 585)، و «معجم البلدان» لياقوت (2/ 272)، وغيرها.
وقد ردَّ الدكتور جواد علي في «المفصَّل في تاريخ العرب قبل الإسلام» (1/ 348 - 352) = بكلام مفصَّل دعوى أنَّ «حاصور» هي «حضور» ، وبيَّن أنَّ من قال ذلك من الإخباريين قلَّدوا فيه ابن الكلبي، وأنَّ «حاصور» أراض لعربٍ كانت ديارهم جنوب فلسطين أوشرقها.
(4)
في الطبعة الحديثة (ص 1814): «من زبائنك» ، بدل «تجَّار يدك» .
(5)
فيه (ص 1286): «ويلٌ لي فإنِّي في ماشك نزلتُ، وفي خيام قيدار سكنتُ» .
(6)
فيه (ص 1381): «أنا سوداء ولكنني جميلة يا بنات أورشليم، كخيام قيدار .. » .
(11)
، من الإصحاح (42)، من «سفر أشعيا»
(1)
، والفقرة السَّابعة، من الإصحاح السِّتِّين، منه أيضًا
(2)
.
هذه النُّقول مأخوذةٌ من مجموعة كتب القوم، من الطَّبعة التي تقدَّم ذكرُها.
وممَّا يلفِت النَّظر أنَّ الطَّابِعِين التزموا في الأسماء التي تقع في المتن أن يشيروا عليها، وينبِّهوا في الهامش على المواضع الأخرى التي وَرَد فيها ذلك الاسم من المجموعة. وكذلك صنعوا باسم قيدار، ما عدا الموضع الذي بدأتُ بنقله، وفيه الدِّلالة على ثبات بني قيدار على الدِّين الحق؛ فإنَّهم أغفلوه فلم ينبِّهوا هناك على أنَّ هذا الاسم وقع في موضع أو مواضع أُخَر، ولا نبَّهوا في بقيَّة المواضع على هذا الموضع، كأنَّهم يحاولون إخفاءه
(3)
!
قيدار بن إسماعيل هو جدُّ العَرَب العدنانيين، وعدنان هو الجدُّ الموفي عشرين في أجداد النَّبي صلى الله عليه وسلم.
(1)
فيه (ص 1594): «لترفع البرية ومدنها صوتها، والحظائر التي يسكنها قيدار» .
(2)
وفيه (ص 1623): «كل غنم قيدار تجتمع إليك، وكباش نبايوت تخدمك» .
(3)
ثم أحالوا إليها في الطبعة الحديثة منه (ص/1645) إلى «سفر التَّكوين» 25/ 13، و «سفر إشعيا» 21/ 16، ولكنَّهم شرحوه بقولهم:«قيدار: قبيلة بدويَّة، من قبائل عبر الأردن» !
وهذا فيه تناقضٌ مع نص ما في الموضع الذي أحالوا عليه من «سفر التَّكوين» ، إذ كيف يكون ولد إسماعيل، وهو في مكَّة، ثم يقال إنَّها قبيلة بالأردن! إلَّا أن يُراد أنَّهم ولَدُه، وأنَّهم نزحوا إليها، وهذا يخالف ما يقرِّره المؤلِّف ههنا ــ كما سيأتي ــ واستشهاده بشعر قصي بن كلاب وكلام النسَّابة والمؤرِّخين= من أنَّ أولاد قيدار أو قيذر كانوا بمكَّة، وهم أولاد عدنان، الذين بُعِث فيهم النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وفي «السِّيرة» وغيرها
(1)
: أنَّ قُصَيَّ بن كلاب ــ وقُصَيٌّ هو الجدُّ الرابع للنَّبي صلى الله عليه وسلم ــ لمَّا كان يسعى للاستيلاء على مكَّة قال:
أنا ابنُ العاصِمِين بني لُؤَيٍّ
…
بمكَّة منزلي وبها ربيتُ
إلى البَطْحاءِ قد علِمَتْ مَعَدٌّ
…
ومَرْوَتها رضِيتُ بها رضِيتُ
فلستُ لغالبٍ إنْ لم تَأثَّلْ
…
بها أولاد قَيْذَر والنَّبيتُ
رزاحٌ ناصِري وبه أُسَامِي
…
فلستُ أخافُ ضَيْمًا ما حَيِيتُ
القافية مرفوعةٌ كما ترى.
و «قيذر» هو «قيدار» نفسه، هكذا ينطق به العرب، كما في كتب اللُّغة وغيرها
(2)
.
والنَّبيت أُرِيد بهم أولاد ابن إسماعيل الآخر، واسمه في «التوراة»: نبايوت
(3)
، وقد كان بالشام قومٌ يُقال لهم: النَّبَط بفتحتين، والنَّبِيط أيضًا.
وفي «صحيح البخاري» ، في باب السَّلَم
(4)
، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: «كُنَّا نُسلِف نبيط أهل الشَّام في الحنطة والشَّعير والزَّيت
…
».
(1)
همَّش المؤلف في هذا الموضع ثم لم يكتب شيئًا. وهو في «السيرة النبويَّة لابن هشام» (1/ 260)، و «البداية والنهاية» لابن كثير (3/ 241 - 242).
(2)
يُنظر: «لسان العرب» (5/ 82)، و «تاج العروس» (13/ 386).
(3)
من ذلك: ما تقدَّم في «سفر التكوين» ، وفيه أيضًا:(تكوين: 28/ 9): « .. فمضى عيسو إلى إسماعيل، فتزوَّج مَحْلَة بنت إسماعيل بن إبراهيم أخت نبايوت .. » . وفيه أيضًا (تكوين: 36/ 3): «وبسمة بنت إسماعيل، أخت نبايوت» .
(4)
كتاب السَّلَم، باب السَّلَم إلى من ليس له أصلٌ (2/ 125) السَّلفية.
وفي «فتح الباري»
(1)
: «قوله: «نبيط أهل الشَّام» .. هم قومٌ من العرب، دخلوا في العَجَم والرُّوم، واختَلَفَت أنسابُهم، وفَسَدَت ألسنتُهم، وكان الذين اختلطوا بالعَجَم منهم ينزلون البَطائِح بين العِراقَين، والذين اختلطوا بالرُّوم ينزلون في بوادي الشَّام، ويُقال لهم:«النَّبَط» بفتحتين، و «النَّبِيط» .. قيل: سُمُّوا بذلك لمعرفتهم بإنباط الماء
…
».
(2)
في مادة «عَرَب» : «دولة الأنباط: ذكر العَرَب دولة الأنباط في كتبهم، وأرادوا بهم أهل العراق، وقد تحقَّق المنقِّبون في الآثار، والمتَتَبِّعون لتاريخ اليونان والرومان، وما ذُكِر في «التَّوراة» أنَّ دولة الأنباط كانت عربيَّة، قامت بمشارف الشَّام
…
اختلف المؤرِّخون في أصل الأنباط، فقال قومٌ: إنَّهم من نسل نبايوط بن إسماعيل، متابعين في ذلك ما قالته التَّوراة .. ».
وذكر أنَّهم ملكوا مملكة أدوم «قبل القرن الرَّابع للميلاد، وبقيت [دولتُهم] إلى أوائل القرن الثاني بعده، حتى دخلت في حوزة الرُّومان سنة 106»
(3)
.
وذكر بعد ذلك دول قُضَاعة، وأنَّها خلفت دولة النَّبَطِيين تحت رعاية الرُّومان، وكانت قُضَاعة بالشَّام
(4)
.
(1)
(4/ 431) السَّلفية.
(2)
ج 6 ص 233. [المؤلِّف].
ويقصد به: «دائرة معارف القرن العشرين» ، لمؤلِّفها: محمد فريد وجدي.
(3)
«دائرة معارف القرن العشرين» (6/ 234).
(4)
المصدر السابق (6/ 246).
وقُصَي بن كلاب قائل الأبيات المتقدِّمة وُلِد بمكَّة، ومات أبوه وهو صغير، فتزوَّج أمَّه رجلٌ من قضاعة، وذهب بها وقُصَيٌّ معها إلى بلاده، وولَدَت له رزاحًا، الذي استنصره قُصَيٌّ في شعره؛ لأنَّه أخوه لأمِّه، ونشأ قُصَيٌّ في بلاد قضاعة، ثمَّ عاد إلى مكَّة بعد أن كبر وسعى في الاستيلاء على مكَّة، وفي ذلك الصَّدد قال تلك الأبيات.
فمن المعقول أن يكون ــ إذ كان في الشَّام بلاد قضاعة ــ قد تعرَّف إلى «النَّبيط» ، أو «النَّبيت» ، أو «النَّبَت» ــ كما اقترحه السَّيِّد محبُّ الدِّين الخطيب ــ، وقد لا يبعد أن يكون بعض قضاعة حينئذٍ كان ينسبُ قضاعة إلى النَّبيت، ولكن هذا لم يشتهر، وإنَّما ذكر النَّسَّابون الخلاف في «قضاعة» ، أعدنانيَّةٌ أم قحطانيَّةٌ؟
بقي أنَّ أكثر الروايات في نسب عدنان تنسبه إلى «نبت» أو «نابت» بن قيذر بن إسماعيل، وبعضها يُسقِط «نبتًا» ، وبعضها يذكر أنَّ «النَّبيت» لقبٌ لـ «قيذر» .
وجاء في بعض الروايات: نبت بن إسماعيل، بإسقاط «قيذر» .
وقد دلَّ شعر قُصَيٍّ أنَّ «النَّبيت» غير أولاد «قيذر» ، ولا مانع أن يسمَّى «ابن قيذر» باسم عمِّه أونحوه، فـ «عدنان» من ولد «قيذر» ، ونبيط الشَّام ــ وكذا العراق فيما يظهر ــ من «نبايوت» .
كان «أرميا» قبل ميلاد عيسى بنحو ستَّة قرون، وبعد إبراهيم ببضع عشرة قرنًا، فقوله لليهود:«وأرسِلوا إلى قيدار، وانتبهوا جدًّا هل بدَّلت أُمَّةٌ آلهة وهي ليست آلهة» = إشارة إلى أنَّ بني قيدار ثابتون على الدِّين الحق، مع بُعد
عهدهم بإبراهيم وإسماعيل، ولم يكن فيهم بعدهم إلى ذاك التاريخ نبيٌّ، مع أنَّ اليهود غيَّروا وبدَّلوا مرارًا، رغمًا عن كثرة الأنبياء المتتابعين فيهم. هذا مع تبجُّح بني إسرائيل بأنَّهم أبناء الحُرَّة، وأنَّ بني إسماعيل أبناء أَمَةٍ.
وفي الإصحاح الرَّابع والخمسين، من «سفر أشعياء»
(1)
:
«تَرَنَّمي أيَّتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنُّم أيتها التي لم تمخض؛ لأنَّ بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل
…
لأنَّك تمتدِّين إلى اليمين وإلى اليسار، ويرث نسلك أُممًا، ويعمِّرُ مُدُنًا خَرِبة، لا تخافي لأنَّك لا تخزين
…
بالبر تثبتين بعيدة عن الظُّلْم، فلا تخافين، وعن الارتعاب فلا يدنو منك
…
كلُّ آلةٍ صورت ضِدَّك لا تنجح، وكلُّ لسانٍ يقوم عليك في القضاء تحكمين عليه
…
».
ذكر صاحب «إظهار الحقِّ»
(2)
هذه العبارة، ثم قال: «المراد بالعاقر
…
مكَّة المعظَّمة
…
»، وأطال في ذلك.
وحاصله ــ مع تعديلٍ ــ أنَّ الخطاب هنا لا يصلح أن يكون لمدينة القدس «أورشليم» .
أولًا: لأنَّها ليست بعاقر، بل قام بها عددٌ من الأنبياء، بخلاف مكَّة؛ فإنَّه لم يُولَد بها نبيٌّ حتى ذاك العهد، وإنَّما جاء إبراهيم بابنه إسماعيل طفلًا،
(1)
من الفقرات: (1، 3، 4، 14، 17) الطَّبعة الحديثة (ص 1615 - 1616) بنحو لفظه.
وفيه من التَّغاير في اللَّفظ: في فقرة 1: «فإنَّ بني المهجورة أكثر من بني المتزوِّجة» ، وفي فقرة 14:«فإنَّك لا تخافين، وعن الدَّمار فإنَّه لا يدنو منك» ، وفي فقرة 17:«كل سلاحٍ صُنِع عليك لا ينجح، وكلُّ لسانٍ يقوم عليك في القضاء تردِّينه مجرمًا» .
(2)
ج 2 ص 140، وفي الألفاظ اختلاف لأنَّه نقل من ترجمةٍ أخرى. [المؤلِّف].
وتُنظر الطبعة الجديدة (4/ 1160) بتحقيق: الملكاوي.
فأسكنه بها.
ثانيًا: لأنَّ في العبارة مقابلة بين اثنتين، متوحِّشة ــ وفي «إظهار الحق»: وحشيَّة
(1)
ــ وغيرها، ولم تكن أورشليم وحشيَّة، بخلاف مكَّة.
وفي «إظهار الحق»
(2)
: «وقع في حقِّ إسماعيل في وعد الله هاجر: هذا سيكون إنسانًا وحشيًّا»
(3)
.
ثالثًا: لأنَّ بقيَّة الأوصاف، من الأمن وتسلُّط النسل على أُمَمٍ، ودحر القاصد بالسُّوء = كلُّ هذا لا نصيب فيه لأورشليم، وهو حاصلٌ لمكَّة قطعًا. وكان أشعيا قريبًا من أرميا، فكما ذكر أرميا بني قيدار بن إسماعيل، وبيَّن فضلهم على بني إسرائيل فكذلك ذكر أشعيا مكَّة وبيَّن فضلها على أورشليم.
وصاحب «إظهار الحق» حَمَل المتوحِّشة أو الوحشيَّة على هاجَر، وذات البعل على سارة
(4)
.
والأشبه بالسِّياق أنَّ الأُولى: مكة، والثانية: أورشليم.
هذا وإنَّ بني قيدار استمرُّوا على الثَّبات على الدِّين الخالص بعد أرميا بضعة قرون؛ فقد تضافرت الأحاديث الصَّحيحة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بأنَّ أوَّل مَن غيَّر دين إبراهيم، ودعا إلى عبادة الأصنام ــ يعني: بمكَّة وحواليها ــ عمرو بن عامر بن لُحَيٍّ.
(1)
وفي الطَّبعة الحديثة (ص 1615) فقرة 1: «المهجورة» .
(2)
(4/ 1160) ت: الملكاوي.
(3)
وفي الطبعة الجديدة منه (في سفر التَّكوين 16/ 12، ص 91): «ويكون حمارًا وحشيًّا» !
(4)
المصدر السابق.
انظر تلك الأحاديث مجموعةً في «فتح الباري» ، كتاب الأنبياء، باب قصَّة خزاعة، وفي «الإصابة» ، ترجمة أكثم بن الجون
(1)
.
و «عمرو» هذا نُسِب في الحديث
(2)
: «عمرو بن عامر بن لُحَيِّ بن قِمَّعة» ، فعلى هذا هو: عمرو بن عامر بن لُحَيِّ بن قِمَّعة بن إلياس بن مُضر بن نِزار بن معد بن عدنان.
لكن المشهور بين النسَّابين أنَّه: عمرو بن عامر بن ربيعة بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو ــ مزيقيا ــ بن عامر بن حارثة، ورفعوا نَسَبَهُ إلى الأزد، ثم إلى سَبَأ، ثم إلى قحطان.
وحقَّق بعض النَّسَّابين
(3)
أنَّ لُحَيًّا وربيعة واحد، الأول لقب، والثاني اسم. وأنَّه: ابن قمعة، ولكن قمعة مات ولُحَيٌّ صبيٌّ، فتزوَّج أمَّه حارثة بن ثعلبة الأزدي، وتبنَّى حارثةُ لُحَيًّا فمن ثَمَّ نُسِب إليه، ونُسِب هو وولده إلى الأزد.
ويظهر أنَّ هذا تحقيقٌ بالغٌ، وإن حكاه بعضهم بلفظ «زعم» !
وقد ذكر أبو الفداء في «تاريخه»
(4)
قصَّة عمرو بن لُحَيٍّ، ثم قال: «ذكر
(1)
«الفتح» (6/ 548 - 549)، و «الإصابة» (1/ 107).
(2)
يُنظر هذا الحديث وغيره في: «الفتح» (6/ 548 - 549).
(3)
يُنظر: «الروض الأُنُف» للسُّهيلي (1/ 347).
(4)
ج 1 ص 80 [المؤلِّف]. ويُنظَر: طبعة دار المعارف (1/ 99 - 100).
وكلام الشِّهْرستاني في كتابه «المِلَل والنِّحَل» (2/ 580)، وقد نصَّ فيه أنَّه سابور ذوالأكتاف، فقال:«وكان ذلك في أول ملك شابور [كذا!] ذي الأكتاف» ، فلم يعد للاحتمال وجه.
الشَّهْرستاني أنَّ ذلك كان في أيَّام سابور، كان قبل الإسلام بنحو أربعمائة سنة، إن كان سابور بن أزدشير بن بابك.
وأمَّا إن كان سابور ذا الأكتاف فهو أبعد من الصَّواب؛ لأنَّه بعد سابور الأول بمدَّة كثيرةٍ».
وكان بين موت سابور بن أزدشير وبين مولد النَّبي صلى الله عليه وسلم ــ على ما يُعلم من «تاريخ أبي الفداء» نفسه ــ ثلاثمائة واثنتان وعشرون
(1)
سنة. فبين موت سابور والبعثة النبويَّة ثلاثمائة واثنتان وستون سنةٍ
(2)
.
ويظهر أنَّ قصَّة عمرو بن لُحَيٍّ كانت قبل موت سابور بقليل؛ فإنِّي تتبَّعتُ أنساب من يُنسب من الصَّحابة إلى عمرو بن لُحَيٍّ فوجدت أكثرهم لا تزيد الوسائط بينهم وبين عمرو على تسع، والقاعدة التاريخيَّة المبنيَّة على الأوسط: أنَّه في كلِّ قرنٍ ثلاثة آباء.
وبمعنى ما في «تاريخ أبي الفداء»
(3)
وغيره أنَّ بين وفاة إبراهيم وبعثة
(1)
في الأصل: «اثنتين وعشرين» وفي السطر التالي: «اثنتين وستين» بالنصب، والوجه ما أثبت.
(2)
«المختصر في أخبار البشر» لأبي الفداء (100).
(3)
بيان هذا: أنَّ الذي ذكره أبو الفداء في «المختصر في أخبار البشر» (1/ 157) أنَّ بين الهجرة النَّبويَّة ومولد إبراهيم (2893) سنة على اختيار المؤرِّخين.
وقد ذكر أيضًا قبل ذلك (1/ 28) أنَّ إبراهيم عليه الصلاة والسلام مات وله (175) سنة. فلو طرحنا (175) عامًا من (2893) عامًا فستكون المدَّة الزمنيَّة بين هجرة النَّبي صلى الله عليه وسلم ووفاة إبراهيم عليه الصلاة والسلام هي (2718) عامًا.
وذكر أيضًا في (1/ 158) أنَّ بين بعثة النَّبي صلى الله عليه وسلم وهجرته (13) سنة، فلو طرحنا (13) عامًا من (2718) عامًا فسنصل إلى أنَّ المدَّة الزمنيَّة بين بعثة النَّبي صلى الله عليه وسلم وبين وفاة إبراهيم عليه الصلاة والسلام هي كما ذكرها المؤلِّف (2705) عامًا.
محمدٍ عليهما الصَّلاة والسَّلام ألفين
(1)
وسبعمائة وخمس سنين، فلْنفرض أنَّ قِصَّة عمرو بن لُحَيٍّ كانت قبل موت سابور بثلاث عشرة سنة؛ فيكون ذلك قبل البعثة بثلثمائة وخمس وسبعين سنة، فيكون بين ذلك وبين موت إبراهيم ألفان وثلثمائة وثلاثون سنة. بقي بنو قيدار هذه المدَّة بطولها على الحنيفيَّة الخالصة، هذا مع أنَّه لم يكن فيهم بعد إبراهيم نبيٌّ إلَّا إسماعيل، الذي توفِّي بعد أبيه بنحو خمسين سنة.
فأمَّا بنو إسرائيل فإنَّهم عبدوا العِجْل بعد إبراهيم بنحو ستمائة سنة، وقد كان فيهم من الأنبياء إسحاق، ثم يعقوب ــ وهو إسرائيل ـ، ثم يوسف، وعبدوا العِجْل وموسى وهارون بين أظهرهم، ولعلَّه قد كان منهم قبل موسى ما كان، ثم كان منهم بعده ما كان.
فبِحَقٍّ قيل لهم على لسان أرميا: «أرسلوا إلى قيدار، وانتبهوا جدًّا» .
وبِحَقٍّ كانت الوحشيَّة، العاقر، المجفوَّة = خيرًا من الإنسيَّة، الولود، الموصولة، كما مرَّ عن «سفر أشعيا» .
ومن هنا يظهر ــ والله أعلم ــ أنَّ تخصيص بني إسرائيل دون بني إسماعيل بكثرة الأنبياء إنَّما كان لتمرُّد الأوَّلِين، واستقامة الآخِرين، لا لفضيلةٍ في بني إسرائيل أنفسهم.
على أنَّ الله تبارك وتعالى جعل العاقبة للمتَّقين.
(1)
في الأصل: «ألفان» والوجه ما أثبت.
الرسالة الخامسة
عقيدة العرب في وثنيتهم
بسم الله الرحمن الرحيم
ليس من الغريب أن تُجهل حقيقة تاريخية مضت عليها آلاف السنين، أو كان العلم بها خاصًّا بأفراد قليلين، أو لم تكن مما يهمّ حفظه ونقله.
وإنَّما الغريب أن تُجهل حقيقة أكبر من ذلك، كعقيدة العرب في وثنيتها، فإنَّها خفيت منذ أزمان، حتى نسمع ابن جرير ــ كما سيأتي ــ ينعى على مجاهد أنَّه لم يعرفها، ومولدُ مجاهد قبل العشرين من الهجرة، فليس بينه وبين عصر الوثنيّة إلَّا نحو عشرين سنة، وقد أدرك كثيرًا ممَّن أدركوها ودانوا بها. ثم هي ممَّا يهمُّ المسلمين معرفته؛ فإنَّ الإسلام إنَّما جاء لنقض المختلِّ منها وممَّا يشبهها، وكثير من الآيات القرآنية إنَّما هي في محاجَّة أهلها ومناقشتهم، فمن لم يعرفها يصعب عليه فهم تلك الآيات الكثيرة، بل ربَّما يكون الأمر الأعظم من ذلك.
وأحبُّ أن ألقي في كلمتي هذه بعض الضوء على هذه الحقيقة، وإن لم أوفِّها حقّها.
1 -
توحيدهم:
كان العرب يعتقدون وجود الله عز وجل وربوبيته، وأنَّه الذي يرزق من السماء والأرض، والذي يملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويدبِّر الأمر كلَّه، له الأرض وما فيها، رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يُجار عليه، خلق السماوات والأرض، وسخر الشمس والقمر، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر له، ينزّل من السماء ماء فيحيي به الأرض، خلق السماوات والأرض وهو العزيز العليم.
شهد لهم بهذا وبأكثر منه القرآن نفسه، وكرَّر بعضه في عِدَّة آيات.
وذلك يؤكِّد أنَّ هذا كان عقيدتهم كلهم.
فمن ذلك قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [يونس: 31].
ومنه قوله سبحانه: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} [المؤمنون: 84 ــ 89]. في آيات أخر
(1)
.
وذكر ابن جرير في تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 21 ــ 22]: عن ابن عباسٍ قال: "نزل ذلك في الفريقين جميعًا من الكفار والمنافقين، وإنَّما عَنَى بقوله: {فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، أي: لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر وأنتم تعلمون أنه لا ربّ لكم يرزقكم غيره"
(2)
. ثم أخرج عن مجاهد:
(1)
العنكبوت (61 ــ 63)، الزمر (38)، الزخرف (9، 87). [المؤلف].
(2)
"تفسيره" ج 1 ص 126. [المؤلف].
"
…
وأنتم تعلمون أنَّه لا ندّ له في التوراة والإنجيل".
قال ابن جرير: "وأحْسَبُ الذي دعا مجاهدًا إلى هذا التأويل، وإضافة ذلك إلى أنَّه خطابٌ لأهل التوراة والإنجيل دون غيرهم = الظنُّ منه بالعرب أنَّها لم تكن تعلم أنَّ الله خالقها ورازقها، بجحودها وحدانية ربّها، وإشراكها معه في العبادة غيره
…
ولكنّ الله جلَّ ثناؤه قد أخبر في كتابه أنَّها كانت تقرّ بوحدانيّته، غير أنَّها كانت تشرك في عبادته".
ثم ذكر بعض الآيات، ثم قال: "فالذي هو أولى بتأويل قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إذْ كان ما كان عند العرب من العلم بوحدانية الله، وأنَّه مبتدع الخلق وخالقهم ورازقهم، نظير الذي كان من ذلك عند أهل الكتابين
…
= أن يكون تأويله ما قال ابن عباس
…
"
(1)
.
وممّا يناسب هذا أنَّ أحد شعرائهم أنشد في ملأ منهم:
أَلَا كُلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ
فلم يُنكَر عليه. وقال رجل ممَّن كان قد أسلم: صَدَقتَ.
فقال:
وكُلُّ نعيمٍ لا مَحالةَ زائلُ
فقال مسلم: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.
فوثبوا على ذلك المسلم وآذوه
(2)
.
(1)
"تفسيره" ج 1 ص 126. [المؤلف].
(2)
راجع "صحيح البخاري"، كتاب بدء الخلق ــ باب أيام الجاهلية، و"صحيح مسلم"، كتاب الشعر. [المؤلف].
تنبيه: مقدار الحديث عندهما حيث أشار المؤلف رحمه الله (البخاري 3841، ومسلم 2256) بلفظ: "أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل".
وأما هذا الخبر كما ساقه المؤلف فليس فيهما، كما قد يوهم كلام المؤلف، بل رواه ابن إسحاق في مغازيه، كما في "سيرة ابن هشام"(2/ 215) و"البداية والنهاية" لابن كثير (4/ 227).
2 -
جمعهم بين الإيمان والشرك:
قال الله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: "مِنْ إيمانهم إذا قيل لهم: من خلق السماء؟ ومن خلق الأرض؟ ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله. وهم مشركون
…
".
وعن عكرمة قال: "تسألهم: من خلقهم؟ ومن خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: الله. فذلك إيمانهم بالله، وهم يعبدون غيره".
ثم ذكر نحوه عن الشعبي، ومجاهد.
وفي رواية عن مجاهد: "إيمانُهم: قولهم: اللهُ خالقنا، ويرزقنا، ويميتنا. فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره".
وعن قتادة قال: "هذا أنَّك لست تلقى أحدًا منهم إلَّا أنبأك أنَّ الله ربُّه، وهو الذي خلقه ورزقه؛ وهو مشركٌ في عبادته".
وأخرج نحوه عن عطاء.
وأخرج عن ابن زيد قال: "ليس أحدٌ يعبد مع الله غيره إلَّا وهو مؤمن بالله، ويعرف أنَّ الله ربُّه، وأنَّ الله خالقه ورازقه، وهو يشرك به
…
فليس أحدٌ يشرك به إلَّا وهو مؤمن به. أَلَا ترى كيف كانت العرب تلبِّي، تقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلَّا شريك هو لك، تملكه وما ملك. المشركون كانوا يقولون ذلك"
(1)
.
أقول: وتلبيتهم بنحو ما ذكر ثابتة في "صحيح مسلم"
(2)
.
وممَّا يناسب هذا ما رُوِي أنَّ المشركين لمَّا أرادوا الخروج إلى بدر تعلَّقوا بأستار الكعبة، قالوا: اللَّهم انصر أعلى الجُندَيْن، وأهدى الفئتين، وأكرم الحزبين.
وفي روايةٍ: أنَّ أبا جهل قال حين التقى الجمعان: اللَّهم ربنا! دينُنا القديم، ودين محمد الحديث، فأيّ الدِّينَيْن كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم
(3)
.
(1)
"تفسير ابن جرير" ج 13 ص 44 ــ 45. [المؤلف].
(2)
"صحيح مسلم"، كتاب الحج، باب التلبية. [المؤلف]. حديث (1185).
(3)
"روح المعاني" ج 3 ص 219. [المؤلف].
والرواية الأولى ذكرها كثير من المفسِّرين من قول السُّدي والكلبي، كما في "تفسير البغوي"(3/ 342)، و"تفسير ابن كثير"(4/ 33) وغيرهما.
وأما الرواية الثانية فقد أخرجها البيهقي في "الدلائل"(3/ 115) عن موسى بن عقبة في "مغازيه".
3 -
كفرُهم وشركهم:
نجد القرآن ينوِّع ما ينسبه إليهم إلى أنواع، مآلها إلى أمرين:
الأول: قولهم: الملائكة بنات الله.
الثاني: عبادتهم لغيره تعالى.
فأمَّا الأول، فإنَّه يقرِّعهم تارة بنسبة الولد إلى الله، كقوله: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا
…
} الآيات [مريم: 88 ــ 95].
وتارةً بجعل ذلك الولد إناثًا، كقوله سبحانه:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 15 ــ 18].
وتارةً بقولهم: الملائكة إناث، كقوله:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف: 19]. إلى غير ذلك.
ومن المهم معرفة السبب الباعث على قولهم: "الملائكة بنات الله"، والذي يلوح لي أمور:
الأول: أنَّهم تلقوا ذلك ممَّن تلقوا منه عبادة الأصنام، وسيأتي.
الثاني: أنَّ الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام، على أنَّها عبادة للملائكة ــ كما يأتي ــ اخترع لهم هذا القول: أن الملائكة ولد الله؛ ليهوِّن عليهم الأمر، فيقولوا: إذا عبدنا ولده فكأنَّنا إنَّما عبدناه.
الثالث: أنَّهم سقط إليهم عن أهل الكتاب أنَّهم يطلقون قولهم: "أبناء الله" على بعض الموجودات، فإنَّها تطلق في التوراة وغيرها بمعنى: المختارين لله
(1)
.
الرَّابع: أن العرب كانوا يرون العاقر ــ وهو مَنْ لا يولد له ــ معيبًا ناقصًا.
قال علقمة بن علاثة لعامر بن الطفيل، يفخر عليه:"إني لَوَلُود، وإنَّك لعاقر"
(2)
.
وقال عامر نفسه:
لَبِئس الفتى إن كنتُ أعورَ عاقرًا
…
جبانًا فلا أُغني لدى كلِّ مَشْهَد
(3)
فرأوا أنَّه ينبغي لهم أن ينزِّهوا ربهم عز وجل عن هذا العيب في زعمهم.
فأمّا سبب اختيارهم له سبحانه الإناث فهو أنَّهم يعرفون من عادتهم أنَّ الولد الذكر يشارك أباه في ملكه، حتى لقد يتغلَّب عليه، وأمّا الأنثى فهي كَلٌّ على أبيها، ليس لها شيء من ملكه، حتى إنَّهم لا يورِّثونها منه، وهي عندهم مستضعفة لا شأن لها مع أبيها ألبتَّة.
فاختاروا أن يقولوا: إنَّ لله عز وجل بنات؛ ليكونوا قد نزَّهوه عن العقر، بدون أن يلزمهم أن يشركوا معه في الملك والتدبير.
(1)
راجع: "إظهار الحق" ج 2 ص 9 ــ 12. [المؤلف].
(2)
"خزانة الأدب" ج 3 ص 492. [المؤلف].
(3)
كذا ورد البيت في "الزاهر" لابن الأنباري (1/ 597)، ولكن بلفظ:"فما أغنَى" والبيت من قصيدة رائيةٍ مفضلية، وروايته في "ديوانه"(ص 64)، و"المفضليات"(ص 173)، و"الشعر والشعراء" لابن قتيبة (1/ 334) وغيرها:
فبئس الفتى إن كنت أعور عاقرًا
…
جبانًا فما عذري لدى كل محضرِ
وأمَّا جعلهم تلك البنات هي الملائكة فلأنَّه لم يبلغهم عن المِلَل السماوية أنَّ هناك أحياء غائبين غير الله عز وجل، إلَّا الملائكة والجن، والجنُّ مُبْعَدون مذمومون، فلم يبق عندهم إلَّا الملائكة، فقالوا: الملائكة بنات الله، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا.
ومع هذا فالذي يظهر أنَّهم لمَّا أطلقوا هذه الكلمة "بنات الله" أرسلوها مجملة، بل لعلَّ أوائلهم إنَّما أطلقوها تجوُّزًا، بمعنى: المختارات عند الله، غير أنّه لمَّا طال العهد صاروا يرون لها صلة أقرب من الاختيار، وإن لم يحدِّدوها، يدلُّك على ذلك قول الله عز وجل في الردّ عليهم:{أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام: 101].
ومثل هذه الحُجَّة إنَّما تُلْقَى إلى من يعترف أنَّه لم تكن له صاحبة.
ويؤيّده ما رُوِي أنَّ أبا بكر لمَّا أسلم جاء طلحة وجماعة يخاصمونه، فقال أبو بكر: إلام تدعوني؟ قال: أدعوك إلى عبادة اللَّات والعُزَّى، وزعم أنهنّ بنات الله، فقال أبو بكر: فمن أُمُّهم؟ فسكت طلحة. فقال طلحة لأصحابه: أجيبوا الرجل، فسكت القوم؛ فأسلم طلحة
(1)
.
وسيأتي أنَّ الأصل في اللَّات والعُزَّى ومناة عندهم أنَّها أسماء للملائكة، ثم سمّوا بها تماثيلهم، التي هي الأصنام.
فأمَّا ما يُحكى عنهم أنَّهم كانوا يقولون: أمَّهات الملائكة بنات سروات الجن
(2)
= فلم يثبت.
(1)
راجع: "أسباب النزول" للسيوطي في الآية (36) من سورة الزخرف. [المؤلف].
ذكره عن ابن أبي حاتم، وهو في "تفسيره"(10/ 3283).
(2)
أخرجه البخاري معلَّقًا في "صحيحه"، كتاب بدء الوحي، باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم، وفي كتاب التفسير، باب سورة الصافات، عن مجاهد رحمه الله من قوله. ووصله الحافظ ابن حجر في "التغليق"(3/ 514) و (4/ 292). وأخرجه البيهقي في "الشعب"(1/ 66) وآدم بن أبي إياس وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم كما في "الدر المنثور" للسيوطي (12/ 484) من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
فإن ثبت فعسى أن يكون اختراعًا من بعض متسرّعيهم، كابن الزبعرى، اخترعه بعد قصة طلحة. ولو كان قول جميعهم لكثر في القرآن تبكيتهم عليه، كما كثر في قولهم:"بنات الله".
وأمَّا قول الله عز وجل: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158]؛ فقد جاء عن جماعة من السلف، منهم: مجاهد، وعكرمة، وأبو صالح، وقتادة= أنَّ المراد بالجِنَّة: الملائكة. واختاره الجُبَّائي
(1)
.
ويُبْعِدُ ما قيل: إنَّ الجِنَّة هم الجن، وأنَّ المراد [من] قولهم:"بنات الله": بناتُ سروات الجن = أنَّ النَّسب لا يكاد يُطلق على المصاهرة. قال الراغب: "النَّسَب والنِّسْبَة: اشتراك من جهة أحد الأبوين
…
كالاشتراك بين الآباء والأبناء"
(2)
.
وفي الآية وجه آخر سيأتي.
وأمَّا الأمر الثاني، وهو عبادتهم غير الله، فنجد القرآن يخاطبهم تارة على أنَّهم يعبدون الملائكة، كقوله:{وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 19 ــ 20].
(1)
راجع "روح المعاني" ج 7 ص 320. [المؤلف].
(2)
"مفردات الراغب" مادة (ن س ب). [المؤلف]. ينظر (ص 490).
وتارة على أنَّهم يعبدون إناثًا فحسب، كقوله:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر: 38].
وتارة على أنَّهم يعبدون ما لا وجود له ألبتَّة، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [العنكبوت: 42]. وقال سبحانه: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18].
وقولهم: "هؤلاء" إشارة إلى مذكورٍ في عبادتهم، كأنَّهم كانوا يعبدونها ويسمّونها بالأسماء التي اخترعوها، كما يأتي، ثم يقولون: "هؤلاء
…
إلخ". فهم يَدْعُون ــ فيما يزعمون ــ بنات الله. ولا شيء هو بنتٌ لله.
وتارة على أنَّهم يعبدون إناثًا من الشياطين، قال تعالى:{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117].
وهذا إلزام لهم، كأنَّه قيل لهم: أنتم تعبدون إناثًا غيبيّةً، ولا تعرفون جنسًا غائبًا إلَّا الملائكة والجن، فأمَّا الملائكة فليسوا بإناثٍ، ولا فيهم إناثٌ، وإنَّما الإناث الغيبيَّة من الجن. ومن هنا يظهر معنى قوله:{وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158]، وهو الوجه الذي تقدم الوعدُ به.
ثم قال تعالى: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا} [النساء: 117]، هذا ــ والله أعلم ــ إلزام آخر مبنيٌّ على الأول، وأدهى منه عليهم، كأنَّه قال: إذا
لزمهم أنَّهم يَدْعُون إناثًا من الشياطين، فدعاؤهم الله تعالى مدخول؛ لأنَّهم يصفون الذي يَدْعُونه بأنَّه أبو تلك الإناث، وربُّ العالمين ليس بأبيهنَّ، وإنَّما أبوهنَّ الشيطان، فإذا دعوا أباهنَّ فإنَّما يَدْعُون الشيطان.
وهذا أحد الوجوه التي باعتبارها صحَّ أن يُطلَق أنَّ الكفار لم يكونوا يعبدون الله. وعليه قوله تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 1 - 3].
ويؤكِّد الإلزام الأول أنَّ من عادة الشيطان التعرُّض للعبادات الباطلة، حتى تكون في الصورة له، كما جاء في الحديث في ذكر الشمس:"فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار"
(1)
.
لمَّا علم الشيطان أنَّ من الناس من يسجد للشمس عند طلوعها صار إذا طلعت على قوم جاء حتى يقوم بينهم وبينها، يمنِّي نفسه أنَّهم إنِّما سجدوا له، قائلًا: أنا الذي أمرتهم أن يسجدوا للشمس، فأطاعوني، فأنا أولى بسجودهم من الشمس.
ويوضّح ذلك: ما أخرجه النسائي
(2)
وابن مردويه عن أبي الطفيل قال: لمَّا فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة، وكانت بها العُزَّى، فأتاها خالد وكانت ثلاث سَمُرات، فقطع السَّمُرات وهدم البيت الذي كان عليها، ثم أتى النّبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال:"ارجع فإنَّك لم تصنع شيئًا"،
(1)
"صحيح مسلم"[832]، كتاب الصلاة، باب إسلام عمرو بن عبسة. [المؤلف].
وأخرجه البخاري (3272)، من حديث ابن عمر رضي الله عنه، ومسلم (612)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، لكن دون ذكر سجود الكفار لها.
(2)
"السنن الكبرى" للنسائي (6/ 474).
