المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الشبهة التاسعة: حمل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه مادي بفعي صرف - السيرة النبوية في دائرة المعارف البريطانية

[وليد بن بليهش العمرى]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌أولا: الموسوعة البريطانية: تاريخ وأرقام

- ‌مدخل

- ‌أ - السياسة التحريرية لموسوعة البريطانية

- ‌ب- مادة محمد في الموسوعة البريطانية:

- ‌ثانيا: منهج مونتقمري وات في دراسة السيرة النبوية

- ‌ثالثا: قراءة مادة "محمد: النبي ورسالته

- ‌مدخل

- ‌الشبهة الأولى: التشكيك في المصادر العربية

- ‌الشبهة الثانية: التشكيك في نزول الوحي

- ‌الشبهة الثالثة: التفسير المادي لوقائع السيرة

- ‌الشبهة الرابعة: دعوى تأثر الإسلام بالبيئة الوثنية

- ‌الشيهة الخامسة: دعوى خصوصية الإسلام للعرب

- ‌الشبهة السادسة: دعوى أن نبوغ الرسول السياسي وهمته العالية ساعدا على نشر دينه أكثر من كونه نبياً مؤيداً

- ‌الشبهة السابعة: التشكيك في طبيعة علاقة الرسول مع الأنصار

- ‌الشبهة الثامنة: دعوى اضطهاد الرسول لليهود الفاعلين في المجتمع المددني

- ‌الشبهة التاسعة: حمل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه مادي بفعي صرف

- ‌الشبهة العاشرة: التشكيك في مقدار اضطهاد مشركي مكة للمسلمين

- ‌الخاتمة:

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌الشبهة التاسعة: حمل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه مادي بفعي صرف

*وليثيبهم على هذا التصرف المنظم قاد محمد بعد شهرين القوة نفسها في هجوم على خيبر الواحة اليهودية، واستسلمت بعد حصار ولكن اليهود سمح لهم بالبقاء شريطة أن يرسلوا نصف محصول التمر إلى المدينة (1) .

(1) Partly to reward this orderly conduct، Muhammad two months later led the same force against the Jewish oasis of Khaybar، north of Medina. After a siege it submitted، but the Jews were allowed to remain on condition of sending half of the date harvest to Medina.

ص: 50

‌الشبهة التاسعة: حمل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه مادي بفعي صرف

الشبهة التاسعة: حمل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم على وجه مادي نفعي صِرف

لا يرى وات سوى البعد المادي النفعي الذي ((تبرر الغايةُ فيه الوسيلة)) في غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقدم عدة آراء بهذا الصدد، تنعكس في طروحاتها على الموسوعة:

أ- كان الهدف من الغارات المبكرة التي شنها الرسول [صلى الله عليه وسلم] على قوافل المكيين التجارية هو التماس مصدر رزق للمهاجرين الذين كانوا في ضيافة الأنصار، فلم يرد الرسول للمهاجرين أن يعيشوا ضيوفا دائمين على الأنصار، ولم يتوقع منهم أن يشتغلوا بالزراعة ليكونوا قادرين على الاشتغال بالتجارة، فكان نهب قوافل المكيين التجارية هو الأسلوب الأمثل للحصول على مورد رزق لهم (2) .

لا نجد سبباً مقنعاً وراء ادعاء وات بأن الغارات التي شنها الرسول صلى الله عليه وسلم على قوافل المكيين التجارية بعد هجرته إلى المدينة بقليل كان الهدف منها

(2) مونتقمري وات، المرجع السابق، ص 105.

ص: 50

إيجاد مورد رزق للمهاجرين، فلقد كان المهاجرون قادرين على التماس مصادر أخرى للرزق بطرق أكثر أمناً وأيسر سبلاً، فلم يكن هناك ما يمنعهم من ممارسة التجارة أنى شاؤوا، ولم يكن هناك ما يمنعهم من تعلم حرفة نافعة تدر عليهم الرزق، فهل يعقل لوات أن يدعي أن أبواب الرزق السهلة المتاحة في حاضرة تجارية كالمدينة كانت موصدة أمام المهاجرين، ولم يجدوا إلا باب نهب قوافل المكيين على ما في ذلك من تكبد الصعاب ومجابهة المخاطر؟

أما الغزوات والسرايا قبل بدر فلم يبدأ بها المسلمون إلا بعد إذن إلهي بالقتال يوضح سببه ويشد من أزرهم بتأييده {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] ، وأنزل سبحانه وتعالى هذه الآية ضمن آيات أرشدتهم إلى أن هذا الإذن إنما هو لدحض الباطل، وتمكين دين الله في الأرض وإقامة شعائره فيها {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41] ، وكان من المناسب أن يبسط المسلمون سيطرتهم على طريق قريش التجارية التي تمر بهم إلى الشام وقريش هي عدوهم الأول والأشد تربصاً بهم وظلماً لهم، وفي هذا إضعاف للعدو وقطع للشرايين الاقتصادية عنه، ولقد كانت أشد الضربات قسوة على المكيين تلك التي تعرقل طريق تجارتهم.

