الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد قال الله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) وقال تعالى (إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين) وقال تعالى (إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين. كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز).
فصل
وقد صرح بعض المحققين ب
تكفير من يقول بحركة الأرض وسيرها
. قال الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي في كتابه «المسائل الكافية. في بيان وجوب صدق خبر رب البرية» بعد الخطبة ما ملخصه:
أما بعد فيقول أسير ذنبه المفتقر لعفو ربه محمد بن يوسف المعروف بالكافي إنه ضمنا مجلس في منزل الفاضل شيخ القراء الشيخ محمد سليم الحلواني يوم الأضحى من سنة 1351 المنصرمة فسألني بعض الحاضرين عن حكم من يقول بحركة الأرض وسيرها فأجبته بأنه كافر فقال لي وبماذا تكفره فقلت له لتكذيبه الله تعالى في خبره لأن الله سبحانه وتعالى أخبر في عدة آيات بعدم تحركها والله سبحانه وتعالى يستحيل عليه الكذب وما في معناه.
فاستعظم الحاضرون مني ذلك وقالوا التكفير بعيد لأنه يلزم عليه تكفير كثير من الناس.
وكان من جملة الحاضرين شيخ كبير فقال التكفير دونه خرط القتاد. والذي يظهر لي أنه تلفظ بهذه الجملة ولم يفقه معناها فخطر ببالي بعد انصرام المجلس أن أجمع مسائل رأيت بعضها منصوصاً وسمعت البعض الآخر وكلها على خلاف عقائد المسلمين من حيث إن فيها تكذيب خبر رب العالمين تعالى عن ذلك علواً كبيراً. وأن أبين الحق فيها الذي يجب اعتقاده. وذكرت قبل المسائل تتمات يحتاج إليها الناظر في المسائل. ثم قال:
(التتمة الأولى) متعلقة بالقرآن العظيم من حيث إنه قرآن عربي غير ذي عوج فلا يعدل في بيان مفرداته وجمله عما يقتضيه لسان العرب فمن عدل به عن ذلك فقد ألحد في آيات ربه.
(التتمة الثانية) أن ما أكتبه هو نقل صريح بحت لا دخل للعقل فيه ولا للتخمين أيضاً فمن كان له ساعد قوي وأراد معارضتي في شيء مما أكتبه فليعارضني بنقل صريح من مادة ما أنقله. أعني إذا ذكرت آية أو حديثاً أو قول بعض العلماء. فليعارضني بآية أو حديث أو قول بعض العلماء على سبيل اللف والنشر المرتب.
وأما إذا ذكرت آية أو حديثاً وعارضني بقول أحد العلماء مجرداً عما يعضده من آية أو حديث فمعارضته مردودة عليه لا يصغى إليها ولا ينظر فيها.
(التتمة الثالثة) أن مرادي بما أكتبه هو تنبيه وإيقاظ من يكون في اعتقاده شك أو ريب فيما يعتقده المسلمون. والحال أن أصوله مسلمون ولكن لتربيته على يد غير المسلمين أو لمطالعته كتب غير المسلمين اكتسب هذا الاعتقاد المخرج له عن دائرة الإسلام فلعله إذا اطلع على ما أنقله وأسطره يرجع إلى حوزة الإسلام ويكون فرداً من أفراد المسلمين وما ذلك على الله بعزيز.
(التتمة الرابعة) اتفق العلماء على أن من قال قولا أو اعتقد اعتقاداً يوجب تكذيب الله تعالى في خبره كحركة الأرض وسيرها المخبر الله تعالى بعدم حركتها أو قال أو اعتقد أن السماء جو وفضاء لا بناء المخبر الله تعالى بأنها بناء شديد وسقف محفوظ لا يحكم عليه بالكفر بمجرد ذلك بل يحكم عليه إذا وقف على عقيدة المسلمين في تلك العقيدة أو العقائد وعاند ولم يرجع إلى معتقد المسلمين.
ثم شرع الشيخ الكافي في ذكر المسائل إلى أن قال:
(المسألة الموفية عشرين) الأرض من حيث حركتها وسكونها عقيدة المسلمين الذين لم تشرب قلوبهم حب أهل الكفر أنها ساكنة وثابتة ومرساة بالجبال كإرساء البيت بالأوتاد وكإرساء السفن في مرساها لربطها بالحبال في الأوتاد أو إنزال المخاطيف الهائلة من الحديد فتنزل في الأرض فتكون لها كالأوتاد للبيت أو يجعل فيها الأجرام الثقيلة لتثقل بها حتى لا تميد في مرساها أي لا تتحرك يميناً ولا شمالاً ولا أماماً ولا خلفاً وهذا هو الذي أراد الله تعالى في إرساء الأرض بالجبال بحيث لا تتحرك أصلا أي لا حركة منتظمة ولا غير منتظمة. قال الله تعالى ممتنا على عباده (وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم) ومعلوم أن القرآن نزل بلسان العرب. وتقدم في التتمات أن من أخرج مفرداته وجمله
عما يقتضيه لسانهم فقد ألحد في آيات ربه تعالى في مختار الصحاح ماد تحرك ومادت الأغصان تمايلت وماد الرجل تحرك.
وفي القاموس ماد يميد ميداً وميداناً تحرك وزاغ وزكا والسراب اضطرب والرجل تبختر. أ. هـ محل الحاجة منه.
في المختار مار من باب قال تحرك وجاء وذهب ومنه قوله تعالى (يوم تمور السماء موراً) قال الضحاك تموج موجاً. وقال أبو عبيدة والأخفش تكفأ.
في القاموس والمور الموج والاضطراب والجريان على وجه الأرض والتحرك.
في المختار ماج البحر من باب قال اضطربت أمواجه.
في القاموس الموج اضطراب أمواج البحر.
في القاموس واضطرب تحرك وماج.
في المختار رسا الشيء ثبت وبابه عدا ومرسى أيضاً بفتح الميم ورست السفينة وقفت على الانجر وبابه عدا وسما.
قلت قال الأزهري في نجر الأنجر مرساة السفينة وهو اسم عراقي وقوله تعالى (بسم الله مجراها ومرساها) سبق في جرى. والمرساة التي ترسي بها السفينة تسميه الفُرس لنكر. والرواسي من الجبال الثوابت الرواسخ واحدتها راسية.
في القاموس رسا رَسُوا ورُسُوا ثبت كارسي والسفينة وقفت على الانجر وارسيته، وقال والمرساة أنجر السفينة، وقال وألقت السحاب مراسيها استقرت. وقال وقدور راسية لا تبرح مكانها لعظمها أ. هـ.
وقال تعالى (ألم نجعل الأرض مهاداً. والجبال أوتادا) في القاموس الوتد وبالتحريك وككتف ما رز في الأرض أو الحائط من الخشب. وقال وأوتاد الأرض الجبال أ. هـ.
فالسفينة إما جارية وإما راسية ولا واسطة بين الحالتين لها.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك في تفسير قوله تعالى (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها) الآية. قال كان إذا أراد أن ترسى قال بسم الله فأرست وإذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت، في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى (يوم تمور السماء موراً) أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في
قوله تعالى (يوم تمور السماء موراً) قال تحرك.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن مجاهد في قوله (يوم تمور السماء موراً) قال تدور دوراً أ. هـ.
وفي الدر المنثور على قوله تعالى (وألقى في الأرض رواسي) أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر من طريق قتادة عن الحسن عن قيس بن عباد قال إن الله لما خلق الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة ما هذه بمقرة أحداً على ظهرها فأصبحت صبحاً وفيها رواسيها فلم يدروا من أين خلقت أ. هـ محل الحاجة.
وفيه أيضاً وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله تعالى في سورة لقمان (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) قال حتى لا تميد بكم كانوا على الأرض تمور بهم لا يستقر بها فأصبحوا صبحاً وقد جعل الله الجبال وهي الرواسي أوتاداً في الأرض أ. هـ.
في تفسير ابن عباس رضي الله عنهما في سورة والنازعات (والجبال أرساها) أوتدها.
وفيه أيضاً في تفسير سورة النبأ (والجبال أوتاداً) لها لكي لا تميد بهم.
وفيه أيضاً في تفسير سورة النحل على قوله تعالى (وألقى في الأرض رواسي) الجبال الثوابت (أن تميد) لكي لا تميد (بكم) الأرض أ. هـ.
والعرب لا تفهم من الأوتاد إلا ثبوت ما ربط بها ولا من الإرساء إلا ثبوت المرسى بها.
وسأذكر عقيدة داروين في الأرض وفي آدم عليه الصلاة والسلام. قال أبو السعود على قوله تعالى (وجعل فيها رواسي) أي جبالا ثوابت في أحيازها من الرسو وهو ثبات الأجسام الثقيلة.
وقال في قوله تعالى (وألقى في الأرض رواسي) أي جبالا ثوابت (أن تميد بكم) كراهة أن تميد بكم وتضطرب أو لئلا تميد بكم فإن الأرض قبل أن تخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة الطبع وكان من حقها أن تتحرك بالاستدارة كالأفلاك أو تتحرك بأدنى سبب محرك فلما خلقت الجبال تفاوتت حافاتها وتوجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد، وقيل لما خلق الله الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة ما هي بمقرة أحداً على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال أ. هـ.
قال الرازي على قوله تعالى (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) أي جبالا راسية أن تميد بكم أي كراهة أن تميد بكم. وقيل المعنى أن لا تميد بكم.
واعلم أن الأرض ثباتها بسبب ثقلها وإلا كانت تزول عن موضعها بسبب الماء والرياح ولو خلقها مثل الرمل لما كانت تثبت للزراعة كما ترى الأرض الرملية ينتقل الرمل الذي فيها من موضع إلى موضع.
ثم قال تعالى (وبث فيها من كل دابة) أي فلكون الأرض فيها مصلحة حركة الدواب أسكنا الأرض وحركنا الدواب ولو كانت الأرض متزلزلة وبعض الأراضي لا يناسب بعض الحيوانات لكانت الدابة لا تعيش في موضع تقع في ذلك الموضع فيكون فيه هلاك الدواب. أما إذا كانت الأرض ساكنة والحيوانات متحركة تتحرك في المواضع التي تناسبها وترعى فيها وتعيش فيها فلا أ. هـ.
وقال في سورة الأنبياء (المسألة الثانية) الرواسي الجبال والراسي هو الداخل في الأرض.
«المسألة الثالثة» قال ابن عباس رضي الله عنهما أن الأرض بسطت على الماء فكانت تتكفأ بأهلها كما تتكفأ السفينة لأنها بسطت على الماء فأرساها الله بالجبال الثقال أ. هـ.
قال مفتي الثقلين في سورة النبأ (ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً) لها أرساها بها كما يرسى البيت بالأوتاد أ. هـ.
وقال في سورة والنازعات. والجبال منصوب بمضمر يفسره أرساها أي أثبتها وأثبت بها الأرض أن تميد بأهلها. وهذا تحقيق للحق وتنبيه على أن الرسو المنسوب إليها في مواضع كثيرة من التنزيل بالتعبير عنها بالرواسي ليس من مقتضيات ذواتها بل هو بإرسائه عز وجل ولولاه ما ثبتت في أنفسها فضلا عن إثباتها الأرض أ. هـ.
قال البيضاوي في سورة الرعد (وهو الذي مد الأرض) بسطها طولا وعرضاً تثبت فيها الإقدام وينقلب عليها الحيوان (وجعل فيها رواسي) جبالا ثوابت من رسا الشيء إذا ثبت جمع راسية. وقال في سورة النحل (وألقى في الأرض رواسي) جبالا رواسي (أن تميد بكم) كراهة أن تميد بكم وتضطرب وذلك لأن الأرض قبل أن تخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة الطبع وكان من حقها أن تتحرك بالاستدارة كالأفلاك أو أن تتحرك بأدنى سبب للتحريك فلما خلقت الجبال على وجهها تفاوتت جوانبها
وتوجهت الجبال بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد التي تمنعها عن الحركة. وقيل لما خلق الله الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة ما هي بمقرة أحداً على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال أ. هـ.
فمن قال واعتقد أنها متحركة وسائرة بانتظام تقليداً لداروين ولمن كان على مذهبه وتاركاً لعقيدة المسلمين واستمر مصمماً على ذلك يكفر لتكذيبه الله تعالى في خبره (والجبال أرساها)(والجبال أوتاداً).
ثم قال الشيخ الكافي.
(المسألة الحادية والعشرون) أذكر فيها ما كتبته في «الأجوبة الكافية. على الأسئلة الشامية» ورددت به مقالة في منار رشيد رضا وأدرج فيها ما قاله داروين في شأن الأرض وفي شأن آدم عليه الصلاة والسلام.
قال صاحب المنار في صفحة 577 من الجزء الرابع عشر «علم الفلك والقرآن. نظرة في السموات والأرض» . وفي صفحة 558 «ما هي هذه الأرض التي نعيش عليها. هي كوكب من الكواكب التي تدور بمركز الشمس وتسمى بالسيارات.
أقول يعتقد صاحب هذا الكلام أن الأرض متحركة طائفة بمركز الشمس وليست راسية. ومائدة وليست بثابتة. وسابحة وليست موثقة بالجبال. وهذا مذهب داروين الطبيعي ومن تبعه كأصحاب هذه المجلة.
قال داروين في كتاب النشو والارتقاء في صفحة 238 أن الأوهام التي تقاضت الإنسان حياته زمناً طويلا وكانت أعظم أسباب شقائه ودواعي عنائه اثنان عظيمان وهما. أولا اعتقاده القديم في الأرض أنها مركز تدور حوله الأفلاك. وثانياً اعتقاده في نفسه أنه من أصل سماوي فأهبطه الخالق من فسيح جنانه ولم ذا، وأسكنه ضيق أرضه - إلى أن قال - ومنها أرضنا المتحركة حول مركز الشمس خلافاً لمن يظن أن الأرض ثابتة والشمس تدور حولها خدمة لها أ. هـ.
واعتقاد المسلمين كافة بأن الأرض ثابتة تبعاً لما امتن الله به علينا بقوله سبحانه وتعالى في سورة لقمان (خلق السموات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) أي لئلا تميد بكم.
وفي عم يتساءلون (ألم نجعل الأرض مهاداً. والجبال أوتاداً) وفي النازعات (والأرض بعد ذلك دحاها، أخرج منها دماءها ومرعاها. والجبال أرساها) وغير ذلك من الآيات الدالة على ثبوت الأرض وعدم تحركها.
في مختار الصحاح ماد الشيء تحرك. وفي القاموس ماد يميد ميداً وميداناً تحرك وزاغ. وفيه رسا رسوا ثبت كارسي.
فالله سبحانه وتعالى أخبر بثبوتها وعدم تحركها وطوافها حول مركز الشمس. وداروين ومن تبعه أخبروا بحركتها وطوافها حول مركز الشمس. فمن هو العالم بوصفها الحقيقي. الجواب. الله (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير). فمن الصادق في خبره، الجواب. الله الصادق (ومن أصدق من الله حديثاً).
فإذا ثبت هذا فمن الواجب اتباعه في خبره. الجواب اتباع خبر الله تعالى لأن خبره صدق يستحيل عليه الكذب وما في معناه وطرح خبر الغير وراء الظهر.
ومعتقد خلاف دين المسلمين كافر بلا ريب. ثم اتل قوله سبحانه وتعالى (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا أعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا).
ثم قال الشيخ الكافي:
(المسألة الثانية والعشرون) في تحقيق أن من قال بحركة الأرض يعد مكذباً الله تعالى في خبره عقلا أيضاً وذلك أن الوصفين إما أن يكون بينهما التماثل كالبياض وبياض آخر. وإما أن يكون بينهما مطلق المغايرة كالقيام والضحك. وإما أن يكون بينهما التضاد. وإما أن يكون بينهما التناقض. فالمثلان لا يحتاجان إلى تعريف. وأما الخلافان فحقيقتهما هما اللذان يجتمعان كأن يكون الشخص قائماً يضحك. ويرتفعان كأن يكون جالساً يبكي، وأما الضدان فهما الأمران الوجوديان كالبياض والسواد لا يجتمعان كأن يكون الشيء أبيض أسود في آن واحد، وقد يرتفعان كأن يكون الشيء أصفر أو أخضر مثلاً. وأما النقيضان فهما الأمران الوجوديان اللذان بينهما غاية الخلاف لا يجتمعان ولا يرتفعان بل أحدهما ثابت ولا بد وذلك كزيد قائم، زيد ليس بقائم. أو الأرض ساكنة، الأرض ليست بساكنة. أو الأرض متحركة. الأرض ليست بمتحركة، فإذا صدق
أحد المتناقضين كذب الآخر ولا يمكن صدقهما معاً ولا كذبهما معاً. فإذا تقرر هذا فنقول إذا ثبت للأرض السكون انتفى عنها عدم السكون وهو مساوٍ للحركة وهو خبر الله تعالى. وإن ثبت للأرض الحركة انتفى عنها عدم الحركة وهو مساوٍ للسكون لأنه يلزم لزوماً بينا من انتفاء النقيض انتفاء المساوي له. وهذا الشق الأخير باطل قطعاً ومعتقده كافر كما تقدم انتهى كلام الكافي.
فصل
وقد استدل بعض العصريين على ما زعموه من حركة الأرض ودورانها على الشمس بقول الله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) الآية. وهذا من الإلحاد في آيات الله تعالى وتحريف الكلم عن مواضعه لأن الآية إنما سيقت في ذكر ما يكون يوم القيامة. وقد بين الله ذلك بقوله (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين) ثم قال تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون. من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون، ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون).
فدلت هذه الآية على أن مرور الجبال مثل مر السحاب إنما يكون يوم القيامة لا في الدنيا. وقد أوضح الله ذلك في آيات كثيرة من القرآن كقوله تعالى (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً) وقوله تعالى (إن عذاب ربك لواقع. ماله من دافع. يوم تمور السماء موراً. وتسير الجبال سيراً. فويل يومئذ للمكذبين) قوله تعالى (إذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت وإذا الجبال سيرت) الآيات إلى قوله تعالى (علمت نفس ما أحضرت). وقوله تعالى (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً. فيذرها قاعاً صفصفاً. لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا. يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً. يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا) وقوله تعالى (فإذا
النجوم طمست. وإذا السماء فرجت. وإذا الجبال نسفت. وإذا الرسل أقتت. لأي يوم أجلت. ليوم الفصل. وما أدراك ما يوم الفصل. ويل يومئذ للمكذبين) وقوله تعالى (القارعة ما القارعة. وما أدراك ما القارعة. يوم يكون الناس كالفراش المبثوث. وتكون الجبال كالعهن المنفوش) وقوله تعالى (إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة. خافضة رافعة. إذا رجت الأرض رجاً. وبست الجبال بساً. فكانت هباء منبثاً. وكنتم أزواجاً ثلاثة) وقوله تعالى (إن يوم الفصل كان ميقاتاً. يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجاً. وفتحت السماء فكانت أبواباً. وسيرت الجبال فكانت سراباً) فدلت هذه الآيات مع الآيات من سورة النمل على أن زوال الجبال من أماكنها ومرورها مثل مر السحاب وذهابها بعد ذلك بالكلية إنما يكون يوم القيامة لا في الدنيا.
وبعد تحرير هذا الموضع رأيت فيه كلاماً حسناً لعالمين فاضلين أحدهما الشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي. والآخر الشيخ محمد الحامد خطيب جامع السلطان بحماة رد كل منهما على من قال أن الآية من سورة النمل تدل على دوران الأرض وحركتها، وقد رأيت أن أسوق كلامهما ههنا لما فيه من بيان الحق ورد الباطل.
فأما الشيخ محمد بن يوسف الكافي فقال في كتابه «المسائل الكافية. في بيان وجوب صدق خبر رب البرية» ما نصه:
(المسألة الثالثة والعشرون) أقول رأيت في كلام بعضهم الاستدلال على حركة الأرض بقوله سبحانه وتعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) واغتر بكلامه كثير ممن لا اطلاع لهم وهو جهل منه بزمن مرورها مر السحاب. وذلك أن زمن مرورها مر السحاب وبسها حتى تكون كالهباء وتسييرها حتى تكون كالسراب هو زمن خراب العالم وزمن قيام الساعة. ولكن من لم يخش ربه يفسر القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار.
قال حبر هذه الأمة في تفسير قوله تعالى (وترى الجبال) يا محمد في النفخة الأولى (تحسبها جامدة) ساكنة مستقرة (وهي تمر مر السحاب) في الهواء.
وقال في تفسير قوله تعالى (إذا رجت الأرض رجاً) إذا زلزلت الأرض زلزلة حتى ينطمس كل بنيان وجبل عليها فيعود فيها (وبست الجبال بساً) سيرت الجبال على
وجه الأرض كسير السحاب. ويقال قلعت قلعاً. ويقال جثت جثاً. ويقال فتت فتا تبس كما يبس السويق أو علف البعير.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله (إذا رجت الأرض رجاً) قال زلزلت (وبست الجبال بساً) قال فتت (فكانت هباء منبثاً) قال كشعاع الشمس انتهى. وأما الشيخ محمد الحامد فقال في كتابه المسمى «ردود على أباطيل وتمحيصات لحقائق دينية» بعد كلام سبق ما نصه أننا حين ننظر في الآية الكريمة التي ذكر الله فيها الأرض والشمس والقمر والنجوم نخرج بالفهم الصحيح الذي فهمه النبي الكريم وأصحابه صلوات الله تعالى وتسليماته عليه وعليهم أجمعين، ومعاذ الله أن يفهموا خطأ ويفهم غيرهم صواباً. لكن قد اقتحم بعض الجرءآء على الله هذه اللجة فزعم أن قوله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) يدل على دوران الأرض وحركتها وهو استدلال غير صحيح وتفسير غير مقبول. وإليك البيان.