فرجع خالد، فلمَّا أبْصَرَتْه السَّدَنة مضوا وهم يقولون: يا عُزَّى! يا عُزّى! فأتاها فإذا امرأة ناشرة شعرها، تَحْثُو على رأسها، فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره، فقال عليه الصلاة والسلام:"تلك العُزَّى".
وفي رواية: فقطعها، فخرجت منها شيطانة، ناشرة شعرها
…
(1)
.
فالشياطين لمَّا سوَّلوا للإنس أن يقولوا: إن لله بنتًا اسمها "العُزَّى"، ويتَّخذوا لها وثنًا ويعبدوه = وكَّلَ الشياطين بذلك الوثن أنثى منهم، قائلين: هذه العُزَّى؛ لأنَّها أنثى غيبية، فأمَّا الملائكة فليسوا بإناث.
وتارة على أنَّهم يعبدون الجن، قال تعالى:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} [سبأ: 40 ــ 41].
أكثر أهل العلم يفسِّرون عبادة الشياطين بطاعتهم. والتحقيق أنَّها طاعة
(1)
"روح المعاني" ج 8 ص 256 ــ 257. [المؤلف].
والحديث أخرجه أبو يعلى (2/ 196)، والطبراني كما في "مجمع الزوائد"(6/ 176) ومن طريقهما الضياء في "المختارة"(8/ 219 - 220)، من طريق علي بن المنذر عن ابن فضيل عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل به.
قال الهيثمي في "المجمع"(6/ 176): "وفيه يحيى [كذا! والصواب: علي] بن المنذر، وهو ضعيف".
قلت: علي بن المنذر هو الأودي، وثَّقه النسائي، وقال أبو حاتم:"محلُّه الصدق"، وقال ابن أبي حاتم وابن نمير:"ثقة صدوق"، يُنظَر:"تهذيب الكمال" للمزي (21/ 145). فلا أقل من أن يكون صدوقًا.
خاصة، وهي طاعتهم في شرع الدين، وذلك أنَّ شرع الدِّين حقٌّ للرب عز وجل، فمَنَ شرع دينًا من عند نفسه فقد ادَّعى الربوبية، ومن أطاعه في ذلك واتخذ ما أُمِر به دينًا فقد عَبَدَه.
فالشيطان يشرع للناس دينًا من عند نفسه، فمن أطاعه في ذلك واتخذ ما يوسوس له به دينًا فقد عبده. وتحقيق هذا له موضع آخر غير هذه العجالة.
والآية تتناول هذا الضَّرب من العبادة، وهو الطاعة المخصوصة، وتتناول الدعاء ونحوه، بناء على الإلزام المتقدِّم في دعاء الإناث.
وتارةً على أنَّهم يعبدون رؤساءَهم. قال تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} إلى أن قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} ، إلى أن قال:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ} [البقرة: 163 ــ 166].
حكى ابن جرير عن قومٍ أنَّهم قالوا: "الأنداد في هذا الموضع إنَّما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله".
ثم أخرج عن السُّدي قال: "الأنداد من الرجال يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعصوا الله"
(1)
.
وقوله: "كما يطيعون الله" أي: في شرع الدين، على ما مرَّ.
وتارة على أنَّهم يعبدون أهواءهم، قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23].
(1)
"تفسير ابن جرير" ج 2 ص 38 ــ 39. [المؤلف].
قال أبو السعود: "أي: أرأيت من جعل هواه إلهًا لنفسه من غير أن يلاحظه، وبنى عليه أمر دينه معرضًا عن استماع الحجة الباهرة"
(1)
.
قال الآلوسي: "وقد أخرج الطبراني وأبو نعيم في "الحلية"
(2)
عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما تحت أديم السماء من إلهٍ يُعبَد من دون الله أعظم عند الله عز وجل من هوى متَّبع"
(3)
.
وتارةً على أنَّهم يعبدون الأصنام والأوثان، قال تعالى:{فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30].
4 ــ كيف دخلت الأوثان الحجاز؟
صحَّ عن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه ذكر عمرو بن لُحَيٍّ، فقال:"هو أول من حَمَل العرب على عبادة الأصنام". قال الحاكم: "صحيح"، وأقرَّه الذهبي
(4)
.
وفي رواية: "هو أول من سيّب السوائب، وغيَّر دين إبراهيم عليه السلام".
(1)
"تفسير أبي السعود" ج 2 ص 250. [المؤلف].
(2)
"المعجم الكبير"(8/ 103)، و"حلية الأولياء"(6/ 118). ورواه غيرهما، وتدور أسانيدهم على الضعفاء والمتروكين. وقد حكم عليه بالوضع جماعة، كابن الجوزي، والسيوطي، والشوكاني، والألباني.
يُنظر: "الموضوعات" لابن الجوزي (3/ 376)، و"اللآلئ المصنوعة" للسيوطي (2/ 322)، و"الفوائد المجموعة" للشوكاني (715)، و"تنزيه الشريعة" لابن عراق (2/ 303)، و"ظلال الجنة" للألباني (3).
(3)
"روح المعاني" ج 6 ص 155. [المؤلف].
(4)
"المستدرك" ج 4 ص 605. [المؤلف].
قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم"، وأقرَّه الذهبي
(1)
.
وفي رواية: "أول من غيَّر عهد إبراهيم
…
ونصب الأوثان". نقله في "الإصابة" عن "مسند أحمد"، وذكر له شواهد
(2)
.
وأخرجه ابن إسحاق في "السيرة"، فقال ابن هشام:"وحدثني بعض أهل العلم أنَّ عمرو بن لُحَيٍّ خرج من مكة إلى الشام في بعض أموره، فلما قدم (مآب) من أرض (البلقاء)، وهم يومئذ العماليق، رآهم يعبدون الأصنام، فقال لهم: ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدون؟ قالوا: هذه الأصنام نعبدها فنَسْتَمْطِرها فتُمْطِرنا، ونَسْتَنْصِرها فتنصرنا، فقال لهم: أفلا تعطوني منها صنمًا فأسير به إلى أرض العرب، فيعبدونه؟ فأعطوه صنمًا يقال له: "هُبَل"، فقدم به مكة وأمر الناس بعبادته وتعظيمه"
(3)
.
(1)
المصدر السابق. [المؤلف].
(2)
"الإصابة" ترجمة أكثم بن الجون. [المؤلف].
قلت: الذي في الإصابة (1/ 61)"أكثم بن الجون" أو "ابن أبي الجون" في الموضع الذي أحال عليه المؤلف رحمه الله، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "
…
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عُرِضت عليَّ النار فرأيت فيها عمرو بن لُحي
…
وأشبه مَن رأيت به أكثم بن أبي الجون
…
". ولم أقف على الحديث من رواية الإمام أحمد في "المسند" ولا غيره بهذا السياق.
ولكن في "المسند"(3/ 352) وفي (5/ 137) من حديث جابر رضي الله عنه: "بينما نحن صفوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
…
ــ وفيه ــ وأشبه مَن رأيت به معبد بن أكثم الكعبي
…
".
وهي الرواية التي أشار إليها الحافظ بعد ذلك وفيه: "معبد بن أكثم"، وقال:"ويحتمل التعدُّد".
(3)
"سيرة ابن هشام" بهامش "الروض الأنف" ج 1 ص 62. [المؤلف].
وفي "روح المعاني" عن "تاريخ ابن الوردي": "أنَّ عمرو بن لُحَيٍّ مرَّ بقوم بالشام، فرآهم يعبدون الأصنام، فسألهم، فقالوا: هذه أرباب نتَّخذها على شكل الهياكل العُلوية، نَسْتَنْصِرها ونستسقي، فتَبِعَهم وأتى بصنم معه إلى الحجاز، وسوَّل للعرب، فتبعوه"
(1)
.
5 ــ المنشأ في نصب الأصنام:
في "شرح المواقف"، بعد أن ذكر عُبَّاد الأوثان:"فإنَّهم لا يقولون بوجود إلهين واجبَي الوجود، ولا يصفون الأوثان بصفات إلهية، وإن أطلقوا عليها اسم الآلهة، بل اتخذوها على أنَّها تماثيل الأنبياء، أو الزُّهاد، أو الملائكة"
(2)
.
وفي "شرح المقاصد" عن الإمام الرازي: أنَّ لأهل الأوثان تأويلات، قال: "الأول: أنَّها صور أرواحٍ تدبِّرهم ....
الرابع: أنَّهم اعتقدوا أنَّ الله جسم على أحسن ما يكون من الصورة، وكذا الملائكة، فاتخذوا صورًا
…
وعبدوها لذلك"
(3)
.
وفي "الملل والنحل" للشَّهرستاني
(4)
، في الكلام على أصحاب الأشخاص، من الصَّابئة وغيرها كلام كثير يوافق ما ذكر.
إذا تقرَّر هذا، وقد سبق أنَّ العرب كانوا يعبدون الملائكة= فأصنامهم إنَّما هي تماثيل أو تذاكير للملائكة.
(1)
"روح المعاني" ج 7 ص 150. [المؤلف]. وهو في "تاريخ ابن الوردي"(1/ 64).
(2)
"شرح المواقف" ج 3 ص 32 وما بعدها. [المؤلف].
(3)
"شرح المقاصد" ج 2 ص 64 ــ 65. [المؤلف].
(4)
"الملل والنحل"(2/ 308) وما بعدها.
وفي "حواشي الشيخ زاده على البيضاوي" في أثناء كلام في المشركين: "فإنَّهم يزعمون أنَّ الأوثان صور الملائكة"
(1)
.
ويؤكِّد ذلك: تسميتهم أكثر أصنامهم بأسماء مؤنَّثة، كاللَّات والعُزَّى ومناة؛ لأنَّهم يزعمون أنَّ الملائكة إناث، كما سلف.
والعادة في الأصنام أن يطلق على الصنم اسم الشخص الذي جُعِل تمثالًا أو تذكارًا له.
وفي "صحيح البخاري" في تفسير قول الله عز وجل: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] عن ابن عباس قال: "أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلمَّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا في مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا، وسمُّوها بأسمائهم، ففعلوا
…
"
(2)
.
6 ــ ما هي اللَّات والعُزَّى ومناة؟
قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} إلى أن قال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} [النجم: 19 ــ 27].
(1)
"حواشي الشيخ زاده" ج 3 ص 275. [المؤلف].
(2)
"صحيح البخاري"، تفسير سورة نوح. [المؤلف]. حديث (4920).
قد تكلَّم أهلُ اللُّغة والعربية على "أرأيت كذا" في نحو قول الله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63].
وتحرير الكلام في ذلك: أنَّ نحو {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} يُؤتى بها مقدِّمة للاستفهام الثاني، لِيُحضِر المخاطَبُ الحَرْثَ في ذهنه، ويترقَّب استفهامًا مهمًّا يتعلَّق بالحَرْث؛ فلا بد أن يكون الاستفهام الثاني يتعلَّق بمفعول (رأيت)، وعلى ذلك جاء القرآن، قال تعالى:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} إلى أن قال: {(62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} إلى أن قال: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} إلى أن قال: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} [الواقعة: 58 ــ 72].
إذن فقوله في آيات النجم: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى} [النجم: 21] لا بد أن يكون متعلقًا باللَّات والعُزَّى ومناة.
وقد مشى ابن جرير على هذا، فقال: "سمَّى المشركون أوثانهم بأسماء الله تعالى ذكره وتقدَّست أسماؤه، فقالوا من (الله): اللات، ومن (العزيز): العُزَّى، وزعموا أنَّهن بنات الله، تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا، فقال جل ثناؤه لهم: أفرأيتم أيها الزِّاعمون أنَّ اللَّات والعُزَّى ومناة بنات الله، ألكم الذكر
…
"
(1)
.
أقول: لعمر الله! لقد جرى على القاعدة التي سبق تحريرها، ولقد صدق
(1)
"تفسير ابن جرير" ج 27 ص 31 ــ 32. [المؤلف].
أنَّ المشركين كانوا يطلقون (اللَّات)، و (العُزَّى)، و (مناة) على تلك الأوثان، ولقد صدق أنَّهم كانوا يقولون: اللَّات والعُزَّى ومناة بناتُ الله.
ولكن الشأن في المراد باللَّات والعُزَّى ومناة في الآيات، فإن كانت هي تلك الجمادات فلم يكونوا يقولون: إنَّها بنات الله، ولو قالوا ذلك لكانوا مجانين ألبتة، لا يستحقُّون أن يخاطَبوا ولا يُرسَل إليهم رسول، أو لو قالوا ذلك لكثر تبكيتهم في القرآن أكثر من تبكيتهم على قولهم: الملائكة بنات الله.
ولو كان المراد ذلك كان حقُّ الكلام أن يُقال: ألكم الأحياء وله الجمادات؟ أو نحو ذلك. مع أنَّه لا يمكن أنَّ يعتقدوا أن الجمادات إناث على الحقيقة.
فغاية الأمر أن يكونوا أنَّثوا اللَّفظ، ولا بدع في تسمية ما ينسب إلى الله تعالى باسم مؤنَّث، كالكعبة.
وفوق ذلك، فسياق الآيات يخالف هذا المعنى.
وأمَّا سائر المفسِّرين فاضطرب كلامهم اضطرابًا شديدًا؛ لعلمهم أنَّهم لم يكونوا يزعمون أنَّ تلك الجمادات بنات الله.
وأقرب ما رأيته: ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، قال:"جعلوا لله بناتٍ، وجعلوا الملائكة لله بنات، وعبدوهم. وقرأ: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ} الآية [الزخرف: 16 ــ 17]. وقرأ: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ} الآية [النحل: 57]. وقرأ: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} [النجم: 23] "
(1)
.
(1)
"تفسير ابن جرير" ج 27 ص 33. [المؤلف].
فقد أرشدك ابن زيد إلى أن هذه الآيات كنظائرها الكثيرة في القرآن؛ إنَّما هي في قولهم: لله بنات ، وقولهم: الملائكة بنات الله.
وإيضاح ذلك: أنَّه كما سبق عن ابن عباسٍ أنَّ قوم نوح جعلوا تماثيل لموتاهم، وسمّوها بأسماء أولئك الموتى، وكما جَرَت العادة إلى الآن أنَّه يطلق على التمثال اسم من جُعِلَ تمثالًا له= فكذلك صَنَع العرب، اخترعوا أسماء لبعض الإناث الخياليَّات التي زعموا أنَّها بنات الله، وأنَّها الملائكة، واشتقُّوها ــ كما قال ابن جرير ــ من أسماء الله تعالى، فأصل اللات:"اللاهة"، كما ذكره ابن جرير أيضًا. وبيَّنه أهل اللُّغة بأنَّه حُذِفت منه الهاء الأصلية، كما قالوا: شاة، وأصلها:"شاهة"، بدليل جمعها على:"شياه"= فقالوا: "اللَّات".
ثم منهم من يقف عليها بالهاء ــ كما هو الأصل في هاء التأنيث ــ، كما يقال:(شاه)، والأكثرون يقفون عليها بالتاء، كأنَّه حَذَرًا من اشتباه (اللَّات) لو وُقِف عليها بالهاء بالاسم الكريم.
فتفسير الآيات على هذا: أرأيتم تلك الإناث الخياليات التي تزعمونها بنات الله، ألكم الذكر، وله هي؟ ! وإنَّما قال:(الأنثى)، فوضع الظاهر موضع الضمير للتَّنصيص على الشَّناعة.
ثم قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} أي: لا وجود لها ألبتَّة، وإنَّما يوجد أسماؤها فقط، كما يقول أحدنا: ما العنقاء إلَّا اسمٌ. وهذا لا يتأتّى في الأصنام؛ لأنَّها موجودةٌ بذواتها.
ثم قدّر أنهم سيقولون: "هي الملائكة، والملائكة موجودون"؛ فقال: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ
…
} الآية. أي: والملائكة أنفسهم لا يستحقُّون العبادة؛ لأنَّهم
لا يضرُّون ولا ينفعون، وأنتم تعترفون بذلك، إلَّا أنَّكم تقولون: إنَّهم يشفعون لكم، فاعلموا أنَّ شفاعتهم لا تغني شيئًا ما لم يأذن الله ويرضى، وكيف يأذن لهم ويرضى في الشفاعة لكم وأنتم تشركون به؟!
ثم قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} فكاد ينصُّ نصًّا قاطعًا على أنَّ (اللَّات) و (العُزَّى) و (مناة) جعلها المشركون أسماء للملائكة، مع زعم أنَّهم بنات الله. وأنت إذا سمعت من يقول:(إنَّ فلانًا يسمِّي الأمراء أسماء الإناث) لم تفهم منه إلَّا أنَّه يسمِّي أحدهم: (هالة)، وآخر (سُعدى)، والثالث (جُمانة)، ونحو ذلك.
فالعرب كغيرهم من الأمم إنَّما اتَّخذوا الأصنام تماثيل أو تذاكير للملائكة، مع زعمهم أنَّهم إناثٌ هنَّ بنات الله، وعظَّموها على نيَّة التَّعظيم لمن جُعِلت تمثالًا أو تذكارًا له، وطمعوا أنَّ تعظيمهم لها يقرِّبهم من الملائكة، فيشفعوا لهم، كما جرت العادة أنَّك إذا رأيت صورة إنسان فاحترمتها فبلغه ذلك شكره لك. وكذلك إذا خَصَصْت شيئًا على أنَّه تذكار له، ثم احترمته.
7 ــ ما الذي كانوا يرجونه من الملائكة؟
قد تقدَّم الكلام على توحيدهم، وعلى تحاشيهم أن يقولوا: لله ولد ذكر؛ كيلا يلزمهم الإشراك في الملك والتدبير.
وعرفتَ من ذلك أنَّهم لا يثبتون للملائكة شيئًا من التصرُّف، وهذا بخلاف أكثر الأمم التي عَبَدَت الملائكة، كاليونان والمصريين القدماء، فإنَّهم يثبتون التصرُّف للملائكة، حتى يذكروا في أساطيرهم أنَّ الآلهة تتحارب وتتغالب!
وعلى هؤلاء ــ ومن يلزمه مثل قولهم ــ أقام اللهُ تعالى البرهان بقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]. فأمَّا العرب فكانوا يقولون ما قصّ الله تعالى عنهم: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]، أي: بالشفاعة {وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18].
ولهذا كَثُر في القرآن مناقشتهم في الشفاعة، وكانوا مع ذلك مرتابين في هذه الشفاعة، حتى إذا وقعوا في شِدَّة نسوها وفزعوا إلى دعاء الله وحده، قال تعالى:{وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 53 ــ 54]، وقال سبحانه:{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} [لقمان: 32]، وقال عز وجل:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا} [الإسراء: 67].
هذا ما تيسَّر لي تعليقه في هذه الكلمة، وعسى أن يكون فيه ما يحسُن موقعه عند أهل العلم، ويبعثهم على استقصاء النَّظر في هذا الموضوع وما يتَّصل به. والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلَّى الله على خاتم أنبيائه محمد وآله وصحبه.
الرسالة السادسة
الردّ على حسن الضَّالعي
بسم الله الرحمن الرحيم
[ص 3]
(1)
[الحمد لله الذي لم يتَّخذ ولدًا، ولم يكن] له شريكٌ في الملك، ولم يكن له وليٌّ من الذُّلِّ وكبِّره تكبيرًا، [وصلَّى الله على نبينا محمِّد،] الذي أنزلت عليه: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي [مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ] وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء: 80]، وعلى آله وأصحابه، [ومن تبعهم بإحسان، وسلَّم] تسليمًا كثيرًا، أمَّا بعد.
فإنِّي عند وجودي بعَدَن، أواخر سنة 1341 هـ[بلغني عن رجلٍ يُدعَى] السيِّد حسن باهارون كان مقيمًا بالضَّالع ثم بيافع، يدعو الناس [إلى بعض العقائد الباطنية الحلوليَّة]، سيأتي ذكر شيءٍ منها إن شاء الله. وإنَّه قد اتَّبعه خَلْقٌ كثيرٌ، وألَّف جماعةٌ من العلماء في الإنكار [على أقواله وضلاله].
[ومنهم] شيخنا، إمام الشريعة والحقيقة في وقته، الشيخ العلَّامة سالم بن عبد الرحمن باصهي، ثم السَّيِّد [
…
]، ثمَّ السيِّد [
…
(2)
].
وسألني بعض الإخوان أن أحذو حذوهم، بكتابة رسالةٍ في هذه القضيَّة، فاعتذرت بقصوري، ثمَّ تذكَّرتُ قول صاحب الهمزيَّة
(3)
:
(1)
الترقيم من أصل مصوَّرة الرسالة في مكتبة الحرم المكِّي الشريف، وما حصل من تقديم وتأخير في أوراقها عند إعدادها للطبع والتحقيق من تصرُّفي حسب ما يقتضيه ترتيبها الصحيح.
(2)
بيَّض المؤلف له وللذي قبله في الأصل.
(3)
هو البوصيري، والبيت في "ديوانه"(ص 27)، والهمزيَّة قصيدة مَدَح بها النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وائْتِ بالمُسْتَطاعِ مِن عَمَلِ الْبِرْ
…
ـرِ فقد تُسقِطُ الثِّمارَ الإتاءُ
مع أنِّي تصفَّحتُ بعض تلك الرسائل، فرأيتها منسوجةً بالحِدَّة والغضب، وذلك وإن كان محمودًا في الشَّرع لكن الأَولى في خطاب الجُهَّال الرِّفق واللِّين، والسَّعي في إيضاح الحقائق باللُّطف والحِكمة، لأنَّ الجهل داءٌ عَيَاءٌ، لا يتيسَّر له دواءٌ إلَّا إذا وُجِد طبيبٌ حاذقٌ.
وليس القصد من التَّأليف في هذه القضيَّة مجرَّد إقامة الحُجَّة والخروج من عهدة السُّكوت، بل القصد مع ذلك إنقاذ هؤلاء المساكين من تخبُّطات الشياطين.
وقد عزمتُ ــ مستعينًا بالله تعالى ــ على كتابة أوراق في هذا الصَّدد، تنحصر في مقدِّمة وفصول.
المقدِّمة: فيما بلغني عن هذا الرجل وأصحابه، بأسانيدها.
[ص 5] الفصل الأوَّل: في وحدة الوجود التي يلهج بها المتصوِّفة، وبيان عقائد أئمَّة الصوفيَّة.
الفصل الثاني: في معنى الوحدة عند المتطرِّفين، وما يشبه ذلك من مقالات الفرق، والأدلَّة المناقضة لذلك من العقل والنقل.
الفصل الثالث: في حكم من دعا إلى ذلك، أو اعتقد، أو شكَّ، أو سكت.
الخاتمة ــ ختم الله لنا بخير الدنيا والآخرة ــ: في أحاديث واردة في التَّحذير من الدَّجاجلة، أعاذنا الله والمسلمين من شرِّهم.
المقدِّمة
سمعتُ شيخنا إمام الحقِّ والحقيقة، السيِّد محمد بن علي بن إدريس قدَّس الله سِرَّه مرارًا يخبر عن هذا الرجل المدعو السَّيِّد حسن الضَّالعي أنَّه كان في صَبْيَا يتظاهر بالحلول والاتِّحاد، بحيث يرى الشيء كالرجل والبقرة والشاة والدَّابة، فيشير إليه قائلًا:"هذا الله"!
وقال شيخنا ــ قُدِّس سرُّه ـ: وألَّف شيخنا الإمام سالم بن عبد الرحمن باصهي رحمه الله رسالةً في الردِّ عليه سمَّاها "كشف الغطا".
وقد ذكر سيِّدنا ــ قُدِّس سرُّه ــ هذا الرجل في مؤلَّفٍ له، وحكى عنه نحو ما مرَّ، إلى أن قال: "والعجب أنَّ هذا الرجل كان يظنُّ أنَّ شيخنا ــ قُدِّس سرُّه ــ لا يعرف شيئًا من علوم القوم، ولم يَدْرِ أنَّه إمام التوحيد الخاص في زمانه.
وفي أوائل 1338 هـ وصل إلى جِيزان سيِّدٌ من أهل الضَّالع، قافلًا من الحج، وأخبرني عن هذا الرجل بمثل ما مرَّ سابقًا، وأنَّه يتَّخذ له تلاميذ ويسوسهم، حتى إذا وثق بأحدهم أخذ عليه المواثيق المغلَّظة، ثم يقول له: اعبد نفسك". وحكى عنه غير ذلك.
وأخبرت شيخنا ــ قُدِّس سِرُّه ــ حينئذٍ، فذكر لي مثل ما مرَّ سابقًا، وزاد أنَّه وصل إليه كتابٌ من الرجل المذكور قائلًا:"إنَّ والدكم هو شيخ فتحي، يريد والد شيخنا الإمام علي بن محمد بن أحمد بن إدريس رضي الله عنهم". وأنكر شيخنا ــ قُدِّس سِرُّه ــ ذلك.
[ص 8] وأخبرني السَّيِّد العلَّامة محمد بن حيدر النُّعمي
(1)
، والشيخ الفاضل محمد إبراهيم صديق [
…
] وغيرهما أنَّ الرجل المذكور عند وجوده بصَبْيَا كان يشير إلى أي شيءٍ يراه قائلًا: "هذا الله"!
وههنا في عَدَن وقفتُ على كرَّاسةٍ منسوبةٍ إلى رجلٍ يُدعَى صالح الطيَّار، ذكر فيها سنده عن هذا الرجل عن الشيخ حسَّان عن الفاسي، إلى آخر ما ذكر.
فذكرت ما مرَّ من كتابته إلى شيخنا ــ قُدِّس سِرُّه ــ أنَّ والده هو شيخُ فتْحِهِ، وما بينه وبين هذا من التنافي، فكأنَّه اعتمد قول عمران بن حِطَّان
(2)
:
يومًا يمانٍ إذا لاقَيْتُ ذا يمَنٍ
…
وإن لقِيتُ معدِّيًّا فعَدْناني
كأنَّه عندما كتب إلى شيخنا ــ قُدِّس سِرُّه ــ أراد التقرُّب إليه بمشيخة والده، ولمَّا كان بهذه الجهة القريبة من جهة الشيخ حسَّان المعتقدَة فيه= تقرَّبَ إليهم بذلك.
وقد لقيتُ هنا بعدن بعض المعتقدين فيه وأخبر أنه يذكر أنَّ شيخنا الإمام ــ قُدِّس سِرُّه ــ من تلامذته، وهذا عجيب؛ فإنِّي بحمد الله تعالى
(1)
في "الأعلام" للزركلي (6/ 112): "محمَّد بن حيدر النُّعمي التِّهامي الحسني، مؤرِّخ، من قضاة الزَّيديَّة باليمن، ولي القضاء بالحُدَيدة في عهد محمد بن علي الإدريسي، ثم ولَّاه الإمام يحيى حميد الدين قضاء اللحية. ونشبت فتنة في جازان وما جاورها، فاتُّهِم بالاشتراك فيها، فقُتِل في مدينة صَبْيَا".
(2)
البيت منسوبٌ إليه مع غيره في: "الكامل" للمبرّد (3/ 1086)، وغيره. ويُنظَر:"شعر الخوارج" لإحسان عباس (ص 162).
لازمت شيخنا نحو ست سنين لا يكاد يخلو قومٌ منها [أن أذاكره] في العلوم النافعة، وهو ينكر هذا [
…
].
ومع هذا فقد ذكر لي بعض الإخوان أنَّ هذا السَّند الذي حكاه الطيَّار لا يطابق سند الشيخ حسَّان. وقد تصفَّحتُ الكرَّاسة المذكورة فوجدتُه بناها على تأويل بعض آيات وأحاديث، يشوِّه وجوهها ويغيِّر ألفاظها!
منها قوله: "وقال صلى الله عليه وسلم لسيِّدنا جبريل عليه السلام: "يا أخي جبريل، أتدري كم لك في العمر"؟ قال: لا أعلم، ولكن يا سيِّدي إنِّي أشوف نجم غرار، كان يظهر بعد كلِّ سبعين ألف سنة مرَّةً واحدةً، وقد شُفْتُهُ سبعين ألف مرَّةٍ. قال له صلى الله عليه وسلم:"أنا ذلك النجم الغرار". قال: صدقت، وبالحق نطقت"
(1)
!
فأنت ترى هذا الحديث ــ على علَّاته ــ كيف مسَخَه وشوَّهه.
وقال: "وقال صلى الله عليه وسلم: "علماء أمَّتي كأنبياء بني إسرائيل"
(2)
. قال: إذْ اسْمُ النبوَّة ممنوعٌ بعده صلى الله عليه وسلم. ويُفهم من هذا أنَّه لم يمنع إلَّا الاسم فقط!
وقال: "وكذلك أهل السلسلة المباركة اتَّصلوا بسِرِّه، من شيخ في شيخ،
(1)
لم أقف عليه، وهو مشهور في كتب متأخري الصوفية، ويوردونه تتمَّة لحديث النور المحمدي، وهو:"أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر"!
وقد حكم عبد الله بن الصِّدِّيق الغُمَاري في كتابه "مرشد الحائر لبيان وضع حديث جابر" عليها بالوضع، وقال إنَّها موجودة في بعض كتب المولد، وقال:"هذا كذبٌ قبيح، قبَّح الله من وضعه وافتراه".
(2)
نقل السخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص 459) عن ابن حجر والدّميري والزَّركشي أنَّه لا أصل له، ثم قال:"وزاد بعضهم: ولا يُعرَف في كتابٍ معتبرٍ". ويُنظَر: "الضعيفة" للألباني (466).
إلى عصرنا هذا، في معرفة العلوم الإلهيَّة، الذي قال فيها صلى الله عليه وسلم:"كلُّكم هلكى إلَّا أنا، أنا وما هؤلاء عليه"
(1)
. يعني: كبار الصحابة.
وقال صلى الله عليه وسلم[ص 7]: "ما فضلكم أبو بكرٍ بكثرة الصلاة والعبادة، وإنَّما لشيءٍ وضعه الله في صدره"
(2)
. وهي المعرفة الحقيقيَّة بالله الواحد الأحد، حتى عرف نفسه أنَّه هو عين الحقِّ المبين؛ لصِحَّة الحديث عن النَّبي صلى الله عليه وسلم:"مَن عرف نفسَه عرف ربَّه"
(3)
.
أي: معرفة النفس بانتفاء البشريَّة وظهور الأحديَّة تُعْدِمُنا الأسماء والصفات و .. و .. و .. ؛ لأنَّ الأحديَّة جمع، وجمع الجمع، ولا تقبل أسماء ولا صفات.
أو هي ذات [صرفة] مجرَّدة، ما تقبل إلَّا اسم الله، وإلَّا فحكمها حكم العموم، وعموم العموم، ولا تقبل كم، ولا كيف، ولا أين، ولا متى، ولا تقبل ضرب المثل، ولا المساحة، ولا تقبل الماضي، ولا المستقبل، ولا
(1)
لم أقف عليه!
(2)
لا أصل له مرفوعًا كما قال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار"(1/ 23)، وعنه السَّخاوي في "المقاصد الحسنة"(ص 584)، ونسبه إلى بكر بن عبد الله المزني من كلامه ممَّا أسنده إليه الحكيم الترمذي، وهو في "نوادر الأصول"(1/ 90).
ونسبه ابن القيم في "المنار المنيف"(ص 109) إلى أبي بكر بن عيَّاش.
(3)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "مجموع الفتاوى"(16/ 349): "ليس هذا من كلام النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا هو في شيءٍ من كتب الحديث، ولا يعرف له إسناد، ولكن يُروَى في بعض الكتب المتقدِّمة إن صح: يا إنسان اعرف نفسك تعرف ربك .. ".
ويُنظَر أيضًا: "مدارج السَّالكين" لابن القيِّم (1/ 427)، و"المصنوع" لملَّا علي القاري (ص 189).
الحال، بل كل الشؤون والمظاهر، و .. و .. ".
وذكر الصفات وأنواع الوجود في الحيوانات والجمادات ثم قال: "فكلُّ هؤلاء داخل تحت حيطة الأحديَّة، وهي العارف الكامل، الواصل الشَّاهد، لذاته بذاته، الله ولا شيء معه".
إلى أن قال: "قُلْ ما شئتَ في هذا المقام فأنت مكانك أحديٌّ، وبعضهم لمَّا عرف نفسه بنفسه ــ سبحانه وتعالى ــ نظر إلى الفوق والتحت، والأمام والوراء، واليمين والشمال، فلم يجد محلًّا يستند إليه، ولا مكان يأويه، ولا شيء يسند إليه، [فأمير] نفسه، فعرف نفسه بنفسه سبحانه وتعالى"، وقال:
رأيتُ ربِّي بعين ربِّي
…
فقال: من أنت؟ فقلتُ: أنتَ
(1)
فهو سبحانه وتعالى الشَّاهد والمشهود، الشَّاهد في مقام الأحديَّة التي أنت أنت، هي هي أنت، فاعرف! في هذا الكلام العجيب، الذي لا يفهمه إلَّا [ .. و .. ] ولا [تخطئ في ذاتك]، وإن [تلوت] خذ الكتاب بقوَّة، وأْمُر أهلك يأخذوا بأحسنها، فيصفو لنا حسنها، ونتعطَّر بعطر أهلها، حتى إنَّ المحبَّ يصل بالمحبوب، و [
…
] المحبُّ المحبوب، وأنت الحي القيُّوم:
ولا تلتفت في السَّيْر غير فكلُّ ما
…
سوى اللهِ غيرٌ فاتخذْ ذِكْرَهُ حِصْنَا
وقُلْ ليسَ لي في غير ذاتيَ مَطْلَبٌ
…
فلا صورةٌ تُجْلَى ولا طُرْفةٌ تُجْنَى
(2)
إلخ.
(1)
البيت للحلّاج في "ديوانه"(ص 31)، وفيه:"بعين قلبي".
(2)
البيتان في قصيدة لأبي الحسن الششتري، كما في "ديوانه"(ص 73)، وعنده في البيت الأول:"في السير غيرًا".
أقول: لستُ الآن في صدد الرَّدِّ، وإنَّما الحديث الذي ساقه:"ما فضلكم أبو بكر .. الخ" على علَّاته من الواضح أنَّ المراد به غير ما ذكر، وإنَّما الشيء الذي وَقَر في صدره هو معرفة نفسه بالعجز والضعف، [ص 10] كما رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم في الدُّعاء:"اللَّهم لا تَكِلْني إلى نفسي، فإنَّك إن تَكِلْني إلى نفسي تَكِلْني إلى ضعفٍ وعَورةٍ وذَنْب". أو كما قال
(1)
.
فلمَّا عرف سيِّدنا أبو بكر نفسه حق المعرفة بالضَّعف والعجز ونحوهما من الأوصاف انتقل من ذلك إلى حقيقة الإيمان بالله تعالى، صفات الجلال والجمال والكمال؛ فإنَّ الإنسان إذا عرف نفسه بالعبودية فقد عرف ربَّه بالربوبيَّة، وكلما ازدادت معرفته لنفسه بحقيقتها، من الضعف والعبودية والعجز في الصورة= ازدادت معرفته وإيمانه بربوبية الله تعالى وقوَّته وقدرته وجلاله.
وهذا معنى الحديث الآخر الذي ذكره، أعني:"مَن عرف نفسه فقد عرف ربَّه" كما هو واضح.
إلى أن قال بعد كلام طويل: "وتحتاج هذه إلى الكتم والخمول حتى يريد الله بالظهور". وهذا يدلُّ على أنَّ قصد هؤلاء القوم بثُّ دعوتهم، ثم إظهارها وإثارة فتنة، عكس مقاصد أهل الله، الذين إنَّما قصدهم إصلاح
(1)
أخرجه أحمد (5/ 191)، والحاكم في "المستدرك"(1/ 697)، وغيرهما، من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه بنحوه. قال الحاكم عقبه:"صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، وقال الهيثمي في "المجمع" (10/ 113):"رواه أحمد والطبراني وأحد إسنادي الطبراني رجاله وُثِّقوا، وفي بقية الأسانيد أبو بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف".
القلوب ما تيسَّر.
إلى أن قال: "ولقد اغترُّوا كثيرًا، وتكبَّروا على المشايخ، وأُوقِعُوا في الجحيم، كمثل الفقهاء الزَّنادقة الوهَّابيَّة، الذين يتكبَّرون على أهل الباطن"!
إلى أن قال: "ولقد رأينا أناسًا في النَّار كثيرًا، وأكثرهم الفقهاء، والعلماء، وأهل الرأي، وأهل الرِّئاسة في الدُّنيا"!
إلى أن قال: "وأمَّا الألوهيَّة فهي تقبُّل الأحكام، و .. ، و .. ، ومنها السَّعادة والشقاوة، و .. ، و .. ، وإقامة نظام العالَم، مِن عابد ومعبود، ورازق ومرزوق، وتفاضل الأعلى على الأدنى".
إلى أن قال: "لأن برزخها أوسع البرازخ ومن أسماء كثيرة يُسمَّى العرش، وأمَّا الكتاب، والوجود المطلق، والذات الساذج، والزلال الأبيض، و .. ، و .. ، فسبحان من تفضَّل على ذاته بذاته .. الخ"!
إلى أن قال: "فصلٌ: اعْلَمْ أنَّ الله واجب الوجود، فوجوده مطلقٌ، ووجود ثان له مقيَّد مطلق، من عند الأسماء مقيَّد ومن عند الذَّات مطلق.
والصفات متعدِّدة، والذات واحدة، والكُلُّ مربوط بالكُلِّ، كما قال بعض المشايخ: الكلُّ بالكل مربوط، فليس له عنه انفكاك، خذوا ما قلته عنِّي، [لأنَّ] أصل الشيء كُلّه البرنامج، ولا شيء معه، ولا ذكر للشيء، ولا غير، ولا ذكر للغير، وأنت البرنامج، علمتَ أم لم تعلم، ولكن أنت من العارفين، وغيرك محجوبون
(1)
بك، ولم يعلموا، ولكن الغطا والغين الذي
(1)
في الأصل: "محجوبين".
[ص 11] على العين، والران الذي على القلب، قال الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ
(1)
} [المطففين: 14]، أَلَا ترى إلى قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]، وهي يد رسول الله، ورسول الله هو البرنامج الكامل، والأنموذج الشامل، و [
…
] الواصل الموصل.
ولهذا حقِّق توحيد ذاتك بذاتك في ذاتك لذاتك، في قوله تعالى:{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] أي: هو أنفسكم أفلا تبصرون!
وقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]، والرامي هو رسول الله يوم بدر.
فافهم المعنى فقد دان المنى، وادخل الدار واقصد نحونا، واستمع لما يوحى إليك من قولنا، الذي قولك لك، المنزل على قلب نبيك:{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 1 - 3]، وأدنى؛ لكلام ابن عباس:"إنَّ محمدًا رأى ربَّه بعين الرأس"
(2)
.
(1)
في الأصل: ( .. على قلوبهم فهم لا يفقهون)!
(2)
تُنظَر الروايات المنقولة عن ابن عباس رضي الله عنه وغيره في هذا الشأن في "الدر المنثور" للسيوطي (14/ 19 - 24).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "درء التعارض"(8/ 42): "وأمَّا تقييد الرُّؤية بالعين فلم يثبت لا عن ابن عباس ولا عن أحمد".
