المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الأول: الحياة.. وهذا الصراع بين الأحياء - الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (مطبوع ضمن بحوث ندوة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)

[عبد الكريم الخطيب]

الفصل: ‌الفصل الأول: الحياة.. وهذا الصراع بين الأحياء

‌الفصل الأول: الحياة.. وهذا الصراع بين الأحياء

الحركة هي مبعث القوة العاملة في هذا الوجود، وهي المولد الديناميكي لكل الطاقات العاملة في مسرح الحياة، وهي سر هذا التفاعل المتصل بين الكائنات جميعها، من الذرة إلى الجبل، ومن قطرة الماء إلى المحيط، ومن الجنة إلى الشجرة. فهذه التي تخلع على الحياة في كل لحظة حللا مختلفة الأشكال والأصباغ، إنما هي من نسيج الحركة، ومن صنع يديها، وأنه لولا هذه الحركة الدائبة الشاملة في هذا الكون الرحيب، لجمدت الموجودات، ولأكلها الصدأ كما يأكل الحديد، ولتحللت كما يتحلل الجسد ويتهرأ، حين تزايله الحياة، ويستولي عليه الخمود والسكون. والحركة في مظهرها صراع عنيف متصل بين الموجودات، كل موجود يريد أن يحقق ذاته، ويبرز شخصيته على نحو ما.. فبعض الموجودات يكون تحقيق ذاتها بإفناء غيرها فيها، حين يأكل الحي غيره، ويغتذي به. وبعضها يكون تحقيق ذاتها بإفناء وجودها لإحياء غيرها، كما يرى ذلك في مواقف التضحية والفداء والاستشهاد من أجل الجماعة، أو الانتصار لمبدأ كريم.. وبعض ثالث من الموجودات يكون تحقيق ذاتها بالاجتماع مع أشباهها، والانتظام معها في حركة واحدة تنتج خيرا يتقاسمه الجميع بينهم. وهكذا تتعدد صور الصراع بين الموجودات إلى أعداد لا حصر لها، حتى يكون الصراع بين الإنسان ونفسه حين تهجم عليه بأهوائها وشهواتها، تريد مسخ إنسانيته، واغتيال فطرته، فيلقاها مغالبا لها، فيغلب حسب ما عنده من رصيد الإيمان، وقوة العزيمة أو ضعفها.

ص: 118

والصراع الذي يدخل فيه المؤمن، هو صراع الخير الذي ينشده، ويسخر له قواه، لخيره وخير الجماعة معه، وبين الشر الذي يزحمه في طريق حياته، وفي ميادين عمله، يريد أن يصرفه عن وجهته، وأن يسخره للشر، وموالات الأشرار. والإسلام في نظرته للخير والشر لا ينكر واقع الحياة، ولا يجاوز الحدود التي تجري عليها سننها.. فالإسلام يعترف بما في الحياة من خير وشر، كما يعترف بأن الإنسان في معرض الخير والشر، وأنهما يتنازعانه دائما كل منهما يريده إلى جانبه.. كما يعترف الإسلام بأن في كيان الإنسان من القوى المدركة العاقلة ما يفرق به بين الخير والشر ويميز به الطيب من الخبيث، كما يفرق بحواسه بين النور والظلام، والحلو والمر، والجميل والقبيح.. كذلك يعترف الإسلام بأن في كيان الإنسان نفسا أمارة بالسوء، وشيطانا يوسوس له بالمنكر، ويزينه له، ويعرض له الشر في صورة الخير. والخير في نظر الإسلام حق ثابت، والشر زيف عارض، أو بمعنى آخر، أن الخير يقوم على دعائم قوية ثابتة من الحق، ويستند على أسس وطيدة منه، وأن الشر ينبت من حبات الباطل، ويغتذي من سراب الزور والبهتان.

وبما أنه لا يمكن أن يأتلف الخير والشر، ويتآخى الحق والباطل، فقد كان لكل موقعه، ولكل أهله ومريدوه من الناس.. ومن هذا كان ذلك الصراع المحتدم بين الناس - أفرادا وجماعات- كل يناصر الموقع الذي أخذه من هذين الموقعين المتضادين، المتنازعين. ودعوات الرسل والأنبياء والمصلحين الراشدين من الناس، إنما هي وقوف إلى جانب الحق والخير وانتصار لهما، واستنفار لمن يستجيبون لدعوتهم، أن يكونوا تحت راية الحق والخير، وأن يعملوا بكل قواهم لهزيمة الشر والباطل، ولو وقعوا شهداء في ميدان المعركة،

ص: 119

حتى يطيب للناس المقام في هذه الحياة وتظلهم الطمأنينة والأمن والسلام.. وفي هذا يقول الله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1.ذلك أن من فضل الله على الناس، ورحمته بهم، وإحسانه عليهم، أن ندب فيهم للحق رجالا يحمون حماه، ويدفعون أهل الباطل أن يستعملوا على أهل الحق، حتى لا تفسد حياة الناس، وتتغشاها غواشي الظلم، والبغي، والعدوان.. ولأن أهل الخير ينتصرون للحق، ولأن الحق اسم من أسماء الله الحسنى، فإن الله تعالى ينتصر لمن يلوذ بحمى الحق، ويكون وليا لله مستعينا به فيجد من الله العون والنصر.. وفي هذا يقول الحق سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} 2.

