الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَفْسِيرُ سُورَةِ الأَنْعَامِ
يقول اللَّهُ جل وعلا: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)} [الأنعام: آية 33].
قولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} قرأه عامَّةُ القراءِ، ما عدا نافعًا:{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} مضارعُ حَزَنَه الأمرُ - بالثلاثيِّ - يَحْزُنُهُ، وقرأه نافعٌ وحدَه:{قد نعلم إنه لَيُحْزِنُك} مِنْ أَحْزَنَهُ الأَمْرُ - بصيغةِ الرباعيِّ - يُحْزِنُهُ (بِضَمِّ الياءِ)
(1)
.
(1)
انظر: المبسوط لابن مهران ص171.
وقولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} قرأه عامةُ القراءِ ما عدا نافعًا والكسائيَّ: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} بصيغةِ (التفعيلِ). وقرأه نافعٌ والكسائيُّ من بين القُراءِ {فإنهم لا يُكْذِبُونَك} بصيغةِ (الإفعالِ) لا بصيغةِ (التفعيلِ)
(1)
.
وَسَبَبُ نزولِ هذه الآيةِ كما ثبتَ عن عَلِيٍّ رضي الله عنه أن الكفارَ - كفارَ مكةَ - كَأَبِي جهلٍ ونظرائِه قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: نحنُ لَا نُكَذِّبُكَ، ونعلمُ أنك صادقٌ أمينٌ، ولكن هذا الذي جئتَ به هو الذي نُكَذِّبُهُ، فأنزلَ اللَّهُ:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}
(2)
.
(1)
المصدر السابق ص (193).
(2)
أخرجه الترمذي في السنن، كتاب تفسير القرآن، باب (7)، حديث رقم:(3064)(5/ 261)، والحاكم (2/ 315) عن علي رضي الله عنه. وقال الحاكم:«صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه» اهـ. وعقبه الذهبي بقوله: «قلت: ما خرجا لناجية شيئا» اهـ. كما أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1282)، والدارقطني في العلل (4/ 143)، وأورده السيوطي في الدر (3/ 9) وعزاه للترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والحاكم، والضياء.
وأخرجه الترمذي (5/ 261)، وابن جرير (11/ 334)، والواحدي في أسباب النزول (216) وابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1282)، والدارقطني في العلل (4/ 143). عن ناجية بن كعب مرسلا. قال الترمذي:(وهذا أصح) اهـ.
وجميع طرق هذا الحديث - بالوصل والإرسال - تدور على أبي إسحاق السبيعي الذي يرويه عن ناجية بن كعب. وأبو إسحاق السبيعي رحمه الله قد رُمي بالاختلاط والتدليس كما في التهذيب (8/ 57 - 59) وقد عنعنه عن ناجية. وقد ضعف الألباني هذا الحديث (موصولا ومرسلا) انظر: ضعيف سنن الترمذي ص (374) وصححه أحمد شاكر والأرنؤوط. انظر: عمدة التفسير (5/ 24 - 25)، جامع الأصول (2/ 132).
و (قد) في قولِه: {قَدْ نَعْلَمُ} هي للتحقيقِ
(1)
، أي: لتحقيقِ عِلْمِ اللَّهِ جل وعلا.
وما جاءَ على ألسنةِ علماءِ العربيةِ
(2)
من أن (قد) إذا دَخَلَتْ على المضارعِ أنها تكونُ للتقليلِ، وأنها تارةً تكونُ للتكثيرِ كـ «رُبَّمَا» ، وَاسْتَدَلُّوا بأنها تكونُ تارةً للتكثيرِ بقولِ الشاعرِ
(3)
:
قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُصْفَرًّا أَنَامِلُهُ كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفُرْصَادِ
وقول الآخَرِ
(4)
:
أَخِي ثِقَةٍ لَا تُتْلِفُ الْخَمْرُ مَالَهُ وَلَكِنَّهُ قَدْ يُتْلِفُ الْمَالَ نَائِلُهْ
قالوا: «قد يُتلفُ المالَ» أي يَكثُر مِنْ نَائِلِهِ إتلافُ المالِ، وكذلك يَكْثُرُ في هذا المفتخرِ بقتلِ الأقرانِ: قتلُ الأقرانِ. كُلُّ هذا خلافُ التحقيقِ في هذه الآيةِ؛ لأن (قد) فيها للتحقيقِ، يُبَيِّنُ اللَّهُ لِخَلْقِهِ مُحَقِّقًا لهم أن عِلْمَهُ مُحيطٌ بما ذَكَرَ أنه يَعْلَمُهُ، وهو كثيرٌ في
(1)
انظر: الدر المصون (4/ 601).
(2)
في هذه المسألة انظر: البحر المحيط (4/ 110)، الدر المصون (1/ 412)، (4/ 602)، الخزانة (4/ 502)، البرهان للزركشي (2/ 417)، قواعد وفوائد لفقه كتاب الله تعالى ص45.
(3)
البيت لعبيد بن الأبرص وهو في الكتاب لسيبويه (4/ 224)، البحر المحيط (4/ 110)، الخزانة (4/ 502)، الدر المصون (1/ 412). واصفرار الأنامل هنا كناية عن الموت. والفرصاد: ماء التوت، أي من الدم.
(4)
البيت لزهير. وهو في البحر المحيط (4/ 110) الدر المصون (4/ 601، 602) والمُثبت فيهما: «ولكنه قد يُهْلِكُ» .
القرآنِ، كقوله:{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ} [الأحزاب: آية 18]{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} [البقرة: آية 144]، {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ} [الحجر: آية 97] كُلُّ هذه الآياتِ (قد) فيها قَبْلَ الفعلِ المضارعِ للتحقيقِ كما هُنَا.
{قَدْ نَعْلَمُ إنَّهُ} الضميرُ في قولِه: «إنه» هو ضميرُ الشَّأْنِ
(1)
{قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ} أي الأمرُ والشأنُ، واللَّه {لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} .
وهذا الذي يقولونه، الذي يَحْزُنُهُ، أَشَارَتْ له آياتٌ أُخَرُ، كما بَيَّنَ تعالى أن هذا الذي يقولونَه له يُحْزِنُهُ، وأنه يَضِيقُ به صدرُه كما قال:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: آية 97] وَبَيَّنَ في سورةِ هود أن هذا الذي يضيقُ صدرُه مما يقولونَ له إنه مِنْ نوعِ التكذيبِ والتعنتِ كما قال: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} [هود: آية 12] يعني: ضائقٌ صَدْرُكَ؛ لأَجْلِ أن يقولوا تَكْذِيبًا وَتَعَنُّتًا: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يُصَدِّقُهُ.
وقال بعضُ العلماءِ
(2)
: هذا الذي يحزنه من كلامِهم قولُهم له: «أَنْتَ شَاعِرٌ، سَاحِرٌ، كَاهِنٌ، هذا الذي جئتَ به أساطيرُ الأَوَّلِينَ، لا نقبلُ دِينَكَ» ، هذا التكذيبُ وَنِسْبَتُهُ إلى أنه ساحرٌ، مجنونٌ، كاهنٌ، هذا الذي يُؤْذِيهِ وَيَضِيقُ به صدرُه، ويحزنه. وقد بَيَّنَ له اللَّهُ (جل وعلا) في آخِرِ سورةِ الْحِجْرِ علاجَ هذا الداءِ من هذا الذي يقولونَ له فَيُحْزِنُهُ، وَبَيَّنَ له أنه إذا أَحْزَنَهُ ذلك القولُ الذي يقولون أنه يُبَادِرُ إلى
(1)
انظر: الدر المصون (4/ 603).
(2)
انظر: البحر المحيط (4/ 111).
الصلاةِ؛ فإن الصلاةَ يُعِينُهُ اللَّهُ بها وَيُذْهِبُ عنه ذلك الحُزنَ، كما قال:{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: آية 45].
وقال له في آخِرِ سورةِ الْحِجْرِ: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: آية 97] فَرَتَّبَ على ضِيقِ صَدْرِهِ بما يقولون - بالفاءِ - قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: آية 98].
عرفنا أن هذا التسبيحَ والصلاةَ والإنابةَ إلى اللَّهِ هو دواءُ ذلك الحزنِ والأَذَى الذي يَنَالُهُ منهم؛ ولذا كان صلى الله عليه وسلم كما في حديثِ نعيمِ بنِ عمارٍ كان - إذا حَزَبَهُ أَمْرٌ بَادَرَ إلى الصلاةِ
(1)
، صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه، كما دَلَّ على ذلك قولُه:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ} [الحجر: الآيتان 97، 98] أي فَدَوَاءُ ذلك هو ما أَمَرَكَ رَبُّكَ به بقولِه: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} وقال هنا: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} هذا الذي يقولونَه لكَ نحن نعلمُ أنه يحزنك، أي: يُورِثُكَ الحزنَ لِمَا يَلْقَوْنَكَ به من التكذيبِ، ونسبتِهم إياك إلى السحرِ والشعرِ والكهانةِ والجنونِ هذا يؤذيه صلى الله عليه وسلم، فيضيقُ به صدرُه، وَمِنْ أَشَدِّ ما يؤذيه: امتناعُهم من الإيمانِ؛ لأنه صلواتُ الله وسلامُه عليه مجبولٌ على الشفقةِ، وقد وصفَه اللَّهُ بالرأفةِ والرحمةِ بالمؤمنين في قولِه:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: آية 128] فمعنَى {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي يعزُّ عليه وَيَعْظُمُ وَيَكْبُرُ عليه كُلُّ ما يصيبكم منه العنت، وهو المشقةُ والأذى
(2)
(1)
مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة.
(2)
انظر: تذكرة الأريب لابن الجوزي (1/ 229).
إلى أن قال: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} كان إذا امْتَنَعُوا من الإيمانِ أَسِفَ وَحَزِنَ حُزْنًا شديدًا، كما قال له اللَّهُ:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: آية 3] أي: لأجلِ أن لا يكونوا مؤمنين. و (الباخع) معناه: المهلكُ
(1)
،
أي: فلعلك مهلكُ نفسك أَسَفًا لأجلِ أنهم لم يؤمنوا {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: آية 6] أي حُزْنًا شديدًا عليهم {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: آية 8] ونحو ذلك من الآيات
(2)
؛ وَلِذَا قال له اللَّهُ: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ} {الَّذِي} موصولٌ، وجملةُ الموصولِ {يَقُولُونَ} والضميرُ العائدُ إلى الصلةِ محذوفٌ؛ لأنه منصوبٌ بفعلٍ، وتقديرُه:(قد نعلمُ إنه ليحزنكَ الذي يقولونَه) فالهاءُ المحذوفةُ التي في محلِّ المفعولِ هي الرابطُ بين الصلةِ والموصولِ.
ثم إن الله قال لِنَبِيِّهِ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} . {فإنهم لَا يُكْذِبونَكَ}
(3)
قال بعضُ العلماءِ: معنى الْقِرَاءَتَيْنِ واحدٌ
(4)
، والعربُ تُعَدِّي الثلاثيَّ بالتضعيفِ كما تُعَدِّيهِ بالهمزةِ؛ كما يقال:«كثَّرت الشيءَ» و «أَكْثَرْتُهُ» . وجماهيرُ العلماءِ على أن بَيْنَهُمَا في المعنى فَرْقًا
(5)
، أن معنَى (كذَّب) ليس معنى (أَكْذَبَ)، والمقررُ في علومِ القراءاتِ: أن القراءتين حُكْمُهُمَا حكمُ الآيتين المختلفتين، فَكُلٌّ
(1)
انظر: تفسير المشكل من غريب القرآن ص (141)، الدر المصون (7/ 442) ..
(2)
راجع الأضواء (2/ 189).
(3)
انظر: المبسوط ص (193).
(4)
انظر: حجة القراءات (248).
(5)
انظر: المصدر السابق (247).
منهما تفيدُ ما تَضَمَّنَتْهُ من الأحكامِ والمعاني
(1)
. أما على قراءةِ الجمهورِ: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} فالتحقيقُ أن المعنى: أن الكفارَ لا يُكذبونك.
وَاعْلَمْ أنه معروفٌ في القرآنِ وفي لغةِ العربِ أن الفعلَ يُسْنَدُ إلى المجموعِ والمرادُ بعضُ المجموعِ لا جميعهم
(2)
، وَمِمَّا يوضحُ هذا المعنى غايةَ الإيضاحِ من القرآنِ قراءةُ حمزةَ والكسائيِّ
(3)
: {فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} [البقرة: آية 191] بصيغةِ (القَتْل) في الفعلين؛ لأنه لا يُعْقَلُ أن الذي قُتِلَ بالفعلِ يُؤْمَرُ بقتلِ قاتلِه، وَلَكِنَّ المعنى: فإن قتلوا بعضَكم فليقتلهم البعضُ الذي لم يُقْتَلْ
(4)
. وهذا أسلوبٌ معروفٌ في القرآنِ وفي غيرِه. وإذا عرفتَ هذا فَاعْلَمْ أن بعضَ الكفارِ عَلِمُوا صدقَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الباطنِ، وقلوبُهم مُوقِنَةٌ أنه صَادِقٌ
(5)
، كما قال أبو جهل - لَعَنَهُ اللَّهُ - لَمَّا قال له الأخنسُ بنُ شُريق قال له: أنا وأنتَ في خلوةٍ، ليس معنا أحدٌ من قريشٍ، فَأَخْبِرْنِي عن صحةِ ما يقولُه محمدٌ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه). فقال له أبو جهلٍ: وَاللَّهِ إِنِّي لأعلمُ أنه صادقٌ، وأنه نَبِيٌّ، وَوَاللَّهِ ما كذبَ محمدٌ قطُّ ولا يكذبُ، ولكن كنا نحن وَبَنُو هاشمٍ فَرَسَيْ رِهَانٍ، طعِموا فَأَطْعَمْنَا، وفعلوا
(1)
في هذه القاعدة انظر: مجموع الفتاوى (13/ 391 - 398، 15/ 248، 17/ 381 - 382)، شفاء العليل (96)، البرهان للزركشي (1/ 326)، الإتقان (1/ 227)، أضواء البيان (2/ 8، 120، 6/ 226، 680).
(2)
في هذا المعنى انظر: ابن جرير (1/ 501)، (2/ 485 - 487، 500)، (16/ 91) وراجع ما مضى عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة.
(3)
مضى عند تفسير الآية (72) من سورة البقرة.
(4)
انظر: حجة القراءات ص (128).
(5)
انظر: ابن جرير (11/ 331)، الدر المصون (4/ 604).
ففعلنا، واليومَ يقولون: مِنَّا نبيٌّ! فَمَنْ لنا بهذه؟ وَاللَّهِ لا نعترفُ بنبوتِه أبدًا
(1)
!!
ولا شكَّ أن هنالك قومًا من الجهلةِ يسمعونَ كلامَ الرؤساءِ فَيَظُنُّونَ أنه كاذبٌ، ويعتقدون كذبَه. إذا عرفتُم هذا فقولُه:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ} راجعٌ إلى الذين عَلِمُوا صِدْقَهُ. وكثيرٌ من عقلائِهم عَالِمٌ في قرارةِ نفسِه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَبِيٌّ، وأنه رسولٌ، وهم يَجْحَدُونَ ذلك ظُلْمًا. وعليه فالمعنَى:{لَا يُكَذِّبُونَكَ} في الحقيقةِ، فيما بينهم وبينَ أنفسهم، ولكن الظالمين يَجْحَدُونَ آياتِ اللَّهِ التي أُنْزِلَتْ عليه، فلم يعترفوا بأنها من اللَّهِ، كما قال له أبو جهلٍ: أنتَ عندنا صادقٌ، ولا نُكَذِّبُكَ، ولكن نُكَذِّبُ هذا الذي جئتَ به
(2)
.
أما على قراءةِ: {فإنهم لا يُكْذِبُونَك} فـ (أَكْذَبَ) بصيغةِ (الإفعالِ) تفترقُ مع (كذَّب) بمعنيين
(3)
:
أحدُهما: أن الفرقَ بينَ (كذَّب) و (أَكْذَبَ): أنكَ إذا كَذَّبْتَ إِنْسَانًا، معناه قلتَ له: كَذَبْتَ، وَنَسَبْتَهُ إلى افتراءِ الكذبِ. وإذا قيلَ: أَكْذَبَ إنسانٌ إنسانًا، معناه: أن كلامَه يعتقدُ أنه كَذِبٌ، ولا يُنْسَبُ ذلك الإنسانُ إلى الكذبِ، بل يقولُ: لعله أَخْطَأَ، أو نَسِيَ، أو سَهَا وهو لا يقصدُ الكذبَ أو تَخَيَّلُ له غيرُ الْحَقِّ. فمعنى «أَكْذَبَ» على هذا: أنه لا يتعمدُ الكذبَ، وأنه
(1)
أخرجه ابن جرير (11/ 333)، والواحدي في أسباب النزول ص (216) عن السدي مرسلا. على أن ذلك كان في يوم بدر.
وروى ابن إسحاق نحوه عن الزهري مرسلا. على أن ذلك كان في مكة قبل الهجرة.
انظر: السيرة لابن هشام (1/ 328 - 329)، تفسير ابن كثير (2/ 129).
(2)
مضى قريبا.
(3)
انظر: حجة القراءات ص (247)، القرطبي (6/ 416)، البحر المحيط (4/ 111).
لا يُنْسَبُ إلى الاختلاقِ والافتراءِ، ولكن القولَ الذي جاء به غيرُ مُطَابِقٍ لِلْحَقِّ.
الوجهُ الثاني في قراءةِ {يُكْذِبُونَك} : - وهو الذي عليه الأكثرُ -: أنه تقررَ في فَنِّ التصريفِ أن من معانِي «أَفْعَلَ» إذا قلتَ: أَفْعَلتُ الرجلَ، إذا وجدتَه كذا، تقول: أَحْمَدتُهُ إذا وجدتَه حَمِيدًا، وأَبْخَلْتُه إذا وجدتَه في نفسِ الأمرِ بَخِيلاً، وأَكْذَبْتُه إذا وجدتَه في نفسِ الأمرِ كَاذِبًا، وعلى هذه القراءةِ: إن ظَنَّتْ نفوسُهم أَنَّكَ كاذبٌ، وَكَذَّبُوكَ، وقالوا: إنك كاذبٌ ساحرٌ كاهنٌ فإنهم لا يصادفونك في نفسِ الأمرِ كاذبًا، فأنتَ على حَقٍّ فيما بينَك وبينَ اللَّهِ، فَهَوِّنْ عليكَ، ولا تَثْقُلْ عَلَيْكَ افْتِرَاءَاتُهُمْ.
هذان الوجهانِ من التفسيرِ في قراءةِ {يُكْذِبُونَك} وقد قَدَّمْنَا معنَى {يُكَذِّبُونَكَ} .
{وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ} قد قَدَّمْنَا معنَى الظلمِ
(1)
.
{بِآيَاتِ اللَّهِ} أي الشرعيةِ الدينيةِ {يَجْحَدُونَ} أي يَجْحَدُونَهَا وَيُنْكِرُونَ أنها حَقٌّ.
هذه الآيةُ تَسْلِيَةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وتهوينٌ عليه؛ لأنكَ إذا وجدتَ إنسانًا وَقَعَ في مصيبةٍ وَبَلِيَّةٍ وقلتَ له: هذه المصيبةُ التي نَزَلَتْ بكَ قد نَزَلَتْ بإخوانٍ لكَ كرامٍ أفاضلَ، وَصَبَرُوا عليها، وكان لهم في عاقبةِ
(1)
مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.
الأمرِ الظفرُ والنجاحُ والعاقبةُ المحمودةُ؛ فإن هذا يُهَوِّنُ ويُسهِّلُ المصيبةَ على ذلك الْمُبْتَلَى. وقد نَصَّ اللَّهُ في أخرياتِ سورةِ هود على أنه يَقُصُّ على النبيِّ أخبارَ الرسلِ؛ لِيُهَوِّنَ عليه وَيُثَبِّتَ قلبَه، وذلك في قوله:{وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: آية 120] يقولُ له: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَاّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: آية 43] هذا الذي لَقِيَكَ به قومُكَ لقي الرسل من قِبَل قومهم بمثلِه وأشدَّ، فَاصْبِرْ كما صَبَرُوا، فستكونُ لكَ العاقبةُ الحميدةُ كما كانت لهم. وفي هذا أعظمُ بشارةٍ وأكرمُ تسليةٍ له صلى الله عليه وسلم. واللامُ في (لقد) موطئةُ قسمٍ محذوفٍ. وَاللَّهِ لقد كُذِّبَتْ رسلٌ من قبلك، هؤلاء الرسلُ الذين كُذبوا من قبلك منهم مَنْ جاءَ مُفَصَّلاً في هذا القرآنِ العظيمِ، كقولِ قومِ نوحٍ لنوحٍ:{مَا نَرَاكَ إِلَاّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَاّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: آية 27] وقولُهم له: {يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: آية 32]، وقد سَخِرُوا منه كما قال:{إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} [هود: آية 38]، والمفسرون يقولون
(1)
: سُخْرِيَتُهُمْ منه التي ذَكَرَهَا اللَّهُ أنه لَمَّا أرادَ أن يصنعَ السفينةَ [وَتَعَلَّمَ]
(2)
النجارةَ صَارُوا يضحكون، ويقولون: بعدَ أن كنتَ نَبِيًّا صِرْتَ [نَجَّارًا، وهكذا عادٌ قالوا لهودٍ، وثمودُ]
(3)
قالوا لصالحٍ!! قالوا لنبيِّ اللَّهِ هود: {يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود: آية 53]، وقالوا لِصَالِحٍ:{يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود: آية 62] يعني: وَأَمَّا إذا
(1)
انظر: القرطبي (9/ 31).
(2)
في هذا الموضع كلمة غير واضحة وما بين المعقوفين زيادة ينتظم بها الكلام.
(3)
في هذا الموضع وقع مسح وانقطاع. وما بين المعقوفين زيادة يتم بها المعنى ..
ادَّعَيْتَ النبوةَ، ودعوتَ إلى عبادةِ اللَّهِ فلا رجاءَ لنا فيكَ. وهذا جاءَ مُفَصَّلاً عن الرسلِ في القرآنِ العظيمِ، كتكذيبِهم لنوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ، وتكذيبِ فرعونَ وقومِه لموسى وهارونَ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك، وهنالك رُسُلٌ لم تُقَصَّ عليه أخبارُهم، كما نَصَّ اللَّهُ عليه في سورةِ النساءِ
(1)
، وفي سورةِ المؤمنِ:{مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: آية 78].
وإنما قال: {كُذِّبَتْ رُسُلٌ} بتاءِ التأنيثِ لِمَا تقررَ في علمِ العربيةِ: أن ثلاثةً من الجموعِ - أعني الجمعَ المُكَسَّرَ مذكرًا كان أو مؤنثًا، والجمعَ السالمَ المؤنثَ، كُلُّهَا تجري مجرَى الواحدةِ المؤنثةِ مجازيةِ التأنيثِ
(2)
؛ ولذلك أُنِّثَ الفعلُ هنا وقيل فيه: {كُذِّبَتْ} وأُنثت الإشارةُ إليه لهذا كما قال: {تِلْكَ الرُّسُلُ} [البقرة: آية 253] ونحو ذلك {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّنْ قَبْلِكَ} حُذِفَ الفاعلُ هنا وأنابَ المفعولُ به منابَه؛ لأنه يُوَضِّحُهُ. أي كذبهم قومُهم فصبروا على ذلك التكذيبِ والأَذَى.
{فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُوا} (ما) هنا مصدريةٌ. فصبروا على التكذيبِ.
وقولُه: {وَأُوذُوا} فيما يُعْطَفُ عليه وجهانِ
(3)
: أظهرُهما أنه معطوفٌ على: {فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا} أي: فصبروا على التكذيبِ، وعلى الإيذاءِ الذي يَنَالُهُمْ من قومِهم، حتى جاءهم نصرُنا.
(1)
وهو قوله تعالى: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء: آية 164].
(2)
انظر: ضياء السالك (2/ 25).
(3)
انظر: البحر المحيط (4/ 112)، الدر المصون (4/ 605).
وعلى هذا فقولُه: {وَأُوذُوا} معطوفٌ على قوله: {كُذِّبُوا} فصبروا على ما كُذبوا، وصبروا على ما أُوذوا. و (ما) مصدريةٌ، أي: صَبَرُوا على التكذيبِ والإيذاءِ حتى جاءهم نصرُنا، وهنالك قومٌ قالوا: الإيذاءُ لم يتقدم له ذِكْرٌ حتى يكونَ الصبرُ عليه مذكورًا؛ ولذا قالوا: {وَأُوذُوا} عُطِفَ على قولِه: {كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّنْ قَبْلِكَ} يعني: لقد كُذِّبَ الرسلُ وَأُوذُوا فصبروا على ذلك.
وقوله: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} يعني: أن اللَّهَ من كلماتِه (جل وعلا) نصرُه لِرُسُلِهِ، وأن العاقبةَ الحميدةَ كائنةٌ لهم
(1)
، كما قال:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: الآيات 171 - 173]{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة: آية 21] وقوله جل وعلا: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: آية 51] مثل هذه الكلماتِ من الوعدِ الصادقِ بنصرِ الرسلِ، وأن العاقبةَ لهم، كما قال عن مجموعِ الرسلِ:{فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [إبراهيم: الآيتان 13، 14] هذه الكلماتُ - وغيرُها من سائرِ كلماتِ اللَّهِ التي لَا نهايةَ لها كما قال: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} [الكهف: آية 109]- لا مُبَدِّلَ لها. والمعنى قال اللَّهُ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173)} [الصافات: الآيات 171 - 173]، فليس يمكنُ لأحدٍ أن يُبَدِّلَ هذا الخبرَ ويجعلَ إيجابَه سَلْبًا، فيجعلَ الرسلَ مَقْهُورِينَ غيرَ منصورين، لا أبدًا، وَقِسْ على ذلك.
(1)
انظر: القرطبي (6/ 417)، البحر المحيط (4/ 112 - 113).
وهذا معنى قولِه: {وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} ومعنى التبديلِ هو إذهابُ هذا والإتيانُ ببدلٍ غيرِها.
{لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} وَعْدُهُ رُسُلَهُ بالنصرِ والعاقبةِ المحمودةِ، فتبديلُ هذا أن ينزعَ النصرَ عنهم، ويجعلَ مكانَه غلبتَهم وإذلالَهم. لا أحدَ يستطيعُ هذا التبديلَ لكلماتِ اللَّهِ.
ثم قال: {وَلَقدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} فاعل (جاء) هنا محذوفٌ دَلَّ عليه المقامُ
(1)
. و (مِنْ) في قولِه: {مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ} تبعيضيةٌ، أي: ولقد جاءَك بعضُ أنباءِ المرسلينَ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {مِنْهُم مَّنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: آية 78]، وفي هذا البعضِ الذي جاءَك مِنْ أنبائهم تسليةٌ لكَ، وتثبيتٌ لكَ، كما قال:{وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: آية 120]، {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَاّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت: آية 43]، {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: آية 35].
{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا دَعَا قومَه إلى الإسلامِ، وَعَرَضَ عليهم هذا القرآنَ العظيمَ بما فيه من الآياتِ البيناتِ التي لا تَتْرُكُ في الحقِّ لَبْسًا قَابَلُوهُ بالردِّ القبيحِ والإعراضِ، أي:
(1)
انظر: القرطبي (6/ 417)، البحر المحيط (4/ 113)، الدر المصون (4/ 606).
التَّوَلِّي والصدودِ عن دينِ اللَّهِ (جل وعلا) وَآذَوْهُ صلى الله عليه وسلم، فَبَيَّنَ في هذه الآيةِ أن مِنْ أَسْوَإِ ما يسوؤه، وأحزن ما يحزنه، ويضيقُ به صدرُه إعراضُهم وتوليهم عن الحقِّ؛ لِمَا جُبِلَ عليه من الشفقةِ والرحمةِ؛ وَلِذَا نَهَاهُ اللَّهُ مرارًا عن شدةِ أَسَفِهِ وحزنِه عليهم
(1)
، قال له:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: آية 8] لأجلِ أن لم يؤمنوا فَهَوِّنْ عليكَ، وقال له:{لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: آية 3] ومعنَى {بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَاّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} مهلكٌ نَفْسَكَ بالأسفِ والحزنِ؛ لأجلِ عدمِ إيمانِهم.
و (الباخعُ) في لغةِ العربِ: الْمُهْلِكُ
(2)
، ومنه قولُ غيلان ذي الرمة
(3)
:
أَلَا أَيُّهَذَا الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ لِشَيْءٍ نَحَتْهُ عَنْ يَدَيْهِ الْمَقَادِرُ
«الْبَاخِعُ الْوَجْدُ نَفْسَهُ» أي: المهلكُ الوجدُ نفسَه.
{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ} أي: مُهْلِكُهَا.
{أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} لأجلِ عدمِ إيمانِهم، فَهَوِّنْ عليكَ، وقال له:{فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف: آية 6] وهو شدةُ الحزنِ، أي: لشدةِ الحزنِ عليهم أن لم يؤمنوا، وقال له:{فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: آية 8] مِنْ شِدَّةِ التأسفِ على عدمِ إيمانِهم، فَهَوِّنْ عليكَ. واللَّهُ يعني بهذا: يعني أنتَ رسولٌ مُهِمَّتُكَ الرسالةُ، وقد بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ وَأَدَّيْتَ كما
(1)
انظر: الأضواء (2/ 189).
(2)
مضى عند تفسير الآية (33) من سورة الأنعام.
(3)
البيت في معاني القرآن للزجاج (3/ 268)، الدر المصون (7/ 442).
ينبغي، فَهُدَاهُمْ ليسَ عليكَ، وحسابُهم ليسَ عليكَ، فَرَبُّهُمْ أعلمُ بِهِمْ، هو الذي يُشْقِي وَيَهْدِي، وهو الذي إليه مَرْجِعُهُمْ وَحِسَابُهُمْ، فَهَوِّنْ عليكَ، فقد قمتَ بما عليكَ:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} ؛ ولذا شَدَّدَ عليه هنا في هذه الآيةِ، قال له:{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} أي شَقَّ وَعَظُمَ عليكَ {إِعْرَاضُهُمْ} أي: صُدُودُهُمْ وَتَوَلِّيهِمْ عَمَّا جئتَ به، وقد أَمَرْتُكَ مرارًا أن تتركَ عنكَ هذا الحزنَ، وتعلم أنَّ ما عليك قد أَدَّيْتَهُ، بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ، وأن هُدَاهُمْ ليس بِيَدِكَ {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} [البقرة: آية 272] {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [المائدة: آية 41]{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: آية 37] قال له هنا: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} أي: شَقَّ وَعَظُمَ عليكَ وَأَحْزَنَكَ
(1)
{إِعْرَاضُهُمْ} أي: صدودُهم عَمَّا جئتَ به. و (الإعراضُ) مصدرُ أعرضَ يُعْرِضُ إِعْرَاضًا، إذا صدَّ وَتَوَلَّى عن الشيءِ.
فكأن اللَّهَ يقولُ له: إن عَظُمَ وَشَقَّ عليكَ وأحزنكَ صدودُهم وتوليهم، وقد نهيتُكَ مرارًا عن هذا الحزنِ، فإن كانت لكَ طاقةٌ أو قدرةٌ فَأْتِ بها، وإن عجزتَ عن ذلك فَاعْلَمْ أن ذلك بِيَدِ اللَّهِ، فَكِلْ الأَمْرَ إليه، وَهَوِّنْ عليكَ؛ ولذا قال:{فَإِنِ اسْتَطَعْتَ} الاستطاعةُ على الشيء: القدرةُ عليه.
{أَنْ تَبْتَغِيَ} تَطْلُبَ.
{نَفَقًا فِي الأَرْضِ} النفقُ: السَّرَبُ في بطنِ الأرضِ، الذي يكونُ له وجهٌ من جهةٍ أخرى ينفذُ منه الإنسانُ
(2)
، أن تبتغيَ سَرَبًا في الأرضِ
(1)
انظر: القرطبي (6/ 417).
(2)
انظر: القرطبي (6/ 417)، الدر المصون (4/ 609).
[فَتَغُوصَ]
(1)
به في بطنِ الأرضِ؛ لتُخْرِجَ آيةً تَقْهَرُهُمْ بها، {أَوْ سُلَّمًا} أو مصعدًا تصعدُ به إلى السماءِ
(2)
، حتى تُحَصِّلَ من الأسفلِ أو من الأعلى آيةً تَقْهَرُهُمْ بها؛ إِنْ قدرتَ على هذا فَافْعَلْ. فجوابُ {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ} محذوفٌ، وتقديرُه: فَافْعَلْ. إن قدرتَ على ذلك فَافْعَلْ
(3)
، وإن كنتَ عاجزًا عن ذلك - كما هو الحقُّ - فَهَوِّنْ عليكَ، وَاعْلَمْ أن أمرَهم إلى اللَّهِ، ومصيرَهم إلى اللَّهِ، فَهَوِّنْ عليكَ.
وقولُه في صدرِ هذه الآيةِ الكريمةِ: {وَإِن كَانَ كَبُرَ} المعروفُ في فَنِّ العربيةِ: أن مادةَ (الكافِ والباءِ والراءِ) تُسْتَعْمَلُ فِي القرآنِ العظيمِ وفي لغةِ العربِ اسْتِعْمَالَيْنِ، ويتغيرُ شَكْلُهَا بحسبِ الاستعمالين
(4)
، إن كانت (كَبُرَ) معناه: أنه عَظُمَ وكبر، فهي مضمومةُ الباءِ في مُضَارِعِهَا وماضيها، تقول:«كَبُرَ عَلَيْهِ الأَمْرُ» ، إذا عَظُمَ وَشَقَّ. ومنه قولُه هنا:{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ} ، وقولُه:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: آية 5]{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ} [الصف: آية 3] ومضارعُ هذه أيضا: (يكبُر) بضمِّ الباءِ على القياسِ، كما في قولِه:{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} [الإسراء: الآيتان 50، 51] فهذه كبُر يكبُر. أما معناها الآخَرُ، وهو (الكِبَر في السِّنِّ)، بأن تقولَ:«كَبِرَ هذا الغلامُ في سِنِّهِ» ، فهي مكسورةُ الباءِ في الماضي، تقول:(كَبِرَ)، بكسرِ الباءِ. ولا تقول:(كَبُرَ)، وتقول في مضارعها:(يَكْبَر) بفتحِ الباءِ،
(1)
في الأصل: فتغيص.
(2)
انظر: القرطبي (6/ 417)، الدر المصون (4/ 610).
(3)
انظر: الدر المصون (4/ 607)، ضياء السالك (4/ 51 - 52).
(4)
مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.
ولا تقول: (يكبُر)، على القياسِ، ومنه بهذا المعنى قولُه تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: آية 6] لأنه هنا مضارعُ (كبِر) بكسرِ الباءِ، (يَكْبَر) بفتحِها على القياسِ، ومنه بهذا المعنى الأخيرِ قولُ مجنونِ بَنِي عامر
(1)
:
تَعَشَّقْتُ لَيْلَى وَهْيَ ذَاتُ ذَوَائِبٍ
…
وَلَمْ يَبْدُ لِلْعَيْنَيْنِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ
صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبُهْمَ يَا لَيْتَ أَنَّنَا
…
إِلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ وَلَمْ تَكْبَرِ الْبُهْمُ
هذان معنى (كَبُرَ) و (كَبِرَ)؛ لأنهما معنيانِ مختلفانِ يتغيرُ المعنى بهما. وهذا معنى قولِه: {وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي
الأَرْضِ} النفقُ: السَّرَبُ في داخلِ الأرضِ
(2)
، وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ
(3)
:
وَلَا لَكُمَا مَنْجًى مِنَ الأَرْضِ فَابْغِيَا
…
بِهَا نَفَقًا أَوْ فِي السَّمَوَاتِ سُلَّمَا
وَيُجْمَعُ النفقُ على أنفاقٍ، ومنه قولُ امرئِ القيسِ
(4)
:
خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفَاقِهِنَّ كَأَنَّمَا
…
خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عَشِيٍّ مُجَلِّبِ
(1)
تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة.
(2)
مضى قريبا.
(3)
البيت لكعب بن زهير. وهو في البحر المحيط (4/ 114)، الدر المصون (4/ 610).
(4)
ديوان امرئ القيس ص (36). وقبله:
ترى الفأر في مستنقع القاع لاحبا
…
على جدَد الصحراء من شد مُلهبِ
والمعنى: خفاهن: أظهرهن، يعني الفئران. أنفاقهن: أجحارهن. الودق: المطر. فهو يقول: إن شدة وقع حوافر هذا الجواد على الأرض أوهم الفئران في أجحارهن بأنه وقع مطر شديد فتركت أنفاقها، وخرجت ناجية بأرواحها إلى مرتفعات الأرض.
يعني أَخْرَجَهُنَّ من جحورهن؛ لأن جحورَ الحشراتِ تُسَمَّى أَنْفَاقًا، واحدُها نفقٌ. والسُّلَّمُ: هو المصعدُ إلى الشيءِ، معروفٌ في كلامِ العربِ. والسُّلمُ إلى السماءِ: المصعدُ الذي يُصْعَدُ فيه إلى السماءِ
(1)
. ومنه قولُ زهيرٍ في معلقتِه
(2)
:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ
وَكُلُّ مصعدٍ يصعد فيه الإنسانُ تُسَمِّيهِ العربُ سُلَّمًا، ولو كان مَعْنَوِيًّا، فالشيءُ الذي يُرْتَقَى به إلى الأمرِ - ولو مَعْنَوِيًّا غيرَ محسوسٍ - تقولُ له العربُ: سُلَّمٌ، ومنه قولُ الحطيئةِ
(3)
:
الشِّعْرُ صَعْبٌ وَطَوِيلٌ سُلَّمُهْ إِذَا ارْتَقَى فِيهِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهْ
زَلَّتْ بِهِ إِلَى الْحَضِيضِ قَدَمُهْ
وقولُه جل وعلا: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ} هذا الفعلُ المضارعُ منصوبٌ؛ لأنه معطوفٌ على فعلٍ منصوبٍ، والمضارعُ المعطوفُ على منصوبٍ يُنْصَبُ. والأولُ المنصوبُ قولُه:{فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ} فقوله: {تَبْتَغِيَ} منصوبٌ بـ (أن). وقولُه: {فَتَأْتِيَهُمْ} معطوفٌ عليه، {فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ} قاهرةٍ تقهرهم بها فَافْعَلْ إن قدرتَ، وإن لم تَقْدِرْ على ذلك فَهَوِّنْ عليكَ، وَاعْلَمْ أن أمرَهم بيدِ اللَّهِ، هُدَاهُمْ بيدِه وحسابُهم عليه، فَهَوِّنْ عليكَ.
ثم إن اللَّهَ قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} هذا الْهُدَى الذي يُؤْسِفُكَ أن لم يَهْتَدُوا هو بيدِ اللَّهِ، لو شَاءَ رَبُّكَ {لَجَمَعَهُمْ عَلَى
(1)
مضى قريبا.
(2)
انظر: شرح القصائد المشهورات (1/ 122).
(3)
ديوان الحطيئة برواية وشرح ابن السكيت ص (291).
الْهُدَى} لَفَعَلَ. والقاعدةُ المقررةُ في عِلْمِ العربيةِ: أن فعلَ المشيئةِ إذا قُرِنَ بشرطٍ أنه يُحْذَفُ مفعولُه دائما
(1)
؛ لأن جزاءَ الشرطِ يكفي عنه. والمفعولُ محذوفٌ تقديرُه: (ولو شاء اللَّهُ جَمْعَهُمْ على الْهُدَى لَجَمَعَهُمْ على الْهُدَى) فغالبًا إذا عُلِّقَ فعلُ المشيئةِ بالشرطِ حُذِفَ مفعولُه لدلالةِ جوابِ الشرطِ عليه، ولم نَجِدْهُ موجودًا في القرآنِ ولا في كلامِ العربِ، إلا إذا كانَ المفعولُ مصدرًا مُنْسَبِكًا من (أن) وَصِلَتِهَا، كقولِه:{لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ} [الأنبياء: آية 17]{لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاّصْطَفَى} [الزمر: آية 4] لأن الأسلوبَ الشائعَ في القرآنِ هو حذفُ هدا المفعولِ، أن يقولَ: لو أَرَادَ اللَّهُ لاصْطَفَى وَلَدًا، (لو أرادَ لاتَّخَذَ لَهْوًا)، ولكنه هنا أثبتَ المفعولَ، وهو مصدرٌ منسبكٌ من (أن) وَصِلَتِهَا. ونظيرُه في إثباتِ المفعولِ - وهو مصدرٌ منسبكٌ من (أن) وَصِلَتِهَا - قولُ الشاعرِ
(2)
:
وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَمًا لَبَكَيْتُهُ عَلَيْكَ وَلَكِنْ سَاحِةُ الصَّبرِ أَوْسَعُ
وقولُه: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ} (جل وعلا){لَجَمَعَهُمْ} جميعًا {عَلَى الْهُدَى} ، وَالْهُدَى هنا بمعناه الخاصِّ؛ لأنا قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ- في الكلامِ على سورةِ الفاتحةِ- أن الْهُدَى يُطْلَقُ في القرآنِ إطلاقين: يطلق إطلاقًا عامًّا، ويطلقُ إطلاقًا خاصًّا، أما الهدى بمعناه العامِّ: فهو إبانةُ الطريقِ وإيضاحُها وتوضيحُ الخيرِ من الشَّرِّ. ومنه بهذا المعنى في القرآنِ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: آية 17] أي:
(1)
انظر: الإتقان (3/ 172 - 173)، الدر المصون (1/ 183، 4/ 614).