وقال الإمام ابن القيِّم رحمه الله في "زاد المعاد"(3/ 36 - 38): "صحَّ عن ابن عباس أنَّه رأى ربَّه، وصحَّ عنه أنَّه قال: رآه بفؤاده. وصحَّ عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك .. وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمي اتِّفاق الصحابة على أنَّه لم يره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدَّس الله روحه: وليس قول ابن عباس: "إنَّه رآه" مناقضًا لهذا، ولا قوله: "رآه بفؤاده"، وقد صحَّ عنه أنه قال: "رأيت ربي تبارك وتعالى"، ولكن لم يكن هذا في الإسراء، ولكن كان في المدينة لمَّا احتبس عنهم في صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك اللَّيلة في منامه .. وأما قول ابن عباس إنَّه رآه بفؤاده مرتين فإن كان استناده إلى قوله تعالى: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11]، ثم قال: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13]. والظاهر أنَّه مستنده؛ فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّ هذا المرئيَّ جبريل، رآه مرتين في صورته التي خلق عليها".
إلى أن قال: "وأمَّا حضرة الأحديَّة وهي الحضرة المباركة، وهي حضرة الطمس وبحر الغمس، وبرزخ جمع الجمع".
إلى أن قال يخاطب صاحب هذا المقام: "فتارة يكون ظاهرك خَلَقًا هاويًا، وباطنك حقًّا، وتارة يكون ظاهرك حقًّا وباطنك خَلَقًا".
إلى أن قال: "حتى تنظر إلى [
…
] صاحب هذا المقام: "يسمَّى بخطِّ الاستواء، ولا أظنُّ أحدًا يقدر يقف عليه [
…
] الكمال".
قال: "وهذا المقام من المحال؛ لأنَّه ما وقع لسيِّد المرسلين؛ لصحَّة قوله: "إنَّه لَيُغَان على قلبي، فأستغفر الله في اليوم واللَّيلة سبعين مرَّة"
(1)
؛ لأنَّ اجتماع الحضور والغيبة، والصِّحَّة والسقم في بدن واحد محالٌ، واجتماع الموت والحياة في هيكل واحد محالٌ، ولا جَمَعَ هذا الشيء إلَّا ذو الجلال
(1)
لم أره بهذا السِّياق، لكن أخرجه مسلم (2702) وغيره، من حديث الأغر المزني رضي الله عنه، وفيه:"مائة مرة". والمشهور في تتمَّته ما أخرجه البخاري (6307) وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: "والله إنِّي لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرَّة".
والإكرام، فهو الفرد الجامع .. " الخ.
إلى أن قال: "وقد قال في الكرامة: إنَّ العارفين لا [كرامة
…
] النظر إلى وجه الله الكريم في كل صورة، وفي كل سورة، وفي كل أخضر ويابس، وفي كل حال ومقال، وخصام وجدال، وجلال وجمال، وفعل واعتقاد".
إلى أن قال بعد كلام طويل في التَّحريض على كثرة الذِّكر: "فلا أحد بَلَغَ مبلغ عالي
(1)
يسقط عنه التَّكليف، فسقوط التَّكليف يوجب عليه التكليف، ولا يسعه إلَّا الاتِّباع لسيِّد البشر، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ".
[ص 14] إلى أن قال: " [في دعاء: أن يبارك بغير تعب،
…
في كل شيء به له
…
]، لكن تفضل على ذاتك بذاتك .. إلخ".
انتهى ما أردنا حكايته من تلك الكرَّاسة، وهي كبيرة، وهي من جنس ما حكيناه، وأستغفر الله العظيم أولًا وآخرًا.
وقال السَّيِّد العلَّامة علوي ما نصُّه: "وهذا هو رجل اسمه حسن بن إبراهيم، ويدَّعي أنه من آل با [معروف] آل باعلوي، وحاشاهم أن يكون هذا الدَّجَّال منهم، وقد كتب كتبًا متعدِّدة إلى السادة العلويين، ففتشوا فلم يجدوا له حسبًا ولا نسبًا.
ومن أخلاق هذا الرجل أنَّه يتفاخر ويتظاهر أنَّه أخذ عن شيوخٍ في مصر والشام والعراق والحجاز والمغرب واليمن، وأنَّه وقع على العلم المكنون".
إلى أن قال: "وقد سار داعي من دعاته إلى الحبشة، واسمه السَّيِّد صالح ــ بزعمه ــ وحاشا لله أنَّه سيِّد، بل هو السيئ الطالح، القرمطي، فعلَّم أناسًا
(1)
كذا في الأصل.
منهم أن يكونوا مثل فرعون إذ قال: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24]. و [رتَّب] عليهم أورادًا من قولهم: أنا الله! ".
إلى أن قال بعد ذكر بعض [من]
(1)
تبعه هذا الرجل: "عقيدتهم أنَّ الذوات كلّها متساوية؛ لأنَّها الله بذاته، (تعالى الله)، فذات أعظم نبيٍّ أو وليٍّ هي وذات الخنزير سواء؛ لأنَّ النبيَّ اللهُ، وقع نبيًّا وذهب يطلب مركزه، والخنزير كذلك [
…
]
(2)
.
ويقولون: إنَّ فرعون أعرف من موسى؛ لأنَّه قال: "أنا ربُّكم"، وموسى جاهلٌ، وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم وأبو جهل لعنه الله بمنزلةٍ واحدةٍ.
وهذه العقائد من أسرارهم التي لا تُفشَى، ولا يعلِّمونها إلَّا من خرج من مزالق التوحيد، وهم خصوص الخصوص. وهم في الحقيقة الذين بلغوا الرتبة الفرعونيَّة.
وهذا الضَّالعي يقول: إنَّ الحياة هي نفس الوجود، وإنَّ الوجود هو جميع المخلوقات، وينكر علم الغيب لله، ويجعل جميع التطوُّرات في الوجود اللهَ بذاته، يتطوَّر ويطلب مركزه، وعنده أنّ قول الله [
…
]
(3)
كلام باطل، كما سنحكي ألفاظه إن شاء الله تعالى.
ومذهبهم أنَّ قول القائل: "لعنك الله" مثل قولك: "رحمك الله"، ولا يتحاشون عن جماع الحائض، يتسارُّون بهذا الأمر بينهم.
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
(2)
طمس في الأصل.
(3)
طمس في الأصل.
[ص 13] إلى أن قال: "وينكرون حقيقة الأرواح، ويقولون: هي تطوُّرات الذَّات الإلهيَّة، تطلب مركزها لا غير".
ولهم خزعبلات كثيرة تشابه ما تقدَّم، نتحاشى عن حكايتها، مثل قولهم في المجامعة والغائط. نعوذ بالله.
فعندهم أنَّ الرجل والمرأة ليسا مخلوقين من مخلوقات الله، بل هما الله، ويقولون في المجامعة كلمات كفريَّة تقشعرُّ منها الجلود ــ والعياذ بالله ــ لا نقدر على حكايتها.
إلى أن قال: "وحسن الضَّالعي هذا قد اجتمع بالشيخ الصالح العلَّامة سالم بن عبد الرحمن بن عوض باصهي، فلمَّا رآه الشيخ المذكور ضالًّا في اعتقاده ألَّف رسالةً سمَّاها "كشف الغطا عمَّا يحصل لبعض السَّالكين من الخَطَا"، يظنُّ أنَّه سيرجع بها.
وحيث إنَّ ضلاله بسبب عدم فهمه كلام الصوفية، ولم يعلم أنَّه ليس من الصوفيَّة، بل هو ملحدٌ أصليٌّ، متمكِّنٌ من إلحاده، وإنَّما يتظاهر بحكاية كلام الصوفيَّة ليستجلب الناس؛ لعِلمه أنَّ الناس يعتقدون [في
(1)
] المتصوِّفة والمتنسِّكة.
فلمَّا ظهر بدعوته الخبيثة إلى دينه الجديد الخبيث المخبث في جبل يافع ألَّف الشيخ المذكور رسالةً أخرى [تذييلًا]
(2)
لتلك الرسالة، قال فيها ما نصُّه: "وبعد، فقد بلغني أنَّه ظهر رجلٌ في جبل يافع يسمَّى السَّيِّد حسن
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
(2)
في الأصل: "تذييل".
الضَّالعي، يدعو الناس إلى وحدة الوجود، وهي: اعتقاد أنَّ هذه الموجودات كلَّها عين الحقِّ، وأن لا خَلْقَ أصلًا، فتعجَّبتُ لذلك غاية العجب؛ حيث إنَّ هذا الرجل المسمَّى السيِّد حسن الضَّالعي قد اتَّفقت به منذ سبع سنوات في صَبْيَا، قرية من قرى اليمن، مشهورة، وأخبرني أنَّه طاف البلاد، ولا مصر إلَّا ودخله، واتفق بعلمائه وصلحائه، واجتمعنا في صَبْيَا نحو ثلاثة أشهر.
وفي تلك المدَّة كلِّها ونحن نتذاكر العلوم، حتى بيَّن لنا طريقته التي هو عليها كتب الشيخ محيي الدِّين بن عربي، وكتب عبد الكريم الكيلاني، مؤلِّف كتاب "الإنسان الكامل"
(1)
.
وأنَّه معتقدٌ معتقداتهم، في أنَّ هذا الوجود وما فيه من المخلوقات كلّها عين الحقِّ متنوّع بزعمه، وأن لا خلق أصلًا، وأنَّ هذه المخلوقات كلَّها عين الحق تنوّع ذاته، فتارة يجعلها جبالًا، وتارةً يجعلها ريحًا، وتارةً يجعلها بحارًا، وهكذا، فما هناك خلقٌ أصلًا".
فانْبَهَرتُ من هذا الاعتقاد الخبيث، فقلت: يا سيِّد حسن، هذه وحدة الوجود، التي أجمعت الأمَّة كلُّها على كفر أهلها ومنتحليها [ص 16] ومعتقديها.
بل معتقد ذلك كافرٌ بالقرآن من أوَّله إلى آخره؛ لأنَّ القرآن مصرِّحٌ بأنَّ العالَم وما فيه خَلْقُ الله، قال الله جلَّ ذكرُه:{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، وقال تعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ
(1)
يقصد كتاب "الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل" لعبد الكريم الجيلي.
خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11]، وقال تعالى: {الَّذِي
(1)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 59]، وقال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} الآية [المؤمنون: 12]، وقال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]. إلى آخر ما قال الله من أول القرآن إلى آخره، في أنَّ العالَم وما فيه خلق الله، هو الذي خلقهم.
وأنت تقول: إنَّهم عينُ الله، لا خلقُ الله، وتنكر الخلق رأسًا، والقرآن أثبت الخلق صريحًا، فكلامك هذا إنكار لما في القرآن صريحًا، وتكذيب
(2)
لنصوص القرآن كله من أوله إلى آخره.
فعند ذلك توقَّف، وبقي يُغالط بكلام القوم الدقيق، وشطحاتهم، وسائر ألفاظهم التي توهم هذا القول، وأنا أقول له: لم يريدوا بهذا الكلام ما تعتقده أصلًا، وحاشاهم من ذلك.
وطالت المراجعة فيما بيني وبينه في ذلك، حتى قال لي: صوِّر لي ما عرفته من كلامهم، وما مرادهم بتلك الألفاظ، فجعلنا له نبذةً، وسمَّيناها "كشف الغطا عمَّا يحصل لبعض السَّالكين من الخطا عند مقدمات حال الفنا والفتح والمواهب والعطا"، وبيَّنَّا في ذلك الصواب من الخطا؛ لأنَّ الغلط يدخل على الإنسان في الطريق من محلَّين:
الأول: من مطالعة كتب القوم الدقيقة المعقَّدة، خصوصًا كتب محيي
(1)
في الأصل: "وهو الذي".
(2)
في الأصل: "وتكذيبًا".
الدين والكيلاني عبد الكريم، وما جرى مجرى ذلك؛ فيفهم المطالع من ذلك غير المراد لدقَّة الكلام
(1)
. ولهذا المعنى حرَّموا قراءة كتب هذين الشيخين، وما جرى مجراها.
والمحلُّ الثاني الذي يحصل الغلط على السَّالك فيه: عند مقدِّمات الفتح، وقد بيَّنَّا هذا كلَّه في النُّبذة المذكورة غاية البيان والإيضاح، وميَّزنا فيها بمعونة الله الخطأ من الصواب.
فلمَّا أُوقِف على تلك النُّبذة سكت وانقبض، وأخذ نحو شهرٍ كالمضطرب في أمره.
ثمَّ إن الله تكرَّم عليه، فرأى رؤيا بعد مُضِيِّ هذه المدَّة، فجاء إليَّ وقال: إنِّي رأيت سيِّدنا أبا بكر الصِّديق في المنام، فقلتُ له: مرادي أن تريني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قُم، وأخذ بيدي، [فلم يزل] يمشي معي حتى وصلنا مسجدكم هذا، فوجدناك في المسجد وحدك [ص 9]، فقال لي أبو بكر: هذا النبيُّ، يعنيكَ.
فقلتُ له: هذا صاحبي فلان! قال: هذا النبيُّ.
قال: فعرفتُ عند ذلك أنَّك على الحقِّ، وعلى الهدي المحمَّدي، وكل
(1)
هذه من الاعتذارات التي حملها بعض المدافعين عنهما وأمثالهما.
وقد قال الذهبي في "السِّيَر"(23/ 48) عن محيي الدين ابن عربي: "ومن أردأ تواليفه كتاب "الفُصُوص"، فإن كان لا كفر فيه فما في الدنيا كفرٌ".
وقال الشوكاني في "الصوارم الحداد"(ص 41): "الإنسان الكامل لعبد الكريم الجيلي اتِّحادٌ محْضٌ"، وقال (ص 57):"لا تجد في كتب القوم مثله في التصريح بالاتحاد والإلحاد".
ما قلتَه حقٌّ وصِدقٌ.
حكى لي هذه الرؤيا بالمجمع من الخلق، [وظننتُ]
(1)
أنَّه قد رجع عن هذه النِّحلة؛ لأنَّها ظهرت لي منه أشاير القبول، ولم يذكر لي شيئًا مخالفًا ذلك، وغلب على ظنِّي أنَّه رجع عن ذلك الاعتقاد الخبيث، وبقي عندنا بعد ذلك نحو شهر، وسار وهو على حاله المحمود.
واتَّفقت به مرَّةً في عَدَن، بعد سنةٍ أو نحوها، وحصل بيني وبينه من البِشْر والفرح والمحبَّة، حتى قال لي: أشهدُ بالله أنَّك واصلٌ، وأنا أعلم أنِّي لستُ بهذه المثابة. إنَّما فرحت منه واستدلَّيت
(2)
بذلك الكلام".
[ص 15] وقال أخوه السيِّد عبد الله بن طاهر في جوابٍ كتبه إلى الشيخ عبد الله بن علي [الفوري] بعد ذكر الرجل المسمَّى بالسيِّد صالح ما لفظه: "فاعْلم أيَّها الوالد ــ نفعنا الله بصالح دعواتك ــ أنَّا اطَّلَعْنا وتحقَّقنا من الرجل المذكور تحقُّقًا كان عندنا كالشمس في الظُّهور، أنَّه ليس من أهل النُّور، بل من أهل الكذب والزُّور، بل لنا على ما بلغنا عنه من سوء الاعتقاد، وأنَّه من أهل الكفر والإلحاد، ينتحل مذهب القائلين ــ والعياذ بالله ــ بالحلول والاتحاد".
إلى أن قال: "ولعلَّه لا يخفى عليكم ما حاصلٌ في جبل يافِع من دجَّال الضَّالع، الكاذب المفتون، الذي سمَّى نفسه أبا هارون، والسادةُ الكرام آل باهارون ــ بل جميع أهل البيت الطَّاهر ــ منه بريئون، قال صلى الله عليه وسلم: "من
(1)
في الأصل بالضاد.
(2)
كذا في الأصل.
انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفًا ولا عدلًا"
(1)
.
وأنساب آل با هارون وشجرتهم محفوظة ومضبوطة، وسيرهم محمودة ومغبوطة، ما فيهم كذَّابٌ ولا دجَّالٌ، ولا داعٍ إلى ضلال، ولا يعرف لهذا الفاجر بهم انتساب ولا اتِّصال .. الخ".
وقال با [شيخ] في أوائل رسالته: "قد وصل إلينا سؤالٌ من محبٍّ صادق، وخِلٍّ موافق، وهو الشيخ الفاضل محسن بن قاسم بن حسين الجهوري اليافعي محتدًا، والموسط بلدًا، قد ملأ الله قلبه بالإيمان، فأنكر الباطل وعزم على إزالته بلسانه ويده والجنان، وفَّقنا الله وإيَّاه لمرضاته، وسلك بنا وبه سبيل نجاته، آمين.
مضمونه بعد البسملة والحمدلة: ما قول ساداتي العلماء الأعلام ــ نفع الله بهم الخاص والعام ــ في هذا الرجل الذي خرج إلى جبل يافع، بلاد برية، وأرض بادية، يُقال له: حسن بن هارون أظهر أمورًا بطَّالة، كفرٌ صريحٌ في الشريعة الغراء، وقد قرأنا عنده، وقال: إنَّ العقيدة التي تؤخذ عليها العهد والمواثيق من الطالب، ونأمره بكتمها هي علم التوحيد، وهو علم الباطن، ويقول: إنَّ الوجود والموجودات كلها الله، الظاهرة والباطنة، وكل رطب ويابس، وطاهر ونجس، وكافر ومسلم، وحق وباطل، وحلال وحرام= كل ذلك الله لا غير، تعالى الله عمَّا يقول هذا الجاحد الكافر علوًّا كبيرًا.
وقال برفع التكاليف عن الناس، لا صلاة، ولا صيام، ولا زكاة عليهم،
(1)
أخرجه مسلم (1370) بنحو هذا السياق، من حديث عليٍّ رضي الله عنه.
ولا حج، وإنَّما الحج عبادة جدار!
وقال: إنَّ القرآن إنَّما هو حديث الرسل والفراعنة، والمذكور فيه من جبال وأحجار وأشجار، وجنَّة ونار، وحشر ونشر، ومشرق ومغرب= فهي فيك أيها الإنسان جميعا .. الخ.
[ص 19] وخلاصة تخبُّطات المخذول ــ والعياذ بالله ــ أنَّه ينكر محمَّدًا صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن. فاضْبطوا هذا:
س: بأيِّ شيءٍ ثبَت عندك الإنجيل؟
ج: بثبات التوراة.
س: بأيِّ شيءٍ ثبتت التوراة؟
ج: بإقرار القرآن.
س: القرآن في زعمك ليس بشيءٍ، فكيف تتَّخذه حجَّةً في دينك؟
ج: أثبتُ التوراة [بالتواريخ] الأجنبيَّة.
س: التواريخ الأجنبيَّة ــ كما بينَّا سابقًا ــ لا تقوم بها حُجَّةٌ؛ لأنَّ مصدرها عن أحبار اليهود، وكم في التواريخ من كذبٍ مناقض للعقل.
ج: أثبتُ التوراة بنقل الكواف لها.
س: قد بينَّا لك عدم اتِّصال النَّقل كافَّة عن كافَّةٍ، وما جرى على التوراة من الغربة والإحراق [وغير ذلك].
ج: ثبت الإنجيل بنقل الكواف.
س: ليس بأيدي النَّصارى إنجيل منزَّلٌ على عيسى، وإنَّما هي تواريخ لفَّقَهَا "مَتَّى"[وإخوانه].
ج: اتَّصلت الكوافُّ بـ"مَتَّى" وإخوانه، وظهرت لهم معجزات.
س: هل كانوا أنبياء مع قول المسيح عليه السلام؟
ج: إن لم يكونوا أنبياء فأصحاب المسيح نقلوا عنه، كما نقل أصحاب محمَّدٍ عنه.
س: أصحاب محمَّد كانوا [من الثِّقة التي] تقوم بهم الحُجَّة في إثبات القرآن وغيره من المعتقدات، ثم لم يزل الأمر كذلك إلى الآن. [ولا كذلك أصحاب متَّى] كما أشرنا إليه سابقًا عن "الملل والنِّحَل"، وهو شيءٌ واضحٌ يعلمه النَّصارى وغيرهم.
وقد نقل الإمام رحمةُ الله في [كتابه "إظهار] الحق"
(1)
عن أكابر أهل الكتاب الاتِّفاق على وقوع التَّحريف والتَّبديل الذي لا يُحْصَى في العَهْدَين العتيق والجديد مرارًا عمدًا وسهوًا، وذكروا أسباب ذلك، و [حرَّروها] بأوضح بيان، وأنَّ علماء [هم] الكبار لم يكونوا يتحاشون عن ذلك، بل يعدُّونه قربة، ولا يخفونه عن أمثالهم، وها نحن نرى كثيرًا ممَّا نقله علماء المسلمين قديمًا عن كتب العهدين لا يوجد بعضه في كتبهما الموجودة اليوم.
ج: أثبتُّ التوراة بما فيها من التَّبشير بعيسى ورفعه وصفته .. الخ؛ لأنَّه من الإخبار بالغيب، ولا داعي لليهود إلى تزوير ذلك، وهو ضدُّهم، وبثبوتها أثبت ما تضمَّنته تلك البشارة .. إلخ.
(1)
في مواضع كثيرة منه كـ (1/ 38، 67، 80، 105، 116، 117 - 119، 146، 150) وغيرها.
س: في هذا احتمالان:
الأول: ما تقوله اليهود، أنَّهم دسُّوا على النَّصارى أولئك النَّفر ليشوِّشوا دينهم، وذكرنا لك بعض شواهد ذلك، والشواهد عليه كثيرةٌ، أقلها أنَّه باعتراف النصارى أنَّ أولئك النَّفر كانوا يظهرون اليهوديَّة .. الخ، فلعلَّهم رأوا أنَّ أقرب ما يستهوون به أتباع النصرانية أن يزوِّروا لهم بشارةً في التَّوراة، مشوبةً بأوهام التَّثليث! فهذا الوجه يفسخ الشُّبهة التي ظننتَها مثبِتَةً للتوراة و [
…
] عليها.
ولو سلَّمنا ثبوت التوراة فقد ذكرنا سابقًا وجهين في تلك البشارة:
أحدهما: أنَّ الذين تلاعبوا بالتوراة من المرتدِّين والزنادقة وعبدة الأوثان وجدوا البشارة بعيسى في التوراة، فزادوا فيها مثل ما زادوا في غيرها، من ذكر الأبوَّة والبنوَّة وغيرهما.
الثاني: أنَّ أولئك النَّفر الذين دسَّهم اليهود لتشويش دين النَّصارى هم الذين زادوا تلك الأشياء، لاستهواء النَّصارى، ومع ذلك فقد احترس اليهود لأنفسهم بتأخير تاريخ [
…
].
وأيضًا احترسوا بذكر فصول في الإنجيل، أنَّ عيسى دعا بالمغفرة
(1)
للذين صلبوه، وعفا عنهم، وأنَّه لم يجيء لنقص حرفٍ واحدٍ من التوراة، إلى آخر ما شرحناه سابقًا. نسأل الله العافية.
ولعل هنالك احتمالات غير ما ذكرنا.
والقصد أنَّ مثل تلك الشُّبهة لا يقتنع بها العاقل حُجَّة في دينه، وهل
(1)
في الأصل: "في المغفرة".
رأيت هذه الشبهة الضعيفة أقوى شيءٍ يتبعه العاقل ويتَّخذه دينًا، حتى وجدتها أقوى من القرآن وما معه!
ليتك راجعت التوراة والإنجيل هذه المزيَّفِين المبدَّلين، لنقف على ما أعمى الله عنه أولئك الأنذال، في الفصول التي ترجَّح أن تكون بشارة بمحمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، فإنَّها كثيرة. ومع هذا فقد عرفت ما في هذه الكتب من الكذب والمناقضات، وأنَّ مؤلِّفي الأناجيل كذَّابون، لا يصحُّ [أخذ] دينٍ منهم، ولا يصحُّ إطلاق الحواريين عليهم، وإن لم نعلم أسماءهم الآن.
سبحان من وسع كل شيءٍ علمًا، ونعوذ به من الخذلان، ونبتهل إلى الله تعالى أن يثبِّت قلوبنا على الإيمان، ويختم لنا بالإحسان.
[ص 17] ثم أخذ هذا المخذول يتخبَّط في خيالات واهية، إلى أن قال:"فلِمَ لَمْ يكذِّب القرآنُ التوراة والإنجيل"؟
فنقول: يا مخذول، أي شيء مسمَّى التوراة والإنجيل في الحقيقة؟ أليس هو الكتابَيْن المنزَّلَين من الله تعالى؟ لا شكَّ في ذلك.
وقد بيَّنَّا لك بما سبق أنَّ ما بأيدي القوم من قبل بعثة النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم مبدَّلٌ مغيَّرٌ، قد اختلط فيه الحق بالباطل.
وأمَّا قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} [آل عمران: 93]؛ فسمَّى ما بأيديهم "التوراة" لاشتماله على شيءٍ منها، من جملته الشيء المسوقةُ الآيةُ لبيانِهِ، مع أنَّهم كانوا يسمُّون ذلك السِّفْر بالتَّوراة ويزعمون أنَّه التَّوراة.
إلى أن قال: {يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ} [آل عمران: 45]، لِمَ كانت البشارة خلاف [المعتاد]؟
نقول لك: كما بُشِّر إبراهيم بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، وزكريا بيحيى، فإنَّ إبراهيم وزكريا كانا قد كبرا، فلذلك بُشِّرا؛ لأنَّ مجيء الولد للكبير خلاف المعتاد، فبُشِّرا بخلاف المعتاد.
وكذلك مريم عليها السلام، لمَّا كان الولد من غير أبٍ كان خلاف المعتاد= بُشِّرت على خلاف المعتاد.
قال المخذول: لم سُمِّي المسيح؟ أقوال، في الجملة أنَّه مسح بدهن كان يمسح به الأنبياء، ما حكمة التخصيص بالتسمية، وقد حصل لكلِّهم واحيرتاه!
أقول: أيها المخذول، نعوذ بالله من الخذلان الذي أصبح يريك الهباء في أجرام الجبال، ما منعك أن تقول: المَسْح في اللُّغة يطلق على أن يخلق الله الشيء مباركًا، ومنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في جرير بن عبد الله البجلي:"يطلع عليكم رجل عليه مَسْحَة ملَك، هو خير ذي يَمَن"
(1)
.
فإن قلتَ: فليس الأنبياء جميعهم مباركين؟
قلتُ: بلى! أفليسوا كلهم عبيد الله، فلِمَ خُصِّصَ يعقوبُ بإسرائيل
(2)
.
(1)
أخرجه أحمد (4/ 359) وابن خزيمة (1797) وابن حبَّان (7199) والحاكم (1/ 285)، وغيرهم، من حديث المغيرة بن شبل عن جرير رضي الله عنه.
قال الحاكم: "حديث صحيح على شرط الشيخين"، ووافقه الذهبي. وقال الهيثمي في "المجمع" (9/ 372):"رجاله رجال الصحيح".
(2)
أي: لأنَّ معنى "إسرائيل" في العبرانية: عبد الله، فإنَّ "إسرا" معناه: عبد، و"إيل": الله، كما هو مأثور عن ابن عباس وغيره. يُنظَر:"تفسير الطبري"(1/ 593)، و"تفسير القرطبي"(2/ 6)، و"الدُّر المنثور" للسيوطي (1/ 337 - 338).
وهذا من الأسئلة الواهية.
قال المخذول: ما حكمة ولادته من عذراء بدون أبٍ بعد استقرار ناموس التناسل؟
نقول له: كما قال تعالى: {وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ} [مريم: 21]. يا مخذول هذه خارقةٌ من جملة الخوارق، كإحيائه للموتى، وإبرائه للأَكْمَهِ والأبرص، وكما وقع لغيره من الأنبياء الإحياء والإبراء ونحوهما، وكرمي أصحاب الفيل وغيرها.
وهَبْ أنَّ لذلك حكمة أخرى هل هنالك أدنى شبهة على ألوهيَّته؟ !
وقد قيل: إنَّ الحِكمة هو أن يكمل أقسام الخلق، خلق آدم من غير حيٍّ، وحواء من حيٍّ ذكر فقط، وبقيَّة الناس من حيَّيْن، ذكر وأنثى، فخلق المسيح تكملة للأقسام، من حيٍّ أنثى فقط؛ للدلالة على [أنَّ] قدرة الله تعالى شاملة لخلق أضداد، يعني: لكلِّ قِسمٍ من الأقسام.
[ص 20] قال المخذول: وما الحكمة في خلقه كهيئة الطير طيرًا، وإحياء الموتى، وهذا من وظائف
(1)
الله الخاصَّة؟
نقول: يا مخذول! أمَّا إحياء الموتى فقد وقع لغيره أكثر منه، وأمَّا خلقه كهيئة الطَّير فليست بأغرب من الإحياء؛ لأنَّ كلًّا منهما حياة واردة على موات.
ودعنا من هذا، هل كان الإحياء بإذن الله أو بدون إذن الله؟
(1)
في الأصل: "وضائف".
إن كان بإذن الله ــ كما هو الواقع ــ والذي نقرُّ به فقد تبيَّن أنَّه ليس للمسيح إلَّا السَّبب؛ إذْ افْتَقَرَ إلى إذن غيره.
وإن قلتَ: إنَّه بلا إذن من الله تعالى فهذا كذبٌ بحتٌ، وتكذيبٌ لكتب الله تعالى.
ثمَّ ذكر حديث مسلم
(1)
: "ما من مولودٍ إلَّا والشيطان ينخسه إلَّا عيسى ابن مريم وأمَّه"، وسأل عن عِلَّة التَّخصيص؟
فيُقال له: يا مخذول ما من نبيٍّ من الأنبياء إلَّا وله مزايا، فلو كان كل من له مزيَّةٌ يستدلُّ بها على إلهيَّته لامتلأت الدنيا آلهةً!
ثم عاد المخذول في إنكار التَّحريف، وزعم أنَّه لا حامل لليهود على زيادة ذلك في توراتهم؛ لأنَّه ينادي عليهم بالكفر.
أقول: لم أقف على هذا الفصل من التوراة، حتى أتأمله على صحَّته، ولكن الجواب ــ وبالله الثِّقة ــ من وجهين:
الأول: أنَّه كان في التوراة المنزَّلة ذكر عيسى عليه السلام وزمنه وصفته .. الخ، فلمَّا تلاعبت الأيدي بالتوراة ودسَّت ذلك جعله هذا المخذول دليلًا على التثليث. قد ذكر [
…
] في التوراة كثيرًا من الناس باسم ابن الله، وأبناء، وزوجة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا، فلمَّا بُعِث المسيح كانت التوراة قد انتشرت قليلًا، فلم يمكنهم إزالة ذلك.
الثاني: أن يكون اليهود بعد وفاة المسيح علموا أنَّه إذا ثبت دينُه كانت
(1)
حديث (2366).
القاضية على دينهم المبدَّل المغيَّر، فدسُّوا
(1)
هؤلاء القوم، أصحاب الأناجيل، لتبديل دين المسيح، واليهود تدَّعي هذا، كما في "الملل"
(2)
وغيرها، فتوسَّل هؤلاء الشياطين إلى تبديل دين المسيح، بذكر تلك الزيادة في التوراة.
في التوراة ذكر المسيح، وبتعيين السَنَة، والبلد، والصِّفة، ومدَّة مكثه، وارتفاعه، وأنَّهم سيكفرون به، ويعاملونه بكذا وكذا؛ حتى يعر [ف] من عرف [المسيح] أو شا [هده]، فيقولوا:[إن] نعته في [التوراة
…
] وقد حكم [بذلك] التوراة وعلى هذا التوراة [ .... ] النصرانية.
وعلى كلا القولين فقد رأيتُ في التَّواريخ أنَّ الزِّيادة التي أسقطها اليهود من تاريخ الدنيا إنَّما أسقطوها معارضة للمسيح؛ لأنَّه موصوفٌ في توراتهم بزمانه فأخَّروا التاريخ، وقالوا: إنَّ المسيح لم يجئ بعد.
ولم أطَّلع في الحال على ذكر المسيح في التوراة حتى أحقِّق النَّظر في التاريخ، ولكن قد علمت الحامل لليهود على الزيادة في هذه التوراة.
فكأنَّ اليهود قصدوا تضليل النَّصارى بترك تلك الصفة في التوراة، ودفعوا الكفر عن أنفسهم بتأخير التاريخ.
ويدلُّ على هذا عِدَّة فصول في الإنجيل، منها ما في "إنجيل لوقا" [
…
] قال: "فلمَّا بلغوا إلى الموضع الذي يدعى "الأجرد"
(3)
صلبوه فيه، وصلبوا
(1)
كذا في الأصل.
(2)
"الفِصَل في الملل والأهواء والنِحَل" لابن حزم (2/ 204).
(3)
في الكتاب المقدَّس عندهم (ص 274) من "إنجيل لوقا"، إصحاح 23 فقرة 33:"المكان المعروف بالجمجمة".
وكذا في "إنجيل متَّى" إصحاح 27 فقرة 33، (ص 115):"المكان الذي يقال له جُلجُثة، أي: مكان الجمجمة". وفي "مرقس" إصحاح 15 فقرة 22 (ص 175)، وفي "يوحنَّا" إصحاح 19 فقرة 17 (ص 354). وكذلك هو في "إظهار الحق" لرحمة الله الهندي (1/ 218).
وتسميته بـ"الأجرد" موافق لابن حزمٍ في "الفِصَل"(2/ 155).
معه السارقين والعابثين، عن يمينه وشماله، فقال يسوع: يا أبتاه اغفر لهم؛ لأنَّهم يجهلون ما يصنعون، ولا يدرون فعلهم". فدسَّ ذلك اليهودي هذه الكلمة ليتخلَّص اليهود من ملامة النَّصارى، مع ما يلزمها من التَّضليل شأن [عيسى].
ولا يعزب عنك أنَّ هوى اليهود تضليل النصارى والتلاعب بهم، بالمحالات والمتناقضات، ومع هذا فمَن وقف على تاريخ التوراة والإنجيل، على ما شرحه ابن حزمٍ ورحمة الله الهندي باعتراف أهل الكتاب لم يُعِرْ هذه الشبهة أدنى نظرٍ؛ لأنَّه يرى أنَّ سوق التلاعبات فيها لا تزال قائمة، وأنَّها في بعض الأزمان تفقد ثم تخرج من مصدر واحدٍ، وأنَّ القوم يرون التبديل والتغيير دينًا.
ولقد صرت بسبب اطِّلاعي على ما ذكره ابن حزمٍ ورحمة الله على شكٍّ من هذه التوراة المطبوعة وحُقَّ لي أن أشك، هل ثَمَّ نسخة في الكون يوافقها؟ وهل [تلك] النسخة نُقِلَت عن نسخةٍ أم لا؟
ولا سبيل لأَن يجد أحد ما أجد إلَّا باطِّلاعه على ما اطَّلعت!
ثم أخذ يخاطب القرآن، بأنَّه قد ثبت لديه نزول التوراة من عند الله تعالى، وعدم تغييرها، وثبوتها يثبت الإنجيل، والقرآن يشهد بذلك، وأخذ يطالب القرآن بالدليل.
فنقول له: يا سخيف، أنت لا تجد على التوراة والإنجيل دليلًا إلَّا القرآن، فأمَّا نقل اليهود والنصارى فليس بحُجَّةٍ؛ لانقطاعه في مبدئه، كما بيَّنه الإمام ابن حزمٍ، بشهادة كتب هؤلاء القوم وتواريخهم.
وأمَّا التَّواريخ التي ذكرت فإنَّها ممَّا لا يقوم بها دليلٌ كهذا. وهذه تواريخ المجوس فيها من الكذب والبهت ما يستحي العاقل أن يصدِّق به.
على أنَّ المؤرِّخ يكتفي بالسَّماع، فما يؤمِّنك أنَّ المؤرِّخين المذكورين سمعوا من اليهود أنفسهم أخبارًا [فدوَّنوها] كما سمعوها، فهل يكون التَّدوين المذكور حُجَّة دينيَّة؟!
إذا تقرَّر هذا فكيف تُطالب القرآن بالدَّليل وهو دليلك على التَّوراة التي دلَّتك على الإنجيل؛ فإن سقط القرآن سقَطَت التَّوراة، فسقط الإنجيل يا مخذول.
فإن قلت: فإنَّ إقرارنا بالتَّوراة والإنجيل كافٍ.
قلنا: نحن لا نقرُّ بتوراة وإنجيل مخالفة لما وصَفَه الله تعالى في كتابه القرآن، ولا نؤمن بنبيٍّ ليس كما وصفه الله، لا عيسى ولا موسى ولا غيرهما.
[ص 23] ثم أخذ المخذول ينازع في إعجاز القرآن.
فيُقال له: هذا شيءٌ مفروغٌ منه؛ فإنَّه لا ينكر أحدٌ أنَّ العرب كانوا في زمانه صلى الله عليه وآله وسلم بأعلى طبقات الفصاحة والبلاغة، وقد نقلت
الكواف العظمى أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم تحدَّاهم بالقرآن، وبأقل جزءٍ منه، فوجموا وأحجموا وخرسوا عن ذلك، واعترفوا بعجزهم، وقال داهيتهم الوليد بن المغيرة لمَّا سمع آيات منه:"والله لقد سمعتُ من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس، ولا هو من كلام الجن، وإنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإن أعلاه [لمثمر وإنَّ] أسفله لمغدق، وإنَّه يعلو ولا يُعْلَى عليه"
(1)
.
حتى آل بهم الأمر إلى القتال.
وبعدُ، فوجوه إعجاز القرآن كثيرة، ليست البلاغة فقط؛ فإنَّ فيه الإخبار بالغيب، كالإخبار عن غلب الروم، وأنَّهم بعد غَلَبِهم سيغلبون في بضع سنين
(2)
، والإخبار عن أهل الكتاب أنَّهم لا يتمنَّون الموت
(3)
، والوعد
(1)
أخرجه الحاكم في "المستدرك"(2/ 507) ومن طريقه البيهقي في "الشُّعب"(1/ 157) وغيرِه، عن عكرمة عن ابن عباسٍ رضي الله عنه بنحوه.
قال الحاكم: "صحيح الإسناد على شرط البخاري". وقال العراقي في "المغني عن حمل الأسفار"(1/ 223): "بسند جيد".
(2)
يعني: قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم: 2 - 4].
(3)
يعني: قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 94 - 95]، وقوله تعالى:{قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [الجمعة: 6 - 7].
بإحدى الطَّائفتين
(1)
، والبشرى بالفتح
(2)
.
وزِدْ على ذلك أخبار الأنبياء وأممهم، مع أنَّ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم كان رجلًا أُمِّيًّا لا يكتب ولا يحسب، وكان مشهورًا بالصدق والأمانة، لا يخون ولا يكذب.
أمَّا قولك: إنَّ كثيرًا من الخطباء والشُّعراء السَّابقين واللَّاحقين تحدَّوا معاصريهم، فلم يعارضوهم، وأقرُّوا لهم بالسَّبق= فأقول: اللَّهم يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك.