أن الاستدلال بهذه الآية الكريمة على حركة الأرض متوقف على أن لا يكون سباق وسياق يفيدان غير ما يفهم المستدل. ومتوقف أيضاً على أن لا يوجد نص آخر يعترض. وكلا الأمرين موجود ههنا فالاستدلال إذا غير سليم والنظر ليس بسديد.
أما الأول فإن السباق - وهو أول الكلام - والسياق - وهو آخره - يفيدان أن مرور الجبال مر السحاب إنما يكون يوم القيامة إذ أن الآية واردة في وصفه قال الله تعالى (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين. وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون. من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون. ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون).
فالآيات في القيامة كما هو ظاهر لا في هذه الدنيا، وكم في الآي من سباق وسياق يتعين بهما معنى لا يمكن المحيد عنه على أن الله تعالى ذكر سير الجبال يوم القيامة في غير موضع من كتابه الكريم فقال سبحانه في سورة الكهف الشريفة (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحداً) وقال تعالى في سورة التكوير (وإذا الشمس كورت. وإذا النجوم انكدرت. وإذا الجبال سيرت. وإذا العشار عطلت)
الآيات الكريمات، وبهذا البيان يبطل الاستشهاد بالآية على حركة الأرض.
وأما الثاني وهو أن لا يوجد نص معترض. فإنا لو نظرنا إلى الفكرة من حيث هي نظراً شرعياً صرفاً لما استطعنا إلا المصير إلى ما تقرره النصوص القرآنية المانعة منها.
إن القرآن قائل بثبات الأرض. وما أصرح قوله سبحانه (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) وقوله في مكان آخر (وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم) والميد هو التحرك كما تدل عليه نصوص اللغة.
وقال الله تعالى (ألم نجعل الأرض مهاداً. والجبال أوتاداً) هؤلاء الآيات يدللن دلالة واضحة على تثبيت الله الأرض بالجبال لئلا تتحرك.
والقول بأن تثبيتها بالجبال لا ينافي حركتها كالسفينة المثقلة بما يحفظ عليها توازنها مع سيرها في اللجة فيه من التكلف البارد ما يأباه الذوق الإسلامي وترفضه البلاغة القرآنية إذ هو دخول في مأزق من التأويل يصرف النص عن المتبادر منه من غير حاجة تدعو إليه فهو في الحقيقة تلاعب لا تأويل يقوم على أسس صحيحة.
هذا وكما قرر القرآن ثبات الأرض قرر حركة الشمس والقمر وجريانهما حولها قال الله تعالى (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) والتنوين في «كل» تنوين عوض أي كل منهما الشمس والقمر ولا ذكر للأرض.
وقال الله تبارك وتعالى (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم، لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون).
فقد أثبت للشمس جريانا وهو الحركة الانتقالية. أما الحركة الرحوية - أي المحورية على حد تعبير الفلكيين - فلا تسمى جرياناً في لغة العرب بل دوراناً. والنص ناطق بالجريان ثم قال الشيخ محمد الحامد.
ويتضح من مجموع ما ذكرنا في هذا الفصل أن البرهان العلمي لا يساعد على القول بحركة الأرض بل هو معين لثباتها وأن الحركة للشمس والقمر. وأن حمل بعض الآيات الشريفة على غير ما تدل مجموعة النصوص عليه مما هو يعد موضع أخذ ورد عند الفلكيين أنفسهم فيه من الجراءة على القول في القرآن بغير علم ما لا يخفى وقد قال
سيدنا رسول الله صلوات الله تعالى وسلامه عليه وعلى آله «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» .
ولما سئل أبو بكر الصديق رضي الله عنه عن معنى الأب في قوله تبارك وتعالى (وفاكهة وأبا) لم يرد وجعل يقول «أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن قلت في كتاب الله برأيي» وكذلك يجب أن يكون المسلم هيابا لله تعالى وقافا عند حدوده سبحانه. والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
فصل
ومن أغرب الاستدلال على حركة الأرض وسيرها بل من أقبح التهور والجراءة على القول في كتاب الله بغير علم ما نقله الشيخ محمد بن يوسف الكافي عن محمد بخيت المطيعي الذي كان مفتيا لمصر فيما سبق.
وقد تعقبه الشيخ الكافي ورد عليه ردا وافيا كافيا. وأنا أذكر ههنا كلام المطيعي والرد عليه. وقد زدت في بعض المواضع منه زيادات صدرتها بكلمة «قلت» ليعلم أنها ليست من كلام الكافي والله الموفق.
قال الشيخ الكافي في كتابه «المسائل الكافيّة. في بيان وجوب صدق خبر رب البرية» .
(المسألة الخامسة والسبعون) اتصل بيدي منذ خمسة أيام رسالة تسمى «تنبيه العقول الإنسانية. لما في آيات القرآن من العلوم الكونية والعمرانية» تأليف محمد بخيت المطيعي مفتي الديار المصرية سابقا. اخترع فيها علوما لم يسبق بمثلها وادعى أن القرآن العظيم يدل على ما اخترعه. ولمز من تقدمه من عصر النبوة إلى قبل عصره بالقصور والجهل وتقليد علماء اليونان في سكون الأرض. فأردت تتبع بعض ما اخترعه فإن وجدت القرآن العظيم يدل عليه تصريحا أو تلويحا قبلته وكرامة. وإن وجدته أخذه من علوم الغربيين والقرآن بريء منه رددته ولا ندامة. ويوم القيامة يفصل بينه وبين من لمزهم وهم برءاء.
وفي صحيح الأخبار «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار» .
ثم إني أذكر المبحث الذي يتكلم فيه بتمامه ثم أكر عليه نقضاً والله المعين لي على ذلك.
ثم قال الشيخ الكافي.
(المسألة السادسة والسبعون) قال المفتي.
(دوران الأرض وأخذه من القرآن) قال تعالى (الذي جعل لكم الأرض فراشا) وقال (أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا) وقال (جعل لكم الأرض مهدا) وقال (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا) وقال في سورة الأنبياء (كل في فلك يسبحون) وفي سورة يس (وكل في فلك يسبحون) وقال (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء).
وكل هذه الآيات تدل بظاهرها على أن الأرض متحركة ودائرة كما هو قول فيثاغورس قديما وقول علماء الهيئة اليوم. وذلك أنه ثبت بالمشاهدات الصحيحة أن الأرض على شكل كرة مفرطحة نحو قطبيها منتفخة عند خط الاستواء. وقد أطبق المحققون من المفسرين وجميع علماء الكلام وفلاسفة الإسلام على أن الأرض كرة وعدوا إنكار ذلك مكابرة فمن أقام الدليل على خلاف ذلك فقد أراد التشكيك في اليقينيات وكابر نفسه وأنكر حسه فلا يعول عليه ولا يلتفت إليه. فكان انتفاخها نحو خط الاستواء وتفرطحها نحو القطبين دليلا حسيا يدل على أن الأرض كانت سائلة في مبدأ خلقها وأنها متحركة بحركة رحوية ودائرة على محورها وذلك لأن الكرة إذا كانت صلبة كالتي من العاج مثلا لا يتغير شكلها ولو دارت على محورها قرونا كثيرة. وأما إذا كانت سائلة أو عجينة انتفخت نحو وسطها وتفرطحت نحو قطبيها وبذلك جمدت قشرتها أيضا وبردت ولو كانت ساكنة لبقيت جرما غازيا سائلا فلا تصلح لأن تكون فراشا ولا مهدا ولا ذلولا فثبت بذلك حركتها على محورها التي بها يتعاقب الليل والنهار.
وأما حركتها حول الشمس فسببها أن الشمس أكبر جرما من الأرض أضعافا مضاعفة وكلما كان الجرم أكبر كان أكثر وأقوى جاذبية من الأصغر. فالشمس هي التي تجذب الأرض إليها من كل الجوانب لما تقرر على وجه ما ذكر في علم رفع الأثقال بالتجربة العلمية الصحيحة وبذلك تبين أن هذه الآيات بظاهرها تدل على أن الأرض ليست
منقادة إلى حركة رحوية بها تدور على محورها ويتكون منها تعاقب الليل والنهار فقط بل تتحرك أيضا حركة أخرى حول الشمس تتكون منها السنة وفصولها. وأما قوله تعالى (كل في فلك يسبحون) فوجه دلالته أن القاعدة العربية في الضمير الذي يعود على المضاف إليه الذي ناب عنه التنوين في لفظ كل أنه يجوز فيه الإفراد والتثنية إن كان مرجع الحقيقي مثنى فالتثنية لمراعاة المعنى والإفراد لمراعاة اللفظ وقد جاء الضمير في قوله (يسبحون) جمعا فكان مرجعه جمعا وعلى هذا اتفق المفسرون غير أنهم أولوا ذلك بتآويل شتى ما دعاهم لارتكابها إلا اعتقاد ما قاله البطليموسية من اليونان من أن الأرض ساكنة مع أنه لم يقم دليل على سكون الأرض بل الدليل قائم على دورانها فلا داعي للتأويل بل يجب أن تبقى الآيتان على ظاهرهما ويعود الضمير على الأجرام الثلاثة التي هي الأرض والشمس والقمر. وممن استدل على دوران الأرض في تفسيره بهاتين الآيتين وبقوله تعالى (الذي جعل لكم الأرض فراشا) ونظائرها من الآيات صاحب كشف الأسرار النورانية القرآنية.
وأما قوله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة) الآية فوجه دلالتها على دوران الأرض أن معناها أنا نرى الجبال نظنها بحسب ما يتراآى لنا ساكنة وهي في الواقع ونفس الأمر تمر مر السحاب وتسير سيرا حثيثا وما ذلك إلا لأن الأرض متحركة بحركة سريعة جدا والجبال تسير وتتحرك تبعا لها لأنه لا جائز أن تكون الجبال متحركة هذه الحركة وحدها والأرض ساكنة لأنه لو كان الأمر كذلك لانفصلت الجبال عن الأرض وهو خلاف المشاهد فتبين أن حركتها إذاً هي بالتبعية لحركة الأرض ولا جائز أن يكون ما نراه على الوجه الذي جاءت به الآية وقت النفخة الأولى أو النفخة الثانية كما قيل بذلك لأنه في كل الوقتين لا يكون هناك بقاء ولا وجود للجبال على الأرض على الوجه الذي يلائمه قوله تعالى في الآية (صنع الله الذي أتقن كل شيء) لأن يوم النفختين هو اليوم الذي ترجف فيه الجبال وتكون كثيبا مهيلا وهو اليوم الذي ينسف الله فيه الجبال نسفا. فيذرها قاعا صفصفا. لا ترى فيها عوجا ولا أمتا. وهو اليوم الذي تكون فيه الجبال كالعهن المنفوش والناس كالفراش المبثوث. إلى غير ذلك من الأحوال والأهوال التي لا تناسب أن يقال ويخاطب كل من يصح منه الرؤية (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء) لأن مثل هذا القول إنما
يقال لحض الناس المخاطبين على النظر في ذلك الصنع المتقن والتفكير فيما اشتمل عليه من الحكم ليزدادوا إيماناً ويقينا وليس يوم النفختين صالحا لمثل هذا.
إذا علمت كل ما قلناه في خلق السموات والأرض تعلم أن العاقل المنصف إذا نظر في هذه اللطائف التي اشتملت عليها تلك الآيات القرآنية وما دلت عليه من تدبير الصانع الحكيم نظر منصف مجردا عن التعصب علم علما يقينا واعتقد اعتقادا جازما أن القرآن قد اشتمل على كثير من مباحث العلوم العمرانية والكونية وأن كل ما قيل غير ذلك فرية بلا مرية كيف وقد دلت على أن الله تعالى حكيم مقتدر عليم حيث جعل الأرض كرة دائرة لتكون فراشا ومهدا وذلولا أ. هـ.
قال الشيخ الكافي في الرد على المطيعي.
(المسألة السابعة والسبعون).
(قوله) دوران الأرض وأخذه من القرآن.
(لا يصح) كما تقف عليه إن شاء الله تعالى.
(قوله) قال الله تعالى (الذي جعل لكم الأرض فراشا) إلى قوله وكل هذه الآيات تدل بظاهرها على أن الأرض متحركة ودائرة.
(لا يصح) لأن الآيات تدل دلالة صريحة على أن الأرض ثابتة غير دائرة ليتم الاستقرار عليها وتثبت عليها أرجل الحيوانات وتكون مهدا وفراشا وبساطا وذلولا وقرارا إذا كانت ثابتة غير متحركة وأما إذا كانت متحركة وحركتها في السرعة كحركة السحاب الذي تذروه الرياح فلا عاقل يقول إنها بهذه الصفة تكون مهدا وقرارا إلى آخر ما ذكر ثم ذكر الكافي كلام الرازي على قول الله تعالى (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) وقد تقدم ذكره قريبا في أول ما نقلنا من كلام الكافي فليراجع.
وتقدم أيضا الاستدلال بالآيات من سورة البقرة وسورة النمل وسورة الزخرف وسورة الملك على ثبات الأرض واستقرارها والاستدلال بالآيتين من سورة الأنبياء وسورة يس على جريان الشمس في الفلك وكلام المفسرين في ذلك فليراجع فالعمدة عليه لا على كلام الملحدين في آيات الله تعالى المحرفين للكلم عن مواضعه كالمطيعي وأشباهه من تلامذة الإفرنج ومقلديهم.
ثم قال الكافي في الرد على المطيعي.
(قوله) كما هو رأي فيثاغورس قديما وقول علماء الهيئة اليوم.
(لا يكون) حجة في الموضوع لأن الموضوع الذي التزمه أن القرآن يؤخذ منه حركة الأرض. وقول فيثاغورس ومن معه ليس بقرآن.
(قوله) وذلك أنه ثبت بالمشاهدات الصحيحة إلى قوله عند خط الاستواء.
(لا ينجح) في الموضوع لأنه لم يؤخذ ذلك من القرآن.
(قوله) وقد أطبق المحققون إلى قوله ولا يلتفت إليه.
(خارج) عن موضوع البحث وهو دوران الأرض وأخذه من القرآن فلا فائدة فيه.
(قوله) فكان انتفاخها نحو خط الاستواء وتفرطحها نحو القطبين دليلا حسيا على أن الأرض كانت سائلة في مبدأ خلقها.
لا يؤخذ ذلك من القرآن (وهو غيب عنا فيحتاج إلى وحي يسفر على ما ادعاه ولا وحي. والذي تدل عليه الآيات والآثار أن الله تعالى خلق الأرض على الوصف الذي نشاهده لا أنها انتقلت من طور إلى طور كأطوار الجنين في بطن أمه).
(قوله) وأنها متحركة إلى قوله وتفرطحت نحو قطبيها.
(لا يؤخذ) من القرآن فلا يعول عليه كما تقدم.
(قوله) وبذلك جمدت قشرتها أيضا وبردت (لا يؤخذ من القرآن أيضا كما هو موضوع كلامه فلا ينظر إليه).
(قوله) ولو كانت ساكنة لبقيت جرماً غازياً سائلاً.
(غير صحيح) بل هي ساكنة. ودعوى كون جرمها غازيا سائلا دون إثباته خرط القتاد لأن ذلك من الأمور الغيبية التي لا تعلم إلا من طريق الوحي ولا وحي.
(قوله) فلا تصلح لأن تكون فراشا ولا مهدا ولا ذلولا.
(غير صحيح) بل لا تصح لأن تكون مهدا وذلولا وفراشا إلا إذا كانت ساكنة كما هو المعقول والمنقول.
(قوله) فثبت بذلك حركتها على محورها التي بها يتعاقب الليل والنهار.
(لا يثبت) إلا عنده وعند من يتخيل تخيلاته.
(قوله) وأما حركتها حول الشمس إلى قوله العملية الصحيحة.
(لا يصح) لأن أصل الحركة لها غير ثابت فضلا عن حركتها حول الشمس لأنه
لا دليل على ما ذكره من القرآن المدعى أنه يثبت دوران الأرض من القرآن فلم يثبته لنا ثبوتا مسلما ولن يستطيع أن يثبته.
قلت وزعم المطيعي تقليدا لأهل الهيئة الجديدة من فلاسفة الإفرنج أن جرم الشمس أكبر من الأرض بأضعاف مضاعفة لا دليل عليه من كتاب ولا سنة وإنما يعتمد أهل الهيئة الجديدة في ذلك على نظاراتهم وآرائهم وتخرصاتهم وظنونهم التي لا تغني من الحق شيئا.
والظاهر من أدلة الكتاب والسنة أن جرم الأرض أكبر من الشمس والقمر والنجوم وسيأتي إيراد الأدلة على ذلك مع الكلام على بطلان الهيئة الجديدة إن شاء الله تعالى.
وأما زعمه أن الشمس تجذب الأرض إليها من كل الجوانب. فهو قول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا معقول صحيح. وما ليس عليه دليل فليس عليه تعويل.
وقد جاء في عدة أحاديث صحيحة أن الشمس تدني من الأرض يوم القيامة. وفي بعضها أنها تكون من الناس بقدر ميل. وقد تقدم ذكر هذه الأحاديث مع الأدلة على ثابت الأرض فلتراجع ففيها إبطال لما زعمه المطيعي وسلفه أهل الهيئة الجديدة من جاذبية الشمس للأرض.
ولو فرضنا أن بين الأرض والشمس جاذبية لكانت للأرض لا للشمس لأن الشمس هي التي تجري وتدور على الأرض. وإذا كان يوم القيامة أدنيت من الأرض حتى تكون من الناس بقدر ميل ثم تكور هي والقمر ويرمى بهما في البحر كما تقدم ذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنه والله أعلم.
ثم قال الشيخ الكافي في الرد على المطيعي.
(قوله) وبذلك تبين أن هذه الآيات بظاهرها تدل على أن الأرض ليست منقادة إلى حركة رحوية بها تدور على محورها ويتكون منها تعاقب الليل والنهار فقط بل تتحرك أيضا حركة أخرى حول الشمس تتكون منها السنة وفصولها.
(غير صحيح) لأن الآيات التي ذكرها لم تدل بظاهرها ولا بباطنها ولم تشعر مطلق إشعار بأن الأرض تتحرك على محورها ويتعاقب الليل والنهار بسبب تلك الحركة.
ومن باب أولى في عدم دلالتها على حركة الأرض حول الشمس وإنما هي دعوى ادعاها على الآيات وهي بريئة من دعواه.
قلت وذلك من الإلحاد في آيات الله وتحريف الكلم عن مواضعه. وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى من فسر القرآن والحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم. عن مواضعه.
(قوله) وقد جاء الضمير في قوله (يسبحون) جمعا فكان مرجعه جمعا.
(غير صحيح) بل المرجع مثنى لا غير وهو الشمس والقمر وإطلاق الجمع على المثنى والمثنى على الجمع والمفرد عليهما وهما على المفرد سائغ في لغة العرب.
وبعضهم اعتبر المرجع جمعا بزيادة النجوم على الشمس والقمر ولا قائل برجوعه إلى الأرض.
قلت وقد اعتبر بعضهم المرجع جمعا بزيادة الليل والنهار مع الشمس والقمر. قال ابن جرير في تفسير سورة يس وقوله (وكل في فلك يسبحون) يقول وكل ما ذكرنا من الشمس والقمر والليل والنهار في فلك يجرون. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ثم روى بإسناده عن مجاهد أنه قال يجري كل واحد منهما يعني الليل والنهار (في فلك يسبحون) يجرون.
وقال ابن كثير في تفسير سورة يس. وقوله تبارك وتعالى (وكل في فلك يسبحون) يعني الليل والنهار والشمس والقمر كلهم يسبحون أي يدورون في فلك السماء قاله ابن عباس وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة وعطاء الخراساني انتهى.
وهذا هو الظاهر من سياق الآيات من سورة الأنبياء وسورة يس حيث ذكر تبارك وتعالى الليل والنهار والشمس والقمر ثم قال (وكل في فلك يسبحون).
وقد قرر هذا شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى فقال في جوابه له.
وقوله (كل في فلك يسبحون) يتناول الليل والنهار والشمس والقمر كما بين ذلك في سورة الأنبياء وكذلك في سورة يس (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون. والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم. والقمر قدرناه منازل حتى عاد
كالعرجون القديم. لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) فتناول قوله (وكل في فلك يسبحون) ما تقدم الليل والنهار والشمس والقمر كما ذكر في سورة الأنبياء.
وقال الشيخ أيضا في جواب آخر والله سبحانه قد أخبر بأن الشمس والقمر والليل والنهار كل ذلك يسبح في الفلك فقال تعالى (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) وقال تعالى (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون) والفلك هو المستدير كما ذكر ذلك من ذكره من الصحابة والتابعين وغيرهم من علماء المسلمين. والمستدير يظهر شيئا بعد شيء فيراه القريب منه قبل البعيد عنه انتهى.
وأما إعادة الضمير في قوله تعالى (وكل في فلك يسبحون) إلى الأرض مع الشمس والقمر فهو من الإلحاد في آيات الله تعالى وتحريف الكلم عن مواضعه ولا يقول بذلك إلا المفتونون بزخارف الإفرنج وتخرصاتهم وظنونهم الكاذبة كالمطيعي وأشباهه من العصريين الذين يتمسكون بأقوال أعداء الله تعالى ويقدمونها على نصوص الكتاب والسنة ويتأولون القرآن على غير تأويله.
ثم قال الشيخ الكافي في الرد على المطيعي.