(2)
البيت للخُريمي، وهو في الكامل للمبرد (3/ 1362)، تاريخ دمشق (8/ 202).
أَوْضَحْنَا لهم طريقَ الخيرِ وَالشَّرِّ بَيِّنَةً على لسانِ نَبِيِّنَا صالحٍ. وليس هذا الْهُدَى (هُدَى تَوْفِيقٍ)، وإنما هو (هُدَى بَيَانٍ) فَقَطْ بدليلِ قولِه:{فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت: آية 17] فَتَبَيَّنَ أن قولَه: {فَهَدَيْنَاهُمْ} ليس (هُدَى تَوْفِيقٍ)، وإنما هو (هُدَى بَيَانٍ) وإيضاحٍ للحقِّ من الباطلِ، ومنه بهذا المعنى قولُه تعالى في الإنسانِ:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: آية 3] لأن معنى قولِه: {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أي بَيَّنَّا له طريقَ الخيرِ والشرِّ، وَأَوْضَحْنَا له ما يُتَّقَى وما يُفْعَلُ، بدليلِ قولِه بعدَه:{إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان: آية 3] لأنه لو كان (هُدَى تَوْفِيقٍ) لَمَا فَصَّلَهُ بقولِه: {وَإِمَّا كَفُورًا} ومن إطلاقِ الْهُدَى بمعناه الخاصِّ قولُه في النَّبِيِّينَ الذين ذَكَرَهُمْ في الأنعامِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية 90] وهو بمعناه الخاصِّ: التوفيقُ إلى ما يُرْضِي اللَّهَ.
وإذا علمتُم أن للهدى إِطْلَاقَيْنِ: إطلاقًا عَامًّا، وإطلاقًا خَاصًّا
(1)
، وأن إطلاقَه العامَّ معناه الهدى بمعنى البيانِ والإرشادِ وبيانِ الحقِّ وإيضاحِه، وأن معناه الخاصَّ هو تفضُّلُ اللَّهِ بالتوفيقِ على عبدِه، وأن يهديَه إلى طريقِ الخيرِ، كما قال:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} [الأنعام: آية 125] أي: بهذا الهدى الخاصِّ {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ} .
بهذا التفصيلِ تزولُ عنكم إشكالاتٌ في كتابِ اللَّهِ؛ لأن اللَّهَ مثلا
(1)
انظر: شفاء العليل ص (65)، دفع إيهام الاضطراب ص (7 - 8)(ملحق لآخر الجزء التاسع من أضواء البيان).
قال لِنَبِيِّهِ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: آية 56] وقال له في آيةٍ أُخْرَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: آية 52] فيقعُ فيه لطالبِ العلمِ أن يقولَ: كيف قال له: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: آية 56] وقال
له: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: آية 52]؟
والجوابُ عن الآيتين: هو ما بَيَّنَّا الآنَ أن للهدى إِطْلَاقًا عَامًّا، وإطلاقًا خَاصًّا، فالهدى المثبتُ له في قوله:{وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: آية 52] هو الْهُدَى العامُّ، وهو بيانُ الطريق وإيضاحُها. وقد بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم الطريقَ حتى تَرَكَهَا مَحَجَّةً بيضاءَ، ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هَالِكٌ.
أما الْهُدَى المنفيُّ عنه في قوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: آية 56] فهو التفضلُ بالتوفيقِ؛ لأن التوفيقَ بِيَدِ اللَّهِ وحدَه {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} [المائدة: آية 41]. وقوله: {إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: آية 37] وفي القراءةِ الأُخْرَى: {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُهدَى مَن يُضِلُّ}
(1)
أي: مَنْ يُضِلُّهُ اللَّهُ لا يُهْدَى، لا هاديَ له أبدًا. إذا عرفتُم هذا فقولُه:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الأنعام: آية 35] يعني به الْهُدَى الخاصَّ والتوفيقَ، أما الْهُدَى العامُّ فقد بيَّن لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وَهَدَاهُمْ وَأَرْشَدَهُمْ إلى طريقِ الخيرِ.
(1)
وهي قراءة نافع، وابن كثير، وأبي عمرو، وابن عامر، وأبي جعفر، ويعقوب. انظر: المبسوط لابن مهران ص (263).
ثم قال لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام: آية 35] والجاهلونَ: جمعُ الجاهلِ، فهو اسمُ فاعلِ الجهلِ، وكلامُ العلماءِ في (الجهلِ) وفي تفسيرِه معروفٌ
(1)
، أشهرُ تفسيراتِه: أن الجهلَ عَدَمِيٌّ، وأن المرادَ به عدمُ العلمِ بما مِنْ شَأْنِهِ أن يُعلم.
وهذه الآيةُ وأمثالُها في القرآنِ يخاطبُ اللَّهُ بها نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم لِيُشَرِّعَ على لسانِه لِخَلْقِهِ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم مُشَرِّعٌ، يخاطبُه اللَّهُ خطابَ السيدِ لعبدِه؛ لِيُشَرِّعَ على لسانِه لِخَلْقِهِ.
[1/ب] ثم إن اللَّهَ بَيَّنَ لنبيِه صلى الله عليه وسلم أن عدمَ هُدَاهُمْ الذي كان يُحْزِنُهُ وَيُؤْسِفُهُ / أنه لا يهتدي إلا مَنْ جَعَلَهُ اللَّهُ قابلاً لذلك الْهُدَى، لا مَنْ أَضَلُّهُ اللَّهُ وأماتَ قلبَه - والعياذُ بالله - ولذا قال بعدَ هذا:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: آية 36] أي: لا يُجِيبُكَ إلى ما تطلبُ وتدعو من الْهُدَى، إلا الذين يَسْمَعُونَ، أي: جَعَلَ اللَّهُ لهم سماعَ حقٍّ وَتَفَهُّمٍ يسمعونَ به عن اللَّهِ، أما الذين [أَعْمَى]
(2)
اللَّهُ أَبْصَارَهُمْ، وَخَتَمَ على آذانِهم فلا يجيبونك أبدًا، فلا تَحْزَنْ عليهم، فليسَ فيهم حِيلَةٌ؛ لأن رَبَّهُمْ قضى عليهم بالشقاءِ الأَزَلِيِّ؛ ولذا قال هنا:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} أي: يستجيبُ لكَ، وَيُجِيبُكَ فيما تدعوه إليه من الإسلامِ {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} سماعَ تَفَهُّمٍ بأن وَفّقَهُمُ اللَّهُ، وأعطاهم سماعَ تَفَهُّمٍ يفهمون به ويقبلونَ، أما الذين لم يُعْطِهِمُ اللَّهُ سماعَ تَفَهُّمٍ فهم صُمّ وإن كانوا يسمعونَ، كما قال تعالى في المنافقين:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: آية 18] صرح بأنهم (صُمٌّ) وأنهم (بُكْمٌ) وأنهم (عُمْيٌ)، ومع ذا يقولُ
(1)
مضى عند تفسير الآية (67) من سورة البقرة.
(2)
في الأصل: أصم.
فيهم: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: آية 19] كيف يَسْلُقُ بألسنةٍ حدادٍ مَنْ هُوَ أَبْكَمُ؟ وقال: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: آية 4] أي: لفصاحتِهم وحلاوةِ ألسنتِهم. ومعنى هذا: أن اللَّهَ أَصَمَّهُمْ عن سماعِ الحقِّ وعن الدينِ، وعمَّا ينفعُهم عندَ رَبِّهِمْ، وإن كانوا يسمعونَ غيرَه، وكذلك جعلَ ألسنتَهم بُكْمًا عن النطقِ بالقولِ فيما يُرْضِي اللَّهَ، وبما ينفعُهم عندَه، وإن نَطَقُوا بِغَيْرِهِ.
ومن أساليبِ اللغةِ العربيةِ التي نَزَلَ بها القرآنُ: أن الشيءَ إذا كان قليلَ الْجَدْوَى أُطْلِقَ عليه: لَا شيءَ
(1)
. فَأَسْمَاعُهُمْ لَمَّا لَمْ يَفْهَمُوا بها عن اللَّهِ، وأبصارُهم لَمَّا لم يُبْصِرُوا بها ما يُرْضِي اللَّهَ، وقلوبُهم لَمَّا لم يَعْقِلُوا بها بما يُرْضِي اللَّهَ، صَارَتْ كُلُّهَا كأنها عَدَمٌ؛ وَلِذَا أُطْلِقَ عليهم اسم الصَّمَمِ؛ لأن سمعَهم لم يَنْفَعْهُمْ
(2)
، كما قال تعالى:{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} [الأحقاف: آية 26] فمعلومٌ في لغةِ العربِ أن السماعَ الذي لا جَدْوَى له تُطْلِقُ العربُ عليه: لا شيءَ، وَتُسَمِّي صاحبَه أَصَمَّ
(3)
. وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ قُعْنُبِ ابْنِ أُمِّ صَاحِبٍ
(4)
:
(1)
انظر: فقه اللغة للثعالبي ص (310)، مجموع الفتاوى (25/ 155 - 160)، البرهان (3/ 395)، فتح الباري (2/ 61، 241)، (9/ 208)، الإتقان (3/ 231)، الكليات (890)، القواعد الحسان ص (134).
(2)
انظر: الأضواء (1/ 49)، دفع إيهام الاضطراب ص (12)، (ملحق في آخر جـ (9) من الأضواء).
(3)
انظر: المفردات (مادة: صمم) ص (492)، دفع إيهام الاضطراب ص (12).
(4)
البيت في معاني القرآن للزجاج (5/ 303)، القرطبي (19/ 269)، الدر المصون (10/ 732).
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
فَسَمَّاهُمْ (صُمًّا) وهو يقولُ: (إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا) فأطلقَ عليهم الصممَ مع أنه صَرَّحَ بأنهم يسمعونَ. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الآخَرِ
(1)
:
قُلْ مَا بَدَا لَكَ مِنْ زُوْرٍ وَمِنْ كَذِبٍ حِلْمِي أَصَمُّ وَأُذْنِي غَيْرُ صَمَّاءِ
يعني: حِلْمِي لا يُبَالِي بما تقولُ، وإن كانت أُذْنِي تسمعُه؛ ولذا قال هنا:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} لأنهم أحياءُ يسمعونَ عن اللَّهِ سماعَ تَفَهُّمٍ.
ثم قال: {وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} الموتى جَمْعُ (المَيِّتِ) ومثل (مَيِّتٍ) يُجْمَعُ على (مَوْتَى)، وقد يَطَّرِدُ الجمعُ على (فَعْلَى) في كُلِّ (فَعِيل) إذا كان يُرْثَى له. وكذلك (فَيْعِل)
(2)
و (فَعِل) كـ (مَيِّتٍ ومَوْتَى) و (زَمِنٍ وَزَمْنَى)، هذا على الأَكْثَرِ، أما في (فَعِيل) بمعنَى (مفعول) إذا كان يُرْثَى لصاحبِه فَتَطَّرِدُ فيه:(فَعْلَى).
وأطبقَ العلماءُ على أن المرادَ بالموتى هنا: الكفارُ. لا يَكَادُ يختلفُ في هذا اثنانِ من علماءِ التفسيرِ
(3)
. كأنه يقولُ: إنما يستجيبُ
(1)
أنشده ثعلب في مجالسه (2/ 378)، وهو في كتاب الحيوان للجاحظ (4/ 390)، واللسان (مادة: صمم) (2/ 476).
(2)
قال ابن هشام في تعداد أبنية الكثرة: «السابع» : «فَعْلَى» بفتح أوله وسكون ثانيه. وهو لما دل على آفة من (فَعِِيل) وصفاً للمفعول، كجريح وأسير. وحُمِل عليه ستة أوزان مما دل على آفة، من (فَعِيْل) وصفاً للفاعل، كمريض، و (فَعِل) كَزَمِن، و (فاعِل) كهالك، و (فَيْعِل) كميِّت، و (أفْعَل) كأحمق، و (فَعْلان) كسكران» اهـ أوضح المسالك (3/ 260).
(3)
انظر: ابن جرير (11/ 341)، القرطبي (6/ 417)، الأضواء (2/ 189).
الأحياءُ الذين يسمعونَ، كما قال له:{لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: الآية 70] وفي القراءةِ الأُخْرَى: {لِّيُنذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا}
(1)
أي: الذي له حياةٌ، أما المَيْتُ: الذي أَمَاتَ اللَّهُ قَلْبَهُ.
وكثيرًا ما يُطْلِقُ القرآنُ اسمَ (الميتِ) على (الكفرِ)، كقولِه تعالى:{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: آية 122] وكقولِه: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} [فاطر: آية 22] يعني بالأحياءِ: المؤمنين، وبالأمواتِ: الكفرةَ؛ لأن الكافرَ - والعياذُ بِاللَّهِ - كأنه ميتٌ؛ لأن حركاتِ حياتِه لم تَكُنْ في شيءٍ ينفعُه عندَ رَبِّهِ - جل وعلا - في حياتِه الأُخْرَى، فصارَ ميتَ القلبِ كأنه ميتٌ بِالْكُلِّيَّةِ؛ وَلِذَا قال:{وَالْمَوْتَى} أي: الكفارُ الذين خَتَمَ اللَّهُ على قلوبِهم، وأماتَ قلوبَهم، لا حيلةَ في إيمانِهم، فلا تَحْزَنْ عليهم، ولكن هَوِّنْ عليكَ، فحسابُهم إلى اللَّهِ، وَهُدَاهُمْ عليه، اللَّهُ هو الذي أَضَلَّهُمْ في الدنيا، ويومَ القيامةِ يَبْعَثُهُمْ، ثم إليه يُرْجَعُونَ، فَيُجَازِيهِمْ على أعمالِهم. فَهُدَاهُمْ بيدِه، وشقاؤُهم بيدِه، وحسابُهم إليه. وأنتَ إنما أنتَ نذيرٌ، وقد بَلَّغْتَ وَنَصَحْتَ، وأديتَ الأمانةَ، فقمتَ بما عليكَ، وَهَوِّنْ عليكَ؛ ولذا قال:{إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: آية 36].
والعربُ تُطْلِقُ (استجاب) بمعنى: (أجاب). وَالْمَعْنَى: {يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} أي: يُجِيبُونَكَ إلى ما تَدْعُوهُمْ إليه. ولا شَكَّ عندَ العلماءِ في إطلاقِ (اسْتَجَابَ) بمعنى
(1)
الأولى قرأ بها نافع، وابن كثير، وابن عامر، وأبو جعفر، ويعقوب.
والثانية قرأ بها أبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف. انظر: المبسوط لابن مهران (372).
(أَجَابَ)
(1)
. ومن الدليلِ عليه أن العربَ الفصحاءَ نَطَقُوا بما يَدُلُّ على ذلك، ومنه قولُ كعبِ بنِ سعدٍ الغَنَوِيِّ
(2)
:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
فجاء بـ (المجيب) اسمَ فاعلٍ (لَمْ يَسْتَجِبْهُ)، فعرفنا أنه أرادَ بـ (لم يستجبه): لَمْ يُجِبْهُ مُجِيبٌ. {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ} الذي يُجِيبُكَ إلى ما تَدْعُو إليه، ويؤمنُ بكَ الإيمانَ الذي تطلبُ {الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} الأحياءُ الذين لهم سَمْعٌ يَفْهَمُونَ به عنكَ {وَالْمَوْتَى} أي: الكفارُ الذين خَتَمَ اللَّهُ على قلوبِهم وأسماعِهم، فإنكَ لَا يمكنُ أن تُسْمِعَهُمْ؛ لأَنَّهُمْ مَوْتَى، كما قال:{إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: آية 80] وَلِذَا قال: {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ} أي: مِنْ قُبُورِهِمْ يومَ القيامةِ إلى الجزاءِ.
{ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} قد تَقَرَّرَ في فَنِّ المعانِي في مبحثِ القصرِ، وفي فنِّ الأصولِ في مبحثِ دليلِ الخطابِ - أعني مفهومَ المخالفةِ - أَنَّ مِنَ الصيغِ الدالةِ على الحصرِ: تقديمَ المعمولِ
(3)
. وقد قدَّم المعمولَ هنا، وهو الجارُّ والمجرورُ إيذانًا بالحصرِ. ثم يرجعون إليه وحدَه؛ لأنه ليس هناكَ عدةُ ملوكٍ يَرْجِعُ بعضُ الناسِ إلى واحدٍ ليحاسبَه، وبعضٌ إلى واحدٍ لِيُحَاسِبَهُ. بل هو الْمَلِكُ الواحدُ القهارُ، الذي إليه مَرْجِعُ الجميعِ؛ ولذا قَدَّمَ المعمولَ فقال:{ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} .
(1)
انظر: الدر المصون (1/ 159)، (2/ 291)، (4/ 500).
(2)
البيت في المصدر السابق (1/ 159).
(3)
مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.
{وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: آية 37].
{وَقَالُوا} يعني الكفار - كفار مكةَ - هم الذين قالوا هذا القولَ
(1)
.
وقوله: {لَوْلَا} اعْلَمْ أَوَّلاً: أَنَّ (لَوْلَا) جاءت في القرآنِ العظيمِ لثلاثةِ مَعَانٍ معروفةٍ في القرآنِ العظيمِ، وفي كلامِ العربِ
(2)
:
الأَوَّلُ: مِنْ هذه المعانِي الثلاثةِ: (لَوْلَا) المعروفةُ بأنها تَأْتِي لامتناعٍ لوجودٍ، وهي التي تَدُلُّ على امتناعِ شيءٍ لوجودِ شيءٍ، كقولِه:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} انتفى مسيسُ العذابِ العظيمِ لوجودِ فضلِ اللَّهِ ورحمتِه.
هذه التي يقال فيها إنها تدلُّ على امتناعٍ لوجودٍ، وخبرُ مبتدئِها محذوفٌ دائمًا في الأغلبِ
(3)
.
الثانيةُ: هي (لَوْلَا) التي بمعنَى التحضيضِ
(4)
، وهذه تَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ. ومنها كانت (لَوْلَا) مشتركةً بين ثلاثةِ مَعَانٍ. لَوْلَا التحضيضيةُ إنما تَدُلُّ على التحضيضِ، والتحضيضُ معناه الطلبُ بِحَثٍّ وَحَضٍّ،
(1)
انظر: البحر المحيط (4/ 118).
(2)
وذكر لها ابن هشام معنى رابعا في (مغني اللبيب 1/ 216) وهو: الاستفهام. وعقبه بقوله: «وأكثرهم لا يذكره» اهـ.
(3)
انظر: المفردات (مادة: لولا) ص753، الكليات ص (787 - 790)، بصائر ذوي التمييز (4/ 458)، مغني اللبيب (1/ 215).
(4)
انظر: المفردات (مادة: لولا)، وانظر: الكليات ص (777، 788 - 790)، بصائر ذوي التمييز (4/ 458) مغني اللبيب (1/ 216).
ومنه هذه التي عندنا. (لَوْلَا) أي: نطلبُ منكَ بِحَضٍّ وَحَثٍّ أن تنزلُ عليكَ آيةٌ مثلُ آيةِ موسى التي جَاءَتْ، صَارَتْ عَصَاهُ ثعبانًا مُبِينًا، وكآيةِ صالحٍ التي خَرَجَتْ له ناقة عشراءَ جوفاءَ وَبْراءَ مِنْ صخرةٍ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك، وكآيةِ عيسى الذي يُبْرِئُ الأكمهَ والأبرصَ وَيُحْيِي الموتَى بإذنِ اللَّهِ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك، وهذا طلبٌ منهم وتحضيضٌ، وهو طلبٌ بِحَثٍّ وَحَضٍّ، إلا أنه طَلَبُ عِنَادٍ وَتَعَنُّتٍ.
الثالثُ: من معانِي (لَوْلَا)، لم نتكلم عليه الآنَ، وهو أن (لَوْلَا) التحضيضيةَ - ومعنى التحضيضيةِ: أنها دَالَّةٌ على تحضيضٍ، والتحضيضُ: هو طلبُ الفعلِ بِحَثٍّ وَحَضٍّ - لها حالتانِ: تارةً يكونُ فِعْلُهَا المطلوبُ بها مُمْكِنُ الفعلِ لَمْ تَضِعْ فُرْصَتُهُ، فهذه هي التحضيضيةُ، كالتي عِنْدَنَا. وتارةً
يكونُ فِعْلُهَا المطلوبُ فيها بأداةِ الطلبِ التي هي حرفُ التحضيضِ - أعني (لَوْلَا) - فَاتَ وَلَمْ يُمْكِنْ تَدَارُكُهُ؛ لأن فرصتَه ضَاعَتْ ولم يُمْكِنْ تداركُه. فإن التحضيضيةَ في هذه الحالةِ يَنْقَلِبُ معنَى تحضيضِها إلى توبيخٍ وتنديمٍ على التفريطِ فيما مَضَى
(1)
، كقولِه:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} [يونس: آية 98] فتلك الْقُرَى الماضيةُ هَلَكَتْ وَمَضَتْ، إلا أن توبيخَ اللَّهِ لها، وتنديمَه لها بعدَ أن مَاتَتْ لِيَعْتَبِرَ به غيرُها، وكما قال:{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا} [النور: آية 16] لأَنَّ الفرصةَ فَاتَتْ عليهم؛ لأنهم تَكَلَّمُوا بما لا يَلِيقُ، فَصَارَتْ (لَوْلَا) التحضيضيةُ في شَأْنِهِمْ يُرَادُ بها التوبيخُ والتنديمُ على التفريطِ فيما مَضَى.
(1)
انظر: الكليات ص (788 - 790، 958)، بصائر ذوي التمييز (4/ 458)، مغني اللبيب (1/ 216).
وقولُه: {لَوْلَا} أي: هلَاّ {أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} .
وقوله: {مِّن رَّبِّهِ} يَعْنُونَ: يكونُ مبدأُ إنزالِها وابتداؤُه من رَبِّهِ، ينزلُ عليه آيةٌ لا لَبْسَ في الحقِّ مَعَهَا، كَعَصَا مُوسَى، وناقةِ صالحٍ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك. فَاللَّهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ أن يقولَ، قُلْ لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ:{إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} . ثم قال: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} فقولُه: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} يَدُلُّ على أن طلبَهم للآيةِ بأداةِ التحضيضِ التي هي {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} أنه نَشَأَ عن جَهْلٍ لَا عن عِلْمٍ، ولو كانوا عَالِمِينَ لَمَا تَعَنَّتُوا، وَلَمَا اقْتَرَحُوا هذا الاقتراحَ، وذلك مِنْ أَوْجُهٍ
(1)
:
منها أن اللَّهَ (جل وعلا) أَجْرَى العادةَ بأن القومَ إذا اقْتَرَحُوا آيةً وأنزلها اللَّهُ لهم وَكَفَرُوا بعدَ ذلك أن اللَّهَ يُهْلِكُهُمْ هلاكَ الاستئصالِ، كما يأتي في قولِه:{وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} [الإسراء: آية 59] أي: وهي الآيةُ التي اقْتَرَحُوهَا فَكَفَرُوا بها، فكان ذلك سببَ هلاكٍ مُسْتَأْصِلٍ، وتدميرٍ عَامٍّ أهلكهم اللَّهُ به، وَجَعَلَهُمْ أَثَرًا بعدَ عَيْنٍ. فقد يقترحون آيةً، ويأتيهم اللَّهُ بها، فَيَكْفُرُونَ بها فَيَمْحَقُهُمْ كما مَحَقَ ثَمُودَ، كما أشارَ له بقولِه:{وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء: آية 59] اقْتَرَحُوهَا عِنَادًا وَتَعَنُّتًا، فلما أُتُوا بها كفروا بها، فكانت سببًا لهلاكٍ مُسْتَأْصِلْ.
وقد ذَكَرُوا في بعضِ المواضعِ من القرآنِ أن الكفارَ قالوا للنبيِّ: «سَلْ رَبَّكَ يَجْعَلْ لنا الصَّفَا ذَهَبًا» . وتعنتوا بأمورٍ كثيرةٍ، وأنه جاءَه التخييرُ من رَبِّهِ إن شَاءَ فَعَلَ لهم ما اقْتَرَحُوا، وإن كَفَرُوا
(1)
انظر: الأضواء (2/ 190).
أَهْلَكَهُمْ، وإن شاءَ تَرَكَهُمْ، وَهَدَى مَنْ يَهْدِي منهم وَمِنْ أَصْلَابِهِمْ؛ وَلِذَا قال:{قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} .
وَاعْلَمُوا أن اللَّهَ تبارك وتعالى أنزلَ على عبدِه آياتٍ ومعجزاتٍ عظيمةً، لا لَبْسَ في الحقِّ مَعَهَا، فلو كان طَلَبُهُمْ للآيةِ طلبَ مُسْتَرْشِدٍ يريدُ الْهُدَى غير مُتَعَنِّتٍ لأَعْطَاهُمُ الآيةَ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعْطَاهُمْ من الآياتِ ما لَا يَبْقَى في الحقِّ معه لَبْسٌ، فَتَرَكُوهُ وسألوا ذلك عِنَادًا.
وأعظمُ الآياتِ وأكبرُ المعجزاتِ هو هذا القرآنُ العظيمُ الذي تَحَدَّاهُمُ اللَّهُ به، وكان عَجْزُ الخلقِ عن مُعَارَضَتِهِ أكبرَ آيةٍ عُظْمَى؛ وَلِذَا أنكرَ اللَّهُ على مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بمعجزةِ القرآنِ وَطَلَبَ آيةً غيرَها حيث قال مُنْكِرًا عليه:{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: آية 51] فقوله: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} صيغةُ إنكارٍ، يُنْكِرُ اللَّهُ به على مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بهذا القرآنِ، لأنه آيةٌ أعظمُ آيةٍ.
وَمِمَّا امْتَازَتْ به عنِ الآياتِ: أن آياتِ الرسلِ ومعجزاتِهم تَنْقَضِي، وتكونُ أخبارًا لا وجودَ لها في العيانِ، وآيتُه صلى الله عليه وسلم الكبرى وهي هذا القرآنُ العظيمُ باقيةٌ تَتَرَدَّدُ في آذانِ الناسِ إلى يومِ القيامةِ؛ ولذلك أشارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ [إلى]
(1)
حَصْرِ معجزاتِه في هذا القرآنِ، وإن كانت معجزاتُه كثيرةً لا تُحْصَرُ لكثرتِها، حيث قال في الحديثِ الصحيحِ:«مَا مِنْ نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ إِلَاّ أُوتِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
(2)
ولذا قال هنا لَمَّا اقترحوا هذه
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
(2)
أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحي، وأول
الآيةَ، اقْتَرَحُوهَا عِنَادًا لا استرشادًا وطلبًا لِلْهُدَى، مع أنهم جاءهم من الآياتِ ما يَكْفِي، والناسُ عَايَنُوا من معجزاتِه صلى الله عليه وسلم أشياءَ تُبْهِرُ العقولَ، كَشَقِّ الْقَمَرِ
(1)
.
وتسبيحِ الحصى في يدِه
(2)
، وكحنينِ الْجِذْعِ في هذا المسجدِ لَمَّا تَحَوَّلَ عنه إلى المنبرِ، سَمِعُوهُ يحنُّ حنينَ العشارِ، ولم يَسْكُتْ حتى جَاءَهُ صلى الله عليه وسلم يسكتُه كما تسكتُ الأُمُّ
(1)
ما نزل. حديث (4981)(9/ 3)، وأخرجه في موضع آخر. انظر: حديث رقم: (7274) ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس، ونسخ الملل بملته. حديث (152)(1/ 134).
() قال تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: آية 1] وقد روى واقعة انشقاق القمر جماعة من الصحابة منهم:
1 -
ابن مسعود عند البخاري، الأحاديث:(3636، 3869، 3871، 4864، 4865)، ومسلم، حديث (2800).
2 -
أنس بن مالك. عند البخاري، الأحاديث (3637، 3868، 4867، 4868)، ومسلم، حديث (2802).
3 -
ابن عباس. عند البخاري، الأحاديث (3638، 3870، 4866)، ومسلم، حديث (2803).
4 -
ابن عمر. عند مسلم، حديث (2801).
(2)
ذكره البخاري في التاريخ الكبير (8/ 144) في ترجمة الوليد بن سويد. وأخرجه البزار كما في كشف الأستار (3/ 135 - 136) حديث (2413، 2414)، وساق له الدارقطني في العلل (6/ 242) عدة طرق، وعقبه بقوله:«والحديث مضطرب» اهـ كما أخرجه البيهقي في الدلائل (6/ 64 - 65)، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 806 - 807). والحديث ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (2/ 201 - 203)، والهيثمي في المجمع (5/ 179، 8/ 299).
قال الحافظ في الفتح (6/ 592): «وأما تسبيح الحصى فليست له إلا هذه الطريق الواحدة مع ضعفها» اهـ.
وَلَدَهَا
(1)
.
ومعجزاتُه صلواتُ الله وسلامُه عليه كثيرةٌ جِدًّا، وَلَكِنَّ أَعْظَمَهَا القرآنُ؛ ولذا حَصَرَهَا فيه بقوله:«وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . وَلِذَا أنكرَ اللَّهُ على مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بهذا القرآنِ العظيمِ حيث قال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: آية 51] وقال: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} [يونس: آية 37] ولأَجْلِ تَعَنُّتِهِمْ وعدمِ علمِهم بأن الآياتِ إذا أُتِيَ بها مَنِ اقْتَرَحَهَا ثُمَّ كَفَرَ جَاءَهُ العذابُ الْمُسْتَأْصِلُ، كان طلبُهم للآيةِ طلبَ جهلةٍ مُتَعَنِّتِينَ لا يَتَأَمَّلُونَ فِي العواقبِ؛ وَلِذَا قال اللَّهُ:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ومن أكثرِهم الذين لا يعلمونَ هُمُ الذين تَعَنَّتُوا وَاقْتَرَحُوا وَطَلَبُوا هذه الآياتِ؛ لأن عندهم تعنتاتٍ كثيرةً، كما ذكره اللَّهُ عنهم في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه، كقولِه في أخرياتِ سورةِ بني إسرائيلَ:{وقالوا لن نؤمن لك حتى تُفَجِّرَ لنا} وفي القراءةِ الأُخْرَى
(2)
:
{وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ} [الإسراء: الآيات 90 - 92] يَعْنُونَ قولَه: {إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ} [سبا: آية 9] {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ
(1)
أخرجه البخاري من حديث جابر، كتاب الجمعة، باب الخطبة على المنبر، حديث (918، 2095، 3584، 3585)، (2/ 397).
كما أخرجه أيضا من حديث ابن عمر رضي الله عنهما حديث (3583).
(2)
قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وأبو جعفر:(تُفجِّر) بضم التاء، وفتح الفاء، وتشديد الجيم مكسورة.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، وخلف (تَفْجُر) بفتح التاء، وسكون الفاء، وضم الجيم خفيفة. انظر: المبسوط لابن مهران ص (271).
وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّنْ زُخْرُفٍ} يَعْنُونَ بالزخرفِ الذهبَ {أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ} [الإسراء: الآيتان 92، 93] هذه تَعَنُّتَاتُهُمْ، ومن هذه التعنتاتِ: اقتراحهم للآياتِ، فأخبرهم أن رَبَّهُ قادرٌ على أن ينزلها، ولكن إنزالَها لا خيرَ لهم فيه، أَوَّلاً هو تعنتٌ لا يُراد به الحقُّ، ولو أنزلها لكفروا فأهلكهم كما أَهْلَكَ مَنْ كَفَرَ قبلَهم، كما أشارَ له بقولِه:{وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلَاّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} [الإسراء: آية 59] وقد أَتَاهُمْ من المعجزات بِمَا فيه الكفايةُ، ولا يبقى في الحقِّ معه لَبْسٌ. أما التعنتاتُ فلا داعيَ للإجابةِ فيها؛ وَلِذَا قال:{قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الأنعام: آية 37].
يقول الله جل وعلا: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: آية 38].
قولُه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ} أصلُه: وما دَابِّةٌ في الأرضِ. وإنما زِيدَتْ قبلَه (مِنْ) في قولِه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ} لِتَنْقُلَهَا زيادةُ (مِنْ) من الظهورِ في العمومِ إلى التنصيصِ الصريحِ في العمومِ. فقد تَقَرَّرَ في الأصولِ: أن النكرةَ في سياقِ النفيِ من صيغِ
العمومِ
(1)
. إلا أنها تكونُ ظاهرةً في العمومِ، فإذا زِيدَتْ قبلَ النكرةِ لفظةُ (مِنْ) نَقَلَتْهَا من الظهورِ في العمومِ إلى التنصيصِ الصريحِ في العمومِ
(2)
. فلو قيل: «وما دابةٌ في الأرضِ» كانت الصيغةُ ظاهرةً في العمومِ. وَلَمَّا أكدَ شمولَ النفيِ بـ (من) وقال: {وَمَا مِن دَابَّةٍ} نَقَلَتْهَا زيادةُ (مِنْ) من الظهورِ في العمومِ إلى التنصيصِ الصريحِ في العمومِ. والمرادُ بالعمومِ: شمولُ النفيِ لكلِّ دابةٍ
(3)
. أنه ما دَابَّةٌ في الأرضِ ولا طائر يطيرُ إلا أممٌ أمثالكم.
وَاعْلَمْ أن زيادةَ (من) قبلَ النكرةِ في سياقِ النفيِ لِتَنْقُلَهَا من الظهورِ في العمومِ إلى التنصيصِ الصريحِ في العمومِ، تَطَّرِدُ في القرآنِ وفي اللغةِ العربيةِ في ثلاثةِ مَوَاضِعَ
(4)
:
الأولُ: أَنْ تُزَادَ قبلَ المبتدأِ، كما هنا؛ لأن الأصلَ: وما دَابَّةٌ. و (دابة) مبتدأٌ سَوَّغَ الابتداءَ فيه بالنكرةِ اعتمادُها على النفيِ قَبْلَهُ.
الثاني: زيادةُ (مِنْ) قَبْلَ النكرةِ في سياقِ النفيِ إذا كانت النكرةُ فاعلاً. نحو: {مَّا أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ} [القصص: آية 46] أصلُه: (ما أتاهم نذيرٌ) فاعلٌ زِيدَتْ قبلَه (مِنْ).
(1)
مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.
(2)
انظر: شرح تنقيح الفصول (182، 194)، شرح الكوكب المنير (3/ 138)، البرهان للزركشي (4/ 421)، الكليات (840)، المحلي على الجمع (1/ 414)، الفتح (1/ 88)، الأضواء (1/ 10)، (2/ 36)، (3/ 289)، (4/ 172، 278)، (6/ 660)، (7/ 651).
(3)
انظر: البحر المحيط (4/ 119).
(4)
انظر: ضياء السالك (2/ 280).
الثالثُ: أن تُزَادَ قبلَ المفعولِ، نحو:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ} [الأنبياء: آية 25] الأصلُ: ما أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رَسُولاً.
فزيدت (من) فَتَحَصَّلَ أن (من) إذا زِيدَتْ قبلَ النكرةِ في سياقِ النفيِ نَقَلَتْهَا من الظهورِ في العمومِ إلى التنصيصِ الصريحِ في العمومِ. وأنها تُزَادُ قبلَ النكرةِ بِاطِّرَادٍ في ثلاثةِ مواضعَ: قَبْلَ المبتدأِ، وقبلَ الفاعلِ، وقبلَ المفعولِ.
وقولُه: {فِي الأَرْضِ} قال بعضُ العلماءِ: إنما خَصَّ دوابَّ الأرضِ دونَ دوابِّ السماءِ - مع أن في السماءِ دَوَابَّ أيضًا، كما قال:{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: آية 29]- لِتَهْوِينِ أَمْرِهِمْ؛ لأنه أَرَادَ أن يُبَيِّنَ - لَمَّا قالَ الكفارُ: {لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} - أنه لا يُهْمِلُ شيئًا، وهو قائمٌ بمصالحِ دوابِّ الأرضِ التي هي مِنْ أَحْقَرِ الأشياءِ، فكيف يُهْمِلُ مصالحَ الآدَمِيِّينَ
(1)
!! ولو كان لكم في الآيةِ المقترحةِ فائدةٌ لأَتَاكُمْ بها.
وقال بعضُ العلماءِ: عُبِّرَ لهم بما عَرَفُوا في الأرضِ، وَتُرِكَ غيرُه؛ لأنهم لم يَعْرِفُوهُ، فَأُرِيدَ مخاطبتُهم بِمَا عَلِمُوا
(2)
.
وقولُه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} قال بعضُ العلماءِ: إذا كان الطيرُ نازلاً يَمْشِي في الأرضِ فقد يَصْدُقُ عليه اسمُ (الدابةِ) لِدَبِيبِهِ في الأرضِ، وإذا طارَ في جوِّ السماءِ قابضًا وَصَافًّا لم يَصْدُقْ عليه في ذلك الوصفِ اسمَ الدبيبِ، وإنما يَصْدُقُ عليه أنه يطيرُ بِجَنَاحَيْهِ لَا يدبُّ بِرِجْلِهِ.
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 344)، البحر المحيط (4/ 119).
(2)
انظر: القرطبي (6/ 420).
وقولُه: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} في هذه الآيةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: ما الفائدةُ وما الحكمةُ في قولِه: {بِجَنَاحَيْهِ} ومعلومٌ أن الطائرَ لا يطيرُ إلا بِجَنَاحَيْهِ؟
الجوابُ عن هذا السؤالِ عندَ العلماءِ مِنْ أَوْجُهٍ منها
(1)
: أن القرآنَ نزلَ بلغةِ العربِ، وَمِنْ عادةِ العربِ هذا النوعُ من التوكيدِ، نحو:(قال لي هذا بِفِيهِ)، و (مَشَى إِلَيَّ بِرِجْلِهِ)، ومنه في القرآنِ:{يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: آية 79] ومعلومٌ أنهم لا يَكْتُبُونَهُ إلا بأيديهم، وكقولِه:{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: آية 167]{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم} [الفتح: آية 11] ومعلومٌ أن القولَ بالفمِ واللسانِ وما جَرَى مَجْرَى ذلك.
القولُ الثاني: أن مادةَ (الطاءِ والياءِ والراءِ) - مادة (الطيرانِ) - قد تُطْلِقُهَا العربُ على الإسراعِ بِالرِّجْلَيْنِ، لا بِالْجَنَاحَيْنِ. وقد تقولُ لِعَبْدِكَ:«طِرْ يَا غُلَامُ فِي حَاجَتِي» تعني: أَسْرِعْ، وفي الحديثِ في مدحِ المجاهدِ:«إِذْ سَمِعَ هَيْعَةً طَارَ إِلَيْهَا» ، أي: أَسْرَعَ إليها
(2)
. وفي شعرِ الحماسي، بيتُه المعروفُ
(3)
:
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 349)، القرطبي (6/ 419)، البحر المحيط (4/ 119)، الدر المصون (4/ 611) وراجع ما تقدم عند تفسير الآية (79) من سورة البقرة.
(2)
أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، كتاب الإمارة، باب فضل الجهاد والرباط حديث (1889)، (3/ 1503).
(3)
البيت لقُريط بن أُنيف. وهذا هو الشطر الثاني من البيت، وشطره الأول قوله:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم
…
...........................
وهو في المفردات (مادة: طير) ص (529)، اللسان (مادة: طير) (2/ 635)، الدر المصون (4/ 612).
................... طَارُوا إِلَيْهِ زَرَافَاتٍ وَوُحْدَانَا
وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ قُعْنُبِ ابْنِ أُمِّ صَاحِبٍ
(1)
:
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
إِنْ يَسْمَعُوا سُبَّةً طَارُوا بِهَا فَرَحًا مِنِّي وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا
وَلَمَّا كان يكثرُ في لغةِ العربِ [إطلاقُ]
(2)
الطيرانِ على الإسراعِ بِالرِّجْلَيْنِ، قد يكونُ لقولِه:{بِجَنَاحَيْهِ} فائدةٌ؛ لتُخْرَجَ مِنَ الإسراعِ بغيرِ الجناحين كما ذَكَرْنَا. وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: قد يكونُ بعضُ ما يطيرُ يطيرُ بأكثرَ مِنْ جَنَاحَيْنِ، كما قال في الملائكةِ:{جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: آية 1] قالوا: هنالك من الملائكةِ مَنْ يطيرُ بأربعةِ أجنحةٍ؛ وَلِذَا احتُرزَ عن ذلك بقوله: {بِجَنَاحَيْهِ} .