أولًا لا يسلَّم وقوع ذلك؛ فلا بد أن يكون موجودًا في الكون ــ سابقًا أو لاحقًا ــ من ساواه أو زاد عليه، سواء قصد المعارضة أم لا. فأمَّا القرآن فهات كلامًا متقدِّمًا أو متأخِّرًا يشبهه، أو عارِضْه أنتَ، ليتمَّ عليك الخذلان. ولو سلَّمنا فقل لي: أَلَا تُبصر فرقًا بين تحدِّي شاعرٍ لبضعة شعراء أو خطيب لبضعة خطباء، بقصيدةٍ لا تجاوز الخمسين أو السبعين بيتًا، وخطبة في [
…
] ولا يلزم من عدم معارضتهم شيء سوى قول: هو أفصحهم= وبين تحدِّي رجل أُمِّيٍّ لأمَّةٍ كبرى، هي أُمَّة اللسان والبيان، في أقل جزء من كتابٍ كبير، وقد ضلَّلهم وضلَّل آباءهم وسبَّ آلهتهم! ويلزم من عدم معارضتهم انقلابٌ دينيٌّ عظيم، وترك مألوفات عديدة، إلى غير ذلك حتى عادوا إلى القتال! العياذ بالله من الضلال المبين.
(1)
يعني: قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7].
(2)
يعني: قوله تعالى: {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13].
وها هو القرآن بين يديك، اختر منه بضع آيات، واقرنها بأي كلامٍ شئت من كلام المتقدِّمين والمتأخِّرين، أو من كلام محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم نفسه، أو من كلام بعض أصحابه. وانظر الفرق إن كان بقي لعقلك أثر، وإلَّا فراجع الكتب المؤلَّفة في إعجاز القرآن، كتأليف الباقلَّاني
(1)
وغيره.
والله لا يسمع القرآن رجلٌ ذو مسكةٍ بكلام العرب إلَّا تيقَّن أنَّه ليس من كلام البشر.
على أنَّ بعض الزَّنادقة قد حاول معارضة القرآن، فلو نظرتَ بين كلام ذلك المعارِض في المعارضة وكلامه في غير المعارضة لظهر لك الفرق الجليُّ الواضحُ. وذلك أنَّ كلامه في المعارضة كلامٌ غثٌّ ركيكٌ إلى حدٍّ لا يخفى على أحدٍ.
وبالله العظيم لو لم يكن لمحمَّد صلَّى الله وسلَّم عليه وآله آيةٌ إلَّا القرآن، ولم يكن في القرآن وجهٌ من وجوه الإعجاز إلَّا سلامته من المناقضة والكذب الذي عمَّ ما بأيدي أهل الكتاب من الكتب، وصدق الله تعالى إذ قال:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82].
بل لو لم يكن فيه إلَّا حفظُه من التغيير والتبديل، لاستمرار نقل الكواف العظمى عن الكواف العظمى، بخلاف التوراة والإنجيل التي كانت مبادئها [
…
] متقطعة= لكان ذلك كافيًا أيضًا.
(1)
يقصد "إعجاز القرآن" للباقلَّاني.
[ص 24]
(1)
.
[ص 25] أيُّها المخذول: إنَّ كلامك يبرهن عليك أنَّك لا تعرف القواعد العربيَّة ولا القوانين الجدليَّة، وإنَّما عندك نوعٌ من الذكاء الفاسد المحترق، قادك الشيطان، وأسلمك الخذلان إلى أن تستعمـ[ـله] في المهم الأعظم، وهو الدين، فأخذت ترسف في قيود الحرمان، وتتعثَّر [بذيول الخسران]، فنعوذ بالله من تخبُّط الشيطان.
ثم ذكر معاصي الأنبياء، وأنَّ في القرآن [إتيانهم المعاصي].
ونعم، في القرآن عن آدم أنَّ الله عاهده فنسي، وأنَّه عصى ربَّه فغوى، وأنَّ [الشيطان أغواه ووسوس إليه]؛ وذلك أنَّ الله تعالى بيَّن لآدم أنَّ إبليس عدوُّه، ثمَّ نهاه عن الأكل من الشجرة، فجاءه إبليس [وإلى زوجه]، وقاسمهما إنِّي لكما لمن النَّاصحين، ودلَّاهما بغرور؛ إذ قال لهما:{مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ} [الأعراف: 20]، فنسي آدم ما أعلمه الله تعالى من عداوة إبليس، وحسَّن الظنَّ به، وظنَّ أنَّ الأكل من الشَّجرة إنَّما يزيده قربًا من الله تعالى، فوقع فيما وقع فيه. فالأكل معصية، ولكن لم يباشرها إلَّا متأوِّلًا، ولم يتعمَّد معصية الله تعالى.
وأمَّا قوله تعالى: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا} الآية [الأعراف: 189] فلم تنزل في آدم وحوَّاء، وإنَّما نزلت في المشركين، رغمًا عن الوضَّاعين الكذَّابين
(2)
.
(1)
هنا صفحة في أكثر من ثلثيها الأيمن عاموديًّا خرمٌ، وضرب الشيخ على نصفها الباقي، ومضمون بعض كلماتها الظاهرة عن إعجاز القرآن وصدق نسبته لله تعالى.
(2)
ساق الحافظ ابن كثير رحمه الله (3/ 525 - 528) جملةً من الآثار الواردة في هذه الآية، ثم قال: "وقد تلقَّى هذا الأثر عن ابن عباس جماعة من أصحابه، كمجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة، ومن الطبقة الثانية قتادة والسدي وغير واحد من السلف وجماعة من الخلف، ومن المفسِّرين من المتأخِّرين جماعات لا يحصون كثرة.
وكأنَّه والله أعلم أصله مأخوذ من أهل الكتاب، فإنَّ ابن عباس رواه عن أُبَي بن كعب رضي الله عنه .. وقد صحَّ الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا حدَّثكم أهل الكتاب فلا تصدِّقوهم ولا تكذِّبوهم ..
وأمَّا نحن فعلى مذهب الحسن البصري، رحمه الله في هذا، وأنَّه ليس المراد من هذا السِّياق آدم وحواء، وإنَّما المراد من ذلك المشركون من ذريَّته؛ ولهذا قال الله:{فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} ".
وأمَّا نوح عليه السلام، وقوله:{إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] فإنَّه تأوَّل، ولم يتعمَّد، كما هو واضحٌ.
وأمَّا إبراهيم عليه السلام فكلماته في المعاريض، وإنَّما يُقال لها كذب بحسب المتبادر منها فقط، كما هو واضح
(1)
.
وقوله في الكوكب والقمر والشمس: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] استهزاء وسخرية بقومه؛ توصُّلًا لإقامة الحُجَّة عليهم، ومعنى ذلك قوله تعالى بعد ذلك:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام: 83].
(1)
يشير إلى ما أخرجه البخاري (3358) ومسلم (2371) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لم يكذب إبراهيم عليه السلام إلَّا ثلاث كذبات، ثنتين منهنَّ في ذات الله عز وجل، قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}، وقال: بينا هو ذات يوم وسارة إذ أتى على جبَّار من الجبابرة، فقيل له: إنَّ ههنا رجلًا معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها، فقال: من هذه؟ قال: أختي .. " الحديث.
وقوله تعالى: {وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] ليس على أدنى شكٍّ، وإنَّما أراد أن يرى الكيفيَّة، كما أنَّنا الآن لا نشكُّ في وجود مصر، ولكن نحبُّ رؤيتها.
وأمَّا لوطٌ عليه السلام فقوله: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] يعني: ركن عادي من غيره وقبيله؛ ليدفعهم، كما قال تعالى:{وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} الآية [الحج: 40].
وقوله: {هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] أراد التَّزويج والوَطْء المباح، وإلَّا فلا معنى لتغيير المنكر [ودعوتهم إلى منكر آخر]!
وأمَّا إخوة يوسف فكثيرٌ من الأمَّة على أنَّهم ليسوا بأنبياء.
وأمَّا يوسف عليه السلام [
…
] فأهمُّ ما ذكر عنه الهَمُّ، وهو الهمُّ بضرب المرأة، كما قال تعالى:{وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر: 5].
وأمَّا موسى عليه السلام فأخذْهُ رأس أخيه ظنًّا منه أنَّه يستحقُّ ذلك [لعدم إنكاره على قومه].
وأمَّا داود عليه السلام فقصَّة الخصم على ظاهرها، لا على تأويل الباطنيَّة، والاستغفار والسُّجود والإنابة مطلوبة على كل حالٍ، وظن الفتنة إنَّما هو في سعة الملك
(1)
.
وأمَّا سليمان عليه السلام فالفتنة الاختبار، والجسد لم يوجد تفسير له موثوق به، فهو كما أنَّ [
…
] مع تيقننا براءة سليمان عليه السلام من كل ما يقدح في منصب النبوَّة
(1)
.
وأمَّا [مَن ذكره الله في قوله: ]{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف: 175] فلم يصحَّ دليلٌ على أنَّه كان نبيًّا؛ وقد يكون [أُوتِيَ بعض الآيات] بواسطة بعض الأنبياء، فانسلخ منها، وأخلد إلى الأرض، كما فعل سالم المخذول.
[ص 28] وأمَّا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] المراد بالذَّنب ما فعله ناسيًا، أو قاصدًا وجه الله فحصل خطأٌ.
فإنَّما تكون ذنوب الأنبياء من جنس هذا، ومع ذلك ينبِّههم الله تعالى فورًا، والدليل على أنَّهم مؤاخذون بالنِّسيان، ما ورَد في حديث [طواف سليمان] عليه السلام على زوجاته
(2)
؛ فإنَّ فيه أنَّه إنَّما ترك "إن شاء الله" ناسيًا.
وكذلك مؤاخذة [نبيِّنا] عليه السلام بالنسيان، ولذلك قوله تعالى:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24].
(1)
يعني: في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34].
(2)
أخرجه البخاري (2819) ومسلم (1654) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وقوله تعالى: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ} الآية [الأنفال: 69]، الخطاب للصحابة [
…
] في غنائم بدر، والخبر المخالف لما قلناه لم يصح.
وقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1)} الآيات، قصد صلى الله عليه وآله وسلم ما يظنُّ أنَّه خيرٌ، من استقبال بعض عظماء قريش، رجاء إسلامه، مع أنَّ ذلك السائل عن بعض أمور الدين لا يفوته، فعاتبه الله عز وجل، وبيَّن له أنَّ الأَولى الإقبال على ذلك الأعمى المؤمن.
وما حُكِيَ من الثناء على اللَّات والعزَّى فلم يصحَّ، وقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى} الآية [الحج: 52]
(1)
، فالمراد بالأماني: الأماني فيما يقصد به إلى ما يظنُّه خيرًا، ممَّا لا يوافق مراد الله تعالى منه.
وأمَّا اختلاف المسلمين في العِصْمَة فنحن لا ننكر أنَّ في أقوال بعض المسلمين ما يخالف الحقَّ، ولكنَّه يكون هناك فريقٌ آخر قائل بالحقِّ، فلا يُجْمِع المسلمون على ضلالةٍ أبدًا ولله الحمد، والحقُّ ما شهد به كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله، والعقل السَّليم
(2)
.
(1)
يُنظَر في تفصيل ذلك كتاب: "نصب المجانيق لنسف قصَّة الغرانيق" للشيخ الألباني رحمه الله.
(2)
الظاهر ممَّا سبق من سياق كلام المؤلِّف رحمه الله قوله بالعصمة المطلقة للأنبياء من جميع الذنوب حتى من صغائرها، وهو أحد قولين للناس في المسألة.
وقد حكى غير واحدٍ من الأئمَّة ــ كالنَّووي والآمدي وابن تيمية وغيرهم سلفًا وخلفًا ــ القول عن أكثر علماء الإسلام من السَّلَف والخلف بجواز وقوع الأنبياء في صغائر الذنوب التي لا تتنافى مع الأمانة في تبليغ الرسالة، ومع عدم إقرارهم عليها.
يُنظَر في ذلك: "الإحكام" للآمدي (1/ 227 - 230)، و"شرح صحيح مسلم" للنَّووي (3/ 53 - 54)، و"مجموع الفتاوى" لابن تيمية (4/ 319 - 321)، و (10/ 309)، و (15/ 51 - 57)، و (35/ 100 - 104) وغيرها، وأطال النفس في مناقشة الأدلَّة في "منهاج السُّنَّة"(2/ 393 - 435).
ثمَّ ذكر المخذول مسألة التَّثليث، وتشكَّك فيها، ثم بَرْهَن عليها ــ في نظَرِه ــ بأنَّ الإنسان مركَّبٌ من ثلاث حقائق، الجسم والروح والعقل.
فنسأل الله تعالى العافية، ونعوذ به من الخذلان وسوء العاقبة، يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك.
انظروا يا معشر العقلاء هذا البرهان، ولِمَ خصَّ هذه الثلاث بالذِّكْر، أليس للإنسان أيضًا فكرٌ ووهم وعلم ونحوه، وهي غير العقل ضرورة؛ لوجودها في المجنون.
وعلى تخصيص الثلاث وشبَهِ الله تعالى بخلقه فلعلَّه يقول: إنَّ الأب هو الجسد، والابن: العقل، وروح القدس: الروح. وحينئذٍ فقد فارق الله تعالى عقله مدَّة حياة عيسى، وبقي ــ وأستغفر الله تعالى ــ بلا عقل، أو فارقه روحه وبقي ــ وأستغفر الله تعالى ــ ميتًا.
وإمَّا أن يقول: إنَّ المفارق هو الجسد، فيبقى الروح والعقل مجرَّدين، أستغفر الله تعالى من حكاية هذه التُّرَّهات.
[ص 26] وما ذكرت أنَّك انتقدته على القرآن، فلو ذكرتَه [لأجبتُ عنه] بمعونة الله تعالى، وإن كان لا يحتاج اعتراضك إلى جواب، لسقوطه ضرورةً.
ولعلَّنا إن شاء الله يتيسَّر لنا [شرح] الآيات المتعلِّقة بأهل الكتاب جميعها [
…
بتفسيرها]، ولكني الآن في شغل. ومع ذلك فقد أجاب ابن حزمٍ، ورحمة الله، والنَّبهاني
(1)
عن آيات كثيرة وأحاديث، و [هوَّن عليَّ الأمر
…
] ظنِّي. كيف والآيات التي أيَّد الله بها رسوله محمَّدًا صلى الله عليه وآله وسلم لا تحصى، وفيها مؤلَّفات خاصَّة، كـ"دلائل النبوَّة" للبيهقي، وغيره.
ويكفيك من هذا أنَّ يتيمًا من قريش نشأ بين أظهرهم بمكَّة، لم يشارك في شيءٍ من شؤونهم، وإنَّما رعى الغنم وشارك في التجارة ونحو ذلك، وكان بين قريش من صغره معروفًا بالصِّدق والأمانة، فلمَّا بلغ أربعين سنة بايَنَ قومَه كلَّ المباينة، وسفَّه أحلامهم وسبَّ آلهتهم وضلَّلهم وآباءهم، وعرَّض نفسه للإهانة والأذى، حتى بلغوا منه كلَّ مبلغٍ من الأذى، فلم يؤثِّر فيه ذلك.
ثم عادوا إلى استمالته وبذلوا له الأموال، وبذلوا له الملك، فلم يستخفَّه ذلك، ولا حادَ عن سبيله قِيد شعرةٍ، حتى ترامت به الأيَّام إلى هجر وطنه ومسقط رأسه، ولم يزل مجاهدًا في سبيل الله تعالى حتى أتمَّ الله تعالى دينَه.
ولم يُؤْثَر عنه شيءٌ ممَّا لا تخلو الملوك عنه من الجبروت والظلم والفساد في الأرض، بل كان نورًا كلُّه من أوَّله إلى آخره.
(1)
لعلَّه يقصد كتاب النبهاني: "حُجَّة الله على العالمين في معجزات سيِّد المرسلين".
ويا ترى [نظريتك] هذه كيف فاتت أحبار اليهود الذين أسلموا، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ومن أسلم من النصارى أو قارب، كالنجاشي وأصحابه، وهرقل وغيرهم. كلَّا والله، لم يفُتْهُم، وإنَّما كانوا ينظرون ببصائر سليمة.
ومع هذا فأقول مستعينًا بالله تعالى، مستمدًّا من كلام الإمام ابن حزم رحمه الله
(1)
.
وأمَّا إيرادك لقوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} [الإسراء: 59]، وقوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ
(2)
(50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} الآية [العنكبوت: 50 - 51] = مستدلًّا بهما على أنَّها لم تكن لمحمَّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم آيةٌ غير القرآن، فهذا نظرٌ غير صحيح.
فإنَّ قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ} لا يقتضي أنَّه لم يرسل آية أصلًا؛ فإنَّ "أل" في الآيات عهديَّةٌ
(3)
، أي: الآيات التي سألها أهل مكَّة، من قلب الصفا ذهبًا ونحوه، كما فسَّره ابن عباس وغيره
(4)
.
(1)
تصرَّف المؤلِّف رحمه الله في الاستمداد من كلام ابن حزم كما أشار ههنا، وسأكتفي بالإحالة لمواضع كلامه من "الفِصَل".
(2)
في الأصل: (وإذا لم تأتهم آية قالوا لولا أنزل عليه آية).
(3)
يُنظَر: "الفِصَل" لابن حزم (1/ 193).
(4)
يُنظَر في ذلك: "الدُّر المنثور" للسيوطي (9/ 385 - 388).
وإلَّا فقد أيَّد الله محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم بعدة آيات، نقلتها الكواف، بل في القرآن نفسه الإخبار بالغيب، والمنع من المعارضة وغيره، فكيف تحمل الآيات على الاستغراق حتى يستدل بها على أنَّه لم يُمَدَّ بآية
(1)
؟!
وأمَّا قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ
(2)
} [العنكبوت: 50]، فكذلك، بل بالعكس، يفهم أنَّ هنالك آيات غير القرآن، وإنَّما المشركون يريدون آية ممَّا طلبوه، كأن يكون معه ملَك، أو نحو ذلك، فأجابهم الله تعالى أنَّ القرآن آيةٌ دائمة مستمرَّة، هي أعظم من كلِّ آية
(3)
.
وقول المخذول: لِمَ لمْ يقُل: (إنا أنزلنا عليك الكتاب آية)؟
فقل له: يا مخذول، إنَّ الكلام يدلُّ عليها أتمَّ دلالة، وإلَّا فما معنى:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} في مقابلة طلبهم آية؟!
ويا ترى إذا قلنا لك: إنَّ فلانًا مجنون، فقلتَ: وما الدليل على جنونه؟ فقلنا: أولم يكفك أنَّ أقواله وأفعاله مشوَّشة غير منتظمة= هل يحتاج مع ذلك إلى أن نقول: وذلك دليل على الجنون.
[ص 42] لا خلاف بين جميع الأمم أنَّ بني إسرائيل كانوا بمصر في أشدِّ العذاب؛ لذبح أولادهم، واستحياء نسائهم، وتسخيرهم، فأتاهم موسى عليه السلام يدعوهم إلى الخلاص من هذه المشاق، وكانوا أهل عسكر واحدٍ،
(1)
يُنظَر: "الفِصَل" لابن حزم (1/ 185 - 187).
(2)
في الأصل: (وإذا لم تأتهم آية قالوا لولا أنزل عليه آية).
(3)
يُنظَر: "الفِصَل" لابن حزم (1/ 194).
وبني عمٍّ وأهل بلد صغير واحد، فاتَّبعوه.
ثم لم يزالوا يتهافتون على الخلاف، تارةً يسألونه أن يجعل لهم إلهًا، وتارةً يجعلون لأنفسهم، وتارةً [
…
]، وتارةً يقولون:{اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24]. إلى غير ذلك من الأوابد والفظائع، [واعتادوا] على الارتدادات وعبادة الأوثان وقتل الأنبياء.
ثمَّ إنَّ عيسى عليه السلام جاء بالبيِّنات وعظام المعجزات، أولها ولادته من غير أبٍ، ثم تكلُّمه [بالمهد صبيًّا]، وإبراء المرضى بإذن الله، مع أنَّ لديهم التبشير به، وهو يناديهم أنَّه إنَّما جاء مقرِّرًا للتوراة، لا ينقض حرفًا واحدًا [منها].
فلم يؤمن به في نصِّ الإنجيل إلَّا نحو اثني عشر رجلًا معروفين، ونساءٌ قليل، وعدد لا يبلغ جميعهم وفي جملتهم الإثنا عشر [
…
]، وكانوا مشرَّدين مُسْتَخْفِين، وارتدَّ جماعةٌ منهم بنصِّ الإنجيل.
وأمَّا محمد عليه السلام فلا خلاف بين جميع الأمم أنَّه نشأ في مكَّة يتيمًا، لا مال له، أميًّا، رعى غنم قومه بأجرة و [
…
]، ولم يفارق مكَّة فراقًا يتمكَّن به من معرفة أحوال الأمم، فنشأ محفوظًا من قبيح العادات، [حتى لُقِّب: ] الأمين، فاختاره الله لنبوَّته، واصطفاه لرسالته، فعلَّمه ما لم يعلم، وألزمه بما ألزم.
فقابله معظم قومه بالتَّكذيب والأذى والشتيمة، وقاطعوه مع عشيرته، فلم يزده ذلك إلَّا جدًّا في أمر الله، فعدلوا عن الأذى إلى الاستمالة، فبذلوا له الأموال الكثيرة والتَّمليك عليهم، فأبى وقال: "والله لو وضعوا الشمس في
يميني، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته"
(1)
.
واستمرُّوا على أذاه وأذى من اتَّبعه، حتى عذَّبوهم، وقتلوا بعضهم، وهاجر بعضهم إلى الحبشة، وفيهم بنته وخَتَنُه، وتآمروا عليه مرارًا بالقتل، وهمُّوا به لولا عصمة الله له.
ولم يزل يدعو إلى الله سِرًّا وجهرًا، ويعرض نفسه على القبائل، حتى جاءه الجماعة من الأنصار ووعدوه النُّصرة، فخرج من بين ظهراني قومه مهاجرًا إلى المدينة، وتَبِعَه مَن تَبِعَه من قومه، فأعماهم الله تعالى وصدَّهم. فلمَّا وصل المدينة ثابر على الدَّعوة إلى الله، ودخلت الناس في دين الله أفواجًا، جُلُّهم استسلامًا للحقِّ وانجذابًا إلى الهدى، وخضوعًا للحُجَّة، ولم يدخل بالحرب إلَّا القليل.
وكانت العرب قومًا لقاحًا لا يملكهم أحدٌ، ولهم ديانة مضى عليها
(1)
أخرجه ابن إسحاق في"السيرة"(1/ 329) ، وأبو نعيم في "الدلائل"(ص 197)، والبيهقي في "الدلائل"(2/ 187) ، وغيرهم، من طريق يعقوب بن الأخنس به، بإسناد معضل، وبه ضعَّفه الألباني في "الضعيفة"(909).
وأخرجه البخاري في "تاريخه"(7/ 50)، والبزَّار (6/ 115)، وأبو يعلى (12/ 176) والطبراني في "الكبير"(17/ 191)، وغيرهم، من طريق يونس بن بكير حدثنا طلحة بن يحيى عن موسى بن طلحة حدثنا عقيل ابن أبي طالب، بلفظ:"ما أنا بأقدر على أن أدع لكم ذلك على أن تشعلوا لي منها شعلة". يعني: الشمس.
قال الهيثمي في "المجمع"(6/ 15): "رجال أبي يعلى رجال الصحيح"، وحسَّنه الألباني في "الصحيحة"(92).
أسلافهم، كمضر وربيعة وإياد وقضاعة؛ أو ملوكًا في بلادهم، كاليمن وعمان والبحرين قد ملؤوا الجزيرة، وهي نحو شهرين في شهرين.
فقام وحده ــ كما شرحنا ــ يضلِّل دينهم ويسفِّه أحلامهم ويسبُّ آلهتهم، فانقادوا كلهم لظهور الحق، وآمنوا به طوعًا، ونسوا ما كان بينهم من البغضاء والشحناء والتِّرات والذُّحول والاختلاف [الذي] لا يمكن بحسب العادة إزالته، فألَّف الله بينهم حتى صاروا إخوانًا كبني أب وأم، كما قال:{لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63].
[وترك كل] منهم ملكه، مع ما لهم من القوَّة وكثرة الجيوش، ولم يكن بيده ما يرغب فيه من المال، بل دعاهم أن ينحطُّوا إلى غرم الزكاة وجري الأحكام عليهم وإقامة الحدود والأخذ للضعفاء من الأقوياء بكل فتيل ونقير.
فيا للعقلاء! أتنقاد هذه الأمم العظمى على هذه الكيفيَّة لغير برهان وبغير سلطان، ثم يستمر ذلك إلى آخر الزمان؟!
[ص 39][ومع ذلك] كله فلم يُؤْثَر عنه صلى الله عليه وآله وسلم كذبٌ ولا زورٌ؛ بل لمَّا كسفت الشمس وكان ذلك يوم موت ولده إبراهيم [وقال الناس:]"إنَّما كسفت الشَّمس لموت إبراهيم" فخرج مسرعًا، وخطبهم قائلًا:"إنَّ الشَّمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنَّهما لا ينكسفان [لموت] أحدٍ ولا حياته"
(1)
. فلو كان فيه أدنى شائبةٍ للهوى لترك الناس على
(1)
أخرجه البخاري (1040) ومسلم (901)، من حديث عدَّة من الصحابة رضي الله عنهم.
اعتقادهم، بل لأكَّد لهم ذلك وعظَّمه [لهم، ولكنَّه] صلى الله عليه وآله وسلم منزَّهٌ عن كلِّ نقصٍ.
ومع ما كان له من التَّمكين لم يتوسَّع في شيءٍ من المآكل [والمشارب، والملذَّات، وغير] ها، بل كان أكثر ما يأكل خبز الشَّعير، أو التَّمر والماء، وينام على حصير يؤثِّر في جنبه.
[وكانت ابنته] فاطمة تخدم في بيتها حتى ورمت يدها، وسَأَلَته خادمًا من السبي، فمنعها [وعلَّمها ذكرًا تقوله]
(1)
.
وقام هو بالعبادة حتى ورمت قدماه
(2)
.
وكم من أموالٍ تمكَّن منها، من الغنائم والزَّكوات وغيرها، أنفقها كلَّها في سبيل الله، وقسمها على مستحقيها، ولم يتَّخذ لنفسه ولا لأهل بيته منها شيئًا.
وكان له [في] حياته أملاكٌ ينفق منها على أهله مقتصدًا، ثم ينفق الباقي في مصالح المسلمين، وأوصى أن يكون [ميراثه بعده] صدقة
(3)
.
وخلَّف عمّه العبَّاس وبنيه، وابن عمِّه علي بن أبي طالب زوج ابنته فاطمة، وأبا سبطيه الحسن والحسين، وكانوا من أطوع الناس لله وله، أحب الناس لله وله، وأحب الناس إلى الله وإليه= فلم يحمله ذلك أن يخصَّهم بشيءٍ في حياته، أو يجعل الأمر فيهم بعد وفاته.
(1)
أخرجه البخاري (3113) من حديث علي رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (1130) من حديث المغيرة رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (3090) ومسلم (1758) من حديث عائشة رضي الله عنها.
ثمَّ إنَّ شريعته الغرَّاء الحنيفيَّة أعدل شاهدٍ لمن كان له قلبٌ أو ألقى السَّمع وهو شهيد على أنَّه رسوله الله، وأنَّ هذا نورٌ من الله، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ لما اشتملت عليه الشَّريعة من الأسرار، والحكم والمحاسن، والنطق بالحق والعدل والإنصاف، والاستقامة التي ليس بعدها غايةٌ ولا وراءها نهايةٌ.
مع ما اشتملت عليه من دقائق السياسات، وحفظ [النطاقات]، وموجبات الرُّقِيِّ، وغير ذلك ممَّا لا يُحصى ولا يحصر، ولا ينكره إلَّا أعمى القلب والبصر.
ومع هذا كلِّه فإنَّ آياته ومعجزاته أكثر من أن تحصَى، كالإخبار بعدم تمنِّي اليهود للموت
(1)
، ونبعان عين تبوك فهي كذلك إلى اليوم
(2)
، ونبعان الماء بين أصابعه بحضرة العسكر
(3)
، وإطعامه النَّفر الكثير من طعامٍ يسير مرارًا جمَّة بحضرة الجموع
(4)
، وإخباره بأكل الأرَضَة كل ما في الصَّحيفة المكتوبة حاشا أسماء الله تعالى
(5)
، وإنذاره بمصارع أهل بدرٍ موضعًا
(1)
أخرجه البيهقي في "دلائل النبوَّة"(6/ 274) عن ابن عباس رضي الله عنه. ويُنظَر أيضًا: "الدُّر المنثور" للسيوطي (1/ 471 - 473).
(2)
أخرجه مسلم (706) من حديث معاذ بن جبلٍ رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (3576) من حديث جابر رضي الله عنه، ومسلم (1807) من حديث سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه.
(4)
منها ببيت أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه، كما أخرجه البخاري (3578) ومسلم (2040) من حديث أنس رضي الله عنه.
(5)
أخرجه ابن سعد في "الطبقات"(1/ 189، 210) وأبو نعيم في "الدلائل"(ص 199) والبيهقي في "الدلائل"(2/ 312) بأخبار منقطعة الأسانيد.
موضعًا بحضرة الجيش
(1)
، وانشقاق القمر
(2)
، إلى ما لا يُحصى ممَّا ثبت بعضه بنقل الجمع عن الجمع، وبعضه بالسَّند المتَّصل بالثِّقات العدول الصدوقين، الجاعلين نصب أعينهم قوله صلى الله عليه وآله وسلم:"من كذب عليَّ متعمِّدًا فلْيتبوَّأ مقعده من النَّار"
(3)
.
نسأل الله تعالى العصمة والهداية والتوفيق بفضله وكرمه.
[ص 27] وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ [الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ] بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا [بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} [آل عمران: 78 - 79] .... ].
وبعد فإنَّ في القرآن مواضع [ ......................................... ]
أنَّ الكتب التي عناها [ ................................................ ]
كما شرحه أبو محمَّد [ابن حزمٍ رضي الله عنه فقال: "أول ذلك أنَّ بأيدي السامريَّة توراة غير التوراة التي بأيدي] سائر اليهود، يزعمون [أنَّها المنزلة، ويقطعون أنَّ التي بأيدي] اليهود محرَّفةٌ مبدَّلة، وسائر [اليهود يقولون] إنَّ التي بأيدي [السامرية محرَّفة مبدلَّة"]
(4)
.
(1)
أخرجه مسلم (2873) من حديث عمر رضي الله عنه.
(2)
أخرجه البخاري (3636) ومسلم (2800) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (110) ومسلم في المقدِّمة (3) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وغيرِه.
(4)
"الفِصل"(1/ 202).
[قال أبو محمد رضي الله عنه]: "في التوراة: أنَّ بنيامين لم يولد ليعقوب إلَّا [بأقراشا] بقرب بيت لحم، [على أربعة أميال من بيت المقدس بعد] رحيله من فدان أرام بدهر"
(1)
.
ثم ذكر بنيامين في ذكر الذين ولدوا [ليعقوب] بفدان أرام، وفيها قال ابن حزمٍ:"فصلٌ: وبعد ذلك قال: "وكان مسكن بني إسرائيل بمصر أربع مائة وثلاثين سنة، فلما انقضت هذه السنون خرج ذلك اليوم معسكر السيد من أرض مصر.
قال أبو محمد رضي الله عنه: هذه فضيحة الدَّهر، وشهرة الأبد، وقاصمة الظهر! يقول ههنا إنَّ مسكن بني إسرائيل بمصر أربع مائة سنة وثلاثون سنة! وقد ذكر قبل أنَّ فاهاث بن لاوي دخل مصر مع جدِّه [يعقوب] ومع أبيه لاوي، ومع سائر أعمامه وبني أعمامه، وأنَّ عُمْر [فاهاث] بن لاوي المذكور كان مائة سنة [وثلاثة] وثلاثين سنة، وأنَّ عمران بن فاهاث بن لاوي المذكور كان عمره مائة سنة وسبعًا وثلاثين [سنة، وأنَّ موسى بن عمران] بن فاهاث بن لاوي المذكور كان إذ خرج ببني إسرائيل من مصر مع نفسه ابن ثمانين سنة.
هذا كلُّه [منصوصٌ كما نذكره] في الكتاب الذي يزعمون أنَّه التوراة.
فهَبْكَ أنَّ فاهاث دخل مصر ابن شهرٍ أو أقل، وأنَّ عمران ابنَه وُلِد بعد موته، وأنَّ موسى بن عمران وُلِد بعد موت أبيه، ليس يجتمع من كل ذلك إلَّا ثلاثمائة عام وخمسون عامًا فقط، فأين الثمانون عامًا الباقية من جملة
(1)
"الفِصل"(1/ 235).
أربعمائة سنة وثلاثين سنة؟ !
فإن قالوا: نضيف إلى ذلك مُدَّة بقاء يوسف بمصر قبل دخول أبيه وإخوته.
قلنا: قد بيَّن في التوراة أنَّه كان إذ دخله ابنَ سبع عشرة سنة، وأنَّه كان إذ دخلها أبوه وإخوته ابنَ تسعٍ وثلاثين سنةٍ، فإمَّا
(1)
كان مقامه بمصر قبل أبيه وإخوته اثنين
(2)
وعشرين سنة ضمَّها إلى ثلثمائة سنة وخمسين سنة= يقوم من الجميع بلا شكٍّ ثلاثمائة واثنان
(3)
وسبعون سنة، أين الثماني والخمسون الباقية من أربعمائة سنة!
هذه شهرة لا نظير لها، وكذبٌ لا يخفى على أحد، وباطلٌ يقطع بأنَّه لا يمكن ألبتَّة أن يعتقده [أحدٌ في رأسه شيءٌ] من دماغٍ صحيحٍ؛ لأنَّه لا يمكن أن يكذب اللهُ تعالى في دقيقةٍ، ولا أن يكذب [رسولُه]صلى الله عليه وسلم[عامدًا ولا] مخطئًا في دقيقةٍ فيقرُّه الله تعالى على ذلك= فكيف ولابد أن يسقط [من هذه المُدَّة] سِنُّ [فاهاث إذ وُلِد له عمران]، وسِنُّ عمران إذ ولد له موسى عليه السلام.
والصَّحيح [الذي] يخرج على [نصوص كتبهم] أنَّ مُدَّة [بني إسرائيل مذ دخل يعقوب] وبنوه مصر إلى أن خرجوا منها مع موسى عليه [السلام لم تكن إلَّا مائتي عام وسبعة عشر عامًا، فهذه كذبة في مائتي] عام وثلاثة عشر
(1)
في "الفِصَل"(1/ 253): "فإذن". وأشاروا في الهامش أنه "فإما" في نسخة.
(2)
كذا في الأصل و"الفِصَل"(1/ 253).
(3)
كذا في الأصل و"الفِصَل"(1/ 253).
[عام، ولو لم يكن في [توراتهم إلَّا هذه الكذبة وحدها لَكَفَت في أنَّها موضوعة مبدَّلة من حمارٍ في] جهله أو مستخفٍّ [سَخِر بهم ولابد"]
(1)
.
وقال الإمام المذكور: "والخامسة: قوله في "سفر يوشع"
(2)
إنَّه وقع لبني هارون ثلاث عشرة مدينة، والعازار بن هارون حيٌّ قائمٌ.
فيا للناس! أفي المحال أكثر من أن يدخل في عقل أحدٍ أنَّ نسل هارون بعد موته بسنةٍ وأشهر يبلغ عددًا لا يَسَعُه للسُّكنى إلَّا ثلاث عشرة مدينة؟! هل لهذا الحمق دواءٌ إلَّا الغل والقَيد والمجمعة وما يتبع ذلك من الكَيِّ والسَّوط! والعياذ بالله من الخذلان.
وكذبة سادسةٌ ظريفة جدًّا، وهي أنَّه ذكر في توراتهم أنَّ عدد ذكور بني جرشون بن لاوي من ابن شهر فصاعدًا كانوا ستة آلاف وخمسمائة، وأنَّ عدد ذكور بني قهاث بن لاوي من ابن شهر فصاعدًا كانوا [ثمانية آلاف وستمائة، وأنَّ عدد ذكور بني مراري بن لاوي من ابن شهر فصاعدًا كانوا ستة آلاف ومائتين.
ثم قال: فجميع الذكور من بني لاوي من ابن شهر فصاعدًا اثنان وعشرون ألفًا! فكان هذا ظريفًا جدًّا، أو شيئًا تندى منه الآباط!
وهل يجهل أحدٌ أنَّ الأعداد المذكورة إنَّما هي يجتمع منها واحدٌ وعشرون ألفًا وثلاثمائة؟! هذا أمرٌ لا ندري كيف وقع؟! أتُرَاه بلغ المسَخَّم الوجه الذي كتب لهم هذا الكتاب الأحمق من الجهل بالحساب هذا
(1)
"الفِصل"(1/ 252 - 253).
(2)
الكتاب المقدس (ص 454) سفر يشوع، إصحاح (21) فقرة (4).
المبلغ، إنَّ هذا لعجبٌ! ولقد كان الثور أهدى منه والحمار أنْبَه منه بلا شكٍّ، أتُرَى لم يأت بعده من اليهود مذ أزيد من ألف عام وخمسمائة عام من تبيَّن له أنَّ هذا خطأ وباطل؟!
ولا يمكن أن يُدَّعَى هنا غلطٌ من الكُتَّاب، ولا وَهمٌ من النَّاسخ في بعض النُّسخ؛ لأنَّه لم يدعنا في لبسٍ من ذلك .. "
(1)
]
(2)
.
[ص 30][ثم قال الإمام ابن حزم رحمه الله: "فصل: ثم قال آخر توراتهم: فتوفِّي] موسى عبد الله بذلك الموضع في أرض "مواب"، [مقابل بيت "فغور"، ولم يَعْرِف آدميٌّ موضع قبره إلى اليوم، وكان] موسى يوم توفِّي ابنَ مائةٍ وعشرين سنةً، لم ينقص بصره، [ولا تحرَّكت أسنانه، فنعاه بنو إسرائيل في موطنه "مواب" ثلاثين يومًا، وأكملوا] نَعْيَه، ثم إنَّ يوشع بن نون امتلأ [من روح الله، إذ جعل موسى يديه عليه، وسمع له بنو إسرائيل، وفعلوا ما أمر] الله به موسى، ولم يخلِّف موسى [في بني] إسرائيل نبيًّا مثله، ولا من [يكلِّمه الله مواجهة، في جميع عجائبه التي فعل على يديه] بأرض مصر، في فرعون مع عبيده، وجميع أهل مملكته، ولا من صنع [ما صنع موسى في جماعة بني إسرائيل].
قال أبو محمد رضي الله عنه: هذا آخر توراتهم [وتمامها، وهذا الفصل شاهد عدل]، وبرهانٌ تام، ودليلٌ قاطعٌ، وحُجَّةٌ صادقةٌ في أنَّ توراتهم
(1)
من قوله: "ثمانية آلاف وستمائة" إلى هذا الموضع استدركته من الفصل، سقط لخرمٍ في الأصل.
(2)
"الفِصَل" لابن حزم (1/ 275 - 276).