(قوله) وعلى هذا اتفق المفسرون غير أنهم أولوا ذلك بتآويل شتى.
(صحيح) غير أنهم لم يخرجوا بتأويلهم عما يقتضيه لسان العرب والقرآن العظيم الذي نزل بلغتهم فهم سادة يمدحون.
(قوله) ما دعاهم لارتكابها إلا اعتقاد ما قاله البطليموسية من اليونان من أن الأرض ساكنة.
(غير صحيح) ودعواه عليهم تقليد البطليموسية فرية بلا مرية بل إنما اتبعوا القرآن وما ثبت من الأقوال عن السلف الصالح حسب ما تقدم وحسب ما يأتي إن شاء الله تعالى.
(قوله) مع أنه لم يقم دليل على سكون الأرض.
(غير صحيح) بل الدليل على سكونها قائم من القرآن وغيره كما تقدم في المسألة الموفية عشرين وكما يأتي إن شاء الله تعالى.
قلت قد تقدم ذكر المسألة العشرين في أول ما نقلته من كلام الكافي فلتراجع.
(قوله) بل الدليل قائم على دورانها.
(غير صحيح) لأنه لم يقم لنا دليلا من القرآن مسلما على دوران الأرض. وأما أنه ثابت عند فيثاغورس التابع له هو فذاك خارج عما ادعاه من إثبات دوران الأرض من القرآن. والمسلمون لم يسلموا دعوى فيثاغورس ومن كان على شاكلته.
(قوله) فلا داعي للتأويل.
(غير صحيح) بل التأويل واقع في محله.
(قوله) بل الواجب أن تبقى الآيتان على ظاهرهما ويعود الضمير على الأجرام الثلاثة التي هي الأرض والشمس والقمر.
(غير صحيح) بل يجب عوده على الشمس والقمر لا غير لأن عوده على الأرض بديه البطلان لأنه لا فلك لها تسبح فيه على فرض سبحها الباطل لأن الأفلاك من العلويات والأرض من العالم السفلي.
قلت الصحيح أن الضمير عائد على الليل والنهار والشمس والقمر وقد تقدم تقرير هذا قريباً في كلام ابن جرير وأبي العباس ابن تيمية والعماد ابن كثير رحمهم الله تعالى. وقد حكاه ابن جرير عن أهل التأويل. يعني المفسرين. وحكاه ابن كثير عن ابن عباس وعكرمة والضحاك والحسن وقتادة وعطاء الخراساني وبذلك تبقى الآيتان على ظاهرهما ولا يحتاج مع ذلك إلى التأويل. وأما الزيادة على ما أخبر الله به في كتابه كما فعل المطيعي في إدخاله الأرض مع الشمس والقمر فيما أخبر الله به من السبح في الفلك وإعراضه عما أخبر الله به من سبح الليل والنهار فيه فذلك إلحاد في آيات الله تعالى وتحريف للكلم عن مواضعه وليس ذلك من التأويل الجائز في شيء.
ثم قال الشيخ الكافي في الرد على المطيعي.
(قوله) وممن استدل على دوران الأرض إلى قوله النورانية القرآنية.
(لا يفيد شيئاً) لأنه يقال في استدلاله ما قيل في استدلال مفتي مصر سابقاً بلا فرق.
(قوله) وأما قوله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة) الآية فوجه دلالتها على دوران الأرض أن معناها أنا نرى الجبال نظنها بحسب ما يتراءى لنا ساكنة إلى قوله والجبال تسير وتتحرك تبعاً لها.
(غير صحيح) ما أراده من الآية بل المعنى الصحيح للجبال هو أن لها وصفين أحدهما في حال وجود الدنيا هو ثبوتها في نفسها وثبوت الأرض بها كما هو صريح القرآن العظيم. وثانيهما بعد أيام الدنيا وهو مرورها مر السحاب في الواقع ونفس الأمر وجامدة ساكنة بحسب ما يتراءى للناظر إليها.
(وقوله) لأنه لا جائز أن تكون الجبال متحركة هذه الحركة وحدها والأرض ساكنة لأنه لو كان الأمر كذلك لانفصلت الجبال عن الأرض وهو خلاف المشاهد.
(كلام قليل الجدوى) لأن الجبال في حال الدنيا لا تتحرك هذه الحركة لا بنفسها ولا تبعاً للأرض وإنما تتحرك هذه الحركة وحدها يوم القيامة وتنفصل عن الأرض وتبقى الأرض بارزة.
(قوله) فتبين أن حركتها إنما هي بالتبعية لحركة الأرض (غير صحيح) لأنه لم يتبين شيء بل المتبين في نظر الناظر وفي الواقع ونفس الأمر سكونهما معاً في هذه الدار.
(قوله) ولا جائز أن يكون ما نراه على الوجه الذي جاءت به الآية وقت النفخة الأولى أو النفخة الثانية كما قيل بذلك (يقال للمفتي) هو الجائز والواقع والقول بوقوع ذلك بعد النفخة الثانية أرجح في النظر وما تستند إليه مما يقوي قولك التابع فيه لفيثاغورس ويضعف قول من يقول بسيرها بعد وقوع النفخة الأولى أو النفخة الثانية سنرده إن شاء الله تعالى رداً يفقهه من له أدنى إلمام بالعلم.
(قوله) لأنه في كل من الوقتين لا يكون هناك بقاء ولا وجود للجبال على الأرض على الوجه الذي يلائمه قوله تعالى في الآية (صنع الله الذي أتقن كل شيء).
(حق وصدق) بالنسبة لعدم بقاء ووجود الجبال على وجه الأرض.
(وغير حق وصدق) بالنسبة لعدم ملائمة ذلك للآية بل هو ملائم للآية تمام الملاءمة. وذلك أن تسيير الجبال الراسيات الشامخات تسييرا في الجو حثيثاً ويظن الناظر إليها أنها جامدة أي ثابتة في مكانها والحال أنها تمر مر السحاب هو صنع الله المتقن وكل أفعال الله متقنة فهو سبحانه وتعالى أرسى بها الأرض في الدار الأولى فأتقن إرساءها وسيرها في الدار الآخرة فأتقن تسييرها.
(قوله) لأن يوم النفختين هو اليوم الذي ترجف فيه الجبال وتكون كثيباً مهيلاً وهو اليوم الذي ينسف الله فيه الجبال نسفاً - إلى قوله - من الأحوال والأهوال.
(صحيح) غير أنه ترك من أوصافها أن الناظر إليها يخيل لها أنها جامدة أي ثابتة في أماكنها والواقع أنها تمر مر السحاب (قوله) التي لا تناسب أن يقال ويخاطب كل من يصح منه الرؤية (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء).
(غير صحيح) بل لا يناسب إلا هو لأن أصل الخطاب لبيان هول وشدة ذلك اليوم لا غير ومن ادعى خلاف هذا فلم يمعن النظر في سابق (وترى الجبال) وهو (وإذا وقع القول)(ويوم ينفخ في الصور) ولو أمعن لما تفوه بما قال إلا إذا رسخ في ذهنه مذهب فيثاغورس وأهل الهيئة الحديثة.
(قوله) لأن مثل هذا القول إنما يقال لحض الناس المخاطبين على النظر في ذلك الصنع المتقن والتفكر فيما اشتمل عليه من الحكم ليزدادوا إيماناً ويقيناً.
(غير صحيح) لأن الخطاب هنا ليس لحظ المخاطبين إلى آخر ما قال. بل هو لبيان هول ذلك اليوم كما تقدم وكما يأتي في كلام الراسخين في العلم. وإنما جاء الخطاب للناس ليتفكروا في نصب الجبال على الأرض المشاهد لهم في قوله تعالى في سورة الغاشية (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت. وإلى السماء كيف رفعت. وإلى الجبال كيف نصبت. وإلى الأرض كيف سطحت). وأما أنهم يتذكرون ويزدادون إيماناً ويقيناً بشيء لم يشاهدوه ولم يخطر ببالهم فهذا مما لا يساعده عقل ولا نقل.
(قوله) وليس يوم النفختين صالحاً لمثل هذا.
(صحيح في حد ذاته) لأنه لبيان هول ذلك اليوم لا للتذكير والوعظ (قوله) إذا علمت ما قلنا في خلق السماوات والأرض تعلم أن العاقل المنصف إذا نظر في هذه اللطائف التي اشتملت عليها تلك الآيات القرآنية - إلى قوله العمرانية والكونية.
(غير صحيح) بالنسبة لما قرره في دوران الأرض وإنه لم يأت بلطيفة واحدة تذكر إلا بلطيفة وهي مخالفته لصريح نص القرآن وهجرانه لما قرره علماء المسلمين من الصدر الأول إلى وقتنا هذا واعتناقه مذهب فيثاغورس ومن كان على شاكلته. والقرآن تنزه ساحته عن مثل هذا اللغو.
(قوله) وأن كل ما قيل غير ذلك فرية بلا مرية.
(معكوس) أعني ما قرره هو فرية بلا مرية.
(قوله) كيف وقد دلت على أن الله تعالى حكيم عليم حيث جعل الأرض كرة دائرة لتكون فراشاً ومهداً وذلولا.
(غير صحيح) بالنسبة لكون الله تعالى جعل الأرض كرة دائرة لأنه لا شيء من القرآن يدل على ذلك البتة كما تقدم. وأما كونه سبحانه وتعالى حكيماً مقتدراً عليماً فهذا ثابت له بنص الكتاب بقطع النظر عن كون الأرض كرة دائرة أو غير كرة وغير دائرة.
ذكر أقوال بعض علماء المسلمين الذين لمزهم مفتي مصر سابقاً بكونهم ما دعاهم لقولهم بسكون الأرض إلا تقليد البطليموسية من اليونان. وسيحاكمونه يوم القيامة عند الله تعالى.
(قال الشربيني)(وترى الجبال) أي تبصرها وقت النفخة والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم لكونه أنفذ الناس بصراً وأنورهم بصيرة أو لكل أحد (تحسبها) أي تظنها (جامدة) أي قائمة ثابتة في مكانها لا تتحرك لأن الأجرام الكبار إذا تحركت في سمت واحد لا تكاد تتبين حركتها (وهي تمر) أي تسير حتى تقع على الأرض فتستوي بها مبثوثة ثم تصير كالعهن ثم تصير هباء منثوراً، وأشار تعالى إلى أن سيرها خفي وإن كان حثيثاً بقوله تعالى (مر السحاب) أي مراً سريعاً لا يدرك على ما هو عليه أ. هـ. باختصار.
(الرازي) قوله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون). اعلم أن هذا هو العلامة الثالثة لقيام الساعة وهي تسيير الجبال والوجه في حسبانهم أنها جامدة فلأن الأجسام الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت والكيفية ظن الناظر إليها أنها واقفة مع أنها تمر مراً حثيثاً. أما قوله (صنع الله) فهو من المصادر المؤكدة كقوله تعالى (وعد الله)(وصبغة الله) إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ليوم ينفخ. والمعنى أنه لما قدم ذكر هذه الأمور التي لا يقدر عليها سواه جعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب أ. هـ باختصار.
ثم قال الشيخ الكافي:
(قال أبو السعود) على قوله تعالى (وترى الجبال) عطف على ينفخ داخل في حكم التذكير، وقوله عز وجل (تحسبها جامدة) أي ثابتة في أماكنها (وهي تمر مر السحاب) أي تراها رأي العين ساكنة والحال أنها تمر مر السحاب التي تسيرها الرياح سيراً حثيثاً - إلى أن قال - وهذا مما يقع بعد النفخة الثانية عند حشر الخلائق يبدل الله عز وجل الأرض غير الأرض ويغير هيئتها ويسير الجبال عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة ليشاهدها أهل المحشر. وهي وإن اندكت وتصدعت عند النفخة الأولى لكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكونان بعد النفخة الثانية أ. هـ باختصار.
(الرازي) عند قوله تعالى (وسيرت الجبال فكانت سراباً) قال اعلم أن الله تعالى ذكر في مواضع من كتابه أحوال هذه الجبال على وجوه مختلفة ويمكن الجمع بينها على الوجه الذي نقوله وهو أن أول أحوالها الاندكاك وهو قوله (وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة).
والحالة الثانية لها أن تصير كالعهن المنفوش. وذكر الله ذلك في قوله (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث. وتكون الجبال كالعهن المنفوش) وقوله (يوم تكون السماء كالمهل. وتكون الجبال كالعهن).
والحالة الثالثة أن تصير كالهباء وذلك أن تتقطع وتتبدد بعد أن كانت كالعهن وهو قوله (إذا رجت الأرض رجاً. وبست الجبال بساً. فكانت هباء منبثاً).
والحالة الرابعة أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها بإرسال الرياح عليها وهو المراد من قوله (فقل ينسفها ربي نسفاً).
والحالة الخامسة أن الرياح ترفعها عن وجه الأرض فتطيرها شعاعاً في الهواء كأنها غبار فمن نظر إليها من بعد حسبها أجساماً جامدة لتكاثفها وهي في الحقيقة مارة إلا أن مرورها بسبب مرور الرياح بها مندكة متفتتة وهي قوله (وهي تمر مر السحاب). ثم بين أن تلك الحركة حصلت بقهره وتسخيره فقال (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة).
والحالة السادسة أن تصير سراباً بمعنى لا شيء فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئا كما أن من يرى السراب من بعد إذا أتى الموضع الذي كان يراه فيه لم يجده شيئاً والله
أعلم واعلم أن الأحوال المذكورة إلى ههنا هي أحوال عامة القيامة أ. هـ المراد منه.
(أبو السعود) قال عند قوله تعالى (وسيرت الجبال) أي في الجو على هيئاتها بعد قلعها من مقارها كما يعرب عنه قوله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) أي تراها رأي العين ساكنة في أماكنها والحال أنها تمر مر السحاب الذي تسيره الرياح سيراً حثيثاً وذلك أن الأجرام العظام إذا تحركت نحواً من الأنحاء لا تكاد تتبين حركتها وإن كانت في غاية السرعة لاسيما من بعيد. وقد أدمج في هذا التشبيه تشبيه حال الجبال بحال السحاب في تخلخل الأجزاء وانتفاشها كما ينطق به قوله تعالى (وتكون الجبال كالعهن المنفوش) يبدل الله تعالى الأرض ويغير هيئتها ويسير الجبال على تلك الهيئة الهائلة عند حشر الخلائق بعد النفخة الثانية ليشاهدوها ثم يفرقها في الهواء وذلك قوله تعالى (فكانت سراباً) أي فصارت بعد تسييرها مثل السراب كقوله تعالى (وبست الجبال بساً، فكانت هباء منبثاً) أي غباراً منتشراً. وهي وإن اندكت وانصدعت عند النفخة الأولى لكن تسييرها وتسوية الأرض إنما يكونان بعد النفخة الثانية كما نطق به قوله تعالى (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً. فيذرها قاعاً صفصفاً. لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً، يومئذ يتبعون الداعي) وقوله تعالى (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار) فإن اتباع الداعي الذي هو إسرافيل وبروز الخلق لله تعالى لا يكون إلا بعد الثانية أ. هـ.
قلت وقال ابن جرير في تفسير سورة النمل يقول تعالى ذكره (وترى الجبال) يا محمد (تحسبها جامدة وهي تمر) كالذي حدثني علي قال حدثنا أبو صالح قال حدثني معاوية عن علي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله (وترى الجبال تحسبها جامدة) يقول قائمة وإنما قيل وهي تمر مر السحاب لأنها تجمع ثم تسير فيحسب رائيها لكثرتها أنها واقفة وهي تسير سرياً حثيثاً كما قال النابغة الجعدي:
بأرعن مثل الطود تحسب أنهم
…
وقوف لحاجٍ والركاب تهملج
وقال أبو الفرج ابن الجوزي في تفسيره. قوله تعالى (وترى الجبال) قال ابن قتيبة هذا يكون إذا نفخ في الصور تجمع الجبال وتسير فهي لكثرتها تحسب (جامدة) أي واقفة (وهي تمر) أي تسير سير السحاب. وكذلك كل جيش عظيم يحسبه الناظر من
بعيد واقفاً وهو يسير لكثرته - ثم ذكر قول النابغة الجعدي في وصف الجيش وقد تقدم ذكره في كلام ابن جرير - ثم قال وقوله تعالى (صنع الله) قال الزجاج هو منصوب على المصدر لأن قوله (وترى الجبال تحسبها جامدة) دليل على الصنعة فكأنه قال صنع الله ذلك صنعاً.
ويجوز الرفع على معنى ذلك صنع الله، فأما الإتقان فهو في اللغة إحكام الشيء انتهى.
وقال البغوي في تفسيره. قال الله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة) قائمة واقفة (وهي تمر مر السحاب) أي تسير سير السحاب حتى تقع على الأرض فتسوى بها وذلك أن كل شيء عظيم وكل جمع كثير يقصر عنه البصر لكثرته وبعد ما بين أطرافه فهو في حسبان الناظر واقف وهو سائر كذلك سير الجبال لا يرى يوم القيامة لعظمها كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه وهو سائر انتهى.
وقال القرطبي في تفسيره. قوله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) قال ابن عباس أي قائمة وهي تسير سيراً حثيثاً. قال القتبي وذلك أن الجبال تجمع وتسير فهي في رؤية العين كالقائمة وهي تسير وكذلك كل شيء عظيم وجمع كثير يقصر عنه النظر لكثرته وبعد ما بين أطرافه وهو في حسبان الناظر كالواقف وهو يسير - ثم ذكر قول النابغة الجعدي في وصف الجيش العظيم وتقدم ذكره. ثم قال - قال القشيري وهذا يوم القيامة أي هي لكثرتها كأنها جامدة أي واقفة في مرأى العين وإن كانت في أنفسها تسير سير السحاب والسحاب المتراكم يظن أنها واقفة وهي تسير، أي تمر مر السحاب حتى لا يبقى منها شيء. قال الله تعالى (وسيرت الجبال فكانت سراباً). ويقال إن الله تعالى وصف الجبال بصفات مختلفة ترجع كلها إلى تفريغ الأرض منها وإبراز ما كانت تواريه. فأول الصفات الاندكاك وذلك قبل الزلزلة، ثم تصير كالعهن المنفوش وذلك إذا صارت السماء كالمهل وقد جمع الله بينهما فقال (يوم تكون السماء كالمهل وتكون الجبال كالعهن).
والحالة الثالثة أن تصير كالهباء وذلك أن تتقطع بعد أن كانت كالعهن.
والحالة الرابعة أن تنسف لأنها مع الأحوال المتقدمة قارة في مواضعها والأرض تحتها غير بارزة فتنسف عنها لتبرز. فإذا نسفت فبإرسال الرياح عليها.
والحالة الخامسة أن الرياح ترفعها على وجه الأرض فتطيرها شعاعاً في الهواء كأنها
غبار فمن نظر إليها من بعد حسبها لتكاثفها أجساماً جامدة وهي في الحقيقة مارة إلا أن مرورها من وراء الرياح كأنها مندكة متفتتة.
والحالة السادسة أن تكون سراباً فمن نظر إلى مواضعها لم يجد فيها شيئاً منها كالسراب قال مقاتل تقع على الأرض فتسوى بها انتهى. وقال ابن كثير في تفسيره، وقوله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) أي تراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه وهي تمر مر السحاب أي تزول عن أماكنها كما قال تعالى (يوم تمور السماء موراً. وتسير الجبال سيراً) وقال تعالى (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً. فيذرها قاعاً صفصفاً. لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً) وقال تعالى (ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة). وقوله تعالى (صنع الله الذي أتقن كل شيء) أي يفعل ذلك بقدرته العظيمة (الذي أتقن كل شيء) أي أتقن كل ما خلق وأودع فيه من الحكمة ما أودع انتهى.
وكلام المفسرين بنحو ما ذكرنا كثير جداً وكلهم على خلاف ما ذهب إليه المطيعي وأشباهه من تلامذة الإفرنج ومقلديهم من العصريين.
ثم قال الشيخ الكافي:
(المسألة الثامنة والسبعون) في بيان أن صنع الله تعالى كيف ما وقع لا يكون إلا متقناً سواء كان قبل النفختين أو بعدهما. وقَصْرُ مفتي مصر سابقاً ذلك على ما قبل النفختين وأن ما بعد النفختين لا ينبغي أن يخاطب به الناس لا ينظر إليه ولا يعول عليه.
(الجلال المحلي) قال في تفسير قوله تعالى (صنع الله) مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله أضيف إلى فاعله بعد حذف عامله أي صنع الله ذلك صنعاً (الذي أتقن) أحكم (كل شيء) صنعه. (العلامة زاده) قوله (صنع الله) مؤكد لمضمون الجملة قبله فإن ما تقدم من نفخ الصور المؤدي إلى الفزع العام وحضور الكل الموقف وما فعل بالجبال إنما هو من صنع الله لا يحتمل غيره.
(قال أبو السعود) على قوله تعالى (صنع الله) مصدر مؤكد لمضمون ما قبله أي صنع الله ذلك صنعاً على أنه عبارة عما ذكر من النفخ في الصور وما ترتب عليه جميعاً قصد به التنبيه على عظم شأن تلك الأفاعيل وتهويل أمرها والإيذان بأنها ليست بطريق
إخلال نظام العالم وإفساد أحوال الكائنات بالكلية من غير أن يدعو إليها داعية أو يكون لها عاقبة بل هي من قبيل بدائع صنع الله تعالى المبنية على أساس الحكمة المستتبعة للغايات الجميلة التي لأجلها رتب مقدمات الخلق ومبادئ الإبداع على الوجه المتين والنهج الرصين كما يعرب عنه قوله تعالى (الذي أتقن كل شيء أي أحكم خلقه وسواه على ما تقتضيه الحكمة). وقوله تعالى (إنه خبير بما تفعلون) تعليل لكون ما ذكر صنعاً محكماً له تعالى ببيان أن علمه تعالى بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها مما يدعو إلى إظهارها وبيان كيفيتها على ما هي عليه من الحسن والسوء وترتيب جزائها عليها بعد بعثهم وحشرهم وجعل السموات والأرض والجبال على وفق ما نطق به التنزيل ليتحققوا بمشاهدة ذلك أن وعد الله حق لا ريب فيه أ. هـ.