ب- يفسر وات غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها تمثل انعكاساً طبيعياً للحياة

ص: 51

الصحراوية العربية التي كانت الغارات فيها لوناً من ألوان الرياضة وليست شكلاً من أشكال الحرب (1) ، وهذا يفسر كلمة razzia التي تسرف الموسوعة في استخدامها عندما تتكلم عن غزوات الرسول، وهي تعني:"غارة عسكرية تخريبية"(2) .

ولا يمكننا أيضاً أن نقبل الزعم بأن هذه الغزوات والسرايا كانت انعكاساً طبيعياً لحياة الصحراء العربية التي مثل فيها النشاط القتالي لوناً من ألوان الرياضة القومية، إن هذا الزعم لو صح فيما يتعلق بحياة العرب في الجاهلية فإنه لا يمكن أن يصح فيما يتعلق بالحياة في ظل الدولة الإسلامية، وذلك أن الإسلام لم ينظر للقتال على أنه متعة وتسلية {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] ، هذا هو فرض الجهاد، يبين الله سبحانه وتعالى أن هذا مِمّ امتحن المسلمين به وجعله طريقاً موصلاً إلى الجنة، ولكن القول بأن العرب كانت تغزو وتُغير للتسلية، فهذا ما ينم عن جهل عميق بخصائص النفس البشرية، ونزوعها إلى الركون إلى السلم وطلبها السلامة.

*وكان المهاجرون (الرجال الذين قدموا من مكة) في بداية الأمر ضيوفاً على إخوانهم المسلمين في المدينة. ولكن لم يكن محمداً ليقبل أن يستمر

(1) مونتقمري وات، المرجع السابق، ص 105.

(2)

معجم: The World Book Dictionary.

ص: 52

هذا الوضع لمدة غير معلومة. ومارس قليل من المهاجرين التجارة في السوق المحلية التي تديرها قبيلة يهودية. وقام الآخرون بالطريقة العربية المعروفة وبموافقة محمد بغزوات أملاً بقطع طريق القوافل المكية المتجهة بمحاذاة المدينة في طريقها إلى سوريا. وقاد محمد بنفسه ثلاثاً من هذه الغزوات في 623م (1) .

ج- يرى وات أن اتساع دائرة المجتمع الإسلامي في الجزيرة العربية أدى إلى انتقال النشاط القتالي الإسلامي من مفهوم الغارة إلى مفهوم الجهاد، ذلك أن الغارة تمثل نشاطا قتالياً تقوم به قبيلة ضد أخرى، أما الجهاد فهو عمل يقوم به مجتمع ديني ضد غير المنتمين إليه، ومن هنا كان اعتناق أي جماعة أو قبيلة للإسلام موجباً لوقف القتال ضدها. فعندما انتشر الإسلام انتشاراً واسعاً بين القبائل العربية تضاءلت فرصة الجهاد الداخلي، وكان لابد من تهيئة فرصة الجهاد الخارجي حتى يمكن إيجاد متنفس لطاقات العرب القتالية التي كان لابد أن تفصح عن نفسها بشكل أو بآخر، ويرى وات أن الصبغة الدينية للجهاد هي التي قامت بدورها الكبير في التنفيس عن تلك الطاقات مما أتاح للمسلمين في أقل من قرن من الزمان أن ينشئوا إمبراطوريتهم الواسعة (2) .

في ضوء ما ذكرنا ينتفي الزعم بانتقال النشاط القتالي الإسلامي من

(1) The emigrants (muhajirun، the men from Mecca) were at first guests of brother Muslims in Medina، but Muhammad cannot have contemplated this situation continuing indefinitely. A few emigrants carried on trade in the local market run by a Jewish clan. Others، with the approval of Muhammad، set out in normal Arab fashion on razzias (ghazawat، “raids”) in the hope of intercepting Meccan caravans passing near Medina on their way to Syria. Muhammad himself led three such razzias in.