[مبدَّلة، وأنَّها تاريخٌ مؤلَّفٌ، كتبه لهم من تخرَّص] بجهله، أو تعمَّد بفكره، وأنَّها غير منزَّلة من عند الله تعالى؛ إذ لا يمكن أن يكون هذا الفصل منزَّلًا على موسى في حياته، فكان يكون إخبارًا عمَّا لم يكن بمساق ما قد كان، وهذا هو محض الكذب، تعالى الله عن ذلك.
وقوله: "لم يَعْرِف قبرَه آدميٌّ إلى اليوم" بيانٌ لما ذكرنا كاف، وأنَّه تاريخٌ أُلِّف بعد دهرٍ طويلٍ ولابد" انتهى
(1)
.
[قلتُ]: قد راجعتُ التَّوراة المطبوعة، فإذا المعنى واحدٌ، وإن اختلفت الألفاظ.
[ثم عقد] أبو محمد رضي الله عنه فصلًا مشبعًا في تاريخ بني إسرائيل، وارتداداتهم المتعدِّدة، وحال التوراة وغربتها، وكونها كانت من يد واحد إلى يد واحد، ثم ما طرأ عليها من النَّهب والإحراق مرات، وفقدهما من أيديهم مدَّة طويلة، إلى أن جاء "عزرا الورَّاق" ــ كما يذكرون ــ فأملاها من حفظه.
إلى آخر ما شرح بما يقطع معه أنَّ التي بأيديهم الآن ليس هو الذي أنزله الله تعالى
(2)
.
وأول الجزء الثاني من "الملل والنِّحَل" للإمام المذكور ذكر حال الإنجيل، وأنَّ النَّصارى عن بكرة أبيهم مقرُّون أنَّه ليس بأيدهم كتابٌ منزَّلٌ
(1)
"الفِصَل" لابن حزم (1/ 284 - 285). وما بين الأقواس المعقوفة وقع فيه خرم بالأصل، استدركته من "الفِصَل".
(2)
"الفِصَل" لابن حزم (1/ 288 - 329).
من عند الله تعالى، وإنَّما بأيديهم تواريخ كُتِبت بعد وفاة المسيح بزمان، وبيَّن ضعف الرِّواية لتلك التواريخ؛ لضعف من كان متديِّنًا بدين المسيح، واستخفائهم تحت الذُّلِّ والخوف والقتل، ثم ما عارضهم من اختلاط المنانية بهم. إلى آخر ما شرح، بما معه يبطل دعوى النَّصارى من أصلها
(1)
.
ثم ذكر دعوى النَّصارى أنَّهم مصدِّقون للتوراة التي بأيدي اليهود، و [عقد] فصلًا فيما يثبته النصارى [
…
]
(2)
.
[ثم] شرح فصلًا في التواريخ، قال آخرَه:"فتولَّد [من الاختلاف المذكور] بين الطائفتين [زيادة عن ألف عام] وثلاثمائة عام وخمسين عامًا عند النَّصارى [في تاريخ الدنيا على ما هو] عند اليهود .. "
(3)
.
[ص 45] إلى أن قال: "ولا بد للنصارى ضرورةً من أحد خمسة أوجهٍ، لا مخرج لهم عن أحدها.
إمَّا أن يصدِّقوا [نقل اليهود] للتَّوراة، وأنَّها صحيحة عن موسى عن الله تعالى، ولكتبهم. وهذه طريقتهم في الحِجاج والمنا [ظرة].
فإن فعلوا فقد أقرُّوا على أنفسهم وعلى أسلافهم الذين نقلوا عنهم دينهم بالكذب؛ [إذ خالفوا قول الله تعالى] وقول موسى عليه السلام.
أو يكذِّبوا موسى عليه السلام فيما نقل عن الله عزَّ [وجل، وهم لا يفعلون هذا].
(1)
"الفِصَل" لابن حزم (2/ 13 - 19).
(2)
"الفِصَل" لابن حزم (2/ 21).
(3)
"الفِصَل" لابن حزم (2/ 21 - 23).
أو يكذِّبوا نقل اليهود للتَّوراة ولكتبهم، فيبطل تعلُّقهم بما في تلك الكتب، ممَّا [يقولون إنَّه إنذارٌ] بالمسيح عليه السلام؛ إذ لا يجوز لأحدٍ أن يحتجَّ بما لا يصح نقله.
أو يقولوا كما قال بعضهم: إنَّهم [إنَّما عوَّلوا] فيما عندهم على ترجمة السبعين شيخًا، الذين ترجموا التوراة وكتب الأنبياء عليهم السلام لبطليموس. فإن قالوا هذا فإنَّهم لا يخلون ضرورةً من أحد وجهين؛ إمَّا أن يكونوا صادقين في ذلك، أو يكونوا [كاذبين في ذلك].
فإن كانوا كاذبين في ذلك فقد سقط أمرهم، والحمد لله رب العالمين؛ إذ لم يرجعوا إلَّا [إلى المجاهرة] بالكذب.
وإن كانوا صادقين في ذلك فقد حَصَلَت توراتان متخالفتان متكاذبتان متعارضتان، توراة السبعين شيخًا، و"توراة عزرا". ومن الباطل الممتنع كونهما جميعًا حقًّا من عند الله.
واليهود والنَّصارى كلُّهم مصدِّقٌ مؤمنٌ بهاتين التوراتين معًا، سوى توراة السامرية، ولا بد ضرورةً من أن تكون إحداهما حقًّا، والأخرى مكذوبة، فأيُّهما كانت المكذوبة فقد حصَلَت الطَّائفتان على الإيمان بالباطل ضرورةً، ولا خير في أمَّةٍ تؤمن بيقين الباطل.
وإن كانت توراة السبعين شيخًا هي المكذوبة فلقد كانوا شيوخ سوءٍ كذَّابين ملعونين؛ إذ حرَّفوا كلام الله تعالى وبدَّلوه. ومن هذه صفته فلا [يحلُّ] أخذُ الدِّين عنه، ولا قبول نقله.
وإن كانت "توراة عزرا" هي المكذوبة فقد كان كذَّابًا؛ إذ [حرَّف كلام
الله تعالى]، ولا يحلُّ أخذ شيءٍ من الدِّين عن كذَّابٍ.
ولا بد من أحد الأمرين، أو يكون كلاهما كذِبًا، وهذا [هو الحق] اليقين الذي لا شكَّ فيه؛ لِمَا قدَّمْنا ممَّا فيها من الكذب الفاضح، الموجب للقطع بأنَّها مبدَّلَة [محرَّفةٌ، وسقطت] الطائفتان معًا، وبطل دينهم الذي إنَّما مَرْجِعُه إلى تلك الكتب المكذوبة، ونعوذ بالله من الخذلان"
(1)
.
ثم ذكر شيئًا
(2)
عن الأناجيل، أولها في أول "إنجيل متَّى" في نسب المسيح [أنَّه يذكر نسب المسيح] أنَّه ابن يوسف النجَّار، وبيان ما في ذلك الفصل من الكذب، ثمَّ ما بين "إنجيل متَّى" و"إنجيل [لوقا] " من التكاذب في هذا النَّسب
(3)
.
ثم قال: "فصلٌ: وفي الباب الثالث من "إنجيل متَّى"
(4)
: فلحق يسوع ــ يعني: المسيح ــ بالمفاز، وساقه الروح إلى هنالك". ثم ذكر ما في هذا الفصل من الأوابد
(5)
.
[ص 48][ثم] قال: "فصلٌ: وفي الباب الرَّابع من "إنجيل متَّى": أنَّ المسيح قال لتلاميذه: لا تحسبوا أنِّي جئتُ لنقض التوراة وكتب الأنبياء، إنَّما أتيتُ لإتمامها، امين، أقول لكم إلى أن تبيد السماء والأرض لا تبيد باءٌ
(1)
"الفِصَل" لابن حزم (2/ 24 - 25).
(2)
في الأصل: "شيء".
(3)
"الفِصَل" لابن حزم (2/ 27 - 34).
(4)
"إنجيل متَّى" من "الكتاب المقدَّس"(ص 43)، إصحاح 5 فقرة 1 وما بعدها.
(5)
"الفِصَل" لابن حزم (2/ 35 - 37).
واحدة، ولا حرف واحد من التوراة حتى يتمَّ الجميع .. الخ
(1)
"
(2)
.
ثم قال: "قال أبو محمد رضي الله عنه: وهذه نصوصٌ تقتضي التأييد، وتمنع من النسخ جملة". ثم ذكر ما يناقض ذلك [
…
] النسخ.
إلى أن قال: "ثم ذكر في الباب الثامن عشر من "إنجيل متَّى" أنَّ المسيح قال للحواريين الاثنا عشر بأجمعهم ــ ومن جملتهم يهوذا الأشكريوطا، الذي دلَّ عليه اليهود برشوة ثلاثين درهمًا ــ: "كلُّ ما حرَّمْتُمُوه في الأرض يكون محرَّمًا في السماء وكل ما حلَّلْتُمُوه في الأرض يكون محلَّلًا في السماء"
(3)
.
وفي الباب السادس عشر من "إنجيل متَّى" أنَّه قال هذا القول لباطرة وحده
(4)
.
قال أبو محمد رضي الله عنه: وهذا تناقضٌ عظيمٌ، كيف يكون التَّحليل
(1)
لفظ الترجمة المعاصرة من "إنجيل متَّى" من "الكتاب المقدَّس"، (ص 47 - 48)، إصحاح 5 فقرة 17 - 18:"لا تظنوا أنِّي جئت لأبطل الشريعة أو الأنبياء، ما جئت لأبطل، بل لأكمل، الحق أقول لكم: لن يزول حرفٌ أو نقطةٌ من الشريعة حتى يتم كل شيء، أو تزول السماء والأرض".
(2)
"الفِصَل" لابن حزم (2/ 45).
(3)
لفظ الترجمة المعاصرة من "إنجيل متَّى" من "الكتاب المقدَّس"(ص 88)، إصحاح 18 فقرة 18:"ما ربطتم في الأرض رُبِط في السماء، وما حللتم في الأرض حُلَّ في السماء".
(4)
"إنجيل متَّى" من "الكتاب المقدَّس"(ص 83) إصحاح 16 فقرة 19، بنحو ما قبله.
و"باطرة" في اصطلاحهم هو "بُطْرُس".
والتَّحريم للحواريين أو لباطرة مع قوله: إنَّه لم يأت لتبديل التوراة لكن لإتمامها؟! وإنَّه من نَقَضَ من عهودها عهدًا صغيرًا دُعِيَ في ملكوت السموات صغيرًا، وإنَّ السماوات والأرض تبيدان قبل أن تبيد من التوراة باءٌ واحدةٌ أو حرفٌ واحدٌ!
ولئن كان صَدَق في هذا فإنَّ في نصِّ التوراة أنَّ الله تعالى قد لعن من صُلِبَ في خشبةٍ
(1)
! وهم يقولون: إنِّه صُلِب في خشبةٍ! ولا شك في أنَّ باطرة وشمعون أخوا يوسف، وأندرياش أخو
(2)
باطرة، وفليش، وبولس= صُلِبوا في الخشب فَعَلى قول المسيح لا يبيد شيءٌ من التوراة حتى يتمَّ جميعها= فكُلُّ هؤلاء ملعونون بلعنة الله تعالى! فاعْجَبُوا لضلال هذه الفرقة المخذولة، فما سُمِع بأطمَّ من هذه الفضائح أبدًا"
(3)
.
أقول: يتعيَّن علينا أن ننقل هنا فصلًا مشبعًا ذكره الإمام المذكور أواخر الجزء الأول، وهو شاف كاف في جواب هذا المخذول.
قال الإمام أبو محمد رضي الله عنه: "فإن قيل: فإنَّكم تقرُّون بالتوراة والإنجيل
(4)
، وتستشهدون على اليهود والنَّصارى بما فيها من ذكر صفات
(1)
في "سفر التثنية"(ص 390) من "الكتاب المقدَّس" إصحاح 21 فقرة 23: " .. لأنَّ المعلَّق لعنة من الله"، وفي "رسالة القديس بولس إلى أهل أغلاطية" (ص 577) 3/ 13:"إنَّ المسيح افتدانا من لعنة الشريعة إذ صار لعنةً لأجلنا؛ فقد ورد في الكتاب: ملعون من عُلِّق على الخشبة".
(2)
كذا في "الفِصَل"(2/ 47).
(3)
"الفِصَل" لابن حزم (2/ 45 - 47).
(4)
تكرَّرت عبارة "فإن قيل .. والإنجيل" في الأصل.
نبيِّكم، وقد استشهد نبيُّكم عليهم بنصِّها في قِصَّة الرَّجم
(1)
للزَّاني المُحْصَن، ورُوِيَ أنَّ عبد الله بن سلام ضَرَب يد عبد الله بن صُوريا، ووضعها على آية الرجم
(2)
.
ورُوِيَ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذ التَّوراة وقال: "آمنتُ بما فيك"
(3)
.
وفي كتابكم: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68]، وفيه أيضًا:{قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93]، وفيه أيضًا:{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا [ص 43] لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44]، وفيه: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ
(1)
في الأصل: "الراجم".
(2)
أخرجه البخاري (3635) ومسلم (1699) من حديث ابن عمر رضي الله عنه، وليس فيهما ولا في غيرهما ضرب يده، بل الوارد الأمر برفع يده.
وتسمية ابن صوريا وقع في غيرهما، عند ابن حبان (4435) وغيره.
(3)
أخرجه أبو داود (4449) من حديث ابن عمر قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القف فأتاهم في بيت المدارس فقالوا: يا أبا القاسم إنَّ رجلا منا زنى بامرأة فاحكم، قال: ووضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها، ثم قال:"ائتوني بالتوراة"، فأتي بها، فنزع الوسادة من تحته، ووضع التوراة عليها، وقال:"آمنت بك وبمن أنزلك .. " الحديث.
وقد حسَّن إسناده الألباني في "الإرواء" ضمن الحديث (1253)، وسيأتي بعد قليل حكم ابن حزمٍ عليه بالوضع!
هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، وفيه:{وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66]، وفيه:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [النساء: 47].
قلنا ــ وبالله التوفيق ـ: كل هذا حقٌّ، حاشا قوله عليه السلام:"آمنتُ بما فيك"؛ فإنَّه باطلٌ، [لم يصحَّ] قطُّ. وكلُّه موافقٌ لقولنا في التوراة والإنجيل بتبديلهما، وليس شيءٌ منه حُجَّة لمن ادَّعى [أنَّهما بأيدي] اليهود والنصارى كما أُنزِلا، على ما نبيِّن الآن إن شاء الله تعالى بالبرهان الواضح.
قال أبو محمد رحمه الله: أمَّا إقرارنا بالتوراة والإنجيل فنعم، وأي معنى [لتمويهكم بهذا؟ ! ] ونحن لم ننكرهما قطُّ، بل نكفِّر من أنكرهما، إنَّما قلنا: إنَّ الله تعالى أنزل التوراة على موسى [عليه السلام] حقًّا، وأنزل الزبور على داود عليه السلام حقًّا، وأنزل الإنجيل على عيسى عليه السلام حقًّا، [وأنزل] الصُّحُف على إبراهيم وموسى عليهما السلام حقًّا، وأنزل كتبًا لم يُسَمِّ لنا، على أنبياء لم يُسَمَّوا لنا حقًّا، نؤمن بكل ذلك، قال تعالى:{صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19]، وقال تعالى:{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 197].
وقلنا ونقول: إنَّ كفَّار بني إسرائيل بدَّلُوا التوراة والزَّبور، فزادوا ونقصوا، وأبقى الله تعالى بعضها حُجَّةً عليهم كما شاء، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، {لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41].
وبدَّل كفَّار النَّصارى الإنجيل كذلك، فزادوا ونقصوا، وأبقى الله تعالى بعضها حُجَّةً عليهم كما شاء، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23].
فدَرَس ما بدَّلوا من الكتب المذكورة، ورفعه الله تعالى، كما دَرَسَت الصُّحف وكتب سائر الأنبياء جملةً. فهذا هو الذي قلنا، وقد أوضحنا البرهان على صِحَّة ما أوردنا من التَّبديل والكذب في التَّوراة والزَّبور، ونورد إن شاء الله تعالى في الإنجيل وبالله تعالى نتأيَّد. فظهر فساد تمويهِهِم بأنَّنا نُقِرُّ بالتَّوراة والإنجيل والزَّبور، ولم ينتفعوا بذلك في تصحيح ما بأيديهم من الكتب المكذوبة المبدَّلة. والحمد لله رب العالمين.
وأمَّا استشهادنا على اليهود والنصارى بما فيهما من الإنذار بنبينا صلى الله عليه وسلم فحَقٌّ، وقد قلنا آنفًا إنَّ الله تعالى أطْلَعَهم على تبديل ما شاء رفعه من ذينك الكتابين، كما أطلق أيديهم على قتل من أراد كرامته بذلك من الأنبياء الذين قتلوهم بأنواع المُثُل، وكفَّ أيديهم عمَّا شاء إبقاءه من ذينك الكتابين حُجَّةً عليهم، كما كفَّ أيديهم اللهُ تعالى عمَّن أراد كرامته بالنَّصر من أنبيائه الذين حال بين الناس وبين أذاهم.
وقد أغرق الله قوم نوح عليه السلام وقوم فرعون نكالًا لهم، وأغرق آخرين شهادةً لهم، وأملى لقومٍ ليزدادوا إثمًا، وأملى لقومٍ آخرين ليزدادوا فضلًا، [ص 46] هذا ما لا ينكره أحد من أهل الأديان جملةً.
وكان ما ذكرنا زيادة في أعلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الواضحة وبراهينه اللَّائحة، والحمد لله رب العالمين. فبطل اعتراضهم علينا باستشهادنا عليهم بما في كتبهم المحرَّفة من ذكر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
وأمَّا استشهاد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتوراة في أمر رجم الزاني المُحْصَن، وضرب ابن سلام رضي الله عنه يد ابن صوريا إذ جعلها
على آية الرَّجم= فحقٌّ، وهو ممَّا قلنا آنفًا أنَّ الله تعالى أبقاه خِزيًا لهم، وحُجَّةً عليهم، وإنَّما يحتج عليهم بهذا كلِّه بعد إثبات رسالته صلى الله عليه وآله وسلم بالبراهين الواضحة الباهرة، بالنقل القاطع للعذر، على ما قد بيَّنَّا ونبيِّن إن شاء الله تعالى.
ثم نورد ما أبقاه الله تعالى في كتبهم المحرَّفة [من] ذِكْرِه عليه السلام إخزاءً لهم وتَبْكِيتًا وفضيحة لضلالهم، لا لحاجةٍ منَّا إلى ذلك أصلًا، والحمد لله رب العالمين.
[وأمَّا] الخبر بأنَّ النبيَّ عليه السلام أخذ التوراة وقال: "آمنت بما فيك" فخبرٌ موضوعٌ، لم يأت قطُّ من طُرُقٍ فيها خير، [ولسنا نَسْتَحِلُّ] الكلام في الباطل لو صحَّ، فهو من التكلُّف الذي نُهِيْنَا عنه، كما لا يحلُّ توهين الحق ولا الاعتراض فيه.
وأمَّا قول الله عز وجل: {[يَاأَهْلَ] الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة: 68] = فحقٌّ لا مرية فيه، وهكذا نقول، ولا سبيل لهم [إلى إقامتها] أبدًا لرفع ما أسقطوا منها. فليسوا على شيءٍ إلَّا بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، فيكونون حينئذٍ مقيمين للتوراة والإنجيل، [كلهم يؤمنون] حينئذٍ بما أنزل الله منهما، وُجِد أو عدم، ويكذِّبون بما بُدِّل فيهما ممَّا لم ينزله الله تعالى فيهما، وهذه هي إقامتهما [حقًّا
(1)
]، فلاح [صِدْق] قولنا موافقًا لنصِّ الآية بلا تأويل، والحمد لله رب العالمين.
(1)
زيادة من "الفِصَل".
وأمَّا قوله تعالى: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] فنعم، إنَّما هو كذبٌ كذبوه ونسبوه إلى التوراة على جاري عادتهم، زائد على الكذب الذي وضعه أسلافهم في توراتهم، فبَكَّتَهم عليه السلام في ذلك الكذب المُحْدَث بإحضار التوراة إن كانوا صادقين، فظهر كذبهم.
وكم عَرَض لنا هذا مع علمائهم، في مناظراتنا لهم قبل أن نقف على نصوص التوراة، فالقوم لا مؤنة عليهم من الكذب حتى الآن، إذا طمعوا بالتخلُّص من مجلسهم لا يكون ذلك إلَّا بالكذب، وهذا خُلُق خسيس، وعارٌ لا يرضى به مصحح، ونعوذ بالله من مثل هذا.
وأمَّا قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ} [المائدة: 44] = فنعم، هذا حقٌّ على ظاهره كما هو، وقد قلنا إنَّ الله تعالى أنزل التوراة وحكم بها النبيُّون الذين أسلموا، كموسى وهارون وداود وسليمان ومن كان بينهم من الأنبياء عليهم السلام، ومن كان في أزمانهم من الرَّبَّانبين والأحبار، الذين لم يكونوا أنبياء، بل كانوا حُكَّامًا من قبل الأنبياء عليهم السلام، ومن كان في أزمانهم من الرَّبَّانيين والأحبار قبل حدوث التَّبديل. هذا نصُّ قولنا.
وليس في هذه الآية أنَّها لم تبدَّل بعد ذلك أصلًا، لا بنصٍّ ولا بدليل.
وأمَّا مَن ظنَّ لجهله من المسلمين أنَّ هذه الآية نزلت في رجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهوديَّيْن اللَّذَين زَنَيَا وهما محصنان فقد ظنَّ الباطل، وقال بالكذب، وتأوَّل
المحال، وخالف القرآن؛ لأنَّ الله تعالى قد نهى نبيَّنا عليه السلام عن ذلك نصًّا، بقوله تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المائدة: 48]، وقال تعالى:{وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49].
قال أبو محمد رضي الله عنه: فهذا نصُّ كلام الله عز وجل، الذي ما خالفه فهو باطل.
وأمَّا قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} [المائدة: 47] فحَقٌّ على ظاهره؛ لأنَّ الله تعالى أنزل فيه الإيمان بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم واتِّباع دينه، ولا يكونون أبدًا حاكمين بما أنزل الله تعالى فيه إلَّا باتِّباعهم دين محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّما أمرهم الله تعالى بالحكم بما أنزل في الإنجيل الذي ينتمون إليه، فهم أهله.
ولم يأمرهم قطُّ تعالى بما يُسَمَّى إنجيلًا، وليس بإنجيل ولا أنزله الله تعالى كما هو قط، والآية موافقة لقولنا، وليس فيها أنَّ الإنجيل لم يبدَّل، لا بنصٍّ ولا بدليلٍ، إنَّما فيه إلزام النَّصارى الذين يَتَسَمّون بأهل الإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه، وهم على خلاف ذلك.
وأمَّا قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} [المائدة: 66] فحقٌّ كما ذكرناه قبلُ، ولا سبيل لهم إلى إقامة التوراة والإنجيل المنزَّلَين بعد تبديلهما إلَّا بالإيمان
بمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، فيكونون حينئذٍ مقيمين للتوراة والإنجيل حقًّا؛ لإيمانهم بالمنزَّل فيهما، وجحدهم ما لم ينزَّل فيهما، وهذه هي إقامتهما حقًّا.
وأمَّا قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [النساء: 47] فنعم، هذا عمومٌ قام البرهان أنَّه مخصوصٌ، وأنَّه تعالى إنَّما أراد مصدِّقًا لما معكم من الحقِّ، لا يمكن غير هذا؛ لأنَّنا بالضَّرورة ندري أنَّ معهم حقًّا وباطلًا، ولا يجوز تصديق الباطل ألبتَّة، فصحَّ أنَّه إنَّما أنزله تعالى مصدِّقًا لما معهم من الحق، وقد قلنا إنَّ الله تعالى أبقى في التوراة والإنجيل حقًّا؛ ليكون حُجَّةً عليهم وزائدًا في خزيهم. وبالله تعالى التوفيق. فبطل تعلُّقهم بشيءٍ ممَّا ذكرنا، والحمد لله رب العالمين"
(1)
.
[ص 37] الحمد لله، [نُسَخ] التوراة:
أولًا للسامرة توراة، ولسائر اليهود توراة، [وكلتا] الطائفتين تزعم أنَّ توراتها الصادقة، والأخرى مبدَّلة. ثم توراة اليهود نسختان، نسخة عزرا، ونسخة السبعين شيخًا، وهما متناقضتان، واليهود يؤمنون بكلتيهما!
يقول عن الله تعالى: اصنع بناء آدم كصورتنا يشبهنا! ولمَّا أكل آدم من الشجرة قال الله: هذا آدم قد صار كواحد منَّا في معرفة الخير والشر!
[ويقول عن المسيح عليه السلام مرَّة إنَّه] إله، ومرَّةً هو الله، ومرَّةً ابن الله، ومرَّةً هو وأصحابه أبناء الله، وتارةً أرواح الله، ومرَّةً ابن يوسف النجَّار، وابن داود، وابن الإنسان!
(1)
"الفِصَل"(1/ 313 - 317).
ومرَّةً [يقول: ] أنا رجلٌ أدَّيت إليكم الحقَّ الذي سمعته من الله، ومرَّةً إلهٌ يخلق ويرزق، خروف الله، له آيات، يقول الأكثرون: آية إلَّا آية [
…
]، في الله والله فيه، هو في تلاميذه وهم فيه، هو عِلم الله وقدرته، مرَّةً هو كلمة الله، "في البدء كانت الكلمة، والكلمة كانت عند الله، والله كان الكلمة، بها خُلِقت الأشياء، ومن دونها لم يخلق شيءٌ، فالذي خلق فهو حياة فيها".
أولئك المؤمنون به الذين لم يتوالدوا من دمٍ ولا من شهوة اللَّحم، ولاباه رجل، لكن توالدوا من الله، فالتحمت الكلمة، والكلمة كانت بشرًا وسكنت فيهم فرأوا عظمتها كعظمة ولد الله.
ومرَّةً هو روح القدس، ومرَّة هو محشيٌّ من روح القدس، لا يحكم على أحد، ولا تنفذ إرادته، نبي وغلام الله، [
…
]، أسلمه الله إلى أعدائه، انعزل الله له عن الملك، وتولَّاه هو، وصار يشرف الله تعالى، ويعطي مفاتيح السموات لباطرة، وهو مخالف معارض جاهل بمرضاة الله، ويولِّي أصحابه، أو باطرة وحده خطَّة التَّحريم والتَّحليل في السموات والأرض.
يقول: أنا أُميت نفسي وأنا أحييها، يجوع ويطلب ما يأكل، ويعطش ويشرب، ويعرق من الخوف، ويلعن الشجرة إذا لم يجد فيها تينًا يأكله، ويفشل فيركب حماره، ويؤخذ فيُلْطَم وجهُه، ويُضرَب رأسُه بالقَصَبَة، ويُبْزَق في وجهه، ويُضرَب ظهرُه بالسِّياط، ويُمِيتُه الشُّرَط ويتهكَّمون به، ويُسقَى الخلَّ في الحنظل، ويُصلَب بين سارِقَين، وتسمَّر يداه، ومات في الساعة ثم أحيا نفسه بعد الموت، ولم يكن له همٌّ بعد أن حيِيَ إلَّا طلب ما يأكله، فأطعموه الخبز والحوت المشوي، وسقوه العسل، ثم انطلق إلى شغله
(1)
.
(1)
كل ما تقدَّم بنحوه في "الفِصَل" لابن حزم (2/ 200).
وقالوا في يحيى مرَّةً: إنَّه منتهى النبوَّات، ومرَّةً إنَّه فوق النَّبي، ومرَّةً إنَّه نبيٌّ، ومرَّةً آخر الأنبياء، ومرَّةً أنَّه بُعِث بعده أنبياء، ومرَّةً محشيٌّ من روح القدس في بطن أمِّه، وكذلك أمُّه أيضًا، ومرَّة ليس بنبيٍّ، ولم يولد في الآدميين أشرف منه، ولكن من كان صغيرًا في ملكوت السماء فهو أكبر منه، ومرَّةً لا يأكل ولا يشرب، ومرَّةً طعامه الجراد والعسل
(1)
!
قال أبو محمد بن حزم: "إن قالوا: قال الله عز وجل في كتابكم حكايةً عن المسيح عليه السلام أنَّه قال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، وقال تعالى أيضًا مخاطبًا للمسيح عليه السلام:{إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 55].
قلنا: نعم، هذا خبر حق ووعد صدق، وإنَّما أخبر تعالى عن المؤمنين ولم يسمِّهم. ولا شكَّ في أنَّ من ثبت عليه الكذب من "باطرة" و"يوحنا" و"متَّى" و"يهوذا" و"يعقوب" ليسوا منهم، لكنَّهم من الكفار المدَّعين له الربوبية كذبًا وكفرًا.
وأمَّا الموعودون بالنصر إلى يوم القيامة، المؤمنون بالمسيح عليه السلام فهم نحن المسلمون، المؤمنون به حقًّا، وبنبوَّته ورسالته، لا من كفر
(1)
بنحوه في "الفِصَل" لابن حزم (2/ 69 - 73).
به، وقال: إنَّه كذَّاب، وقال: إنَّه إلهٌ وابن إلهٍ، تعالى الله عن ذلك"
(1)
.
أقول: وقضيَّة التَّحريف والتبديل في التَّوراة والإنجيل كالشمس رابعةَ النهار. ومن أراد علم اليقين فيها فعليه بمراجعة "الملل والنِّحَل"، ومراجعة "إظهار الحق" لرحمة الله الهندي؛ فإنَّه رحمه الله فَحَص القضيَّة فحصًا تامًّا، حتى تحصَّل على كثيرٍ من الكتب المؤلَّفات على كتب العهدين، ونقل عن أساطين علمائهم الاعتراف بالتحريف والتبديل المجْحِف في تلك الكتب.
وذكر بعضهم أنّ هذه الأناجيل ليست للنَّفر الذين تنسب إليهم، وإنَّما هي لرجلٍ متأخر عنهم، لا يُعرَف اسمه، جمعها وخشي أن لا يصدَّق فنسبها إلى أولئك النَّفر، [وحذف] اسمه.
أقول: فرقٌ [ ...... ] صحب الحواريين، على غربتهم وتشتُّتهم واستخفائهم، مظهرًا لهم التنصُّر، فلمَّا قتلوا وذهبوا وضع هذه الأناجيل [ ..... ] إلى الحواريين، وهذا أقرب إلى العقل؛ لأنَّ المسيح رفع ولم يكتب الإنجيل، باعتراف النصارى [
…
] بأيديهم إنجيل منزَّلٌ، والواقع كذلك ولو ادّعوا [خلافه] افتُضحوا؛ لأنَّ دلالة هذه الأناجيل واضحة أنَّها مجرَّد تواريخ.
[ثم] تبعه الحواريون، مع خوفهم واستخفائهم، فلم يؤلِّفوا شيئًا حتى جاء ذلك اليهودي فزوَّر عليهم كتبًا أخذها تبَعُهُم وتصرَّفوا فيها تصرُّف اليهود في التوراة
(2)
.
(1)
"الفِصَل"(1/ 208 - 209).
(2)
هنا ينتهي ما وُجِدَ من هذه الرسالة.
الرسالة السابعة
ما وقع لبعض المسلمين من الرياضة الصُّوفيَّة
والغلو فيها
فصلٌ
(1)
وأمَّا قوى النُّفوس البشريَّة فأشهرها الإصابة بالعين، وهي مشهورة بين النَّاس، لا تكاد ترى أحدًا إلَّا حكَى لك بعض ما يزعم أنَّه شاهده أو أُخبِر به. وفيها فُسِّر قوله تعالى في سورة الفلق:{وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} .
وقال تعالى فيما قصَّه عن يعقوب عليه السلام: {يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 67 - 68]. قال أكثر المفسِّرين: «خشي عليهم العين»
(2)
.
وفي «الصَّحيحين» وغيرهما
(3)
، عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:«أمر النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يُسترقَى من العين» .
وصحَّ نحوه عن أمِّ المؤمنين أمِّ سلمة، وجابر، وأنس، وغيرهم من الصَّحابة رضي الله عنهم
(4)
.
(1)
وقع سقط من أول الرسالة، لا يُدرى كم مقداره.
(2)
هو قول ابن عباس ومحمد بن كعب والضحاك ومجاهد وقتادة. يُنظَر: «الدُّر المنثور» للسيوطي (8/ 286 - 287).
(3)
البخاري (5738)، ومسلم (2195)، وابن ماجه (3512).
(4)
حديث أم سلمة عند البخاري (5738) ومسلم (2197). وحديث جابر عند مسلم (2196). وحديث أنس عند مسلم (2196). وأخرجه الترمذي (2059) من حديث أسماء بنت عُميس.
وفي «صحيح مسلم»
(1)
عن ابن عباس رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «العَيْن حقٌّ، ولو كان شيءٌ سابق القَدَر سَبَقَته العَيْن، وإذا اسْتُغْسِلْتُم فاغْسِلوا» .
وفي «مسند أحمد»
(2)
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «العين حقٌّ، ويحضر بها
(3)
الشيطان وحَسَد بني آدم».
قالوا: وسببها أن ينظر الإنسان إلى شيءٍ لغيره فيُعجَبُ به، ويحسد صاحبه عليه، فتتولَّد في نفسه قوَّةٌ تتَّصل بذاك الشيء فيُصابُ، والحكايات في ذلك كثيرةٌ، وفيها ما يقضي أنَّ المعيان قد يعين وهو أعمى، وقد يعين ما لا يراه.
وممَّا هو مسلَّمٌ عند فلاسفة العصر ما يسمُّونه بـ «التَّنويم المغناطيسي»
(4)
.
(1)
حديث (2188).
(2)
(2/ 439).
(3)
في الأصل: «يحضرها» .
(4)
يُنظَر في: «قصَّة الحضارة» لوِل ديورانت (1/ 896)، و (12/ 12478)، و (14/ 14637) كيف انتقل التنويم المغناطيسي من الهند إلى أوربا، وبدايات استخدامه كعلاجٍ عندهم.
تنبيهٌ: وقد يُفهم من ظاهر كلام المؤلِّف رحمه الله في هذا الموضع وموضعٍ تالٍ التسليم بكونه علمًا حقيقيًّا وقوَّة ذاتيَّة لبعض الأشخاص، وهذا ليس بصحيح؛ إذ أشار رحمه الله كما سيأتي (ص) أنَّه أشبه بسحر العقول، فإن ثبَت التنويم حقيقةً فهو كفعل المشعوذين والسَّحرة في استعانتهم بالجن والشياطين للتأثير على أجسام الناس وعقولهم.
وحاصله أن يرتاض الإنسان برياضةٍ مخصوصةٍ، بالمواظبة على جمع فِكْرِهِ في نقطةٍ يحدِّق ببصره إليها، فبعد مُدَّةٍ تحصل له قوَّة التنويم، بأن يحدِّق بعينيه إلى إنسان ويتحرَّك حركاتٍ مخصوصةٍ، فلا يلبث المنظور إليه أن يصيبه ذهول وتشنُّجٌ، ثم يسقط مغشيًّا عليه.
وتكون للمنوِّم سلطةٌ على النَّائم بأن يسأله فيجيب وهو لا يشعر، ويحسُّ الأطبّاء نبْضَه ويختبرونه فيعلمون أنَّه لا يزال نائمًا رغمًا عن قيامه وكلامه وفعله.
وقد تزداد القوَّة إلى حدِّ أنَّه يبقى سلطان المنوِّم على ذاك الشَّخص حتى بعد إفاقته ولو بمدَّة.
هذا والمشهور في قوَّة الإصابة بالعين أنَّها تكون طبيعيَّة لبعض النَّاس، ولكن قد تكون مكتسبةً، إمَّا بغير اختيار كما يقول الناس: إنَّ من نشأ يتيمًا محتاجًا يرى الأشياء التي تشهيها نفسه فلا يصل إليها ينشأ معيانًا. وإمَّا باختيار.
ففي «شرح المقاصد»
(1)
: [«يكون لبعض النفوس خاصية أنها إذا استحسنت شيئا لحقته الآفة فثبوتها يكاد يجري مجرى المشاهدات التي لا تفتقر إلى حجة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «العين حق» ، وقال:«العين تدخل الرجل القبر والجمل القدر»
(2)
.
(1)
(2/ 270).
(2)
أخرجه ابن عدي في «الكامل» (6/ 407) وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 90) وغيرهما، من طريق معاوية بن هشام القصار عن الثوري عن ابن المنكدر عن جابر مرفوعًا به. وقد حسَّنه الألباني في «الصحيحة» (1249).
وذهب كثير من المفسِّرين
(1)
إلى أن قوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} الآية [القلم: 51] = نزل في ذلك، وقالوا: إنَّه كان العين في بني أسد، وكان الرجل منهم يتجوَّع ثلاثة أيامٍ فلا يمرُّ به شيءٌ يقول فيه: لم أر كاليوم إلَّا عانَهُ، فالتمس الكفار من بعض من كانت له هذه الصِّفة أن يقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فعَصَمَه الله .. »]
(2)
.
فأمَّا ما حصل بغير اكتساب اختياريٍّ فظاهرٌ أنَّه لا يوجب ذمَّ صاحبه، إلَّا أنَّ عليه أن يحتاط، فإذا رأى ما يعجبه ذَكَر الله تعالى ودعا بالبَرَكة، وإذا اتُّهِم بالإصابة فاستُغسِل فلْيغتسل، كما في الحديث.
وأمَّا المكتسبة بالاختيار فهي فيما يظهر من السِّحر، واكتسابها داخلٌ في تعلُّم السِّحر.
ومن جملة قوى النُّفوس ما هو حاصلٌ لبعض الناس الذين يرقون من الحيَّة والعقرب ونحوها؛ فإنَّهم قد يرقون بألفاظٍ لا معنى لها.
وفي الآثار النَّبويَّة ما يدلُّ على الإذن بالرقية بالألفاظ التي ليس فيها تعظيمٌ لغير الله عز وجل، وإن لم يكن فيها ذكر الله تعالى، ولا دعاء له، وأرى أنَّ الإذن في ذلك إنَّما هو اعتداد بما يصحبه من قراءة [ .... ]
(3)
.
ومن قوى النُّفوس ما يكتسب برياضتها، فإنَّه كما أنَّ القوى البدنيَّة يمكن تتميمها بالرِّياضة، كَمَن يواظب على رفع الأثقال؛ فإنَّه بعد مُدَّةٍ يستطيع
(1)
يُنظَر: «الدر المنثور» للسيوطي (14/ 656 - 657).
(2)
ما بين القوسين المعقوفين بيَّض له المؤلِّف.
(3)
خرمٌ مقدار سطرين.
ضعف ما كان يستطيعه قبل، وكذلك في الجري على الأقدام، والرَّمي بالأحجار، والمشي على سلك ممدود بين عمودين، وغير ذلك ممَّا هو معروف في الألعاب الرِّياضية.
وكذلك الشَّعبذة التي تعتمد خِفَّة الحركة؛ فإنَّ ذلك القَدْر من سرعة الحركة لا يحصل إلَّا بمعاناة الحركات السَّريعة مدَّةً.