كتب الزمخشري على قوله تعالى (صنع الله) من المصادر المؤكدة كقوله وعد الله وصبغة الله إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ليوم ينفخ. والمعنى ويوم ينفخ في الصور وكان كيت وكيت أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين. ثم قال صنع الله يريد به الإثابة والمعاقبة وجعل هذا الصنع من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على الحكمة والصواب حيث قال (صنع الله الذي أتقن كل شيء) يعني أن مقابلة الحسنة بالثواب والسيئة بالعقاب من جملة إحكامه للأشياء وإتقانه لها وإجرائه لها على قضايا الحكمة أنه عالم بما يفعل العباد وبما يستوجبون فيكافيهم على حسب ذلك، ثم لخص ذلك بقوله (من جاء بالحسنة) إلى آخر الآيتين. فانظر إلى بلاغة هذا الكلام وحسن نظمه وترتيبه ومكانة إضماده - أي جمعه - ورصانة تفسيره وأخذ بعضه بحجزة بعض كأنما أفرغ إفراغاً واحداً. ولا مر ما أعجز القوى وأخرس الشقاشق - يعني الخطباء - ونحو هذا المصدر إذا جاء عقيب كلام جاء كالشاهد بصحته والمنادي على سداده وأنه ما كان ينبغي أن يكون إلا كما قد كان. ألا ترى إلى قوله صنع الله وصبغة الله ووعد الله وفطرة الله بعد ما وسمه بإضافتها إليه بسمة التعظيم كيف تلاها بقوله (الذي أتقن كل شيء)(ومن أحسن من الله صبغة)(لا يخلف الله الميعاد)(لا تبديل لخلق الله) أ. هـ محل الحاجة منه.
فصل
قال الصواف في تعقيبه على الشيخ عبد العزيز بن باز. ما نصه.
لقد قرأت بإمعان مقالك القيم (الشمس جارية والأرض ثابتة) ولمست الضجة الكبرى التي أحدثها في الأوساط العلمية والمجامع الثقافية وقد كان حديث المجالس وحديث الغادين والرائحين وكانوا ما بين موافق ومخالف ولم تكن الغرابة من موضوع المقال فالخلاف في هذا الأمر قديم وحديث، ولكن الضجة مما جاء في المقال من التكفير والتضليل والحكم بالردة حيث قلت بعد أن سقت بعض الأدلة «وهكذا علماء الإسلام المعروفون المعتمد عليهم في هذا الباب وغيره قد صرحوا بما دل عليه القرآن الكريم من كون الشمس والقمر جاريين في فلكهما على التنظيم الذي نظمه الله لهما وأن الأرض قارة ساكنة قد أرساها الله بالجبال وجعلها أوتاداً لها فمن زعم خلاف ذلك وقال إن الشمس ثابتة لا جارية فقد كذب الله وكذب كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، ثم قلت حفظك الله وكل من قال هذا القول فقد قال كفراً وضلالا لأنه تكذيب لله وتكذيب للقرآن وتكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم الخ» .
من هنا يا أخي انطلقت الضجة حتى أحدثت لها عجاجة في الأفق العلمي ما كان أغنانا عنها خاصة وقد صدمت هذه الفتوى الملايين من شباب ورجال يدينون بالإسلام في هذا العصر والذين أصبحوا يعتقدون أن مثل هذه الأمور أصبحت عندهم من المسلمات العلمية التي لا يجادل فيها اثنان فكيف تنفى نفياً قاطعاً ويكفر القائل بها ويحكم عليه بالردة ويستباح دمه وماله. نعم إن من كذب الله ورسوله وكذب كتابه فهو كافر مرتد ومجرم أثيم كما قلتم في مقالكم. وأنا أقول وعليه غضب الله ولعنته إلى يوم الدين.
والجواب عن هذا من وجوه، أحدها أن يقال أن بيان الحق واجب على العلماء وكتمانه حرام عليهم لقول الله تعالى (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) فدلت هذه الآية الكريمة على أنه لا يجوز للعلماء كتمان ما يعلمونه
من الحق بل يجب عليهم بيانه للناس سواء قبلوه منهم أو ردوه. وإذا حدث بسبب بيان الحق ضجة من الجهال لم يكن ذلك مانعاً من بيان الحق والدعاء إليه وإنكار الباطل والتحذير منه. وقد أحدثت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ضجة عظيمة عند المشركين ولم تكن ضجتهم مانعة له من بيان الحق والدعاء إليه وإنكار المنكر والتحذير منه.
وكذلك أهل الردة قد أحدثوا ضجة عظيمة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال عمر رضي الله عنه لأبي بكر رضي الله عنه يا خليفة رسول الله تألف الناس وارفق بهم فقال أجبار في الجاهلية وخوار في الإسلام. ولم تمنعه رضي الله عنه ضجتهم من قتالهم وردهم إلى الحق.
وكذلك أمير المؤمنين علي رضي الله عنه قد أحدث عليه الخوارج ضجة عظيمة ولم تكن ضجتهم مانعة له من دعوتهم إلى الحق وقتالهم عليه.
وكذلك الإمام أحمد وغيره من أهل السنة قد أحدث عليهم الجهمية وغيرهم من أهل البدع ضجة عظيمة ولم تكن ضجتهم مانعة لأحمد وغيره من بيان الحق والدعوة إليه وتكفير الجهمية وغيرهم ممن يستحق التكفير من أهل البدع.
وكذلك شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية وأصحابه قد أحدث عليهم القبوريون وأصناف أهل البدع ضجة عظيمة ولم تكن ضجتهم مانعة للشيخ وأصحابه من بيان الحق والدعوة إليه وإنكار الباطل والتحذير منه وتكفير من يستحق التكفير من القبوريين وأهل البدع.
وكذلك شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب وأنصاره وأولاده وأحفاده ومن سار على منهاجهم في بيان الحق والدعوة إليه قد أحدث عليهم القبوريون وأصناف أهل البدع ضجة عظيمة ولم تكن ضجتهم مانعة للشيخ وأتباعه من بيان الحق والدعوة إليه وإنكار الباطل والتحذير منه وتكفير من يستحق التكفير من القبوريين وأهل البدع.
وهكذا نقول فيما ذكره الصواف من ضجة أتباع أهل الهيئة الجديدة ومقلديهم من ضعفاء البصيرة أن ضجتهم ليست مانعة من بيان الحق وإنكار الباطل وتكفير من كذب الله وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثاني أن يقال ما هذا اللوم يا صواف على بيان الحق وإنكار الباطل. أترضى
لنفسك أن تكون من الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. ولو أنك وجهت لومك إلى الذين ينشرون المقالات في تأييد الباطل وأهله لكان خيراً لك من الجدال بالباطل لإدحاض الحق.
الوجه الثالث أن يقال ما يدريك أن الملايين من المسلمين يعتقدون صحة ما روجه أهل الهيئة الجديدة في استقرار الشمس ودوران الأرض عليها هل أخبروك بذلك عن أنفسهم أو أخبرك الثقاة عنهم، وإذا لم يخبروك فهل أنت مطلع على الغيب وعالم بما يعتقده الناس وإذا لم يكن عندك علم الغيب فلا بد لك من الأمر الثالث وهو اتباع الظن وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «الظن أكذب الحديث» متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الوجه الرابع أن يقال على سبيل الفرض والتقدير إذا كان الملايين من ضعفاء البصيرة قد انخدعوا لما روجه أعداء الله تعالى مما هو مخالف لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولما كان عليه الصحابة والتابعون وأئمة العلم والهدى من بعدهم فهل يكون قبولهم لزخارف أعداء الله تعالى وتأثرهم من بيان الحق ونشره موجباً لكتمانه ومانعاً من بيانه ونشره. كلا. بل الواجب بيان الحق ونشره ولو صدم الملايين الكثيرة، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمصيطر) وقال تعالى (فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب) وقال تعالى (إن عليك إلا البلاغ).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «بلغوا عني ولو آية» رواه الإمام أحمد والبخاري والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح.
وفي الصحيحين وغيرهما عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم من الله فيه برهان وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم» فالواجب على ورثة النبي صلى الله عليه وسلم أن يبلغوا عنه ويفرقوا بين الحق والباطل ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر سواء رضي الناس بذلك أو سخطوا.
الوجه الخامس أن يقال إذا كان الملايين من الناس يعتقدون صحة ما قاله أهل الهيئة الجديدة في استقرار الشمس ودوران الأرض عليها فهل يكون اعتقادهم ذلك دليلا على صحته في نفس الأمر حتى يتعين الأخذ به وتلغى لأجل ذلك النصوص الدالة على خلاف ما يعتقدون ويلغي أيضاً إجماع المسلمين على خلاف قولهم. كلا. بل الأخذ بالنصوص وإجماع المسلمين هو المتعين وما خالف ذلك فمضروب به عرض الحائط:
لا عبرة بمخالف لهمُ ولو
…
كانوا عديد الشاء والبعران
وقد كان الجهمية وغيرهم من أهل البدع يعتقدون صحة ما ذهبوا إليه من البدع ولم يكن اعتقادهم ذلك دليلا على صحة مذاهبهم في نفس الأمر.
وهكذا أهل الهيئة الجديدة وأتباعهم فإن قولهم في استقرار الشمس ودوران الأرض عليها قول باطل واعتقاد مخالف لاعتقاد أهل السنة والجماعة فلا يعول عليه بل يرد على قائليه.
الوجه السادس أن يقال ما أكثر المعارضين لأهل الهيئة الجديدة ومن يقلدهم ويحذو حذوهم من العصريين وعلى هذا فقول الصواف إن مثل هذه الأمور أصبحت عندهم من المسلمات العلمية التي لا يجادل فيها اثنان إن أراد أنه لا يجادل فيها أحد من علماء المسلمين فهو كذب واضح لأن كل متمسك بالكتاب والسنة يخالفهم فيما زعموه من استقرار الشمس ودوران الأرض عليها.
وقد ذكرنا إجماع المسلمين على وقوف الأرض وسكونها وإجماع أهل الكتاب على ذلك أيضاً.
وإن أراد أنه لا يجادل فيها أحد من المقلدين لأهل الهيئة الجديدة والمتمسكين بآرائهم وتخرصاتهم فو محتمل ولكن لا عبرة بهؤلاء ولا يعتد بأقوالهم في شيء من المسائل العلمية.
وأيضاً فهؤلاء المخدوعون بزخارف أعداء الله تعالى محجوجون بنصوص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على خلاف ما ذهبوا إليه كما تقدم إيضاحه.
وكل قول خالف نصاً أو إجماعاً فمضروب به عرض الحائط ومردود على قائله كائناً من كان وقد قال الله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع
غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً).
وإن أراد أنه لا يجادل فيها أحد من الفلكيين فهو كذب لأن الخلاف بين الفلكيين في هذه المسألة مشهور قديماً وحديثاً فأما الخلاف القديم فهو ما كان بين فيثاغورس وأتباعه وبين بطليموس وأتباعه، وقد ذكرت ذلك في أول الكتاب.
وأما الخلاف الحديث فهو ما كان بين أهل الهيئة الجديدة وبين من يعارضهم ويقول بخلاف قولهم من متأخري الفلكيين وقد قال محمد فريد وجدي في كتابه «كنز العلوم واللغة» أما دوران الأرض فهذا موضع الخلاف أقول الخلاف لأنه رغماً عن شيوع فكرة دورانها وتغلبها على النظرية المضادة لها لم تزل بين الأعلام الرياضيين موضع الشك.
وقال أيضاً في كتابه الذي سماه «الإسلام في عصر العلم» الأدلة على دوران الأرض حول الشمس غير حاصلة على صفة الأدلة المحسوسة حتى لا يمكن الخوض فيها كمسألة كرويتها ولذلك نرى نفراً من العلماء والرياضيين لا يزالون يتشككون في ذلك ويشككون غيرهم.
كتب المسيو درومون في جريدة «ليبربارول» الباريسية يقول لم يقم الدليل إلى الآن على صحة دوران الأرض كما كان يزعم «غاليليه» وغاليليه هو ناشر تعاليم كوبرنيك ولا على أنها مركز العالم الشمسي.
وهذا المسيو «بوانكاريه» أكبر علماء الهندسة والطبيعة الفرنساويين لم يجزم إلى الآن بدوران الأرض لأنه يقول، يقولون أن الأرض تدور وأنا لا أرى مانعاً من دورانها فإن فرض دورانها سهل القبول ويمكن به فهم كيفية تكوّن ونمو الدنيا وات ولكنه فرض لا يمكن إثباته ولا نفيه بالأدلة المحسوسة، وهذا الفضاء المطلق أي الحيز الذي يلزم نسبة الأرض إليه للتحقق من دورانها أو عدم دورانها ليس له وجود في ذاته. قال ومن هنا ترى أن قولهم الأرض دائرة لا معنى له البتة لأنه ليس في وسع أي تجربة إثباته لنا بالحس وجاء في جريدة «اكلبر» الفرنساوية تحت إمضاء بعض الكاتبين قوله ليس من المحقق الثابت أن الأرض دائرة.
ونقل محمد فريد وجدي أيضاً عن الأستاذ الفلكي الطائر الصيت الذي يعد أول رياضي الآن في البلاد الفرنساوية كلاماً طويلا في الرد على القول بدوران الأرض وقال في آخره.
ومن هنا ترى تأكيدهم أن الأرض تدور لا معنى له لأنه لا يوجد ما يثبته بالتجربة.
ثم قال محمد فريد وجدي بعد هذا. وأننا نرى من تضارب هذه الأفكار بين أكبر علماء الأرض أن أمر دوران الأرض غير حاصل على ما يجعله من العلوم البديهية فإن مثل العلامة «بوانكاريه» لم يكن يتجاسر على مثل هذا القول وهو أكبر رياضي فرنسي اليوم إن لم نقل أكبر رياضي فلكي في العالم إذ لم يكن على ثقة تامة مما يقول وعلى بينة مما يرمي إليه. ولو كان المعلمون في أثناء تدريسهم للعلوم الطبيعية يسلكون مسلك العلماء في الإقرار بالجهل فيورون تلامذتهم وجه الضعف في المعلومات الطبيعية لأدوا لتلامذتهم أكبر خدمة لأنهم بهذا يعودونهم على الأدب النفسي فتنشأ نفوسهم معتادة على التواضع أمام فخامة الكون وجلالته والسجود أما مبدعه ومصوره. ولكن أكثرهم يدرسون لهم العلوم المشكوك فيها والفروض الطبيعية الظنية بصفة حقائق ثابتة فيتذرع بها أولئك التلامذة الأغرار متى كبروا إلى الإلحاد ونفي الروح والخلود ولا يدرون أنهم يتمسكون بالظنون وأن الظن لا يغني من الحق شيئاً انتهى.
وقال الشيخ محمد الحامد خطيب جامع السلطان بحماة في كتابه المسمى «ردود على أباطيل، وتمحيصات لحقائق دينية» تحت عنوان «موقف المسلمين من النظريات العلمية» ما نصه:
كان الفلكيون القدماء قائلين بثبات الأرض واستقرارها وجريان الشمس حولها ثم طلع بعض الفلكيين بنظرية دوران الأرض وثبات الشمس وقد راجت هذه الفكرة رواجاً عظيماً واعتقدها كثير من الناس حقيقة لا ريب فيها ثم تسرب الشك فيها إلى بعض العقول بل تجددت فكرة الرجوع إلى القول الأول قطعاً عند بعض الفلكيين الجدد. ثم نقل ما ذكر محمد فريد وجدي عن المسيو «درومون» وعن المسيوبو انكاريه» وتقدم ذكره قريبا ثم قال وقد صدر سنة 1926 ميلادية كتاب بالفرنسية اسمه «الأرض لا تدور» تأليف ب رايوفيتش. ذكر فيه براهين علمية على ثبات الأرض وختمه بقوله فيبرهن ذلك على أن الشمس تدور حول الأرض وكذا القمر يدور حولها وعلى عدم حركة الأرض انتهى.
ثم قال محمد الحامد. من هذا كله يتضح أن فكرة دوران الأرض ليست متفقاً عليها.
فمن الجراءة على الله تعالى محاولة تثبيت ما ليس بثابت بآياته الكريمة الحقة التي لا يتطرق إليها بطلان.
وقال الشيخ محمد الحامد أيضاً في الكتاب المذكور. قرأت في العدد السادس من أعداد مجلة «الأخوة الإسلامية» مقالة بعنوان «عدد السموات السبع ورجوم الشياطين بمصابيحها وقد رأيت الكاتب نحا ف بكلمته نحو من يقول بحركة الأرض مدعيا أن القرآن الكريم لم يصدم معتقدات الناس وتصوراتهم وقت نزوله، وكان الاعتقاد السائد في ذلك الوقت أن الأرض مركز لحركة الكون وأن الشمس والقمر والنجوم تجري حولها أي على خلاف ما رآه المتأخرون من الفلكيين وادعى أيضاً أن القرآن الكريم أشار إلى حركتها وأومأ إليها تاركاً تفسيره للزمن. ثم نقل عن بعض الكاتبين تفسير السموات السبع بالطبقات الغازية التي تحيط بالأرض وتعلوها بل لقد عد المجرات المختلفة التي هي نجوم من السموات السبع بلا ريب، وفي هذا مخالفة واضحة لنصوص الشرع والقرآن. وقد كان من الخير أن لا يتعرض لهذا فإن التوفيق بين نصوص الدين التي لا ريب فيها والتي لا تتبدل وبين النظريات الفلكية التي تتبدل في الأحيان المتتالية ضرب من المحال ومن رامه اصطدم بعقبات وتورط في مشكلات ثم لا يجد خلاصاً منها بوجه مقبول.
والفلكيون مختلفون في تحرك الأرض قديماً وحديثاً وإلى الآن لم يتفقوا على القول بأنها متحركة، وكل يؤيد ما ذهب إليه بما يلوح له من دليل.
ولندعهم جانباً ولنقرأ آيات القرآن قراءة لا تكلف فيها ولا تعسف مؤمنين بأنها الحق لا ريب فيه وأن الله تعالى لا يخبر بخلاف الحقيقة وأن أولئك المختلفين لم يشهدوا خلق المكونات حتى تكون أقوالهم حججاً يحتج بها وبراهين يسار على ضوئها. قال الله تعالى (ما أشهدتهم خلق السموات والأرض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضداً).
إننا حين ننظر في الآيات التي ذكر الله فيها الأرض والشمس والقمر والنجوم نخرج بالفهم الصحيح الذي فهمه النبي الكريم وأصحابه صلوات الله تعالى عليه وعليهم وسلامه. ومعاذ الله أن يفهموا خطأ وأن يفهم غيرهم من بعدهم صواباً.
قال الله تعالى في سورة النحل (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلا
لعلكم تهتدون) وقال في سورة الأنبياء (وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجاً سبلا لعلهم يهتدون) وقال في سورة لقمان (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) وقال في سورة النبأ (ألم نجعل الأرض مهاداً، والجبال أوتاداً) وقال في سورة النازعات (والجبال أرساها) آيات كلهن نص على أن الله ثبت الأرض بالجبال فلا تتحرك والميدان لغة هو التحرك. إذاً فلا حركة للأرض كما يزعم الزاعمون.
ولئن قالوا أن تثبيتها بالجبال كتثبيت السفينة بما يثقلها ليحفظ عليها توازنها مع أنها سائرة. قلنا لهم هذا تكلف ينبو عنه الذوق ولسنا مضطرين إليه فلا ندخل مأزقه الحرج ولا نسير في طريقه اللجج.
وإذا قستموها بالسفينة السائرة فأين أنتم من قول الله تعالى (والجبال أرساها) ورسو السفينة وقوفها وسكونها فلا يتم لكم ما تريدون من هذا القياس.
وما أصرح قول الله تعالى، في حركة الشمس (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) وقوله تعالى (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون).
وإن لاح لهم أن يتعلقوا بقوله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) قلنا لهم لا متعلق لكم في هذه الآية لأنها في وصف يوم القيامة كما تدل عليه الآيات سباقاً وسياقاً (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين. وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون. من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون. ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون).
وقد أخبرنا ربنا بسير الجبال يوم القيامة في غير آية (وإذا الجبال سيرت)(ويوم نسير الجبال) الآية (يوم تمور السماء موراً. وتسير الجبال سيراً) انتهى المقصود من كلامه.
الوجه السابع أن يقال كيف لا ينفي قول أهل الهيئة الجديدة في استقرار الشمس ودوران الأرض عليها نفياً قاطعاً وما المانع من نفيه وقد نفاه القرآن والأحاديث الصحيحة وإجماع المسلمين كما تقدم بيانه. بل إن النفي لما قالوه واجب على كل المسلمين عالم بفساد قولهم ومعارضته لنصوص القرآن والسنة وإجماع المسلمين.
الوجه الثامن أنه لا مانع من تكفير من قال باستقرار الشمس لتكذيبه لنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة الدالة على جريانها ودؤبها في ذلك كما تقدم بيانه.
وتكذيب النصوص تكذيب لله تعالى ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم كما لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة.