ونصر الحق من أنصار الحق، إنما يكون بالقول والعمل. فبالقول يكشف وجه الحق، وتشرق أنواره، وتتضح معالم الطريق إليه لمن غاب

1 سورة البقرة آية: 251.

2 سورة الحج آية: 38-39-40-41.

ص: 120

عنهم، أو ضلوا عنه.. وبالعمل يدفع أهل الباطل الزاحفون على مواطن الحق، المحاربون لأهله. وفي هذا المجال يمتحن إيمان المؤمنين، ويتبين صدق الصادقين، حيث يكون البلاء هو النار التي تكشف عن معادن الرجال، وفي هذا يقول الله تعالى:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} 1 ويقول سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} 2 ويقول جل شأنه: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} 3.والله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل الحق وحده سلطانا قائما في الحياة لا يتحكك به الباطل، ولا ينازعه سلطانه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 4.فهو سبحانه أراد أن يكون للناس ابتلاء وامتحان وأن يكون للمؤمنين بلاؤهم وجهادهم لإعزاز سلطان الحق والتمكين له، لينالوا بهذا رضوان الله، ولينزلوا منازل المكرمين عنده في جنات النعيم:

1 سورة محمد آية: 31.

2 سورة العنكبوت آية: 2-3.

3 سورة البقرة آية: 214.

4 سورة هود آية: 118-119.

ص: 121

{ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} 1.فلا بد إذن للحق من أنصار يجاهدون في سبيله، ويحتملون ما يلقاهم على طريق الجهاد من بلاء وعناء، فذلك هو الثمن الذي يقدمه المجاهدون لينالوا به رضوان الله، والذي ضن به أولياء الشيطان، فكانت عاقبتهم الخسران، والحسرة والندامة.

- 5 -

هذا، وقد تعلو للباطل رايات ورايات، وتقوم تحت راياته تلك دولة ودولة حتى يظن أن وجه الحق قد اختفى، وأن دولته قد دالت.. ولكن الواقع هنا هو أن الحق في تلك الحال مضمر في محيط الحياة الإنسانية، يستدعي أنصاره أن يقوموا له، وأن يزيلوا سحب الضلال المنعقدة في سمائه، لتشرق شمسه من جديد وإن طال ليل الباطل وامتد، والله تعالى يقول:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} 2.ومن هذا المثل الكريم، الذي ضربه الحق سبحانه، للحق والباطل، نرى أن الحق، قد يزاحمه الباطل، ويشوبه بغباره ودخانه، كما يشوب المعادن الكريمة ذرات من التراب أو

1 سورة محمد آية: 4-5-6.

2 سورة الرعد آية: 17-18.

ص: 122

الصدأ، فإذا عرضت تلك المعادن على النار تخلصت من تلك الشوائب الغريبة التي دخلت عليها، وإذا هي نقية خالصة من كل شائبة!! كذلك الحق، إذا شابه الباطل، فإنه لا يتخلص من هذا الغريب الذي دخل عليه إلا بجهاد المجاهدين الذين يحرقونه بنار جهادهم، ويخلصون الحق من شوائب الباطل:{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} 1 ففي قوله تعالى: {نقذف بالحق} . إشارة إلى تلك القوة التي تقوم من وراء الحق من المجاهدين في سبيله، والتي تقذف بالحق قذفا، وتدفع به دفعا لتصدم به الباطل صدمة قاتلة. فإن الحق وحده بغير أنصار ينتصرون له، ويدافعون عنه، هو جوهر كريم في باطن الأرض، لا بد من البحث عنه والمعاناة في سبيل الوصول إليه والانتفاع به. إن من المبادئ المقررة في علم الاجتماع " أن البقاء للأصلح" والأصلح لحياة الناس، وأمنهم واستقرارهم هو الحق، الذي يولد منه كل خير، كما أن الأصلح للإنسان هو سلامة جسده وعقله، فإذا دخل عليه مرض في جسده، أو آفة في عقله، فإنه لا يجد للحياة طعما، إلا إذا تخلص من هذا المرض، وعوفي من تلك الآفة. يقول الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل 1806 - 1873 م "من السخافة أن يتوهم المرء أن الحق -لا شيء سوى أنه حق- يشتمل على قوة غريزية ليست موجودة في الباطل، من شأنها أن تمكن الحق، من التغلب على ضروب العقاب، والتنكيل، والشرور التي تمتد بها يد الباطل. "إذ الحقيقة الواقعة، أن مقدارا كافيا من العقوبات الغاشمة، أو الظلم الاجتماعي يحول دون انتشار الحق.

1 سورة الأنبياء آية: 18.