(2)

مونتقمري وات، Muhammad: Prophet and Statesman، ص 108- 109.

ص: 53

مفهوم الغارة إلى الجهاد نتيجة اتساع دائرة المجتمع الإسلامي في الجزيرة العربية، ذلك أن القتال دفعاً للأذى ودرءا للكيد وانتصاراً للنفس ليس غارة قبلية، بل هو جهاد يصيب بمعانيه عين الحقيقة، وهو ما اتسم به النشاط القتالي الإسلامي منذ فجره المبكر في المدينة.

وغزوات المسلمين جاءت امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، وتوجهت الحملات العسكرية لخارج جزيرة العرب بعد ضمها تحت لواء التوحيد لا لإيجاد متنفس لطاقات العرب حتى لا يعودوا للاقتتال فيما بينهم، وإنما بقصد تبليغ الدعوة التي كلفوا بها.

*وكان قد أدرك أنه إذا أصبح العرب مسلمين فسيكون من المحتم توجيه الطاقة الناتجة عن غزواتهم لبعضهم إلى الخارج. فغزو المسلم للمسلم أمر غير مقبول البتة (1) .

د- كان الهدف من السرية التي وجهها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى نخلة في رجب في السنة الثانية للهجرة بقيادة عبد الله بن جحش هو الاستيلاء على إحدى قوافل المكيين التجارية، وهذه هي السرية التي أريق فيها أول دم في تاريخ

(1) He had already realized that، insofar as the Arabs became Muslims، it would be necessary to direct outward the energies expended on razzias against one another.

ص: 54

العلاقات بين المسلمين والمشركين بعد الهجرة. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم، في تقدير وات، يعلم أن هذه السرية قد يترتب عليها قتال في الشهر الحرام وهو رجب، وكان موافقاً على القتال لو حدث، وحدث القتال فعلاً وأسفر عن قتل أحد المشركين، وهنا فوجئ الرسول بما لم يكن يتوقعه من ردود أفعال حادة من قبل المسلمين في المدينة، فدفعه ذلك إلى أن يتظاهر، كما يدعي وات، أنه لم يكن موافقا على ما حدث، ورفض توزيع الغنائم، وأن يأخذ نصيبه منها.

وعرض وات لأحداث سرية نخلة يحتاج إلى مراجعة جذرية، إذ يزعم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم أن هذه السرية قد يترتب عليها قتال في شهر حرام، وهو رجب، وكان موافقاً على ذلك، وهذا زعم لا يستند إلى برهان تاريخي، فإذا رجعنا إلى نص الكتاب الذي سلمه الرسول صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن جحش رضي الله عنه وفقاً لما يرويه الطبري وابن هشام نجد أن فيه أمراً بالاستطلاع فقط، ولم يفوضهم بالقتال:"إذا نظرت في كتابي هذا فسر حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصّد بها قريشاً وتعلّم أخبارهم"(1) ، والترصد هنا معناه الترقب كما يتضح تماماً من السياق، والحقيقة أنّ ما حدث كان سوء تقدير ناجم من اجتهاد شخصي، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمح لهم بذلك وأنكر عليهم ما فعلوا ومنع التصرف في العير والأسيرين.

ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد أحلُّوا ما حرمت العهود والمواثيق العربية، وكثر القيل والقال، حتى نزل وحي حاسم لهذه الأقاويل {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ

(1) ابن هشام، سيرة النبي، 2/239؛ وتاريخ الطبري، 2/411.

ص: 55

كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 217] ، ومصرح بأن هذه الضجة التي افتعلها المشركون لا مساغ لها، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام واضطهاد أهله، ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام، حين تقرر سَلْبُ أموالهم وقتل نبيهم؟ فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة؟

*وأخيرا في يناير من عام 624م أرسلت مجموعة صغيرة من الرجال شرقاً بأوامر صارمة تخبرهم بالاتجاه إلى نخلة بالقرب من مكة ومهاجمة القافلة القادمة من اليمن. وقاموا بهذه المهمة بنجاح وبفعلهم هذا نقضوا الأعراف العربية عن الحرمة، ومن ثم نبهوا المكيين على خطورة تهديد محمد (1) .

هـ- يرى وات أن بحث الرسول صلى الله عليه وسلم عن أساس اقتصادي متين لدولته كان من بين الأسباب التي أدت إلى تطلعه للغزو الخارجي، وفي نظر وات لا تمثل غزوة تبوك (9 هـ) مجرد ختام لغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم بل هي بالأحرى مقدمة حقيقية لحروب التوسع التي بدأت بعدها بقليل، فقد كانت الغزوة أضخم غزوات الرسول على الإطلاق (2) .