فكذلك قُوَى النُّفوس يمكن تربيتها بالرِّياضة، فقد علِمْتَ ممَّا تقدَّم أنَّ بعض النُّفوس تكون بها بطبيعتها قوَّة التأثير بالإصابة بالعين وبإزالة الألم الحاصل من لدغ العقرب ونحو ذلك، وأنَّ ذلك قد يُكْتَسَب كما يُكْتَسَب قوَّة التَّنويم المغناطيسي ونحوه.
غير أنَّ الرِّياضة هنا تختلف وعمادها أمران: إضعاف القُوى الجسديَّة، والتعوُّد على جمع الهِمَّة، وحصر الفِكر في شيءٍ واحدٍ.
وهذه الرِّياضة معروفةٌ عند قدماء اليونان والهنود وغيرهم، وقد يفعلها المسلمون وعملوا بها، كما نقلوا المنطق والفلسفة وعملوا بها، ولم تَلْقَ هذه من المعارضة كما [تلقَّت]
(1)
الفلسفة ذلك؛ لأسباب.
منها: أنَّ في العبادات الإسلاميَّة ما يشبهها في الجملة، كالصِّيام، والقيام، والاقتصاد في الأكل والشرب، واعتزال الناس إذا خشيت من الناس مفسدةً.
ومنها: أنَّ بعض الزُّهَّاد من التَّابعين وغيرهم بالغوا في العبادات الإسلاميَّة، حتى قربوا من هذه الرِّياضة؛ فداوموا على الصيام، وواصلوا فيه،
(1)
في الأصل «تقلت» .
وأداموا قيام جميع اللَّيل. وبالغوا في الاقتصاد في المطعم؛ لعزَّة الحلال الصِّرْف في نظرهم. وامتنعوا عن النِّكاح؛ لعجزهم ــ بزعمهم ــ عن القيام بمصالح الأهل والولد من الحلال. وبالغوا في العُزلة والخلوة.
ومنها: أنَّ الذين نقلوا هذه الرِّياضة وعملوا بها تلطَّفوا بإدراج كل منها فيما يشبهه من العبادات الشَّرعيَّة. إلى غير ذلك.
وبالجملة فهذه الرِّياضة كما توجد في كتب الهنود وغيرهم توجد في كتب المتصوِّفة بنصِّها وفصِّها؛ إلَّا أنَّ بعضها قد ألبس صورةً غير صورته، كرياضة التنفُّس عند الهنود وغيرهم، وقد ذكرها المتصوِّفة بلفظ «هو الله» ، «الله هو» ، وجمع الهِمَّة في شيءٍ صوَّرَهُ المتصوِّفة بجمع الهِمَّة في تصوّر الشيخ.
ومنها ما أبقوه على صورته، كأن لا يأكل من روحٍ، ولا مَن خرج مِن روح، وغير ذلك.
وبالجملة فهذه الرِّياضة لقيت قبولًا تامًّا على اختلاف الأغراض.
فمن الناس من كان غرضه منها إضعاف شهوات جسده؛ ليتمكَّن من كثرة العبادة، والإعراض عن الشهوات.
ومنهم من كان حريصًا على الاطِّلاع، فَغَرَضُه منها ما تثمره من قوَّة الإدراك، المسمَّاة بالكشف ونحوه.
ومنهم من كان له غرَضٌ سياسيٌّ تعاناها ليظهر بمظهر الزاهد في الدنيا المقبل على العبادة، ثم لعلَّه يحصل له شيءٌ من قوَّة الإدراك وقوَّة التأثير، فيدَّعي الوَلاية أو المهدويَّة!
ومنهم من كان غرضه الجاه والثروة، فتعاناها لنعتقد فيه الولاية، فيقبل عليه الناس بما يريد.
ومنهم قومٌ كانت لهم عقائد دينيَّة شاذَّة، يخافون من إظهارها أن يُقتلوا أو يُؤذوا أو يُمقتوا؛ فتعانوا تلك الرِّياضة لتحصل لهم تلك القوَّة؛ فتعتقد فيهم الوَلاية، فيظهروا تلك العقائد، فيُقبِل عليها الناس لحسن الاعتقاد في أصحابها.
ومنهم قومٌ تعانوا الفلسفة؛ فحصلت لهم عقائد منافية لعقائد الإسلام، وخافوا من إظهارها، فحالهم كحال الذين قبلهم.
ومنهم قومٌ يضمرون الكيد للإسلام ويريدون إطفاء نوره؛ فتعانوا تلك الرِّياضة، حتى إذا اعتُقِدت فيهم الوَلاية أظهروا الأقوال والعقائد المنابذة للإسلام، على نحو ما تقدَّم.
ومنهم ــ وهم كثير من المتأخِّرين ــ قومٌ ظنوا أنَّ تلك الرِّياضة هي خلاصة العبادات الشَّرعيَّة الموصلة إلى الوَلاية.
هذا والعارفون بحقيقة تلك الرِّياضة لا يشترطون دينًا خاصًّا، ولا مذهبًا خاصًّا، بل يعلِّمونها كلَّ إنسان مهما كان دينه ومذهبه، ويوصونه بالمواظبة على العبادات التي يعتقدها، فيوصون المسلم بالصيام والقيام، والوثني بالعكوف على الأصنام، وغير ذلك!
يرون أنَّ ذلك ممَّا يساعد على حصول المقصود بتلك الرِّياضة، ولاسيّما جمع الهِمَّة، وحصر الفِكْر، وقوَّة التخيّل.
ويسرع حصولها للمريد إذا كان يرتاض على يد شيخٍ عارف بقوانينها، قد حصَّلت له نفسه قوَّة التأثير، فهو يؤثِّر بها في نفس الطالب، مساعدًا له على استحصالها.
ويبقى النظر في حكم العمل بهذه الرِّياضة.
والمعروف في الشَّريعة هو النَّهي عمَّا يكاد يقرب من الغلو في العبادة، كصيام الدهر، ومواصلة الصوم، والمداومة على قيام جميع الليل، وترك التزوُّج، والامتناع من أكل اللَّحم، ونحوه.
والمعروف فيها أيضًا أنَّ السِّحر كفرٌ أو كبيرةٌ، وأنَّ تعلُّمه كذلك.
والمتصوِّفون يصرِّحون بأنَّ من سلك تلك الطريق تحصل له قوَّة السِّحر، وأنَّ كثيرًا منهم يقف عندها ويستعملها فيكون ساحرًا.
ويصرِّحون بأنَّ الشياطين تولع بمَن سلك تلك الرِّياضة، يخيِّلون له، ويصوِّرون، ويقضون له بعض الأغراض؛ يوهمونه أنَّه قد بلغ درجة الوَلاية، أو ما هو أعظم منها؛ ليضلُّوه ثم يُضلِّوا به.
وأنَّ من ارتاض رغبةً في أن تحصل له قوَّة المكاشفة، وقوَّة التأثير فهو على ضلال، والمعنى أنَّه يرتاض تعلُّمًا للسحر.
وأنَّ من ارتاض طالبًا للحق قد يعرض له من الاغترار بتلك القوَّة وتخييل الشياطين ومساعدتهم ما يوقفه عندها، إمَّا ميلًا إلى الهوى، فيكون ساحرًا حقًّا، وإمَّا ظنًّا أنَّه قد صار من أولياء الله، وهو في الحقيقة من أولياء الشيطان.
ويذكر الغربيُّون عِدَّة وقائع من تأثير النُّفوس، منها أنَّ بعض الأفراد
يوجِّه همَّته إلى بعض أعضائه، فيحدث فيه جرح ظاهر، يسيل منه الدَّم، ثم يوجِّه همَّته إليه فيزول كأن لم يكن، أو يضرب نفسه بسكِّين فيحدث الجرح ثم يوجِّه همَّته إليه فيلتئم ويبرأ في الحال، وغير ذلك.
ومن تأثير النُّفوس سِحر الأبصار، كما قصَّه الله سبحانه وتعالى عن سحرة فرعون، قال تعالى:{فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى} [طه: 66 - 68]، وقال عز وجل:{قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 116].
وروى البخاري في «تاريخه»
(1)
[في ترجمة جندب بن كعب قاتل الساحر، «وقال الأعمش عن إبراهيم أراه عن عبد الرحمن بن يزيد أنَّ جندبًا قتل السَّاحر زمن الوليد بن عقبة.
حدثنا إسحاق حدثنا خالد الواسطي عن خالد الحذاء عن أبي عثمان: كان عند الوليد رجلٌ يلعب، فذبح إنسانًا وأبان رأسَهُ، فعَجِبْنا، فأعاد رأسه، فجاء جندب الأزدي فقتله»]
(2)
.
والقصَّة مشهورة، راجع ترجمة جندب في «الإصابة»
(3)
.
وفي ترجمة السُّهْرَوردي المقتول وغيره أشياء تشبه ذلك.
(1)
«التاريخ الكبير» (2/ 222).
(2)
ما بين القوسين المعقوفين بيَّض له المؤلِّف رحمه الله.
(3)
«الإصابة في معرفة الصَّحابة» لابن حجر (1/ 511 - 512)، وذكره الحافظ والقصَّةَ بسياق آخر في مواضع أخر (1/ 507، 508، 509)، و (2/ 647)، و (3/ 235).
[كما قال ابن أبي أصيبعة: «ويُحكَى عن شهاب الدين السُّهْرَوردي أنَّه كان يعرف علم السيمياء
(1)
، وله نوادر شوهدت عنه من هذا الفن.
قال: حدَّثني الحكيم إبراهيم بن أبي الفضل بن صدقة أنه اجتمع به، وشاهد منه ظاهر باب الفرج وهم يتمشّون إلى ناحية الميدان الكبير، ومعه جماعة من التلاميذ وغيرهم، وجرى ذكر هذا الفن وبدائعه وما يعرف منه وهو يسمع، فمشى قليلًا، وقال: ما أحسن دمشق، وهذه المواضع.
قال: فنظرنا وإذا من ناحية الشرق جواسق
(2)
عالية، متدانية بعضها إلى بعض مبيضة، وهي من أحسن ما يكون بناية وزخرفة، وبها طاقات كبار، فيها نساء ما يكون أحسن منهن قط، وأصوات مغان وأشجار متعلِّقة بعضها مع بعض، وأنهر جارية كبار، ولم نكن نعرف ذلك من قبل. فبقينا نتعجَّب من ذلك وتستحسنه الجماعة وانذهلوا لِمَا رأوا.
قال الحكيم: فبقينا كذلك ساعة، ثم غاب عنَّا، وعُدْنا إلى رؤية ما كنَّا نعرفه من طول الزمان. قال لي: إلَّا أنَّ عند رؤية تلك الحالة الأولى العجيبة بقيت أحسُّ في نفسي كأنَّني في سِنَةٍ خفيَّةٍ، ولم يكن إدراكي كالحالة التي أتحقَّقها منِّي.
وحدَّثني بعض فقهاء العجم قال: كُنَّا مع الشيخ شهاب الدِّين عند القابون
(3)
، ونحن مسافرون عن دمشق، فلقينا قطيع غنم مع تركماني فقلنا
(1)
نوع سحرٍ، بإحداث مثالات خياليَّة لا وجود لها في الحسِّ. كما في «المعجم الوسيط» .
(2)
جمع «جوسق» ، وهو القصر، كما في «العين» للخليل.
(3)
هو موضع بينه وبين دمشق ميل واحد، في طريق القاصد إلى العراق. كما في «معجم البلدان» لياقوت.
للشيخ: يا مولانا نريد من هذا الغنم رأسًا نأكله، فقال: معي عشرة دراهم، خذوها واشتروا بها رأس غنمٍ، وكان ثَمَّ تركماني فاشترينا منه رأسًا بها، فمشينا.
فلحِقَنا رفيقٌ له، وقال: ردُّوا الرأس وخذوا أصغر منه، فإن هذا ما عرف يبيعكم يَسْوَى هذا الرأس البختيَّة الذي معكم أكثر من الذي قبض منكم، وتقاولنا نحن وإيَّاه. ولما عرف الشيخ ذلك قال لنا: خذوا الرأس وامشوا، وأنا أقف معه وأرضيه، فتقدَّمْنا وبقي الشيخ يتحدَّث معه ويمنِّيه، فلمَّا أبعدنا قليلًا تركه وتبعنا، وبقي التركماني يمشي خلفه ويصيح به، وهو لا يلتفت إليه.
ولمَّا لم يكلِّمه لحقه بغيظٍ وجذب يده اليسرى، وقال: أين تروح وتخلِّيني؟ وإذا بيد الشيخ قد انخلعت من عند كتفه، وبقيت في يد التركماني ودمها يجري، فبُهِت التركماني وتحيَّر في أمره، ورمى اليد وخاف، فرجع الشيخ وأخذ تلك اليد بيده اليمني ولحقنا.
وبقي التركماني راجعًا وهو يتلفَّت إلينا حتى غاب، ولمَّا وصل الشيخ إلينا رأينا في يده اليمنى منديله لا غير». وذكر قصَّة ثالثة. انتهى
(1)
]
(2)
.
وهذا الضَّرب يحتمل وجهين:
الأول: أنَّه سحرٌ للأبصار فقط، بحيث يختلُّ إدراكها، فترى ما لا حقيقة له.
والثاني ــ وهو الذي يترجَّح لي ـ: أنَّه سحرٌ للأدمغة، فيصير دماغ المسحور
(1)
«عيون الأنباء في طبقات الأطباء» لابن أبي أُصيبعة (ص 642 - 643). ويُنظَر أيضًا: «وفيات الأعيان» لابن خلّكان (6/ 269 - 270)، و «سير أعلام النبلاء» للذهبي (21/ 208 - 209)، و «تاريخ الإسلام» له (41/ 284 - 285). وغيرها.
(2)
ما بين القوسين المعقوفين بيَّض له المؤلِّف رحمه الله.
ضعيفًا، وقد عُرِف أنَّ الدِّماغ إذا ضعف قد يختلُّ الإدراك، كَمَن يكون بين النوم واليقظة فإنَّه يتخيَّل أشياء كثيرة، مثل أنَّه قام ومشى ورأى أشياء كثيرة، وأشباه ذلك. وهكذا من يتناول بعض الأشياء المُسْكِرة أو المفتِّرة.
وهكذا من يضعف دماغه لمرضٍ أو شدَّة خوفٍ، كما يدخل في الليل مكانًا يعتقد أنَّ فيه جِنًّا يتعرَّضون لمن يدخل.
وبالجملة فهذا الضَّرْب يشبه ما عُرِف الآن بـ «التنويم المغناطيسي» ؛ فإنَّ المنوِّم ــ بالكسرـ يستطيع أن يخيِّل للمنوَّم ــ بالفتح ــ أشياء لا وجود لها، كما مرَّ، ولهذا يشعر المسحور بأنَّه في حالٍ غير عاديَّة، كما تقدَّم في القِصَّة.
فإن قيل: إنَّ إمكان مثل هذا يؤدِّي إلى سدِّ باب الثِّقة بالمحسوسات، وإلى عذر من كفر بالأنبياء، وقال: إنَّهم سحرةٌ، وإلى عذر منكري الكرامات.
قلتُ: أمَّا سدُّ باب الثِّقة بالمحسوسات فالحال في هذا كالحال في أعمال الجِنِّ، كما تقدَّم، فلا يأذن الله عز وجل بوقوع مثل هذا إلَّا في حالٍ تكون هناك قرائن وأدلَّة تدلُّ على أنَّه تخييل، أو تشكَّك فيه تشكيكًا قويًّا.
فسحرة فرعون كانوا يعترفون ويُعرَفون بأنَّهم سحرةٌ، ثمَّ بيَّن الله عز وجل حقيقة أمرهم، وهكذا حال السَّاحر الذي قتله جندب، وقريب منه ما تقدَّم عن السُّهْرَوردي.
وأمَّا اشتباه المعجزات والكرامات فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
[ ...... ]
(1)
.
(1)
هنا وقع سقط في الأصل، لا يُدرى كم مقداره.
الذي في «الصَّحيح»
(1)
فلم تُعَيِّن اللَّيالي ولا عِدَّتها.
ولكن في «سيرة ابن هشام»
(2)
: « .. قال: ابن إسحاق: وحدَّثني وهب بن كيسان مولى آل الزبير قال: سمعتُ عبد الله بن الزبير وهو يقول لعُبَيد بن عمير بن قتادة اللَّيثي: حدِّثْنا يا عُبَيد كيف كان بُدُوُّ ما ابتدئ به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من النبوَّة حين جاءه جبريل عليه السلام؟
قال: فقال عُبيد: « .... كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجاور في حِراء من كل سنةٍ شهرًا، وكان ذلك ممَّا تحنَّثُ به قريش في الجاهليَّة. والتحنُّث: التبرُّر.
قال ابن إسحاق: فقال أبو طالب:
وثور ومَن أرْسَى ثبيرًا مكانَه
…
وراقٍ لِيَرقى في حِراء ونازل
قال عُبيد: فكان رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم يجاور ذلك الشهر من كل سنةٍ، يُطْعِم من جاءه من المساكين
…
(1)
البخاري (3)، ومسلم (160).
(2)
«السيرة النبويَّة» (2/ 68).
حتى إذا كان الشَّهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته، من السَّنة التي بعثه الله تعالى فيها، وذلك الشهر رمضان = خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى حِراء كما كان يخرج لجواره، ومعه أهله
…
».
وهذا مرسلٌ؛ لأنَّ عبيدًا تابعيٌّ، إلَّا أنَّ استماع الصَّحابة له، وتركهم الإنكار ممَّا يشدُّه.
وفيه: أنَّ المجاورة كانت ممَّا تعمله قريش في الجاهلية، وقد كان النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل البعثة يتحرَّى من أعمالهم ما يرى أنَّه مما بقي من شريعة إبراهيم، كالحج ونحوه.
وفيه: أنَّ المجاورة كانت شهرًا، وهذا محمول على جُمْلتها. وقد دلَّ حديث عائشة رضي الله عنها أنَّه كان يرجع في أثناء الشهر مرارًا ليتزوَّد.
وقوله أخيرًا: «وذلك الشَّهر رمضان» صريحٌ في أنَّ الشَّهر الذي جاوره ذلك العام رمضان، ويحتمل أن يكون رمضان هو الشهر الذي يجاور فيه كل سنة، والذي كانت تجاور فيه قريش. والله أعلم.
وعلى كلِّ حالٍ فالذي تقرَّر في الشَّريعة ممَّا يتعلَّق بهذه القضية هو صيام رمضان واعتكاف العشر الأواخر منه في أيِّ مسجدٍ كان.
وأحكام الاعتكاف معروفةٌ في الشَّرع، ولم يُنقَل عن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم أنَّه جاور بحراء أو غيره بعد النبوَّة، ولا أمر به أحدًا، ولا فَعَله أحدٌ من السَّلف = فلم يبْقَ في تلك القضيَّة أثرٌ عمليٌّ في الشَّريعة، إلَّا أن يكون صيام رمضان والاعتكاف فيه.
واتَّضح بذلك أنَّه من أحدث غير ذلك ــ كأربعينيَّة المتصوِّفة
(1)
ــ فليس له حُجَّة في تلك القضيَّة. والله الموفِّق.
وإن حُكِمَ به عن تجربةٍ، أو رُؤيا، أو إلهامٍ، أو أمَارةٍ خاصَّة بهم، أو ذَوْقٍ، أو كَشْفٍ، أو خبرِ مَن يرونه ملَكًا، أو مَن يرونه الخضر، أو نبيًّا، أو النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم، وأنَّهم شاهدوه يقظةً، أو شاهدوه في اللَّوح المحفوظ، أو سمعوه من الله تعالى، ونحو ذلك ممَّا يدَّعونه لأنفسهم = فسيأتي الكلام على هذه الأمور إن شاء الله تعالى.
ويكفيك هنا أمورٌ:
الأوَّل: أنَّ هذه الأمور منها ما دلَّت الشَّريعة على نفيه، ولو بدليلٍ ظاهر تقوم الحُجَّة به إجماعًا.
ومنها ما لا يُعلَم في الشَّريعة إثباته أو نفيه.
ومنها ما جاء في الشَّريعة إثباته في الجملة.
فالأوَّل ساقط، والثَّاني كذلك؛ لأنَّ الشريعة لم تشهد له، ولو كان حقًّا
(1)
الأربعينيَّة: خلوةٌ صوفيَّةٌ عدَّتها أربعون يومًا، تتخلَّلُها عبادات ورياضات، كالصَّوم ونحوه. وقد استدلَّ من قال بها، كالسَّهروردي في «عوارف المعارف» (ص 37) وغيره بأدلَّة، كلُّها لا تثبت بها الحُجَّة، فاستدلُّوا بفعل موسى عليه الصلاة والسلام حين لقي ربَّه، واستدلُّوا بأحاديث ضعيفة أو موضوعة، تُنظَر ألفاظ هذه الأحاديث في «تذكرة الموضوعات» للفتني (ص 191 - 192) باب خرقة الصُّوفية والأربعينيَّات والمجاهدة، ويُنْظَر تفصيل القول في عِلَلها في كتب الموضوعات، ومناقشةٌ مفصَّلةٌ لباقي أدلتهم في:«مجموع الفتاوى» لشيخ الإسلام ابن تيمية (10/ 393 - 406)، وفي (18/ 11).
لشهِدَت له، فهو إمَّا راجعٌ إلى الأوَّل أو الثالث. أمَّا الأول فقد مرَّ.
وأمَّا الثالث [فإنَّ ما]
(1)
ثبت في الشَّريعة أنَّه أمارة قد يكون حقًّا، وقد يكون باطلًا، فحدُّه أنَّه إذا وافق حُجَّةً مشهودًا لها في الشَّريعة بأنَّها حُجَّة أُخِذ بتلك الحُجَّة، وذُكِر معها استنانًا
(2)
، كما يذكر أهل العلم الحُجَّة الشَّرعيَّة، ثم يذكر بعضهم ما وافقها من رُؤيا ونحوها.
وإن خالف حُجَّةً شرعيَّةً كان ذلك دليلًا على بطلانه.
وإن لم يوافق ولم يخالف أُخِذ به فيما تكفي فيه الأمارة الضَّعيفة، وذلك في نحو صدقة التطوُّع، إذا تردَّدتَ في إعطائها لهذا أو لذاك، ولم يظهر لك ما يرجِّح أحدهما من جهة الشرع ولم يتيسَّر قسمتها، فرأيتَ رؤيا تدلُّ على أحقِّيَّة أحدهما = فإنَّه يجوز لك أن تعطيه؛ وذلك أنَّه يكفي في ذلك الأمارة الضَّعيفة، كأنْ ترى ثوب أحدهما أبْلَى من ثوب الآخر فتقول: يظهر من هذا أنَّ الذي ثوبُه أبلى أشدُّ حاجة.
ولا يدخل في هذا: التردُّد في صيام يومين لم يثبت في الشَّرع لأحدهما مزيَّة عن الآخر إذا دلَّت رؤيا على مزيَّةٍ شرعيَّةٍ لأحدهما.
والفرق: أنَّ المزيَّة الشرعيَّة حكم شرعيٌّ لا يثبت إلَّا بالشَّرع، وأمَّا كون هذا أحْوَج من ذاك فهو موكولٌ إلى نظر المكلَّف، فلا تغفل.
الأمر الثَّاني: أنَّ ما يصحُّ في الجملة ممَّا ادَّعاه المتصوِّفة مُعَرَّضٌ للاشتباه بتضليل الشيطان، والهوى، والتَّخيُّل، والتوهُّم.
(1)
في الأصل: «فإنما» .
(2)
كذا في الأصل، ولعلَّه يقصد:«استئناسًا» .
والأَمارات التي يزعمونها محتملةٌ لذلك أيضًا، وللتخلُّف، وغير ذلك.
وأعظم من هذا كلِّه أنَّه قد جاء في الحديث وصف القرآن بأنَّه «من يبتغي الهُدَى في غيره أضلَّه الله»
(1)
. فمَن ابتغي معرفة الحقِّ من حيث لم يشرعه الله عز وجل بصريح شريعته فهو أهلٌ لأن يضلَّه الله عز وجل، ويستدرجه، ويُلَبَّس عليه ما لَبَّس على نفسه، والعياذ بالله.
الأمر الثالث: أنَّ ما أوضح الله عز وجل لعباده بصريح شَرْعِهِ أنَّه طريقٌ يعرف به الحقَّ في دينه = فهو معصومٌ بالجملة، وهو سبحانه يتكفَّل بحفظه.
وما يحتمل فيه من الخطأ فهو إمَّا خطأ صوري، إنَّما وقع لحِكْمَةٍ.
وإمَّا معفوٌّ عنه، بل مأجورٌ فيه أجرًا واحدًا، وإمَّا معفوٌّ عنه فقط. اللَّهمَّ إلَّا أن يكون خطأً عن تقصيرٍ بيِّنٍ من النَّاظر، فالذَّنب في هذا له.
وقد أوضحتُ هذا في موضعٍ آخر.
وأمَّا ما ليس في صريح الشَّرع أنَّه طريقٌ لمعرفة الحقِّ في الدِّين فليس بمعصومٍ، ولم يتكفَّل الله عز وجل بحفظه، فالمصيب فيه مأزورٌ؛ لمخالفته ما شرَعَه الله، فما ظنُّك بالمخطئ!
(1)
أخرجه أحمد (1/ 91)، والترمذي (2906)، والدَّارمي (3374)، والبزَّار (3/ 71)، وغيرهم، من طرقٍ عن الحارث الأعور عن عليٍ رضي الله عنه مرفوعًا. ومداره على الحارث، وهو ضعيف؛ وقد ضعَّفه التِّرمذي. ورجَّح الحافظ ابن كثير وقفه، ووهَّم رفعَه.
وفي الباب حديث معاذٍ رضي الله عنه، وفيه راوٍ متروك. وفي الباب أيضًا: حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وفيه راوٍ ليِّن. وصحَّح الحافظ ابن كثير وقفه عليه، ووهَّم رفعَه.
ويُنْظَر: «تفسير ابن كثير» (1/ 21 - 22)، و «السِّلسلة الضَّعيفة» للألباني (1776).
وباب تلبيس الشيطان ــ وغيره ممَّا مرَّ ــ مفتوحٌ فيه على مِصْرَاعَيْه؛ بل هو مظنَّة إضلال الله عز وجل واستدراجه، كما مرَّ.
حتى لو فُرِضَ أنَّ من تلك الطُرُق التي لم يأت صريح الشَّرع ما هو أقوى في نَظَر النَّاظر من بعض الطُرُق التي ورد بها = فإنَّه لا يغني هذا شيئًا؛ فإنَّ الضَّعيف الذي تكفَّل الله عز وجل بحِفْظِه أقوى من القويِّ الذي لم يتكفَّل سبحانه وتعالى بحِفْظِه.
فصلٌ
ظاهر قول الشيخ
(1)
: «فالكَفَرة دمَّرهم الله من عالم البشر، فلا يُستعمل في قتالهم إلَّا ما هو عادة في عالم البشر، لا غير» = أنَّ هذا عام في كلِّ حالٍ. ويلحقُ به من باب أَوْلى المسلمون.
وعلى هذا فكلُّ شخصٍ بتلك القوَّة في إيذاء آخر ــ ولو كافرًا ــ فهو إمَّا ساحرٌ، وإمَّا إن كان وليًّا فعصى. هذا على فرض أنَّ مكتسب تلك القوَّة قد يكون وليًّا، وفي ذلك نظر!
إذ قد يقال له: لم نعرف في الشَّريعة ترغيبًا ما في اكتساب تلك القوَّة؛ بل فيها ما يؤخذ منه النَّهي عن اكتسابها، والرِّياضة الموصلة إليها، كما يأتي.
وقد وَرَد في النَّهي عن تعلُّم السِّحر ما ورد
(2)
.
(1)
لم يتبين لي مَن الشيخ المردود عليه.
(2)
يعني كقوله تعالى: {وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102].
وكحديث أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السَّبع الموبقات» . قالوا: يا رسول الله، وما هنَّ؟ قال:«الشِّرك بالله، والسِّحر .. » الحديث. أخرجه البخاري (2766)، ومسلم (89).
وقد تقدَّم عن الشَّيخ أنَّ تلك الرِّياضة محصِّلة لهذه القوَّة التي إن استعملها صاحبُها في هواه فهو ساحرٌ، وإنَّما يبقى النَّظَر فيمن لم يشعر بأنَّ ما وقعَ منه داخلٌ في تعلُّم السِّحر. والله أعلم.
هذا وقد يُقال: إذا كان استعمال تلك القوَّة في إيذاء البشر ــ ولو كفارًا ــ محرَّمًا لأنَّهم من عالَم البشر، وهي خارجةٌ عمَّا هو عادة في عالم البشر = فكذلك ينبغي أن يكون الحال في استعمالها في النَّفع؛ أو المراد على خروجها عن عادة البشر!
فإذا صحَّ هذا فالحكم المتقدِّم على من استعملها في الإيذاء شامل لمن استعملها في غير الإيذاء، بل الأمر أوضح من هذا.
فأمر إيذاء الكفَّار والحربيين نفعٌ للدِّين والمسلمين، ومع ذلك فإنَّما يُتَخَيَّل الفرق بين النَّفع والإيذاء من جهة حُسْن النفع، وقُبْح الإيذاء، فإيذاء الكفَّار والحربيين ليس بقبيحٍ، بل هو حَسَن.
لكن قد يُقال: إنَّ عموم عبارة الشيخ مخصوص بما إذا لم يكن هناك أمرٌ خاصٌّ، فيقول: إنَّه يحرم على الوليِّ استعمالها ما لم يُؤْمَر، فإذا أُمِر كان له ذلك، كما تدلُّ عبارات أخرى له.
وعلى هذا فنقول: الأمر الذي تتلقَّاه ليس هو في الكتاب ولا السُنَّة، وإنَّما يريدون به الأمر بالإلهام ونحوه، وسيأتي الكلام عليها، وقد تقدَّم بعضه، وأنَّه لا يثبت بها حكمٌ ألبتَّة.
فإذا عُلِم المنع من استعمال تلك القوَّة، فاستعمالها بناءً على إلهام أو نحوه خروج على الشَّريعة، وذلك قد يكون أشد من استعمال الإيذاء على سبيل المخالفة الصَّريحة.
فإن قيل: فالمنع من استعمالها إنَّما أخذوه من تلك الطُرُق، كالإلهام ونحوه.
قلتُ: بل هو ثابتٌ شرعًا؛ لأنَّ تلك القوَّة عندنا سِحْرٌ أو في معناه. والله أعلم.
فصلٌ
يُفهَم من كلام الشيخ أنَّ التصرُّف الجائز عندهم لا يكون بحسب هوى المتصرِّف، ولا بأمرٍ متوجِّهٍ إليه خاصَّة، وإنَّما يكون بأوامر يتلقَّاها من الدِّيوان، وأنَّ أهل هذا الدِّيوان إنَّما يقرِّرون ما قضاه الله وقدَّره، وفي هذا قضاء على الاستغاثة بالأولياء الأحياء؛ لأنَّهم لا شأن لهم إلَّا تنفيذ ما أُمِروا به، فهم كالملائكة سواء، فكما أنَّه لا يُستغاث بالملائكة ــ كأن يُستغاث بمَلَك الموت ليقبض روح فلانٍ الظالم ــ فكذلك هؤلاء، على فرض صِحَّة دعواهم.
وأمَّا الموتى فقد سبق عن الشَّيخ أنَّهم لا شأن لهم بعالم الأحياء ألبتَّة.
ويُشكِل على هذا أمورٌ أخرى نُقِلَت في هذا الكتاب عن الشَّيخ، إلَّا أنَّ التناقض في أشباه هذه الدَّعاوى لا يُستنكَر.
فصلٌ
وقد عُلِم ممَّا ذكره الشيخ في اقتتال أهل الدِّيوان أنَّ عِلية القوم ــ وهم أهل الدِّيوان ــ قد يغلطون، فيزعمون ــ أوجماعة منهم ــ أنَّ مراد الله عز وجل كذا، ويقاتلون عليه أخوانهم، ويقتلونهم.
وإذا جاز هذا على هؤلاء في ديوانهم فما بالك بالواحد منه!
فهذا يدلُّك أنَّنا لو سلَّمنا دعاويهم لما تحتَّم علينا قبول قولهم إذا خالفه دليلٌ ظاهرٌ من الكتاب والسُّنَّة. وقد تقدَّم مزيد على هذا، ويأتي تمامه إن شاء الله تعالى.
فصلٌ
فأمَّا الاستدلال بمشاهدة التصرُّف بتلك القوَّة، أو نقلها على أنَّ صاحبها وليٌّ = فواضح البطلان؛ لاعتراف القوم أنَّ تلك القوَّة لا يختصُّ اكتسابها وتحصيلها بالصَّالح، بل تكون أيضًا للفاجر والكافر، وكذلك الاحتجاج في نحو ما لو قال أحدهم قولًا أو فعل فعلًا فاعترض عليه، فتصرَّف فيه!
فصلٌ
من أشنع الأغلاط أن يُعدَّ التصرُّف بهذه القوَّة في الكرامات!
أمَّا أولًا: فلِمَا علمتَ أنَّ حصول القوَّة والتمكُّن من التصرُّف بها قد يكون للفاجر والكافر.
وأمَّا ثانيًا: فإن فُرِض أنَّ صاحبها وليٌّ فتصرُّفه بها إنَّما هو تصرُّفٌ بقدرةٍ حصَلَت له باكتسابه، فهذه القوَّة عند التَّحقيق من جُملة القُوى العاديَّة، كالإصابة بالعين، وليست من الخارق في شيءٍ!
نعم، هي كالواسطة بين القُوى العاديَّة المشهورة وبين الخوارق؛ فهي من قبيل السِّحر وأعمال الجنِّ الزائدة على الوسوسة ونحوها.
والذي ظهر لي أنَّ هذا النَّوع ليس صاحبه يخلَّى وشأنه، يستعمله كيف يشاء، كما في القُوى العاديَّة، كالضَّرب والشتم، بل هو مقيَّدٌ بإذن خاصٍّ من الله عز وجل. أو على الإذن الذي نصَّ عليه تعالى بقوله:{وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102]. وهو غير مستلزمٍ الإذن الشَّرعي، كما لا يخفى.
فالسَّاحر لا يستطيع أن يضرَّ بسِحره كلَّ أحدٍ، كما لا يستطيع الإنسان أن يضرب من شاء بحسب الإذن العام؛ بل لمن يقدر على الضَّرب عادةً إذنٌ خَلْقيٌّ عامٌّ، أن يضرب متى شاء؛ فإذا أراد الله عز وجل منْعَه منَعَه، كقول الله عز وجل لنار إبراهيم:{قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: 69]. والسَّاحر على خلاف ذلك.
فالضَّارب مطلقٌ، يقيِّده الله عز وجل إذا شاء، والساحر مقيَّدٌ، يطلقه الله عز وجل، فتدبَّر وأنْعِم النَّظر. والله أعلم.
وقد حكوا أنَّ عالمًا رأى من شيخٍ ما يخالف الشَّريعة، فأنكر عليه فتصرَّف الشيخ، فنسي العالم علمه كلَّه، فتاب وتضرَّع إلى الشيخ، فأمره بذبح دِيكٍ عيَّنه له، وأن يأكل قلبه، ففعل، فعاد علمه كلُّه، فقال له الشيخ: كيف تُدِلُّ بعلمٍ وسِعَهُ قلبُ ديكٍ؟!
أقول: إن صحَّت القصَّة فكان فرض ذلك العالم أن يستمرَّ على إنكاره،
ويتضرَّع إلى الله عز وجل فيُذْهِب ما به، ويزيده علمًا إلى علمه، على رغم الشَّيخ.
ولا يُستبعَد أن يَدَعَ الله عز وجل المبطِل يتصرَّفُ بإضرار المُحِقِّ. وكفاك ما رُوِي في قصَّة اليهودي الذي سَحَرَ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم
(1)
.
ولله عز وجل حِكَمٌ لا تُحصَى، وإنَّما علينا الوقوف عند حدود الشَّرع. والله الموفق.
وأمَّا الكرامة فإنَّما هي بفعل الله عز وجل لا دخل فيها لقوَّة الولي، وكذلك المعجزة، كما يأتي إيضاحه إن شاء الله عز وجل.
ومن الجهل الفاحش أن يُظنَّ أنَّ المعجزات تصدر من قوَّةٍ في النَّبي، بل هذا قول المُلْحِدين كالمُتفَلْسِفَة، الذين يزعمون أنَّ النُّبوَّة والسِّحر من وادٍ واحد؛ إلَّا أنَّ النَّبيَّ خيِّرٌ، إنَّما يصرف قواه في الخير، بخلاف السَّاحر. راجع:«شرح المواقف» وغيره
(2)
.
وبما قرَّرناه هنا يتبيَّن صحَّة فتوى من أفتى من الفقهاء بوجوب الضَّمان على القاتل بالحال المعروف بين المتصوِّفة ــ وهو من هذه القوَّة التي نتكلَّم عليها ــ وبطلان قول مَن خالفه، محتجًّا بما رُوِي أنَّ بعض التَّابعين دعا على
(1)
يعني ما أخرجه البخاري (3268)، ومسلم (2189)، من حديث عائشة رضي الله عنها، في قصة سحر لبيد بن الأعصم اليهودي للنبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
«شرح المواقف» للجرجاني (3/ 329 وما بعدها، 347). ويُنظَر أيضًا: «النُّبوَّات» للفخر الرَّازي (ص 194 - 204)، و «المطالب العالية» له (8/ 127)، وكتب شيخ الإسلام:«النُّبوَّات» (1/ 137، 196) و «الصَّفديَّة» (1/ 5) و «شرح الأصبهانيَّة» (ص 575)، وغيرها.
رجلٍ فهَلَك لحِينِه، فرُفِع إلى الأمير، فقال: دعوة رجل صالحٍ صادفت أجلًا ــ أو كما قال ــ، وخلَّى سبيل الدَّاعي
(1)
.
وإيضاح ذلك: أنَّ القاتل بالحال قتل بقوَّةٍ فيه، فهو كالقاتل بالسِّحر، إن لم نقل: إنَّه هو، ومثله فِعلُ مَن ضرب بسيفه أو طعن بخنجره أو رمى ببندقيَّته.
وأمَّا الدَّاعي فلا شأن له، وإنَّما مثله مثل من شكا رجلًا إلى حاكمٍ، وطلب منه أن يقتله، فقتله الحاكم؛ فإن كان في هذا ضمان فعلى الحاكم وحده، وأمَّا في الواقع فالحاكم هو الله تبارك وتعالى؛ فإذا كان قضاؤه بموت ذاك إجابة لدعاء هذا فقد بان بذلك أنَّ دعاء هذا حقٌّ. والله الموفق.
فصلٌ
هذه القوَّة لم تكن حاصلة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام اكتسابًا قطعًا، وقد برَّأهم الله عز وجل منها؛ إذ لو حصَلَت لأحدهم قبل النُّبوَّة لكان ذلك سِحرًا وما في معناه، وإذًا لقَوِيَت شُبهة الكفَّار في قولهم: ساحر. وأمَّا بعدها فكذلك.
