المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثاني: الشيح.. وراية الجهاد - الشبهات التي أثيرت حول دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب (مطبوع ضمن بحوث ندوة دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب)

[عبد الكريم الخطيب]

الفصل: ‌الفصل الثاني: الشيح.. وراية الجهاد

‌الفصل الثاني: الشيح.. وراية الجهاد

الفصل الثاني: الشيخ.. وراية الجهاد

-1-

تعريف موجز بالشيخ:

هو محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن على.. ولد في بلدة العيينة بنجد سنة 1115 هـ وتوفي إلى رحمة الله ورضوانه سنة 1206 هـ، أي أن حياته المباركة قد امتدت في هذه الدنيا أكثر من تسعين عاما، كانت أعوامها كلها خيرا وبركة على الإسلام والمسلمين، حيث عمرت بالجهاد في سبيل الله، والدعوة إلى الحق الذي كادت تذهب معالمه في المجتمع الإسلامي كله. وجده الشيخ سليمان بن علي كان من كبار علماء نجد مشهورا بالعلم والفضل، والورع والتقوى، وقد تولى هذا الجد الكريم، وظيفة الإفتاء في نجد، وتتلمذ عليه أكثر علماء نجد، وكان يؤوي طلاب العلم، وفقراء التلاميذ الذين يتلقون العلم عنه وينفق عليهم من خالص ماله. ثم خلفه ابنه الشيخ عبد الوهاب. وكان عالما. وقد ولي القضاء في العيينة في إمرة عبد الله بن محمد بن معمر.

ص: 128

- 2 -

وفي هذا البيت المتصل بالعلم، الناشر لألويته في ربوع نجد، ولد محمد بن عبد الوهاب، ونشأ يتلقى العلم عن أبيه حيث ظهر نبوغه، وأشرقت بصيرته، فنفذ بهذه البصيرة إلى مواقع الحق من دين الله، وأخذ يرى تلك المفارقات البعيدة بين ما في كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه سلف الأمة، من دين خالص لله ووحدانية مطلقة لله، وبين ما كان يرى من قومه من شرك بالله يتمثل في تعظيم المقبورين، والتمسح بجدران القباب، والأضرحة المقامة على أولئك الأموات والتعبد للأحجار والأشجار، وتقديم القربان لها، وطلب العون منها، والتماس قضاء الحاجات عندها. ولقد كانت أكثر هذه المعتقدات الشركية، وافدة على نجد وعلى غير نجد في الجزيرة العربية، وفي كثير من أقطار الإسلام -وافدة من بلاد العجم الداخلة في الإسلام بموروثاتها الفاسدة التي لم تستطع أن تتخلص منها، فاختلطت تلك الموروثات بالتوحيد حتى حجبته بضبابها عن كثير من العيون، وأخلته من كثير من القلوب.. وأصبحت تلك المشاهد المنصوبة على أسماء لآل البيت -رضوان الله عليهم- في مشهد، وفي قم، وفي مصر، وفي غيرها- مزاراً وحجاً لكثير ممن ينتسبون إلى الإسلام وكأنها صورة من تلك الأصنام التي نصبها مشركو الجاهلية في داخل الكعبة وخارجها حتى كان يوم فتح مكة، حيث طهر الرسول صلى الله عليه وسلم بيت الله من هذا الرجس؛ إذ جعل ينخس هذه الأصنام بمخصرته، وهو يتلو قوله تعالى:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} 1 فتنقلب على وجوهها غارقة في التراب.

-3-

ولقد ثارت نفس الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وامتلأ صدره حسرة وألماً؛ لما رأى ما عليه أكثر المسلمين من حوله، وهم غارقون في هذا الضلال، وليس في قلوبهم، ولا على

1 سورة الإسراء آية: 81.

ص: 129

ألسنتهم، ولا في أعمالهم شيء من الإسلام، وإن يكن فهو شعار زيف، أشبه بسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. من أجل هذا لم يطق الشيخ صبرا على ما يرى، فأخذ يطوف في البلاد، لعله يصادف في تطوافه وجها صحيحا للإسلام في أي بلد من بلاد الله، فتنتعش نفسه وتبرق بوارق الأمل في صدره، أو لعله يلتقي بمن يشاركه هذه الهموم التي تعتلج في صدره غيرة على الإسلام، وحرصا على المسلمين، فيخفف ذلك من بعض همومه ويجد بعض العزاء عند من يشاركه حملها.

ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة

يواسيك، أو ينسيك، أو يتوجع

- 4 -

وكان أن رحل الشيخ من بلده العيينة إلى البلد الحرام، ولما لم يجد هناك ما يشد أزره، ويقوي عزيمته على الدعوة إلى إصلاح حال المسلمين، وتخليصهم من الشرك الذي اغتال مواقع الإيمان منهم - شد رحاله إلى المدينة المنورة. وفي المدينة المنورة، التقى بكثير من العلماء، الذين حماهم الله من الارتكاس في دنس الشرك، وبرأهم من الضلال الذي وقع فيه كثير من أدعياء العلماء وتجار الدين. ومن هؤلاء العلماء، الذين اتصل بهم الشيخ في المدينة الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف، وكان عالما مستنيرا، فاقها لدين الله. وقد وجد عنده الشيخ محمد بن عبد الوهاب صدى لما كان يتردد في صدره، ويعتلج في خواطره، فأفاد كثيرا من علمه. كذلك التقى الشيخ في المدينة أيضا بالشيخ محمد بن حياة السندي، وكان محدثا عالما، مستنير البصيرة، فاقها لدين الله، سليم العقيدة، بعيدا عن التقليد الأعمى، فلا يقبل أمراً من أمور دينه، إلا رده إلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه

ص: 130

وسلم، ثم نظر فيه بعد ذلك نظر متدبر، فإن غم عليه شيء سأل أهل الذكر من علماء السلف بالرجوع إلى المعتمد من مؤلفاتهم وآثارهم. وقد شهد الشيخ وفود الحجيج، وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم وما كان يفعل المسلمون من منكرات، وما تنطق به ألسنتهم من شرك غليظ حول قبر الرسول -صلوات الله وسلامه عليه- فشد ذلك من عزمه، وقوى من يقينه على التصدي لهذا الضلال، وإعلان الحرب على هذه المنكرات بكل ما يقدر عليه من إنكار باللسان، وتغيير باليد لهذه المنكرات إن استطاع!

-5-

فلما أخذ الشيخ ما أمكنه أخذه من علماء المدينة، ووجد دفء الأمل في صدره، أخذ طريقه إلى نجد، معاودا تشديد النكير على تلك المنكرات المتفشية في القوم هناك.. ثم ما كاد الشيخ يستقر في نجد، ويتهيأ لخوض المعركة ضد الشرك هناك، حتى وقع في خاطره أنه إذا قدر له أن ينتصر في هذه المعركة في وطنه، ويزيح غوائل الشرك عنه، فإن الداء لا يلبث حتى يدخل مرة أخرى على أولئك الذين استشفى لهم من دائهم، وذلك بما يزحف عليهم من الأوطان المجاورة، وبخاصة في موسم الحج، وما يحمل وفود الحجيج من آفات الشرك التي تسري سمومها من حامليها إلى الذين تخلصوا منها، كما تسري عدوى الوباء من المريض إلى السليم. لهذا رأى الشيخ رضي الله عنه أن يأخذ بالحكمة القائلة:"الوقاية خير من العلاج"! فرأى أن تكون له رحلات إلى العالم الإسلامي. وذلك ليحقق أمرين: أولهما: أن يتعرف على أحوال المسلمين في غير نجد، وأن يتصل بعلماء المسلمين في أي قطر يحل به، ليجد ما عليه الناس هناك، فإن كانوا على الصحة والسلامة في

ص: 131

دينهم، تبين الأسباب التي حفظت عليهم دينهم من أن تدنس حماه آفات الشرك. وإن كانوا على الحال التي عليها أهل نجد وما حولهم من هذا الشرك المتمكن منهم، حاول أن يتعرف على مداخل هذه الآفة، وموقف العلماء منها. وثانيهما: أنه لا يعدم في هذه السياحة في أوطان المسلمين أن يلتقي ببعض العلماء الراشدين، فيفيد منهم ويفيدوا منه، ثم لا يعدم أن يجد منهم الداعية في وطنه إلى ما يدعو إليه هو في نجد، وفي الجزيرة العربية، وهذا مما يشد أزر الدعاة إذا تجاوبت دعواتهم، وترددت أصداء هذه الدعوات من كل ناحية.

فقلت ادعو وأدعو إن أندى

لصوت أن ينادي داعيان

هكذا قدر الشيخ، فكان أن وجه وجهه نحو العراق!!

