الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: أقوال العلماء في تقرير المسألة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ما ذكر في القرآن أنه منه أو أضيف إليه، فإن كان عينا قائمة بنفسها، أوأمراً قائماً بتلك العين كان مخلوقا. كقوله في عيسى:{وَرُوحٌ مِنْهُ} 1 وقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 2 وقوله تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 3.
وأما ما كان صفة لا تقوم بنفسها، ولم يذكر لها محل غير الله كان صفة له، فكالقول، والعلم، والأمر إذا أريد به المصدر كان المصدر من هذا الباب كقوله تعالى:{أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} 4 وإذا أريد به المخلوق المكون بالأمر كان من الأول كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} 5.
وبهذا يفرق بين كلام الله سبحانه، وعلم الله، وبين عبد الله وبيت الله وناقة الله وقوله:{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} 6.
وهذا أمر معقول في الخطاب، فإذا قلت علم فلان وكلامه ومشيئته لم يكن شيئا بائناً عنه، والسبب في ذلك أن هذه الأمور صفات لما تقوم به، فإذا أضيفت إليه كان ذلك إضافة صفة لموصوف، إذ لو قامت بغيره لكانت صفة لذلك الغير لا لغيره"7.
وقال رحمه الله: "إضافة الروح إلى الله إضافة ملك لا إضافة وصف، إذ كل
1 الآية 171 من سورة النساء.
2 الآية 13 من سورة الجاثية.
3 الآية 53 من سورة النحل.
4 الآية 54 من سورة الأعراف.
5 الآية 1 من سورة النحل.
6 الآية 17 من سورة مريم.
7 شرح العقيدة الأصفهانية ص66،67.
ما يضاف إلى الله: إن كان عيناً قائمة بنفسها فهو ملك له، وإن كان صفة قائمة بغيرها ليس لها محل تقوم به فهو صفة لله.
ومن أمثلة القسم الأول:
قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} 1.
وقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا} وهو جبريل {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً} 2.
وكقوله تعالى: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} 3.
وقال تعالى عن آدم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 4.
ومن أمثلة القسم الثاني:
كقولنا علم الله، وكلام الله، وقدرة الله، وحياة الله، وأمر الله.
ولكن قد يعبر بلفظ المصدر عن المفعول به فيسمى المعلوم علما، والمقدور قدرة، والمأمور أمراً، والمخلوق بالكلمة كلمة، فيكون ذلك مخلوقا.
كقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} 5.
وكقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة} 6.
وكقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} 7.
وكقوله في الحديث الصحيح للجنة "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من
1 الآية 13 من سورة الشمس.
2 الآيات 17-18-19 من سورة مريم.
3 الآية 12من سورة التحريم.
4 الآية 29 من سورة الحجر.
5 الآية 1 من سورة النحل.
عبادي" كما قال للنار: "أنت عذابي أعذب بك من أشاء ولكل واحدة منكما ملؤها""1.
وقال السفاريني: "ومما ينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله سبحانه نوعان:
الأول: صفات لا تقوم بأنفسها كالعلم، والقدرة، والكلام، والسمع، والبصر فهذه إضافة صفة إلى موصوف بها فالعلم والقدرة
…
الخ صفات له تعالى غير مخلوقة، وكذا وجهه ويده ونحو ذلك من الصفات الخبرية والذاتية وكذا الفعلية من التكوين والمحبة والرضا ونحوها، في مذهب السلف.
الثاني: إضافة أعيان منفصلة كبيت الله، وناقة الله، وعبد الله، ورسول الله، وكذلك روح الله، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه، ومصنوع إلى صانعه لكنها تقتضي تخصيصاً أو تشريفاً يتميز به المضاف إليه عن غيره "كبيت الله" وإن كانت كل البيوت لله ملكاً له، وكذلك "ناقة الله" والنوق كلها ملكه وخلقه، ولكن هذه إضافة إلى إلهيته تقتضي محبته لها وتكريمه وتشريفه، بخلاف الإضافة العامة إلى ربوبيته، حيث تقتضي خلقه وإيجاده.
فالإضافة العامة تقتضي الخلق والإيجاد، والخاصة تقتضي الاختيار {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} 2، فإضافة الروح إليه تعالى من هذه الإضافة الخاصة لا من العامة، ولا من باب إضافة الصفات، فتأمل هذا الموضع فإنه نفيس3.