أمَّا اكتسابًا فواضحٌ. وأمَّا أن يعطيهم الله عز وجل قوَّةً تشبهها، فمَن تدبَّر الكتاب والسُّنَّة والسِّيرة علِمَ أنَّه لم يحصل لهم ذلك، على أن يكون ملازمًا
(1)
القِصَّة لمطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، تابعي معروف، والأمير هو زياد بن أبيه.
وقد أسندها عنه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (2/ 206)، وابن أبي الدُّنيا في «مجابو الدَّعوة» (89) وغيرهما، في قصَّةٍ بنحوه، وفيه:«فقال زيادٌ: هي دعوة رجلٍ صالحٍ وافَقَتْ قدر الله» .
لهم، وإنَّما يمدُّهم الله بالمعجزات بقدرته عندما يشاء ذلك.
نعم، من المعجزات ما تقتضي الحكمة أن يكون للنَّبي أثر فيه، كضرب موسى عليه السلام البحر والحجر بالعصا
(1)
، وكَرَمْي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الكفَّار بالحصى
(2)
، وغير ذلك. ولذلك حكمةٌ، قد ذكرتُ بعضها في موضع آخر، ولعلَّه يأتي في الكلام عن المعجزة إن شاء الله تعالى.
وهذا لا يخالف ما تقدَّم؛ فإنَّ الضَّرب الواقع من موسى عليه السلام هو ضربٌ عاديٌّ، بقوَّته العاديَّة، وأمَّا الأثر المعجز فهو حاصل بمَحْض قدرة الله عز وجل.
وأمَّا ما في الحديث من قوله صلى الله عليه وآله وسلم للمصلِّين: «إنِّي أراكم من خلفي»
(3)
فالظَّاهر أنَّ هذه قوَّةٌ كان يجعلها له البارئ سبحانه عز وجل في الصَّلاة
(1)
أمَّا ضرب موسى عليه السلام الحجر ففي قوله تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} [البقرة: 60]، وأمَّا ضربه عليه السلام البحر ففي قوله تعالى:{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 63].
(2)
وقع ذلك منه صلى الله عليه وسلم مرَّات، منها: ما رواه مسلم (1777) من حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه، وفيه:« .. ثم قبض قبضةً من تراب من الأرض، ثم استقبل به وجوههم، فقال: شاهَت الوجوه، فما خلق الله منهم إنسانًا إلَّا ملأ عينيه ترابًا بتلك القبضة، فولّوا مُدْبِرين، فهَزَمَهم الله عز وجل» . وفي الباب أيضًا حديث العبَّاس عند مسلمٍ أيضًا (1775).
وتُنظَر بقية المواضع ورواياتها في: «الدُّر المنثور» للسيوطي (7/ 72 - 74).
(3)
أخرجه البخاري (718)، ومسلم (426)، من حديث أنسٍ رضي الله عنه، بنحوه.
لمصلحة التَّعليم، وحصولها له من جُملة المعجزات.
وإنْ صحَّت دعوى المتصوِّفة أنَّه قد يحصل لهم نحو ذلك بالقوَّة المذكورة فإنَّ الذي يحصل لهم عن اكتسابٍ عاديٍّ في الجملة، والذي حَصَل له صلى الله عليه وآله وسلم بغير ذلك؛ وإنَّما هو بمَحْض قدرة الله عز وجل. وقِسْ على ذلك.
فصلٌ
وما ذكره الشيخ في الرِّياضة فيه نظر!
أمَّا قوله: «إنَّ السَّلف كانوا لصفاء نفوسهم لا يحتاجون إلى رياضةٍ» فقد تقدَّم أنَّه لم يُنقَل عن السَّلف هذه الدَّعاوى التي يدَّعيها الخلف؛ فمقصود السَّلف إذًا غير مقصود الخلف.
وأمَّا قوله: «إنَّه بعد تكدُّر القلوب احْتِيج إلى الجوع والخلوة والذِّكر» فنقول: قد كان يمكن تطبيق هذه الأمور على السُّنَّة؛ فيُكتَفى من الجوع بأن يُؤمَر المريد بالعمل بالسُّنَّة، في صوم يومٍ وإفطار يومٍ، وبتقليل الأكل في الجُملة؛ بأن يكون دون الشَّبع، كما يأتي. ويُكتفَى من الخلوة بأمره باجتناب مجالسة من لا ينفعه. ومن الذِّكر بكثرة تلاوة القرآن والأذكار الثابتة في الكتاب والسُّنَّة.
فما بالكم خالفتم هذا، وسلكتم طُرُقًا أخرى، كما يُعلَم من النَّظر إلى رياضتكم؟ وقد تبيَّن من كلام الشيخ على رياضة الغزالي أنَّها طريقٌ عاديَّة يُتوصَّل بها إلى حضور ما يسمُّونه: الفتح! إلى آخر ما تقدَّم.
والمعروف أنَّ جِنس هذه الرِّياضة معروفٌ عند اليونان والهند وغيرهم؛
يتوصَّلون بها إلى قوَّة الإدراك، وقوَّة الإرادة التي ينبني عليها قوَّة التَّأثير. وأمَّا وقوع بعض المسلمين في هذه الرِّياضة فمِن طريقين:
الأولى: الغُلُو.
الثانية
(1)
: النَّقل عن الأُمَم الأخرى.
وتفصيل ذلك: أنَّ الإسلام جاء بشرع الصِّيام والقيام، واجتناب الحرام والشُّبهات، وترك صُحبة أهل الشَّر والفساد، وحدَّد الصِّيام بعد الفَرْض بثلاثة أيَّامٍ من كُلِّ شهرٍ، إلى أن جعل منتهاه صيام يومٍ وإفطار يومٍ، ونهى عن صيام الدَّهر، وعن الوصال، وحضَّ على أكلة السَّحَر لمن يريد الصَّيام، ونهى عن قيام اللَّيل كلِّه، وعن العُزلة، وعن الترهُّب
(2)
.
(1)
في الأصل: «الثاني» .
(2)
أمَّا شرعيَّة الصِّيام والقيام فأظهر وأكثر من أن تذكر دلائله.
وأمَّا اجتناب الحرام والشُّبهات فورد في أحاديث، منها حديث النُّعمان بن بشير رضي الله عنه مرفوعًا:«إنَّ الحلال بيِّن، وإنَّ الحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات .. » . أخرجه البخاري (52) ومسلم (1599) وهذا لفظه.
وأمَّا النَّهي عن صحبة أهل الشَّرِّ ففي أحاديث، منها: حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: «إنَّما مثل الجليس الصَّالح والجليس السُّوء كحامل المسك ونافخ الكير .. » . أخرجه البخاري (2101) ومسلم (2628).
وأمَّا تحديد الصِّيام بثلاثة من كلِّ شهر، وجعل منتهاه صيام يوم وإفطار يومٍ، والنَّهي عن صيام الدَّهر، والنَّهي عن قيام اللَّيل كلِّه ففي حديث عبد الله بن عمروٍ رضي الله عنهما، وسيأتي ذكره في كلام المؤلِّف (ص 289).
وأمَّا النَّهي عن الوِصال ففي أحاديث، منها: حديث ابن عمر رضي الله عنه: «أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم واصل، فواصل الناس، فشقَّ عليهم، فنهاهم .. » . أخرجه البخاري (1922) ومسلم (1102).
وأمَّا الحثُّ على التسحُّر ففي أحاديث، منها: حديث أنس رضي الله عنه مرفوعًا: «تسحَّروا فإنَّ في السَّحور بركة» . أخرجه البخاري (1923)، ومسلم (1095).
وأمَّا النَّهي عن التَّرهُّب ففي أحاديث، منها: حديث عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لعثمان بن مظعون: «إنَّ الرَّهبانية لم تكتب علينا .. » الحديث. أخرجه أحمد (6/ 226)، وابن حبان (9)، ويُنظَر:«الصَّحيحة» للألباني (1782)، و «الإرواء» (2015).
وأصله في البخاري (5073)، ومسلم (1402)، من حديث سعدٍ رضي الله عنه قال:«ردَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التَبَتُّل، ولو أذن له لاخْتَصَينا» .
وبَلَغَه [صلى الله عليه وآله وسلم] عن ثلاثة من أصحابه العزم على الزِّيادة على ذلك فخطبهم، وقال في خطبته:«لكنِّي أصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوَّج النِّساء؛ فمَن رغِب عن سُنَّتي فليس منِّي»
(1)
.
وكان من سُنَّته أن يأكل الطَّعام الطَّيِّب إن تيسَّر له، فإن لم يتيسَّر اجتزأ بما حصل، فإن لم يجد شيئًا صبر على الجوع. وكان من دعائه:«وأعوذ بك من الجوع؛ فإنَّه بئس الضَّجيع»
(2)
.
وكذلك سُنَّته في اللِّباس. وعلى نحو ذلك جَرَت سُنَّة أصحابه بعده.
(1)
أخرجه البخاري (5063) ومسلم (1401)، من حديث أنس رضي الله عنه.
(2)
أخرجه أبو داود (1547)، والنَّسائي (8/ 263) وغيرهما، من طرق عن ابن إدريس عن ابن عجلان عن المقبريِّ عن أبي هريرة رضي الله عنه به مرفوعًا.
وقد صحَّحه ابن حبَّان (1029)، والنَّووي في «الأذكار» (ص 313)، و «رياض الصالحين» (ص 269)، وحسَّنه الألباني في «صحيح أبي داود، النُّسخة الأم» (1383) بشواهده.
إلَّا أنَّ بعضهم تأوَّل خبرًا في الصِّيام، فسَرَد الصَّوم، وكان بعض أصاغرهم يواصل
(1)
.
ثم نشأ أفرادٌ من التَّابعين رغبوا في كثرة العبادة وحبِّ العُزلة، وظهر من بعضهم التَّخاشع في الهيئة والمشي والجلوس، والصَّعق عند الذِّكر، وظهر أثر السُّجود على الجبهة = فأنكر عليهم ذلك من أدركهم من الصَّحابة وكبار التَّابعين.
فأنكرت عائشة وغيرها على الذين يتخاشعون في الهيئة والمشي
(2)
.
وقال لهم قائلٌ: «لا تموِّتوا علينا ديننا»
(3)
.
(1)
هو عبد الله بن الزُّبير رضي الله عنهما، وروي أيضًا عن غيره، كما في «المصنَّف» لابن أبي شيبة (9692) وغيره، قال الحافظ في «فتح الباري» (4/ 204):«بإسنادٍ صحيحٍ» .
(2)
اشتهر نسبة ذلك إليها في كتب ذمِّ البِدَع، وغريب الحديث، واللُّغة والأدب، ففيها: أنَّ رجلًا مرَّ بعائشة رضي الله عنها متماوتًا، فقالت: مالَهُ؟ قالوا: متخشِّعٌ! قالت: «هو أخشع من عمر! وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع» . ولم أره مسندًا.
ويُنظَر: «الفائق» للزمخشري (1/ 280)، و «النِّهاية» لابن الأثير (3/ 370)، و «محاضرات الأدباء» للراغب (2/ 428)، و «الباعث» لأبي شامة (ص 82)، وغيرها.
وهو مسندٌ بنحوه عن الشفاء بنت عبد الله رضي الله عنها، كما أخرجه عنها ابن سعد في «الطَّبقات» (3/ 290)، ومن طريقه الطَّبري في «تاريخ الرسل والملوك» (4/ 212)، وغيرهما.
(3)
اشتهر في كتب ذمِّ البِدَع، وغريب الحديث واللُّغة والأدب نسبة ذلك إلى عمر رضي الله عنه. ففيها: أنَّ عمر رضي الله عنه رأى رجلًا متماوتًا في إظهار النُّسك، فعلاه بالدِّرَّة، وقال:«لا تُمِت علينا ديننا» . وفي بعضها: «ارفع رأسك؛ فإنَّ الإسلام ليس بمريضٍ» . ولم أره مسندًا.
ويُنظَر: «النِّهاية» لابن الأثير (3/ 370)، و «محاضرات الأدباء» للرَّاغب (2/ 428)، و «الباعث» لأبي شامة (ص 82).
ورأيته مسندًا عن عمر بنحو معناه، ولكن دون ذكر التَّماوت، فأخرج الدينوري في «المجالسة» (1691)، ومن طريقه ابن الجوزي في «تلبيس إبليس» (1/ 355)، بسنده عن محمد بن عبد الله القرشي عن أبيه قال:«نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى شابٍ قد نكس رأسه، فقال له: يا هذا ارفع رأسك؛ فإنَّ الخشوع لا يزيد على ما في القلب، فمن أظهر للناس خشوعًا فوق ما في قلبه فإنَّما أظهر نفاقًا على نفاقٍ» . وأخرجه ابن أبي الدُّنيا في «الإخلاص والنيَّة» (43)، وفي «الرِّقَّة والبكاء» (154)، ومن طريقه ابن الجوزي في «تلبيس إبليس» (1/ 355) بسنده عن كهمس بن الحسن:«أنَّ رجلًا تنفَّس عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه كأنَّه يتحازن، فلَكَزَه عمر ــ أو قال: ــ لكمه» .
وأنكرت أختها أسماء وغيرها على الذين يصعقون عند الذِّكر
(1)
. وقال بعض المنكرين: «إنَّه من الشَّيطان»
(2)
.
(1)
أسنده ابن الجوزي في «تلبيس إبليس» (ص 310) وغيره ــ كما في «الدُّر المنثور» (12/ 649) ــ عن حصين بن عبد الرحمن قال: قلتُ لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما:
…
إنَّ ههنا رجالًا إذا قُرِئ على أحدهم القرآن غشي عليه! فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!
وفي الباب عن أنسٍ وابن عمر وابن الزُّبير رضي الله عنهم وغيرهم، يُنظَر:«تلبيس إبليس» لابن الجوزي (ص 310)، و «الدُّر المنثور» للسيوطي (12/ 649 - 650).
(2)
أخرج عبد الرزاق في «تفسيره» (3/ 172) وغيره [كما في «الدُّر المنثور» 12/ 649] عن معمر قال: «تلا قتادة: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23] قال: «هذا نعت أولياء الله، نَعَتَهم الله بأن تقشعرَّ جلودهم، وتبكي أعينهم، وتطمئنَّ قلوبهم إلى ذكر الله، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم، والغشيان عليهم، إنَّما هذا في أهل البِدَع، وهذا من الشيطان» .
وأنكر ابن عمر وغيره على من رُئِي بجبهته أثر السُّجود
(1)
.
وعن ابن مسعودٍ: أنَّ بعض المتعبِّدين جعلوا لهم مسجدًا في عُزلتهم = فقال: «قوموا بنا نهدم مسجد الضِّرار» ، فخرج وهَدَمه
(2)
.
وكان الحسن البصري يُنكر على الذين يُخَشِّنون على أنفسهم في المَطْعَم والمَلْبَس
(3)
.
(1)
أخرجه ابن أبي شيبة في «المصنَّف» (3154)، والبيهقي في «الكبرى» (2/ 286)، وغيرهما، من طُرُقٍ عن أشعث بن أبي الشعثاء عن أبيه عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنَّه رأى أثرًا فقال: «يا عبد الله إنَّ صورة الرجل وجهه، فلا تُشِن صورتك» . وفي الباب عندهما وغيرهما عن أبي الدَّرداء، ومجاهد، وغيرهما.
(2)
لم أره مسندًا. وقد ذكره ابن سعد في «الطَّبقات» (6/ 206) قال: «وفي غير هذا الحديث: أنَّ عمرو بن عتبة ومعضد بن يزيد العجلي بَنَيَا مسجدًا بظهر الكوفة، فأتاهم ابن مسعود رضي الله عنه فقال: جئتُ لأكسر مسجد الخبال .. » .
وقد ذكره الطُّرطوشي في «الحوادث» (ص 145) ثم أبو شامة في «الباعث» (ص 65) بنحوه.
وأصل الخبر في إنكار ابن مسعود رضي الله عنه على القوم الذين اجتمعوا للذِّكر بهيئةٍ مخترعةٍ في المسجد، لكن دون ذكر هدمه، أخرجه الدَّارمي في «مسنده» (204) وغيره.
(3)
أسنده أحمد في «الزُّهد» (ص 267) وابن الجوزي في «تلبيس إبليس» (ص 240) أنَّ الحسن رأى فرقدًا وعليه جُبَّة صوف، فقال له: إنَّ التقوى ليس في هذا الكساء، إنَّما التَّقوى ما وَقَر في القلب وصدَّقَه العمل. وعنه أثران آخران كما في «تلبيس إبليس» (ص 241).
ولكنَّه مع ذلك بقي الأمر على ما هو عليه، ولم يزل يزداد يومًا يومًا.
وكان المضيِّقون على أنفسهم في المَطْعَم والمَلْبَس يعتذرون بأنَّ الحلال الصِّرْف عزيزٌ. وامتنع بعضهم من النِّكاح؛ بعِلَّة أنَّه لو تزوَّج وصارت له عائلةٌ يحتاج إلى نفقتهم؛ فيخشى الوقوع في الحرام لعِزَّة الحلال.
وفي أواسط القرن الثاني ظهر لبعض الذين يجوِّعون أنفسهم أنَّ الجوع يُورث الصَّفاء وقوَّة الفهم، فقالوا: إنَّ الجوع ينوِّر القلب. ففي ترجمة [بشر بن الحارث الحافي] من «صِفة الصفوة» [قال: «إنَّ الجوع يصفِّي الفؤاد، ويُورِثُ العِلم الدَّقيق]
(1)
.
فصار الجوع مقصودًا اختيارًا، بعد أن كان يقع اضطرارًا، ثم حَدَثت لبعضهم الخواطر، التي من شأن من يقبلها أن يتديَّن بها، فكان خيارهم لا يقبلون تلك الخواطر ما لم يكن مدلولها معروفًا في الكتاب والسُّنَّة.
فعن أبي سليمان الدَّاراني أنَّه قال: [«ربَّما وقع في قلبي نُكتةٌ من نُكَت القوم أيامًا، فلا أقبل إلَّا بشاهدين عَدْلين، الكتاب والسنة»]
(2)
.
(1)
في الأصل: «ففي ترجمة وهيب بن الورد من صفة الصفوة» ، ثمَّ بيَّض المؤلِّف رحمه الله للقول قدر سطرين، وليس في ترجمة وهيب في «صفة الصَّفوة» ما له علاقة بسياق ما ذكره، ولعلَّ مراد المؤلِّف ما أثبتُّهُ بين القوسين المعكوفين من ترجمة بشر الحافي رحمه الله (2/ 332).
(2)
بيَّض له المؤلِّف قدر سطر، وكأنَّه يقصد ما نقلتُه.
وقد أسنده عنه أبو عبد الرَّحمن السُّلمي في «طبقات الصُّوفية» (ص 76)، ومن طريقه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (34/ 127)، والذَّهبي في «السِّير» (18/ 231).
ثم اتَّسع نطاق الخواطر والتديُّن فأصبح أكثر القوم يَبْنُون دينهم عليها، وساعد على ذلك أنَّ أكثرهم كانوا من الأعاجم.
واسْتَفْحَل الأمر في القرن الثالث، واتَّصل بالطَّريق الثاني، وهو النَّقل عن الأُمم كاليونان والهند، فحكاها المتفلسفون، وتقبَّلها المتصوِّفون، وعظَّمها بعض المتعطِّشين إلى العِلم، الزَّاهدين في الكتاب والسُّنَّة.
وذلك أنَّ المتكلِّمين قد كانوا من قبل ذلك وضعوا من الكتاب والسُّنَّة، وزعموا أنَّه ليس فيهما ما يُغني في معرفة قواعد العقائد، بل من اقتصر عليهما كان بغاية الجهل بالله تعالى وصفاته، وأنَّ حقيقة الأمر إنَّما تُدرَك بالنَّظر العقلي، فاغترَّ كثيرٌ من النَّاس بذلك، فخاض مع الخائضين= فكان من أذكيائهم من لم يحصِّل في طريق المتكلِّمين على ما يشفي الغليل.
واتَّفق أن كان ذلك بعد نقل الفلسفة؛ فخاض هؤلاء فيها، فمنهم من لم يحصِّل فيها على طائلٍ. واتَّفق أن كان ذلك وقت انتشار قول الباطنيَّة؛ فخاض هؤلاء معهم، فلم يجدوا عندهم شيئًا. واتَّفق أن كان ذاك وقت اشتهار خواطر المتصوِّفة.
على أنَّ الباطنيَّة يخلطون خرافاتهم بالكلام والفلسفة والتصوُّف، كما تراه في «رسائل إخوان الصفا» من كتبهم
(1)
.
(1)
يُنظر في تفصيل الكلام عن هذه الرسائل: «إخوان الصفا ــ فلسفتهم وغايتهم» تأليف: د. فؤاد معصوم. والمراجع التي أحال عليها الدكتور محمد رشاد سالم في تحقيق «درء تعارض العقل والنقل» (1/ 11) حاشية (1).
وقد تتابع كلام الأئمة في ذم هذه الرسائل، وأنها جمعت بين علوم الفلسفة وعلوم الشريعة، وأنَّى يجتمعان!
ويُنظر أيضًا: «طبقات الشافعية» لابن الصلاح (1/ 256)، و «شرح العقيدة الأصفهانية» (ص 170)، و «درء التعارض» له (6/ 242)، وغيرها.
وبالجملة فإن الطَّريقين ــ الغُلُو والنَّقل عن الأُمم الأخرى ــ اتَّصلا في القرن الثالث، ومن حينئذٍ اشتهرت المكاشفات والغرائب التي يسمُّونها كرامات، ولم تزل تنمو وتزيد.
فأمَّا ما يُحكى من المكاشفات والكرامات عن التَّابعين وأتباعهم ومن قَرُبَ منهم فغالِبُه من اختراع القُصَّاص الذين لم يكونوا يُحْجِمون عن وضع الأحاديث، وروايتها عن النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، كما تقدَّم، فما بالك بما دون ذلك!
فصلٌ
من أركان الرِّياضة عندهم: الجُوع، ويجتمعون على إلصاقه بالدِّين، بما جاء عن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. وقد تقدَّم ما يتعلَّق بذلك، وأنَّه لا حُجَّة فيه.
وأقوى ما عندهم: حديث المقدام بن معدي كرب مرفوعًا: «ما مَلَأَ ابنُ آدم وعاءً شرًّا من بطنه، حسْبُ ابن آدم لُقَيمات يُقِمْن صُلْبَه، فإن غَلَبَت الآدمي نفسُه فثُلُثٌ للطَّعام، وثُلُثٌ للشَّراب، وثُلُثٌ للنَّفس» . رواه ابن ماجه
(1)
، من طريق محمد بن حربٍ حدَّثتني أمِّي عن أمِّها أنَّها سمعت المقدام. والمرأتان مجهولتان.
لكن أخرجه الترمذي
(2)
، من طريق إسماعيل بن عيَّاش حدَّثني أبو سلمة الحمصي وحبيب بن صالح عن يحيى بن جابر الطَّائي عن مقدامٍ، وفيه: «
…
بحَسْب ابن آدم أُكُلات
…
فإن كان لا محالة فثُلُثٌ
…
».
قال الترمذي: «هذا حديث حسن صحيح» .
قال عبد الرحمن: في إدراك يحيى بن جابر للمقدام كلام.
قال البخاري في «التاريخ» (4/ 2/265)
(1)
: «يحيى بن جابر الطَّائي القاضي عن المقدام
…
».
ومن عادة البخاري في «تاريخه» أنَّه حيث يثبت السَّماع يقول: «سمع» ، وإلَّا قال:«وعن» .
وقال ابن أبي حاتم: «يحيى بن جابر .. روى عن المقدام .. مرسلٌ
…
سمعتُ أبي يقول ذلك»
(2)
.
فهذا ابن أبي حاتم جزم بأنَّ رواية يحيى عن المقدام مرسلةٌ، وكذلك جزم به المزِّي في «تهذيبه»
(3)
، وابن حجر في «تهذيب التَّهذيب»
(4)
.
لكن أخرج الإمام أحمد في «المسند» (4/ 132): «ثنا أبو المغيرة ثنا سليمان بن سليم الكناني قال ثنا يحيى بن جابر الطائي قال: سمعتُ المقدام
…
».
وكذلك أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/ 331) من طريق أبي المغيرة، وقال:«صحيح الإسناد» . وأقرَّه الذَّهبي. وفيه: «حسْب ابن آدم ثلاث أكلات» .
(1)
«التَّاريخ الكبير» (8/ 265).
(2)
«الجرح والتَّعديل» (9/ 133). وبمثله في «المراسيل» له (ص 244).
(3)
«تهذيب الكمال» (31/ 249).
(4)
«تهذيب التَّهذيب» (11/ 168).
وأبو المغيرة عبد القدُّوس بن الحجَّاج موثَّق، روى عنه البخاري في «صحيحه» . وأبو سلمة سليمان بن سلمة موثَّقٌ أيضًا.
ويحيى بن جابر موثَّقٌ، وكانت وفاته سنة 126. ووفاة المقدام سنة سبع وثمانين، وقيل: ثلاث وثمانين، وقيل: ست وثمانين. فبين وفاتيهما نحو أربعين سنة. فالسَّماع ممكنٌ؛ بأن يكون يحيى وُلِد سنة سبعين على الأقل، فأدرك من عمر المقدام بضع عشرة سنةً. وعلى هذا يكون عمر يحيى حين مات دون السِّتين، وأي بُعْدٍ في ذلك وهما في بلدةٍ واحدةٍ؟!
وترجمة يحيى في «الثِّقات» في التَّابعين، وقال:«روى عن المقدام»
(1)
. وذلك بمعنى الحكم بسماعه من المقدام.
لكن قد يقوِّي قولَ أبي حاتم: بأنَّ يحيى كثير الإرسال عن الصَّحابة، الذين لم يدركهم، وبأنَّ عامَّة شيوخه ــ الذين لا كلام في سماعه منهم ــ هم من صغار التَّابعين، كصالح بن يحيى بن المقدام بن معد يكرب، وعبد الرحمن بن جبير بن نفير. والله أعلم.
فقه الحديث: أمَّا أوَّله فهو في ذمِّ ملء البطن، ولا نزاع في ذمِّه؛ لأنَّه يورث البِطْنَة والتُّخمة، وينشأ عن ذلك الكسل والفتور، ويكون سببًا لكثير من الأمراض، فهو إضرارٌ بالجسم والرُّوح، وتضييع للمال.
وقوله: «أُكُلات» بضمَّتين، جمع أُكْلَة، كلُقْمَة، وزنًا ومعنى.
وزيادة: «ثلاث» في رواية «المستدرك» منكرةٌ؛ فإنَّ الثلاث اللُّقَم لا تقيم الصُّلْب عادة، ولم يكن النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه يكتفون عند وجود الطَّعام
(1)
«الثِّقات» لابن حبَّان (5/ 520).
بثلاث، بل ولا تِسْعٍ.
وقد يتوهَّم أن يكون وقع في هذه الرواية: «أكلات» بفتحتين، ولا يصحُّ؛ لمخالفته السِّياق، ولأنَّ المعروف في ذلك العهد الاكتفاء بأكلتين في اليوم، الغداء والعشاء.
و «أكلات» جمعٌ بالألف والتاء، وأهل العربيَّة يعدُّونه من الجموع التي حقُّها أن تُطْلَق على ما دون الأحد عشر، ولا تحمل على أحد عشر فما فوقه إلَّا بقرينةٍ
(1)
.
لكن ضعَّف ابن خروفٍ، وصوَّبه الرَّضِي ومن تَبِعَه، أنَّ هذا الجمع مخالفٌ لتلك الجموع، وأنَّه يطلق على ثلاثة فما فوقها، إلى ما لا نهاية
(2)
.
إلَّا أنَّ السِّياق هنا يدلُّ على القِلَّة، وهي هنا مبيَّنةٌ بقوله:«يُقِمْن صُلْبَه» ، فالمدار إذًا على إقامة الصُّلْب، وهي كناية عن ذهاب الجوع، وحفظ القوَّة.
فالقَدْر الذي يُذهِب الجوع ويحفظ القوَّة هو القَدْر الذي ينبغي الاكتفاء به. ثمَّ زاده بيانًا بقوله: «فإن كان لا محالة .. » .
وإيضاحه: أنَّ الإنسان الصَّحيح قد يأكل ويشرب ويحسُّ بالثقل والضِّيق، وقد يأكل ويشرب ثم لا يجد ثقلًا ولا ضيقًا، فثُلُث الطَّعام هو القَدْر إذا زاد عليه وقع في الحال الأُولى.
وذلك لا ينضبط تحديدًا، ولكن يمكن للإنسان معرفته بأحد أمرين:
الأوَّل: أن لا يستوفي شهوته من الطَّعام، كما قيل: أن تقعد على الطَّعام
وأنت تشتهيه، وتقوم عنه وأنت تشتهيه، يعني: بعد أخذ المقدار الذي تحْزُرُ أنَّه يكفيك.
الثَّاني: أن يقدِّر أكله، كأن يكون طعامه خبزًا مستويًا كل يوم، فيعلم أنَّه إذا أكل ثلاثة أرغفة أحسَّ بالضِّيق والثقل، وإذا أكل رغيفين ونصفًا لم يحسَّ بذلك.
والأمر الثاني لا يتيسَّر كلَّ وقتٍ، فالاعتبار بالأوَّل.
وعلى كلِّ حالٍ فينبغي للإنسان أن لا يستوفي القَدْر الذي يعلم أنَّه إذا زاد عليه كَظَّه، بل يدعُ فسحةً؛ لأنَّه قد يجِدُ طعامًا شهيًّا، فيختلُّ حسابه، بأن يأكل فوق حاجته، ويظنُّ أنَّه لم يفعل، وقد يجِدُ بعد الأكل فاكهةً أو نحوها فيشتهيها ولا يصبر.
فالحاصل: أنَّ مَن استوفى ثُلث الطَّعام، وجعل ذلك عادته كان معرَّضًا لأنْ يقع في الزِّيادة؛ فالحكمة تقتضي أن يعتاد النَّقص على ذلك.
واعْلم أنَّ الشِّبَع لا يتوقَّف استيفاءً على الثُلُث، بل يحصل بدُونِه، وعلى ذلك يُحمَل ما يجيء في الأحاديث والآثار في أكل النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه حتى شبعوا
(1)
.
(1)
يشير إلى ما أخرجه البخاري (6452) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصَّة شربه وأهل الصُّفَّة رضي الله عنهم من قدح لبنٍ حتى ارتووا منه كلُّهم، وفيه: قال أبو هريرة: «فما زال يقول: اشْرب، حتَّى قلتُ: لا، والذي بعثك بالحق، ما أجد له مسلكًا» . وما أخرجه البخاري (2618)، ومسلم (2056) من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما في قِصَّة أكله هو وثلاثين ومائةٍ من أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم من صاعٍ وشاةٍ، وفيه: قال عبد الرحمن: «وجعل قصعتين فأكلنا منهما أجمعون وشبعنا» .
ومع هذا كلّه فما في الشَّريعة من كراهية الإفراط في الأكل حكمٌ مستمرٌّ، لا يختصُّ بوقتٍ دون وقتٍ، والجوع الرِّياضي إنَّما يأمرون به زمن الرِّياضة، فأمَّا من فُتِح له عندهم فلا يحجرون عليه شيئًا، ولا يكاد يحجر على نفسه، وهذا أمرٌ لا [أصل له] في الشريعة ألبتَّة.
فصلٌ
ومن أركانها: السَّهَر، ويحتجُّون على إلصاقه بالدِّين بما جاء في قيام اللَّيل.
ولا يخفى على من له علم بالدِّين أنَّ قيام اللَّيل ليس المقصود من السَّهر، وإنَّما المقصود العبادة بالصَّلاة والذِّكر والدُّعاء، فلو سهر الإنسان بدون ما ذِكْرٍ لم يكن له شيءٌ من الفضل. ومع ذلك فقد وَرَدَ النَّهي عن استيعاب جميع اللَّيل بالقيام
(1)
.
وجاء تحديد الأفضل بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أفضل القيام قيام داود، كان ينام نصف اللَّيل، ويقوم ثُلُثه، وينام سُدُسه»
(2)
.
واللَّيل هنا ليس المقصود به اللَّيل الطَّبيعي، وهو ما بين غروب الشَّمس وطلوعها؛ لوجهين:
(1)
أخرجه البخاري (6134)، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال له:«ألم أُخبَر أنَّك تقوم اللَّيل وتصوم النَّهار» ؟ قلتُ: بلى، قال:«فلا تفعل، قُم ونَم .. » الحديث.
(2)
لم أره بهذا اللَّفظ، وقد أخرجه البخاري (1131)، ومسلم (1159)، وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما بلفظ:«أحب الصَّلاة إلى الله صلاة داود .. » .
الأول: أنَّ اللَّيل في عُرف الشَّارع خلاف ذلك، وألفاظ الشَّارع تُحْمَل على عُرْفِه ما أمكن.
الوجه الثاني: أنَّ بعد الغروب صلاةُ المغرب، ثم صلاة العشاء، وما يتبعها، وقد نهي عن النَّوم قبلها، وأنَّ بعد طلوع الفجر راتبة الصُّبح وصلاتها، ثمَّ القعود للذِّكر والدُّعاء.
وكذلك لا يصحُّ أن يكون المراد في الحديث: اللَّيل الشَّرعي، وهو ما بين غروب الشَّمس وطلوع الفجر؛ لما تقدَّم أنَّ بعد الغروب صلاتَي المغرب والعشاء وتوابعهما.
فالمقصود باللَّيل إذًا هو الذي يكون وقتًا لقيام اللَّيل، وهو ما بين الفراغ من صلاة العشاء ورواتبها إلى طلوع الفجر، والقدر الذي لصلاة المغرب والعشاء ورواتبها يمكن لمن كان مطَّلعًا على السُّنَّة أن يقدِّر بساعتين ونصف تقريبًا، وما ورد من أنَّ تأخير صلاة العشاء أفضل لم يكن العمل عليه في الأَعَمِّ الأغلب؛ لأنَّه لا يتيسَّر إلَّا للأفراد، أو في بعض الأحوال.
فالذي يجب البناء عليه هو ما كان عليه العمل غالبًا، ويتيسَّر العمل به، وهو ما ذكرنا، ويبقى بين ذلك وبين طلوع الفجر عند اعتدال اللَّيل والنَّهار ثماني ساعات، ينام نصفها، وهو أربع ساعات، ويقوم ثلثها، وهو ساعتان وثلثان، ثم ينام الباقي، وهو ساعة وثلث.
هذا على فرض التَّحديد، وليس بلازم، وإنَّما الأمر على التَّقريب، وعليه كان عمل النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه. وبهذا يحصل للإنسان من النَّوم في اللَّيل المعتدل خمس ساعات وثلث.
وقد شُرِع نوم القائلة، وقد يكون نحو ساعة، وبذلك تتمُّ السِّتُّ السَّاعات، الذي ينصح به الأطبَّاء بعدم النُّقصان عنها.
مع أنَّ هذه الحال هي لمن أراد استيفاء الفضل، الذي لا أفضل منه في الحديث، ودون ذلك مراتب داخلةٌ في الفضل.
ووراء هذا كلِّه فإنَّ ما تقدَّم من أنَّ أفضل القيام إنَّما فضيلته من حيث هو، ومن حيث إنَّ الزِّيادة عليه ليست بأفضل منه، بل قد تكون مذمومةً في الشَّرع، كما تقدَّم.
وأمَّا استيفاؤه والنَّقص منه فإنَّه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، فقد كان أهل بيت النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته ينقصون عن ذلك ولم يَلُمْهُم. وأرشد صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن عمرو إلى النَّقص عن ذلك، كما هو مشهور
(1)
.
ومع هذا فقيام اللَّيل حكم مستمرٌّ لا يختصُّ بوقتٍ، بل يُكْرَه لمن اعتاد شيئًا منه أن يُخِلَّ به لغير عذرٍ. والسَّهر الرِّياضي إنَّما يؤكِّدونه أيَّام الرِّياضة، فأمَّا بعد الفتح فلا تبقى له حاجةٌ عندهم!
وبهذا يتبيَّن أن لا علاقة لسَهَرهم بالقيام الشَّرعي، إلَّا بقصدهم بالعبادة في وقت الرِّياضة غير المقصد الشَّرعي.
فصلٌ
ومن أركان الرِّياضة: أن لا يأكل رُوحًا ولا ما خرج من رُوحٍ، وهذا في الأصل منقولٌ عن براهمة الهند؛ فإنَّهم يحرِّمون اللَّحم ألبتَّة، وكذلك البَيْض.
(1)
يُنظَر تخريج الحديث السابق.
ويكرهُ غلاتُهم اللَّبن وغيره ممَّا يخرج من الحيوان
(1)
.
فأمَّا المتصوِّفة فقد حاولوا إلصاقه بالدِّين بأمرٍ يُحكى عن عمر رضي الله عنه، أنَّه نهى عن أكل اللَّحم كلَّ يومٍ، وقال:«إنَّ لهذا اللَّحم ضراوةً كضرواة الخمر»
(2)
. وهذا إن صحَّ ليس فيه متمسَّك لهم.
أولًا: لأنَّهم لم يقتصرُوا على النَّهي عن أكله كلَّ يومٍ، أو نحو ذلك، بل منعوا منه مدَّة الخلوة، وهي أربعون يومًا على الأقل.
ثانيًا: أنَّ الكراهة التي في الأمر لا تخصيص فيها، وهم يخصُّون المرتاض أيَّام رياضته.
ثالثًا: أنَّ الأمر في اللَّحم فقط، وهم زادوا ما خرج من الحيوان كاللَّبن وغيره.
فصلٌ
وذكروا أنَّ المرتاض بالرِّياضة المعروفة بينهم إذا حصل له ما يسمُّونه بالفتح تحصل له القوَّة المذكورة، وأنَّه إن اطمأنَّ إليها كان ساحرًا هالكًا.
وذلك أنَّ رياضتهم كما اعترفوا به طريقٌ عاديَّةٌ لحصول الفتح، ولذلك
(1)
يُنظر مذهب البراهمة في ذلك: كتاب «تحقيق ما للهند من مقولةٍ مقبولة في العقل أو مرذولة» لأبي الريحان البيروني (ص 467 - 469).
(2)
أخرجه مالك في «الموطَّأ» (2/ 935)، من طريق يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمر رضي الله عنه، بلفظ:«إيَّاكم واللَّحم فإنَّ له ضراوة .. » .
وأخرجه ابن أبي شيبة في «المصنَّف» (25018) من طريق وكيع عن حزام بن هشام عن أبيه عن عمر رضي الله عنه، فذكر نحوه. ثم أخرجه (25019) عن عائشة رضي الله عنها أيضًا بنحوه.
قد يحصل الفتح للكافر والفاجر، إلَّا أنَّ المؤمن الصَّالح لا يطمئنُّ إلى ذلك الفتح، بل يثابر على الاجتهاد، فيرتقي بعد ذلك درجات لا ينالها الكفَّار والفجَّار، ولهم في ذلك كلامٌ طويلٌ.
أمَّا أنا فأقول: إنَّ رياضتهم من حيث المجموع غير شرعيَّة، بل [منها]
(1)
ما هو غلوٌّ في العبادات الشَّرعيَّة، ومنها ما هو من المُحْدَثات والبِدَع، ومنها ما أخذوه من الأُمم الأخرى، كاليونان والبَرَاهِمة، فماذا عساه يُرجى من بركتها؟ !