(1) At last، in January، a small band of men was sent eastward with sealed orders telling them to proceed to Nakhlah، near Mecca، and attack a caravan from Yemen. This they did successfully، and in doing so they violated pagan ideas of sanctity—thereby making the Meccans aware of the seriousness of the threat from Muhammad.

(2)

مونتقمري وات، Muhammad: Prophet and Statesman، ص 218-219.

ص: 56

وهذا الزعم لا يقوم على أساس تاريخي، فمن يقرأ في حملات الرسول صلى الله عليه وسلم على طريق الشام يدرك أنها كانت في الأساس ردا لعدوان أو درءاً لتهديد، فغزوة دومة الجندل في السنة الخامسة للهجرة لم يكن لها سبب سوى أن العرب المقيمين بدومة الجندل كانوا مصدر تهديد للمدينة وللتجار الذين كانوا يترددون بين المدينة والشام، بل إن الواقدي يذكر في مغازيه أن هؤلاء العرب تجمعوا وهَمُّوا بغزو المدينة (1) ، وعندما نزل الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين بساحتهم ولوا مدبرين، فهذه إذاً غزوة ذات غرض محدد لم تتجاوزه، ولم تكن غايتها بكل تأكيد إحراز مكاسب اقتصادية.

والذي يصدق على غزوة دومة الجندل يصدق على سرية مؤتة في السنة الثامنة للهجرة، وهذه السرية خرجت نتيجة استفزازات متكررة كان يقوم بها العرب المتحالفون مع الروم في شمال الجزيرة، وبخاصة الغساسنة الذين قتلوا الحارث بن عمير الأزدي مبعوث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كبير بصرى، ورغم ما أبلى المسلمون في هذه الغزوة من بلاء حسن، إلا أنهم اضطروا للانسحاب أمام الحشود الهائلة من الروم وأحلافهم، ويصعب على المرء أن يتصور أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل ليجابهوا مائتي ألف مقاتل من أجل أي مكسب مادي، ولكن كان انتصاراً لدم مسلم ولدولة الإسلام التي قتل سفيرها وأُعلن عليها الحرب وفرضت عنوة (2) .

وأما غزوة تبوك، "غزوة العُسرة" التي يقول وات محاجاً: إنها رائدة

(1) المغازي للواقدي، 1/403.

(2)

تاريخ الطبري، 3/101 وما بعدها.

ص: 57

الهجوم على سوريا المزدهرة اقتصاديا، فقد أعد لها الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم في ظروف بالغة القسوة من شدة الحر وقلة الزاد، وهي غزوة فرضت على المسلمين فرضاً، إذ لم يكن القيصر ليصرف نظره عما كان لمعركة مؤتة من وقع طيب في نفوس القبائل العربية، وبدأت بعض القبائل المتاخمة لحدوده في الاستقلال عنه وإرسال الوفود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما جعله يعد العدة لمعركة حاسمة مع المسلمين، ولما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر حشد المسلمين في جيش على حال كما ذكرنا وخرج بهم لمجابهة الخطر المحدق بالدولة الناشئة، ولما لم يجد أحداً في المكان الموصوف عاد بجيشه قافلاً إلى المدينة، وحتى في هذه الغزوة، التي يهول وات من أمر أبعادها وتبعاتها، لم تكن بدافع الهجوم بل الدفاع، ولم يجن منها رسول الله صلى الله عليه وسلم أي مكسب مادي.

*ومن الجدير ملاحظة أن أكبر غزواته، عدا طلعاته على المكيين، كانت على امتداد الطريق إلى سوريا التي تبعتها الجيوش العربية بعد موته. ومما لاشك فيه أنه أدرك أن المهارات الإدارية لتجار مكة ستكون ذات فائدة لأي توسع لدولته الفتية (1) .

*الزحف على حدود سوريا. حدثت أعظم غزوات محمد في نهاية سنة 630م عندما اصطحب ثلاثين ألف رجل في رحلة استغرقت شهرا نحو الحد

(1) It is noteworthy that his largest razzias، apart from the expeditions against the Meccans، were along the route to Syria followed by the Arab armies after his death. He doubtless realized that the administrative skill of the Meccan merchants would be required for any expansion of his embryonic state.

ص: 58