ص: 123

ولكن الفضيلة الصادقة التي يتميز بها الحق هي: أنه يمكن إخماده مرة ومرة ومرات، غير أنه لا بد على الزمن من أن يظهر أناس يعاودون اكتشاف الحق، المرة بعد الأخرى، حتى يوافق ظهوره في إحدى المرات ظروفا ملائمة، فينفلت من الاضطهاد، ويجمع من الأنصار ما يمكنه من التغلب على الباطل، وإجلائه من المواقع التي احتلها". والظروف الملائمة للحق، التي يشير إليها هذا الفيلسوف، والتي تمكن لانتصار الحق، ودحر الباطل، إنما تكون بظهور رجال أشرقت في قلوبهم أنوار الحق، فأبوا أن يروا الباطل يحوم حوله بظلامه، لأن الباطل كريه الريح، يخنق بريحه الخبيثة صدور أهل الصحة والسلامة، فلا يجمعهم وإياه مكان، بل يعملون جاهدين على طرده والقضاء عليه ولو ذهبت في سبيل ذلك أرواحهم.

- 6 - والرسل والأنبياء، عليهم السلام -كما أشرنا من قبل- هم القائمون بدعوتهم السماوية المنزلة بالحق، في وجه الباطل، والآخذون عليه السبيل أن يتسلط على الناس، ويفسد حياتهم. ومن وراء الرسل والأنبياء، عليهم السلام، أتباع الرسل والأنبياء الذين يقومون بما دعوا إليه من حق، وما حذروا منه من باطل، فيجاهدون بألسنتهم وبأيديهم وبأموالهم، دفاعا عن الحق، ودفعا للباطل أن يحوم حول حماه. وفي ميدان هذا الجهاد المبرور، يتوارد المصلحون ودعاة الحق على مواقع الجهاد، مسترخصين النفوس والأموال والأهل والأوطان، محققين بذلك ما عقدوه مع الله تعالى في قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ

ص: 124

وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ_ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} 1.ويقول سبحانه في وصف هذه الأمة: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} 2.وأنه لكي يتحقق للأمة الإسلامية هذا الوصف الكريم، الذي أضفاه الله تعالى عليها -وهو متحقق دائما إن شاء الله- كان لا بد أن يقوم فيها دعاة الخير الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، فلا تتعطل فيها هذه الدعوة أبدا، ولا يخفت صوتها في أي زمان أو مكان، وإن كانت هي في زمن أقوى فيها من زمن، وفي حال أكثر فيها ثمرا من حال! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر ثم لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا، ولتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم " 3 -أي اليهود- ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 4.

1 سورة التوبة آية: 111-112.

2 سورة آل عمران آية: 110.

3 أبو داود: الملاحم 4336 ، وابن ماجه: الفتن 4006.

4 سورة المائدة آية: 78-79.

ص: 125

-7-

وفي سبيل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، كان البذل والتضحية. والاستشهاد في سبيل الله، من أولئك المؤمنين الذين كان لهم من وثاقة إيمانهم بالله، وغيرتهم على دين الله، ما دفع بهم إلى أخذ هذا الموقف واحتمال ما يصادفهم على طريقه، من شدائد وأهوال. وفي سجل المجاهدين في سبيل الله، والداعين إلى الله، وإلى شريعة الله، نرى صفحات خالدة مشرقة لأبطال الإسلام في كل جيل، وفي كل موطن من مواطن الإسلام، وفي كل موقع من مواقع الحق، صفحات تنطق بأبلغ بيان، وتدلي بأصدق شهادة، بأنهم قد صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فما ضعفوا وما استكانوا في أي موقف يدعوهم الحق إلى نصرته، وإلى الجهاد والتضحية في سبيله، وبهذا ظلت وستظل -إن شاء الله- هذه الأمة على هذا الوصف الذي وصفها الحق سبحانه وتعالى به في قوله جل شأنه:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1.

-8-

وأما ونحن مع سيرة بطل من أولئك الأبطال المجاهدين، الذين ضمهم التاريخ في سجل الخالدين في الناس بما خلفوا وراءهم من صدق الجهاد وعظيم التضحيات، ونعني بهذا البطل العظيم، والمجاهد المصلح الإمام الشيخ محمد بن عبد الوهاب -وأنه بحسبنا من سيرته، أن نذكر صفحات من جهاده وصبره على المكاره في هذا الجهاد، وما لقي من مفتريات المفترين، ومضلات الضالين وبخاصة علماء السوء، الذين يتجرون بالدين، تلك التجارة الخاسرة في الدنيا والآخرة: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ

1 سورة آل عمران آية: 110.

ص: 126

وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} 1.وسنرى في هذا الجانب من سيرة هذا الإمام، كيف يواجه الحق جحافل الظلام، وكيف يبدد شمله بأسلحة الإيمان والصبر والتضحية والفداء.. فإن الله بالغ أمره، وناصر أوليائه:{أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 2. 3.

1 سورة البقرة آية: 16-17-18.

2 سورة المجادلة آية: 22.

3 سورة العنكبوت آية: 69.

ص: 127