وَأَظْهَرُ الأقوالِ هو ما صَدَّرْنَا به: أن هذا الأسلوبَ معروفٌ في كلامِ العربِ، كقوله:«قَالَهُ لِي بِفِيهِ» ، و «مشى إِلَيَّ بِرِجْلِهِ» ، و «كتبتُ له بِيَدِي» ، و «طارَ الطائرُ بِجَنَاحَيْهِ» ، ومنه:{يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: آية 79]{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: آية 167] وما جرى مَجْرَى ذلك و {وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} في قولِه:
(1)
البيت الأول تقدم عند تفسير الآية (36) من سورة الأنعام، والبيت الثاني ذكره ابن جني في المحتسب (1/ 206) وهو أيضا في الدر المصون (4/ 244).
(2)
زيادة يقتضيها السياق.
{إِلَاّ أُمَمٌ} سؤال، وهو أن يُقال: أَفْرَدَ اللَّهُ هنا الدابةَ، قال:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ} بلفظِ (دابةٍ) واحدةٍ {وَلَا طَائِرٍ} بلفظِ (طائرٍ) واحدٍ. فكيف يَجْمَعُهُمْ على أممٍ ويقول: {إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} ؟
والجوابُ
(1)
: في هذا واضحٌ؛ لأن قولَه: {مَا مِنْ دَابَّةٍ} وقوله: {وَلَا طَائِرٍ} كلاهما نكرةٌ في سياقِ النفيِ، تَعُمُّ كُلَّ دابةٍ، كائنة ما كَانَتْ، وَكُلُّ طائرٍ يطيرُ بِجَنَاحَيْهِ كائنًا ما كانَ، فالمعنى عَامٌّ؛ وَلِذَا قال في مثلِ هذا:{وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: آية 27] أَفْرَدَ اسمَ الضامرِ وقال: {يَأْتِينَ} بصيغةِ الجمعِ؛ لأن {كُلِّ ضَامِرٍ} بمعنى: ضَوَامِرَ كثيرةٍ، وكذلك {مَا مِنْ دَابَّةٍ} بمعنى: دَوَابَّ كثيرةٍ {وَلَا طَائِرٍ} يَعُمُّ طيرًا كثيرًا؛ ولذا قال: {إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} اختلف العلماءُ في مِثْلِيَّةِ هذه الأممِ للآدميين على أقوالٍ متعددةٍ
(2)
، بعضها حَقٌّ. وَحَاصِلُ هذا أن اللَّهَ صَرَّحَ بأن الدوابَّ بأنواعها: بأنواعِ الوحوشِ، وأنواعِ السباعِ، وأنواعِ الطيورِ، كُلُّ نوعٍ من هذه الأنواعِ أُمَّةٌ من الأممِ التي خَلََقَ اللَّهُ، أمثال الآدميين؛ لمشابهاتٍ بينها وبينَ الآدميين؛ لأَنَّ كُلاًّ من الجميعِ مخلوقٌ يحتاجُ إلى خالقٍ يَخْلُقُهُ، مرزوق يحتاجُ إلى خالقٍ يرزقُه ويدبرُ شُؤُونَهُ. والكُلُّ مضبوطٌ في كتابٍ: أوصافُ الجميعِ، وآدابُ الجميعِ، وصفاتُ الجميعِ، ومقاديرُهم، وألوانُهم، إلى غيرِ ذلك.
ومما يكونُ من تلك المماثلةِ: أن الجميعَ يُحْشَرُونَ إلى اللَّهِ، كما قال هنا:{ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} وَنَصَّ على ذلك في التكويرِ في قولِه: {وَإِذَا الْوُحُوشُ
(1)
انظر: البحر المحيط (4/ 120)، الدر المصون (4/ 612).
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 345)، القرطبي (6/ 420)، البحر المحيط (4/ 120).
حُشِرَتْ} [التكوير: آية 5] فلما كانوا أُمَمًا وأجناسًا يَعْرِفُ بعضُها بعضًا، وتُسافِدُ ذُكُورُهَا إِنَاثَهَا فَيَتَنَاسَلُونَ، وهذا أبٌ، وهذا أُمٌّ، والكلُّ مرزوقٌ، يرزقُه رازقٌ، يُدَبِّرُ شؤونَه، وَقَدَّر أرزاقَه، وقَدَّر آجالَه، القَدْرُ الذي يرزقُهم اللَّهُ مُحَدَّدٌ، والقَدْرُ الذي يعيشونَ في الدنيا محددٌ، وأوصافُهم وألوانُهم وغيرُ ذلك، وكلُّ هذا في كتابٍ، والآدميونَ كذلك يحتاجونَ إلى رازقٍ يَرْزُقُهُمْ، ويدبرُ شؤونَهم، يضبطُ آجالَهم وأعمالَهم وأرزاقَهم. من هذه الحيثيةِ صارت هذه أُمَمًا أمثالَنا.
وقد كان لسفيانَ بنِ عُيَيْنَةَ رحمه الله في هذه الآيةِ تفسيرٌ مشهورٌ
(1)
ارتضاه بعضُ العلماءِ، ولا يظهرُ عندنا كُلَّ الظهورِ، كان ابنُ عُيَيْنَةَ رحمه الله يقولُ في هذه الآيةِ الكريمةِ: إن اللَّهَ تبارك وتعالى جعلَ في الآدميين شَبَهًا من أنواعِ البهائمِ، فَجَعَلَ في بعضِهم جراءةَ الأسدِ، وجعلَ في بعضِهم سرعةَ عَدْوِ الذيبِ، وجعلَ في بعضِهم فخرَ الطاووسِ وزهوَه، وجعلَ في بعضهم شَرَهَ الخنزيرِ، وهكذا، وَأَنَّ بَيْنَهُمَا مشابهاتٍ من هذا النوعِ.
وأكثرُ العلماءِ على أنهم إنما كانوا أُمَمًا أمثالنا؛ لأن كُلَّنَا مخلوقٌ مسكينٌ مرزوقٌ يُدَبِّرُ شؤونَه خالقٌ رازقٌ، وأن ذلك الخالقَ الرازقَ قَدَّرَ الأوقات الذي يُوجِدُنَا فيها، والأوقات التي يُمِيتُنَا فيها، والأرزاقَ التي يَرْزُقُنَا فيها، وَقَدَّرَ لِكُلٍّ منا قَدْرَ حياتِه وَرِزْقِه وَأَجَلِه وَقَدَّرَ صفتَه التي يكونُ عليها، ومقدارَه الذي يكونُ عليه، ونحو ذلك.
(1)
انظر: القرطبي (6/ 420)، البحر المحيط (4/ 120)، شفاء العليل لابن القيم ص77.
وبهذه الآيةِ يتفكرُ المسلمُ ويعتبر، ويعلمُ أنه بالنسبة إلى ضَعْفِهِ وافتقارِه؛ وعظمةِ اللَّهِ (جل وعلا) وجلالِه، أنه كالحيواناتِ والبهائمِ.
وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: {إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم} كما أنكم تعرفونَ اللَّهَ، وَتُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتُوَحِّدُونَهُ، فهم أممٌ أمثالُكم كذلك
(1)
. ويدلُّ لهذا أن اللَّهَ (جل وعلا) قال: {وَإِن مِّنْ شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: آية 44] وقال جل وعلا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: آية 41].
ومما يقدحُ في هذا القولِ أن هذا النوعَ تستوي فيه الجماداتُ مع البهائمِ؛ [لأنه]
(2)
دلَّ الكتابُ وَالسُّنَّةُ على أن الجماداتِ تشاركُ البهائمَ في هذا، واللَّهُ في آيةِ الأنعامِ هذه خَصَّ الحيواناتِ حيث قال:{وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} أما ذلك الإدراكُ وتسبيحُ اللَّهِ فالجماداتُ تشاركُ فيه البهائمَ، ويشملها عمومُ قولِه:{وَإِن مِّنْ شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: آية 44] وقد سَبَّحَ الْحَصَى بيدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(3)
. وقد ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ في قصةِ الْجِذْعِ - وهي متواترةٌ
(4)
- أن الجذعَ الذي كان يخطبُ عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَحَوَّلَ عنه إلى المنبرِ فَقَدَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فحَنَّ حنينَ العِشَارِ، والمسجدُ غَاصٌّ
(1)
المصدران السابقان.
(2)
في الأصل: «لأن الله بين» والكلام غير منتظم.
(3)
مضى عند تفسير الآية (37) من سورة الأنعام.
(4)
انظر: دلائل النبوة للبيهقي (2/ 563)، شمائل الرسرل صلى الله عليه وسلم لابن كثير ص243، فتع الباري (6/ 603)، شرح الشفا (1/ 622).
بالناسِ، والصحابةُ يسمعونَ حَنِينَهُ، حتى جاءه النبيُّ صلى الله عليه وسلم يُسَكِّتُهُ كما تُسَكِّتُ الأُمُّ وَلَدَهَا
(1)
. وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنِّي لأَعْرِفُ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ بِمَكَّةَ»
(2)
.
وقد قال اللَّهُ (جل وعلا) في كتابِه: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا} - أي: مِنَ الحجارةِ - {لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [البقرة: آية 74] لما يُصْعَقُ مِنْ أَعْلَى الجبلِ إلى أسفلِه نازلاً خوفًا من رَبِّ العالمين (جل وعلا)، كما قال تعالى:{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: آية 21] وقد قال جل وعلا: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} [ص: آية 18] فصرَّح بتسبيحِ الجبالِ، وقد قال جل وعلا:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} [الأحزاب: آية 72] والإشفاقُ: الخوفُ. معناه: أن هذه الجماداتِ، من السمواتِ والأرضِ والجبالِ، عندها إدراكٌ يعلمُه اللَّهُ، ونحن لا نعلمُه، حيث أَبَتْ من التزامِ التكليفِ وَأَشْفَقَتْ، وهذه حقائقُ دَلَّ عليها الكتابُ والسنةُ. وَالْمُلْحِدُونَ الذين يقولونَ:«هذه أمثلةٌ وتخييلٌ وتصويرٌ بما ليس بواقعٍ» .
كل ذلك من صَرْفِ كتابِ اللَّهِ عن ظاهرِه المتبادرِ منه بغيرِ دليلٍ، وذلك لا يجوزُ؛ إذ لا مانعَ عقلاً أن يخلقَ اللَّهُ للجماداتِ إدراكاتٍ يعلمُها هو ونحن لا نعلمُها، كما قال تعالى:{وَإِن مِّنْ شَيْءٍ إِلَاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: آية 44] وكذلك يخلقُ للبهائمِ إدراكاتٍ، وقد نصَّ القرآنُ على كثيرٍ من ذلك،
(1)
مضى عند تفسير الآية (37) من سورة الأنعام.
(2)
صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة. حديث (2277)(4/ 1782).
نصَّ على قضيةِ النملةِ وَخُطْبَتِهَا العظيمةِ التي قَالَ فيها: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [النمل: آية 18] وذكر قصةَ الهدهدِ ومحاجتَه لسليمانَ، ونسبتَه الإحاطةَ لنفسِه ونفيَها عن سليمانَ {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: آية 22] وَبَيَّنَ أنه يَفْهَمُ أن يذهبُ بالكتابِ إلى بلقيسَ وجماعتِها {اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ} [النمل: آية 28].
وقوله (جل وعلا) في هذه الآيةِ الكريمةِ: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: آية 38] في المرادِ بالكتابِ هنا وَجْهَانِ معروفانِ
(1)
:
أَوَّلاً: الكتاب (فِعال) بمعنى (مفعول)، بمعنى المكتوبِ، قال بعضُ العلماءِ: هو هذا القرآنُ العظيمُ؛ لأنه مكتوبٌ عند الملائكةِ في صُحُفٍ، كما قال تعالى:{فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)} [عبس: الآيات 13 - 15] ومكتوب في اللوحِ المحفوظِ، كما قال تعالى:{بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)} [البروج: الآيتان 21، 22].
الوجهُ الثاني: أن المرادَ بالكتابِ: اللوحُ المحفوظُ؛ لأنه مكتوبٌ فيه جميعُ وقائعِ ما كانَ وما يكونُ إلى يومِ القيامةِ، وأصلُ مادةِ (الكتابةِ) - مادة (الكافِ والتاءِ والباءِ) (كتب) - معناها في لغةِ العربِ: الضمُّ وَالْجَمْعُ
(2)
، فَكُلُّ شيءٍ ضَمَمْتَ بعضَه إلى بعضٍ
(1)
انظر: القرطبي (6/ 420)، البحر المحيط (4/ 120).
(2)
انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الكاف، باب الكاف والتاء وما يثلثهما (مادة: كتب) ص (917)، المفردات (مادة: كتب) ص (699).
وَجَمَعْتَ بعضَه مع بعضٍ فقد كَتَبْتَهُ؛ ولذا قيلَ للخياطةِ: كتابةٌ. وفي ألغازِ الحريريِّ في مقاماتِه
(1)
:
وَكَاتِبِينَ وَمَا خَطَّتْ أَنَامِلُهُمْ
…
حَرْفًا وَلَا قَرَؤُوا مَا خُطَّ فِي الْكُتُبِ
يعني بهم: الْخَيَّاطِينَ؛ ولأجلِ أن الخياطةَ تُسَمَّى كتابةً؛ لأنها تضمُّ طَرَفَيِ الثوبِ، وتجمعُ بعضَها إلى بعضٍ، أو طَرَفَيِ الأَدِيمِ، وتضمُّ بعضَها إلى بعضٍ؛ لأجلِ ذلك سَمَّتِ العربُ الرقعةَ التي في السِّقاءِ، سَمَّوْهَا:(كُتْبةً). وَسَمَّوُا الثوبَ الذي تُخَاطُ به الرقعةُ في السِّقاءِ: (كُتْبَةً)، وجمعها:(كُتَب). وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ غيلانَ ذِي الرُّمَّةِ
(2)
:
مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا الْمَاءُ يَنْسَكِبُ
…
كَأَنَّهُ مِنْ كُلَى مَفْرِيَّةٍ سَرَبُ
وفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا
…
مُشَلْشَلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الكُتَبُ
يعني بالكُتَبِ: الثغورُ التي تكونُ في الكُتْبَةِ يسيلُ منها الماءُ. يُشَبِّهُ ذلك الماءَ السائلَ بدمعِه؛ ولأجلِ هذا كانت العربُ تُسَمِّي الخياطةَ: كتابةً. ومنه قولُ عمرِو بنِ دارةَ
(3)
يهجو فَزَارَةَ، يهجوهم وَيُعَيِّرُهُمْ بأنهم يفعلونَ الفاحشةَ مع إناثِ الإبلِ، قال
(4)
:
(1)
مقامات الحريري ص (347).
(2)
البيت في اللسان (مادة: سرب)(2/ 127)، (مادة: كتب) (3/ 217) والوفراء: الوافرة.
(3)
والغرفية: المدبوغة بالغَرْف، وهو شجر يُدبغ به. وأثاى: أفسد. والخوارز: جمع خارزة.
() نسبه في الشعر والشعراء ص 258 لسالم بن دارة.
(4)
البيت في المقاييس في اللغة، كتاب الكاف، باب الكاف والتاء وما يثلثهما، (مادة: كتب) ص (918)، الشعر والشعراء ص 258، اللسان (مادة: كتب) (3/ 217)، تفسير الماوردي (1/ 24)، القرطبي (1/ 158)، والدر المصون (1/ 85).
لَا تَأْمَنَّنَّ فَزَارِيًّا خَلَوْتَ بِهِ
…
عَلَى قَلُوصِكَ وَاكتُبْهَا بِأَسْيَارِ
يعني: خِطْ فَرْجَهَا بأسيارٍ لئلا يفعلَ بها؛ ولأجلِ هذا المعنى قيلَ للكتيبةِ: (كتيبة)؛ لأنها جماعةٌ من الجندِ يَنْضَمُّ بعضُها إلى البعضِ حتى تكونَ كتلةً مُجتمعةً.
وَلَا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
(1)
هذا أصلُ مادةِ (الكافِ والتاءِ والباءِ) في لغةِ العربِ.
ومعنى الكتابةِ
(2)
: هي مصدرُ سيال، أنكَ تضمُّ نفسَ حرفٍ إلى حرفٍ إلى حرفٍ، حتى يجتمعَ من ذلك نقوشٌ دالةٌ على ألفاظٍ ومعانٍ.
و (الكتابُ) في قولِه هنا: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ} أكثرُ الْمُحَقِّقِينَ على أنه اللوحُ المحفوظُ
(3)
، أي ما فَرَّطْنَا فيما كَتَبْنَا في اللوحِ المحفوظِ، ما ضَيَّعْنَا فيه شَيْئًا.
و (مِنْ) هنا هي التي تُزَادُ قبلَ النكرةِ التي تَكَلَّمْنَا عليها الآنَ
(4)
، وهي هنا مزيدةٌ قبلَ المفعولِ؛ لأن التفريطَ: التضييعُ. أي: ما ضَيَّعْنَا شيئًا في الكتابِ، بل كَتَبْنَا فيه كُلَّ شيءٍ، ومن ذلك: آجالُ الطيورِ وأعمارُها وأرزاقُها وأقدارُها وألوانُها والوقتُ الذي تُولَدُ فيه، والوقتُ الذي تموتُ، كما فَعَلْنَا ذلك بِبَنِي آدمَ.
(1)
البيت للنابغة، وهو في ديوانه ص (32).
(2)
انظر: الكليات ص (767).
(3)
انظر: ابن جرير (11/ 344 - 346:)، البغوي (2/ 95)، القرطبي (6/ 420)، شفاء العليل لابن القيم ص40، البحر المحيط (4/ 120).
(4)
مضى قريبا.
الوجهُ الثاني: أن المرادَ بالكتابِ: القرآنُ، والمعنى: ما ضَيَّعْنَا في هذا الكتابِ من شيءٍ، بل جَمَعْنَا فيه كُلَّ شيءٍ يحتاجُ إليه الخلقُ. وقد نَصَّ اللَّهُ على هذا المعنَى صريحًا في سورةِ النحلِ، ليس فيه خلافٌ، وهو قولُه:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: آية 89] فهذه في القرآنِ بلا خلافٍ تدلُّ على أنه يُبَيِّنُ كُلَّ شيءٍ؛ لأن في القرآنِ كُلَّ شيءٍ، والناسُ إنما يأخذونَ بقدرِ استعدادِ أَذْهَانِهِمْ، كُلٌّ يَغْرِفُ بحسبِ فَهْمِهِ، وقد ثبتَ في صحيحِ البخاريِّ عن أبي جحيفةَ أنه لَمَّا سألَ عَلِيًّا رضي الله عنه:«هل خَصَّكُمْ رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ؟» قال عَلِيٌّ رضي الله عنه فيما ثبتَ عنه في صحيحِ البخاريِّ: «لَا والذي فَلَقَ الحبَّةَ وبرأَ النسمةَ، إلا فَهْمًا يُعطيه اللَّهُ رجلاً في كتابِ اللَّهِ، وما في هذه الصحيفةِ» . قال: «وَمَا فِي هذه الصحيفةِ؟» قال: «العقلُ، وفِكَاكُ الأسيرِ، وألا يُقْتَلَ مسلمٌ بِكَافِرٍ»
(1)
فقولُ عَلِيٍّ رضي الله عنه في هذا الحديثِ الصحيحِ جوابًا لـ: «هل خصَّكم رسولُ الله بشيءٍ؟» : «لا، إلا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ
…
» يُفهم منه أن مَنْ أعطاه اللَّهُ فهمًا في كتابِ اللَّهِ يُخَصُّ بخصائصَ مِنَ العلومِ لم يُخَصَّ بها غيرُه، وما ذلك إلا أن القرآنَ جَمَعَ كُلَّ شيءٍ، منه ما يَطَّلِعُ عليه كُلُّ الناسِ، ومنه ما يَطَّلِعُ عليه الراسخونَ في العلمِ، ومنه ما يَعْلَمُهُ النبيُّ، ومنه ما لا يَعْلَمُهُ إلا اللَّهُ (جل وعلا).
وَكُلُّ ما في السُّنَّةِ جَمِيعًا، فهو في كتابِ اللَّهِ؛ لأن اللَّهَ قال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: آية 7]. فَالسُّنَّةُ كُلُّهَا تَشْمَلُهَا كلمةٌ مِنْ بَحْرِ القرآنِ. وهذا معنى قولِه: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} التفريطُ في الشيءِ: هو تَضْيِيعُهُ.
(1)
تقدم تخريجه في مقدمة الكتاب.
وقولُه تعالى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} الضميرُ عائدٌ إلى الأممِ المذكورةِ {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} .
وَيُشكلُ عليه: أنه رَدَّ عليه الضميرَ بصيغةِ ضميرِ العقلاءِ، والطيورُ والدوابُّ ليست من العقلاءِ؟
والجوابُ
(1)
: أنه لَمَّا شَبَّهَهُمْ بالعقلاءِ وقال: {أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فعندَ هذا التشبيهِ بالعقلاءِ يُسوِّغُ ذلك أن يَبْنِيَ عليهم ضميرَ العقلاءِ.
وقد تقررَ في فَنِّ العربيةِ: أن غيرَ العاقلِ كُلَّمَا شُبِّهَ بالعاقلِ جرى عليه في الضمائرِ ونوع الصِّيَغِ ما يجري على العاقلِ
(2)
. ونظيرُه في القرآنِ قولُه تعالى في رُؤْيَا يوسفَ: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} قال: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: آية 4] فَجُمِعَ جمعَ المذكرِ السالمِ المختصِّ بالعقلاءِ؛ لأنها لَمَّا اتَّصَفَتْ بالسجودِ أَشْبَهَتِ العقلاءَ من هذه الحيثيةِ، فَجَرَتْ عليها صيغةُ العقلاءِ. وكذلك قولُه:{قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: آية 11] لأنه لَمَّا خاطبَ السماواتِ والأرضَ خطابَ العقلاءِ، وَصَرَّحَتْ بالإطاعةِ كما يطيعُ العاقلُ، أجرى عليها جمعَ المذكرِ السالمِ المختصِّ بالعاقلِ كما هنا.
{ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} يَحْشُرُهُمُ اللَّهُ يومَ القيامةِ أحياء.
وقد جاء في حديثٍ عن أبي هريرةَ
(3)
،
(1)
انظر: البحر المحيط (4/ 121).
(2)
انظر: ابن جرير (3/ 256)، (15/ 556)، فقه اللغة للثعالبي (297)، البرهان للزركشي (2/ 246)، البحر المحيط (4/ 199)، الدر المصون (5/ 100)، قواعد التفسير (307).
(3)
أخرجه ابن جرير (13222)، (11/ 347)، وابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1286)، وكذا الحاكم (2/ 316) وقال:(صحيح على شرطه - أي مسلم - ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي. وأورده ابن كثير في التفسير (2/ 131)، والسيوطي في الدر المنثور (3/ 11) وعزاه لعبد الرزاق، وأبي عبيد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم. وهو موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه لكن له حكم الرفع.
وأبي ذَرٍّ
(1)
- وحديثُ أبي هريرةَ صَحَّحَهُ الحاكمُ وغيرُه - أن اللَّهَ يحشرهم هذا الحشرَ، ويعدلُ بينهم، حتى إنه ليقتصُّ لِلْجَمَّاءِ من الْقَرْنَاءِ التي كانت تَنْطَحُهَا في دارِ الدنيا. هكذا جاءَ في حديثٍ صَحَّحَهُ بعضُ العلماءِ، واللَّهُ تعالى أَعْلَمُ.
وهذه الآيةُ صَرَّحَتْ بأن الحيواناتِ والطيورَ كُلَّهَا يَحْشُرُهَا اللَّهُ بَعْدَ الموتِ، وظاهرُ هذا أنه حشرُ إحياءٍ بعدَ الموتِ، وتدلُّ عليه آيةُ التكويرِ:{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: آية 5] في مَعْرِضِ يومِ القيامةِ.
فالقولُ الْمَرْوِيُّ عن ابنِ عباسٍ: أن حشرَ الطيورِ والدوابِّ: مَوْتُهَا. هذا القولُ رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ من
(1)
وأصله عند مسلم (كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم) حديث: (2582)(4/ 1997) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.
() أخرجه أحمد بألفاظ مختلفة (5/ 153، 162، 172، 173)، وابن جرير. انظر: الأثرين رقم: (13223، 13224)(11/ 347 - 348)، والطبراني في الأوسط (6/ 173). وأورده ابن كثير في التفسير (2/ 131)، والهيثمي في المجمع (10/ 352) وألمح إلى ضعفه. والسيوطي في الدر (3/ 11). وقال أحمد شاكر معلقا على أحد طرقه عند أحمد (5/ 173):«وهذا إسناد حسن متصل» اهـ. وانظر: تعليقه على تفسير ابن جرير (11/ 348)، كما صحَّح الألباني رحمه الله بعض طرقه. انظر: السلسلة الصحيحة (4/ 60).
طُرُقٍ
(1)
، والظاهرُ أنه خلافُ الصحيحِ، وأن الصحيحَ ما عليه الجمهورُ، وَدَلَّ عليه ظاهرُ القرآنِ: أنه حَشْرٌ بعدَ الموتِ، كما قال:{وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: آية 5].
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: آية 39]. {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} المعنى أن الذين كَذَّبُوا بآياتِ اللَّهِ - كالذين جَحَدُوا هذا الوحيَ الْمُنَزَّلَ (القرآنَ العظيمَ)، وزعموا أنه شِعْرٌ أو سِحْرٌ أو كهانةٌ أو أساطيرُ الأولين، ونحو ذلك - قال اللَّه فيهم: إنهم صُمٌّ بُكْمٌ.
الصُّمُّ: جمعُ الأَصَمِّ. وقد تقررَ في فَنِّ التصريفِ: أن صيغةَ (أَفْعَل) إذا كانت صفةً مشبهةً، وكذلك أُنْثَاهَا (فَعْلاء) ينقاسُ جَمْعُ كُلٍّ منهما تفسيرًا على (فُعْل)
(2)
، كالأصمِّ والصُّمِّ، والأعمى والعُمْيِ، والأبكمِ والبُكمِ، والأحمرِ والحُمرِ، إلى غيرِ ذلك.
ومعنى صُمٍّ: أنهم صُمٌّ عن سماعِ الحقِّ وإن كانوا يسمعونَ غيرَه. كما بَيَّنَّا أنه قال عن المنافقين: {صُمٌّ وَبُكْمٌ} [البقرة: آية 18] فَحَكَمَ عليهم بالبَكَمِ مع أنه يقولُ فيهم: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: آية 19] ومن أَيْنَ لِلْبُكْمِ أن تكونَ لهم الألسنةُ الحدادُ؟ وقال في المنافقين: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ}
(1)
أخرجه ابن جرير من طريقين. انظر: الأثرين رقم (13219، 13220)(11/ 346) وابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1286). وأورده ابن كثير (2/ 131) من طريق ابن أبي حاتم.
(2)
انظر: ضياء السالك (4/ 191).
[المنافقون: آية 4] أي لِفَصَاحَتِهِمْ وحلاوةِ ألسنتِهم، مع أنه يحكمُ بأنهم بُكْمٌ.
وهذا (الصَّمَمُ) وهذا (البَكَمُ) المرادُ به: أنهم صُمٌّ عن سماعِ ما يُقَرِّبُهُمْ إلى اللَّهِ ويدخلُهم الجنةَ، وإن سَمِعُوا غيرَه، بُكْمٌ عن النطقِ بالحقِّ وإن تَكَلَّمُوا بغيرِه.
والعادةُ المعروفةُ في العربيةِ: أنهم يطلقونَ على قليلِ الْجَدْوَى اسمَ (لا شيءَ). وأنهم يُطْلِقُونَ على السماعِ الذي لا فائدةَ فيه، اسمَ:(الصَّمَمِ)
(1)
. ومنه قولُ قُعْنُبِ ابْنِ أُمِّ صَاحِبٍ
(2)
:
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ
…
وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
ومعنى (أَذِنُوا): أَنْصَتُوا بآذانٍ صاغيةٍ. فهو يقولُ: (صُمٌّ إذا سَمِعُوا) يُصَرِّحُ بأنهم صُمٌّ في الوقتِ الذي يصرحُ بأنهم يسمعونَ، كما في الآياتِ؛ لأن السماعَ الذي لا فائدةَ فيه يُطْلَقُ عليه اسمُ (الصَّمَمِ) وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سُئِلَ عن الكهانِ، قال في الكهان:«لَيْسُوا بِشَيْءٍ»
(3)
. نَفَى عنهم اسمَ (الشيءِ) لِخَسَاسَتِهِمْ وقلةِ فائدتِهم، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ.
والذي عليه الجمهورُ: أن هذا الصممَ والعَمَى في الدنيا، كما
(1)
مضى عند تفسير الآية (36) من هذه السورة.
(2)
مضى عند تفسير الآية (38) من هذه السورة.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب الكهانة، حديث (5762)، (10/ 216) وأخرجه في موضعين آخرين، انظر: الحديثين رقم: (6213، 7561)، ومسلم في الصحيح، كتاب السلام، باب: تحريم الكهانة، وإتيان الكهان، حديث:(2228)(4/ 1750).
قال اللَّهُ: {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: آية 23] وقال: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: آية 7] وقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: آية 23].
وقد قَدَّمْنَا أن هذا الصممَ والعَمَى إنما هو من ذلك الختمِ الذي يضعُ اللَّهُ على قلوبِهم، الذي عُبِّرَ عنه تارةً بـ (الختمِ) في قولِه:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ} [البقرة: آية 7] وتارةً بـ (الطبعِ): {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: آية 155]{كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ} [يونس: آية 74] وعنها تارةً بـ (الرَّانِ): {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: آية 14] ومرةً بـ (الأَكِنَّةِ): {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الكهف: آية 57].
قد بَيَّنَّا وجهَ الجوابِ منه عن حُجَّةِ الجبريةِ
(1)
؛ لأنهم يقولونَ: «إذا كان اللَّهُ جعلَ على قلبِه الختمَ، وعلى عيونِه [الغشاوةَ]
(2)
، وجعلَ عليه الطبعَ والأكنةَ، ومنعَه من الفهمِ والسماعِ إِذَنْ هو مجبورٌ»!! وقد أَجَبْنَا عن هذا: أن الآياتِ القرآنيةَ دَلَّتْ بكثرةٍ: أن ذلك الختمَ والطبعَ إنما يجعلُه اللَّهُ عليهم بعدَ أن بَادَرُوا إلى الكفرِ، وَتَمَرَّدُوا على اللَّهِ، وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ وَعَانَدُوا وَلَجُّوا في الباطلِ، فعند هذا يطمسُ اللَّهُ بصائرَهم جزاءً وِفَاقًا، كما قال:
(1)
في هذا الموضوع راجع الباب الخامس عشر (في الطبع والختم والغل والسد والغشاوة، والحائل بين الكافر وبين الإيمان، وأن ذلك مجعول للرب تعالى) من كتاب شفاء العليل ص (85).
(2)
في الأصل «وقر» وهو سبق لسان.
{فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: آية 5] بِأَنْ خَتَمَ عليها وطبعَ وَمَنَعَهَا من الخيرِ، وقال:{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [النساء: آية 155] أي: بسببِ كُفْرِهِمْ، فالباءُ سببيةٌ، بَيَّنَتْ أن سببَ ذلك الطبعِ هو كفرٌ سابقٌ. وقال تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام: آية 110] أي: نُقَلِّبُهَا كي لا تسمعَ الحقَّ أو تُبْصِرَهُ {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} لَمَّا سَارَعُوا وَبَادَرُوا إلى الكفرِ طَمَسْنَا على قلوبِهم، كما بَيَّنَهُ في قولِه:{بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: آية 14] فَبَيَّنَ أن ذلك (الرَّانَ) الذي غَطَّى القلوبَ وَمَنَعَهَا من الفهمِ سببُه ما كانوا يكسبونه من الشَّرِّ والكفرِ والمعاصي - والعياذُ بالله - ولذا قال تعالى هنا: {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} قولُه: {فِي الظُّلُمَاتِ} كأنه يقولُ: (عمي)، (صمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ)، إلا أنه عبَّر عن عَمَاهُمْ بكونِهم {فِي الظُّلُمَاتِ} ؛ لأن الذي هو في الظلماتِ لا يُبْصِرُ شيئًا، و {فِي الظُّلُمَاتِ}: جمع ظُلْمَةٍ.
وقد بَيَّنَّا في هذه الدروسِ مرارًا: أن مِنْ أصعبِ المسائلِ شُبْهَةَ الجبرِ وَالْقَدَرِ
(1)
، هي من أصعبِ المسائلِ، وأن القرآنَ أشارَ إليها في آياتٍ؛ لأن كثيرًا من الْجَهَلَةِ والملحدين يقولون:«إن كان اللَّهُ هو الذي يشاءُ أفعالَ العبدِ، وهو الخالقُ لِكُلِّ شيءٍ - ومنه أفعالُ العبدِ - وأفعالُ العبدِ بِمَشِيئَتِهِ، فكيف يُعَاقَبُ العبدُ المسكينُ على شيءٍ شَاءَهُ اللَّهُ، وَخَلَقَهُ اللَّهُ؟ فالعبدُ إِذَنْ لَا يُؤَاخَذُ بشيءٍ» !! فَلأَجْلِ هذه الشبهةِ ضَلَّتِ القدريةُ - والعياذُ باللَّهِ - فقالوا: إن العبدَ يستقلُّ بأعمالِ نفسِه. زَاعِمِينَ أن قدرةَ العبدِ مستقلةٌ بأعمالِه بلا تأثيرٍ لقدرةِ اللَّهِ فيها، فَفَرُّوا
(1)
انظر: ما استدل به كل فريق والجواب عنها في (القضاء والقدر) للمحمود (217 - 243).
من شيءٍ ووقعوا فيما هو أعظمُ منه، والعياذُ بِاللَّهِ.
وقد قَدَّمْنَا: أنه لو تَنَاظَرَ جَبْرِيٌّ وَسُنِّيٌّ فقال الجبريُّ مثلاً: هذه الذنوبُ والمعاصي التي صَدَرَتْ من البعيدِ أن اللَّهَ كَتَبَهَا عليه، وَقَدَّرَهَا عليه في الأزلِ، وَطُوِيَتْ الصحفُ، وَجَفَّتِ الصحفُ، وكان ما كان، ولا مبدلَ لِمَا سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ.
يقول البعيدُ: لو أردتُ التخلصَ مما سبقَ به العلمُ الأزليُّ لا يُمْكِنُنِي ذلك بحالٍ. فيقولُ البعيدُ: أنا إذًا مَجْبُورٌ، فكيفَ نُعَاقَبُ؟ وهذا فِعْلُ اللَّهِ وتقديرُه في أَزَلِهِ قبلَ أن أُولَدَ، وما سبقَ في العلمِ فهو حتمٌ واقعٌ لَا مَحَالَةَ!!
والصحابةُ سَأَلُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن هذه المسألةِ، وقالوا:«أَهُوَ أَمْرٌ مُؤْتَنَفٌ، أو كانَ ما كان فيما مَضَى؟» أَخْبَرَهُمْ أنه كانَ مَا كَانَ. فقالوا له: إذًا لِمَ لا نَتْرُكُ وَنَتَّكِلُ على الكتابِ السابقِ، ونتركُ العملَ حيث فُرِغَ مِنْ كُلِّ شيءٍ، وَمَضَى ما مَضَى؟ فَبَيَّنَ لهم بِنُكْتَةٍ من جوامعِ الكلمِ، قال:«كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»
(1)
.
فهي كلمةٌ مجملةٌ تَدُلُّ على
(1)
في هذا المعنى وردت عدة أحاديث رواها جمع من الصحابة منهم:
1 -
علي رضي الله عنه، عند البخاري، كتاب الجنائز، باب: موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله. حديث رقم: (1362)(3/ 225)، وأخرجه أيضا في عدة مواضع، انظر: الأحاديث رقم: (4945، 4946، 4947، 4948، 4949، 6217، 6605، 7552) ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه
…
، حديث رقم:(2647)(4/ 2039).
2 -
جابر بن عبد الله رضي الله عنه، عند مسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي
…
، حديث (2648)(4/ 2040).
3 -
عمران بن حصين رضي الله عنه، عند البخاري، كتاب القدر، باب: جف القلم على علم الله. حديث (6596)(11/ 491)، وأخرجه في موضع آخر. انظر: حديث (7551)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه
…
، حديث (2649)، (4/ 2041).
4 -
عبد الله بن عمر رضي الله عنه، عند الترمذي، كتاب القدر، باب ما جاء في الشقاء والسعادة، حديث (2135)، (4/ 445)، وذكره في موضع آخر، انظر: حديث (3111).
5 -
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، عند أحمد (2/ 167)، والترمذي، كتاب القدر، باب: ما جاء أن الله كتب كتابا لأهل الجنة وأهل النار، حديث:(2142)، (4/ 449).
معانِي هذا بالتفصيلِ، فالمؤمنُ - مثلاً - إذا نَاظَرَ الجبريَّ يقولُ له: اعْلَمْ يا جَبْرِيُّ أن جميعَ الأسبابِ الذي اهتدى بها المهتدون، وأعطاها اللَّهُ لهم: أعطاكَ مِثْلَهَا: العيونُ التي أَبْصَرُوا بها آياتِ اللَّهِ وغرائبَه وعجائبَه فَآمَنُوا: أَعْطَاكَ عَيْنَيْنِ صحيحتين مثلَها، والقلوبُ التي فَهِمُوا بها عن اللَّهِ: أعطاكَ عَقْلاً صحيحًا مثلَها، والرسولُ النذيرُ الذي أَنْذَرَ الكلَّ وَخَوَّفَهُ وَبَيَّنَ له: أَعْطَاكَ مثلَه، فجميعُ ما أَعْطَاهُمْ أعطاكَ إِيَّاهُ، إلا أن الفرقَ بينَك وبينَهم في شيءٍ واحدٍ هو: أن اللَّهَ تَفَضَّلَ عليهم بالتوفيقِ إلى ما بَيَّنَ لهم وَأَمَرَهُمْ به، وأنتَ لم يَتَفَضَّلْ عليكَ، وتفضُّله بالتوفيقِ مُلْكُهُ الْمَحْضُ، مَنْ تَفَضَّلَ عليه فَفَضْلٌ، ومن مَنَعَهُ من التوفيقِ فَعَدْلٌ، كما قال جل وعلا:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: آية 149] مُلْكُهُ للتوفيقِ بمشيئتِه: حُجَّتُهُ البالغةُ على خَلْقِهِ، مَنْ أَعْطَاهُ فَفَضْلٌ، وَمَنْ مَنَعَهُ فَعَدْلٌ.
وقد بَيَّنَّا مناظرةَ عبدِ الجبارِ مع
أَبِي إسحاقَ الإسفراييني في هذه المسألةِ
(1)
؛ لأن أَبَا إِسْحَاقَ فَهِمَ مضمونَ هذه الآيةِ، وحاجَّ به هذا المبتدعَ الْمُفْتَرِي. فجاء عبدُ الجبارِ يتقربُ بمذهبهم الخسيسِ أن السرقةَ والزِّنَى لا تكونُ بمشيئةِ اللَّهِ؛ لأن السرقةَ والزِّنَى من القبائحِ والرذائلِ، وأن اللَّهَ - في زَعْمِهِمْ - أَنْزَهُ وأكرمُ وَأَجَلُّ من أن تكونَ هذه الخسائسُ والقبائحُ بمشيئتِه، فجاءَ عبدُ الجبارِ يتقربُ إلى اللَّهِ ويعبدُه بهذا المذهبِ الباطلِ، فقال: سبحانَ مَنْ تَنَزَّهَ عَنِ الفَحْشَاءِ!! يعني: أن فُحْشَ السرقةِ والزِّنَى ليس بمشيئةِ اللَّهِ.
فقال أبو إسحاقَ: كلمةُ حَقٍّ أُرِيدَ بها باطلٌ!! ثم قال: سبحانَ مَنْ لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ إلا مَا يَشَاءُ.
فقالَ عبدُ الجبارِ: أَتَرَاهُ يَشَاؤُهُ وَيُعَاقِبُنِي عليه؟
فَقَالَ أبو إسحاقَ: أتراك تفعلُه جَبْرًا عليهِ؟ أأنتَ الربُّ وهو العبدُ؟
فقال عبدُ الجبارِ: أرأيتَ إن دَعَانِي إلى الْهُدَى، وقضى عَلَيَّ بِالرَّدَى، دَعَانِي وَسَدَّ البابَ دُونِي، أتراه أَحْسَنَ إِلَيَّ أَمْ أَسَاءَ؟
فقال أبو إسحاقَ: أرى أن الذي مَنَعَكَ إن كان حَقًّا واجبًا لكَ عليه فقد ظَلَمَكَ وقد أساءَ، إن كان مُلْكُهُ المحضُّ فإن أعطاكَ فَفَضْلٌ، وإن مَنَعَكَ فَعَدْلٌ. وبُهِتَ عبدُ الجبارِ، وقال الحاضرونَ: واللَّهِ ما لهذا جوابٌ!!
(1)
انظر: طبقات الشافعية للسبكي (4/ 261)، شرح الطحاوية (323)، فتح الباري (13/ 451) منهج الجدل والمناظرة (2/ 1074).