وفي الحديث: «أنا أغنى الشُّركاء عن الشِّرك» الحديث
(2)
.
والنَّتيجة تتبع أخَسَّ المقدِّمتين، ومعيارُ قوَّة السِّلسلة إذا عُلِّق بها شيءٌ أو شُدَّ = قوةُ أَوْهَنِ حلقةٍ فيها.
اللَّهم إلَّا أنَّ مَن سَلَكها غير عارفٍ لحقيقتها، ولا مقصر تقصيرًا يقطع العذر، وكانت نيَّته حسنة، فلا يمتنع أن ينفعه الله تعالى بحُسن نيَّته. والله أعلم.
وهذا ممَّا يفسِّر لك ما أشكل على بعضهم من أنَّ الغرائب التي تُعَد كرامات يعزُّ ما يثبت منها عن الصَّحابة وكبار التَّابعين، وكثرت فيما بعدهم.
وممَّا يبيِّن لك صِحَّة فتوى من أفتى من الفقهاء بوجوب الضَّمان على مَن قتل بالحال المعروفة بين المتصوِّفة، وخطأ من ردَّه مستندًا إلى ما نُقِل
(1)
في الأصل: «منهم» .
(2)
أخرجه مسلم (2985) وغيره، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
عن بعض خيار التَّابعين، أنَّه دعا على رجلٍ، فسقط الرجل ميِّتًا، فرُفِع الدَّاعي إلى الحاكم فخلَّى سبيلَه، قائلًا:«دعوة رجلٍ صالحٍ صادَفَت منيَّة رجلٍ»
(1)
.
ووجه الخطأ: أنَّه لم يكن من التَّابعيِّ إلَّا دعاء الله عز وجل، فهو بمنزلة من شكا إنسانًا ظلمه إلى حَكَم عَدْلٍ فسطا الحَكَمُ بالظَّالم.
وأمَّا القاتل بالحال فإنَّه قتل بقوَّةٍ فيه، فهو كمَن ضرب بسيفه.
فأنَّى يشتبهان
(2)
؟ !
(1)
تقدَّمت القصَّة (ص 273 - 274).
(2)
هنا ينتهي ما وجد من هذه الرِّسالة.
الرسالة الثامنة
رسالة في الشفاعة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي شفع الوعد بالوعيد، والترغيب بالترهيب، والتبشير بالإنذار، وخلق الجنة بخلق النار، ونهى عن الأمن من مكره، كما نهى عن اليأس من رحمته؛ ليكفَّ عباده عن العلو والتقصير، ويقيمهم على الصراط المستقيم، قال عزَّ من قائل:{إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأعراف: 167].
وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، شهدت بذلك غرائز الفِطَر، وشفعها صحيح النَّظَر، وعزَّزها الوحي المُسْتَطَر، ولم يَرْتب فيها إلَّا من عاند وأصرَّ.
وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، أرسله بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وخصَّه بالشفاعة الكبرى في المقام المحمود، والوسيلة العليا في اليوم المشهود. صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى إخوانه النبيين والمرسلين، وآله الغُرِّ الميامين، وأصحابه الهداة المهديين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعد، فإنَّ صراط الهدى كصراط الجزاء، ذاك صراط على متن النار، لها عذابٌ ووبال، وهذا على متن الباطل، بين غضبٍ وضلال، ولا يمين لهذا ولا ذاك، بل كلتا الجهتين شمال.
فقلَّ قضيَّة من قضايا الحق إلَّا وقد شرَّق عنها قومٌ وغرَّب آخرون، ومن ذلك الشفاعة عند الله عز وجل، غَلَت فيها أُممٌ، فعبدوا من طمعوا أن يشفع
لهم، قال الله عزَّو جلَّ:[{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]
(1)
].
وقصَّر المعتزلة من المسلمين، نُقِل عنهم أنَّهم لا يثبتون شفاعةً في الأخرى، إلَّا شفاعة النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم لفصل القضاء.
وتوسّع المتأخّرون من أهل السنَّة، فأثبتوا أنواعًا من الشفاعة، و [أجملوا فيها]، ووصل الأمر إلى القُصَّاص والمتصوّفة والمدّاحين المغرمين
(2)
بمدح النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإطراء المشهورين بالولاية من أمَّته، فبلغوا في ذلك كلَّ مبلغ.
قال بعضهم: قد قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، ولن يرضى صلى الله عليه وآله وسلم أن يعذَّب أحدٌ من أمَّته
(3)
.
(1)
بيَّض المؤلِّف للآية، فكتبتها.
(2)
في الأصل: "والمداحون المغرمون".
(3)
نُسِب إلى الشِّبلي كما في "تلبيس إبليس" لابن الجوزي (ص 422) قوله: "والله لا رضي محمدٌ صلى الله عليه وسلم وفي النار من أمَّته أحدٌ! ثم قال: إنَّ محمدًا يشفع في أمَّته وأشفع بعده في النار حتى لا يبقى فيها أحد"!
وقد رُوِيَ مسندًا موقوفًا على ابن عباس رضي الله عنهما كما في "الدُّر المنثور للسيوطي" تفسير سورة الضحى، أنَّه قال في تفسير الآية:"لا يرضى محمدٌ وأحدٌ من أُمَّته في النار". وعدم البقاء في النار أخص من نفي التعذيب ألبتة، كما هو نقل المؤلِّف عنهم.
وعسى أن يقول آخر: قد قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، فلن يرضى صلى الله عليه وآله وسلم أن يعذّب أحدٌ من العالمين.
وجماعةٌ من شيوخ المتصوّفة يقول أحدهم: ليس على مريدي حسابٌ ولا عقابٌ، فأتاح لهم الكبائر وترك الفرائض، وبعضهم يصرِّح بذلك، فيقول لمريديه: لا تعذِّبوا أنفسكم، اعملوا ما تهواه أنفسكم، وأنا لكم واجب القصاص
(1)
.
والمشايخ إلى العامة أشدهم ترخيصا لهم، والمنتسبون إلى العلم منهم مَن حظُّه من العلم مطالعة كتب الفضائل والمناقب والتصوّف، وهؤلاء هم القُصَّاص والمشايخ الذين شكونا منهم.
ومنهم من قرأ وطالع كتب المتأخرين في الفقه، ثم إمَّا يدمج نفسه في القسم المتقدّم، لما يشاهده من رواجهم على الناس، وإمَّا أن يقتصر على تعليم مختصرات الفقه والفتوى، ويقف عند ذلك، فإن خالف أهل القسم الأول ففيما أفرط فيه غلاتهم جدًّا فقط.
ومنهم من يحاذر ذلك، فيقرأ بعض التفاسير وبعض كتب الحديث، ويشتغل بإقرائها ويقتصر على ذلك، وإذا عرَض له ما ينافي ما شاع بين الناس في الشفاعة خاف على نفسه من الكفر والضلال، فقطع التفكّر وصرف نفسه
(1)
نقل ذلك عنهم أبو الحسن الأشعري في "مقالات الإسلاميين"(ص 289)، وتنظر نقول أخرى في "التصوف، المنشأ والمصدر" لإحسان إلهي ظهير (ص 262) وما بعدها.
عن التدبّر.
ومنهم من طال باعه واتّسع اطّلاعه، ولكنّه أخلد إلى ما شاع بين الناس؛ لأنَّه قد رسخ في نفسه قبل اتّساعه، ولأنَّه يرى أنَّ خلافه إن لم يكن خرقًا للإجماع فهو خلاف للمشهور الذي عليه الجمهور، ويخشى أن يكون خلافه لذلك هلاكًا في دينه ودنياه.
أمَّا في دينه فلخشية أن يكون الخلاف انتقاصًا للنَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وأولياء أمَّته.
وأمَّا في دنياه فلِعِلمه أنَّه إن أظهر خلاف ما شاع ضلَّلوه وكفَّروه وآذوه، وربَّما قتلوه، وأيسر ما يناله أن يصير مبغوضًا ممقوتًا، يعانده الناس في دنياه، فتضيق عليه المسالك.
فأخذ يتأوَّل ويتمحّل ويتكلَّف الطعن في أدلَّة الحِسِّ الصحيحة وتلفيق الشبهات لموافقة ما يخالفها.
ومنهم مَن بان له الحق واتَّضح له السبيل، ولكن لم تطعه نفسه لمعارضة الناس أحوج ما يكون إليهم، والتعرّض لمقتهم وبغضهم وعداوتهم وأذاهم، فطوى على علمه كشحا وضرب عن المصارحة صفحًا، إلَّا إشارات يُسِرُّ بها إلى من يأنس به من تلامذته وأصحابه، ويلوّح بها في بعض كتبه.
وبالجملة فإنَّ الغلو المفرط، كالقول بأنَّه لا يعذر من هذه الأمَّة أحدٌ، وقول بعض المشايخ برفع التكليف عن مريديه = تجد بحمد الله كثيرًا من أهل العلم قد صرَّحوا بإبطاله والتشنيع عليه وعلى قائله، وأشاروا ــ وربَّما
صرَّح بعضهم ــ بردِّ ما دونه، إلَّا أني لا أعلم من صمد لتحقيق مسألة الشفاعة كلها، واجتثاث شجرة الخطأ فيها من أصلها.
وقد جمعتُ رسالةً مطوَّلةً في تحقيق العبادة المطلقة، أي: أعم من أن تكون لله عز وجل أو لغيره، فوجدت عبادة غيره تشابك مسألة الشفاعة، بحيث لا يمكن تحديد العبادة ما لم تتحدّد الشفاعة وما يتعلَّق بها. ولهذا لا تكاد تجد موضعًا في القرآن تقام فيه الحُجَّة على المشركين إلَّا وفيه التعرُّض للشفاعة، فرأيت أن أفرد مسألة الشفاعة برسالة، تحيط بفروعها، متضرِّعًا إلى مقلّب القلوب أن يثبِّت قلبي على دينه، ويهديني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنه.
مقدِّمة
الشفاعة في اللُّغة مأخوذة من الشَّفع، وهو مقابل الوتر، ويقال (شفَعَه) أي: انضمَّ إليه، فصار معه شفعًا.
قال الراغب: "والشفاعة الانضمام إلى آخر، ناصًرا له وسائلًا عنه، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو أعلى حرمةً ومرتبةً إلى من هو أدنى"
(1)
.
أقول: وكأنَّ (شَفَع) ضُمِّن معنى سأل ورغب، فقولهم:(شفعتُ لزيدٍ إلى فلان) كأنَّ تقديره: شفعتُ زيدًا سائلًا له قضاء حاجةٍ راغبًا إلى فلان، وقولهم:(شفعت إلى زيدٍ في فلان) كأنَّ أصله: شفعتُ فلانًا راغبًا إلى زيدٍ في شأنه.
إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم كلَّم بريرة بعد أن أعتقتها زوجته عائشة أن تقيم مع زوجها، فقالت: أتأمرني؟ قال: "لا، إنَّما أنا شافعٌ". قالت: لا حاجة لي فيه
(2)
! فلم يلمها النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم في ردِّها شفاعته.
ويعلم من هذا أنَّ الشافع ينزل نفسه منزلة من يرغب في حاجةٍ لنفسه، إن شاء المشفوع إليه قبل، مكرمًا له، وإن شاء أبى. وأنَّه ليس من شأن الشافع أن يغضب على المشفوع إليه إذا أبى، ولا يتكدَّر منه، وإلَّا لم يكن شافعًا بل آمرًا.
وعُلِم منه أيضًا أنَّه ليس من شرط الشفاعة أن تكون من أدنى لأعلى،
(1)
"مفردات القرآن"(457).
(2)
أخرجه البخاري (5283) وغيرها، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ولكن من شرطها أن لا يكون الشافع مالكًا للحاجة، فلا يتصوَّر في حقِّ الله تبارك وتعالى أن يشفع إلى أحدٍ؛ لأنَّه مالك الملك كله، وقد جاء في الحديث: ["فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبَّار: بقيت شفاعتي، فيقبض قبضةً من النار، فيخرج أقوامًا قد امتُحِشوا، فيُلقَون فى نهرٍ بأفواه الجنة، يُقال له: ماء الحياة، فينبتون فى حافتيه كما تنبت الحِبَّة فى حميل السيل .. "
(1)
]
(2)
.
فصلٌ
والشفاعة عند الله عز وجل أقسام:
الأول: شفاعة إنسان في هذه الحياة الدنيويَّة لحيٍّ أو ميتٍ، والغالب في هذه تسميتها (دعاء)، وفيها مباحث:
الأول: في حكم طلب الدعاء: اتفقت الأمة على جواز طلب الدعاء ممَّن هو حيٌّ هذه الحياة الدنيا طلبًا عاديًا، كأن يخاطب السائل المسئول وهو حاضرٌ عنده، أو يكتب إليه كتابًا، أو يرسل إليه رسولًا، أو نحو ذلك.
فأمَّا أن يهتف به وهو غائبٌ، بحيث يعلم أنَّه لا يسمع كلامه بحسب العادة فلا، وقد أوضحت حكم ذلك في "رسالة العبادة".
وذكر بعض أهل العلم
(3)
أنَّ طلب الدعاء لا يخلو من كراهية، واستدلَّ
(1)
أخرجه البخاري (7439) وغيره، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(2)
بيَّض المؤلّف للحديث فأتممته.
(3)
لعلّه ابن تيمية، ينظر قوله في "مجموع الفتاوى"(1/ 182)، وغيرها.
على ذلك بحديث "الصَّحيحين"
(1)
، في الذين يدخلون الجنَّة بغير حساب:"هم الذين لا يسترقون، ولا يتطيرون، ولا يكتوون، وعلى ربِّهم يتوكَّلون".
وبأنَّ كبار الصحابة لم يكونوا يسألون النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم الدعاء لأنفسهم، بل كانوا يجتهدون في أعمال الخير التي [رضاها] الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وأنَّ الناس بعد النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكونوا يسألون كبار الصحابة الدعاء إلَّا ما ندر.
وأنَّ رجلًا كتب إلى عمر [ .........................................
(2)
]
والذي تلخَّص لي أنَّ الأصل الجواز، وإنَّما يكره أو يكون خلاف الأولى لعارضٍ.
فمن ذلك: أن تكون الحاجة دنيويَّة غير ضرورية، وهي للطالب نفسه، فالمؤمن يرجو من الله عز وجل أن يختار له ما يعلمه خيرًا له، ودعاؤه لنفسه لا ينافي هذا؛ لأنَّ الدعاء نفسه عبادة، مع أنَّ الله عز وجل قد وعد بالإجابة بقوله:{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
وفسَّر النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم الإجابة بقوله: ["ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن تعجل له دعوته وإما أن يدخرها له فى الآخرة وإما أن يصرف عنه من
(1)
البخاري (5705) ومسلم (218)، من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما.
(2)
بيَّض له المؤلِّف، ولم يتبيَّن لي مراده!
السوء مثلها". قالوا: إذًا نكثر؟ قال: "الله أكثر"
(1)
]
(2)
.
فالمؤمن في دعائه لنفسه مأجورٌ على الدعاء، موعودٌ بما يختاره الله عز وجل له من إعطائه عين ما طلبَه، أوإعطائه ما هو خيرٌ له من مطلوبه.
فطلب الدعاء يشير بأنَّ الطالب حريصٌ على قضاء حاجته، وإن كان الله عز وجل يعلم أنَّه شرٌّ له، وقد كان النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم يرشد مَن يطلب منه الدعاء، إلى أنَّ الصبر خيرٌ له.
فمن ذلك: [حديث المرأة السوداء التي أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: إنِّي أصرع، وإنِّي أتكشَّف فادع الله لي، فقال:"إن شئتِ صَبَرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يعافيك"، فقالت: أصبر، فقالت: إنِّي أتكشَّف، فادع الله أن لا أتكشَّف، فدعا لها
(3)
.
ومنه: حديث خباب بن الأَرَتِّ رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله
(1)
بيَّض له المؤلِّف، فذكرته.
(2)
أخرجه أحمد (3/ 18)، والترمذي (3573)، والحاكم (1/ 670)، وغيرهم، من أحاديث عدّةٍ، جابر وأبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وغيرهم رضي الله عنهم.
قال الترمذي: "حسن صحيح"، وقال الحاكم:"صحيح الإسناد" ووافقه الذهبي، وقال البوصيري في "إتحاف الخيرة المهرة" (6/ 441):"بأسانيد جيّدة"، وصحَّحه الألباني في "السلسلة الضعيفة" تحت الحديث (4483)، وفي "صحيح الأدب المفرد"(264).
(3)
أخرجه البخاري (5652) ومسلم (2576) وغيرهما، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
صلَّى الله عليه وآله وسلَّم وهو متوسِّدٌ بُردةً له في ظِلِّ الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟
فقال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصدُّه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عصبٍ، وما يصدُّه ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلَّا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون"
(1)
]
(2)
.
وقد يُشعِر طلب الدعاء بأنَّ الطالب غير واثق بوعد الله عز وجل له بقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60].
فإن كان عدم وثوقه لعلمه بأنَّه مُصِرٌّ على الكبائر، كما هي حال أكثر أمراء هذا الزمان فالأمر أشد؛ فإنَّ الله عز وجل يبتليهم ليرجعهم إلى التوبة والاستغفار والطاعة، فالابتلاء خيرٌ لهم قطعًا، وهم يحاولون التخلُّص من الابتلاء مع الإصرار على الفجور!
وعلى من طلب منه هؤلاء الدعاء لحوائجهم الدنيوية أن يمتنع ويقول: ادعوا لأنفسكم. فإن قالوا: إنَّنا عصاةٌ؟ قال لهم: توبوا وأنيبوا واستغفروا وادعوا لأنفسكم، وشرح لهم هذا المعنى.
وأكثر الذين يُطلَب منهم الدعاء هذا الزمان لا يعرِّجون على هذا، بل
(1)
بيَّض المؤلِّف مقدار صفحة، فذكرت هذين الحديثين.
(2)
أخرجه البخاري (3612) وغيره.
يحرصون على أن يطلب منهم الدعاء؛ ليحصل لهم من الطالبين شيءٌ من الدنيا، بل إنَّ بعضهم يقول: خيرٌ لنا أن يبقى الأمراء والأغنياء فجّارًا؛ لأنَّهم إذا صلحوا استغنوا بالدعاء لأنفسهم، فلم يحصل لنا منهم شيءٌ!
وقد رأينا كثيرًا منهم يجيئه الغني المجاهر بالفجور، يلتمس منه الدعاء فلا يعظه ولا ينصحه، بل يعظِّمه ويكرمه ويفهمه أنَّك ما عليك إلَّا أن تعطيني وتقضي حوائجي وأنا أتكفَّل [لك]
(1)
بحوائجك عند الله تعالى كلها! فحال الفريقين كما قال الله عز وجل: {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73].
فليعلم الأمراء والأغنياء أنَّ طلبهم الدعاء من أمثال هؤلاء شرٌّ لهم في دينهم ودنياهم، وأنَّها إن قُضِيَت لهم حاجة عقب دعاء هؤلاء، فهي وبالٌ عليهم، والله المستعان. فأمَّا من يطلب الدعاء لحاجةٍ ضروريَّة فلا بأس به، كطلب السوداء الدعاء بأن لا تنكشف، ولذلك طلب الدعاء لغيره، ولو لولده.
وقد كان الصحابة يطلبون الدعاء لأولادهم، وشكَت أسماء بنت عُمَيس إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ أطفالها أبناء جعفر بن أبي طالب تسرع إليهم العين، فأذن لها النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم أن تسترقي لهم
(2)
.
وكذلك إذا كانت الحاجة عامَّة، كسؤال الصحابة النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم أن يستسقي لهم
(3)
. وغير ذلك.
(1)
في الأصل "له".
(2)
أخرجه مسلم (2198) وغيره، من حديث جابر رضي الله عنه.
(3)
أخرجه البخاري (1015) ومسلم (897) وغيرهما، من حديث أنس رضي الله عنه.
ومن العوارض أن يكون في طلب الدعاء مشقة على المطلوب منه، أو شبه إساءة الظن به؛ ولهذا لم يكثر من أكابر الصحابة طلب الاستغفار من النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، كرهوا أن يشقُّوا عليه، وعلموا أنَّه يستغفر لهم كما أمره الله عز وجل بقوله:[{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]، وقوله عز وجل:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19]
(1)
].
وقد وقع من بعضهم طلب الاستغفار لتقصيرٍ خاص، قال عمر رضي الله عنه: [ .. يا رسول الله ادْعُ الله فليوسّع على أمتك؛ فإنَّ فارسًا والروم قد وسَّع عليهم، وأُعْطُوا الدنيا وهم لا يعبدون الله! فجلس النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم ــ وكان متكئًا ــ فقال:"أَوَفي شكٍّ أنت يا ابن الخطاب؟! إنَّ أولئك قومٌ عجَّلوا طيِّباتهم فى الحياة الدنيا"، فقلت: يا رسول الله، استغفر لي ..
(2)
]
(3)
.
ومن العوارض أن يخشى على المطلوب منه أن يداخله العجب، فيرى أنَّ الناس إنَّما يطلبون منه الاستغفار لعلمهم بصلاحه.
أو يخشى على الطالب أن يكون غاليًا في الاعتقاد في المطلوب منه، أو أن يقصّر في عمل الخير اتكالًا على استغفار فلان له.
(1)
بيَّض المؤلِّف مقدار هاتين الآيتين، فكتبتهما.
(2)
بيَّض المؤلِّف مقدار هذا الحديث، فذكرته.
(3)
أخرجه البخاري (2468) وغيره، في قصَّة ما أشيع من تطليقه صلى الله عليه وسلم نساءه.
[ ..................................................................
(1)
]
وقد تُفقَد العوارض المقتضية للكراهة، ويقوم ما يفيد استحباب الطلب، كما يروى أنَّ عمر لمَّا جاء يودِّع النَّبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم ليذهب إلى مكَّة للوفاء بما كان نذره في الجاهلية، من الاعتكاف عند البيت قال له النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم:"لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك"
(2)
.
كان ذلك من النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم تطييبًا لنفس عمر، وبيانا لأنَّ في اعتكافه فضلًا وأجرًا يُرجَى معه استجابة الدعاء، ليزول بذلك ما قد يخطر في نفسه من توهّم أنَّ اعتكافه لمَّا كان وفاءً بنذرٍ نذَرَه في الجاهليَّة = يمكن أن لا يكون له فيه أجر، وفوق ذلك ففيه إرشاد له فيما يجب عليه؛ فإنَّ الله عز وجل [أمر]
(3)
بالدعاء لنبيِّه بقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56].
(1)
بيَّض المؤلِّف هنا مقدار صفحة.
(2)
أخرجه أحمد (1/ 29)، وأبو داود (1498)، والترمذي (3562)، وابن ماجه (2894)، وغيرهم، من طرقٍ عن عاصم بن عبيد الله عن سالم عن أبيه عن عمر رضي الله عنه بنحوه. قال الترمذي:"حسن صحيح".
ومدار إسناده على عاصم بن عبيد الله بن عمر بن الخطَّاب، وقد ضعَّفه الأئمَّة. تنظر ترجمته في:"تهذيب الكمال" للمزِّي (12/ 500)، و"ميزان الاعتدال" للذهبي (2/ 353). وينظر بسط تخريجه في:"ضعيف سنن أبي داود، الكبير" للألباني (264)، و"النافلة في الأحاديث الضعيفة والباطلة" للحويني (130).
(3)
زيادةٌ يقتضيها السياق.
ومن هذا ما يُروَى أنَّ النَّبي صلى الله عليه وآله وسلم بشَّر عمر وغيره بأُوَيس القرني، وأمرهم إذا لقوه أن يأمروه أن يستغفر لهم
(1)
.
ففي ذلك إرشاد لأُوَيس إلى ما أمر الله تعالى بقوله: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10]. وفيه تنبيه للناس على فضل أُوَيس؛ فإنَّهم كانوا يستحقرونه ويؤذونه ويسخرون منه.
[ ..................................................................
(2)
]
(1)
أخرجه مسلم (2542) وغيره، من حديث عمر رضي الله عنه.
(2)
بيَّض هنا المؤلِّف نحو سطرين.
المبحث الثاني: فيما ينبغي للمطلوب منه الدعاء
ينبغي للمطلوب منه الدعاء أمور:
الأول: إذا خشي على نفسه الإعجاب أو خشي على الطالب أو على غيره أن يغلوا في الاعتقاد فيه، أو يتَّكلوا على دعائه، ويقصِّروا في العمل= كان عليه أن لا يدعو له، بل يرشده إلى أن يتَّقي الله ويدعو لنفسه، فإن اقتضى الحال أن يزجره زجره، كما يفيده ما تقدَّم من الآثار.
الثاني: إذا لم يخش مفسدةً، وكانت الحاجة أُخرويَّة أرشد الطالب إلى أن يجتهد في الخير، ويعلِّمه أنَّ الدعاء إنَّما يُرجَى أن يكون مساعدًا له، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لبعض من سأله الدعاء في منزلةٍ أُخرويَّة:"أعنِّي على نفسك بكثرة السُّجود"
(1)
.
وإن كانت دنيويَّة للطالب نفسه أرشده إلى أنَّ الصبر خير له، كما كان النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يصنع.
الثالث: إذا أظهر ولده أو تلميذه ــ الذي ظهر عقوقه ــ التوبة وطلب منه الدعاء، وظهر صدق توبته، أو كان في إظهار الرضا عنه مصلحة تخفيف شرٍّ ونحوه = دعا له، كالحال في استغفار النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم
(1)
أخرجه مسلم (489) وغيره، من حديث ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيته بوَضُوئه وحاجته، فقال لي: سَلْ، فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: أوَ غير ذلك؟ قلتُ: هو ذاك، قال:"فأعنِّي على نفسك بكثرة السجود".
وغيرهم.
فإذا علم أنَّ في ترك المبادرة بالدعاء مصلحة امتنع منه، كما امتنع النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم من الاستغفار للثلاثة الذين خُلِّفوا
(1)
.
الرابع: عليه أن يتحرَّز من بيع الدعاء، ولا يتمُّ هذا إلَّا بالاستغناء عن الناس.
الخامس: أن يبدأ فينظر في حاله وحال الطالب وحال حاجته، ويزنها بالميزان الشرعي، حتى يتهيّأ له أن يقدّم رضا الله عز وجل، ولا يكون في الدعاء ما يخالفه.
السادس:
…
(2)
.
(1)
قصَّة الثلاثة الذين خُلِّفوا أخرجها بطولها البخاري (4418) ومسلم (2769) وغيرهما، من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه.
(2)
هنا ينتهي آخر ما وجد من هذه الرسالة.
الرسالة التاسعة
التفضيل بين الخلفاء الأربعة
رضي الله عنهم
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة التفضيل بين الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم وإن كان أصلُها من الدين؛ لتنزيل الناس منازلهم، وإعطاء كلِّ أحدٍ حقَّه= فقد صارت مِن حُجُبِ الشيطان التي يُلهي بها الإنسانَ عمّا خُلِقَ لأجله، ومَن أنكر هذا فيقال له: التفضيل هل هو بحسب ما عند الله تعالى أم بحسب تشييد الدّين والنفع للمسلمين؟
فإن قال بالثاني. قلنا: وايمُ الله إنّ كلًّا منهم قد شاد الدين ونفع المسلمين.
ومعرفة تفصيل ذلك تمامًا لا سبيل إليها؛ لأنَّه لم يَرِد مِن ذلك إلَّا بعضُه، ولعلَّ لبعضهم زيادةً على غيره ينفع المسلمين بالالتجاء إلى الله تعالى والدعاء لهم؛ فإنَّ ذلك من أعظم النفع.
وليت شعري أيُّ طائل في الدين لمثل البحث في: أيّهم أنفع؟! ولاسيّما مع ما عَرَض للفضائل من التعصُّبات بدفن البعض واختلاق البعض، حتى يحتمل صدق الضعيف وكذب الصحيح.
وإن قال: بحسب ما عند الله تعالى. قلنا: هذا غيب.
فإن قال: الأدلَّة. قلنا: ما منهم إلَّا وقد وَرَد في حقِّه ما يُشْعِر بأفضليَّته أو يصرِّح بها مع كثرة ذلك، ولا سبيل إلى القطع ببعضها حتى تزعم أنَّها عند الله تعالى كذلك.
فأمَّا كوننا متعبَّدين بالأخذ بالصحيح من السُّنن والحَسَن ونحو ذلك،
فهذا في العبادات المتعبَّد بعملها، وأمَّا في الاعتقادات فليس كذلك؛ إذْ هي مبنيّةٌ على القطع، ولا سبيل إليه، بل ولا إلى الظنِّ؛ لتعارض ظواهر الآثار، ولم يكونوا أنفسهم رضي الله عنهم يشتغلون بمثل هذا، بل ورد أنَّ كلًّا منهم كان يقول بفَضْل الآخر عليه، مع أنَّه ما منهم إلَّا من كان يتحدَّث بنعمة الله، ولاسيّما سيدنا علي فيما أوتيه من العلم.
فكيف يغمط نفسه حقَّها بتفضيل أبي بكرٍ وعمر على نفسه؟! وكذلك أبو بكر بتفضيله سيدنا عليًّا على نفسه، وغير ذلك.
فإن قيل: كان ذلك ظنَّهم بأنفسهم. قلنا: فهل يعرف غيرُهم منهم ــ ولاسيّما بعد مرور هذه الأعصار ــ ما جهلوه من أنفسهم؟!
فأمَّا كون أحدهم كذب بذلك فلا يقوله أحدٌ.
وقد كان السلفُ لا يهمُّهم إلَّا تعظيم الجميع، بحيث لا ينقص أحد منهم، ولا يهتمون بالتَّفضيل، وإن قالوا به بحسب الظنِّ فلا يلومون أحدًا خالفهم في ذلك، أو يعنِّفون عليه، كما رُوِي ذلك عن معمر ووكيع، كما في "الاستيعاب" في ترجمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(1)
.
وكلُّ مُفضِّل لا يخلو عن تعصُّبٍ، والدليل عليه أنّه إذا قال بتفضيل أحدهم ثم ورد ما يدلُّ على أفضلية الآخر تكدَّر لذلك، وتمنَّى أن يظفر بما يَردُّ ذلك الوارد ويُبطله، إلى غير ذلك.
فكلُّهم ساداتنا، أفاضلُ الأمر رضي الله عنهم وعنّا.
(1)
(3/ 1150)، وعزاه لعبد الرزاق.
فأمّا ما جرى بينهم من الوحشة فما زالت تجري بين الأخيار، بل ــ وأستغفر الله ــ لم يسلم منها الأنبياء الأطهار عليهم أفضل الصلاة والسلام.
أترى موسى لمَّا أخذ بلحية هارون يجرُّه إليه، أليس ذلك عن وحشة حَدَثَت في نفسه، وهي للّ? ـهِ بلا شكٍّ. وهارون بريءٌ، وموسى معذورٌ.
أترى الأسباط وفعلهم الذي قصَّهُ الله ــ تعالى ــ ألم يُدْخلوا على أبيهم وحشةً؟ ولا دخلت بينهم الوحشة، وإن كان الأنبياء ــ عليهم السلام ــ أعلى شأنًا من أن يُنْسَبَ إليهم الخطأ إلَّا مع ضَرْبٍ من التنزيه.
وكفاك أنَّ الوحشة التي جَرَت بين الخلفاء ونحوهم زالت في حياتهم، فقد قال عليٌّ عليه السلام: "إنِّي لأرجو أن أكون أنا وفلان وفلان وفلان من الذين قال اللهُ فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ
…
} الآية [الحجر: 47]، ثم قال: فإن لم نكن هم فمَن هم؟ "
(1)
. فكيف يُقامُ لها وزنٌ بعد الممات؟!
اللَّهم وفّق وسدِّد واهْدِ وأرشِدْ بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.
وأمّا التقدُّم بالخلافة فقد قيل: إنَّ سببه الفضل، وإنَّ الصحابة اجتمعوا على الأفضل فالأفضل.
(1)
أخرجه سعيد بن منصور وابن مردويه ونعيم في "الفتن" وابن أبي شيبة والطبراني كما في "الدر المنثور"(8/ 629 - 630)، وسمّى المبهمين (عثمان، وطلحة، والزبير).
فاعْلم أنَّ الإمامةَ كالإمارة، والسُّنَّةُ أن يؤمَّر في كلِّ عملٍ أهل الاقتدار فيه، وإن لم يكونوا من أولي الأفضلية، كما وُلِّيَ عمرو بن العاصي على كثيرٍ من أكابر الصحابة؛ لمزيد علمه بالحروب ونحو ذلك.
واليقينُ الذي لا يشوبه ريبٌ أنَّ هذا الدين لم يزل يَسُوْسُه الله تعالى عند تأسيسِه فما بعده بما يصلحه، ولاسيّما بعد موتِ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وارتدادِ العرب قاطبةً، ولله الحكمةُ البالغةُ، والذي يظهر من الحِكَمِ ما سيفتح الله به:
فأولًا: حكمة الله في الأنبياء أن لا ينبَّؤُوا إلَّا بعد بلوغِ سِنِّهم أربعين سنةً، وعند موتِ النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان سيِّدُنا عليٌّ دون الأربعين، وكذا عند موت أبي بكرٍ.
وثانيًا: أنّه قد سبق في علم الله تعالى أنَّ كلًّا من الأربعة له حقٌّ في تولِّي الخلافة، وللدِّين مصلحةٌ في تولِّيه، فحينئذٍ لابد أن يتولَّاها قطعًا.
فلو تولَّاها أولًا عليٌّ وقد سبق تأخُّر أَجَلِه فلا تَصِلُ إلى غيره إلَّا بموته قبل أَجَلِه، وهذا محالٌ. أو بعَزْلِه وهذا ينافي الحكمة، ليس لمجرد التكدُّر، بل لِما يلزم العزلَ من المفاسد المشوِّشة.
فاقتضت الحكمة الإلهية أن يُوَلَّوها على ترتُّب آجالهم، وهذا الوجهُ قد كان فُتِحَ عليَّ به في الصِّغَر ثم رأيته محرَّرًا مقررًا للشيخ الأكبر نفع الله به
(1)
.
ثالثًا: لو وَلِيَها عليٌّ أولًا لقال أهل الكتاب وغيرهم من الكفار
(1)
لم يتبيّن لي من هو!
والمنافقين: هذه صفةُ المَلِكِ؛ إذ وليها بعده أقربُ الناسِ إليه نسبًا وحسبًا، وهذا عهد كسرى، ولصارت شبهةً للأمراء بعد ذلك بأن يُولِّي أحدُهم ولَدَه أو أخاه وقال: سُنَّة رسول الله، كما قال مروان إذْ خطبَ الناس لبيعة يزيد:"سُنّة أبي بكر وعمر"، فردَّ عليه عبد الرحمن بن أبي بكر:"بل سُنَّة كسرى وقيصر، إنّ أبا بكرٍ لم يولِّها ولَدَه ولا أخاه ولا قريبه" أو كما قال
(1)
.
فلو كانت الخلافة أولًا في سيدنا عليٍّ لوجَدَ مروانُ وأمثاله شبهةً يُغالطون بها الناس، وإلى نحو هذا يشير الحسن بن عليٍّ في قوله: "والله ما
(1)
أخرجه النسائي في "السنن الكبرى"(11426) والحاكم في مستدركه (4/ 528)، من طريق علي بن الحسين عن أمية بن خالد عن شعبة عن محمد بن زياد قال: لمَّا بايع معاوية لابنه قال مروان: سنة أبي بكر وعمر! فقال عبد الرحمن بن أبي بكر: سُنَّة هِرَقل وقَيْصَر .. " الأثر.
قال الحاكم: "صحيحٌ على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وقال الألباني في "الصَّحيحة" (3240):"وإسناده صحيح".
وفي روايةٍ لابن أبي حاتم في "تفسيره"(10/ 3295): "أهرقليَّةٌ؟! إن أبا بكر والله ما جعلها في أحد من ولده، ولا أحد من أهل بيته، ولا جعلها معاوية في ولده إلَّا رحمة وكرامة لولد .. " الأثر.
قال الألباني في "الصَّحيحة"(3240) عن إسناده: "إسناد صحيح".
وتُنظَر طرقه الأخرى في "الصحيحة" للألباني (7/ 2/721)، و"الدُّر المنثور" للسيوطي (13/ 327 - 328).
وأصله مختصرًا عند البخاري (4827) عن يوسف بن ماهك قال: "كان مروان على الحجاز، استعمله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فخطب فجعل يذكر يزيد بن معاوية لكي يُبَايَع له بعد أبيه، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه شيئًا .. " الأثر.
أرى الله جامعًا لنا بين النبوة والخلافة"
(1)
، أو كما قال.
ولو دامت في أهل البيت فكذلك قد يتولاها أحدهم، ثم يكون له ولدٌ غيرُ أهلٍ فيأخُذ له البيعة، ويستدل بما قلناه سابقًا.
رابعًا: أنّ الله ــ تعالى ــ قد جَبَل كُلًّا منهم على خلائق يحصل بها الصلاح في الوقت الذي تولَّى فيه، فلو تولَّى فيه غيره لما حصل الصلاح، أَلَا ترى إلى أبي بكرٍ في الشِّدِّة على قتال أهل الرِّدَّة، وكان فيه غايةُ الصلاح، ولو كان غيره مكانه لكان الأمر بخلاف ذلك، وكذلك في الثبات عند موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعند موت أبي بكرٍ نفسِه حيث لم يدعِ الناسَ في عمياءَ، بل اجتهد فرأى عمرَ أهلًا، وصَدَق اللهُ ظنَّه؛ فكان ذلك الزمنُ عزَّة الإسلام (1). وقِسْ على ذلك.
ولم
…
(2)
بما ذكرتُ توصُّلاً إلى الجزم بأفضليّةِ عليٍّ عليه السلام، بل لإمكان ذلك، فيلزمُ التوقُّفُ، والله أعلم.
(1)
لم أره مسندًا عن الحسن رضي الله عنه، ولكن في "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 391) قال:"ورُوِّينا من وجوهٍ أنَّ الحسن بن عليٍّ لمَّا حضرته الوفاة قال للحسين أخيه: يا أخي، إنَّ أبانا رحمه الله تعالى لمَّا قُبِض رسول الله استشرف لهذا الأمر، ورجا أن يكون صاحبه، فصَرَفَه الله عنه، ووليها أبو بكر، فلمَّا حضرت أبا بكر الوفاة تشوَّف لها أيضًا، فصُرِفت عنه إلى عمر، فلمَّا احتضر عمر جعلها شورى بين سِتَّةٍ هو أحدهم، فلم يشك أنَّها لا تعدوه، فصُرِفت عنه إلى عثمان، فلمَّا هلك عثمان بُوْيع ثم نُوْزِع حتى جرد السيف وطلبها، فما صفا له شيء منها، وإنِّي والله ما أرى أن يجمع الله فينا أهل البيت النُّبوَّة والخلافة .. ".
(2)
كلمة غير ظاهرة.
الرسالة العاشرة
تعلق العقائد بالزمان والمكان