1 رسالة العقل والروح لشيخ الإسلام ابن تيمية مطبوعة ضمن الرسائل المنبرية 2/38.
2 الآية 68 من سورة القصص.
3 لوامع الأنوار البهية 2/36، 37. وانظر كتاب الروح لابن القيم 2/525، ومختصر الصواعق 2/220-221.
والكواشف الجلية عن معاني الواسطية ص 242-243.
وقال ابن القيم رحمه الله:
والله أخبر في الكتاب بأنه
…
منه ومجرور بمن نوعان
عينٌ ووصفٌ قائم بالعين فالأعيـ
…
ان خَلْقُ الخالق الرحمان
والوصف بالمجرور قام لأنه
…
أولى به في عرفِ كل لسان
ونظير ذا أيضاً سواء ما يضاف
…
إليه من صفة ومن أعيان
فإضافة الأوصاف ثابتة لمن
…
قامت به كإرادة الرحمان
وإضافة الأعيان ثابتة له
…
مُلْكا وخَلْقاً ما هما سِيَّان
فانظر إلى بيت الإله وعلمه
…
لَمَّا أضيفا كيف يفترقان
وكلامه كحياته وكعلمه
…
في ذي الإضافة إذ هما وصفان
لَكِنَّ ناقته وبيت إلهنا
…
فكعبده أيضاً هما ذاتان
فانظر إلى الجهمي لما فاته الحـ
…
ـق المبين الواضح التبيان
كان الجميع لديه باباً واحداً
…
والصبح لاح لمن له عينان1
قال الشيخ الدكتور محمد خليل هراس في شرح هذه الأبيات: "يريد المؤلف في هذا الفصل أن يفرق بين ما كان من الأعيان مخبراً عنه أنه من الله؛ وبين ما كان من الأوصاف كذلك. وأن يفرق أيضاً بين ما كان من الأعيان مضافاً إلى الله، وبين ما كان من الأوصاف كذلك.
فالمخبر عنه بأنه من الله على نوعين لأنه:
إما أن يكون عيناً من الأعيان.
أو وصفاً قائماً بالعين.
1 شرح القصيدة النونية 1/138.
فإن كان عيناً فمعنى كونه من الله أنه هو خالقه سبحانه كما في قوله تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} 1، وقوله:{قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 2، وقوله:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ} 3، وقوله تعالى عن عيسى عليه السلام:{إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} 4 والآيات كثيرة في هذا الباب.
وإن كان وصفاً فمعنى كونه من الله أنه صفة له كما في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَق} 5، وقوله تعالى:{تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} 6، وقوله تعالى:{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 7.
ومعنى قول المؤلف: "والوصف بالمجرور قام" يعني أن ما أخبر عنه بمن إن كان وصفاً فهو قائم بالمجرور بها لأنه أحق به في عرف أهل اللغات جميعاً.
ومثل ذلك تماماً يقال فيما يضاف إلى الله عز وجل.
فإن كان عيناً مثل بيت الله، وناقة الله، وعباد الرحمن، فنسبته إليه ثابتة خلقاً وملكاً، وتكون إضافته للاختصاص والتشريف.
وأما إن كان وصفاً كعلم الله، وقدرته، وإرادته، وكلامه، وحياته، فهذه الإضافة تقتضي قيامها بالله وأنه موصوف بها.
وتدبر هذا الفرق بين قولك بيت الله، وعلم الله، فإن كُلاًّ منهما يضاف إلى الله، ولكن لما كانت إضافة الأول إضافة ذات دلت على أنه مخلوق.
ولما كانت إضافة الثاني إضافة معنى دلت على أنه صفة للمضاف إليه.
ولهذا لما اهتدى السلف لهذا الفرق هُدُوا إلى الصراط المستقيم، ولما ضل
1 الآية 79 من سورة النساء.
2الآية 78 من سورة النساء.
3 الآية 13 من سورة الجاثية.
4 الآية 171 من سورة النساء.
5 الآية 102 من سورة النحل.
6 الآية 2 من سورة فصلت.
7 الآية 2 من سورة غافر.
عنه الجهمي الزائغ جعل الجميع باباً واحداً، ولم يفرق بين الأوصاف والأعيان، فوقع في الضلال والبهتان"1.
1 شرح القصيدة النونية 1/138-139 (بتصرف يسير) .