والدليل على كفر من كذب النصوص قول الله تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين) وقوله تعالى (فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين) وقوله تعالى (بلى قد جاءتك آياتي فكذبت بها واستكبرت وكنت من الكافرين) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في هذا المعنى.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله» رواه مسلم والدارقطني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
فدل هذا الحديث الصحيح على أن من ترك الإيمان بشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مباح الدم والمال.
وقد تظافرت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» .
ومن أعظم حقوق لا إله إلا الله تصديق ما أخبر الله به في كتابه واعتقاد أن ذلك هو الحق وما خالفه فهو باطل.
ومن حقوق الشهادة بأن محمداً رسول الله تصديق ما أخبر به صلى الله عليه وسلم واعتقاد أن ذلك هو الحق وما خالفه من أقوال الناس فهو باطل.
ومن رد شيئاً مما أخبر الله به في كتابه وما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر لأنه لم يحقق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فيجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل.
وإن كانوا طائفة ممتنعة وجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى كل طائفة خرجت عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة فإنه يجب قتالها باتفاق أئمة المسلمين وإن تكلمت بالشهادتين، ثم ذكر رحمه الله تعالى أن التكذيب بما كان عليه جماعة المسلمين على عهد الخلفاء الراشدين مما يجب القتال عليه.
ولا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة أن القول بجريان الشمس في الفلك وإتيانها من المشرق وذهابها نحو المغرب هو الذي كان عليه جماعة المسلمين منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا ولا يعرف عن أحد من المسلمين المتمسكين بالكتاب والسنة خلاف في ذلك. وقد تقدمت الأحاديث في ذلك وكذا أقوال المفسرين من الصحابة والتابعين وأئمة العلم والهدى من بعدهم.
ولما ظهر أهل الهيئة الجديدة في آخر القرن العاشر من الهجرة وما بعده وهم كوبرنيك البولوني وهرشل الإنكليزي وأتباعهما من فلاسفة الإفرنج أصحاب الرصد والزيج الجديد أظهروا خلاف ما كان عليه المسلمون فقالوا إن الشمس ساكنة لا تتحرك أصلا وإنها مركز العالم وأن الأرض والنجوم تدور عليها وقد قلدهم في ذلك كثير من ضعفاء البصيرة من العصريين فخالفوا ما كان عليه جماعة المسلمين منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زماننا.
وهؤلاء ينبغي أن يوضح لهم الحق الذي جاء به القرآن والسنة فمن أصر منهم بعد ذلك على المخالفة فهو كافر حلال الدم والمال لأنه قد عاند الحق على بصيرة وأصر على تكذيب الله تعالى وتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد قال الله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً).
قال الفضل بن زياد القطان سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على شفا هلكة.
وقال الفضل أيضاً عن أحمد بن حنبل قال بلغ ابن أبي ذئب أن مالكاً لم يأخذ بحديث «البيعان بالخيار» فقال يستتاب في الخيار فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
قال مالك لم يرد الحديث ولكن تأوله على غير ذلك.
وكذا قال إبراهيم بن هانئ النيسابوري سمعت أبا عبد الله يقول بلغ ابن أبي ذئب أن مالك بن أنس قال ليس البيعان بالخيار فقال ابن أبي ذئب يستتاب مالك فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
وإذا كان هذا قول ابن أبي ذئب في الإمام مالك من أجل حديث واحد تأوله على غير تأويله فكيف بالذين يردون النصوص الكثيرة من الكتاب والسنة ويعارضونها بأقوال أهل الهيئة الجديدة من فلاسفة الإفرنج وأتباعهم من الأغبياء فهؤلاء أولى أن يستتابوا فإن تابوا وإلا ضربت أعناقهم.
الوجه التاسع أن الصواف قد اعترف أن من كذب الله وكتابه ورسوله فهو كافر مرتد ومجرم أثيم. قال وعليه غضب الله ولعنته إلى يوم الدين.
فيقال له التكذيب يكون تارة بالمقال وتارة بالفعل ولسان الحال. ومن التكذيب بالفعل ولسان الحال رد النصوص الدالة على جريان الشمس ودؤبها في ذلك واعتقاد أن الحق ما قاله أهل الهيئة الجديدة من ثباتها واستقرارها. فمن فعل ذلك فقد كذب الله تعالى وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم شآء أم أبى.
وحينئذ فما يؤمن الصواف أن تكون لعنته ودعاؤه بالغضب راجعاً عليه وهو لا يشعر.
الوجه العاشر ما ذكره الصواف في أول كلامه من الخلاف القديم والحديث في جريان الشمس وثبات الأرض فيه إيهام وتمويه على الجهال.
فإن أراد أن الخلاف القديم كان بين المسلمين وهو الظاهر من كلامه فليس ذلك بصحيح فإنه لا خلاف بين المسلمين في جريان الشمس وثبات الأرض.
وقد تقدم ما حكاه الشيخ عبد القاهر بن طاهر البغدادي من إجماع أهل السنة على وقوف الأرض وسكونها وأن حركتها إنما تكون بعارض يعرض لها من زلزلة ونحوها.
وتقدم أيضاً ما حكاه القرطبي من إجماع المسلمين وأهل الكتاب على ذلك.
وإن أراد بالخلاف القديم ما كان بين بطليموس وفيثاغورس فهو صحيح ولكن لا ينبغي ذكر مثل هذا الخلاف بدون ذكر الطرفين المختلفين لأن ذكر الخلاف مع الإطلاق يوهم أنه بين المسلمين وليس الأمر كذلك.
وأما الخلاف الحديث فهو ما كان بين المتمسكين بالكتاب والسنة وبين أهل الهيئة الجديدة ومقلديهم من العصريين. ولا ينبغي أن يلتفت إلى خلاف أعداء الله ومقلديهم لأنه خلاف في مقابلة النصوص والإجماع فلا يعتد به.
فصل
قال الصواف. ولكن هل من قال بحركة الأرض ودورانها حول الشمس بقدرة الله وبثبوت الشمس حول محورها وحركتها حول نفسها بأمر الله هل يعتبر هذا مكذبا لله ولرسوله ومكذبا لكتاب الله حتى يحكم عليه بالردة والكفر. إنني هنا أتوقف ولا أود أن أتعجل بمثل هذا الحكم في أمور أقل ما يقال فيها أنها ظنية وليست قطعية الدلالة.
والتوقف فيها أو تفويض الأمر فيها إلى الله العلي القدير أسلم وأحكم وأراكم قد تعجلتم في أمر كانت لكم فيه أناة وفي التأويل مندوحة.
والجواب عن هذا من وجوه، أحدها أن يقال من قال بحركة الأرض ودورانها على الشمس فقد خالف الأدلة الكثيرة الدالة على سكونها وثباتها، وخالف أيضا إجماع المسلمين على ذلك.
وقد تقدم ذكر الآيات والأحاديث الدالة على سكون الأرض وثباتها فلتراجع.
وتقدم أيضا ذكر الإجماع على ذلك وقد قال الله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً).
ومن قال بثبات الشمس فهو مكذب لله تعالى ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم شاء أم أبى ولو قال مع ذلك أن لها حركة على نفسها فإن ذلك لا يفيده شيئا لأن الله تعالى أثبت لها الجريان في عدة آيات من كتابه وقد تقدم ذكرها في أول الكتاب فلتراجع.
والجريان ضد الثبات والاستقرار كما قال تعالى عن سفينة نوح عليه السلام (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها) الآية ففرق تعالى بين جري السفينة في الماء وبين رسوها وهو ثباتها واستقرارها على جبل الجودي.
وعلى هذا فمن نفى عن الشمس الجريان في الفلك وأثبت لها السكون والاستقرار
فقد قلب الحقيقة التي أخبر الله بها في كتابه وأخبر بها رسوله صلى الله عليه وسلم فيكون مكذبا لله تعالى ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم شاء أم أبى.
والقول بأن الشمس ثابتة حول محورها وأن لها حركة حول نفسها ينافي جريانها في الفلك كما لا يخفى على من له أدنى علم ومعرفة وأيضا فقد قال الله تعالى (وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون) وقال تعالى (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون).
وقد تقدم تفسير السبح في لغة العرب وأنه المر السريع في الماء وفي الهواء. وعلى هذا فمن زعم أن الشمس ثابتة فقد نفى عنها السبح الذي أثبته الله لها فيكون مكذبا لله تعالى ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم شاء أم أبى.
وأيضا فقد قال الله تعالى (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) الآية، والدأب في لغة العرب إدامة السير والمبالغة فيه. وعلى هذا فمن زعم أن الشمس ثابتة لا تسير على الدوام فقد نفى عنها ما أثبته الله لها من الدأب في السير فيكون مكذبا لله تعالى ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم شاء أم أبى.
وأيضا فقد قال الله تعالى (قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) الآية. وهذا نص صريح في أن الشمس تسير فتأتي من المشرق وتذهب نحو المغرب، فمن زعم أنها ثابتة لا تفارق موضعها فهو مكذب لما أخبر الله به في هذه الآية الكريمة، ومكذب لكتاب الله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شاء أم أبى.
وأيضا فإن الله تعالى قد أثبت للشمس البزوغ في آية من كتابه والطلوع في آيات أخر وأثبت لها الأفول في آية والغروب في آيات أخر. وأثبت لها أيضا الدلوك والتزاور. وفي كل من هذه الأمور دليل على سيرها. فمن زعم أنها ثابتة فقد نفى عنها ما أثبته الله لها من هذه الأمور فيكون مكذبا لله تعالى ولكتابه ولرسوله صلى الله عليه وسلم شاء أم أبى.
وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح عن أبي ذر رضي الله عنه «أتدرون أين تذهب هذه الشمس قالوا الله ورسوله أعلم قال إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها
تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئا حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها ارجعي ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتدرون متى ذاكم. ذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً» متفق عليه وهذا لفظ مسلم.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن يوشع بن نون عليه السلام أنه قال للشمس إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه. رواه الإمام أحمد والشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وعنه أيضاً رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس» رواه الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط البخاري.
وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الشمس فتأخرت ساعة من نهار رواه الطبراني في الأوسط قال الهيثمي وإسناده حسن.
وروى الإمام أحمد وابنه عبد الله وابن خزيمة وأبو يعلى والطبراني بأسانيد جيدة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق أمية بن أبي الصلت في قوله:
والشمس تطلع كل آخر ليلة
…
حمراء يصبح لونها يتورد
تأبى فما تطلع لنا في رسلها
…
إلا معذبة وإلا تجلد
فقال النبي صلى الله عليه وسلم «صدق» :
وفي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى ترتفع وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب» .
وفي الصحيحين أيضا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس» .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه رواه أبو داود الطيالسي بإسناد صحيح.
وروى مالك والشافعي وأحمد والنسائي بأسانيد صحيحة عن عبد الله الصنابحي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان فإذا ارتفعت فارقها ثم استوت قارنها فإذا زالت فراقها فإذا دنت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها» .
وروى الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي عن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه قال قلت يا رسول الله أي الليل أسمع قال جوف الليل الآخر فصل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي الصبح ثم أقصر حتى تطلع الشمس فترتفع قيس رمح أو رمحين فإنها تطلع بين قرني شيطان ويصلي لها الكفار ثم صل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى يعدل الرمح ظله ثم أقصر فإن جهنم تسجر وتفتح أبوابها فإذا زاغت الشمس فصل ما شئت فإن الصلاة مشهودة مكتوبة حتى تصلي العصر ثم أقصر حتى تغرب الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان ويصلي لها الكفار» وقد رواه الترمذي مختصراً وقال هذا حديث حسن صحيح غريب.
وفي هذه الأحاديث الصحيحة أوضح دليل على جريان الشمس في الفلك ودورانها على الأرض. فمن نفى ذلك عنها وزعم أنها ثابتة لا تفارق موضعها فهو مكذب لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث شاء أم أبى.
ومن كذب الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مكذب لله تعالى ولكتابه لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان مبلغاً عن الله تعالى. وقد قال الله تعالى (وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى) وقال تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون).
وإذا علم ما ذكرنا فلا مانع من إطلاق الردة على من علم بهذه الأدلة أو بشيء منها ثم نبذها وراء ظهره وتمسك بما خالفها من أقوال أهل الهيئة الجديدة التي ما أنزل الله بها من سلطان وإنما هي من وحي الشيطان وتضليله.
الوجه الثاني أن القول بثبات الشمس وحركتها على نفسها هو مما تخيله أهل الهيئة
الجديدة وتخرصوه ذكره الألوسي عنهم. وهؤلاء كما قال الله تعالى في أشباههم (وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغن من الحق شيئاً. فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا. ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى) وقال تعالى (وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون. إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين).
وقد تقدم أن هذا القول ينافي ما أخبر الله به من جريان الشمس في الفلك ودؤبها في السير فيه.
وأهل الهيئة الجديدة هم سلف الصواف وأشباهه من العصريين وعلى أقوالهم الباطلة بنى الصواف تعقيبه على الشيخ ابن باز وبها يجادل ليدحض الحق. وقد قال الله تعالى (والعاقبة للمتقين) وقال تعالى (والعاقبة للتقوى) وقال تعالى (وإن جندنا لهم الغالبون) وقال تعالى (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز).
وروى الإمام أحمد وأبو داود والطبراني والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من خاصم في باطل وهو يعلمه لم يزل في سخط الله حتى ينزع» .
الوجه الثالث أن الحق في هذا هو ما دل عليه الكتاب والسنة وإجماع المسلمين من جريان الشمس في الفلك بقدرة الله تعالى وثبات الأرض واستقرارها بأمر الله تعالى. لا ما زعمه الصواف مما هو قلب للحقيقة.
الوجه الرابع من أوابد الصواف وعظيم جراءته زعمه أن النصوص الدالة على جريان الشمس ظنية وليست قطعية الدلالة.
والجواب عن هذا الإفك المبين أن نقول. سبحانك هذا بهتان عظيم.
وفي هذا القول الوخيم دليل على فساد تصور قائله.
وكيف لا يكون كذلك وهو يرى أن نصوص الكتاب والسنة على إثبات جريان الشمس ظنية وليست قطعية الدلالة. وأن الحق فيما تخيله كوبرنيك البولوني وهرشل الإنكليزي وأتباعهم من أهل الهيئة الجديدة وما تخرصوه من ثبات الشمس واستقرارها
وأن هذا من المسلمات العلمية التي لا يجادل فيها اثنان.
يا سبحان الله العظيم، أيكون وحي الرحمن إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ظنياً وليس قطعي الدلالة، ويكون وحي الشيطان إلى أوليائه من المسلمات العلمية التي لا يجادل فيها اثنان. هذا قول باطل ورعونة وسفه لا يقوله إلا من هو مصاب في دينه وعقله، وقد قيل.
يقضي على المرء في أيام محنته
…
حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن
وأبلغ من هذا قول الله تعالى (ومن يعشُ عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين. وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون) وقوله تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون) وقوله تعالى (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون) وقوله تعالى (ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم).
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في بدائع الفوائد. حذار حذار من أمرين لهما عواقب سوء. أحدهما رد الحق لمخالفته هواك فإنك تعاقب بتقليب القلب ورد ما يرد عليك من الحق رأساً ولا تقبله إلا إذا برز في قالب هواك قال تعالى (ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) فعاقبهم على رد الحق أول مرة بأن قلب أفئدتهم وأبصارهم بعد ذلك.
والثاني التهاون بالأمر إذا حضر وقته فإنك إن تهاونت به ثبطك الله وأقعدك عن مراضيه وأوامره عقوبة لك. قال تعالى (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدوا إنكم رضيتم بالقعود أول مرة فاقعدوا مع الخالفين) فمن سلم من هاتين الآفتين والبليتين العظيمتين فلتهنه السلامة انتهى.
الوجه الخامس أن الله تعالى قرن بين الشمس والقمر في مواضع كثيرة من القرآن وذكر عن القمر من الجري والسبح في الفلك والبزوغ والأفول نظير ما ذكره عن الشمس فهل يقول الصواف بثبات القمر حول محوره وحركته حول نفسه وأن الأدلة على جريه
ظنية وليست قطعية الدلالة كما قد قال بذلك في الشمس أم لا. وإن لم يقل بذلك فإنا نطالبه بإبراز نص عن الله تعالى أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم يثبت للقمر الجري والسبح في الفلك والبزوغ والأفول دون الشمس ولن يجد إلى ذلك سبيلا البتة.
ومن أثبت الجري والسبح في الفلك والبزوغ والأفول للقمر لزمه أن يثبت ذلك للشمس وإن يفعل فقد فرق بين متماثلين وآمن ببعض الكتاب وكفر ببعض.
الوجه السادس أن التوقف إنما يكون في الأمور التي لم يتبين وجهها. وكذلك التفويض إنما يكون في الأمور التي لا تعلم كيفيتها وجريان الشمس في الفلك ودؤبها في السير ليس من هذا الباب لأن الله تعالى قد نص على جريانها في عدة آيات من كتابه. ونص أيضاً على أنها تسبح في الفلك. ونص أيضاً على أنها بحسبان. ونص أيضاً على دؤبها في السير.
ونص أيضاً على أنه يأتي بها من المشرق. ونص أيضاً على طلوعها ودلوكها وغروبها.
ونص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث صحيحة فيجب على المسلم أن يعتقد ما جاء في كتاب الله تعالى وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ولا يتوقف فيه.
ويجب على العلماء أن يبينوا للناس ما خفي عليهم من ذلك ويبينوا حكم من رد النصوص الثابتة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يتوقفوا عن البيان فيلحقهم الوعيد على الكتمان.
والمبادرة إلى البيان أسلم للعلماء وأحكم؛ وتأخير البيان إنما يكون من تثبيط الشيطان وصده عن إظهار الحق.
الوجه السابع أن الصواف قد عاب على الشيخ ابن باز لما بادر إلى بيان الحق الذي يجب عليه وعلى أمثاله أن يبينوه ولا يكتموه. ولم ير هو عيب نفسه في مبادرته إلى نشر الباطل والذب عنه والمجادلة به لإدحاض الحق ولو أنه اشتغل بإصلاح عيبه ولم يشتغل بلوم علماء المسلمين لكان خيراً له.
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم
…
من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
الوجه الثامن أن قول الصواف ولكن هل من قال بحركة الأرض إلى آخره. وتوقفه فيما توقف فيه وزعمه أن الأدلة على حركة الشمس وسيرها ظنية وليست قطعية الدلالة.
كل ذلك يدل دلالة واضحة على كثافة جهله بما أخبر الله به في كتابه وما أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم وما أجمع عليه المسلمون فيما يتعلق بجريان الشمس وثبات الأرض وإذا كان الصواف بهذه المثابة من الجهل فالأولى له السكوت وعدم الخوض فيما لا علم له به وترك الاعتراض على علماء المسلمين. ولكن حب الشهرة حمل الرجل على أن يهرف بما لا يعرف وأن يخالف من هو أعلم منه فكان الأمر فيه كما قيل.
خلافاً لقولي من فيالة رأيه
…
كما قيل قبل اليوم خالف لتذكرا
فصل
قال الصواف ومع هذا فإني أود أن أقول لسماحتكم إن هذا القول (حركة الأرض وثبوت الشمس) لم يقل به كفار الغرب من الأمريكان وملحدو الشرق من الروس فقط. بل الذي سبق إليه علماء مسلمون لهم قدرهم ووزنهم في تاريخ الحضارة الإسلامية فهل نحكم بكفرهم وردتهم ونجردهم من الإسلام وهم قد أفضوا إلى ما قدموا وقالوا في السماء والأفلاك ما لم يصل إليه حتى الآن علماء الغرب ولا الشرق وقالوا عن سطح القمر والجبال التي فيه قبل مئات السنين ما لم تقله لوناً (9) التي قيل إنها حطت على سطح القمر وأرسلت صورا تلفزيونية إلى الكوكب الأرضي. ولقد دهشت حقاً وأنا أنظر إلى هذه الصور في الصحف وأقرأ ما قاله علماؤنا الأجلاء قبل ما يقارب الألف عام كيف وصل علماؤنا إلى ذلك كله مع قلة الوسائل وحداثة العلم الذي اشتغلوا فيه ونبغوا فيه نبوغاً حير الألباب واستخرج حتى من أعدائهم الإعجاب. إن العلماء المسلمين أول من اشتغل بعلم الفلك بعد اليونانيين الأقدمين وأول من ألف فيه الكتب والمصنفات وأول من أنشأ المراصد الفلكية في العالم وخصص لها المخصصات الطائلة من بيت مال المسلمين. ولقد أدت مراصد بغداد الفلكية في عهد هارون الرشيد وعهد المأمون في العصر العباسي الأول خدمات لعلم الفلك ذكرها وشكرها كثير من العلماء الفلكيين في القديم والحديث. وكذلك فعلت مراصد دمشق والقاهرة والرقة وسنجار ومراغة وسمرقند وطليطلة وقرطبة. بل إن هذه المراصد أضافت إلى علم الفلك إضافات مهمة
بعد أن أدمجت فيها مجموعة ما رصد في هذه المراصد إذ عينت انحراف سمت الشمس بثلاث وعشرين دقيقة واثنتين وخمسين ثانية وهو ما يعادل الرقم الحاضر اليوم ثم رصد الاعتدال الشمسي فمكنهم من تعيين السنة بالضبط.
قال ابن قتيبة عن علماء الفلك المسلمين الأقدمين إنهم أعلم الأمم بالكواكب ومطالعها ومساقطها. وفي عصر المأمون العباسي وضع أبناء شاكر قياساً للدرجة على الأرض ووضعوا التقاويم للأمكنة وقاسوا عرض بغداد وكان مقداره ثلاثاً وثلاثين درجة وعشرين دقيقة.