وقد بَيَّنَّا فيما مضَى القصةَ التي ذَكَرُوهَا عن عمرِو بنِ عُبَيْدٍ - مع أنه من عظمائِهم الأَجِلَاّءِ عندهم - أنه جاءَه ذلك البدويُّ، وقال له إن حِمَارَتَهُ أو دَابَّتَهُ سُرِقَتْ، وأنه [يطلب منه أن]
(1)
يدعوَ اللَّهَ له أن يَرُدَّهَا عليه. فقام يدعو ويتقربُ بهذا المذهبِ الباطلِ: اللَّهُمَّ إِنَّ دَابَّتَهُ سُرِقَتْ ولم تُرِدْ سَرِقَتَهَا؛ لأنك أكرمُ وأنزهُ وأجلُّ من أن تُرِيدَ هذه الرذيلةَ القبيحةَ - يعني السرقةَ -!! فالبدويُّ قال له: نَاشَدْتُكَ اللَّهَ يا هذا إلا ما كففتَ عَنِّي من دعائِك الخبيثِ، إن كانت سُرِقَتْ ولم يُرِدْ سرقتَها فقد يريدُ ردَّها ولا تُرَدُّ، ولا ثقةَ لي بِرَبٍّ يُفْعَلُ في مُلْكِهِ أشياءُ ليست في مشيئتِه، فهذا ليس بِرَبٍّ، ولا ثقةَ لِي به، فَاكْفُفْ عَنِّي من دعائكَ الخبيثِ
(2)
!!
[2/ب] فحقيقةُ هذا الأمرِ أن اللَّهَ (جل وعلا) غَنِيٌّ عن الخلائقِ. / ولكنه خَلَقَ الخلقَ، وَجَبَلَ بعضَهم في الأزلِ على القُبحِ والسوءِ، وجبلَ بعضَهم في الأزلِ على الطيبِ والطهارةِ، وَيَسَّرَ كلاًّ لِمَا خلقَه له، والحكمةُ في ذلك: أن يكونَ فيهم مُطِيعُونَ يظهرُ فيهم مظاهرُ بعضِ أسماءِ اللَّهِ وصفاتِه، يظهرُ فيهم من مظهرِ اسمِه: الرحيمِ، الكريمِ، الغفورِ الجوادِ، إلى غيرِ ذلك من صفاتِ الجودِ، والرحمةِ، والمغفرةِ، والكرمِ، كما أنه شاءَ أن يخذلَ قومًا آخرين، فتكون أعمالُهم غيرَ طَيِّبَةٍ؛ ليظهرَ فيهم أيضًا بعض مظاهرِ أسمائِه وصفاتِه من شدةِ البطشِ وقوةِ الانتقامِ، وعظمةِ النكالِ والعقابِ، إلى غيرِ ذلك. واللَّهُ (جل وعلا) إذا خلقهم وأوجدهم يصرفُ قُدَرَهم وإراداتِهم بقدرتِه وإرادتِه إلى ما سَبَقَ به العلمُ الأَزَلِيُّ،
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
(2)
شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 740)، شرح الطحاوية (323).
فيأتونه طائعينَ {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الدهر: آية 30].
وقولُه جل وعلا: {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: آية 39] جمهورُ العلماءِ على أن المرادَ بِصَمَمِهِمْ وَعَمَاهُمْ وكونهم في الظلماتِ: أنه في دارِ الدنيا
(1)
، والمرادُ به عَمَى أبصارِهم عن الحقِّ، وصممُ أسماعِهم عن الحقِّ، وعمى عيونِهم عن الحقِّ؛ لأنها في الظلماتِ - والعياذُ بالله - لا تُبْصِرُ شيئًا، كما في قولِه:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: آية 18]{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُم مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} [الأحقاف: آية 26] خلافًا لبعضِ العلماءِ القائلِ: الذين كفروا في دارِ الدنيا {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} في الآخرةِ؛ لأجلِ تكذيبِهم في الدنيا
(2)
، واستدلَّ بأن اللَّهَ قال:{وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: آية 97] وذكر بأنهم في الظلماتِ، بدليلِ قولِه:{انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: آية 13].
والقولُ الأولُ هو الذي عليه الجمهورُ.
ثم قال: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: آية 39].
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 350)، القرطبي (6/ 422)، البحر المحيط (4/ 122)، ابن كثير (2/ 132).
(2)
انظر: القرطبي (6/ 422)، البحر المحيط (4/ 122).
قد بَيَّنَّا فيما مَضَى
(1)
أن فِعْلَ المشيئةِ إذا قُرِنَ بأداةِ شرطٍ حُذِفَ مفعولُه باتفاقٍ؛ لأن جزاءَ الشرطِ يكفي عنه. وتقريرُ المعنى: (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ إِضْلَالَهُ يُضْلِلْهُ، ومن يشأ جَعْلَهُ على صراطٍ مستقيمٍ يجعله على صراطٍ مستقيمٍ).
وهذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على رَدِّ مذهبِ القدريةِ رَدًّا واضحًا لا شَكَّ فيه؛ لأنه بَيَّنَ أن الضلالَ بمشيئتِه، والهدى بمشيئتِه، فلا يقعُ في الكونِ تحريكةٌ ولا تسكينةٌ إلا بمشيئتِه جل وعلا {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الدهر: آية 30] يعني مَنْ شاء أن يُضله، أي: يُزيغه عن طريقِ الصوابِ.
وقد قَدَّمْنَا فيما مَضَى أن الضلالَ جاء إطلاقُه في القرآنِ وفي لغةِ العربِ على ثلاثةِ أنحاءَ متقاربةٍ
(2)
.
وبعضُ العلماءِ يحاولُ أن يجعلَ مرجعَها في الأصلِ إلى شيءٍ واحدٍ.
أشهرُها: هو الذهابُ عن طريقِ الجنةِ إلى طريقِ النارِ، وعن طريقِ الْهُدَى - التي جاء بها النبيُّ - إلى طريقِ الكفرِ والمعاصِي التي سَنَّهَا الشيطانُ. وهذا الإطلاقُ هو أشهرُ إطلاقِ أنواعِ الضلالِ، ومنه هذه الآيةُ:{مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ} [الأنعام: آية 39] أي: يُضْلِلْهُ عن طريقِ الحقِّ التي تُدْخِلُهُ الجنةَ إلى طريقِ الضلالِ التي تُدْخِلُهُ النارَ.
(1)
مضى عند تفسير الآية (35) من سورة الأنعام.
(2)
انظر: المفردات (مادة: ضل)(509)، نزهة الأعين النواظر (406)، إصلاح الوجوه والنظائر للدامغاني (292)، بصائر ذوي التمييز (3/ 481)، أضواء البيان (3/ 53).
الإطلاقُ الثاني من إطلاقاتِ الضلالِ أن معناه: الغيبوبةُ والاضمحلالُ، وكلُّ شيءٍ غابَ وانعدمَ واضمحلَّ تقولُ العربُ:(ضل). تقول العربُ: «ضَلَّ السَّمْنُ فِي الطعامِ» إذا غابَ واضمحلَّ فيه، وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه بهذا المعنى الآيةُ المتقدمةُ:{وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: آية 24] أي: غَابَ وَاضْمَحَلَّ وَزَالَ، ومنه قولُه:{وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: آية 10] يَعْنُونَ أنهم اخْتَلَطَتْ عظامُهم بالأرضِ فَأَكَلَتْهَا فَانْعَدَمَتْ وَاضْمَحَلَّتْ فيها كما يضمحلُ السَّمْنُ في الطعامِ. ومن الضلالِ بهذا المعنى قولُ الأَخْطَلِ
(1)
:
كُنْتَ الْقَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ قَذَفَ الأَتِيُّ بِهِ، فَضَلَّ ضَلَالَا
وقولُ الآخَرِ
(2)
:
أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيارُ عَنِ الْحَيِّ الْمُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا
فقولُه: «الحيِّ المضللِ» أي: الذي ذَهَبَتْ به الأيامُ، وانقضى ذِكْرُه فغابَ وَاضْمَحَلَّ.
الإطلاقُ الثالثُ من إطلاقاتِ الضلالِ: هو الذهابُ عن معرفةِ الشيءِ، لا عن طريقِ الصوابِ، ولا جنةٍ ولا نارٍ، بل كُلُّ شيءٍ ذَهَبَتْ عن حقيقةِ معرفةِ الواقعِ فيه تقولُ العربُ:«ضَلَّ عَنْهُ» ، ومنه بهذا
(1)
ديوان الأخطل (250).
والقذى: الأوساخ التي تطفو على الموج.
والأكدر: الذي تغير لونه من الأوساخ.
والأتي: السيل الذي يأتي من كل مكان.
(2)
البيت في القرطبي (1/ 150)، الدر المصون (1/ 76).
المعنى على أصحِّ التفسيراتِ: {وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى} [الضحى: آية 7] يعني: ذاهبًا عما تعرفُه الآنَ من العلومِ فَهَدَاكَ إلى تلك العلومِ بالوحيِ؛ لأنها علومٌ لَا تُعْرَفُ بالعقلِ، ولا تعرفُ بالفطرةِ، ومن الضلالِ بهذا المعنى قولُه تعالى في الدَّيْنِ:{فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا} [البقرة: آية 282] أي: تذهب عن معرفةِ المشهودِ به فَتُذَكِّرُهَا الأخرى، ومنه بهذا المعنى {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَاّ يَضِلُّ رَبِّي} [طه: آية 52] أي: لا يذهبُ عنه عِلْمُ شيءٍ، بل جميعُ الأشياءِ يحيطُ بها عِلْمُهُ.
ومنه بهذا المعنى قولُ أولادِ يعقوبَ ليعقوبَ: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: آية 95] ذهابُك عن معرفةِ حقيقةِ يوسفَ، وما جرى مَجْرَى ذلك، ومن أمثلةِ هذا النوعِ في كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ
(1)
:
وَتَظُنُّ سَلْمَى أَنَّنِي أَبْغِي بِهَا
…
بَدَلاً، أُرَاهَا فِي الضَّلَالِ تَهِيمُ
يعني: أنها ظَنَّتْ أنه يبغي بها بَدَلاً، والأمرُ بخلافِ ذلك.
ولأجلِ أن الضلالَ يُطْلَقُ على الغَيْبَةِ والاضمحلالِ (من إطلاقِه الثاني): سَمَّتِ العربُ الدفنَ (إضلالاً)، تقول:«ذَهَبُوا بِالْمَيِّتِ فَأَضَلُّوهُ» إذا دَفَنُوهُ في قبرِه، ومن هذا المعنى قولُ نابغةِ ذبيانَ
(2)
:
فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ وَغُودِرَ بِالْجَوْلَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ
(1)
البيت في الإيضاح للقزويني ص (158) والتلخيص في علوم البلاغة ص (185) للمؤلف نفسه، جواهر البلاغة ص (165)، بلا نسبة.
(2)
ديوان النابغة الذبياني ص (155).
وهذه الآيةُ الكريمةُ تَرُدُّ مذهبَ المعتزلةِ، وتوضحُ أن الهدى والضلالَ كُلُّ ذلك بمشيئةِ اللَّهِ، يُضِلُّ قومًا وله بذلكَ الحكمةُ البالغةُ، وَيَهْدِي آخَرِينَ وله في ذلك الحكمةُ البالغةُ.
اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ، فَمَنْ خلقَه اللَّهُ للخيرِ هَدَاهُ إلى ما يُرْضِيهِ، ومن خلقَه للشرِّ - والعياذُ بالله - بعكسِ ذلك؛ ولذا قال:{مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الصراط) في لغةِ العربِ: هو الطريقُ الواضحُ
(1)
. فَكُلُّ طريقٍ واضحٍ تُسَمِّيهِ العربُ: (صِرَاطًا). و (المستقيم): هو الذي لا اعوجاجَ فيه
(2)
. ووزنُه بالميزانِ الصرفيِّ
(3)
: (مُسْتَفْعِل) وياؤه مُبْدَلَةٌ من واوٍ، أصلُه:(مُسْتَقْوِم) على وزنِ (مُسْتَفْعِل)؛ لأن مادةَ (الاستقامةِ) واويةُ العينِ، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ؛ وذلك أن دينَ الإسلامِ طريقٌ واضحٌ، مَحَجَّةٌ بيضاءُ، تَرَكَهَا نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم بما أوضحَ به وَبَيَّنَهَا محجةً بيضاءَ، ليلُها كنهارِها، لا يزيغُ عنها إلا هَالِكٌ.
وقوله: {مُّسْتَقِيمٍ} طريقُ دِينِ الإسلامِ في غايةِ الاستقامةِ، ليس فيه اعوجاجٌ. ومعنى استقامتِه: أن طَرَفَهُ بِيَدِ المسلمين، وَطَرَفهُ الآخَر فِي الجنةِ، إذا ثَبَتُوا عليه استقامَ بهم إلى الجنةِ، فَأَدْخَلَهُمْ إياها من غيرِ أن يعدلَ بهم عنها يَمِينًا ولا شِمَالاً، وإذا تركوه ذَهَبُوا إلى بُنَيَّاتِ الطرقِ.
وقد ضَرَبَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم لهذا مثلاً
(4)
، فَخَطَّ ذلك الخطَّ
(1)
انظر: القاموس (مادة: سرط)(865).
(2)
انظر: ابن جرير (1/ 170)، المحتسب (1/ 43)، الدر المصون (1/ 64).
(3)
انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص (227).
(4)
جاء هذا في حديث أخرجه الإمام أحمد في المسند، رقم:(4142، 4437)(6/ 89، 199)(تحقيق أحمد شاكر)، والحاكم (2/ 318) وقال:«هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه» اهـ، وابن جرير في التفسير، رقم:(14168، 14170)(12/ 230).
وقد أطال ابن كثير في تخريجه وذكر طرقه، انظر: تفسير ابن كثير (2/ 190)، والحديث صححه أحمد شاكر رحمه الله في تعليقه على المسند، وتفسير ابن جرير، والألباني في تعليقه على كتاب السنة لابن أبي عاصم (1/ 13).
المستقيمَ، وَخَطَّ حولَه خطوطًا كثيرةً؛ لِيُبَيِّنَ أن دينَ اللَّهِ مستقيمٌ، وأن حولَه بِدَعًا، وبُنَيَّاتِ طُرُقٍ، مَنْ سَلَكَهَا ضَلَّ وَهَلَكَ {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ} الآية [الأنعام: آية 153].
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)} [الأنعام: الآيتان 40، 41].
هذه الآيةُ الكريمةُ عَابَ اللَّهُ فيها الكفارَ بسخافةِ العقولِ
(1)
، وأنهم إذا نَزَلَتْ بهم شِدَّةٌ من عظائمِ الشِّدَدِ أَخْلَصُوا في ذلك الوقتِ الدعاءَ إلى اللَّهِ، وَتَرَكُوا دعاءَ غيرِ اللَّهِ؛ لِعِلْمِهِمْ بأنه لا ينفعُ ولا يضرُّ، فإذا نَجَّاهُمُ اللَّهُ من تلك الكربةِ، وأمِنوا: رَجَعُوا إلى ما كانوا عليهِ من الشركِ بالله. وهذه سخافةُ عقولٍ؛ لأنهم في وقتِ الشدائدِ يُخْلِصُونَ إلى اللَّهِ، ثم إذا كان في غير ذلك الوقتِ رَجَعُوا إلى ما كانوا عليه من الكفرِ!! وهذا ذمٌّ من اللَّهِ للكفارِ، ذَمَّهُمْ به في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه؛ ذلك أن الإنسانَ إذا نَزَلَتْ به عظيمةٌ من عظائمِ الشدةِ - في الدنيا - والأهوالِ فإن الالتجاءَ في ذلك الوقتِ إلى مَنْ يُنْقِذُهُ. هذا من
(1)
سيأتي عند تفسير الآية (151) من هذه السورة.
خصوصِ خالقِ الكونِ (جل وعلا)، هذا أَمْرٌ مِنْ خَصَائِصِ اللَّهِ، ليس فيه شركٌ لأحدٍ. فَاللَّهُ (جل وعلا) إذا نَزَلَتْ بالناسِ الشِّدَدُ والبلايا والفظائعُ العظامُ فَمَلْجَؤُهُمْ الذي يلجؤون إليه هو خالقُهم (جل وعلا). وَسَيِّدُهُمْ في ذلك وقائدُهم فيه: هو سيدُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم، كان إذا نَزَلَ به المكروهُ والشدائدُ أَخْلَصَ الالتجاءَ في ذلك الوقتِ لِمَنْ له ذلك الحقُّ الخالصُ، كما قال تعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال: آية 9].
وهذا المستغيثُ هو محمدٌ صلى الله عليه وسلم يَلْتَجِئُ إلى اللَّهِ عندَ الشدةِ لِيُشَرِّعَ ذلك [لأُمَّتِهِ]
(1)
، ويبينَ لهم أن هذا حقُّ رَبِّهِمْ الخالصُ له وَحْدَهُ.
وقد أوضحَ اللَّهُ هذا المعنى بالسورةِ الكريمةِ - سورةِ النملِ - حيث قال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا تُشْرِكُونَ} [النمل: آية 59] وفي القراءةِ الأُخْرَى: {أَمَّا يُشْرِكُونَ}
(2)
الجواب: اللَّهُ خَيْرٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. ثم
(3)
قال: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النمل: آية 61] ذَكَرَ في هذه الآياتِ خَلْقَهُ البحرَ والجبالَ وما فَعَلَ من عظائمِ رُبُوبِيَّتِهِ (جل وعلا)، وهذه خصائصُه وحقوقُه الخالصةُ.
ثم قال في
(1)
في الأصل: لخلقه.
(2)
قرأ أبو عمرو، وعاصم، ويعقوب بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. انظر: المبسوط في القراءات العشر (334).
(3)
قبل هذه الآية قوله تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
…
} الآية [النمل: آية 60].
الأثناءِ: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} [النمل: آية 62] ثم قال: {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ نُشُرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [النمل: آية 63] وفي القراءة الأخرى: {نُشْرًا بين يدي رحمته}
(1)
ثم قال: {أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ} [النمل: آية 64] هذه حقوقُ اللَّهِ الخالصةُ له، فنحن معاشرَ المؤمنين نُخْلِصُهَا لِلَّهِ، إرضاءً لِلَّهِ ولرسولِه صلى الله عليه وسلم، واقتداءً برسولِه؛ ولئلا نَتَعَدَّى حدودَ اللَّهِ، ونصرفَ حقوقَه لغيرِه، والكفارُ يعلمونَ هذا، ويعلمونَ أن هذه حقوقُ اللَّهِ الخالصةُ له، فإذا كان وقتُ الْجِدِّ، ورأوا الشدائدَ
(2)
،
كَأَنْ يَهِيجُ عليهم البحرُ بأمواجِه وأهوالِه فيظنوا الموتَ، عند هذا يُخْلِصُونَ العبادةَ والدعاءَ لِلَّهِ وحدَه، فإذا أَنْجَاهُم اللَّهُ رجعوا إلى ما كانوا عليه، كما عَابَهُمْ فيه في آيةِ الأنعامِ هذه - التي نحن بِصَدَدِهَا- وأمثالُها في القرآنِ كثيرةٌ، كقولِه في سورةِ بني إسرائيلَ:{وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ} [الإسراء: آية 67] يعني: بِمَسِيسِ الضُّرِّ: إِنْ هَاجَتْ عليهم الأمواجُ، وَعَصَفَتِ الريحُ، وكادت السفينةُ تَغْرَقُ بما فيها {وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ} أي: غَابَ عنكم كُلُّ ما كُنْتُمْ تدعونَه واضمحلَّ {ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ} وأنقذَكم من ذلك الكربِ في البحرِ
(1)
قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ويعقوب:(نُشُراً) بضم النون والشين.
وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف. (نَشْراً).
وقرأ ابن عامر: (نُشْراً) بضم النون وسكون الشين.
وقرأ عاصم: (بُشْراً) بالباء. وسكون الشين.
انظر: المبسوط لابن مهران ص (209).
(2)
انظر: أضواء البيان (2/ 190 - 192) ..
{أَعْرَضْتُمْ} أي: وَرَجَعْتُمْ إلى كُفْرِكُمْ، ثم قال:{أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)} [الإسراء: الآيات 67 - 69] وقال جل وعلا: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [يونس: الآيتان 22، 23]{وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: آية 32]{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت: آية 65] وأمثالُ هذا في القرآنِ كثيرةٌ جِدًّا.
وكان سببُ إسلامِ عكرمةَ بنِ أبي جهلٍ - رضي الله عن عكرمةَ وَأَرْضَاهُ -: كان شديدَ العداوةِ للنبيِّ هو وَأَبُوهُ، فَلَمَّا فَتَحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكةَ في عامِ ثمانٍ من الهجرةِ هربَ عكرمةُ، وركبَ في سفينةٍ من البحرِ الأحمرِ رائحًا إلى الحبشةِ، فلما لَجَجَتْ بهم السفينةُ في البحرِ هاجت عليهم الريحُ، وَأَيْقَنُوا بالهلاكِ، وَطَغَتْ عليهم الأمواجُ، فإذا جميعُ مَنْ فِي السفينةِ يَتَنَادَوْنَ، وينادي بعضُهم بعضًا: احْذَرُوا في هذا الوقتِ أن تدعوا غيرَ اللَّهِ؛ لأنه لا يُخَلِّصُكُمْ من هذا إلا اللَّهُ وحدَه. فلما سَمِعَهُمْ يقولون قال: وَاللَّهِ إن كان لا يُنْجِي مِنْ كرباتِ البحرِ إلا هو فلا يُنْجِي من كرباتِ الْبَرِّ إلا هو، ثم قال: اللَّهُمَّ لكَ عَلَيَّ العهدُ إن أَنْجَيْتَنِي من هذه لأَضَعَنَّ يدي في يدِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فَلأَجَدِنَّهُ رؤوفًا رحيمًا، فأنجاهم اللَّهُ، فَرَجَعَ وَأَسْلَمَ، وصارَ من خيارِ أصحابِ
النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
،
فنحن معاشرَ المؤمنين، إذا نَزَلَتْ بنا البلايا، كأن يهيجَ علينا البحرُ في سفينةٍ، أو تقعَ أمورٌ لا يقدرُ على دَفْعِهَا إلا اللَّهُ، فاقتداءً بنبينا، وعملاً بكتابِنا، وتوحيدًا لِرَبِّنَا، نُعْطِي اللَّهَ حَقَّهُ الخالصَ، ولا نفعلُ كما يفعلُ الكفارُ؛ لأن اللَّهَ عابَ الكفارَ؛ لأنهم وقتَ الشدائدِ يُخْلِصُونَ العبادةَ لِمَنْ خَلَقَهُمْ، وفي وقتِ الرخاءِ يرجعون لِشِرْكِهِمْ؛ ولذا قال جل وعلا:{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ} [الأنعام: آية 40] هذه الكلمةُ المشهورُ فيها عندَ علماءِ العربيةِ
(2)
وعلماءِ التفسيرِ: أنها كلمةٌ أَطْلَقَتْهَا العربُ بهذه (التاء) مفتوحةً، سواء كان الْمُخَاطَبُ ذَكَرًا أو أُنْثَى، أو جماعةً أو اثنين، إلا أن (الكافَ) بعدَها حرفُ خطابٍ يَتَلَوَّنُ بِتَلَوُّنِ الْمُخَاطَبِينَ، ككافِ الخطابِ في الإشارةِ في (ذلكم)، و (ذلك) و (ذلكن)، ومعناها عندَ الجمهورِ: أَخْبِرْنِي. والتحقيقُ: أن الكافَ فيها لا محلَّ له من الإعرابِ؛ لأنه حرفُ خطابٍ؛ وأنها كلمةٌ وَضَعَتْهَا العربُ بمعنى: أَخْبِرْنِي.
{أَرَأَيْتَكُمْ} أَخْبِرُونِي، أَخْبِرُونِي أيها الكفارُ الذين تَعدِلُونَ بِاللَّهِ غيرَه، وتصرفونَ حقوقَه لغيرِه، وتدعون معه غيرَه، أَخْبِرُونِي إن
(1)
أخرج قصة عكرمة رضي الله عنه هذه: الحاكم (3/ 241) وابن عساكر في تاريخه، انظر:(مختصر تاريخ دمشق)(17/ 134، 135، 137، 138) وأوردها الحافظ في الإصابة (2/ 497) وعزاها للدارقطني، والحاكم، وابن مردويه. والذي في سنن الدارقطني (4/ 167 - 168) طرف الخبر في أمر النبي صلى الله عليه وسلم حينما فتح مكة - بقتل أربعة، ثم قال الدارقطني:«وذكر باقي الحديث» اهـ ..
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 351)، القرطبي (6/ 423)، البحر المحيط (4/ 124 - 128)، الدر المصون (4/ 615 - 622).
جَاءَتْكُمْ بَلِيَّةٌ مِنَ البلايا {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ} بأن هَاجَ عليكم البحرُ ورأيتم الموتَ عِيَانًا {أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ} من بلاءٍ عظيمٍ وداهيةٍ عُظْمَى {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} ؟؟ أَتَدْعُونَ في ذلك الوقتِ غيرَ اللَّهِ من هذه الأصنامِ التي تَعْبُدُونَ دُونَهُ؟ والمعنى: كَلَاّ لَا تَدْعُونَ في ذلك الوقتِ إلا إياه وحدَه، كما صَرَّحَ به في قولِه:{بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ} [الأنعام: آية 41] وَقَدَّمَ المفعولَ للحصرِ، أي: لا تَدْعُونَ وقتَ الشدائدِ إلا إياه وحدَه؛ لأنكم تعلمونَ أنه هو الذي بِيَدِهِ إزالتُها، وأن غيرَه لا يقدرُ على رفعِ الكرباتِ عَنْكُمْ، ثم قال:{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} اسْتَشْكَلَ بعضُ العلماءِ (إلى) بعدَ (تَدْعُونَ) وقد قال بعضُ الْمُحَقِّقِينَ
(1)
: إن [(دَعَا) قد تُضَمَّنُ مادةَ (لَجَأَ) كما قد تَتَعَدَّى بـ]
(2)
(إلى) كما في قوله: (وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ} وكما قال الشاعرُ
(3)
:
(1)
انظر: البحر المحيط (4/ 129)، الدر المصون (4/ 631).
(2)
في الأصل: «(تدعون) قد تُضَمَّن مادة (دعا) قد تتعدى إلى» . ولا يخفى أن الكلام بهذا السياق مُختل؛ وذلك أن مادة: (دعا) تتعدى بنفسها إلى المفعول إذا كانت بمعنى
(3)
السؤال والاستغاثة والطلب، كما في قوله تعالى:{وَإِذَا مَسَّ الْإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ} [الزمر: آية 8]. وقد تأتي بمعنى الحث على فعل شيء أو تركه، وحينها تتعدى بـ (إلى) كما في قوله تعالى:{قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: آية 33]. وهنا في آية الأنعام المراد بالدعاء: سؤال الله واللَّجَأ إليه، وقد استشكل بعض العلماء تعدية (تدعون) بـ (إلى)، وبناء على ذلك وقع الخلاف في توجيه ذلك، فقيل: معنى الآية: «فيكشف ما تدعون - أي: تطلبون وتحثون - إلى كشفه» . وبهذا يصح تعدية (تدعون) بـ (إلى) .. وقيل: بل هي على معنى سؤال الله وطلبه، ولكنها قد ضُمِّنَت معنى (تلجؤون) فصح تعديتها بـ (إلى). والله أعلم.
() البيت لبشامة بن حزن النهشلي. وهو في البحر المحيط (4/ 129)، الدر المصون (1/ 468).
وَإِنْ دَعَوْتِ إِلَى جُلَّى وَمَكْرُمَةٍ
…
يَوْمًا سَرَاةَ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا
الشاهدُ: أن (دَعَا) تَعَدَّى بـ (إلى).
{فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ} هذا الذي تَدْعُونَ اللَّهَ إليه، أي: إلى أن يَكْشِفَهُ عنكم، ويزيلَه عنكم، قد يكشفُه إن شاءَ، وإن شاءَ لم يَكْشِفْهُ، فهذه قُيِّدَتْ بالمشيئةِ.
قال بعضُ العلماءِ
(1)
: هذه قُيِّدَتْ بالمشيئةِ، وآية البقرةِ أُطْلِقَتْ، لم تُقَيَّدْ، وهي قولُه:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: آية 186] ولم يَقُلْ: إن شئتَ، وهنا قُيِّدَ بالمشيئةِ.
قال بعضُ العلماءِ: يُحْمَلُ المطلقُ على المقيدِ، ويُقيَّدُ بالمشيئةِ.
وأظهرُ القَوْلَيْنِ: ما قاله بعضُ العلماءِ: أن آيةَ البقرةِ مُطْلَقَةٌ، وأن دعاءَ المؤمنِ لا يُرَدُّ إلا إذا كان بإثمٍ أو قطيعةٍ، وما جرى مجرى ذلك، وهذه التي قُيِّدَتْ بالمشيئةِ: في دعاءِ الكفارِ، أما دعاءُ المؤمنين فَلَمْ يُقَيَّدْ بالمشيئةِ. وعلى كُلِّ حالٍ لا شيءَ إلا بمشيئةِ اللَّهِ، إلا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ صادقٌ، وقد وعدَ المؤمنين بالإجابةِ، ولم يُقَيِّدْهُ بشيءٍ، وإنما جاء بقيدِ المشيئةِ في دعاءِ الكفارِ.
ثم قال: {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} فيه للعلماءِ وَجْهَانِ
(2)
:
(1)
انظر: أضواء البيان (1/ 121).
(2)
انظر: القرطبي (6/ 423)، البحر المحيط (4/ 129)، الدر المصون (4/ 632).
أن معنَى {وَتَنْسَوْنَ} تَتْرُكُونَهُ عَمْدًا، تنسونَ الشركاءَ، أي: تَتْرُكُونَ دُعَاءَهَا وقتَ الشدةِ عمدًا؛ لِعِلْمِكُمْ بأن الكرباتِ والشدائدَ لا يكشفُها إلا اللَّهُ (جل وعلا)، فتتركونها عمدًا.
والنسيانُ يُطْلَقُ على تركِ الشيءِ عمدًا، كما قال:{فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: آية 51] معناه: نَتْرُكُهُمْ عَمْدًا كما تَرَكُوا العملَ للقاءِ يومِ القيامةِ عمدًا. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، أنها تُطْلِقُ النسيانَ على تركِ الفعلِ عمدًا، وتطلقُه على تَرْكِهِ نِسْيَانًا.
الوجهُ الثاني: أنه من شدةِ الهولِ نَسُوا غيرَ اللَّهِ (جل وعلا)، ولم يَخْطُرْ في أذهانِهم إلا اللَّهُ؛ لأنهم عارفونَ أنه لا يكشفُ الكرباتِ إلا هُوَ؛ ولذا قال:{وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} .
يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ
أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)} [الأنعام: الآيات 42 - 45].
يقول اللَّهُ (جل وعلا) لِنَبِيِّهِ: لستَ أولَّ نَبِيٍّ كَذَّبَهُ قومُه، فقد أَرْسَلْنَا قبلَك رسلاً كِرَامًا، وجاؤوا بالبيناتِ والمعجزاتِ الواضحاتِ، فَكَذَّبَتْهُمْ أممُهم كما كَذَّبَتْكَ أُمَّتُكَ. وَكُلُّ هذا من تسليةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
واللامُ في (لقد) توطئةٌ لقسمٍ محذوفٍ (وَاللَّهِ لقد أرسلنا) وصيغةُ الجمعِ في {أَرْسَلْنَا} للتعظيمِ.
وفي هذه الآيةِ الكريمةِ حَذْفَانِ، كِلَاهُمَا دَلَّ المقامُ عليه
(1)
:
الحذفُ الأولُ: حذفُ المفعولِ به، وتقديرُه:(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رسلاً إلى أممٍ من قَبْلِكَ) فَحُذِفَ المفعولُ لدلالةِ المقامِ عليه، وَحَذْفُ الفَضْلَةِ إذا دَلَّ المقامُ عليها سائغٌ مُطَّرِدٌ.
الحذفُ الثاني الذي دَلَّ المقامُ عليه: هو حذفُ (الفاءِ) وما عَطَفَتْ. وحَذفُ (الفاء) وما عَطَفَتْ إن دَلَّ المقامُ عليه: فهو مُطَّرِدٌ في لغةِ العربِ، كثيرٌ في القرآنِ، أشارَ له ابنُ مالكٍ في الخلاصةِ بقولِه
(2)
:
وَالْفَاءُ قَدْ تُحْذَفُ مَعْ مَا عَطَفَتْ ............................
وتقديرُه هنا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} أي: (أَرْسَلْنَا رُسُلاً){إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} فَكَذَّبَتْ تلك الأممُ {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} ابتلاءً لَمَّا كَذَّبُوا. هذانِ الحذفانِ.
(1)
انظر: القرطبي (6/ 424)، البحر المحيط (4/ 130)، الدر المصون (4/ 632).
(2)
الخلاصة ص (48)، وانظر: شرحه في الأشموني (2/ 119).
والأممُ هنا: جمعُ أُمَّةٍ. والصروفُ عند علماءِ العربيةِ: أن لفظَ (الأمةِ) أُطْلِقَ في القرآنِ العظيمِ أربعةَ إطلاقاتٍ مشهورةٍ، ولو قيل إن هنالك إِطْلَاقًا خامسًا لكان غيرَ بعيدٍ.
أما إطلاقاتُ لفظِ (الأمةِ) في اللغةِ وفي القرآنِ فَمِنْ أَشْهَرِهَا
(1)
:
إطلاقُ (الأمةِ) على الطائفةِ المتفقةِ في الدِّينِ. أي: في نِحْلَةٍ كائنة ما كانت. وهذا أكثرُ إطلاقاتِها {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَاّ خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: آية 24]{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} [يونس: آية 47]{ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ} [الأعراف: آية 38].
الإطلاقُ الثاني: إطلاقُ (الأمةِ) على الرجلِ العظيمِ الْمُقْتَدَى به، وقد أطلقَ اللَّهُ (الأمةَ) بهذا المعنى على نَبِيِّهِ إبراهيمَ في قولِه:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: آية 120].
الإطلاقُ الثالثُ: إطلاقُ الأمةِ على البُرْهَةِ والقطعةِ من الزمنِ، ومنه بهذا المعنى:{وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: آية 45] أي: تَذَكَّرَ بعدَ برهةٍ من الزمانِ، ومن هذا الإطلاقِ قولُه تعالى في أولِ سورةِ هود:{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ} [هود: آية 8] أي: إلى برهةٍ معينةٍ في عِلْمِنَا من الزمنِ.
الإطلاقُ الرابعُ: إطلاقُ الأمةِ على الشريعةِ والدينِ والملةِ.
العربُ تقول: «هذه أُمَّتُنَا» . أي: دينُنا وشريعتُنا ومِلَّتُنا. ومنه بهذا المعنى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: آية 52] أي: شريعتُكم وطريقتُكم ودينُكم.
(1)
انظر: تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص (445)، نزهة الأعين النواظر ص (142)، إصلاح الوجوه والنظائر ص (42).
ومنه بهذا المعنى: {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: آية 23] أي: على شَرْعٍ وَمِلَّةٍ ودينٍ. ومنه بهذا المعنى قولُ نابغةِ ذبيانَ
(1)
:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لنَفْسِكَ رِيبَةً وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهْوُ طَائِعُ؟
يعني: أن صاحبَ الدِّينِ والشرعِ لا يأثمُ ويخالفُ دينَه وشرعَه وهو طائعٌ.
والإطلاقُ الخامسُ: - الذي قُلْنَا إنه لو زَادَهُ إنسانٌ لكان غيرَ بعيدٍ
(2)
- هو ما جاء في الآيةِ الماضيةِ من إطلاقِ (الأمةِ) على الجنسِ من الحيواناتِ والطيورِ، كما قال تعالى:{وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَاّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: آية 38] فقد أطلقَ تعالى على كُلِّ نوعٍ من أجناسِ الدوابِّ والطيورِ اسمَ (الأمةِ).
وقولُه هنا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ} [الأنعام: آية 42] هذه الأممُ هي أممُ بني آدمَ، كما جاء مفصلاً في بعضِ الآياتِ: أَرْسَلَ نوحًا إلى قومِه، وَبَيَّنَ لنا ما قابلوه به، وكذلك فصَّل لنا سيرَ جماعةٍ منهم، كقضيةِ نوحٍ مع قومِه، وهودٍ مع قومِه، وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ وموسى وهارونَ مع فرعونَ، ونحو ذلك مما بَيَّنَهُ القرآنُ.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} أي: أَرْسَلْنَا رُسُلاً {إِلَى أُمَمٍ مِّنْ قَبْلِكَ} أي: من الناس الذين مَضَوْا من قَبْلِكَ، في الزمنِ الماضي، يعني: فَكَذَّبُوا رُسُلَهُمْ؛ لأن اللَّهَ ما أرسلَ رَسُولاً إلى قومٍ إلا كذبوه وأهلكهم اللَّهُ،
(1)
ديوان النابغة الذبياني ص (55).
(2)
وهو موجود في نزهة الأعين النواظر ص (144)، إصلاح الوجوه والنظائر (44).
ولم يُسْتَثْنَ من هذا أمةٌ إلا أمةَ يونسَ، كما سيأتي في قوله:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: آية 98] أما غيرُهم من الأممِ فَكُلُّ أمةٍ تُكَذِّبُ رسولَها فيهلكها اللَّهُ، كما قال تعالى في سورةِ قد أفلح المؤمنون:{ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِّقَوْمٍ لَاّ يُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: آية 44].
وقال هنا: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} [الأنعام: آية 42] أصل (الأخذ) في لغةِ العربِ: هو التناولُ بقوةٍ وشدةٍ
(1)
.
فَكُلُّ ما تَنَاوَلْتَهُ بقوةٍ وشدةٍ فقد أخذتَه. وأَخْذُ اللَّهِ عظيمٌ، وقد ثَبَتَ في الصحيحين من حديثِ أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لِمْ يُفْلِتْهُ» ثم تلَا قولَه تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: آية 102]
(2)
و {الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء} في هذه الآيةِ: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ} كلاهما مصدرٌ أُنِّثَ بألفِ التأنيثِ الممدودةِ
(1)
لم أقف على من اعتبر ذلك أصلا لمعنى (الأَخْذ) في كلام العرب. وإنما يُفسِّرون (الأَخْذ) بالتناول وما في معناه. وفسَّره الراغب في المفردات بأنه حَوْزُ الشيء وتحصيله، وذلك تارة بالتناول، وتارة بالقهر. (انظر: المفردات، مادة: أخذ ص 67) وسيأتي قول الشيخ رحمه الله: «قدمنا أن (الأَخْذ) إذا أُسند إلى الله هو الأخذ بقوة وشدة
…
» اهـ عند تفسير الآية رقم (44) من هذه السورة. والذي يظهر أن الشيخ رحمه الله قصد الجمع بين المعنين هنا بالنظر إلى السياق، والله أعلم.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى
…
} حديث (4686)(8/ 354)، ومسلم، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم الظلم، حديث (2583)(4/ 1997).
تأنيثًا لَفْظِيًّا، وأكثرُ العلماءِ
(1)
على أن (البأساءَ): هي ما كان من جهةِ الفقرِ، والفاقةِ والجوعِ وضياعِ الأموالِ. وأن (الضراءَ): هي ما كان من قبيلِ أمراضِ الجسومِ وآلامِها وما يقعُ فيها. والمعنى: أَنَّا ابتليناهم بالضرِّ في أموالِهم وفي أبدانِهم فَأَفْقَرْنَاهُمْ، وأعدمنا أموالَهم، حتى صَارُوا في جوعٍ وفي فقرٍ وفي فاقةٍ اختبرناهم بهذا لِيُنِيبُوا إلى اللَّهِ ويبتهلوا إليه، فلم يَنْفَعْ فيهم هذا الاختبارُ بالشَّرِّ، فلما لم يَنْجَحْ فيهم هذا الاختبارُ بالشَّرِّ ابتليناهم بالخيرِ، وَبَدَّلْنَا عنهم السيئةَ بالحسنةِ، فجعلنا لهم مكانَ المرضِ صحةً وعافيةً، ومكانَ الفقرِ غِنًى، ومكانَ الجوعِ شِبَعًا، فلم يَنْفَعْ فيهم هذا أيضًا. والله (جل وعلا) يبتلي خلقَه بالشرِّ والخيرِ {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: آية 35] {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: آية 168].
وهذه الآيةُ الكريمةُ - من سورةِ الأنعامِ - بَيَّنَتْ أن اللَّهَ إذا أرسلَ رسولاً إلى قومٍ ابْتَلَاهُمْ أولاً بالشدائدِ، فَسَلَّطَ عليهم الفقرَ والجوعَ والفاقةَ فإذا لم يَنْفَعْ فيهم هذا أزالَ عنهم ذلك وأغناهم وصحَّحهم وأغدقَ عليهم نِعَمَ الدنيا، حتى يُهْلِكَهُمْ وهم في غفلةٍ، فِي أَشَدِّ وَقْتٍ غفلةً وَبَطَرًا - والعياذُ بالله - وقد صَرَّحَ تعالى في سورةِ الأعرافِ أن هذا النوعَ من الابتلاءِ - المبدوءَ بالابتلاءِ بالشرِّ ثم الابتلاءِ بالخيرِ - عَامٌّ في جميعِ الأممِ التي أُرْسِلَتْ إليها الرسلُ، وهنا - في الأنعامِ - لم يأتِ بصيغةٍ عَامَّةٍ، وإنما قال:{وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّنْ قَبْلِكَ} [الأنعام: آية 42] وقوله: {أُمَمٍ} جَمْعٌ مُنَكَّرٌ.