- 6 -

الرحلة إلى العراق:

رحل الشيخ إلى العراق، وفي تقديره أن فيها صورا من الشرك تزيد عما رآه في نجد، حيث المشاهد والقباب المموهة بالذهب، والمكسوة بالديباج والحرير، وكانت البصرة محط رحال الشيخ. وهناك رأي أكثر مما كان يتصور من البدع والمنكرات.. ومع هذا فقد صادف في العراق عالما جليلا هو الشيخ محمد المجموعي الذي كان أشبه بومضة من النور في وسط ليل حالك كئيب. وفي مجلس الشيخ المجموعي، كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يواجه ما يرى أو يسمع من الأقوال والأفعال الشركية، بكلمة الحق، الواضحة الصريحة، التي كانت تنزل على رؤس علماء السوء والعامة المتعلقين بأذيالهم، نزول الصواعق، فتتجهم وجوههم، وتتحرك ألسنتهم بالإنكار على الشيخ ورميه بالمروق من الدين.

ص: 132

ومن هذا الضلال الذي كان عليه أهل البصرة، قامت حملة شيطانية عاتية على الشيخ حيث تداعى عليه السفهاء والمشعوذون المتجرون بالدين، يشوشون عليه ويرجمونه بأقبح الكلمات.. ثم ما زالوا به حتى أخرجوه من البصرة مشيعا بالسب والقذف بالألسنة والأيدي. أخذ الشيخ طريقه عائدا إلى نجد.. وفي الطريق إلى بلدة الزبير 1 كاد يموت عطشا ورهقا، لولا أن سخر الله تعالى له رجلا 2 رآه على تلك الحال مع ما عليه من جلال ووقار، فأخذته الشفقة به، فأسعفه بالماء، وحمله على حماره، حتى أوصله إلى بلدة الزبير. ومن بلدة الزبير سار الشيخ إلى الأحساء، فلم يمكث بها إلا قليلا، ثم سار منها إلى "حريملاء" التي كان والده قد استقر بها.

- 7 -

هذه الهجرات وحصادها:

ولا شك أن هذه الهجرات التي هاجر بها الشيخ إلى ربه، نحو مكة والمدينة ثم العراق، وما صادف في هذه الرحلات من ضروب الشدائد وما طلع عليه من وجوه الخير والشر في البلاد والعباد -لا شك أن ذلك كان إعدادا طيبا له- للدخول في هذه الغزوات التي غزاها في سبيل الله، داعيا إلى الله، هاديا إلى دينه القويم، صابراً ومصابراً على كل ما يلقى المجاهدون في سبيل الله من بلاء، هو الطريق إلى رضوان الله، وإلى الفوز بجنات النعيم، كما يقول الرسول الكريم، صلوات الله وسلامه عليه:"حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات"

1 بلدة الزبير لواء من ألوية البصرة وفيها قبور طلحة، والزبير بن العوام.. وابن سيرين، والحسن البصري..

2 هذا الرجل من بلدة الزبير، ويقال له: أبو حمدان.

ص: 133

ثم كان إلى جانب هذه الغزوات بكلمة الحق، تلك السيوف الماضية التي قامت بين يديها ومن خلفها من آل سعود، الذين باعوا أنفسهم لله، ذيادا عن دينه ودفاعا عن حرماته. وبهذا اجتمع للدعوة العنصران اللذان يكفلان لها النجاح، ويبلغان بها الغاية المرجوة منها، وهما: الداعية الذي ينطق بالحق، ويفصح عن دين الله، خالصا من كل شائبة، مبرأ من كل زيف. ثم مع هذا الداعية السيف الذي يضرب في وجوه الباطل، ويردع المبطلين.. والله تعالى يقول:{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} 1 وهكذا عرف الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كيف يتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته، وفي هجرته، وفي بيعة الأنصار لنصرته، وفي مواجهة السيف بالسيف، حتى كان النصر والفتح، ودخول الناس في دين الله أفواجا. ولهذا كان نجاح دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب محسوبا على الناس بمنهج دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم واقتفاء آثارها.. فكانت الكلمة أولا.. ثم كان السيف ثانيا لمن وقف في وجه كلمة الحق، وصد الناس عنها..

والشر إن تلقه بالخير ضقت به

ذرعا، وإن تلقه بالسيف ينحسم

1 سورة البقرة آية: 251.

ص: 134