لقد مكث العالم المسلم محمد بن جابر بن سنان واحداً وأربعين سنة يرصد النجوم والكواكب في مرصد الرقة في أرض الشام حتى تمكن من تصحيح بعض نتائج بطليموس اليوناني وجاءت نتائج أرصاد هذا العالم المسلم غاية في الدقة والضبط والإحكام والإتقان.
وأبو الحسن المراكشي وهو من علماء القرن الثامن الهجري قام بجهود كبيرة في خدمة علم الفلك ولقد عني بضبط خطوط الطول والعرض لإحدى وأربعين مدينة إفريقية واقعة ما بين مراكش والقاهرة.
وسجل العالم البتاني وهو أحد عشرين عالماً فلكياً سبقاً لم يتقدمه أحد إليه حتى قال المسعودي عنه إنه أول من كشف السمت والنظير وحدد نقطتيهما من السماء. لا أريد أن أتوسع في بيان ما صنعه علماء الإسلام من عجائب وغرائب في علم الفلك وهي كثيرة لا تحصى إذ أنني أريد أن أنتقل إلى صلب الموضوع وهو حركة الأرض والشمس.
والجواب أن يقال لو توسع الصواف فيما ذكره عن الفلكيين وأطال الكلام بما لا فائدة فيه وما هو خارج عن الموضوع الذي قرره الشيخ ابن باز فكلامه ههنا في واد وكلام الشيخ في واد آخر.
والكلام على ما تضمنه كلام الصواف من الأخطاء من وجوه: أحدها أن ما زعمه من سبق العلماء إلى القول بحركة الأرض وثبات الشمس ليس بصحيح. وإنما كان السابق إلى ذلك فيثاغورس اليوناني فهو أول من قال بحركة الأرض وثبات الشمس وكان زمانه قبل زمان المسيح بنحو خمسمائة سنة وقيل ستمائة سنة. وقد خالفه أهل الهيئة القديمة وكان قوله مهجوراً عندهم إلى أن جاء فلاسفة الإفرنج المتأخرون ومنهم كوبرنيك
البولوني في القرن العاشر من الهجرة. ومنهم أيضاً هرشل الإنكليزي وأتباعه أصحاب الرصد والزيج الجديد وكانوا في القرن الثاني عشر والقرن الثالث عشر من الهجرة فنصروا قول فيثاغورس وردوا ما خالفه وسموا ما ذهبوا إليه الهيئة الجديدة. وكان ابتداء هذه الهيئة الجديدة من نحو أربعمائة سنة. وإنما شاعت بين الناس منذ زمن قريب.
قال محمود شكري الألوسي في صفحة (3) من كتابه الذي سماه (ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة) قد شاع في عصرنا قول فيثاغورس الفيلسوف الشهير في هيئة الأفلاك ونصره الفلاسفة المتأخرون بعد أن كان عاطلا مهجوراً وهو القول بحركة الأرض اليومية والسنوية على الشمس وأنها مركز نظامها وأن الأرض إحدى الكواكب السيارة وأنها سابحة في الجو معلقة بسلاسل الجاذبية وقائمة بها كسائر الكواكب لا أنها كما ذهب إليه بطليموس في الأفلاك كالمسامير في الباب ..
قال وقد سماها الفلاسفة المتأخرون الهيئة الجديدة لكونها شاعت في العصر المتأخر وإلا فالقول بها متقدم جداً.
وذكر الألوسي أيضاً في صفحة 23 أن المتأخرين ممن انتظم في سلك الفلاسفة كهرشل وأتباعه أصحاب الرصد والزيج الجديد تخيلوا خلاف ما ذهب إليه الأولون في أمر الهيئة وقالوا بأن الشمس مركز الأرض وكذا النجوم دائرة حولها.
وذكر الألوسي أيضاً في صفحة 29 ما ذهب إليه أصحاب الزيج الجدد من أن الشمس ساكنة لا تتحرك أصلا وأنها مركز العالم وأن الأرض وكذا سائر السيارات والثوابت تتحرك عليها.
وقال أيضاً في صفحة 33 ما ملخصه، والمنجمون يقسمون النجوم إلى ثوابت وسيارات والسيارات عند المتقدمين سبع بإجماعهم وعند المنجمين اليوم وهم أهل الهيئة الجديدة أن الشمس في وسط الكواكب التي تدور حولها وأن لها حركة على نفسها وجزموا بأن ليس لها حركة حول الأرض بل للأرض حركة حولها وأن الأرض إحدى السيارات وهي عندهم عطارد والزهرة والأرض والمريخ ووسنة وقد كشفها رجل منهم يقال له «أولبوس» في حدود سنة ثلاث وعشرين ومائتين وألف للهجرة (ونبتون) وقد كشفها رجل منهم يقال له «هاردنق» في حدود سنة عشرين ومائتين وألف للهجرة
(وسيرس) وقد كشفها رجل منهم يقال له «بياظي» في حدود سنة ست عشرة ومائتين وألف للهجرة (وبلاس) وقد كشفها «أولبوس» أيضاً في حدود سنة سبع عشرة ومائتين وألف. والمشتري وزحل (وأورانوس) وقد كشفها رجل منهم يقال له «هرشل» في حدود سنة سبع وتسعين ومائة وألف للهجرة.
وذكر الألوسي أيضاً في هامش صفحة 46 أن المتأخرين من الفلاسفة الإفرنج ذهبوا إلى أن الكواكب تتحرك بأنفسها من غير أن تكون مركوزة في جسم آخر.
وقال أيضاً في صفحة 59 ما نصه: ثم قال تعالى (إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون) في هذه الآية تنبيه إجمالي على قدرة الله تعالى. أي في تعاقب الليل والنهار وكون كل منها خلفة للآخر بحسب طلوع الشمس وغروبها التابعين عند أكثر الفلاسفة لحركة الفلك الأعظم حول مركزه على خلاف التوالي فإنه يلزمها حركة سائر الأفلاك وما فيها من الكواكب مع سكون الأرض على ما زعموا. وهذا في أكثر المواضع، وأما في عرض تسعين فلا يطلع شيء ولا يغرب بتلك الحركة أصلا بل بحركات أخرى وكذا فيما يقرب منه قد يقع طلوع وغروب بغير ذلك وتسمى تلك الحركة «الحركة اليومية» وجعلها بعضهم وهم فلاسفة الإفرنج بتمامها للأرض وجعل آخرون بعضها للأرض وبعضها للفلك الأعظم. والقرآن العظيم ساكت عن المذهبين وذلك من براهين إعجازه.
قلت ليس الأمر كما زعمه الألوسي فإن الله تعالى قد نص على جريان الشمس في عدة آيات من القرآن. ونص أيضاً على أنها تسبح في الفلك والسبح المر السريع، ونص أيضاً على أنها بحسبان. ونص أيضاً على دؤبها في السير، ونص أيضاً على إتيانها من المشرق وعلى طلوعها وغروبها ودلوكها أي زوالها، وجاء في القرآن عدة آيات تدل على سكون الأرض واستقرارها. فكيف يقال إن القرآن ساكت عن المذهبين وهو قد أيد قول من قال بجريان الشمس وسكون الأرض ورد قول من قال بخلاف ذلك.
وقال الألوسي أيضاً في صفحة 67 و 68 ما ملخصه قال أهل الهيئة الجديدة الأرض جرم من الأجرام السماوية. يعني أنها جرم من الأجرام التابعة للشمس وهي السيارات الدائرة حولها على أبعاد متفاوتة وسميت (النظام الشمسي) وشكلوا لذلك شكلا في وسطه
الشمس ثم عطارد وهو أقرب إلى الشمس من سائر السيارات المعروفة وبعده الزهرة ثم الأرض ثم قمرها ثم المريخ ثم فسحة واسعة فيها مئتان واثنان وسبعون جرماً صغيراً تسمى النجميات أو الشبيهة بالسيارات ثم المشتري ثم زحل ثم أورانوس ثم نبتون - إلى أن قال - وقالوا في شأن الأرض وحركتها. السيار التابع للنظام الشمسي الذي نحن ساكنون عليه هو الأرض وأنها كروية الشكل - إلى أن قال - وذهبوا إلى أن حركتها وكذا سائر الأجرام السماوية من الغرب إلى الشرق وذهبوا إلى أن لها حركة أخرى غير الحركة اليومية وهي الحركة السنوية فللأرض عندهم حركتان حركة يومية وهي دورانها على محورها مرة من الغرب إلى الشرق ومنها اختلاف الليل والنهار وحركة من الغرب إلى الشرق حول الشمس مرة واحدة كل سنة. هذا ما ذكره علماء الهيئة الجديدة في شأن الأرض. وقد تصفحت القرآن العظيم الشأن فوجدت عدة آيات نطقت بما يتعلق بالأرض من جهة الاستدلال بها على وجود خالقها وعظمة باريها ولم يذكر فيها شيء مما يخالف ما عليه أهل الهيئة اليوم.
قلت ليس الأمر على ما قاله الألوسي بل في القرآن آيات كثيرة تدل على سكون الأرض واستقرارها. وفيه نصوص كثيرة تدل على جريان الشمس ودؤبها في السير وقد ذكرت ذلك مستقصى في أول الكتاب فليراجع.
وقال الألوسي أيضاً في صفحة 95 وأما قوله (وكل في فلك يسبحون) فالفلك في الأصل كل شيء دائر ومنه فلكة المغزل والمراد به هنا على قول كثير هو موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر. وعن الضحاك هو ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم. وفيه القول باستدارة السماء. قال وغاية ما نقول أن الفلاسفة اليوم من الإفرنج وأهل الأرصاد القلبية والمعارج المعنوية خالفوا قول بعض الفلاسفة المتقدمين المخالف لقولهم انتهى المقصود مما ذكره الألوسي. وفيه رد لما زعمه الصواف من سبق العلماء المسلمين إلى القول بحركة الأرض وسكون الشمس. وبيان أن أول من تخيل حركة الأرض وثبات الشمس بعد فيثاغورس وأصحابه هم فلاسفة الإفرنج المتأخرون مثل كوبرنيك البولوني وهرشل الإنكليزي وأتباعهما أصحاب الرصد والزيج الجديد وقد تلقى ذلك عنهم كثير من ضعفاء البصيرة من المسلمين ولاسيما في هذا القرن وهو
القرن الرابع عشر من الهجرة.
وقبل ظهور أهل الهيئة الجديدة من الإفرنج لا نعلم عن أحد من المسلمين خلافاً في سكون الأرض وجريان الشمس.
وقد تقدم ما حكاه الشيخ عبد القاهر بن طاهر البغدادي من إجماع أهل السنة على وقوف الأرض وسكونها وأن حركتها إنما تكون بعارض يعرض لها من زلزلة ونحوها.
وتقدم أيضاً ما حكاه القرطبي من إجماع المسلمين وأهل الكتاب على ذلك.
وتقدم أيضاً ذكر النصوص من الكتاب والسنة على جريان الشمس ودؤبها في السير وذلك ما لا خلاف فيه بين المسلمين منذ زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن ظهر المقلدون لكوبرنيك البولوني وهرشل الإنكليزي وأتباعهما من أهل الهيئة الجديدة منذ زمن قريب فأحدثوا بين المسلمين خلافاً لم يكن معروفاً بينهم من قبل.
ولا عبرة بخلاف هؤلاء المخدوعين بزخارف أعداء الله تعالى وتخرصاتهم الكاذبة.
وقد ذكرنا فيما تقدم أنهم محجوجون بنصوص الكتاب والسنة وإجماع المسلمين على خلاف ما ذهبوا إليه.
الوجه الثاني أن يقال من هم العلماء المسلمون الذين لهم قدرهم ووزنهم في تاريخ الحضارة الإسلامية وقد قالوا بحركة الأرض وثبات الشمس وقالوا عن سطح القمر والجبال التي فيه ما لم يقله أهل هذه الأزمان. إننا نتحدى الصواف أن يسمي علماء المسلمين الأجلاء الذين قالوا هذه الأقوال قبل ما يقارب الألف عام وأن يذكر كتبهم التي أثبتوا فيها ذلك إن كان صادقاً. وما أبعده من الصدق.
الوجه الثالث أن يقال إن أعظم هذه الأمة قدراً وأرجحهم وزناً في تاريخ الحضارة الإسلامية هم الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ولم يقل أحد منهم بحركة الأرض وثبات الشمس بل المأثور عنهم خلاف ذلك. وكذلك لم يتهجموا على الغيب ويرجموا بالظن عن سطح القمر وما فيه.
ثم التابعون وتابعوهم بإحسان وأئمة العلم والهدى من بعدهم ولاسيما الأئمة الأربعة وأقرانهم من أكابر العلماء وكذلك من كان بعدهم من الأئمة الأعلام فكل هؤلاء لم
يقل أحد منهم بحركة الأرض وثبات الشمس ولم يتهجموا على الغيب ويرجموا بالظن عن سطح القمر وما فيه.
فمن حاد عن منهاج الصحابة والتابعين وأئمة العلم والهدى من بعدهم وقال بخلاف قولهم فقوله مردود عليه.
وقد قال الله تعالى (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً).
الوجه الرابع أن يقال إن كوبرنيك البولوني وأتباعه في آخر القرن العاشر من الهجرة والقرن الحادي عشر وكذلك هرشل الإنكليزي وأتباعه من الإفرنج مثل أولبوس وهاردنق وبياظي وغيرهم من فلاسفة الإفرنج في آخر القرن الثاني عشر من الهجرة وأول القرن الثالث عشر هم الذين سبقوا إلى القول بحركة الأرض وثبات الشمس وقد كان القول به مهجوراً منذ ذهب فيثاغورس اليوناني وأصحابه إلى أن جاء هؤلاء الإفرنج أصحاب الهيئة الجديدة فنصروه وردوا ما خالفه. فهل يقول الصواف إن هؤلاء علماء مسلمون لهم قدرهم ووزنهم في تاريخ الحضارة الإسلامية.
الوجه الخامس لو فرضنا صحة ما زعمه الصواف من سبق بعض علماء المسلمين إلى القول بحركة الأرض وثبات الشمس فهو قول باطل مردود لمخالفته للأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة ومخالفته أيضاً لأقوال الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان وأئمة العلم والهدى من بعدهم. ومخالفته أيضاً لإجماع المسلمين على ثبات الأرض ووقوفها.
وكل قول خالف نصاً من كتاب الله تعالى أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو خالف إجماع المسلمين فمضروب به عرض الحائط ومردود على قائله كائناً من كان.
وقد ذكرت آنفاً أن الذين سبقوا إلى القول بحركة الأرض وثبات الشمس هم فيثاغورس اليوناني وأصحابه وبعدهم أهل الهيئة الجديدة من فلاسفة الإفرنج. وكان ابتداء الهيئة الجديدة من نحو أربعمائة سنة. ولا يعرف عن أحد من علماء المسلمين قبل ظهور الهيئة الجديدة أنه قال بحركة الأرض وثبات الشمس .... بعد ظهور الهيئة الجديدة فقد كان بعض المنتسبين إلى العلم يقلدون أهلها ويحسنون الظن بهم.
وكما أنه لا يعتد بأقوال أعداء الله تعالى في شيء من المسائل العلمية فكذلك لا يعتد بأقوال مقلديهم بطريق الأولى والله أعلم.
الوجه السادس أن ما زعمه أعداء الله تعالى من وصول لونا (9) إلى القمر ورسوها على سطحه وإرسالها الصور التلفزيونية إلى الأرض كله كذب وتمويه على الأغبياء، والأمر في هؤلاء الكذابين كما قيل في أسلافهم:
سلاحهم في وجوه الخصم مكرهمُ
…
وخير جندهمُ التدليس والكذب
ومن أين لأعداء الله تعالى أن يصلوا إلى القمر أو تصل مصنوعاتهم إليه وهو في السماء بنص القرآن. وبين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام كما دلت على ذلك النصوص الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقدرة البشر تعجز عن الوصول إلى السماء والصعود في الجو مسيرة خمسمائة سنة.
ولعل أعداء الله تعالى إذا سقطت لهم سفينة فضائية في البحر أو في مكان مجهول من البر ولم يدروا أين ذهبت قالوا إنها ذهبت إلى القمر ورست على سطحه. وقد وجد لهم غير ما سفينة فضائية ساقطة.
والصور التي يزعمون أنها أرسلت إليهم من القمر لا شك أنها من مخرقتهم وصنع أيديهم فإنهم معروفون بالمخرقة والتدجيل قديماً وحديثاً. وقد ذكر العلماء عنهم من ذلك شيئاً كثيراً. ولا يغتر بأباطيل أعداء الله تعالى ويصدق بها ويندهش لمخرقتهم وتدجيلهم إلا من هو ناقص العقل.
ومن أين للصور التلفزيونية أن تصل إلى الأرض من مسيرة خمسمائة سنة وهي لا تتجاوز في الأرض مسيرة عشرة أيام أو نحوها إذا كانت قوية. فوصولها من القمر محال.
ومن زعم وصولها منه فهو من أكذب الكاذبين.
ومن مخرقة أعداء الله تعالى وتدجيلهم فيما يتعلق بالقمر زعمهم أن فيه أرضاً صالحة للنبات والسكنى فهم لذلك يرومون الانتقال إليه والبناء فيه والسكنى. وكثير من الجهال يصدقونهم في هذه المزاعم الكاذبة.
وليس لأعداء الله تعالى ذهاب ولا محيص عن هذه الأرض التي خلقوا منها ولو بلغوا في قوة الصناعة ما بلغوا فمردهم إلى الأرض لا محالة. قال الله تعالى (قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون). وقال تعالى (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى) وقال تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه (والله أنبتكم من
الأرض نباتاً. ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً).
وفي هذه الآيات رد على من زعم أن السكنى في القمر أو في غيره من الأجرام العلوية ممكنة لبني آدم.
وأيضاً فإن الله تعالى قد حرس السماء من الشياطين كما جاء ذلك في آيات كثيرة من القرآن.
والقمر في السماء بنص القرآن فهو محروس من وصول الشياطين إليه والاستقرار على سطحه، وسواء في ذلك شياطين الجن وشياطين الإنس. بل إن شياطين الإنس شر من شياطين الجن كما جاء ذلك فيما رواه ابن جرير عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شر شياطين الجن والإنس قال قلت وهل للإنس من شياطين قال نعم هم شر من شياطين الجن» .
فإن قيل إن الشياطين إنما منعوا من استراق السمع وليس ذلك مراد الذين يرومون الوصول إلى القمر.
فالجواب أن يقال إن المنع من استراق السمع يدل على المنع مما هو أعظم منه كالبناء والسكنى والمجاورة لأهل الملأ الأعلى. فالذين يرومون هذه الأمور من شياطين الإنس أولى بالطرد والإبعاد من الذين يسترقون السمع فقط.
وقد نشرت جريدة المدينة في عددها 587 الصادر بتاريخ 21 - 11 - 1385 هـ كلاماً لبعض علماء الأمريكان وهو «برنارد لوفيل. مدير مرصد جدويل بانك» يندد فيه بالأمريكان والروس على السواء لتنافسهم في السباق إلى القمر. وقال إن التنافس نابع من صميم غباوة الإنسان. ومضى يقول إن الطبيعة الإنسانية تواجه فشلا كبيراً إذ تعالج هذه المهمة ليس فقط بصورة منفصلة بنفقات باهظة. بل وبإخفاق الشعبين اللذين يقومان بها في تبادل المعلومات وعلى الأخص في وجه المشكلات الفنية الهندسية والعلمية والإنسانية التي تجابهها حضارة العالم.
هذه خلاصة كلامه الذي توخى فيه بيان الأمر على الحقيقة وهذا الكاتب وإن كان غير مسلم فهو في الحقيقة أعقل من أغبياء المسلمين الذين يصدقون أعداء الله في كل ما قالوه ويندهشون لمخرقتهم وتدجيلهم.
الوجه السابع أن إطلاق اسم الكوكب على الأرض خطأ وضلال. والذين أطلقوا عليها اسم الكوكب هم الذين زعموا أنها تسير كما تسير الكواكب وتدور على الشمس وهم أهل الهيئة الجديدة من الإفرنج ومن يقلدهم ويحذو حذوهم من جهال المسلمين.
وهذا خلاف ما سماها الله بها في كتابه وما سماها به رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع المسلمين سوى الأغبياء المقلدين لأهل الهيئة الجديدة.
ولازم هذا القول أن تكون الأرض من جملة الزينة التي زين الله بها السماء الدنيا وجعلها رجوماً للشياطين. لأن الله تعالى قال في كتابه العزيز (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب. وحفظاً من كل شيطان مارد) وقال تعالى (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين) وقال تعالى (وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم).
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة» وقد تقدم ذكر هذه الأحاديث.
وإذا كان بين السماء والأرض هذا البعد الشاسع فكيف يقال إن الأرض كوكب من جملة الكواكب التي جعلها الله زينة للسماء الدنيا. هذا من أبطل الباطل ولا يقوله من له أدنى مسكة من العقل.
وأيضاً فقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز أنه جعل الأرض فراشاً والسماء بناء. وأخبر في آية أخرى أنه جعل السماء سقفاً محفوظاً. وقال تعالى في آية أخرى (والسقف المرفوع) فدل القرآن على أن الأرض هي أسفل البناء والسماء سقفه.
وما كان أساس البناء وأسفله كيف يقال إنه كوكب من جملة زينة سقفه المرفوع. هذا تخبيط لا يقوله من يعلم ما يقول.