(1)
انظر: ابن جرير (3/ 349 - 350)، (4/ 288)، (11/ 354)، القرطبي (6/ 424).
والتحقيقُ: أن الجموعَ المنكَّرة إذا كانت في سياقِ الإثباتِ ليست من صيغِ العمومِ
(1)
، [وَمَنْ]
(2)
زَعَمَ مِنْ علماءِ الأصولِ: «أن الجمعَ المُنَكَّرَ من صيغِ العمومِ» فهو قولٌ مردودٌ، كما هو معروفٌ في الأصولِ، أما في الأعرافِ فقد بَيَّنَ أن هذه السُّنَّةَ من سُنَنِ اللَّهِ، أنها عامةٌ حيث قال:{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَاّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ} [الأعراف: الآيتان 94، 95] يعني: بَدَّلْنَا مكانَ الجوعِ شِبَعًا، ومكانَ الفقرِ غِنًى، ومكانَ المرضِ صحةً وعافيةً؛ {حَتَّى عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} هذه سُنَّةُ اللَّهِ في خَلْقِهِ، ذَكَرَهَا هنا في الأنعامِ، وَبَيِّنٌ الشمولُ والعمومُ في الأعرافِ.
ومعنى الآيةِ الكريمةِ: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} (التضرعُ): التذللُ والخضوعُ لِلَّهِ
(3)
، وكثيرًا ما يَظْهَرُ أثرُ ذلك في الدعاءِ بأن يبتهلَ ذلك الذليلُ الخائفُ من الله يبتهلُ مُتَضَرِّعًا يُنَاجِي رَبَّهُ (جل وعلا). و (الضارعُ): هو الذليلُ الخائفُ، و (الضَّرَاعَةُ): الذلُّ والخشوعُ والخوفُ، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، مشهورٌ في كلامِهم، ومنه قولُ الشاعرِ
(4)
:
(1)
في هذه المسألة راجع؛ شرح الكوكب المنير (3/ 139)، شرح مختصر الروضة (2/ 473)، أضواء البيان (1/ 218)، (3/ 321)، (4/ 174).
(2)
في الأصل: «وما» .
(3)
انظر: المفردات (مادة: ضرع)(506).
(4)
البيت لنهشل بن حري، أو ضرار بن نهشل، وقيل غير ذلك. وعجره:
ومُخْتَبِط مِمَّا تُطيح الطوائح
وهو في الكتاب لسيبويه (1/ 288، 366، 398)، المحتسب (1/ 230)، الخصائص (2/ 353)، الخزانة (1/ 147).
لِيُبْكَ يَزِيدٌ ضَارِعٌ لِخُصُومَةٍ ............................
أي: (ذَلِيل) يبكيه ذليلٌ؛ لأنه ملجأٌ له.
وفي هذه الآيةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: المعروفُ في لغةِ العربِ، أن حرفَ (لعل) أنه لِلتَّرَجِّي والتوقعِ، والله عالمٌ محيطٌ عِلْمُهُ بعواقبِ الأمورِ، فكيف يُصرِّحُ بلفظٍ هو يدلُّ على الترجِّي والتوقعِ، وكيف يَصِحُّ في كلامِ اللَّهِ التَّرَجِّي والتوقعُ، وهو القادرُ على كُلِّ شيءٍ، المحيطُ علمُه بعواقبِ الأمورِ؟ هذا وجهُ السؤالِ.
وللعلماءِ عن هذا جَوَابَانِ
(1)
:
أحدُهما: أن (لَعَلَّ) هنا للتعليلِ. والمعنى: أَخَذْنَاهُمْ بالبأساءِ والضراءِ لأجلِ أن يَتَضَرَّعُوا. ولا شكَّ أن (لعلَّ) أنها من حروفِ التعليلِ. وقد سُمِعَ في لغةِ العربِ من كلامِ العربِ الفصحاءِ التعليلُ بـ (لعل). ومن إتيانِ «لعل» للتعليلِ في كلامِ العربِ قولُ الشاعرِ
(2)
:
فَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الْحُرُوبَ لَعَلَّنَا نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ
فَلَمَّا كَفَفْنَا الْحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ كَشِبْهِ سَرَابٍ بِالْمَلَا مُتَأَلِّقِ
فقوله: «كفّوا الحروبَ لعلنا نكف» يعني: كُفُّوا الحروبَ لأجلِ أن نكفَّ عنكم.
ومن هنا قال بعضُ العلماءِ: كُلُّ (لعلَّ) في القرآنِ فهي للتعليلِ، إلا التي في سورة الشعراء {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: آية 129] قالوا بمعنى: كَأَنَّكُمْ تَخْلُدُونَ
(3)
.
(1)
مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة.
(2)
السابق.
(3)
السابق.
الوجهُ الثاني: أن (لعل) على بابِها من أنها لِلتَّرَجِّي والتوقعِ، إلا أن معنى الترجي والتوقعِ فيها هو بحسبِ ما يظهرُ للناسِ، أَمَّا اللَّهُ (جل وعلا) فهو عالمٌ بما كان وما يكون. ومما يؤيدُ هذا: أن اللَّهَ عَالِمٌ في أَزَلِهِ بأن فرعونَ شَقِيٌّ يموتُ كافرًا - والعياذُ بالله - وهو يقولُ لموسى وهارونَ: {فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: آية 44] على تَرَجِّيكُمَا وَتَوَقُّعِكُمَا بحسبِ ما يظهرُ لَكُمَا. أَمَّا عاقبةُ الأمرِ وما يَؤُولُ إليه فهي عندَ اللَّهِ جل وعلا.
وهذا معنى قوله: {فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ} [الأنعام: آية 42] لأجلِ أن يَتَضَرَّعُوا. أي: لِتَرَجِّي تَضَرُّعِهِمْ بحسبِ ما يَظْهَرُ للناسِ الجاهلين بعواقبِ الأمورِ.
ثم قال: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: آية 43] قد قَدَّمْنَا
(1)
أن لفظةَ (لولا) أصلُها تأتي في اللغةِ العربيةِ وفي القرآنِ مشتركةً بَيْنَ مَعْنَيَيْنِ، إلا أن أحدَ الْمَعْنَيَيْنِ ينقسمُ إلى قِسْمَيْنِ، فتكون أقسامُ (لولا) ثلاثةً في القرآنِ وفي كلامِ العربِ. (لولا) في القرآنِ إِذَنْ تَرِدُ على ثلاثةِ أقسامٍ، بثلاثةِ معانٍ معروفةٍ:
الأولُ: هي (لولا) المعروفةُ عند العلماءِ بأنها حرفُ امتناعٍ لوجودٍ، والمعنى: أنها تَدُلُّ على امتناعِ شيءٍ لوجودِ شيءٍ نحو: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: آية 21] يعني: أنه هنا انْتَفَى عدمُ الزكاةِ والطهارةِ لوجودِ فضلِ اللَّهِ. وهذا معروفٌ مشهورٌ.
(1)
مضى عند تفسير الآية رقم (37) من هذه السورة.
الثاني: هو (لولا) التحضيضيةُ. ومعنى (لولا) التحضيضيةُ: أن (لولا) حرفٌ يَدُلُّ على طلبِ الفعلِ بِحَثٍّ وَحَضٍّ؛ ولذا سُمِّيَتْ حرفَ تحضيضٍ. وهذه هي التي تنقسم قسمين؛ لأن لها حالتين: تارةً يكون الفعلُ المطلوبُ فيها بحرفِ التحضيضِ - الذي هو (لولا) - تارةً يكونُ مُمْكِنًا تَدَارُكُهُ مُمْكِنًا فِعْلُهُ، وتارةً يكونُ ذلك الفعلُ لم يبقَ فعلُه مُمْكِنًا؛ لأن فرصتَه ضَاعَتْ وَمَضَتْ، ولم يمكن تَدَارُكُهُ. وإذا كان فِعْلُهُ مُمْكِنًا فهي المعروفةُ بالتحضيضيةِ نحو:{مِّنْ قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي} [المنافقون: آية 10](لولا) هنا معناه: أَطْلُبُ مِنْكَ يَا رَبِّ بطلبٍ شديدٍ مُحَضِّض عليه، بِحَثٍّ وَحَضٍّ أن تُؤَخِّرَنِي {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ
…
} الآيةَ.
النوعُ الثاني: - ومنه الآيةُ التي بَيْنَ أَيْدِينَا - هي أن يكونَ الفعلُ المطلوبُ بأداةِ الطلبِ التي هي حرفُ التحضيضِ - أعني (لولا) التحضيضيةَ - يكونُ الفعلُ فاتَ تَدَارُكُهُ ولم يَبْقَ مُمْكِنًا أبدًا. فهي في هذا المعنى ينقلبُ تَحْضِيضُهَا إلى التوبيخِ والتنديمِ، تارةً يُوَبَّخُ بها موجودٌ، كقوله للذين تكلموا في عائشةَ وصفوانَ:{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: آية 16] هذا العملُ المطلوبُ بـ (لولا) ضَاعَتْ فرصتُه عليهم؛ لأنهم قد تَكَلَّمُوا بما لا يَلِيقُ، فهي في هذا المعنى ينقلبُ تحضيضُها إلى التوبيخِ والتنديمِ. فكأنه يُوَبِّخُهُمْ وَيُنَدِّمُهُمْ على ما فَرَّطَ منهم. وتارةً يكونُ الْمُوَبَّخُ بها قد مَاتَ ولم يكن موجودًا، كقوله في هذه الآيةِ الكريمةِ:{فَلَوْلَا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: آية 43] لأن وقتَ نزولِ الآيةِ هؤلاء الأممُ قد ماتوا وَانْقَضَوْا في أزمانٍ متناهيةٍ، قد مَضَوْا في الزمانِ الماضي، فلا يمكنُ حصولُ الفعلِ
منهم، وليسوا موجودين حتى يسمعوا التوبيخَ. ولكن المقصودَ من توبيخِ هذا الذي غَابَ ومات ليعتبرَ به غيرُه، فيعلم بأن قصصَ القرآنِ إنما قُصَّتْ علينا لنعتبرَ بها {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف: آية 111] ولذا كان من الحسنِ أن يُوَبَّخَ أولئك لنعتبرَ بتوبيخهم فنجتنبَ ذلك الأمرَ الذي استحقوا التوبيخَ مِنْ أَجْلِهِ، هذا معناه؛ ومن هذا المعنى {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ} [هود: آية 16] لأن القرونَ مَضَتْ، فهو توبيخٌ لِغَائِبِينَ، وتنديمٌ لهم؛ ليعتبرَ به الْمُخَاطَبُونَ؛ ولذا قال:{فَلَوْلَا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} [الأنعام: آية 43] كان المطلوبُ منهم وقتَ وجودِهم - بِحَثٍّ وَشِدَّةٍ - أن يتضرعوا، واختبرهم اللَّهُ بالبأسِ أن يتضرعوا.
ويُفهم من الآيةِ أن المسلمَ إذا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ بمصائبِ الدنيا من أمراضٍ أو مصائبَ في الأموالِ أو جوعٍ أو نحو ذلك: أن عليه أن يتضرعَ إلى رَبِّهِ (جل وعلا) ليزيلَ عنه ذلك؛ لأنه وَبَّخَ هؤلاء وَذَمَّهُمْ على عدمِ التضرعِ إليه عندَ نزولِ الشدائدِ بهم، وهذا معنى قولِه:{فَلَوْلَا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} ثم قال: ولكنهم لَمْ يَتَضَرَّعُوا {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} لأن القلوبَ القاسيةَ تَشْتَدُّ
كما تشتدُّ الحجارةُ، فكما أن الحجرَ الصلبَ القويَّ إذا أَرَدْتَ أن تُدْخِلَ في جوفِه ماءً لا يدخلُ، فكذلك قلبُ الكافرِ لصلابتِه وقسوتِه إذا أَرَدْتَ أن تُدْخِلَ فيه الموعظةَ والفهمَ عن اللَّهِ لا يدخلُ؛ لشدةِ قسوةِ القلبِ والعياذُ بِاللَّهِ.
وقولُه: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} اعْلَمْ أن الشيطانَ في لغةِ العربِ
(1)
يُطْلَقُ على كُلِّ
(1)
في معنى (الشيطان) انظر: تفسير ابن جرير (1/ 11)، المقاييس في اللغة، كتاب الشين، باب الشين والطاء وما يثلثهما، (مادة: شطن) ص 524، اللسان (مادة: شطن) (2/ 317)، القرطبي (1/ 90)، الدر المصون (1/ 10)، الأضواء (2/ 208).
عَاتٍ متمردٍ كائنًا ما كان. فَكُلُّ عاتٍ متمردٍ فهو (شيطانٌ) في لغةِ العربِ التي نَزَلَ بها القرآنُ، سواء كان من الإنسِ أو من الجنِّ أو من غيرِهما. إلا أن (الشيطانَ) كان بالحقيقةِ العُرفيةِ يَسْبِقُ إلى إبليسَ وذريةِ إبليسَ. أما في الوضعِ اللغويِّ فَكُلُّ مُتَمَرِّدٍ عَاتٍ تُسَمِّيهِ العربُ (شَيْطَانًا)، سواءً كان من الإنسِ أو من الْجِنِّ أو من غيرِهما، ومن إطلاقِ (الشيطانِ) على المتمردِ العاتِي من بني آدمَ قولُه تعالى:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: آية 14] أي: عُتَاتِهِمُ المتمردين من رؤساءِ الكفرةِ، وقولُه تعالى:{شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: آية 112] وقد جاءَ حديثٌ عن أَبِي ذَرٍّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَنَّ مِنَ الإِنْسِ شَيَاطِينَ»
(1)
.
وَكُلُّ
(1)
ولفظ الحديث المشار إليه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست، فقال:«يا أبا ذر هل صليت؟» قلت: لا، قال:«قم فصل» . فقمت فصليت ثم جلست، فقال:«يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن» . قلت يا رسول الله: وللإنس شياطين؟ قال: «نعم .. » الحديث.
وقد أخرجه أحمد (5/ 178، 179)، والنسائي، كتاب الاستعاذة «الاستعاذة من شر شياطين الإنس» حديث: رقم (5507)، (8/ 275)، وابن جرير في التفسير (11/ 53 - 55)، وابن حبان (الإحسان)(1/ 287)، والطيالسي ص 65، والبيهقي في الشعب (7/ 178)، كلهم من حديث أبي ذر رضي الله عنه.
وللحديث طرق متعددة لا تخلو من ضعف إلا أن بعضها قد يتقوى ببعض والله أعلم.
وهذا الحديث له شاهد من حديث أبي أمامة عند أحمد (5/ 265 - 266)، والطبراني في الكبير (8/ 258)، وابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1371).
عَاتٍ متمردٍ من الإنسِ فهو (شيطانٌ)، كما دَلَّ عليه:{وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} {شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ} ومنه بهذا المعنى قولُ جريرٍ - وهو عَرَبِيٌّ قُحٌّ - قال
(1)
:
أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانَ مِنْ غَزَلٍ وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانَا
ومن إطلاقِ (الشيطانِ) على غيرِ الإنسِ والجنِّ حديثُ: «الْكَلْبُ الأَسْوَدُ شَيْطَانٌ»
(2)
. وما جَرَى مَجْرَى ذلك. هذا إطلاقُ (الشيطانِ) في لغةِ العربِ، وهو حقيقةٌ عُرْفِيَّةٌ في إبليسَ وذريتِه؛ لأن ذريةَ إبليسَ شياطينُ، يفعلون كما يفعلُ، كما يأتي في قولِه:{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} [الكهف: آية 50].
وَاعْلَمْ أن المادةَ التي اشْتُقَّ منها (الشيطانُ) اختلفَ فيها علماءُ العربيةِ على قَوْلَيْنِ
(3)
، أشارَ لكلِّ واحدٍ منهما الشيخُ عمرو - أعني
(1)
قال ابن كثير بعد أن ساق بعض طرق الحديث: «فهذه طرق لهذا الحديث، ومجموعها يفيد قوته وصحته. والله أعلم» اهـ من التفسير (2/ 166) وانظر: في الكلام على سنده: مجمع الزوائد (1/ 159 - 160)، الفتح الرباني (19/ 29)، تعليق شاكر على ابن جرير (11/ 53 - 54)، ضعيف سنن النسائي ص 242، الجامع لشعب الإيمان (هامش)(7/ 178).
() البيت في المقاييس في اللغة، كتاب الشين، باب الشين والطاء وما يثلثهما ص 524، القرطبي (1/ 90)، اللسان (مادة: شطن) (2/ 317) والمثبت في هذه المصادر: «وهُن يهوينني» .
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، باب ما يستر المصلي حديث (510)، (1/ 365).
(3)
انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الشين، باب الشين والطاء وما يثلثهما. (مادة: شطن) ص 524، وباب الشين والياء وما يثلثهما. (مادة: شيط) ص 545، اللسان (مادة: شطن) (2/ 317)، (مادة: شيط) (2/ 389)، الدر المصون (1/ 10)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص 153.
سِيبَوَيْهِ - في كتابِه
(1)
. وباختلافِ القولين يختلفُ وَزْنُ (الشيطانِ) بالميزانِ الصرفيِّ، فجماعةٌ مِنَ العلماءِ - وهو أَصَحُّ القولين - قالوا: إن مادةَ (الشيطانِ) أصلُها من (شَطَنَ)، ففاءُ المادةِ شِينٌ، وعينُها طاءٌ، وَلَامُهَا نونٌ، (شَطَنَ). ومعنى هذه المادةِ في لغةِ العربِ معناها: البعدُ، فَكُلُّ شيءٍ شَطَنَ فهو بعيدٌ جِدًّا. وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ
(2)
:
نَأَتْ بِسُعَادَ عَنْكَ نَوًى شَطُونُ فَبَانَتْ وَالْفُؤَادُ بِهَا حَزِينُ
«نوى شطون» أي: بعيدةٌ. ومما يدلُّ على أن (الشيطانَ) أصلُه من (شطن) قولُ أُمَيَّةَ بنِ أبي الصلتِ الثقفيِّ - وهو عربيٌّ قُحٌّ - يمدحُ سليمانَ بنَ داودَ (عليهما الصلاةُ والسلامُ وعلى نَبِيِّنَا)، قال في مدحه
(3)
:
أَيُّمَا شَاطِنٍ عَصَاهُ عَكَاهُ ثُمَّ يُلْقَى فِي السِّجْنِ وَالأَكْبَالِ
عَبَّرَ عن (الشيطانِ) بالشاطنِ، والشاطنُ: اسمُ فاعلِ (شَطَنَ) بلا خلافٍ، وهذا مما يؤيدُ أن مادةَ (الشيطانِ) من (شَطَنَ) بمعنى بَعُدَ.
(1)
الكتاب (3/ 217 - 218).
(2)
البيت للنابغة، وهو في ديوانه ص72 والمثبت في الديوان وغيره من المصادر التي وقفت عليها:«رهين» بدلا من: «حزين» .
(3)
البيت في المقاييس في اللغة ص 525، ابن جرير (1/ 112)، اللسان (مادة: شطن) (2/ 317)، القرطبي (1/ 90)، الدر المصون (1/ 10).
ومعنى (عكاه) أي: شَدَّه.
ومناسبتُها للتسميةِ هي بُعْدُهُ عن رحمةِ اللَّهِ - والعياذُ بالله (جل وعلا) - وعلى هذا القولِ أن (الشيطانَ) من مادةِ (شَطَنَ) فوزنُه بالميزانِ الصرفيِّ (فَيْعَال).
القولُ الثاني: أن (الشيطانَ) أصلُه من مادةِ (شَاطَ يَشِيطُ) إذا هَلَكَ، والعربُ تقولُ:(شَاطَ يَشِيطُ) إذا هَلَكَ، وعليه فإنما سُمِّيَ شيطانًا لِهَلَاكِهِ - والعياذُ بالله - لأنه هالكٌ مخلدٌ يومَ القيامةِ في عذابِ اللَّهِ. والعربُ تقولُ:(شاطَ يشيطُ). إذا هَلَكَ، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الأَعْشَى ميمونِ بنِ قيسٍ
(1)
:
قَدْ نَخْضِبُ الْعَيْرَ مِنْ مَكْنُونِ فَائِلِهِ
(2)
وَقَدْ يَشِيطُ عَلَى أَرْمَاحِنَا الْبَطَلُ
يعني بقوله: (يشيطُ) أي: يموتُ ويهلكُ. وعلى هذا فَوَزْنُ (الشيطانِ) بالميزانِ الصرفيِّ: (فَعْلَان) فَعَلَى أنه من (شَاطَ) فوزنُه: (فَعْلَان)، وعلى أنه من (شَطَنَ) فوزنُه:(فَيْعَال)، هذا وزنُه بالميزانِ الصرفيِّ، واختلافُ العلماءِ في اشتقاقِه وَمَعْنَاهُ.
والمرادُ بالشيطانِ هنا: جنسُ الشيطانِ، وهو إبليسُ وذريتُه، والعياذُ بِاللَّهِ مِنْ تَضْلِيلِهِمْ.
{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} الشيطانُ يُزَيِّنُ للكفرةِ والعصاةِ أعمالَهم الخبيثةَ، وذلك التزيينُ إنما هو بالوسوسةِ، يوسوسُ لهم، وينفثُ في قلوبِهم ما يُزَيِّنُ لهم به المعاصيَ والكفرَ - والعياذُ بالله - وهذا معنى قولِه:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
(1)
البيت في القرطبي (1/ 90)، اللسان (مادة: شيط)، (2/ 393).
(2)
الفائل. عرق في الفخذين يكون في خربة الورك.
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: آية 44].
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ} النسيانُ هنا معناه: التَّرْكُ عَمْدًا.
وقد بَيَّنَّا أن مادةَ (النسيانِ) تُطْلَقُ في القرآنِ وفي اللغةِ العربيةِ إِطْلَاقَيْنِ
(1)
:
يطلقُ (النسيانُ) على تركِ الفعلِ عمدًا نحو قوله: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: آية 19] وكقولِه: {إِنَّا نَسِينَاكُمْ} [السجدة: آية 14] والله لَا يَنْسَى أبدًا النسيانَ الذي هو زوالُ العلمِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {لَاّ يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: آية 52] ويقولُ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: آية 64] فهذا الاصطلاحُ [معروفٌ]
(2)
تقولُ العربُ: «أمرتُ زيدًا فَنَسِيَ أَمْرِي» . يعنونَ تَرَكَهُ عَمْدًا.
الثاني: هو (النسيانُ) بمعنى زوالِ العلمِ. كالنسيانِ الاصطلاحيِّ المعروفِ. ومنه قولُه: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَاّ الشَّيْطَانُ} [الكهف: آية 63] وقولُه: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى} [الأنعام: آية 68]{اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: آية 19] هذا (النسيانُ) بمعنَى زوالِ العلمِ، والمرادُ في الآيةِ: النسيانُ بمعنى التركِ عَمْدًا، وهو قولُه:{فَلَمَّا نَسُوا} [الأنعام: آية 44] أي: تَرَكُو عَمْدًا {مَا ذُكِّرُوا بِهِ} ما ذَكَّرَهُمُ اللَّهُ به من البأساءِ والضراءِ، فلم يتضرعوا في حالةِ الضُّرِّ، ولم يشكروا في حالةِ النعيمِ؛ لأن اللَّهَ بيَّن أن الكافرَ عند حالةِ النعماءِ أنه فَخُورٌ أَشِرٌ بَطِرٌ، وعند حالةِ الضراءِ يَؤُوسٌ قنوطٌ،
(1)
مضى عند تفسير الآية (41) من سورة الأنعام.
(2)
زيادة ينتظم بها الكلام.
لا يدعو اللَّهَ، ولا يضرعُ إليه، كما قال:{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)} [هود: الآيتان 9 - 10] هو فخورٌ فَرِحٌ أَشِرٌ بَطِرٌ وقتَ العافيةِ، يؤوسٌ قنوطٌ وقتَ الشدةِ.
وهذا قد اسْتَثْنَى اللَّهُ منه عبادَه المؤمنين، حيث قال في سورةِ هودٍ، لَمَّا ذكرَ هذه الصفاتِ الذميمةَ عن الإنسانِ، اسْتَثْنَى منها المؤمنين الطيبين، قال:{إِلَاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: آية 11] وقد بَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ أن المؤمنَ الطيبَ مخالفٌ لهذه الصفاتِ الخبيثةِ حيث قال صلى الله عليه وسلم: «عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ لَا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ قَضَاءً إِلَاّ كَانَ خَيْرًا لَهُ، إِنّ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ هَذَا إِلَاّ لِلْمُؤْمِنِ»
(1)
. المؤمنُ عندما يَأْتِيهِ البأساءُ والضراءُ يَضَّرَّعُ إلى رَبِّ العالمين صابرًا محتسبًا فَيُثِيبُهُ اللَّهُ، وَيُعْظِمُ له الأجورَ، وإذا كان وقت السراءِ وأنعمَ اللَّهُ عليه كان شاكرًا نِعَمَ اللَّهِ، مُرَاعِيًا بذلك حقوقَ اللَّهِ (جل وعلا)، ويكونُ ذلك خيرًا له. وهذا أيضًا خيرٌ له، كما في الحديثِ الصحيحِ.
ومعنى قولِه: {فَلَمَّا نَسُوا} أي: تَرَكُوا وَأَعْرَضُوا عما ذُكِّرُوا به من البأساءِ والضراءِ، حَوَّلْنَا لهم البؤسَ إلى نعمةٍ {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} قرأَ هذا الحرفَ عامةُ السبعةِ ما عدا الشاميَّ - أعني ابنَ عامرٍ -:{فَتَحْنَا} بتخفيفِ التاءِ. وقرأه ابنُ عامرٍ من السبعةِ
(1)
أخرجه - بنحوه - مسلم في صحيحه، من حديث صهيب رضي الله عنه، كتاب الزهد والرقاق، باب: المؤمن أمره كله خير، حديث رقم (2999)، (4/ 2295).
{فَتَّحْنَا} بتشديدِ التاءِ
(1)
.
وقولُه: {عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} في هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ معروفٌ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: كيف قال اللَّهُ: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} وهو أصدقُ مَنْ يقولُ، مع أن كثيرًا من الأشياءِ لم تُفْتَحْ عليهم أبوابُه، لم تفتح عليهم أبوابُ الْهُدَى، ولا أبوابُ التوفيقِ، ولا أبوابُ طاعةِ اللَّهِ، ولا أبوابُ خيراتِ الجنةِ. ويصدقُ عليها اسمُ (الشيءِ)؟
وللعلماءِ عن هذا جَوَابَانِ
(2)
:
أحدُهما: ما قاله بعضُ العلماءِ أن المعنَى: فَتَحْنَا عليهم أبوابَ كُلِّ شيءٍ مما كُنَّا أَغْلَقْنَاهُ عليهم أيامَ الابتلاءِ بالشرِّ. يعني فتحنا لهم أبوابَ الصحةِ وقد كانت مغلقةً أيامَ المرضِ، وَفَتَحْنَا لهم أبوابَ الغِنَى بعدَ أن كانت مغلقةً أيامَ الامتحانِ بالشرِّ وهكذا.
الوجهُ الثاني: أن هذا من العامِّ المخصوصِ، وَجَرَتِ العادةُ في القرآنِ بأن يذكرَ اللَّهُ (كُلَّ شيءٍ) وهو يُرَادُ به أنه عامٌّ مخصوصٌ. كقولِه في بلقيسَ:{وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: آية 23] مع أن بعضَ الأشياءِ لم تُؤْتَه بلقيسُ. وكقوله في مكةَ المكرمةِ حَرَسَهَا اللَّهُ: {حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: آية 57] مع أن بعضَ الثمارِ لا يُجْبَى إليها. فهذا من العامِّ المخصوصِ، وهو أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، وَتَذْكُرُ العربُ مثلَ هذا تقصدُ به الأغلبيةَ. وهذا معنى قولِه:{فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} .
(1)
انظر: المبسوط لابن مهران ص 194.
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 358)، القرطبي (6/ 426)، الموافقات (3/ 268 - 286)، قواعد التفسير ص 608.
{حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} [الأنعام: آية 44] يعني ولم يَزَلْ ذلك الفتحُ ممتدًا إلى غايةٍ، هي كونُهم فَرِحُوا بما أُوتُوا. {حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا} أي: ما أُعْطُوا من الصحةِ بدلَ المرضِ، ومن الغِنَى بدلَ الفقرِ، ومن الرِّيِّ والشبعِ بدلَ الجوعِ، فرحوا بهذا فَرَحَ أَشَرٍ وبَطَرٍ، لأنه ما كُلُّ فرحٍ مذمومٌ؛ لأن الفرحَ المذمومَ: هو الفرحُ بالدنيا المحضةِ، والأَشَرُ والبَطَرُ، لا من حيثُ أنها تُقَرِّبُ إلى اللَّهِ ولا تُرْضِيهِ. هذا الفرحُ المذمومُ المصحوبُ بالأَشَرِ والبَطَرِ، وعندما فَعَلُوهُ أهلكهم اللَّهُ. وهذا هو الذي ذَمَّ اللَّهُ به الإنسانَ بقولِه:{إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: آية 10] أما الْفَرَحُ بالخيرِ، والفرحُ بالدينِ ومعرفةِ القرآنِ فهذا أمرٌ مطلوبٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ، كما نصَّ اللَّهُ على ذلك آمِرًا به بالسورةِ الكريمةِ - سورةِ يونسَ - حيث قال:{قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: آية 58] وَلَامُ الأمرِ في قولِه: {فَلْيَفْرَحُوا} تَدُلُّ على أن ذلك النوعَ من الفرحِ مأمورٌ به من اللَّهِ. والأمرُ إِنْ تَجَرَّدَ من القرائنِ اقْتَضَى الوجوبَ، كما هو معروفٌ في فَنِّ الأصولِ
(1)
.
وقولُه هنا: {فَرِحُواْ بِمَا أُوتُوا} أَيْ: بما أُعْطُوا من الصحةِ والعافيةِ وَالْغِنَى والأموالِ والدَّعةِ والراحةِ فَرَحَ بَطَرٍ وَأَشَرٍ، حتى إذا حَصَلَ فيهم ذلك:{أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} قَدَّمْنَا أن (الأخذ) إذا أُسْنِدَ إلى اللَّهِ هو الأخذُ بقوةٍ وَشِدَّةٍ
(2)
. كما قال: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ
(1)
انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 39)، أضواء البيان (1/ 260)، (3/ 222، 357، 442)، (4/ 505)، (5/ 113، 114، 245)، (6/ 216، 231، 253)، قواعد التفسير ص 479.
(2)
مضى قريبا عند تفسير الآية (42).
شَدِيدٌ} [هود: آية 102].
وقولُه: {بَغْتَةً} مصدرٌ مُنَكَّرٌ بمعنى الحالِ
(1)
. ومعنى البغتةِ: الفجأةُ. وذلك أَشَدُّ ما يُؤْخَذُ به الإنسانُ؛ لأنه إذا عَلِمَ بالعذابِ قبلَ نُزُولِهِ يكونُ مُتَجَلِّدًا مُسْتَعِدًّا. أما إذا بَغَتَهُ قبلَ استعدادٍ له فهذا أشدُّ وَأَنْكَى؛ ولأجلِ هذا بِعَيْنِهِ أخبرَ اللَّهُ المؤمنين بالبلايا التى تَرِدُ عليهم قبلَ أن تقعَ؛ ليكونوا مُسْتَعِدِّينَ لها، ولئلا تُفَاجِئَهُمْ. حيثُ قال لهم:{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: آية 155] أَخْبَرَهُمْ بأن الابتلاءَ سيأتيهم؛ لئلا يُبَاغِتَهُمْ، ويكونوا مستعدين له قبل نزولِه، ولذا قال:{أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} (الفاء) فاءُ السببيةِ، و (إذا) هي الفجائيةُ
(2)
، و (الْمُبْلِسُونَ): جَمْعُ المُبْلِسِ، والْمُبْلِسُ: اسمُ فاعلِ الإبلاسِ. و (الإبلاسُ) في لغةِ العربِ يُطْلَقُ على معانٍ متقاربةٍ، هو في الحقيقةِ يُرَادِفُ الوجومَ، والوجومُ هو: أن يكونَ الإنسانُ سَاكِتًا منقطعًا لا يقدرُ أن يتكلمَ؛ لشدةِ اليأسِ من الخلاصِ من البلايا والدواهي التي وَقَعَ فيها. ومعنى {مُّبْلِسُونَ} : آيِسُونَ قَانِطُونَ مما وقعوا فيه من عذابِ اللَّهِ - والعياذُ بالله - إياسًا وقنوطًا يمنعهم من أن يتكلموا. فمعناه: ساكتونَ لا يُحِيرُونَ جوابًا من شدةِ اليأسِ والقنوطِ مِمَّا نَزَلَ بهم - والعياذُ بالله - وَكُلُّ مَنْ دَهَاهُ أمرٌ فَتَحَيَّرَ غيرَ قادرٍ أن يتكلمَ لشدةِ الأمرِ الذي دَهَاهُ تقولُ له العربُ: (أَبْلَسَ)
(3)
. وهو معنًى معروفٌ في
(1)
انظر: القرطبي (6/ 426).
(2)
انظر: البحر المحيط (4/ 131)، الدر المصون (4/ 634).
(3)
انطر: ابن جرير (11/ 360 - 363)، القرطبي (6/ 426)، البحر المحيط (4/ 131)، الدر المصون (4/ 635).
كلامِ العربِ، ومنه قولُ رؤبةَ بنِ العجاجِ
(1)
في رجزه:
يَا صَاحِ هل تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسَا
(2)
…
قَالَ: نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا
أي: تَحَيَّرَ مندهشًا لا يقدرُ أن يتكلمَ. وهذا معنى قولِه: {فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} .
قال بعضُ العلماءِ: اشتقاقُ (إبليسَ) من (الإبلاسِ)
(3)
، وهو اليأسُ الشديدُ، والقنوطُ من الخيرِ، حتى يَبْقَى صاحبُه ساكتًا لا يُحِيرُ جَوَابًا.
ثم قال جل وعلا: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعام: آية 45](الدابر): اسمُ فاعلِ دَبَرَ القومَ يَدْبُرُهُمْ، العربُ تقولُ:«دَبَرَهُ يَدْبُرُهُ» إذا كان يمشي خلفَه؛ لأنه يمشي عندَ دُبُرِهِ
(4)
. كما تقولُ العربُ: «قَفَّاهُ» . إذا كان
يمشي عند قَفَاهُ {وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ} [البقرة: آية 87] وأولادُ الناسِ كأنها دابرٌ لهم يَدْبُرُهُمْ ويتبعهم، كُلَّمَا انْقَضَى قَرنٌ دَبَرَهُ قرنٌ. أي: كان ذلك القرنُ تابعًا له، كأنه يَمْشِي عند دُبُرِه كما يمشي التابعُ عندَ دُبُرِ المتبوعِ، فالدابرُ يُقال للخَلَفِ وآخِرِ القومِ كأولادِهم. ومعنى (قُطِعَ دَابِرُهُمْ): استؤصلوا ولم يَبْقَ منهم تابعٌ؛ لإهلاكِ الأولادِ مع الآباءِ، حتى يَنْقَرِضُوا كُلاًّ - والعياذُ بالله
(1)
البيت في: ابن جرير (1/ 509)، (11/ 363)، القرطبي (6/ 427).
(2)
المكرس: الذي صار فيه الكرس، وهو أبوال الإبل وأبعارها يتلبد بعضها على بعض في الدار.
(3)
انظر: ابن جرير (1/ 509)، القرطبي (6/ 427).
(4)
انظر: ابن جرير (11/ 364)، القرطبي (6/ 427)، البحر المحيط (4/ 131).
جل وعلا - وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ أميةَ بنِ أبي الصلتِ الثقفيِّ
(1)
:
فَأُهْلِكُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفًا وَلَا انْتَصَرُوا
(حَصَّ دَابِرَهُمْ): يعني قَطَعَ دابرَهم، وأهلكَ البقيةَ، فلم يَبْقَ منهم تابعٌ؛ لأن الولدَ كأنه دابرٌ للوالدِ، أي: تابعٌ له يقفوه من بعدِه ويُحيي ذِكْرَه بعد موتِه. ومعنى: (قَطْعُ الدابرِ) أنه هَلَكَ الأولادُ والآباءُ، وانقضى الجميعُ، فلم يَبْقَ منهم تابعٌ. وهذا معنى قولِه:{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} .
و (الظلمُ) هنا معناه: الشركُ. كقولِه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: آية 13]{وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: آية 254]{وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ} [يونس: آية 106].
ثم قال: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: آية 45] أَثْنَى اللَّهُ (جل وعلا) على نفسِه الكريمةِ بهذا الثناءِ العظيمِ؛ لِيُعَلِّمَ خلقَه أن يحمدوا اللَّهَ (جل وعلا) وَيُثْنُوا عليه عندَ إهلاكِه الظلمةَ الذين ليس فيهم خيرٌ، وليس فيهم إلا الشرُّ للبلادِ والعبادِ، فإراحةُ المسلمين من الظلمةِ الذين ليس فيهم إلا الضررُ، من غيرِ أن يكونَ هنالك نَفْعٌ نعمةٌ من نِعَمِ اللَّهِ، عَلَّمَ اللَّهُ خَلْقَهُ أن يحمدوه عليها.
(1)
البيت في ابن جرير (11/ 364)، القرطبي (6/ 427)، الدر المصون (4/ 635).
و (الحمدُ) في لغةِ العربِ
(1)
: هو الثناءُ
(2)
باللسانِ على المحمودِ بجميلِ صفاتِه، سواء كان من بابِ الإحسانِ أو من بابِ الاستحقاقِ. وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ.
و (الشكرُ) في لغةِ العربِ
(3)
: فعلٌ يُنْبِئُ عن تعظيمِ الْمُنْعِمِ بسببِ كونِه مُنْعِمًا. إلا أن الشكرَ اصطلاحًا هو الحمدُ لغةً، والحمدُ لغةً هو الشكرُ اصطلاحًا
(4)
.
[3/ب] والمعنىَ: كُلُّ ثناءٍ جميلٍ ثابتٌ لخالقِ / السماواتِ والأرضِ. فمعنى: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} أنه سيدُ الخلائقِ وَمُدَبِّرُ شؤونِهم الذي لا يَسْتَغْنُونَ عنه طرفةَ عَيْنٍ، وَكُلُّ مَنْ يُدَبِّرُ الأمورَ وَيَسُوسُهَا تقولُ العربُ له (رَبًّا)، و (الرَّبَابَةُ): سياسةُ الأمورِ وتدبيرُها، تقولُ العربُ:«فلانٌ رَبُّ هذا الْحَيِّ» . يَعْنُونَ: أنه هو الْمُدَبِّرُ شؤونَه. وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ
(5)
، ومنه قولُ علقمةَ بنِ عَبَدَةَ التميميِّ
(6)
:
(1)
انظر: المفردات (مادة: حمد)، ص 256، المصباح المنير (مادة: حمد) (57 - 58).
(2)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «الحمد: الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة لها» اهـ (الفتاوى 8/ 378، وانظر: (6/ 259، 266)، واللباب في تفسير الاستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب ص 213.
(3)
راجع ما مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة.
(4)
انظر: الكليات ص 366، 523، 534، 535، وفي الفرق بينهما راجع (اللباب في تفسير الاستعاذة والبسملة وفاتحة الكتاب ص 214).
(5)
انظر: المفردات (مادة: رب) ص 336 - 337.
(6)
البيت في المجمل ص 279، المفضليات ص 394، المفردات (مادة: رب) ص 337.
وكُنْتَ امْرَأً أَفْضَتْ إِلَيْكَ رِبَابَتِي وَقَبْلَكَ رَبَّتْنِي فَضِعْتُ رُبُوبُ
معنى: (رَبَّتْنِي رُبُوبُ) أي: سَاسَتْنِي ساسةٌ، وملكتني ملوكٌ قَبْلَكَ.
وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، تقولُ العربُ:«رَبَّه يربُّه» ، إذا سَاسَهُ وَدَبَّرَ شأنَه. وقد عَرَفْتُمْ في السيرةِ أن صفوانَ بنَ أميةَ بنِ خلفٍ طَلَبَ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم مهلةً ينظرُ في نفسِه، واستعارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم منه بعضَ السلاحِ والدروعِ، وحضرَ مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم غزوةَ حُنَيْنٍ، وكان معه رجلُ آخَرُ، فلما وقعَ بالمسلمين ما وَقَعَ، حيث صَلَّوُا الصبحَ في غلسِ الصبحِ تَبَقَّى بقيةٌ من الظلامِ، وانحدروا في وادي حنين، وَوَجَدُوا مالكَ بنَ عوفٍ النصريَّ ألبدَ لهم هوازنَ في مضيقٍ من مضايقِ وَادِي حنين، وَشَدُّوا عليهم شَدَّةَ رجلٍ واحدٍ وهم في غفلةٍ، حتى كانت الرماحُ والسهامُ كأنها مطرٌ تُزَعْزِعُهُ الريحُ، ووقعَ بالمسلمين ما وَقَعَ حيث قال اللَّهُ:{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: آية 25] فعندَ هذا قال ذلك الرجلُ الذي مع صفوانَ
(1)
: الآنَ بَطَلَ سحرُ محمدٍ صلى الله عليه وسلم. وظنوا أن الهزيمةَ سَتَسْتَمِرُّ، وأن هوازنَ يغلبونَه ويملكونَ. فقال له صفوانُ بنُ أميةَ - وهو عدوٌّ في ذلك الوقتِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجلِ: اسْكُتْ فُضَّ فُوكَ، لئن يَرُبَّنِي رجلٌ من قريشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ من أن يَرُبَّنِي رجلٌ من
(1)
وهو كلدة بن حنبل، ويقال: ابن عبد الله بن الحنبل، وسماه ابن اسحاق: جبلة بن الحنبل. انظر: السيرة لابن هشام ص 1290، وفي الإصابة (3/ 305):«كلدة بن حسل. ويقال: ابن عبد الله بن الحسل. وعند ابن قانع: كلدة بن قيس بن حسل» اهـ.
هوازنَ
(1)
. قوله: «يَرُبَّنِي» يعني: يَسُودُنِي فَيَسُوسُنِي ويدبرُ شؤوني.
هذا أصلُه معنى (الرَّبِّ). والربُّ الحقيقيُّ الذي يُدَبِّرُ خلائقَ الكونِ هو خالقُ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا)، لا تقعُ في الدنيا تحريكةٌ ولا تسكينةٌ إلا بمشيئتِه وتدبيرِه.
و {الْعَالَمِينَ} : يُطْلَقُ على أهلِ السماواتِ وأهلِ الأرضِ وما بَيْنَهُمَا
(2)
، فَالعَالَمُ اسمٌ لِمَا سِوَى اللَّهِ، وقد دَلَّتْ آيةٌ من سورةِ الشعراءِ أن (العالمين) شاملٌ لأهلِ السماواتِ والأرضِ وما بَيْنَهُمَا، حيث قال اللَّهُ:{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)} [الشعراء: الآيتان 23 - 24] وهذا معنَى قولِه: {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ} {أَرَأَيْتُمْ} : معناه: أَخْبِرُونِي. وقد قَدَّمْنَا
(3)
أن العربَ تُطْلِقُ (أَرَأَيْتَ) بمعنى: أَخْبِرْنِي، وتستعملُها اسْتِعْمَالَيْنِ، إذا جعلتَ معها الكافَ، كقولِه:«أَرَأَيْتُكَ» أو: «أَرَأَيْتُكُمْ» لَزِمَتِ التاءُ الفتحَ، وكانت الكافُ تتغيرُ بحسبِ تغيرِ
(1)
أخرجه البيهقي في الدلائل (5/ 128)، والطبري في تاريخه (3/ 128)، وذكره ابن هشام في السيرة ص 1286، 1290، والهيثمي فى المجمع (6/ 179 - 180) وابن كثير في تاريخه (4/ 327) وصححه الألباني في تعليقه على فقه السيرة ص 422، وانظر: مرويات غزوة حنين (1/ 143، 163).
(2)
مضى عند تفسير الآية (47) من سورة البقرة.
(3)
مضى عند تفسير الآية (40 - 41) من هذه السورة.
المخاطَبِ، وإذا حَذَفُوا منها الكافَ كانت التاءُ تتغيرُ بحسبِ تغيرِ المخاطَبِ، وهي معناها: أَخْبِرْنِي.
والمحققونَ من علماءِ العربيةِ: أنها مع تحويلِ معناها إلى (أَخْبِرْنِي) أنها تطلبُ مَفْعُولَيْنِ، وهي وَمَفْعُولَاهَا بمعنَى: أَخْبِرْنِي عن كذا. وعليه فقولُه هنا: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ} أَخْبِرُونِي. المفعولُ الأولُ: أرأيتم سَمْعَكُمْ وأبصارَكم إن أَخَذَهَا اللَّهُ مَنْ هُوَ الذي يَأْتِيكُمْ بها؟ فالمفعولُ الأولُ في قولِه: أرأيتُم سَمْعَكُمْ وأبصارَكم إِنْ أَخَذَهَا اللَّهُ، مَنْ هُوَ الذي يَأْتِيكُمْ [بها]
(1)
؟ والمفعولُ الثاني: الجملةُ
(2)
.
أَوَّلاً: هذه الآيةُ تهديدٌ للخلائقِ، وهو أن اللَّهَ (جل وعلا) أَعْطَاهُمْ هذه العيونَ التي يُبْصِرُونَ بها، وهذه الآذانَ التي يَسْمَعُونَ بها، وهذه القلوبَ المشتملةَ على العقولِ التي يفهمونَ بها، وهذا أَعْطَاهُ لهم لأَجْلِ أن يَعْتَبِرُوا هذه النعمَ فَيَشْكُرُوا لِمَنْ مَنَّ بها فَيُطِيعُوهُ، كما قال:{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: آية 78] أي: لأَجْلِ أن تَشْكُرُوا له هذه النعمَ فَتُطِيعُوهُ، كأنه يقولُ لهم هنا: هذه النعمُ الجلائلُ التي أَنْعَمْتُ بها عليكم من هذا البصرِ الذي تُبْصِرُونَ به، والسمعِ الذي تَسْمَعُونَ به، والقلبِ الذي تَفْهَمُونَ به، مَنَحْتُكُمْ إياها لِتَشْكُرُونِي {هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون: آية 78] لَمَّا كَفَرْتُمْ نِعَمِي أَخْبِرُونِي إن
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
(2)
قال في الدر المصون (4/ 635): «المفعول الأول محذوف تقديره. أرأيتم سمعكم وأبصاركم إن أخذها الله. والجملة الاستفهامية في موضع الثاني» اهـ ولأبي حيان نحوه في البحر المحيط (4/ 132).
أخذتُ نِعَمِي، وَسَلَبْتُهَا مِنْكُمْ، فتركتُكم عُمْيًا بعدَ الإبصارِ، وتركتُكم صُمًّا بعد السماعِ، وتركتُكم لا عقولَ لكم بعدَ الإدراكِ، فصرتُم لا بَصَرَ عندكم تُبْصِرُونَ به، ولا سمعَ تسمعونَ به، ولا عقلَ تفهمونَ به، مَنْ هو الذي يَقْدِرُ أن يَرُدَّ عليكم هذه المنافعَ، ويجعلُكم تسمعونَ وتبصرونَ وتفهمونَ؟! المعنى: لَا أحدَ يقدرُ أبدًا على ذلك إلا اللَّهُ وحدَه. يعني: لَمَّا كانَ إنعامُ اللَّهِ عليكم بهذه المثابةِ، وقدرتُه على سلبِ إنعامِه عنكم بهذه المثابةِ، ما كان ينبغي لكم أن تَتَمَرَّدُوا وَتَكْفُرُوا وَتَصْرِفُوا نِعَمَهُ (جل وعلا) فيما يُسْخِطُهُ.
وهذا في الحقيقةِ أَمْرٌ يَعْرقُ منه الجبينُ، ويخجلُ منه مَنْ لَهُ عقلٌ، أن اللَّهَ مع عظمتِه وجلالِه وكمالِه يَمُنُّ على الواحدِ مِنَّا مع ضَعْفِ المسكينِ وحقارتِه، ويمنُّ عليه بهذه النعمِ، ويفتحُ له هاتين العينين في هذا الوجهِ على هذا الأسلوبِ الجميلِ الغريبِ وَيُعْطِيهِ هذا السماعَ، وَيُعْطِيهِ هذا العقلَ، ثم يصرفُ هذه النعمَ فيما يُسْخِطُ خالَقه (جل وعلا)، فهذا أمرٌ فظيعٌ، يعرقُ منه جبينُ العاقلِ، وَيَسْتَحِي منه مَنْ لَهُ عَقْلٌ.
وهذا معنى قولِه: {قُلْ أَرَأَيْتَكُم} أرأيتُم - أَخْبِرُونِي - أيها الناسُ {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ} في أخذِه السمعَ وَجْهَانِ
(1)
:
أحدُهما: أنه يأخذُ الأُذُنَ بِحَاسَّتِهَا، ولا يتركُ لها أَثَرًا، ويأخذُ العينَ حتى يتركَ الوجهَ مَطْمُوسًا، كما قال:{مِّنْ قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا} [النساء: آية 47].
الوجهُ الثاني: أن المعنَى أنه يأخذُ حَاسَّةَ الإبصارِ والسمعِ والعقلِ وإن كانت الجوارحُ باقيةً؛ لأن صورةَ العينِ إذا نُزِعَ منها
(1)
انظر: القرطبي (6/ 428)، البحر المحيط (4/ 132).
الإبصارُ لا فائدةَ فيها، وجرمُ الأُذُنِ إذا نُزِعَ منه السماعُ لا فائدةَ فيه. هذان الوجهانِ مَعْرُوفَانِ.
وقولُه: {مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} {مَّنْ} مُبْتَدَأٌ، و {إِلَهٌ} خبرُه، و {غَيْرُ اللَّهِ} نعتُ للإِلَهِ. والفعلُ في قولِه:{يَأْتِيكُم بِهِ} في مَحَلِّ النعتِ أيضًا. مَنْ إِلَهٌ غيرُ اللَّهِ يَرُدُّهُ عَلَيْكُمْ
(1)
؟
في هذه الآيةِ الكريمةِ سُؤَالَانِ عَرَبِيَّانِ مَعْرُوفَانِ:
أحدُهما: أن اللَّهَ هنا أَفْرَدَ السمعَ، وجمعَ الأبصارَ والقلوبَ، حيثُ قَالَ:{إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} فَجَمَعَ الأبصارَ، وجمعَ القلوبَ، وأفردَ السمعَ ولم يَجْمَعْهُ، وهكذا في سائرِ القرآنِ، يَجْمَعُ ما ذُكِرَ مع السمعِ، وَيُفْرِدُ السمعَ، ولا يَجْمَعُهُ في القرآنِ؟
السؤالُ الثاني: أن اللَّهَ ذَكَرَ أشياءَ متعددةً في قولِه: {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم} ثُمَّ رَدَّ عليها ضميرَ اسمِه الواحدِ في قوله: {مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ} بضميرٍ مذكرٍ مفردٍ؟
هذانِ السؤالانِ العربيانِ في هذه الآيةِ الكريمةِ. والجوابُ عنهما معروفٌ مِنْ لغةِ العربِ.
أما الجوابُ عن الأولِ - وهو إفرادُ السمعِ في سائرِ القرآنِ - فلعلماءِ العربيةِ فيه وجهانِ مَعْرُوفَانِ:
أحدُهما
(2)
: أن أصلَ (السمعِ) مصدرٌ، وأنه مصدرُ: سَمِعَهُ،
(1)
انظر: القرطبي (6/ 428)، الدر المصون (4/ 636).
(2)
انظر: القرطبي (1/ 190)، (6/ 427)، البحر المحيط (1/ 49)، الدر المصون (1/ 114).
يَسْمَعُهُ، سَمْعًا، والعربُ إذا نَعَتَتْ بالمصدرِ أَلْزَمَتْهُ الإفرادَ والتذكيرَ، كما قال ابنُ مالكٍ في الخلاصةِ
(1)
:
وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرَا فالْتَزَمُوا الإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا
وقالوا لأجلِ هذا: لم يُجْمَعِ السمعُ في القرآنِ أَبَدًا.
الوجهُ الثاني
(2)
: هو ما تَقَرَّرَ في علومِ العربيةِ: أن كُلَّ مفردٍ هو اسمُ جنسٍ، فَمِنْ أساليبِ اللغةِ العربيةِ أن يُطْلَقَ مفردُه مُرَادًا به الجمعُ، نظرًا إلى أن أصلَه اسمٌ شاملٌ للجنسِ. وهذا كثيرٌ في القرآنِ، وفي كلامِ العربِ في حالاتِه الثلاثِ، أعني بِقَوْلِي:«في حالاتِه الثلاثِ» أن يكونَ مُنَكَّرًا، وأن يكونَ مُعَرَّفًا بالأَلِفِ واللامِ، وأن يكونَ مُضَافًا.
فمن أمثلتِه في القرآنِ واللفظُ مُنَكَّرٌ: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر: آية 54] يعني: وأنهارٍ، بدليلِ قولِه:{فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ} الآية. [محمد: آية 15] وكقولِه: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: آية 74] يعني: أئمةً، وكقولِه:{ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [الحج: آية 5] يعني: أطفالاً، وكقولِه:{مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا} [المؤمنون: آية 67] يعني: سَامِرِينَ تَهْجُرُونَ، وكقولِه جل وعلا:{وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: آية 6] ويعني: إن كُنْتُمْ جنبين أو أجنابًا. وقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: آية 69] أي: رفقاءَ {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْسًا} [النساء: آية 4]
(1)
الخلاصة ص 45، وانظر: شرحه في الأشموني (2/ 68).
(2)
انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 129 - 136)، البحر المحيط للزركشي (3/ 97، 108، 146)، أضواء البيان (1/ 92، 3/ 253)، (4/ 332)، (5/ 29، 776)، (7/ 730)، قواعد التفسير ص553.
أي: أَنْفُسًا. {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: آية 4] مظاهرون. وهو كثيرٌ جِدًّا.
ومن أمثلتِه في القرآنِ واللفظُ مُعَرَّفٌ قولُه جل وعلا: {وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ} [آل عمران: آية 119] يعني: بالكتبِ كُلِّهَا، بدليلِ قولِه:{وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: آية 285]{وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى: آية 15] وقوله: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر: آية 22] يعني: الملائكةَ، بدليلِ قولِه:{صَفًّا صَفًّا} لأن الملَك الواحدَ لا يكونُ صفًّا صفًّا، وكما يدل عليه قولُه في البقرةِ:{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة: آية 210] وكقولِه: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: آية 45] يعني: الأدبارَ، بدليلِ قولِه:{فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} [الأنفال: آية 15] وكقولِه: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ} [الفرقان: آية 75] يعني: الغرفَ، بدليلِ قولِه:{لَهُمْ غُرَفٌ مِّنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ} [الزمر: آية 20]{هُمُ الْعَدُوُّ} يعني: الأعداءُ. وهو كثيرٌ جِدًّا.
ومن أمثلتِه واللفظُ مُضَافٌ قولُه: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: آية 63] أي: أوامره، وقولُه:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ} [إبراهيم: آية 34] أي: نِعَمَ اللَّهِ، وقولُه:{أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: آية 61] أي: أَصْدِقَائِكُمْ. وهو كثيرٌ في القرآنِ.
والشيخُ سيبويه في كتابِه
(1)
يقولُ: «إِنَّ اسمَ الجنسِ إذا كان مُفْرَدًا: يُوجَدُ قَصْدُ الجمعِ به بِقِلَّةٍ» ، ونحن نقولُ: بتتبعِ القرآنِ واللغةِ
(1)
الكتاب (1/ 209 - 210).
العربيةِ فهو بكثرةٍ، عكس ما قاله الشيخُ عمرو سيبويه رحمه الله وهو كثيرٌ في كلامِ العربِ، ومن أمثلتِه في كلامِ العربِ: ما أنشدَه سيبويه في كتابِه من قولِ علقمةَ بنِ عَبَدَةَ التميميِّ
(1)
:
بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا
…
فَبِيضٌ، وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
يعني: وأما جلودُها فصليبةٌ. وأنشد له أيضا سيبويه قولَ الآخَرِ
(2)
:
كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمْ تَعُفُّوا
…
فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
أنشد له هذين البيتين فقط، وهو في كلامِ العربِ كثيرٌ، ومنه قولُ عقيلِ بنِ عُلفةَ المريِّ
(3)
:
وَكَانَ بَنُو فَزَارَةَ شَرَّ عَمٍّ
…
وَكُنْتُ لَهُمْ كَشَرِّ بَنِي الأَخِينَا
يعني بقوله: «شَرَّ عَمٍّ» شَرَّ أَعْمَامٍ. ومنه قولُ العباسِ بنِ مرداسٍ السُّلَمِيِّ
(4)
:
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ
…
وَقَدْ سَلِمَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ
يعني: إنَّا إخوانُكم. ومنه قولُ جريرٍ
(5)
:
إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا
…
أَبَانَ الْمُقْرِفَاتِ مِنَ الْعِرَابِ
(1)
البيت في المصدر السابق، المفضليات ص 394، الدر المصون (1/ 114).
(2)
البيت في الكتاب (1/ 209)، المحتسب (2/ 87).
(3)
البيت في الخزانة (2/ 276)، اللسان (مادة: أخا) (1/ 31).
(4)
البيت في ديوانه ص71؛ الخصائص (2/ 422)، الخزانة (2/ 277)، اللسان (مادة: أخا) (1/ 31).
(5)
ديوان جرير ص29.
يعني: وأباؤك. ومنه قولُ قُعْنُبِ ابْنِ أُمِّ صَاحِبٍ
(1)
:
مَا بَالُ قَوْمٍ صَدِيقٍ ثُمَّ لَيْسَ لَهُمْ عَقْلٌ وَلَيْسَ لَهُمْ دِيْنٌ إِذَا ائْتُمِنُوا
قال: «ما بال قوم صديق» يعني: أصدقاءَ. ومن هذا المعنى - بنفسِه - قولُ جريرٍ قال
(2)
:
نَصَبْنَ الْهَوَى ثُمَّ ارْتَمَيْنَ قُلُوبَنَا بِأَعْيُنِ أَعْدَاءٍ وَهُنَّ صَدِيقُ
يعني: وهن صديقاتٌ. ومن هذا المعنى قولُ الآخَرِ
(3)
:
يَا عَاذِلَاتِي لَا تَزِدْنَ مَلَامَةً إِنَّ الْعَوَاذِلَ لَيْسَ لِي بِأَمِيرِ
وهو كثيرٌ جِدًّا. والقصدُ التمثيلُ، وعلى هذا خرَّج بعضُهم [إفرادَ]
(4)
(السمعِ)؛ لأنه اسمُ جنسٍ أُطْلِقَ وأُرِيدَ به الجمعُ، كما بينَّا نظائرَه في القرآنِ، وفي لغةِ العربِ.
الجوابُ الثاني: عن رجوعِ ضميرٍ مذكرٍ مفردٍ إلى أشياءَ متعاطفةٍ حيث قال: {إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ} يُجابُ عنه بجوابين
(5)
:
(1)
البيت في اللسان (مادة: صدق)(2/ 421)، أضواء البيان (5/ 30) ولفظ شطره الثاني فيهما:
........................
دين وليس لهم عقل إذا ائتمنوا
(2)
ديوان جرير ص315.
(3)
البيت في الخصائص (3/ 174)، مغني اللبيب (1/ 177) ولفظه فيهما:
يا عاذلاتي لا تردن ملامتي
…
إن العواذل لسن لي بأمير
وأما اللفظ الذي ذكره الشيخ هنا فهو المثبت في الأضواء (5/ 30).
(4)
ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.
(5)
انظر: ابن جرير (11/ 366 - 367)، القرطبي (6/ 428)، البحر المحيط (4/ 132)، الدر المصون (4/ 636).
أحدُهما: أن قولَه: (به) أي: بما ذُكِرَ، أي: بذلك الشيءِ المأخوذِ، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ولما قال رؤبةُ بنُ العجاجِ في رجزيته القَافِيَّةِ المشهورةِ، قال فيها
(1)
:
فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
فقال له واحدٌ: لِمَ قلتَ: كأنه بالإفرادِ؟ إذا كنتَ تعني (الخطوطَ) لا بد أن تقولَ: «كأنها» ، وإذا كنتَ تعني (السوادَ والبلقَ) لا بد أن تقولَ:«كأنهما» ، فَمِنْ أين قلتَ «كأنه» بالإفرادِ؟
قال له: (كأنه) أي: ما ذُكِرَ.
الوجهُ الثاني: هو ما عُرِفَ في القرآنِ وفي لغةِ العربِ أنه قد تأتي المتعاطفاتُ سواء كانت متعاطفاتٍ بـ (واو)، أو متعاطفاتٍ بـ (أو)، أو متعاطفاتٍ بـ (فاء)، ويرجعُ الضميرُ على واحدٍ منها، وتكونُ الأُخَرُ مفهومةً من ذلك
(2)
؛ لأنه لَمَّا رَجَعَ على واحدٍ فُهِمَ أن الباقيَ مثلُه، وهذا كثيرٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ. فمن أمثلتِه في القرآنِ في العطفِ بـ (أو):{وَمَا أَنْفَقْتُم مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُم مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ} [البقرة: آية 270] وقال جل وعلا: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} [النساء: آية 112] بالإفرادِ، وقال (جل وعلا) في مثلِ هذا:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: آية 11] فَرَدَّهُ إلى التجارةِ دونَ اللهوِ. وفُهِمَ منه أن اللهوَ كذلك انْفَضُّوا إليه أيضا. مع أنه رَبُمَّا رَجَعَ لهما معًا، كقوله:{إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: آية 135] وهو في العطفِ
(1)
مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.
(2)
مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة.
بـ (الواو) - كما هنا - كثيرٌ جِدًّا، ومنه قولُه:{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا} [التوبة: آية 35] وقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا} [البقرة: آية 45] وقوله جل وعلا: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: آية 62] وقول جل وعلا: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الأنفال: آية 20] وهو كثيرٌ في القرآنِ، ومن أمثلتِه في كلامِ العربِ قولُ نابغةِ ذبيانَ
(1)
:
وَقَدْ أَرَانِي وَنُعْمًا لَاهِيَيْنِ بِهَا
…
وَالدَّهْرُ وَالْعَيْشُ لَمْ يَهْمِمْ بِإِمْرَارِ
ولم يقل: «يَهْمِمَا» .
وقولُ الآخَرِ
(2)
:
إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعَرَ الأَسْـ
…
ـوَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونَا
ولم يقل: (ما لم يُعَاصَيَا). هذا كثيرٌ في كلامِ العربِ.
ومن أمثلتِه في المتعاطفاتِ بالفاءِ: قولُ امرئِ القيسِ في معلقتِه
(3)
:
(1)
مضى عند تفسير الآية (45) من سورة البقرة.
(2)
البيت لحسان رضي الله عنه، وهو في الموضع السابق.
(3)
هذا هو الشطر الأول من البيت، وأما شطره الثاني فقوله:
. . . . . . . . . . . . . . . .
…
لِمَا نَسَجَتها من جَنُوب وشَمْأَل
وقبله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
…
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
وسقط اللوى: منقطع الرمل، والدخول وحومل. قيل إنهما موضعان في شرق اليمامة.
وتوضح والمقراة: قيل إنهما موضعان قريبان من الدخول وحومل.
انظر: ديوانه ص110.
فَتُوضِحَ فَالْمِقرَاةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا ............................
فَرَدَّ الضميرَ على أحدِهما، وهذا كثيرٌ في كلامِ العربِ.
وَأَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ: الأولُ، أن المعنَى {مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ} أي: بما ذُكِرَ مِمَّا أَخَذَهُ اللَّهُ منكم. كقولِه جل وعلا: {لَاّ فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: آية 68] أي: ذلك المذكور، ولم يقل:«ذَلِكُمَا» ، ونظيرُه قولُ ابنِ الزبعرى
(1)
:
إِنَّ لِلشَّرِّ وَلِلْخَيْرِ مَدًى وَكِلَا ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ
هذا معروفٌ في كلامِ العربِ، وهذا معنَى قولِه:{مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} وهذه الآيةُ الكريمةُ ينبغي لِكُلِّ مسلمٍ أن يعتبرَ بها، فيعلمَ أن اللَّهَ شقَّ له في وجهه عَيْنَيْنِ، وصبغَ له بعضَهما بصبغٍ أسودَ، وبعضَهما بصبغٍ أبيضَ، وأعطاه لهما سِلْكًا من جفونِه، وجعلَ لعينيه شحمًا لئلا يُجَفِّفَهَا الهواءُ، وجعلَ ماءَ عينِه مِلْحًا لئلا تُنْتِنَ الشحمةُ، وجعلَ له عقلاً، وهو هذا العقلُ الذي يُمَيِّزُ به بين الأشياءِ، ويفعلُ
(2)
به هذه الأفعالَ الغريبةَ العجيبةَ، وأعطاه حاسةَ السماعِ، كُلُّ هذا أعطاه له ليبذلَ هذه النعمَ فيما يُرْضِي رَبَّهُ (جل وعلا)، فلا ينبغي منه ولا يَجْمُلُ به أن يستعينَ بِنِعَمِ رَبِّهِ على معصيةِ خالقِه (جل وعلا)، فهذا عملٌ لا يليقُ بعاقلٍ. ثم إنه يُلَاحِظُ قدرةَ اللَّهِ وعظمتَه وجلالَه، وأنه قادرٌ على أن ينزعَ منه السمعَ والبصرَ والعقلَ فيتركَه كالجمادِ لا يسمعُ شيئًا، ولا يبصرُ شيئًا، ولا يعقلُ شيئًا، فلا ملجأَ له غيرُ اللَّهِ يُزِيلُ ذلك عنه؛ وَلِذَا قال:{مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ} .
(1)
مضى عند تفسير الآية (54) من سورة البقرة.
(2)
مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام.
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عجَّب نَبِيَّهُ من جراءةِ الإنسانِ وجهلِه وإعراضِه عن الحقِّ مع فقرِه وحاجتِه وفاقتِه إلى رَبِّهِ (جل وعلا)، فقال له:{انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ} معنى تصريفِ الآياتِ: هو نقلُها من حالٍ إلى حالٍ بأساليبَ واضحةٍ بينةٍ، تارةً - يعني - بالوعيدِ وتارةً بالوعدِ وتارةً بالابتلاءِ بالسراءِ، وتارةً بالضراءِ بأنواعٍ مختلفةٍ من جهاتٍ مختلفةٍ، ومع هذا {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} بعضُ الْمُحَقِّقِينَ من العلماءِ يقولُ: إن (ثم) في هذا المكانِ
(1)
للاستبعادِ
(2)
، وأن التراخيَ المفهومَ بـ (ثم) أنها للاستبعادِ؛ لأنه يُسْتَبْعَدُ عندَ العقولِ السليمةِ أن يكونَ اللَّهُ مع عظمتِه وجلالِه، ومع ما يُحْسِنُ به إلى الإنسانِ يُصرِّفُ له الآياتِ، ومع هذا هو يصدفُ، أي: يُعْرِضُ. فمعنى قولِه: {يَصْدِفُونَ} أي: يُعْرِضُونَ ويصدون، والعربُ تقولُ:«صَدَفَ عنه، يَصْدِفُ، صَدْفًا وصُدُوفًا» ، إذا أَعْرَضَ عنه وَمَالَ
(3)
.
و (صَدَفَ) تُسْتَعْمَلُ استعمالين
(4)
: تستعملُ مُتعديةً للمفعولِ، تقولُ:«صَدَفْتُهُ عن قولِه» . أي: صَدَدْتُهُ عنه حتى أعرضَ عنه. وَتُسْتَعْمَلُ لازمةً، صدفَ فلانٌ عن كذا: إذا أَعْرَضَ عنه، وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ ابنِ رواحةَ
(5)
:
(1)
في الأصل زيادة: (إنها).
(2)
انظر: تفسير أبي السعود (3/ 134).
(3)
انظر: ابن جرير (11/ 365 - 366)، القرطبي (6/ 428)، الدر المصون (4/ 636).
(4)
انظر: ما سيأتي عند تفسير الآية (157) من سورة الأنعام.
(5)
البيت في الدر المنثور (3/ 12)، والأضواء (2/ 283)، وعزاه لأبي سفيان بن الحارث، ولفظ الشطر الثاني فيهما:
........................
…
له صدفنا عن كل حق منزل
عَجِبْتُ لِلُطْفِ اللَّهِ فِينَا وَقَدْ بَدَا لَهُ صَدْفُنَا عَنْ كُلِّ وَحْيٍ مُنَزَّلِ
(صَدْفُنَا) أَيْ: إِعْرَاضُنَا. ومن هذا المعنى قولُ ابنِ الرّقاعِ يمدحُ نسوةُ، قال
(1)
:
إِذَا ذَكَرْنَ حَدِيثًا قُلْنَ أَحْسَنَهُ وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ
جمع صادفةٍ، أي: مُعْرِضَاتٍ صاداتٍ عنه، وهذا يُسْتَبْعَدُ؛ لأن (ثُمَّ) هنا للاستبعادِ كما حَقَّقَهُ بعضُ العلماءِ؛ لأنه يُسْتَبْعَدُ مِمَّنْ صَرَّفَ له خالقُه الآياتِ، وبيَّن له هذا من البيانِ، يستبعدُ منه بعدَ هذا: الإعراضَ والصدودَ عن اللَّهِ جل وعلا.
وَمِنْ إتيانِ (ثُمَّ) للاستبعادِ قولُ الشاعرِ
(2)
:
وَلَا يَكْشِفُ الْغَمَّاءَ إِلَاّ ابْنُ حُرَّةٍ يَرَى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ثُمَّ يَزُورُهَا
لأن مَنْ عَايَنَ غمراتِ الموتِ يُسْتَبْعَدُ منه اقتحامُها والوقوعُ فيها. وهذا معنَى قولِه: {ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ} .
{قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَاّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: آية 47]{قُلْ} لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ: {أَرَأَيْتَكُمْ} أَخْبِرُونِي {إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} كان الحسنُ البصريُّ يقولُ: {بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً} أي: ليلاً أو نهارًا
(3)
، وهذا التفسيرُ ليس كما ينبغي، بل التحقيقُ أن معنَى بغتة: أي: أَتَاكُمُ العذابُ في
(1)
البيت في ابن جرير (11/ 366)، القرطبي (6/ 428)، البحر المحيط (4/ 117)، الدر المصون (4/ 636)، الأضواء (2/ 283).
(2)
مضى عند تفسير الآية (74) من سورة البقرة.
(3)
انظر: القرطبي (6/ 429).
حالِ كونِه بَاغِتًا. أي: مُفَاجِئًا
(1)
من أن تعلمونَه بأسبابٍ، ولا عِلْمَ لكم به.
وقولُه: {جَهْرَةً} أن يَأْتِيَكُمُ العذابُ بعدَ أن تُعَايِنُوا أسبابَه، وتَرَوْا أَوَائِلَهُ، حتى يقعَ بكم {جَهْرَةً} عيانًا وأنتم تنظرون إليه
(2)
.
هذا التحقيقُ في الفرقِ بين البغتةِ والجهرةِ هنا. إن أتاكم عذابُ اللَّهِ مفاجئًا من غيرِ أن يتقدمَ لكم به علم، أو جهرةً بأن عَايَنْتُمْ مبادئَه، ورأيتم أولَ نزولِه، حتى وقعَ جهارًا وأنتم تنظرونَ. {هَلْ يُهْلَكُ إِلَاّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} هذا الاستفهامُ بمعنى النفيِ؛ ولذا جَاءَ مُقَابِلاً بـ (إلا) التي تُقَابِلُ النفيَ
(3)
. والمعنى: ما يُهْلَكُ إلا القومُ الظالمونَ الكافرونَ.
وفي الآيةِ سؤالٌ معروفٌ: جاء في الأحاديثِ الصحيحةِ
(4)
أن العذابَ إذا نَزَلَ بقومٍ كفارٍ شَمِلَ مَنْ فيهم مِنَ المسلمين، وهذه الآيةُ بَيَّنَتْ أنه لَا يُهْلَكُ إِلَاّ القومُ الظالمون؟
أُجِيبَ عن هذا: بأن العذابَ لو شَمِلَ وَأَهْلَكَ مَنْ هو معهم، أن هذا الهلاكَ تمحيصٌ له، وأنه يُبْعَثُ يومَ القيامةِ في نعمةٍ من اللَّهِ ورحمةٍ وأجور.
وقال بعضُ العلماءِ: لا يتعينُ هذا كما دَلَّتْ عليه قصصُ
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 386)، القرطبي (6/ 429).
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 386).
(3)
انظر: الدر المصون (4/ 637).
(4)
ورد في هذا المعنى من حديث أم سلمة، وعائشة، وزينب بنت جحش رضي الله عنهن. انظر: جامع الأصول (2/ 231)، (10/ 415)، (11/ 726).
الرسلِ؛ لأن الغالبَ أن الكلامَ في الأممِ والرسلِ والقرآنِ قد قَصَّ علينا أن كل أمةٍ عَلِمَ اللَّهُ أن الهلاكَ سيأتيها أمرُ نبيها ومن معه فخرجوا منها وَنَجَوْا، كما ذكر أنه نَجَّى هُودًا بقولِه:{نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: آية 58]{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا} [هود: آية 94]{نَجَّيْنَا صَالِحًا} [هود: آية 66] إلى غيرِ ذلك مما جاء مُفَصَّلاً في الآياتِ، وهذا يبين معنى قولِه:{هَلْ يُهْلَكُ إِلَاّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: آية 47].
يقول الله جل وعلا: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)} [الأنعام: الآيتان 48 - 49].
كان كفارُ مكةَ يُكْثِرُونَ الاقتراحاتِ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم
(1)
وَمِمَّا يقترحونَ عليه أن يقولوا له: سَلْ رَبَّكَ أن ينزلَ علينا كثيرًا من الأرزاقِ من خزائنِ رِزْقِهِ، وأن يُعلمنا بالغيبِ لِنَتَّقِيَ ما يضرُّ ونجتلب ما ينفعُ.
(1)
مضى عند تفسير الآية (37) من هذه السورة.
ومما اقترحوا إنزالُ الآياتِ كما في قولِه في هذه الآيةِ السابقةِ: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ} وقد بَيَّنَ اللَّهُ بعضَ اقتراحاتِهم في سُورٍ من كتابِه، كقولِه في سورةِ بني إسرائيلَ:{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} قال الله له: قل لهم: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَاّ بَشَرًا رَسُولاً} [الإسراء: الآيات 90 - 93] وَبَيَّنَ في آيةِ الأنعامِ هذه أن اللَّهَ ما أرسلَ المرسلين لتكونَ بيدهم خزائنُ السماواتِ والأرضِ، أو يكونوا ملائكةً، أو يقترحَ عليهم مَنْ شَاءَ كُلَّ ما شاء من التعنتاتِ، لا ليس الأمرُ كذلك:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} لا لأن تكونَ بأيديهم الخزائنُ، ولا ليكونوا ملائكةً، ولا ليقترحَ عليهم كُلُّ متعنتٍ ما شاءَ أن يقترحَ عليهم، لا.
{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ} صيغةُ الجمعِ في قولِه: {نُرْسِلُ} للتعظيمِ، والمرسلونَ جمعُ (المُرْسَلِ)، والمرادُ بهم هنا: المرسلونَ مِنْ بَنِي آدمَ، مع أن المرسلين يكونون من الآدميين ومن غيرِهم كالملائكةِ، كما يأتي في قولِه:{اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ} [الحج: آية 75].
وقولُه: {إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} حالٌ
(1)
، وقوله:{وَمُنْذِرِينَ} حالٌ معطوفةٌ على حال
(2)
. والمعنى: ما نُرْسِلُهُمْ إلا في حالِ كونِهم
(1)
(2) انظر: الدر المصون (4/ 637).
(2)
انظر: جواهر البلاغة ص251.
مبشرين ومنذرين، وقد حُذِف هنا معمولُ البشارةِ ومعمولُ الإنذارِ، وتقديرُه: إلا مبشرين مَنْ أطاعهم بالجنةِ وما عندَ اللَّهِ من الخيرِ، ومنذرين مَنْ عَصَاهُمْ بالنارِ وما عند الله من النكالِ. فَحَذَفَ المفعولَ والمُتَعَلَّقَ لدلالةِ الكلامِ عليهما.
وَقَدْ قَدَّمنا غيرَ ما مرةٍ: أن (المُبشِّرَ) اسمُ فاعلِ (التبشيرِ). والتبشيرُ والبشارةُ: هو الإخبارُ بما يَسُرُّ، قال بعضُ العلماءِ: سُمِّيَ الإخبارُ بما يَسُرُّ (بشارةً): لأن الإنسانَ إذا سَمِعَ خبرًا يَسُرُّهُ أَثَّرَ ذلك في دمِه فجرى دمُه جَرَيَانًا من البشارةِ فظهرَ أثرُ ذلك على بشرتِه، ومنها - قالوا - سَمَّوْهَا (بِشَارَةً).
والبشارةُ أغلبُ ما تُطْلَقُ على الإخبارِ بما يَسُرُّ خاصةً، وجاءَ في القرآنِ العظيمِ إطلاقُها على الإخبارِ بما يَسُوءُ كقولِه:{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: آية 21].
والعلماءُ الذين يقولونَ بالمجازِ في القرآنِ، معلومٌ أنهم يُسَمُّونَ مثلَ قولِه:{فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} يجعلونَ هذا مِنْ نوعِ (الاستعارةِ العناديةِ)، و (الاستعارةُ العناديةُ) عندَهم يُقَسِّمُونَهَا إلى: تهكميةٍ، وتمليحيةٍ، كما هو معلومٌ في فَنِّ البيانِ
.
ومن منعِ المجازِ في القرآنِ من العلماءِ - وهو الذي نَرَى أنه الأصوبُ - يقولُ: هذا أسلوبٌ من أساليبِ اللغةِ العربيةِ، فالعربُ يستعملونَ البشارةَ غالبًا فيما يَسُرُّ، وربما استعملوها فيما يسوءُ، إذا دَلَّتْ على ذلك قرائنُ تُفْهِمُهُ، والكلُّ أسلوبٌ من أساليبِ اللغةِ
(1)
العربيةِ
(1)
. ومعلومٌ عن العربِ أنهم يُطْلِقُونَ البشارةَ نادرًا على الخبرِ بما يَسُوءُ، ومن إطلاقِ البشارةِ على الخبرِ السَّيِّئِ قولُ الشاعرِ
(2)
:
وبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أَنَّ أَحِبَّتِي جَفَوْنِي وَقَالُوا الْوُدُّ مَوْعِدُهُ الْحَشْرُ
فجفاءُ الأحبةِ أمرٌ يسوءُ، والبشارةُ به بشارةٌ بسوءٍ، ومنه قولُ الآخَرِ
(3)
:
يُبَشِّرُنِي الْغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ
هذا أسلوبٌ عربيٌّ معروفٌ، وعلماءُ البيانِ يُسَمُّونَهُ نوعًا من أنواعِ المجازِ، ونوعًا من أنواعِ الاستعارةِ، يسمونَه (الاستعارةَ العناديةَ)، كما بَيَّنَّا أقسامَها عندهم.
والقصرُ في قولِه: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ} هو الذي يُسَمِّيهِ البلاغيون: قصرًا إضافيًّا
(4)
؛ لأنه يُرْسِلُهُمْ بأعمالٍ أُخَرَ طيبةٍ من تعليمِ الآدابِ والمكارمِ وغيرِ ذلك مما هو زائدٌ على البشارةِ والإنذارِ.
والبشارةُ: الإخبارُ بما يَسُرُّ، والإنذارُ: الإعلامُ المقترنُ بتهديدٍ خاصةً
(5)
. والإنذارُ أَخَصُّ من مطلقِ الإعلامِ؛ لأن الإنذارَ لا يُطْلَقُ إلا
(1)
انظر: القرطبي (1/ 238)، المفردات (مادة: بشر) (124 - 125)، البحر المحيط (1/ 111)، الدر المصون (1/ 209 - 210).
(2)
البيت في البحر المحيط (1/ 111)، الدر المصون (1/ 210)، ولفظه الشطر الثاني هكذا:
........................
…
جفوني وإن الودَّ موعدُهُ الحشر
(3)
البيت في البحر المحيط (1/ 111)، الدر المصون (1/ 209).
(4)
انظر: جواهر البلاغة ص150.
(5)
انظر: المفردات (مادة: نذر) ص 797.
على إعلامٍ مقترنٍ بتهديدٍ. فَكُلُّ إنذارٍ إعلامٌ، وليس كُلُّ إعلامٍ إنذارًا، وهذا معنَى قولِه:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ} مَنْ أَطَاعَنَا بالجنةِ، {وَمُنْذِرِينَ} مَنْ عَصَانَا بالنارِ، ثم بَيَّنَ مَنْ هُمُ المُبَشَّرونَ وما صفاتُهم، وَمَنْ هُمُ المُنْذَرُون وما صفاتُهم، فقال مُبَيِّنًا صفاتِ المُبَشَّرين على ما يسمونه:(اللفَّ والنشرَ المرتبَ)، فَمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالحًا فلهم البشارةُ العُظْمَى؛ بأنهم لا خوفَ عليهم ولا هُمْ يحزنونَ، مع ما ينالونَ من النعيمِ.
وقولُه: {فَمَنْ آمَنَ} أصلُ الإيمانِ في لغةِ العربِ: التصديقُ
(1)
. وهو في اصطلاحِ الشرعِ: التصديقُ التامُّ، أعني: التصديقَ من الجهاتِ الثلاثِ، وهو تصديقُ القلبِ بالاعتقادِ، واللسانِ بالإقرارِ، والجوارحِ بالعملِ. فالإيمانُ: قولٌ وعملٌ
(2)
، كما عليه مذهبُ أهلِ السنةِ والجماعةِ، والآياتُ والأحاديثُ الدالةُ عليه لا تكادُ تُحْصَى. في الحديثِ:«مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا»
(3)
فَسَمَّى الصومَ:
(1)
مضى عند تفسير الآية (55) من سورة البقرة.
(2)
انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة (4/ 830 - 851)، (5/ 885 - 889)، تعظيم قدر الصلاة (1/ 292 - 437)، الإيمان لابن تيمية (112 - 125، 135 - 141، 152، 162، 170، 175، 178 - 181، 190، 207، 245، 274، 275، 281 - 287، 300).
(3)
كلاهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقد أخرجهما الشيخان. انظر: البخاري، كتاب الإيمان، باب: قيام ليلة القدر من الإيمان (35)، (1/ 91)، تطوع قيام رمضان من الإيمان (37)، (1/ 92)، باب: صوم رمضان احتسابا من الإيمان (38)، (1/ 92)، وقد أخرجهما في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث (1901، 2008، 2009، 2014)، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح (759، 760)، (1/ 523 - 524).
إيمانًا. «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا»
(1)
فَسَمَّى الصلاةَ: إيمانًا {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: آية 143] أي: صلاتَكم إلى بيتِ المقدسِ قبلَ أن تُنْسَخَ. وفي الحديثِ الصحيحِ: «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ» وفي بعضِ رواياتِه: «وَسَبْعُونَ بِضْعًا، أَعْلَاهَا شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ»
(2)
وفي هذا الحديثِ الصحيحِ أن هذا الفعلَ - الذي هو إماطةُ الأَذَى عن الطريقِ - يُسَمَّى: إيمانًا كما هو مَعْرُوفٌ.
والعادةُ المقررةُ عندَ العلماءِ: أن الإيمانَ إذا جاء مُطْلَقًا ولم يُعْطَفْ عليه العملُ الصالحُ فهو يشملُ الإيمانَ من الجهاتِ الثلاثِ: يشملُ إيمانَ القلبِ بالاعتقادِ، وإيمانَ اللسانِ بالإقرارِ، وإيمانَ الجوارحِ بالعملِ. وإذا عُطِفَ عليه العملُ الصالحُ، كقولِه:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [يونس: آية 9] وقولِه هنا: {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} [الأنعام: آية 48] انصرفَ الإيمانُ إلى رُكْنِهِ الأكبرِ، وهو الاعتقادُ القلبيُّ
(3)
، وصارَ الإصلاحُ بعدَه يُرَادُ به الأعمالُ، كما قال تعالى هنا:{فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} آمَنَ قَلْبُهُ وَأَذْعَنَ واعتقدَ ما يجبُ اعتقادُه إثباتًا ونفيًا، وأصلحَ - مع ذلك الإيمانِ القلبيِّ عَمَلَهُ - بجوارحِه {فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ} آمَنَ قَلْبُهُ، وأصلحَ عَمَلَ جوارحِه، بِأَنِ
(1)
تقدم تخريجه.
(2)
أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: أمور الإيمان. حديث رقم (9)، (1/ 51)، ومسلم كتاب الإيمان، باب: بيان عدد شعب الإيمان. حديث رقم (35)، (1/ 63) وقول الشيخ رحمه الله هنا:«بضعا» سبق لسان، وإنما الرواية:«شعبة» ..
(3)
انظر: الإيمان الكبير لابن تيمية (1 - 11).
امتثلَ الأوامرَ، واجتنبَ النواهيَ، هذا الْقِسْمُ من الناسِ هم المُبَشَّرونَ الذين فيهم:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ} وقال اللَّهُ فيهم: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} يعني يومَ القيامةِ: {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
و (الخوفُ) في لغةِ العربِ: هو الغَمُّ من أمرٍ مستقبلٍ خاصةً.
و (الحزنُ) في لغةِ العربِ: هو الغمُّ من أمرٍ قد فاتَ وَمَضَى. تقولُ: «فلانٌ أُصِيبَ بالأمسِ، فهو اليومَ حزينٌ» وتقولُ: «فلانٌ خائفٌ» أي: يَغْتَمُّ مِنْ أمرٍ مستقبلٍ. هذا أصلُه معنى (الخوفِ) ومعنى (الحزنِ)
(1)
- أَعَاذَنَا اللَّهُ والمسلمين منهما - وربما وُضِعَ أحدُهما موضعَ الآخَرِ، وربما أَطْلَقَتِ العربُ (الخوفَ) على غيرِ (الحزنِ)، وَمِنْ إطلاقاتِ العربِ الخوفَ: إطلاقُها الخوفَ على العلم
(2)
، تقولُ العربُ:«إِنِّي أخافُ أن يقعَ كذا» بمعنى: أعلمُ أن يقعَ كذا، وقد بَيَّنَّا هذا المعنَى في سورةِ البقرةِ في الكلامِ على قولِه:{إِلَاّ أَنْ يَخَافَا أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: آية 229] قال بعضُ العلماءِ معنَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ يُقِيمَا} أي: فإن عَلِمْتُمْ ألَاّ يقيما حدودَ اللَّهِ. ومن إطلاقِ (الخوفِ) لَا بمعنَى (الحزنِ)، بل بمعنَى العلمِ اليقينيِّ: قولُ أبي مِحْجَنٍ الثقفيِّ في بَيْتَيْهِ المشهورين
(3)
:
إِذَا مُتُّ فَادْفِنِّي إِلَى جَنْبِ كَرْمَةٍ
…
تُرَوِّي عِظَامِي فِي الْمَمَاتِ عُرُوقُهَا
(1)
في الفرق بين الخوف والحزن انظر: القرطبي (1/ 329)، الكليات ص 428.
(2)
الكليات ص 429، الخزانة (3/ 550 - 551)، الدر المصون (2/ 264 - 265).
(3)
البيتان في الخزانة (3/ 550)، الدر المصون (2/ 265)، الكامل لابن الأثير (2/ 331)، الإصابة (4/ 175).
وَلَا تَدْفِنَنِّي بِالْفَلَاةِ فَإِنَّنِي أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَلَاّ أَذُوقَهَا
لأنه هو عَالِمٌ بأنه إذا مَاتَ لَا يشربُ الخمرَ في قبرِه أبدًا، فقوله:«أخاف» أَطْلَقَ الخوفَ في شيءٍ هو عَالِمٌ به علمًا يقينًا؛ ولذا قال هنا: {فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} يعني: لَا يَغْتَمُّونَ من أمرٍ مستقبلٍ؛ لأن مستقبلَهم كُلَّهُ طيبٌ، ليس يُترقبُ فيه شيءٌ فيه أَذِيَّةٌ، وإنما فيه الفرحُ والسرورُ، ولا يحزنونَ على شيءٍ فائتٍ؛ لأنهم لم يَفُتْهُمْ شيءٌ إلا وعندهم أضعافُ أضعافِه من أنواعِ النعيمِ، فلا يفوتُهم مطلبٌ يحزنونَ عليهِ، ولا يخافونَ من ضررٍ ولا غَمٍّ مستقبلٍ يخافونَ منه.
وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ نَحْوِيٌّ، وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ:{لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} أُهْمِلَتْ (لا) هنا ولم تَعْمَلْ، فَلِمَ لَا يقولُ:«لَا خَوْفَ عليهم» كما قال: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} [البقرة: آية 197]؟
والجوابُ عن هذا
(1)
: أن (لَا) لا تعملُ إلا في النكراتِ، سواء قلنا إنها التي لنفيِ الجنسِ، أو قلنا إنها العاملةُ عملَ (ليس)، والجملةُ الأخيرةُ:{وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} المبتدأُ فيها ضميرٌ، والضمائرُ معارفُ، فلا يجوزُ أن تعملَ فيها (لا) بِكُلِّ حالٍ، فلما مُنِعَ عَمَلُهَا في الجملةِ الثانيةِ لمكانِ الضميرِ وهو مُعَرَّفٌ، وامتنعَ عملُها فيها، أُلغِيَ عملُها في الأُولَى لتنسجمَ الجملتانِ وَتَتَّفِقَا في الإهمالِ دونَ الإعمالِ.
[4/أ] / {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأنعام: آية 49].
(1)
انظر: القرطبي (1/ 329).
هذا هو القِسْمُ الثاني الذي فيه الإنذارُ {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: جحدوا آياتِ هذا القرآنِ العظيمِ، وزعموا أنه أساطيرُ الأَوَّلِينَ، أو أنه سحرٌ أو شعرٌ أو من كهانةِ الكهانِ. الذين كفروا هذا الكفرَ، وهم أظلمُ الناسِ كما تَقَدَّمَ في قولِه:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: آية 21].
{أُولَئِكَ} هؤلاء الذين هذه صفتُهم {يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} والمسيسُ معناه: وقوعُ الشيءِ على الشيءِ مباشرةً من غيرِ أن يَحُولَ بَيْنَهُمَا حائلٌ. وَعبَّرَ بالمسيسِ ليبينَ أن حَرَّ ذلك العذابِ وَأَلَمَهُ يباشرهم مباشرةً عظيمةً شديدةً من غيرِ حائلٍ، كما يَأْتِي في قولِه:{تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة: آية 7] لأنها تُبَاشِرُ الأجسامَ، وتغوصُ فيها حتى تحرقَ سويداءَ القلبِ، وداخلَ جسمِ الإنسانِ؛ ولذا قال:{يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} [الأنعام: آية 49] أي: عذابُ اللَّهِ، وعذابُ اللَّهِ (جل وعلا) لا يماثلُه عذابٌ {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)} [الفجر: الآيتان 25 - 26].
وقوله: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الباء) سببيةٌ، و (ما) مصدريةٌ. والمعنى: يَمَسُّهُمُ العذابُ بسببِ كونِهم كانوا فَاسِقِينَ في دارِ الدنيا.
و (الفسقُ) في لغةِ العربِ: الخروجُ. وهو في اصطلاحِ الشرعِ: الخروجُ عن طاعةِ اللَّهِ
(1)
.والعربُ كُلُّ ما خرجَ إنسان عن شيء سَمَّتْهُ (فاسقًا). ومنه قولُ رؤبةَ بنِ العجاجِ
(2)
:
يَهْوَيْنَ فِي نَجْدٍ وَغَوْرًا غَائِرَا
…
فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا جَوائِرَا
(1)
مضى عند تفسير الآية (59) من سورة البقرة.
(2)
السابق.
لأنه يذكر مراكبَ ضَلَّتْ طريقَها التي كانت تمشي عليها، فقال:«فَوَاسِقًا عَنْ قَصْدِهَا» أي: خوارجَ عن الطريقِ التي كانت تَقْصِدُهَا. هذا أصلُ (الفسقِ) في لغةِ العربِ.
وهو في اصطلاحِ الشرعِ: الخروجُ عن طاعةِ اللَّهِ. والخروجُ عن طاعةِ اللَّهِ جنسٌ تحتَه نوعانِ:
أحدُهما: الخروجُ الذي هو أكبرُ أنواعِ الخروجِ وأعظمُها، وهو: الخروجُ عن طاعةِ اللَّهِ بالكفرِ الصُّراحِ. هذا أكبرُ أنواعِ الفسقِ. وكثيرًا ما يُطْلَقُ في القرآنِ اسمُ (الفسقِ) على هذا؛ لأنه صَرَّحَ بأنهم كَذَّبُوا بآياتِ اللَّهِ، وهذا أعظمُ الكفرِ، ثم سَمَّى هذا الكفرَ فِسْقًا بقولِه:{بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} لأنه أعظمُ أنواعِ الخروجِ عن طاعةِ اللَّهِ. ومنه بهذا المعنى قولُه: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: آية 20] هذا الفسقُ بمعنَى الخروجِ الأكبرِ، أي: الخروج عن طاعةِ اللَّهِ بالكفرِ والعياذِ بالله.
النوعُ الثاني من أنواعِ الفسقِ: هو خروجٌ دونَ خروجٍ، وفسقٌ دونَ فسقٍ، بأن يخرجَ الإنسانُ عن طاعةِ اللَّهِ إلى المعصيةِ، خروجًا لا ينقلُه من اسمِ الإسلامِ إلى الكفرِ، كارتكابِ الكبيرةِ. ومنه بهذا المعنى قولُه في الْقَاذِفِينَ:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور: آية 4] فهذا القذفُ خروجٌ عن طاعةِ اللَّهِ، ولم يبلغ بصاحبِه الكفرَ، بدليلِ قولِه:{إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ} [النور: آية 11] ولم ينقلهم عن اسمِ المسلمين بسببِ قَذْفِهِمْ. ولا يُقَالُ: إن عبدَ اللَّهِ بنَ أُبَيٍّ منهم، وإنه منافقٌ كافرٌ؛ لأَنَّ دينَ الإسلامِ يحكمُ له بشهادةِ أن
لَا إلهَ إلَاّ اللَّهُ في الظاهرِ، فكانَ يحضرُ جُمُعَاتِ المسلمينَ وجماعاتِهم باسمِ الإسلامِ، فاللَّهُ (جل وعلا) يقبلُ من المنافقين كلمةَ (لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ) ظاهرًا، كما أرادوا أن يخدعوه فهو يخدعُهم حيثُ يَقْبَلُهَا منهم ظاهرًا في الدنيا، وهو يُعِدُّ لهم في الآخرةِ الدركَ الأسفلَ من النارِ، كما في قولِه:{إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: آية 142].
ومن هذا النوعِ من الفسقِ الذي لم يُخْرِجْ عن دينِ الإسلامِ: قولُه في قصةِ الوليدِ بنِ عقبةَ بنِ أَبِي مُعَيْطٍ لَمَّا كَذَبَ على بَنِي المصطلقِ
(1)
:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية
(1)
القصة مشهورة، وقد رواها عدد من الصحابة والتابعين، إلا أن جميع طرقها لا تخلو من ضعف. وإليك من نُقلت عنهم هذه القصة على سبيل الاختصار:
1 -
الحارث بن ضرار: عند أحمد (4/ 279)، والطبراني في الكبير (3/ 274)، وابن أبي حاتم في التفسير (10/ 3303)، والواحدي في أسباب النزول ص391، وابن عساكر في تاريخ دمشق (مختصر ابن منظور)(26/ 337)، وانظر: الهيثمي في المجمع (7/ 108)، تفسير ابن كثير (4/ 208 - 209)، الكافي الشاف ص156، (وعزاه لأحمد وابن مردويه)، الإصابة (1/ 281)، (3/ 638)، الدر المنثور (6/ 87)، (وعزاه لأحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه) تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (3/ 333).
2 -
علقمة بن ناجية. عند الطبراني في الكبير (18/ 6 - 7)، وانظر: مجمع الزوائد (7/ 109 - 110)، الإصابة (2/ 506)، أُسد الغابة (4/ 88)، الدر المنثور (6/ 88)، (وعزاه لابن منده والطبراني وابن مردويه).
3 -
جابر بن عبد الله. عند الطبراني في الأوسط (4/ 477 - 478)، وانظر: مجمع الزوائد (7/ 110)، الكافي الشاف ص156، تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي (3/ 334)، الدر المنثور (6/ 88)، الفتح السماوي (3/ 1002).
4 -
أم سلمة. عند الطبراني في الكبير (23/ 400 - 401)، وراجع (23/ 290)،
…
وابن جرير (26/ 123)، وانظر: الهيثمي في المجمع (7/ 110)، تفسير ابن كثير (4/ 209)، الكافي الشافي ص156، (وعزاه لإسحاق والطبراني)، والزيلعي في تخريج أحاديث الكشاف (3/ 332)، الدر المنثور (6/ 88)، (وعزاه لإسحاق بن راهويه وابن جرير والطبراني وابن مردويه)، الفتح السماوى (3/ 1001).
5 -
ابن عباس. عند عبد الرزاق في التفسير (2/ 231)، والبيهقي في السنن الكبرى (9/ 54)، وابن جرير (26/ 123 - 124)، وانظر: ابن كثير (4/ 209)، الدر المنثور (6/ 88)، (وعزاه لابن جرير وابن مردويه والبيهقي في السنن وابن عساكر).
6 -
مجاهد. عند ابن جرير (26/ 124)، البيهقي في الكبرى (9/ 55)، وانظر: مجمع الزوائد (7/ 111)، (وعزاه للطبراني)، الاستيعاب (3/ 632)، ابن كثير (4/ 210)، الإصابة (3/ 638)، الدر المنثور (6/ 88)، (وعزاه لآدم وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والبيهقي).
7 -
قتادة عند ابن جرير (26/ 124)، وانظر: الاستيعاب (3/ 632)، تفسير ابن كثير (4/ 210)، الإصابة (3/ 637 - 638)، الدر المنثور (6/ 89)، (وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير).
8 -
عكرمة. انظر: الإصابة (3/ 638)، الدر المنثور (6/ 89)، (وعزاه لعبد بن حميد).
9 -
ابن أبي ليلى: انظر: الاستيعاب (3/ 632).
وهو مروي عن غير هؤلاء مثل: يزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل بن حيان، كما في ابن جرير (26/ 124)، عبد الرزاق في التفسير (2/ 231)، وابن كثير (4/ 210).
[الحجرات: آية 6].
وهذا معنى قولِه: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأنعام: آية 49] ومسيسُ العذابِ هذا: هو الذي
أَنْذَرَتْهُمُ به الرسلُ في دارِ الدنيا إن لَمْ يُقْلِعُوا عن ذلك التكذيبِ والكفرِ، كما في قولِه هنا:{وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [الأنعام: آية 48].
أولُ الرسلِ الذين أُرْسِلُوا إلى أهلِ الأرضِ بعدَ أن وقعَ فيهم الكفرُ والشركُ بِاللَّهِ: هو نَبِيُّ اللَّهِ نوحٌ، كما قَدَّمْنَا في قولِه:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: آية 163].
فَدَلَّ على أنه أولُ ذلك النوعِ الذي يُرْسَلُ إلى الناسِ بعدَ أن كَفَرُوا، وآخرُهم: محمدٌ صلى الله عليه وسلم. فَاللَّهُ قال لأَوَّلِهِمْ في سورةِ هودٍ: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} [هود: آية 31] ومثلُ هذه القصةِ بعينِها كانت فيما أُنْزِلَ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم حيث قَالَ: {قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [الأنعام: آية 50] قل لهم يَا نَبِيَّ اللَّهِ: لَا أَدَّعِي لكم دَعْوى بعيدةً ولا كاذبةً، ولا أَخْرُجُ لكم عن طَوْرِي وَحَقِيقَتِي، لا أقولُ لكم: إن عندي خزائنَ اللَّهِ.
والخزائنُ: جمعُ الخزانةِ، وهي المحلُّ الذي تُخْزَنُ فيه الأرزاقُ ونحوُها
(1)
، فخزائنُ الملوكِ مثلاً: المحلُّ الذي يجعلونَ فيه العدةَ من الطعامِ والسلاحِ وما جَرَى مجرَى ذلك. وَكُلُّ شيءٍ عندَ اللَّهِ في خزانةٍ؛ [لأن الأشياءَ كُلَّهَا في خزائنِ اللَّهِ]
(2)
(1)
انظر: المفردات (مادة: خزن) ص 280، القرطبي (6/ 430).
(2)
في الأصل: ((لأن الله جميع الأشياء كلها في خزائنه)).
(جل وعلا)، كما سيأتي في قولِه:{وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَاّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: آية 21] لا أقولُ لكم: إِنَّ بِيَدِي الأرزاقُ والآياتُ، وما اقترحتُم من كُلِّ شيءٍ، وخزائنُ الأمورِ ليست بِيَدِي، وإنما هي بيدِ اللَّهِ، وإنما أنا عبدٌ أُرْسِلْتُ إليكم [لأُبَشِّرَ] مَنْ أَطَاعَنِي بالجنةِ، [وَأُنْذِرَ] مَنْ عَصَانِي بالنارِ
(1)
، وأبلغُكم رسالاتِ رَبِّي، وأوضحُ لكم طريقَ الخيرِ والشرِّ، وأقيمُ لكم المعجزاتِ الواضحاتِ التي لا تَتْرُكُ لِمُنْصِفٍ في صِدْقٍ شَيْئًا؛ وَلِذَا قال:{قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ} الجمهورُ مِنَ العلماءِ على أن هذا معطوفٌ على ما قَبْلَهُ
(2)
، وأنه من جملةِ مَا أُمِرَ أن يقولَه. وتقريرُ المعنى: قُلْ لهم أيضًا: لا أَعْلَمُ الغيبَ. كما قال اللَّهُ له: {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: آية 188]{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} بل أقولُ لكم: إني رجلٌ ابنُ رجلٍ وابنُ امرأةٍ، أذهبُ إلى السوقِ، وأشتري منه حَاجَتِي.
لأنهم قالوا: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: آية 7] كيف يُرْسِلُ اللَّهُ مَنْ يَأْكُلُ ويشربُ، ويروحُ إلى السوقِ؟ وَاللَّهُ يقولُ:{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَاّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: آية 20]{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَاّ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} [الأنبياء: آية 8] هذه سنةُ اللَّهِ في رُسُلِهِ.
(1)
في الأصل: «لأنذر من أطاعني بالجنة، وأبشر من عصاني بالنار» وهو سبق لسان.
(2)
انظر: البحر المحيط (4/ 134)، الدر المصون (4/ 638).
وقولُه: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} كان المعتزلةُ يَسْتَدِلُّونَ بظاهرِ هذه الآيةِ على أن الملائكةَ أفضلُ من الآدميين
(1)
؛ لأن هذه كأنها مناصبُ عاليةٌ. لا أقولُ لكم إِنِّي في رتبةٍ إلهيةٍ، بحيثُ تكونُ عندي خزائنُ السماواتِ والأرضِ، وأعلمُ الغيبَ، ولَا أَدَّعِي لكم الرتبةَ الأُخْرَى الكبيرةَ، التي هي رتبةُ الْمَلَكِ.
وأكثرُ العلماءِ على أن خِيارَ الرسلِ من الآدميين أفضلُ مِنَ الملائكةِ
(2)
.
وهذا النوعُ من الخلافِ والبحثِ مِمَّا فِيهِ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» ؛ لأننا لم نُؤْمَرْ به، ولم نُكَلَّفْ به، والخوضُ فيه لا حاجةَ لنا فيه، ولا لنا من ورائِه نَفْعٌ.
وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا: أن أكثرَ العلماءِ على أن أصلَ المادةِ اللغويةِ التي منها (المَلَكُ)
(3)
أنها: (أَلَكَ) ففاءُ الفعلِ همزةٌ، وعينُها لامٌ، ولَامُهَا كافٌ، (أَلَكَ) وأصلُ هذه المادةِ، مادة (الهمزةِ واللامِ والكافِ) معناها: الرسالةُ. والأَلُوكَةُ: الرسالةُ، وَالْمَالُكَةُ: الرسالةُ.
(1)
انظر: الكشاف (2/ 15).
(2)
في هذه المسألة انظر: الحجة في بيان المحجة (2/ 387)، القرطبي (1/ 289)، (6/ 430)، (9/ 27)، (10/ 294 - 295)، (11/ 278)، (20/ 145)، مجموع الفتاوى (4/ 350 - 393)، (10/ 300)، بدائع الفوائد (1/ 66)، (3/ 163)، شرح الطحاوية (410 - 423)، البداية والنهاية (1/ 54)، منهج الجدل والمناظرة (1/ 521).
(3)
انظر: ابن جرير (1/ 444 - 447)، القرطبي (1/ 262 - 263)، اللسان (مادة: ألك) (1/ 84 - 85)، الدر المصون (1/ 249 - 251)، معجم مفردات الإبدال والإعلال (248 - 250).
وَغُلَامٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ
(1)
والعربُ تقولُ: (أَلِكْنِي إليها): (احْمِلْ إليها مَأْلَكَتِي) أي: رِسَالَتِي فَبَلِّغْهَا عَنِّي، ومنه قولُ أبِي ذؤيبٍ الْهُذَلِيِّ
(2)
:
أَلِكْنِي إِلَيْهَا وَخَيْرُ الرَّسُو لِ، أَعْلَمُهُمْ بِنَوَاحِي الْخَبَرْ
وعلى هذا فأصلُ المَلَكِ: (مَأْلَك) على وزن (مفْعَل) من (الأَلُوكَة) وهي: الرسالةُ. فَدَخَلَهُ القلبُ الصرفيُّ المعروفُ، وهو جعلُ العينِ مكانَ الفاءِ، والفاءِ مكانَ العينِ، فَجُعِلَتِ الهمزةُ التي كانت موضعَ الفاءِ في موضعِ العينِ، فصارَ:(مَلْأَكَ)، ووزنُ (المَلْأَك) بالميزانِ الصرفيِّ:(مَعْفَل) لأن العينَ جاءت في موضعِ الفاءِ، والفاءَ في موضعِ العينِ. وربما نَطَقَتِ العربُ به على هذا القلبِ بلفظِ (مَلأَك)، كقولِ الشاعرِ
(3)
:
وَلَسْتَ لإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلأَكٍ تَحَدَّرَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
فَخُفِّفَتِ همزةُ المَلْأَكِ، وَأُلْقِيَتْ حركتُها على اللامِ، فقيلَ:(مَلَك).كما تسقطُ في قولِه: (سَلْهُمْ). أصلُها: (اسألهم). ومما
(1)
البيت للبيد، وهو في ابن جرير (1/ 446)، القرطبي (1/ 262)، اللسان (مادة: ألك) (1/ 85)، الدر المصون (1/ 250).
(2)
البيت في ابن جرير (13/ 7)، القرطبي (7/ 255)، اللسان (مادة: ألك) (1/ 85).
(3)
نسبه بعضهم لعلقمة بن عبدة، وبعضهم نسبه إلى غيره. وهو في الكتاب (4/ 380)، المفضليات ص 394، ابن جرير (1/ 333)، القرطبي (1/ 263)، الدر المصون (1/ 250)، اللسان (مادة: ألك) (1/ 85) ولفظه في بعض هذه المصادر:
ولَسْتَ لإِنْسِيٍّ ولكنْ لمَلأكٍ
…
تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
يدلُّ على أن أصلَه: (مَأْلَك)، وأن الهمزةَ أَصْلُهَا فيه؛ لأنه يُجْمَعُ على (ملائكةٍ) فتأتي الهمزةُ التي خُفِّفَتْ من الأصلِ. هذا أصلُه عند جمهورِ العلماءِ، وَمَنْ يقولُ: إن أصلَه من (المَلَك) قولٌ ضعيفٌ.
وعلى هذا الذي قَرَّرْنَا، فَوَزْنُ (الْمَلَكِ) حَالِيًّا:(مَعَل) لأن الفاءَ المزحلقةَ إلى مكانِ العينِ ساقطةٌ منقولةٌ حَرَكَتُهَا. فوزنُه (مَعَل) بإسقاطِ الفاءِ، قالوا: وَإِنَّمَا سُمِّيَ المَلَك مَلَكًا من (المَأْلُكة) وهي الرسالةُ؛ لأن الملائكةَ عبادُ اللَّهِ الْمُكَرَّمُونَ، الذين يَحْمِلُونَ مَآلِكَ اللَّهِ، أي: رسالاتِه، كما يأتي في قولِه:{فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: آية 5] فمنهم مَنْ يُرْسَلُ لتكثيرِ الريحِ، ومنهم من يُرْسَلُ لتكثيرِ المطرِ، ومنهم من يُرْسَلُ لقبضِ الأرواحِ، ومنهم مَنْ يُرْسَلُ لحفظِ الأعمالِ، ومنهم مَنْ يُرْسَلُ لحفظِ الآدميين لئلا تتخطفَهم الشياطين، كما يأتي، في أحدِ التفسيراتِ في قولِه:{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} [الرعد: آية 11].
وقولُه جل وعلا: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} (إِنْ) هنا هي النافيةُ. والمعنى: ما أَتَّبِعُ إلا ما أَوْحَاهُ رَبِّي إِلَيَّ، لا أزيدُ عليه، ولا أَخْرُجُ عن طَوْرِي، فأنا رسولٌ كريمٌ، أَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ أن أُنْذِرَكُمْ وَأُبَشِّرَكُمْ، وأنا أتبعُ ما يُوحَى إِلَيَّ، فَمَنْ أطاعَني دخلَ الجنةَ، ومن عَصَانِي دخلَ النارَ.
وبهذه الآيةِ وأمثالِها في القرآنِ يتمسكُ الظاهريةُ بأن القياسَ لا يجوزُ في الشرعِ
(1)
. قالوا: لأن النبيَّ قال: ما أتبعُ إلا مَا يُوحَى
(1)
انظر: القرطبي (7/ 171 - 173)، وسيأتي للشيخ رحمه الله بحث مطوَّل في هذه المسألة عند الكلام على الآية (12)، من سورة الأعراف.
إِلَيَّ. فحصرَ الاتباعَ في المُوحَى إليه، واللَّهُ يقولُ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: آية 21] فَعَلَيْنَا أن لا نتبعَ إلا خُصوصَ الوحيِ، ولا نخرج عنه إلى رَأْيٍ. وأمثالُ هذا من الآياتِ التي يستدلُّ بها الظاهريةُ كثيرةٌ جِدًّا
(1)
.
ونحن نقولُ: إن الجوابَ: أَنَّا لا نخرجُ عمَّا يُوحَى، إلا أَنَّ مَا يُوحَى منه ما هو منصوصٌ به ظاهرٌ، ومنه ما هو مفهومٌ من حُكْمِ المنصوصِ به، ولا خروجَ في هذا عن حُكْمِ الوحيِ؛ لإجماعِ العقلاءِ على أن نظيرَ الحقِّ حق، ونظيرُ الباطلِ باطلٌ، فالشرعُ قد يَذْكُرُ الشيءَ ويسكتُ عن نظيرِه المماثلِ له في علةِ الحكمِ فَيَفْهَمُ العقلاءُ أنه مثلُه، وهذا الجمودُ الذي يَدَّعِيهِ ابنُ حزمٍ متمسكًا بعشراتِ أو مئاتِ الآياتِ من هذا النوعِ، يقول: كُلُّ ما نَصَّ عليه اللَّهُ فحكمُه ظاهرٌ، وما لم يَأْتِ في نَصٍّ مِنْ كتابِ اللَّهِ ولا سُنَّةِ نَبِيِّهِ فهو مسكوتٌ عنه وهو عَفْوٌ، ولا لنا أن نبحثَ عنه، ولا نسألَ عنه؛ لأن اللَّهَ سَكَتَ عنه غيرَ نسيانٍ، بل سَكَتَ عنه رحمةً بنا، فليس لنا أن نبحثَ عنه.
هذا الذي يقولُه ابنُ حَزْمٍ، ويستدلُّ عليه بعشراتِ الآياتِ، نحن نقولُ بِمُوجَبِهِ. ومعنى:(نقولُ بمُوجَبِهِ) أننا نقدحُ فيه بالقادحِ المعروفِ في عِلْمِ الأصولِ بـ (القولِ بالمُوجَبِ)
(2)
،
وهو أن نقولَ: أنتَ صادقٌ فيما قلتَ، ولكن هذا لا حجةَ لكَ فيه، ولا يقطعُ نزاعَنا معكَ. والمعنَى: نحنُ نُصَدِّقُكَ بأن اللَّهَ أباحَ أشياءَ، وحرَّم أشياءَ،
(1)
انظر: الإحكام ص 946، المحلى (1/ 56).
(2)
وهو بفتح الجيم وبالكسر، وهو نفس الدليل؛ لأنه الموجِبُ للحكم.
وفي الاصطلاح: تسليم مقتضى الدليل مع بقاء النزاع في الحكم. انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 339 - 340)، نثر الورود (2/ 541).
وسكتَ عن أشياءَ رحمةً بنا لا نِسْيَانًا، والتي سكتَ عنها ليس لنا البحثُ عنها، وهي عَفْوٌ، ولكن هذا الذي تقولُ أنتَ: إن اللَّهَ سكتَ عنه نحنُ نقولُ: أنتَ في هذا لستَ بِمُصِيبٍ، بل اللَّهُ لم يسكت عنه، بل بَيَّنَ حكمَه بذلك الشيءِ الذي نَصَّ عليه، وأمثالُ هذا كثيرةٌ في كتابِ اللَّهِ وفي سُنَّةِ نَبِيِّهِ، فنحن معاشرَ عامَّةِ المسلمين نعلمُ أن اللَّهَ (جل وعلا) لَمَّا قال في الوالدين:{فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} ابنُ حزمٍ يقولُ: ضَرْبُ الوالدين مسكوتٌ عنه، ولم تَدُلَّ هذه الآيةُ على مَنْعِهِ
(1)
!! ونحنُ نقولُ: هذا غيرُ صحيحٍ، بل آيةُ:{فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: آية 23] لَيْسَتْ ساكتةً عن ضربِ الوالدين؛ لأن النهيَ عن التأفيفِ يُفْهَمُ منه قطعًا من دلالةِ هذه الآيةِ أنه أَحْرَمُ وَأَحْرَمُ وَأَحْرَمُ؛ لأنه أشدُّ إيذاءً، كذلك حديثُ أبي بكرةَ الثابتُ في الصحيحين، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»
(2)
. صَرَّحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ الصحيحِ أن
القاضيَ في وقتِ الغضبِ لا يجوزُ له أن ينظرَ في قضايا الناسِ؛ لأن الغضبَ أمرٌ مُشَوِّشٌ للفكرِ، لا يتمكنُ معه القاضي من استيفاءِ النظرِ في الحقوقِ، فَلَوْ حَكَمَ في ذلك الوقتِ فهو مظنةٌ لضياعِ حقوقِ الناسِ، وسكتَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في هذا الحديثِ الصحيحِ عما لو كان القاضي مُشَوَّشَ الفكرِ تَشْوِيشًا أعظمَ مِنَ الغضبِ، كَأَنْ كانَ في حزنٍ أو سرورٍ مُفْرِطَيْنِ، أو كان في جوعٍ
(1)
انظر: الأحكام لابن حزم ص 932.
(2)
أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب الأحكام، باب: هل يقضي القاضي أو يفتي وهو غضبان؟ حديث رقم: (7158)، (13/ 136)، مسلم، كتاب: الأقضية، باب: كراهة قضاء القاضي وهو غضبان. حديث رقم (1717)، (3/ 1342).
أو عطشٍ مُفْرِطَيْنِ، أو كان في حقنٍ أو حقب مُفْرِطَيْنِ؛ فإنه ينالُ من شدةِ العطشِ، ومن شدةِ الجوعِ، ومن شدةِ الحزنِ، ومن شدةِ السرورِ، ومن شدةِ الحقنِ (وهو - بالنونِ -: مدافعةُ البولِ. والحَقْب - بالباءِ -: مدافعةُ الغائطِ، إذا كان في هيجانٍ شديدٍ للخروجِ). هذه الأشياءُ تشوشُ فكرَ الإنسانِ حتى لا يبقَى له نظرٌ تشويشًا أشدَّ من الغضبِ.
فيقولُ ابنُ حزمٍ: هذه مسكوتٌ عنها، فالحكمُ في وقتِها عَفْوٌ!!
ونحن نقولُ: لَا وَاللَّهِ، ليست مسكوتًا عنها؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَبَّهَ على أن القاضيَ في وقتِ الغضبِ لا يجوزُ له أن يحكمَ عَرَفْنَا أن هذا الحديثَ في معنَى: أن كُلَّ مُشَوِّشٍ للفكرِ يَمْنَعُ من استيفاءِ النظرِ، ويؤدي إلى ضياعِ حقوقِ الناسِ أن الحكمَ في وقتِه ممنوعٌ، كذلك صَحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه نَهَى عن البولِ في الماءِ الراكدِ
(1)
، وسكتَ عما لو بالَ في قارورةٍ وَصَبَّهَا في الماءِ من القارورةِ. فَمُقْتَضَى ما يقولُه ابنُ حزمٍ: أنه لو قَطَّرَ فيه قطراتٍ قليلةً من ذَكَرِهِ مباشرةً: هذا منطوقٌ به، ولو صَبَّ فيه مئاتِ الأطنانِ من الأَوَانِي: أن هذا مباحٌ ومسكوتٌ عنه!! وهذا هَوَسٌ لا يقولُه عاقلٌ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم إنما نَهَى عنه لأَنَّ البولَ يُقَذِّرُهُ، وصَبُّهُ فيه من الإناءِ لا فرقَ بينَه وبينَ بولِه فيه مباشرةً.
(1)
أخرجه الشيخان بألفاظ متقاربة، انظر: البخاري، كتاب الوضوء، باب البول في الماء الدائم، حديث رقم (239)، (1/ 346)، مسلم، كتاب الطهارة، باب: النهي عن البول في الماء الراكد، الحديثان (281، 282)، (1/ 235).
مثلاً النبيُّ صلى الله عليه وسلم نَهَى الإنسانَ عن أن يُضَحِّيَ بالشاةِ العوراءِ
(1)
،
(1)
جاء ذلك من حديث علي، والبراء، وعتبة بن عبد السلمي رضي الله عنهم.
أما حديث علي رضي الله عنه فهو قوله: «أَمَرَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَسْتَشْرِف العين والأذن، ولا نضحي بعوراء ولا مُقَابَلَة ولا مُدَابَرَة ولا خَرْقَاء ولا شَرْقَاء» . وقد أخرجه أحمد (1/ 80، 801، 95، 105، 125، 132، 149، 152)، والدارمي (2/ 4)، وأبو داود في الضحايا، باب ما يُكره من الضحايا، حديث رقم:(2787)، (7/ 508)، والترمذي في الأضاحي، باب ما يُكره من الأضاحي، حديث رقم:(1498)، (4/ 86)؛ وأخرجه في موضع آخر برقم (1503)، والنسائي في الضحايا، باب المدَابَرة، حديث رقم:(4373)، (7/ 216)، وأخرجه في موضع آخر برقم:(4375)، وابن ماجه في الأضاحي، باب ما يُكره أن يُضَحَّى به، حديث رقم:(3143)، (2/ 1050)، وابن خزيمة (2914، 2915)، والطحاوي في شرح المعاني (4/ 169، 170)، والحاكم (4/ 224، 225) وصححه، والبيهقي (9/ 275). بعضهم يرويه مختصرا فيقتصر على صدر الحديث، وهو قوله:«أَمَرَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نَسْتَشْرِف العين والأذن» . وبعضهم يرويه بتمامه (على اختلاف في بعض ألفاظه). وإنما صحَّ من هذا الحديث صدره، دون قوله: «ولا نضحي بعوراء
…
) إلخ. انظر: صحيح أبي داود (2/ 539)، وضعيفه ص 274، صحيح النسائي (3/ 914)، وضعيفه ص 177، 178، وصحيح ابن ماجه (2/ 202)، وضعيفه ص 249، وضعيف الترمذي ص 175 - 176، الإرواء (4/ 362)، التعليق على المشكاة (1463)، التعليق على ابن خزيمة (2915).
وأما حديث البراء رضي الله عنه فهو قوله صلى الله عليه وسلم: «أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء بَيِّنٌ عَوَرُها، والمريضة بَيِّنٌ مرضها، والعرجاء بين ظَلَعُها، والكسير التي لا تُنقى» . وهو حديث ثابت صحيح أخرجه مالك (1035)، والطيالسي ص 102، وأحمد (4/ 284، 289، 300، 301)، والدارمي (2/ 4)، وأبو داود في الضحايا، باب ما يكره من الضحايا، حديث رقم:(2785)، (7/ 505)، والترمذي في الأضاحي، باب ما لا يجوز من الأضاحي، حديث رقم:(1497)، (4/ 85)، والنسائي في الضحايا، باب ما نُهي عنه من الأضاحي، حديث رقم:(4369)، (7/ 214) وأخرجه في موضعين آخرين برقم:(4370، 4371)، وابن ماجه في الأضاحي، باب ما يُكره أن يُضَحَّى به (2144)، (2/ 1050)، وابن خزيمة (2912)، والطحاوي في شرح المعاني (4/ 168، 169)، وابن حبان (الإحسان):(5889، 5891 - 5892)، والحاكم (1/ 467) وصححه، والبيهقي (5/ 242)، (9/ 274) وابن الجارود (481، 907). وانظر: صحيح أبي داود (2/ 539)، صحيح الترمذي (2/ 88)، صحيح النسائي (3/ 913، 914)، صحيح ابن ماجه (2/ 202)، الإرواء (4/ 360 - 361). وأما حديث عُتْبَة بن عَبْد السلمي رضي الله عنه وفيه:«إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المُصْفَرَّة والمُسْتَأْصَلَة، والبَخْقَاء، والمُشَيِّعَة، والكَسْرَاء» . والبَخْقَاء: هي التي تبخق عينها، أي يذهب بصرها. وقد أخرجه أبو داود في الضحايا، باب ما يُكره من الضحايا، حديث رقم:(2786)، (7/ 506)، والحاكم (4/ 225) وصححه، والبيهقي (9/ 275). وهو ضعيف الإسناد. وانظر: ضعيف أبي داود ص 274.