وقد قال الراغب الأصفهاني الأرض الجرم المقابل للسماء ويعبر بها عن أسفل الشيء كما يعبر بالسماء عن أعلاه.
وقال أبو الفرج ابن الجوزي في تفسيره إنما سميت الأرض أرضاً لسعتها. وقيل لانحطاطها عن السماء وكل ما سفل فهو أرض وسميت السماء سماء لعلوها.
وقال القرطبي في تفسيره السماء للأرض كالسقف للبناء. ولهذا قال تعالى وقوله
الحق (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً) وكل ما علا وأظل قيل سماء.
وقيل أيضاً والسماء ما علا والأرض ما سفل.
وقال الجوهري وغيره من أئمة اللغة كل ما سفل فهو أرض.
وروى ابن جرير في تفسيره من طريق السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (والسماء بناء) فبناء السماء على الأرض كهيئة القبة وهي سقف على الأرض وإذا كانت الأرض سافلة والسماء عالية عليها وسقفاً فوقها فلا يقول إن الأرض كوكب من جملة الكواكب التي قد جعلت زينة للسماء إلا من هو من أجهل الناس.
وبعد تحرير هذا الموضع وقفت على كلام للشيخ محمد بن يوسف الكافي التونسي رد به على من زعم أن الأرض كوكب من جملة الكواكب التي تدور حول الشمس، وقد رأيت أن أسوقه ههنا لما فيه من تحقيق الحق وإبطال الباطل.
قال في كتابه «المسائل الكافية، في بيان وجوب صدق خبر رب البرية» ما نصه:
(المسألة التاسعة والتسعون) في الجزء المذكور يعني الجزء الرابع عشر من مجموعة مجلة المنار - صفحة 578 قال بعض أشياع محمد عبده مع مشاركة الشيخ رشيد رضا في بعض كلامه. ما هذه الأرض التي نعيش عليها. هي كوكب من الكواكب التي تدور بمركز الشمس وتسمى بالسيارات.
قال الشيخ الكافي في الرد عليه.
(قوله) هي كوكب. كذَب وافترى على الله تعالى من سماها كوكباً لأن الله تعالى الذي خلقها سماها أرضاً.
والكوكب هو النجم ومحله العلو.
والكوكب من وصفه الإضاءة والإشراق والطلوع والأفول والأرض بخلاف ذلك.
وقوله من الكواكب التي تدور بمركز الشمس ممنوع لأنه تقدم أن الأرض ساكنة لا متحركة فارجع إليه إن شئت انتهى.
وكلامه الذي أشار إليه هنا وأنه قد تقدم قد ذكرته مستوفي مع الكلام على تكفير من يقول بحركة الأرض وسرها فليراجع هناك.
الوجه الثامن أن علماء المسلمين الذين هم ورثة النبي صلى الله عليه وسلم كالخلفاء الراشدين وسائر علماء الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة العلم والهدى من بعدهم لم يكن أحد منهم يشتغل بعلم الفلك ولم يؤلفوا فيه شيئاً ولم ينشئوا شيئاً من المراصد الفلكية كما قد يوهمه قول الصواف إن العلماء المسلمين أول من اشتغل بعلم الفلك إلى آخره.
وإنما الذين كانوا يشتغلون بعلم الفلك والتأليف فيه وإنشاء المراصد الفلكية صنفان من الناس وهم الفلاسفة والمنجمون. وكثير من المنتسبين منهم إلى الإسلام كانوا متهمين في دينهم. بل منهم من هو شر على الإسلام والمسلمين من اليهود والنصارى وسائر المشركين مثل نصير الكفر الطوسي وابن سينا القرمطي الباطني وغيرهم من الفلاسفة الذين كانوا ينتسبون إلى الإسلام وهم في غاية البعد منه بل هم الأعداء الألداء للإسلام وأهله على الحقيقة.
ثم لو سلمنا تسليماً جدلياً أن أحدا من علماء المسلمين اشتغل بعلم الفلك وألف فيه شيئاً من المؤلفات فهم لم يقولوا بثبات الشمس وحركة الأرض ودورانها على الشمس.
الوجه التاسع أن إنشاء المراصد الفلكية عند المسلمين إنما كان في زمن المأمون حين عربت كتب الأوائل ومنطق اليونان. قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة شجاع بن الوليد بن قيس. لما قتل الأمين واستخلف المأمون على رأس المائتين نجم التشيع وأبدى صفحته وبزغ فجر الكلام وعربت كتب الأوائل ومنطق اليونان وعمل رصد الكواكب ونشأ للناس علم جديد مرد مهلك لا يلائم علم النبوة ولا يوافق توحيد المؤمنين قد كانت الأمة منه في عافية - إلى أن قال - إن من البلاء أن تعرف ما كنت تنكر وتنكر ما كنت تعرف وتقدم عقول الفلاسفة ويعزل منقول أتباع الرسل ويماري في القرآن ويتبرم بالسنن والآثار وتقع في الحيرة. فالقرار قبل حلول الدمار.
وإياك ومضلات الأهواء ومحارات العقول. ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم انتهى كلامه رحمه الله تعالى. فذكر أنه بسبب تعريب كتب الأوائل ومنطق اليونان وإنشاء المراصد الفلكية نشأ للناس علم جديد مرد مهلك لا يلائم علم النبوة ولا يوافق توحيد المؤمنين.
وهذا العلم المردي المهلك هو الذي نجم عنه القول بسكون الشمس ودوران الأرض والكلام في السموات والأجرام العلوية بمجرد الآراء والظنون الكاذبة.
وقد كان الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان في عافية من هذا العلم المردي المهلك وإنما شغف به المتأخرون في زماننا لبعدهم عن منهاج الصحابة والتابعين وشدة ميلهم إلى أقوال الإفرنج وتمسكهم بآرائهم وتخرصاتهم وظنونهم الكاذبة فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الوجه العاشر أن الظاهر من صنيع الصواف حيث ذكر الفلكيين ههنا وأطنب في ذكرهم وذكر مراصدهم والثناء عليهم مع أن ذلك خارج عن موضوع البحث الذي هو بصدده أنه أراد إيهام من لا علم عنده أنهم كانوا يقولون بحركة الأرض وثبات الشمس. وليس الأمر كذلك فإن الفلكيين الذين ينتسبون إلى الإسلام من قبل ظهور أهل الهيئة الجديدة كانوا على مذهب أهل الهيئة القديمة في القول بجريان الشمس وثبات الأرض، وإذاً فأي فائدة في ذكرهم ههنا وذكر مراصدهم لولا قصد الإيهام الذي أشرنا إليه.
الوجه الحادي عشر أن الصواف صرح أن محمد بن جابر مسلم ثم ذكر بعده البتاني وجعله من جملة علماء المسلمين الذين أثنى عليهم. ويظهر من كلامه أنه يرى أن البتاني غير محمد بن جابر. وهذا بخلاف ما ذكره محمد فريد وجدي في كتابه دائرة المعارف فإنه ذكر أن محمد بن جابر هو البتاني وأنه ليس بمسلم وإنما هو من الصابئين وذكر عنه أنه رصد النجوم نحواً من إحدى وأربعين سنة. وأنه كان يرصد في الرقة وفي أنطاكية ومحمد فريد وجدي أعلم بالفلكيين من الصواف فكلامه ههنا هو المعتمد لا ما توهمه الصواف.
فصل
قال الصواف (حركة الأرض) يؤسفني أنه ليس لدي الآن من المصادر الإسلامية الكثيرة لعلم الفلك سوى كتاب واحد وفيه البركة بإذن الله وفيه ما يغني ويسد في
موضوعنا هذا.
والكتاب لمؤلفه السيد (محمود شكري الألوسي) العالم العراقي السلفي المعروف. وقد فرغ من تأليفه في 24 شوال سنة 1339 أي قبل سبعة وأربعين سنة. واسم الكتاب (ما دل عليه القرآن الكريم مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان) وأود هنا أن أنقل ما قاله هذا العالم السلفي قبل ما يقرب من خمسين سنة حول حركة الأرض وجريانها وما نقله هو عن علماء الهيئة وهم مسلمون عرف أكثرهم بالتقوى والصلاح. ورأيه هو فيما سأنقله الكفاية فيما أحسب في رد الأمر إلى نصابه وبيان الحق الصراح وصوابه الذي نطق به علماء الإسلام قبل أن يكون للكفار والمشركين علم فلك ولا نظر في النجوم.
فقد قال رحمه الله في صفحة 67 و 68 و 69 من كتابه. ومن آيات سورة الرعد قوله تعالى (وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) هذه الآية متصلة بالآية التي قبلها وهي قوله تعالى (الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش) الآية فإنه سبحانه لما ذكر من الشواهد العلوية ما ذكر أردفها بذكر الدلائل السفلية فقال (وهو الذي مد الأرض) قال علماء الهيئة الجديدة الأرض جرم من الأجرام السماوية يعني أنها جرم من الأجرام التابعة للشمس وهي السيارات الدائرة حولها على أبعاد متفاوتة وسميت (النظام الشمسي) وشكلوا لذلك شكلا في وسطه الشمس ثم عطارد وهو أقرب إلى الشمس من سائر السيارات المعروفة وبعده الزهرة ثم الأرض ثم قمرها ثم المريخ ثم فسحة واسعة فيها مئتان واثنان وسبعون جرماً صغيراً تسمى النجيمات أو الشبيهة بالسيارات ثم المشتري ثم زحل ثم أورانوس ثم نبتون ثم بُعد مهول وخلاء مجهول حتى ينتهي إلى أقرب النجوم الثوابت التي يعد كل واحد منها شمساً لا يرى توابعها للبعد الشاسع والنظام الشمسي ينتهي عند نبتون أعني لا يعرف سيار أبعد من نبتون.
بل إنه إلى الآن لم يكشف عن وجود جرم تابع للنظام الشمسي أبعد من المذكور، والنجوم الثوابت ليست من النظام الشمسي بل هي أنظمة مستقلة ترى منها شمسنا كما ترى هي من عندنا أي نقطاً لامعة نيرة في الطبقة الزرقاء، ثم قال الألوسي رحمه الله: وقالوا أي علماء الهيئة في شأن الأرض أيضاً وحركتها: السيار التابع للنظام الشمسي الذي نحن
ساكنون عليه هو الأرض وإنها كروية الشكل وأقاموا على ذلك دلائلهم المعلومة في كتبهم (وممن قال بكرويتها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأنها أي الأرض على عظمها سابحة في الفضاء وليست لها حافة ينتهي إليها من يجوب سطحها كما إذا مشت ذبابة على بطيخة معلقة فهي لا تنتهي إلى حافة كذلك الأرض الكروية الشكل السابحة في الفضاء ليس لها حافة ينتهي إليها من يجوب سطحها وهي عائمة في الفضاء، وذهبوا إلى أن حركتها وكذا سائر الأجرام السماوية من الغرب إلى الشرق لا كما يتراءى أن حركة هذه الأجرام من الشرق إلى الغرب (وهذا ما يقوله علماء الفلك اليوم) وذهبوا إلى أن لها أي الأرض حركة أخرى غير الحركة اليومية وهي الحركة السنوية، فللأرض عندهم حركتان حركة يومية وهي دورانها على محورها مرة من الغرب إلى الشرق ومنها اختلاف الليل والنهار وحركة من الغرب إلى الشرق حول الشمس مرة واحدة كل سنة. ثم قال الألوسي العالم السلفي المنصف رحمه الله: هذا ما ذكره علماء الهيئة الجديدة في شأن الأرض.
وقد تصفحت القرآن، العظيم الشأن فوجدت عدة آيات نطقت بما يتعلق بالأرض من جهة الاستدلال بها على وجود خالقها وعظمة باريها ولم يذكر فيها شيء مما يخالف ما عليه علماء أهل الهيئة اليوم ولا ينافي كرويتها ما يدل ظاهرها على المد والبسط والفرش فإن هذا كله لا ينافي الكروية لأن المراد من بسطها وتوسعتها ومدها ما يحصل به الانتفاع لمن حلها ولا يلزم من ذلك نفي كرويتها كما أن الكرة العظيمة لعظمها ترى كالسطح المستوي وكان كل قطعة منها سطح مفروش يصح القعود والنوم عليه، والكرة كلما عظمت قربت أقواس سطحها إلى الخط المستقيم. وفي الشريعة دلائل كثيرة تدل على كروية الأرض والسماء منها اعتراف الأئمة باختلاف المطالع فإن الصبح في بعض البلاد يوافق المساء في بلاد أخرى. وطلوع الهلال في بعض الآفاق يوافق غيبوبته في بلاد أخرى. وهكذا الشمس وسائر الكواكب ففي بعض الآفاق يرى القطب الشمالي فوق رءوس أهله والقطب الجنوبي لا يرى أصلا. وسكنة خط الاستواء يرون القطبين على الأفق. وفي بعض البلاد تكون الحركة فيه دولابية وفي البعض حمائلية وفي البعض رحوية كل ذلك مبني على كروية الأرض ولولاها لما كان شيء من ذلك.
وقوله تعالى (وهو الذي مد الأرض) لا ينافي الكروية وما على الأرض من الجبال والأودية والبحار لا يخرج الأرض عن
الكروية فإن أعظم جبل بالنسبة إليها كنسبة سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع وقوله تعالى (وجعل فيها رواسي) معناه جعل فيها جبالا ثوابت في احيازها من الرسو وهو ثبات الأجسام الثقيلة، وفي الخبر «لما خلق الله تعالى الأرض جعلت تميد فخلق الله الجبال عليها فاستقرت فقالت الملائكة ربنا خلقت خلقاً أعظم من الجبال قال نعم الحديد فقالوا ربنا خلقت خلقا أعظم من الحديد قال نعم النار فقالوا ربنا خلقت خلقا أعظم من النار قال نعم الماء فقالوا ربنا خلقت أعظم من الماء قال نعم الهواء فقالوا ربنا خلقت خلقاً أعظم من الهواء قال نعم ابن آدم يتصدق الصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله» فقال الألوسي رحمه الله بعد هذا. وهذا أيضاً لا ينافي حركة الأرض اليومية والسنوية التي قال بها أهل الهيئة فإن الله تعالى لو لم يخلق في الأرض الجبال لمادت أي اضطربت والميد اضطراب الشيء العظيم. فلما ألقى فيها الرواسي وهي الجبال الثوابت انتفى ذلك ووجه كون الإلقاء مانعاً من اضطراب الأرض أنها كسفينة على وجه الماء والسفينة إذا لم يكن فيها أجرام ثقيلة تضطرب وتميل من جانب إلى جانب بأدنى حركة شيء وإن وضعت فيها أجرام ثقيلة تستقر فكذا الأرض لو لم يكن عليها هذه الجبال لاضطربت فالجبال بالنسبة إليها كالأجرام الثقيلة الموضوعة في السفينة بالنسبة إليها، والمقصود أن جعل الرواسي فيها لا يعارض حركتها بوجه من الوجوه كما أن السفينة إذا كان فيها أجرام ثقيلة تمنع اضطرابها وميلها من جانب إلى جانب لا ينافي حركتها. وسنزيد ذلك بياناً فيما يناسب من الآيات الآتية إن شاء الله تعالى انتهى كلام الألوسي.
فهل رأيتم كلاماً أصرح من هذا الكلام في كروية الأرض وحركتها أليس هذا من مفاخر علمائنا وتوفيق الله لهم في معرفة العلوم الكونية، إن هذا الكتاب (ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة القويمة البرهان) انتهى صاحبه من تأليفه كما قلت منذ قرابة خمسين عاماً ومع هذا ففيه من الكلام الواضح الذي يدل على ما بلغوه من الدرجات العليا في العلوم الكونية وحركات الأفلاك رحمهم الله وجزاهم عن الإسلام خير الجزاء.
والجواب عما في هذا الفصل يتلخص في عشرة أمور:
الأول منها مدحه لكتاب الألوسي المسمى (ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة) وزعمه أن فيه البركة.
والجواب أن نقول إن البركة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وما خالفهما أو لم يكن له مستند منهما فهو قليل البركة أو عديمها.
وكتاب الألوسي فيه أشياء كثيرة ليس لها مستند صحيح وفيها ما هو مخالف للكتاب والسنة فلهذا لا خير فيه ولا يستحق المدح. والأمثلة على ذلك كثيرة.
وأقول قبل ذكر الأمثلة إن في نفسي شكاً من صحة نسبة الكتاب إلى محمود الألوسي لأمرين، أحدهما ما عرف عنه من حسن العقيدة والرد على عباد القبور وأهل البدع ولاسيما في كتابه «غاية الأماني في الرد على النبهاني» ومن كان هكذا فبعيد أن يصدر منه الكتاب المسمى (ما دل عليه القرآن مما يعضد الهيئة الجديدة).
والثاني أن الذي أبرز هذا الكتاب من أهل العراق قد قيل عنه ما قيل مما يقدح في عقيدته. وعلى هذا فلا يؤمن أن يكون قد نسب الكتاب إلى الألوسي وهو لم يتحقق نسبته إليه والله أعلم وقد نسبت النقل من الكتاب إلى الألوسي جرياً على نسبة الكتاب إليه، والمقصود من ذلك رد الكلام الباطل سواء كان للألوسي أو مفترى عليه.
فمن الأمثلة على نقصان الكتاب المشار إليه وقلة بركته أن المصنف قرر في صفحة 15 و 16 أن خلق السماء مقدم على خلق الأرض وتعسف في توجيه ذلك بما لا حاصل تحته وأجاب عن قول الله تعالى (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) بأن الخلق في الآية الكريمة بمعنى التقدير لا الإيجاد. أو على تقدير الإرادة والمعنى أراد خلق الأرض، وكذا قوله تعالى (وجعل فيها رواسي) الآية معناه أراد أن يجعل.
وكذا قوله تعالى (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) معناه قدره أو أراد إيجاده أو أوجد مواده.
وكل هذا تخبيط مخالف لنص الآية من سورة البقرة ولنصوص الآيات من سورة حم السجدة وهو مردود لأنه من تحريف الكلم عن مواضعه.
وقد تقدم قول شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى من فسر القرآن والحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه.
وقد قرر ابن كثير وغيره من المفسرين أن الأرض خلقت قبل السماء. وذكر ابن
كثير أقوال السلف في ذلك واستدل على ذلك بالآية من سورة البقرة وبالآيات من سورة حم السجدة. ثم قال فهذه وهذه دالتان على أن الأرض خلقت قبل السماء وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض. وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى (أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها. رفع سمكها فسواها. وأغطش ليلها واخرج ضحاها. والأرض بعد ذلك دحاها. أخرج منها ماءها ومرعاها. والجبال أرساها) قال فذكر خلق السماء قبل الأرض.
وفي صحيح البخاري أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن هذا بعينه فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء. وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديماً وحديثاً انتهى.
ومنها قوله في صفحة 19 عن هذا الفضاء إنه ليس له مبدأ ولا انتهاء.
وهذا خطأ ظاهر وفيه موافقة لما ذكره في صفحة 34 عن أهل الهيئة الجديدة أن سعة الجو غير متناهية عندهم. ومعنى هذا نفي وجود السموات السبع وما فوقهن من الكرسي والعرش العظيم.
وقد رد عليه المصنف في نفيهم وجود السموات ثم وافقهم من حيث لا يشعر.
والحق الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة أن هذا الفضاء الذي نحن فيه يبتدئ من الأرض وينتهي إلى السماء الدنيا ومسافته من كل جانب خمسمائة سنة. ثم بين كل سمائين فضاء مسافته من كل جانب خمسمائة سنة، وبين السماء السابعة والكرسي مسيرة خمسمائة سنة، وبين الكرسي والماء مسيرة خمسمائة سنة، والعرش فوق ذلك. والله تعالى فوق العرش. والأدلة على هذا قد تقدم ذكرها مع الأدلة على ثبات الأرض واستقرارها فلتراجع، وحسبنا أن نعتمد على ما صحت به الأحاديث ولا نتعداه ففي ذلك الكفاية والعصمة من الخطأ والزلل.
ومنها أنه ذكر في صفحة 21 أن الحكمة الباطنة في اختلاف تشكلات القمر النورية أن ذلك لاختلاف أحوال المواليد العنصرية.
وهذا تخرص لا دليل عليه من كتاب ولا سنة.
وقد بين الله تعالى الحكمة في تقدير القمر منازل فقال تعالى (لتعلموا عدد السنين
والحساب) وقال تعالى (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج).
واختلاف تشكلات القمر النورية تابع لتنقله في المنازل فلا يقال في ذلك بشيء لم يخبر الله به ولا رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومنها أنه أتى في صفحة 25 و 26 بجملة من أقوال أهل البدع وهذيان الصوفية في الكرسي، وقد تعقب ذلك بكلام بارد لا يشفي في ردها، وهذا خلاف ما كان عليه أهل السنة فإنهم كانوا لا يعبأون بأقوال أهل البدع ولا يذكرونها مع أقوال أهل السنة ولا يعدون خلافهم خلافاً في الحقيقة، وإذا ذكروا شيئاً من أقوالهم ذكروه مقروناً بالرد البليغ والإنكار الشديد والتحذير من الاغترار به لا بالتمليس والرد الضعيف كما فعله الألوسي.
ومنها أنه ذكر في صفحة 29 ما ذهب إليه أصحاب الزيج الجديد من أن الشمس ساكنة لا تتحرك أصلا وأنها مركز العالم وأن الأرض وكذا سائر السيارات والثوابت تتحرك عليها وأقاموا على ذلك الأدلة والبراهين بزعمهم وبنوا له الكسوف والخسوف ونحوهما ولم يتخلف شيء من ذلك.
قلت هذا القول معارض بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة ..... جريان الشمس وسكون الأرض. وقد تقدم ذكرها في أول الكتاب فلتراجع.
وليس من أهل الزيج الجديدة برهان على ما زعموه سوى التخرصات الكاذبة.
ومنها ما ذكره في صفحة 33 عن أهل الهيئة الجديدة أن الشمس في وسط الكواكب التي تدور حولها وأن لها حركة على نفسها وأن ليس لها حركة حول الأرض بل للأرض حركة حولها وأن الأرض إحدى السيارات.
وكل هذا تخرص لا دليل عليه. وقد تقدم رده وبيان بطلانه بالأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة والإجماع.
ومنها قوله في صفحة 42 في الخبر أن الأرض بالنسبة إلى السماء الدنيا كحلقة في فلاة وهو بالنسبة إلى العرش كذلك.
قلت هذا غلط. ولفظ الحديث عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه سأل النبي
صلى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة رواه ابن مردويه.
ومنها أنه قال في صفحة 61 الكثير على أن الأرض كرة واحدة منقسمة إلى سبعة أقاليم وحملوا الآية على ذلك - يعني قوله تعالى (ومن الأرض مثلهن).
وهذا خطأ ينبغي للألوسي أن ينبه عليه لئلا يغتر به.
وقد قال ابن كثير في قوله تعالى (ومن الأرض مثلهن) أي سبعاً أيضاً كما في الصحيحين «من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين» وفي صحيح البخاري «خسف به إلى سبع أرضين» ومن حمل ذلك على سبعة أقاليم فقد أبعد النجعة وأغرق في النزغ وخالف القرآن والحديث بلا مستند انتهى.
ومنها أنه في صفحة 63 قال في الله تعالى إنه ليس بجسم ولا جسماني.
وهذا من أقوال أهل البدع. وأما السلف الصالح فإنهم لم يتكلموا في الجسم بنفي ولا إثبات.
قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى لفظ الجسم في أسماء الله تعالى وصفاته بدعة لم ينطق بها كتاب ولا سنة ولا قالها أحد من سلف الأمة وأئمتها فلم يقل أحد منهم إن الله تعالى جسم ولا أن الله تعالى ليس بجسم.
وقال الشيخ أيضاً في موضع آخر لم ينقل عن أحد من الأنبياء ولا الصحابة ولا التابعين ولا سلف الأمة أن الله جسم أو أن الله ليس بجسم بل النفي والإثبات بدعة في الشرع انتهى وإذا علم هذا فليس بسلفي على الحقيقة من لم يسعه ما وسع السلف الصالح من السكوت عن الكلام في الجسم وعدم التعرض له بالنفي أو الإثبات.
ومنها أنه ذكر في صفحة 66 قول الفلاسفة المتأخرين أن للشمس حركة مركزها.
قال وهو معنى (تجري لمستقر لها).
وهذا خطأ مردود من وجهين. أحدهما أن الذي يجري لا يستقر في موضعه بل يفارقه بالانتقال إلى غيره.
ومعنى قولهم حركة مركزها أنها تتحرك على نفسها كما صرح به الألوسي عنهم في
عدة مواضع من كتابه. وتطبيق الآية على هذا القول من تحريف الكلم عن مواضعه. ودؤبها في السير وأنها تأتي من المشرق وتذهب نحو المغرب.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه حين غربت الشمس «تدري أين تذهب قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال لها ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم)» رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والشيخان والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح.
وفي رواية لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً «أتدرون أين تذهب هذه الشمس قالوا الله ورسوله أعلم قال إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئاً حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش فيقال لها ارجعي ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها» .
وهذا الحديث الصحيح صريح في رد ما زعمه الفلاسفة المتأخرون من حركة الشمس على مركزها أو على نفسها.
وصريح أيضاً في رد ما حاوله الألوسي من تطبيق الآية على زعمهم الباطل.
ومنها أنه في صفحة 67 و 68 ذكر قول أهل الهيئة الجديدة في سكون الشمس ودوران الأرض عليها، ثم قال وقد تصفحت القرآن العظيم الشأن فوجدت عدة آيات نطقت بما يتعلق بالأرض من جهة الاستدلال بها على وجود خالقها وعظمة باريها ولم يذكر فيها شيء مما يخالف ما عليه أهل الهيئة اليوم.
قلت هذا مردود وقد تقدم التنبيه عليه.
ومنها أنه في صفحة 85 ذكر قول الله تعالى (وترى الشمس إذا طلعت) الآية. وقوله تعالى (حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة) ثم قال فقد أثبت
للشمس حركة الطلوع والغروب ولعل ذلك باعتبار نظر الناظر كما في راكب السفينة فإنه يرى ما على الساحل متحركاً وليس بمتحرك قلت هذا الكلام من تحريف الكلم عن مواضعه وفيه موافقة لأهل الهيئة الجديدة فيما زعموه من سكون الشمس واستقرارها وذلك مردود بالنصوص الكثيرة الدالة على جريان الشمس وسبحها في الفلك ودؤبها في السير وأن الله يأتي بها من المشرق فتطلع من مطلعها وتدلك أي تزول إذا كان نصف النهار وتغرب من مغربها. والله تبارك وتعالى لا يخبر بخلاف الحقيقة. وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد تقدم إيراد الأدلة على جريان الشمس في أول الكتاب فلتراجع ففيها إبطال تأويل المتأولين وتحريف المحرفين.
ومنها أنه في صفحة 99 ذكر قول الله تعالى (ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق) قال والطرائق جمع طريقة بمعنى مطرقة وهي السموات السبع. قال وسميت السموات بذلك لأنها طرائق الكواكب في مسيرها. وهذا عين مذهب الفلاسفة المتأخرين القائلين بالجاذبية ودوران الكواكب على الشمس - إلى أن قال - ففي هذه الآية دليل وأي دليل لأهل فن الهيئة الجديدة.
قلت ليس الأمر كما زعمه الألوسي فليس في هذه الآية دليل لأهل الهيئة الجديدة بوجه من الوجوه. وإنما فيها الرد عليهم في نفيهم وجود السموات السبع.
وفيها أيضاً الرد على الألوسي فيما زعمه في صفحة 19 أن هذا الفضاء ليس لها مبدأ ولا انتهاء.
وفيها أيضاً الرد عليه فيما زعمه في صفحة 130 أنه يمكن أن تكون السموات أكثر من سبع.
وقد قال مجاهد في قوله (سبع طرائق) يعني السموات السبع. وقال البغوي أي سبع سموات سميت طرائق لتطارقها وهو أن بعضها فوق بعض يقال طارقت النعل إذا جعلت بعضه فوق بعض. وكذا قال الخليل والفراء والزجاج وغيرهم. وذكر ابن الجوزي في تفسيره عن ابن قتيبة نحو ذلك.
وهذه الآية كقوله تعالى (الذي خلق سبع سموات طباقاً ما ترى في خلق الرحمن
من تفاوت) الآية. وقوله تعالى مخبراً عن نوح عليه الصلاة والسلام أنه قال لقومه (ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً).
والقول بأن السموات إنما سميت طرائق لأنها طرائق الكواكب في مسيرها قول ضعيف لم يذكر عن أحد الصحابة ولا التابعين وإنما ذكره بعض المتأخرين بصيغة التمريض ولم يذكر قائله وليس في الآية على هذا القول دليل على ما يزعمونه من الجاذبية ودوران الكواكب على الشمس بوجه من الوجوه.
والاستدلال بها على هذا القول الباطل إلحاد في آيات الله تعالى.
وقد تقدم قول شيخ الإسلام أبي العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى من فسر القرآن والحديث وتأوله على غير التفسير المعروف عن الصحابة والتابعين فهو مفتر على الله ملحد في آيات الله محرف للكلم عن مواضعه.
وأيضاً فإن الله تعالى قد جعل الكواكب زينة للسماء الدنيا ورجوماً للشياطين كما قال تعالى (إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب. وحفظاً من كل شيطان مارد) وقال تعالى (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين) وقال تعالى (وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم).
وإذا كانت الكواكب زينة للسماء الدنيا ورجوماً للشياطين فكيف يقال إن السموات السبع طرائق للكواكب في مسيرها. لا شك أن هذا قول باطل مردود بالآيات التي ذكرنا والله أعلم.
ومنها أنه في صفحة 101 و 102 ذكر قول الله تعالى (وينزل من السماء من جبال فيها من برد) ثم ذكر أن أهل الأرصاد اليوم كشفوا في القمر جبالا ووهاداً وأودية وهكذا الشمس وسائر السيارات وظنوا أن فيها مخلوقات نحو سكنة الأرض وزعموا أن فيها بحاراً وأنهاراً. قال فلعل جبال البرد المذكورة في الآية من تلك الجبال التي في هاتيك الأجرام فيوصله الله إلى الأرض بكيفية لا ندركها وهو على كل شيء قدير.
قلت هذا كله تخرص وهذيان. ومن أين لهم اكتشاف الشمس والقمر هما في السماء بنص القرآن. والكواكب من زينة السماء الدنيا بنص القرآن، وبين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام بنص الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فمن أين
لبني آدم أن يكتشفوا الأجرام العلوية من هذا البعد المفرط. والبرد إنما ينزل من السحاب كما هو مشاهد. والسحاب إذا تراكم كان أمثال الجبال الشاهقة. وقد قال بعض المفسرين إن الجبال ههنا كناية عن السحاب وهذا هو الصحيح لأن الله تعالى ذكر نزول المطر من السماء في آيات كثيرة من القرآن كقوله تعالى (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها) وقوله تعالى (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض) وقوله تعالى (وأنزلنا من السماء ماء مباركاً) وقوله تعالى (وأنزلنا من السماء ماء طهوراً. لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاماً وأناسي كثيراً) وقوله تعالى (هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون. ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون).
إلى غير ذلك من الآيات التي يذكر الله فيها نزول الماء من السماء والمراد بذلك السحاب كما هو منصوص عليه في مواضع من القرآن كقوله تعالى (الله الذي يرسل الرياح فتثير سحاباً فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خلاله فإذا أصاب به من يشاء من عباده إذا هم يستبشرون) وقوله تعالى (ألم تر أن الله يزجي سحاباً ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاماً فترى الودق يخرج من خلاله) الآية. والودق هو المطر. وقوله تعالى (وهو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحاباً ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) وقوله تعالى (والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور) وقوله تعالى (أفرأيتم الماء الذي تشربون. أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون. لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون).
وقد قال ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر) كثير لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب فتحت أبواب السماء بالماء من غير سحاب ذلك اليوم فالتقى الماءان على أمر قد قدر.
وإذا علم هذا فالبرد مطر منعقد من شدة البرد الذي يكون في السحاب. ولفظ السماء يطلق ويراد به السموات السبع ويطلق ويراد به الدنيا فقط. ويطلق ويراد به ما علا
على الأرض من سحاب وسقوف كما في الآيات التي تقدم ذكرها وكما في قوله تعالى (فليمدد بسبب إلى السماء) يعني سماء بيته وهو السقف.
وأيضاً فإن الله تعالى ختم الآية بقوله (يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار) وهذا أوضح دليل على أن المراد بالجبال المذكورة في الآية ما تراكم من السحاب وصار أمثال الجبال الشاهقة والضمير في برقه عائد إلى السماء الذي هو السحاب المتراكم فإن سنا برقه يكاد يذهب بأبصار الناظرين إليه من شدة ضوئه في الغالب. فأما الأجرام العلوية فليس يرى أهل الأرض منها شيئاً من البرق لا ضعيفاً ولا قوياً يكاد سناه يذهب بالأبصار. والله تبارك وتعالى إنما خاطب الناس بما يعرفونه وأخبرهم بما يشاهدونه بأبصارهم في كثير من الأوقات.
وأيضاً فلو كان البرد ينزل إلى الأرض من جبال في الأجرام العلوية لكان ينزل في الصحو وعدم السحاب كما ينزل في حال الغيم وتراكم السحاب وهذا لا يقوله عاقل.
ومنها أنه في صفحة 106 ذكر قول الله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) ثم قال ربما استدل علماء الهيئة المتأخرون على ما ادعوه من حركة الأرض اليومية والسنوية فإنهم يقولون إن الرائي يرى الجبال ساكنة وهي متحركة أشد الحركة. ثم ذكر عن المفسرين أنهم يرون غير هذا الرأي وأن ذلك إنما يكون يوم القيامة وخراب العالم لأنها تمر مر السحاب اليوم.
قلت والحق ما ذهب إليه المفسرون. وقد بين الله تعالى ذلك بقوله (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين. وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بما تفعلون. من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون. ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون).
وأما حمل الآية على ما ذهب إليه أهل الهيئة المتأخرون فهو من الإلحاد في آيات الله تعالى وتحريف الكلم عن مواضعه.
والعجب من الألوسي كيف ذكر هذا القول الباطل ولم ينبه على بطلانه وهذا مما يعاب عليه.
ومنها أنه في صفحة 109 و 110 ذكر عن أهل الهيئة المتأخرين أن قيام العالم العلوي والسفلي بالجاذبية.
وهذا لا دليل عليه من كتاب ولا سنة فلا ينبغي أن يثبت أو ينفى إلا بدليل يدل على ذلك.
وقد قال الله تعالى (إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا. ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) وقال تعالى (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) وقال تعالى (ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره).
فالسماء والأرض قائمتان بأمر الله تعالى وهو الذي يمسكهما أن تزولا ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه. وحسب المسلم أن يعتقد ما أخبر الله به في كتابه ولا يتعداه. ومنها ما في صفحة 116 نقلا عن صاحب روح المعاني أنه قال في الشمس لا يبعد أن تكون لها نفس ناطقة كنفس الإنسان. بل صرح بعض الصوفية بكونها ذات نفس ناطقة كاملة جداً. قال والحكماء المتقدمون أثبتوا النفس للفلك، وصرح بعضهم بإثباتها للكواكب أيضاً وقالوا كل ما في العالم العلوي من الكواكب والأفلاك الكلية والجزئية والتداوير حي ناطق - ثم ذكر هذياناً كثيراً إلى أن قال في صفحة 117 - فيمكن أن يقال للشمس نفساً مثل تلك الأنفس القدسية إلى آخر ما قاله من الهذيان.
قلت أما وصفه للفلاسفة بالحكماء فهو خطأ ظاهر. والصواب أن يقال إنهم هم السفهاء الأغبياء الجاهلون لأنهم قد أشركوا بالله وخالفوا ما جاءت به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وزعموا أن النبوة مكتسبة وأنها فيض يفيض على روح النبي إذا استعدت نفسه لذلك فمن راض نفسه حتى استعدت فاض ذلك عليه، والنبي عندهم من جنس غيره من الأذكياء الزهاد لكنه قد يكون أفضل. والملائكة عندهم هي ما يتخيل في نفسه من الخيالات النورانية، وكلام الله هو ما يسمع في نفسه من الأصوات بمنزلة ما يراه النائم في منامه. ويجوزون على الأنبياء الكذب في خطاب الجمهور للمصلحة والفيلسوف عند بعضهم أعظم من النبي. وعند بعضهم أن الرسالة إنما هي للعامة دون الخاصة. والعبادات كلها عندهم مقصودها تهذيب الأخلاق. والشريعة عندهم سياسة مدنية. إلى غير ذلك من أقاويلهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة، وقد كان معلمهم الأول
أرسطو وزيراً للأسكندر بن فيلبس المقدوني ملك اليونان. وكان هو والملك وأصحابهما مشركين يعبدون الكواكب والأصنام ويعانون السحر. ومن كانت هذه حالهم فهم السفهاء الجهلة الأغبياء على كل حال.
وأما ما ذكره عنهم من إثبات النفس للفلك وإثباتها للكواكب والأفلاك الكلية والجزئية والتداوير فكله باطل وضلال. وقد رد عليهم شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى في مواضع كثيرة من كتبه، ولا يتسع هذا الموضع لذكر شيء من الرد عليهم، وإنما المقصود ههنا التنبيه على بطلان ما نقله عنهم صاحب روح المعاني.
والتنبيه أيضاً على بطلان ما زعمه من إمكان أن يكون للشمس نفس ناطقة كنفس الإنسان فإن هذا لم يدل عليه كتاب ولا سنة ولا قاله أحد من الصحابة ولا التابعين ولا تابعيهم بإحسان. وإنما هو مأخوذ عن الفلاسفة الذين كانوا يعبدون الكواكب ويعظمونها غاية التعظيم ويتقربون إليها بأنواع التقربات.
ومنها أنه في صفحة 118 و 119 ذكر عن الفلاسفة المتأخرين أن الشمس تدور على مركز آخر قالوا وهذا هو المراد بقوله تعالى (والشمس تجري لمستقر لها) فإنه يدل على دوران الشمس على مركز آخر ويقال إنه كوكب من كواكب الثريا أو يقال معنى جريانها لمستقر أنها تجري على مركزها ومحورها.
قلت وحمل الآية على ما ذكر ههنا من الإلحاد في آيات الله وتحريف الكلم عن مواضعه
فأما القول بدوران الشمس على الثريا فهو ظاهر البطلان لأن الثريا من جملة الكواكب التي قد جعلها الله تعالى زينة للسماء الدنيا وما كان كذلك فإنه لا يكون مركزاً تدور عليه الأفلاك وأما القول بأنها تدور على محورها فإنه ينافي ما أخبر الله به من جريانها وسبحها في الفلك ودؤبها في ذلك. وما أخبر به من طلوعها وغروبها ودلوكها وأنه يأتي بها من المشرق. وما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من جريانها وذهابها إلى مستقرها تحت العرش إذا غربت ورجوعها إلى مطلعها وطلوعها وارتفاعها واستوائها وزوالها ودنوها للغروب وغروبها وحبسها ليوشع بن نون حين حاصر القرية حتى فتحها الله عليه.
وقد ذكرت الآيات والأحاديث الدالة على جريان الشمس في أول الكتاب فلتراجع.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه حين غربت الشمس «تدري أين تذهب قلت الله ورسوله أعلم قال فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها وتستأذن فلا يؤذن لها يقال ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) رواه الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي والشيخان والترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح.
وفي رواية لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً «أتدرون أين تذهب هذه الشمس قالوا الله ورسوله أعلم قال إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت فترجع فتصبح طالعة من مطلعها ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئاً حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك حتى العرش فيقال لها ارجعي ارتفعي أصبحي طالعة من مغربك فتصبح طالعة من مغربها» .
وهذا الحديث صحيح في بيان المراد من قول الله تعالى (والشمس تجري لمستقر لها). وفيه الرد على من تأول الآية على غير تأويلها.
وأما قول الألوسي أو يقال معنى جريانها لمستقر أنها تجري على مركزها ومحورها. فهو خطأ مردود من وجهين. أحدهما أن الذي يجري لا يثبت في موضعه بل يفارقه بالانتقال إلى غيره كما قال الله تعالى (ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام. إن يشاء يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره).
ففرق سبحانه وتعالى بين جري السفن في الماء وبين ركودها على ظهر البحر وهو وقوفها وسكونها عليه.
وقال تعالى عن سفينة نوح عليه الصلاة والسلام (وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم، وهي تجري بهم في موج كالجبال) الآيات إلى قوله تعالى (واستوت على الجودي).
ففرق تبارك وتعالى بين جري السفينة في الماء وبين رسوها واستوائها على جبل الجودي
وقال تعالى (ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها) الآية. والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً.
وفي صحيح مسلم وسنن أبي داود وابن ماجه والدارمي عن جابر رضي الله عنه في حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال فلما دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني من مزدلفة - مرت به ظعن يجرين. الحديث.
الوجه الثاني أن الذي يدور على محوره مع ثباته في موضعه لا يوصف بالجريان وإنما يوصف بالدوران. والله تبارك وتعالى قد وصف الشمس بالجريان ولم يصفها بالدوران وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم قد وصفها بالجريان ولم يصفها بالدوران، فتبين بطلان ما حاوله المقلدون لأهل الهيئة الجديدة من حمل الآية الكريمة على زعمهم الباطل.
ومنها أنه في صفحة 119 ذكر قول الله تعالى (والشمس تجري لمستقر لها) الآيات إلى قوله تعالى (وكل في فلك يسبحون) ثم قال في صفحة 120 وهذه الآية من أعظم ما يتمسك به المتشرعون من علماء الهيئة الجديدة.
قلت ليس كذلك بل في هذه الآيات رد عليهم لأن فيها النص على جريان الشمس وهم قد أنكروه. وليس فيها ما يدل على جريان الأرض كما زعموه.
ومنها ما ذكره في صفحة 122 عن الفلاسفة أن أصغر الثوابت عندهم أعظم من الأرض.
وهذا من التخرص والقول بغير علم.
وقد ذكرت في آخر الأدلة القرآنية على ثبات الأرض ما يدل على انتثار الكواكب في البحر يوم القيامة وتكوير الشمس والقمر فيه فليراجع ففيه دليل على أن الأرض أعظم من الكواكب كلها والله أعلم.
ومنها أنه قال في صفحة 129 وقد غلب على ظن أكثر أهل الحكمة الجديدة أن القمر عالم كعالم أرضنا هذه وفيه جبال وبحار ويزعمون أنهم يحسون بها بواسطة أرصادهم وهم مهتمون بالسعي في تحقيق الأمر فيه.
قلت هذا تخرص ورجم بالغيب وقد قال الله تعالى (وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً).
ومن أين لهم الوصول إلى القمر وتحقيق الأمر فيه وهو في السماء بنص القرآن، وبين