وسكتَ
عن الشاةِ العمياءِ، فلا نقولُ: إن الشاةَ العمياءَ عفوٌ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يُضحِّيَ بها؛ لأنّا نقولُ: إن النصَّ المانعَ من التضحيةِ بالعوراءِ يُعْرَفُ منه حكمُ العمياءِ.
وهذا - لو تَتَبَّعْنَا - أمثالُه كثيرةٌ في كتابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَاسْتَدَلَّ بعضُ العلماءِ - من علماءِ الأصولِ - بآيةِ الأنعامِ هذه على أحدِ قَوْلَيْنِ؛ في مسألةٍ اختلفَ فيها العلماءُ؛ لأنه معلومٌ في علمِ الأصولِ أن العلماءَ مُخْتَلِفُونَ: هل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يمكنُ أن يجتهدَ في شيءٍ، أو لا يجتهدُ في شيءٍ؟
(1)
.
(1)
انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 475)، نثر الورود (2/ 629 - 631).
فالذين قالوا: الاجتهادُ ممنوعٌ عليه استدلوا بهذه الآيةِ من سورةِ الأنعامِ، وآيةِ النجمِ وما جرى مَجْرَاهُمَا. قالوا: لأن النبيَّ قال: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: آية 50] فَحَصَرَ ما يُتَّبَعُ في الوحيِ، وهذا يمنعُ الاجتهادَ، وأنه لا سبيلَ إلى الاجتهادِ.
وآيةُ النجمِ التي أَشَرْنَا إليها هي قولُه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3 - 4].
فَأَجَابُوا عن هذا قَالُوا: وَقَعَتْ وقائعُ تدلُّ على الاجتهادِ في الجملةِ، كما دَلَّتْ عليه آياتٌ من كتابِ اللَّهِ، كقولِه في سورةِ الأنفالِ: قال له اللَّهُ (جل وعلا) لَمَّا اجتهدَ في أُسَارَى أهلِ بدرٍ ولم يَقْتُلْهُمْ، قال اللَّهُ - كأنه لائمٌ له، مُقَرِّعٌ له -:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ} [الأنفال: آية 67] فقولُه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} قالوا: دليلٌ على أنه أَسَرَ الأسارى اجتهادًا منه، ولو كان بِوَحْيٍ لَمَا لَامَه اللَّهُ هذا اللومَ. وكقولِه في براءة:{عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: آية 43] فلو كان ذلك العفوُ بِوَحْيٍ لَمَا قال له: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} قالوا: هذه النصوصُ وأمثالُها معناه: أنه يفعلُ بعضَ الأمورِ من غيرِ وحيٍ صريحٍ، بل باجتهادٍ منه.
وكان بعضُ العلماءِ يقولُ: أَمَّا ما يقولُ: إنه يُوحَى إليه، فلا شَكَّ أنه وَحْيٌ من اللَّهِ، وهو الذي فيه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَاّ وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3 - 4].
وأظهرُ الأقوالِ: أن الشرعَ والتحليلَ والتحريمَ، أنه لا يُحْكَمُ
فيه إلا بالوحيِ، كما جَاءَتْ قصصٌ متعددةٌ أنه إذا جاءَه الأمرُ لا وحيَ فيه: كَفَّ عنه وَأَحْجَمَ، ينتظرُ حكمَ اللَّهِ فيه، حتى يأتيَه الوحيُ فيه، وأن مثلَ الحروبِ كما ذَكَرْنَا في قصةِ بدرٍ، وَمَنْ أُسِرَ منهم هنالكَ، والأمور الدنيوية، أنه ربما يفعلُ فيها الأمرَ، ولا يفعلُه إلا جائزًا؛ لدلالةِ ظواهرِ الشرعِ عليه. إلا أنه رُبَّمَا يكون غيرُه أَوْلَى منه؛ ولهذا يقولُ اللَّهُ: لِمَ فَعَلْتَ كذا؟ من حيثُ إن غيرَه أَوْلَى منه، وإن كان جائزًا. وهذا معنَى قولِه:{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} .
ثم أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أن يقولَ: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [الأنعام: آية 50]. الله تبارك وتعالى ذَكَرَ طائفتين من الناسِ، طائفةٌ ذَكَرَهَا في قولِه:{فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأنعام: آية 48] وطائفةٌ ذَكَرَهَا بقولِه: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ} [الأنعام: آية 49] فهؤلاء الذين عَمُوا عن طريقِ الحقِّ حتى دَخَلُوا النارَ، هؤلاء - والعياذُ بالله - عُمْيٌ، وهؤلاء الذين أَبْصَرُوا فَعَمِلُوا لله حتى دَخَلُوا الجنةَ، فهؤلاء هم الْمُبْصِرُونَ، كما قال تعالى في سورةِ هودٍ يضربُ المثلَ بفريقِ الكفارِ وفريقِ المؤمنين:{مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ} [هود: آية 24] فالأَعْمَى والأَصَمُّ: هو فريقُ الكفارِ، والسميعُ والبصيرُ: هو فريقُ المؤمنين، كما قال هنا:{قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} [الأنعام: آية 50] لَا وَاللَّهِ لا يستويانِ، فالأَعْمَى هو مَنْ طَمَسَ اللَّهُ بصيرتَه ولم يُنَوِّرْ قلبَه بنورِ الإيمانِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} وَمَنْ أَرَادَ أن يعرفَ معنَى هذه الآيةِ {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: آية 46] فَلْيَنْظُرْ إلى رَجُلَيْنِ يمشيانِ في الطريقِ، أحدُهما: صحيحُ العينين قويُّ البصرِ،
حديدُه جِدًّا، وهو مفقودُ العقلِ. والثاني: أَعْمَى، إلا أنه عَاقِلٌ. فيجدُ ذا العينين الصحيحتين الذي يفقدُ عقلَه، يجدُه يضربُ الجدارَ، ويقعُ على الْحَيَّةِ، ويقعُ على العقربِ، ويسقطُ في البئرِ، ويسقطُ على النارِ، لا يُبْصِرُ شيئًا، ويرى ذلك الكفيفَ الذي عِنْدَهُ عقلُه، عَصَاهُ أَمَامَهُ، يَرُوغُ كَمَا يَرُوغُ الثعلبُ، وَيُحَصِّلُ جميعَ منافعِه، فيعلمُ حقيقةَ قولِه:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
إِذَا أَدْرَكَ الْقَلْبُ الْمُرُوءَةَ وَالتُّقَى فَإِنَّ عَمَى الْعَيْنَيْنِ لَيْسَ يَضِيرُ
(1)
وذكر غيرُ واحدٍ كابنِ عبدِ البرِّ في استيعابِه، وغيرُ واحدٍ من الْمُؤَرِّخِينَ، أن ابنَ عباسٍ رضي الله عنهما أخبرَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه سَيَعْمَى في آخِرِ عُمْرِهِ
(2)
، وقال عند ذلك
(3)
:
إِنْ يَأْخُذِ اللَّهُ مِنْ عَيْنَيَّ نُورَهُمَا فَفِي لِسَانِي وَقَلْبِي عَنْهُمَا نُورُ
عَقْلِي ذَكِيٌّ وَقَلْبِي غَيْرُ ذِي دَخَلٍ وَفِي فَمِي صَارِمٌ كَالسَّيْفِ مَأْثُورُ
والحاصلُ أن الأَعْمَى هنا: هو الكافرُ، والبصيرُ: هو المسلمُ المؤمنُ؛ لأن المؤمنَ على نورٍ من رَبِّهِ، وبصيرته يُشِعُّها نورُ الوحيِ.
(1)
البيت لبشار بن برد، وهو في ديوانه (4/ 51)، وشطره الأول:(إذا أبصر المرء .. ).
(2)
أخرجه الطبراني في الكبير (10/ 292)، وذكره ابن عبد البر في الاستيعاب (2/ 356)، وابن عساكر في تاريخه (مختصر ابن منظور 12/ 295، 299)، والذهبي في السير (3/ 340) وقال:«إسناده لين» اهـ وقال الهيثمي في المجمع (9/ 277) وفيه من لم أعرفه» اهـ.
(3)
البيت في الاستيعاب (2/ 356)، سير أعلام النبلاء (3/ 357)، ولفظ صدر البيت الثاني:
قلبي ذكي وعقلي غيرُ ذي دَخَلٍ
…
...........................
والكافرُ - والعياذُ بالله - مطموسُ البصيرةِ، واللَّهُ يقولُ:{فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} .
ثم قال (جل وعلا): {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} قد قَدَّمْنَا مرارًا
(1)
أن هذه الهمزةَ التي تأتي في القرآنِ كثيرًا قبلَ أداةِ عطفٍ - كالتي تأتِي قبلَ (الفاءِ) و (الواوِ) و (ثم)، وهي كثيرةٌ في القرآنِ، قد قَدَّمْنَا مرارًا أن فيها للعلماءِ وجهين:
أحدُهما - واختارَه غيرُ واحدٍ، وإليه جَنَحَ ابنُ مَالِكٍ في ألفيتِه -: أن الهمزةَ تتعلقُ بجملةٍ محذوفةٍ، والفاءَ أو الواوَ تعطفُ الجملةَ التي صُدِّرَتْ بها على الجملةِ المعطوفةِ التي هي مُتَعَلَّقُ الاستفهامِ، ولا بد أن يكونَ في الجملةِ المذكورةِ ما يدلُّ وَتُفْهَمُ منه الجملةُ المقدرةُ، وعليه فتقديرُه هنا: أفلَا تتفكرونَ؟ أتغفلونَ عن هذه الأشياءِ، فلا تتفكرونَ حتى تَفْهَمُوهَا؟ وما جَرَى مَجْرَى ذلك. وهذا هو الذي اختارَه ابنُ مالكٍ في الخلاصةِ حيث قال
(2)
:
وحَذْفَ مَتْبُوعٍ بَدَا هُنَا اسْتَبِحْ ............................
وهنالك جماعةٌ آخرونَ يقولونَ: إن همزةَ الاستفهامِ هي في الرتبةِ بعدَ حرفِ العطفِ، إلا أنه لَمَّا كان للاستفهامِ صدرُ الكلامِ تَزَحْلَقَتِ الهمزةُ عن محلِّها، وتقدمت على أداةِ العطفِ، وهي بعدَها في الرتبةِ. وعلى هذا فيكونُ المعنَى:(فألا تتفكرون) فتكونُ الفاءُ عاطفةً للجملةِ المُصَدَّرةِ بالاستفهامِ على ما قَبْلَهَا، كأنه يقولُ: فَأَعْطِفُ على ذلك وَأَذْكُرُ بعدَه توبيخَكم وتقريعَكم أنكم لا تتفكرونَ
(1)
مضى عند تفسير الآية (75) من سورة البقرة.
(2)
السابق.
حتى تفهموا عن اللَّهِ آياتِه.
{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام: آية 51].
{وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ} الخطابُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأصحُّ الأقوالِ في مرجعِ الضميرِ: أنه راجعٌ للقرآنِ
(1)
المُعبَّرِ عنه بقولِه: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} {وَأَنذِرْ بِهِ} أَنْذِرْ بما يُوحَى إليكَ - الذي لا تتبعُ إلا إياه - أَنْذِرْ به الذين يخافونَ.
وفي الآيةِ هنا سؤالٌ، وهو: لِمَ قَصَرَ الإنذارَ على الذين يخافونَ أن يُحْشَرُوا في حالِ كونِهم مُتَجَرِّدِينَ من الأولياءِ والشفعاءِ من دونِ اللَّهِ، مع أن القرآنَ إنذارٌ للأَسْوَدِ والأَحْمَرِ {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ} عن بكرةِ أَبِيهِمْ {نَذِيرًا} [الفرقان: آية 1] وكقولِه: {أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ} [يونس: آية 2] لِمَ خَصَّ هنا الذين يخافون؟
(2)
.
أجابَ بعضُ العلماءِ عن هذا السؤالِ: بأن من أساليبِ القرآنِ العظيمِ، واللغةِ العربيةِ، أن يُقْصَرَ الفعلُ على الذين ينتفعون به؛ لأن غيرَ المنتفعِ به هو في شأنِه كَلَا شَيْءٍ. ونظيرُ الآيةِ من القرآنِ:{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: آية 45] مع أنه تذكيرٌ للأَسْوَدِ والأحمرِ {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} [يس: آية 11] وهو منذرٌ للأسودِ والأحمرِ {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ} [فاطر: آية 18] وهو منذرٌ للأسودِ والأحمرِ. أي: بأنهم هم الْمُنْتَفِعُونَ.
(1)
انظر: القرطبي (6/ 430)، البحر المحيط (4/ 134).
(2)
انظر: المصدرين السابقين، والأضواء (6/ 224).
ومعنى: {وَأَنْذِرْ بِهِ} أَعْلِمْهُمْ بما عندَ اللَّهِ في الأوامرِ والنواهِي، مقترنًا ذلك الإعلام بالتهديدِ والتخويفِ من خالقِ السماواتِ والأرضِ إن لم يَمْتَثِلُوا أمرَه وَيَجْتَنِبُوا نَهْيَهُ.
وقولُه: {يَخَافُونَ} هو معنَى الخوفِ على بابِه
(1)
. {يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} مادة (خاف) تتعدَّى بِنَفْسِهَا، وتتعدَّى بالحرفِ. وهي هنا متعديةٌ بنفسِها، والمصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها في قولِه:{أَنْ يُحْشَرُوا} في محلِّ نصبٍ معمولٌ به للخوفِ. والمعنَى: يخافونَ الحشرَ إلى رَبِّهِمْ. والحشرُ معناه: جمعُ الناسِ.
وقولُه: {لَيْسَ لَهُم مِّنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} هذه الجملةُ الفعليةُ الْمُصَدَّرَةُ بهذا الفعلِ الناقصِ هي في محلِّ الحالِ
(2)
. وهذه الحالُ هي التي يَنْصَبُّ عليها الخوفُ. أي: يخافونَ حشرَ الناسِ في حالِ كونِهم ليس لهم من دونِ اللَّهِ وَلِيٌّ ولا شفيعٌ.
ومعنَى: {وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} الوليُّ في لغةِ العربِ
(3)
: هو كُلُّ مَنْ يَنْعَقِدُ بينَك وبينَه سببٌ يجعلكَ تُوَالِيهِ وَيُوَالِيكَ؛ وَلِذَا كان كُلُّ قريبٍ للرجلِ مِنْ عَصَبَتهِ يُسَمَّى (وَلِيًّا)، وكلُّ صديقٍ حميمٍ يُسَمَّى (وَلِيًّا)؛ ولهذا كان اللَّهُ وليَّ المؤمنين، والمؤمنون المتقونَ أولياءَ اللَّهِ؛ لأن الإيمانَ سببٌ منعقدٌ بين العبدِ وَرَبِّهِ، يكونُ بسببِه اللَّهُ يُوَالِي العبدَ بالإحسانِ والرحمةِ والجزاءِ، والعبدُ يُوَالِي اللَّهَ بالطاعاتِ ونحوِ ذلك. والمعنَى:{لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ} يُحْشَرُونَ في حالِ كونِهم وقتَ ذلك
(1)
انظر: البحر المحيط (4/ 135).
(2)
المصدر السابق.
(3)
انظر: المفردات (مادة: ولي) ص 885.
الحشرِ ليس لهم {وَلِيٌّ} أحدٌ بينَهم وبينَه سببٌ يَجْعَلُهُ يُوَالِيهِمْ فيكون وَلِيًّا لهم يمنعُهم مِمَّا أرادَ اللَّهُ أن يفعلَ بهم إذا عَصَوْهُ.
وقولُه: {مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ} (الشفيعُ) في لغةِ العربِ
(1)
: فعيلٌ بمعنى فاعلٍ. أصلُه: (شافعٌ). وأصلُ (الشفاعةِ) مشتقَّةٌ من (الشَّفْعِ) و (الشَّفْع) ضِدُّ الوترِ، وإنما قيل للشفيعِ:(شفيعٌ) لأن صاحبَ الحاجةِ كان فردًا في حاجتِه فَلَمَّا جاءَ إلى من يشفعُ له شَفَعَهً فصارا اثنين في حاجتِه، ومنها قيل له:(شفيعٌ)؛ لأنه من (الشَّفْعِ).
والشفاعةُ في الاصطلاحِ
(2)
: هي التوسطُ للغيرِ في جلبِ [نفع]
(3)
أو دفعِ ضُرٍّ، وهو على قِسْمَيْنِ: شفاعةٌ في الدنيا وشفاعةٌ في الآخرةِ، أما شفاعةُ الدنيا فهي قد تكونُ عندَ الملوكِ، وعندَ غيرِهم من العظماءِ، وهي نَوْعَانِ
(4)
: إذا كان الإنسانُ يشفعُ لينقذَ مظلومًا، أو يحققَّ حَقًّا، أو يبطلَ باطلاً، أو يوصلَ إنسانًا إلى حَقِّهِ الممنوعِ منه فهذه الشفاعةُ طيبةٌ، صاحبُها مأجورٌ عليها، وهي التي قال فيها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ:«اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ»
(5)
. وتارةً تكونُ الشفاعةُ هي التوسطُ في أمرٍ خبيثٍ لَا يجوزُ، كأن يتوسطَ رجلٌ لرجلٍ في امرأةٍ لِتُمَكِّنَهُ من نفسِها، أو يتوسط له عند سلطانٍ لينزعَ حقَّ رجلٍ آخَرَ، وما جرى مجرَى ذلك من الشفاعةِ، أو يشفع ليسقطَ حَدًّا من حدودِ اللَّهِ. وهذه الشفاعةُ
(1)
المصدر السابق (مادة: شفع) ص 457.
(2)
مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.
(3)
في الأصل: مكروه.
(4)
راجع ما سبق عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.
(5)
مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.
خبيثةٌ قبيحةٌ صاحبُها يُؤْزَرُ عليها، وهي من عظائمِ الذنوبِ، وقد أشارَ اللَّهُ إلى هذا التفصيلِ في سورةِ النساءِ في قولِه:{مَّنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} [النساء: آية 85].
أما الشفاعةُ في الآخرةِ فَكُلُّهَا لله جل وعلا {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: آية 44] لا شافعَ ذلك اليومَ إلا بإذنِ اللَّهِ.
والشفاعةُ يومَ القيامةِ قِسْمَانِ: شفاعةٌ باطلةٌ مردودةٌ، وهي التي كان يفهمُها الكفارُ، وهي من أنواعِ الكفرِ بِاللَّهِ، وهي: ادعاءُ الكفارِ أن الأصنامَ تشفعُ لهم بلا إذنٍ من اللَّهِ (جل وعلا)، إِذْ من المعلومِ أن الأوثانَ لَا تشفعُ بإذنِ اللَّهِ كما قال:{وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: آية 18] وهذا النوعُ من الشفاعةِ سَمَّاهُ اللَّهُ في سورةِ يونسَ: (شِركًا) حيثُ قال: {وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وهذا النوعُ إنما سَمَّاهُ اللَّهُ (شِرْكًا) - وله المثلُ الأعلى - لأن فيه نوعًا من القَدْحِ في عظمةِ الربوبيةِ. وَضَرَبَ العلماءُ لهذا مثلاً قالوا: - وَلِلَّهِ المثلُ الأَعْلَى - ترى أكبرَ جَبَّارٍ طَاغٍ في الدنيا يتقطعُ غَيْظًا على مُجْرِمٍ، ونيتُه أنه يُقَطِّعَ ذلك المجرمَ عضوًا عضوًا، فيمكنُه اللَّهُ من ذلك المجرمِ ويقعُ في قبضتِه، ونيتُه أن يُنَكِّلَهُ أعظمَ نكالٍ، فيأتي واحدٌ من عظماءِ دولتِه - رجلٌ له عظمةٌ وجاهٌ، وله شعبيةٌ عظيمةٌ - ويتجرأُ على ذلك الملكِ
رغمَ أَنْفِهِ، ويقولُ لَهُ: باركَ اللَّهُ فيكَ شَفِّعْنِي في هذا المجرمِ!! فينظرُ ذلك الملكُ يقولُ: إذا رَدَدْتُ شفاعةَ هذا العظيمِ قد يكونُ ضِدًّا عَلَيَّ، وحربًا عَلَيَّ، فقد يَأْتِينِي بغائلةٍ!! فيخافُ المسكينُ، ويضطرُّ إلى أن يُشَفِّعَهُ رغمَ أنفِه.
فخالقُ السماواتِ والأرضِ لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يُدِلُّ عليه بعظمةٍ ولا جاهٍ، ولا يخافُ من أحدٍ أن يُدَبِّرَ عليه شيئًا؛ وَلِذَا يقولُ مُخَاطِبًا لخلقِه:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: آية 255] الجوابُ: لا أحدَ يمكنُ أن يتجاسرَ على ذلك أبدًا؛ لأن هذا مَلِكُ الملوكِ الذي لا يخافُ من أحدٍ، ولا يمكن أحدا أن يُدَبِّرَ شيئًا ضِدَّهُ؛ وَلِذَا قَالَ:{وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبا: آية 23].
فالحاصلُ أن الشفاعةَ يومَ القيامةِ قِسْمَانِ: قِسْمٌ مَقْبُولٌ، وقسمٌ مردودٌ، ولقبولِه شَرْطَانِ إذا حَصَلَا كانت الشفاعةُ شرعيةً واقعةً، وإذا فُقِدَا أو واحدٌ منهما فالشفاعةُ ممنوعةٌ شرعًا. أما هذان الأصلانِ:
فأحدُهما: أن يكونَ المشفوعُ له مُسْلِمًا؛ لأن الله (جل وعلا) لا يقبلُ شفاعةً لكافرٍ أَلْبَتَّةَ، كما قَالَ:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: آية 48]{وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: آية 28] مع أنه يقولُ: {وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: آية 7].
الثاني: أن يأذنَ خالقُ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا)، فإذا أَذِنَ اللَّهُ في الشفاعةِ، وكان المشفوعُ له مُؤْمِنًا. بهذين الشَّرْطَيْنِ تكونُ شفاعةً مقبولةً واقعةً في الشرعِ، دَلَّ عليها كتابُ اللَّهِ وسنةُ نَبِيِّهِ.
ومما يُوَضِّحُ هذا المعنَى: أن سيدَ الخلائقِ على الإطلاقِ - نبيَّنا محمدًا صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه - عِنْدَهُ وعدٌ صادقٌ من اللَّهِ في دارِ الدنيا، كما يأتيكم في تفسيرِ قولِه:{عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا} [الإسراء: آية 79] عنده وعدٌ من الله بالشفاعةِ الكبرى، وهو عَالِمٌ أن اللَّهَ لا يُخْلِفُ وعدَه، فإذا وقعَ الناسُ في مأزقٍ يومَ القيامةِ، وجاؤوا إلى آدمَ، وقال كلامَه المعروفَ، ثم جاؤوا إلى
نوحٍ، ثم إبراهيمَ، ثم موسى، ثم عيسى، حتى إذا بَلَغُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لهم:«أَنَا لَهَا»
(1)
.
لأنه عَالِمٌ بالوعدِ الصادقِ من خالقِ السماواتِ والأرضِ، ومع علمِه بالوعدِ، وَعِظَمِ جاهِه، ومكانتِه عندَ اللَّهِ، لم يَتَجَرَّأْ أن يشفعَ من غيرِ إِذْنٍ؛ بل خَرَّ سَاجِدًا، فَأَلْهَمَهُ اللَّهُ (جل وعلا) من المحامدِ ما لم يُلْهِمْهُ لأحدٍ قَبْلَهُ ولَا بعدَه، ولم يَزَلْ ساجدًا حتى قيلَ له: ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَسَلْ تُعْطَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّع. هذا مصداقٌ لقولِه:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: آية 55] الجوابُ: لَا أَحَدَ، فالشفاعةُ للكفارِ ممنوعةٌ بتاتًا، والشفاعةُ بغيرِ إذنِ اللَّهِ
(1)
حديث الشفاعة رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، منهم:
1 -
أبو هريرة، عند البخاري في الأنبياء، باب قول الله عز وجل:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} حديث رقم (3340)، (6/ 371)، وطرقه (3361، 4712).
ومسلم في الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. حديث رقم (194)، (1/ 184).
2 -
أنس، عند البخاري في التوحيد، باب قول الله تعالى:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} حديث رقم (7410)، (13/ 392)، ومسلم في الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلة فيها. حديث رقم (193)، (1/ 180).
3 -
أبو هريرة وحذيفة، عند مسلم (الموضع السابق) حديث رقم (195)، (1/ 186).
4 -
أبو بكر الصديق، عند أحمد (1/ 4)، والدارمي في الرد على الجهمية ص 57، 88، وابن أبي عاصم في السنة (751، 812)، وأبي يعلى (56، 57)، وابن حبان (الإحسان (8/ 134)، والدولابي في الكنى (2/ 155).
5 -
ابن عباس، عند أحمد (1/ 281، 295)، وأبي يعلى (4/ 213)، والطيالسي ص 353.
ممنوعةٌ بتاتًا. وقد دَلَّتِ السنةُ الصحيحةُ على أن الشفاعةَ للكفارِ خرج منها فردٌ واحدٌ لَا نظيرَ له، وهو ما ثَبَتَ في الصحيحين: أن شفاعةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم نَفَعَتْ أَبَا طَالِبٍ، مع أنه ماتَ كافرًا. إلا أن هذا النفعَ لهذا الكافرِ الذي هو وحيدٌ لم يكن له نَظِيرٌ، إنما كان في نَقْلٍ من موضعٍ من النارِ إلى موضعٍ آخَرَ أَخَفَّ منها؛ وَلِذَا ثَبَتَ في الصحيحين:«لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنَ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، لَهُ نَعْلَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ»
(1)
. والعياذُ بالله جل وعلا.
فهذه شفاعةٌ خاصةٌ نَفَعَ اللَّهُ بها كافرًا نفعًا مخصوصًا، وهو نقلُه من مَحَلٍّ من النارِ إلى مَحَلٍّ أخفَّ منه من النارِ والعياذُ بالله جل وعلا.
وهذا معنى قولِه: {لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ} الشفيعُ المنفيُّ هنا: هو الشفيعُ الذي يشفعُ لكافرٍ، أو يشفعُ بغيرِ إِذْنِ اللَّهِ (جل وعلا). أما الذي يشفعُ بإذنِ اللَّهِ للمؤمنِ فهذا ثابتٌ كِتَابًا وَسُنَّةً.
وأنواعُ الشفاعةِ كثيرةٌ، وليست مخصوصةً بالأنبياءِ، بل يشفعُ الصالحونَ والمؤمنونَ وغيرُهم مِمَّنْ أَرَادَ اللَّهُ أن يُشَفِّعَهُ فيمن شَاءَ من خَلْقِهِ.
قولُه: {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} في (لعل) هنا وَجْهَانِ بَيَّنَّاهُمَا:
أحدُهما: أنها للتعليلِ
(2)
، وعليه فالمعلل هو الإنذارُ المذكورُ في قولِه:{وَأَنذِرْ بِهِ} أي: أَنْذِرِ الذين يخافونَ، أَنْذِرْهُمْ لأَجْلِ أن يتقوا. أي: لأَجْلِ أَنْ يُؤَثِّرَ فيهم ذلك الإنذارُ ويخوفهم فيتقونَ اللَّهَ جل وعلا.
(1)
مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.
(2)
مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة.
وأصلُ الاتقاءِ في لغةِ العربِ
(1)
: هو اتخاذُ الوقايةِ التي تَقِيكَ من المكروهِ. وهذا معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ نابغةِ ذبيانَ
(2)
:
سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتْنَا بِالْيَدِ
أي: جَعَلَتْ يَدَهَا وقايةً بيننا وبينها حَيْثُ جَعَلَتْهَا دونَ وجهِها لئلا نَرَاهُ. هذا أصلُ (الاتقاءِ) تقول العربُ: «اتقيتُ السيوفَ بمجنِّي» ، و «اتقيتُ الرمضاءَ بنعلي» .
هذا أصلُ (الاتقاءِ)، وهو في اصطلاحِ الشرعِ
(3)
: اتخاذُ العبدِ وقايةً تَقِيهِ مِنْ عذابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ.
وهذه الوقايةُ مُرَكَّبَةٌ من شيئين هما: امتثالُ أمرِ اللَّهِ، واجتنابُ نَهْيِ اللَّهِ.
ومعلومٌ أن مادةَ (الاتقاءِ) أصلُها مِنْ (وَقَى) ففاءُ المادةِ واوٌ، وعينها قافٌ، ولامُها ياءٌ، فهي مما يُسَمِّيهِ الصَّرْفِيُّونَ:(اللفيفَ المفروقَ). فأصلُ الاتقاءِ من الوقايةِ: (و. ق. ى). إلا أنها دَخَلَهَا (تاءُ) الافتعالِ، كما تقولُ في (قَرب): اقترب، وفي (كسب): اكتسب، وفي (قطع): اقتطع، وفي (وقى): اوْتَقَى. والقاعدةُ المقررةُ في التصريفِ: أن كُلَّ فعلٍ واويِّ الفاءِ إذا دخله (تاءُ) الافْتِعَالِ أُبْدِلَتِ الفاءُ التي هي الواوُ تاءً، وَأُدْغِمَتْ في التاءِ، فقيل فيه:(اتَّقَى). فهذا التشديدُ مُرَكَّبٌ من حرفين: الأولُ منهما أصلُه واوٌ في محلِّ فاءِ الكلمةِ. والثاني: تاءُ الافتعالِ الزائدةُ. هذا أصلُ
(1)
مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقره.
(2)
السابق.
(3)
السابق.
المادةِ
(1)
. ومعنَى {يَتَّقُونَ} : يجعلونَ وقايةً بينهم وبينَ عذابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ، هذه الوقايةُ هي امتثالُ أَمْرِهِ بإخلاصٍ على الوجهِ الذي شَرَعَ، واجتنابُ نَهْيِهِ (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه:{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} .
[4/ب] / {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: آية 52].
{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا ابنَ عامرٍ: {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} وقرأه ابنُ عامرٍ وحدَه: {بالغُدوَةِ والعشي} بِضَمِّ الغينِ، والواوِ المفتوحةِ. وهما قراءتانِ صحيحتانِ
(2)
، ولغتانِ فصيحتانِ.
وسببُ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ: أن عظماءَ الكفارِ - بعضُ الرواياتِ: كفار قريشٍ
(3)
، وفي بعضِها: عظماءُ غيرِهم من العربِ، كالأقرعِ بنِ حابسٍ
مِنْ ساداتِ تميمَ وعيينةَ بنِ حصنٍ من ساداتِ
(1)
مضى عند تفسير الآية (48) من سورة البقرة.
(2)
انظر: المبسوط لابن مهران ص 194.
(3)
أخرجه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب: في فضل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، حديث رقم (2413)، (4/ 1878)، من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وقد جاء من حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند أحمد حديث رقم (3985)، والطبراني في الكبير، حديث رقم (1052)، (10/ 268)، وابن جرير (11/ 374 - 375)، والواحدي في أسباب النزول ص217.
وورد أيضا من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عند ابن جرير (11/ 375)، كما ورد عن عدد من التابعين مرسلا، انظر: ابن جرير (11/ 378 - 380) الواحدي في أسباب النزول ص 218.
الفزاريين
(1)
. وأشهرُ الرواياتِ وَأَوْلَاهَا بالصوابِ: أن الكفارَ الذين قالوا هذا كفارُ مكةَ؛ لأن الأقرعَ بنَ حابسٍ وعيينةَ بنَ حصنٍ إنما جاؤوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم في المدينةِ بعدَ الهجرةِ، وهذا مما يُؤَيِّدُ الرواياتِ الواردةَ بأنهم عظماءُ الكفارِ مِنْ أهلِ مكةَ - كانوا يَأْتُونَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فيجدون معه ضعفاءَ المسلمين الفقراءَ، كخَبَّابٍ، وَعَمَّارٍ، وصهيبٍ، وبلالٍ، وما جرى مَجْرَى ذلك. وفي بعضِ الرواياتِ الثابتةِ أن مِنَ الذين قالوا فيه ذلك من الفقراءِ: سعدَ بنَ أبي وقاصٍ وجماعةً معه. قالوا للنبيِّ: نحن كبارُ رؤساءِ العربِ، وإن اتبعناكَ اتبعكَ الناسُ، ونحن لَا نَرْضَى أن نجالسَ هؤلاء الأَعْبُدَ، وَيُؤْذِينَا نَتَنُ جِبَابِهمْ - لأنهم كانوا يَلْبَسُونَ جِبَابًا من الصوفِ ليس لهم غَيْرُهَا، فيكونُ فيها ريحُ العرقِ - اطْرُدْ عَنَّا هؤلاء النَّتْنَى لنجلسَ معكَ وَنُكَلِّمَكَ. وفي بعضِ الرواياتِ أنهم قالوا له: إِنْ جِئْنَاكَ فَأَقِمْهُمْ عَنَّا حتى نقولَ لكَ ما نشاءُ، وإن خَرَجْنَا فإن شئتَ فَاقْعُدْ معهم. وفي بعضِ الرواياتِ: أنه صلى الله عليه وسلم همَّ بأن يجعلَ للعظماءِ الرؤساءِ مَجْلِسًا ليس فيه أولئك. وذكروا أنه دَعَا عَلِيًّا رضي الله عنه، وأخذَ الصحيفةَ ليكتبَ فيها عَلِيٌّ؛ لأنهم قالوا له: اكْتُبْ لنا ذلك.
فجاءَه جبريلُ وأنزل اللَّهُ عليه: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} ثُمَّ لَمَّا نَزَلَتْ ألقى الصحيفةَ وامتنعَ مِنْ طَرْدِهِمْ، وكان يجلسُ معهم، فإذا أرادَ القيامَ قامَ عنهم قبلَ أن يقوموا فأنزلَ اللَّهُ عليه:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف:
(1)
أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب مجالسة الفقراء، حديث رقم (4127)، (2/ 1382)، والبيهقي في الدلائل (1/ 352)، وابن جرير (11/ 376 - 377)، والواحدي ص 217، وانظر: صحيح ابن ماجه (2/ 396 - 397).
آية 28] فكانوا إذا جاء وقتُ قيامِه يقومونَ لِيُفْسِحُوا له في القيامِ؛ لأنهم يعرفونَ أنهم إن لَمْ يقوموا لا يُمْكِنُهُ أن يقومَ. هذا سببُ نزولِ الآيةِ.
والمعنى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: آية 52] يعني: لأَجْلِ أن الكفارَ الفجرةَ يُحِبُّونَ ذلك وَيَرْغَبُونَ فيه، كما قال له:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: آية 28].
{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} يدعونه معناه: يَعْبُدُونَه ويتضرعون إليه. وَذَهَبَتْ جماعةٌ من العلماءِ إلى أن المرادَ بالدعاءِ هنا: الصلاةُ
(1)
؛ لأنها أعظمُ العباداتِ، وهي فيها دعاءٌ. يقول المصلي فيه:{اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} [الفاتحة: آية 6] ثم يقول: آمين. ففيها أعظمُ دعاءٍ، وقد ثَبَتَ في حديثِ مسلمٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيما يَرْوِيهِ عن رَبِّهِ: أن المسلمَ إذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُستَقِيمَ} قال اللَّهُ: «هَذِهِ لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»
(2)
. كما بَيَّنَّاهُ مِرَارًا.
وعلى هذا فقولُه: {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} يعني بـ (الغداةِ): صلاةُ الصبحِ، وبـ (العشي): صلاةُ العصرِ.
وقال بعضُ العلماءِ: الآيةُ أَعَمُّ من الصلاةِ. وهو الظاهرُ؛ لأنهم يَدْعُونَ اللَّهَ ويعبدونَه بأنواعِ العباداتِ من صلاةٍ وغيرِها، أولَ النهارِ وَآخِرَهُ.
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 381 - 388).
(2)
مسلم، كتاب الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، حديث رقم (395)، (1/ 296).
وفي تخصيصِ الغداةِ والعشيِّ للعلماءِ أَوْجُهٌ
(1)
:
أَحَدُهَا: أن العربَ إذا أَرَادَتِ الدوامَ أَطْلَقَتِ الليلَ والنهارَ والغداةَ والعشيَّ. يَعْنُونَ أنهم دائمونَ على ذلك.
القولُ الثاني: أن أولَ النهارِ وآخِرَهُ من أفضلِ الأوقاتِ التي تُنْتَهَزُ فيها فرصةُ العباداتِ.
وقولُه: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} إذا جاء في القرآنِ العظيمِ {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} معناه: أن ذلك العملَ بإخلاصٍ لِلَّهِ (جل وعلا)، ليس فيه رياءٌ ولا سُمْعَةٌ، ولا طلب غرضٍ من أغراضِ الدنيا.
وصفةُ (الوجهِ) صفةٌ من صفاتِ اللَّهِ (جل وعلا) أَثْبَتَهَا لنفسِه، وَأَثْنَى على هذه الصفةِ ثَنَاءً خاصًّا لم يُثْنَ به على صفةٍ غيرِها حيث قال:{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: آية 27].
ونحن في هذه الدروسِ القرآنيةِ مِرَارًا
(2)
نقولُ لكم: إن الطريقَ السليمةَ - التي إِنْ مُتُّمْ عليها ولقيتُم اللَّهَ عليها في هذا المأزقِ الذي ضَلَّ فيه الآلافُ [فإنكم تَلْقَوْنَ ربَّكم بعقيدةٍ صحيحةٍ في هذا البابِ]
(3)
- أنها مُرَكَّزَةٌ على ثلاثةِ أُسُسٍ، كُلُّ واحدٍ منها في ضوءِ القرآنِ العظيمِ بغايةِ الوضوحِ، مَنْ لَقِيَ اللَّهَ على اعتقادِ هذه الأسسِ الثلاثةِ لَقِيَهُ سَالِمًا، وَمَنْ أَخَلَّ بواحدٍ منها دخلَ في مهواةٍ، قد لا يتخلصُ منها.
(1)
انظر: القرطبي (6/ 432)، البحر المحيط (4/ 135).
(2)
للشيخ رحمه الله محاضرة في موضوع الصفات، وقد طُبعت بعنوان (منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات)، وانظر: الأضواء (2/ 304 - 321).
(3)
زيادة يقتضيها السياق.
أولُ هذه الأسسِ الثلاثةِ هو - أيها الإخوانُ - أن تُلْزِمُوا قلوبَكم بالطهارةِ من أقذارِ التشبيهِ، وتُنَزِّهُوا خالقَ الكونِ (جل وعلا) عن أن يُشْبِهَهُ شيءٌ مِنْ خلقِه في أي صفةٍ من صفاتِه، كائنةً ما كَانَتْ، وَمَنِ الخلقُ حتى يشبهوا خالقَ السماواتِ والأرضِ؟ كيف يشبهونه وهم أثرٌ من آثارِ قدرتِه وإرادتِه؟ فالأثرُ لا يُشَابِهُ مُخْتَرِعَهُ.
وهذا الأصلُ هو الأساسُ الأكبرُ فِي معرفةِ اللَّهِ، والحجرُ الأساسيُّ لصلةِ العبدِ بربِّه صلةً صحيحةً على أساسٍ صحيحٍ، وهو تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن مشابهةِ الخلقِ. وهذا الأساسُ منصوصٌ في قولِه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: آية 11]{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: آية 4]{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: آية 74] لأنه لا مثيلَ له ولا شبيهَ.
وهذا الأصلُ هو الأصلُ الأعظمُ في التوحيدِ، وهو أساسُ الصلةِ الصحيحةِ بَيْنَ العبدِ وَرَبِّهِ، فَمَنْ حَقَّقَ هذا الأصلَ قرب من الخيرِ، ومن لم يُحَقِّقْ هذا الأصلَ جَرَّهُ إلى تشبيهاتٍ وإلى مَعَانٍ لا خلاصَ منها. فإذا حققَ العبدُ هذا الأصلَ، وألزمَ قلبَه بأن يَعْلَمَ أن خالقَ السماواتِ والأرضِ أعظمُ وأكبرُ وأنزهُ وَأَجَلُّ من أن يُشْبِهَهُ شيءٌ مِنْ خَلْقِهِ بأيِّ صفةٍ من صفاتِهم [فإنه يكونُ قد طَهَّرَ قلبَه مِنْ دَنَسِ التعطيلِ وأقذارِ التَّشْبِيهِ]
(1)
.
والأساسُ الثاني: هو أن يصدقَ الله بما وَصَفَ به نفسَه، ويصدق رسولَه بما وَصَفَ به رَبَّهُ تصديقًا مَبْنِيًّا على أساسِ ذلك التنزيهِ، على غرارِ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
[الشورى: 11] فلا يَتَنَطَّعُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ، وينفي عن اللَّهِ وصفًا مدحَ اللَّهُ به نفسَه، أو مَدَحَهُ به مَنْ قال في حَقِّهِ:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: الآيتان 3 - 4] إِذْ لا يصفُ اللَّهَ أعلمُ بِاللَّهِ مِنَ اللَّهِ: {أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة: آية 140] ولا يصفُ اللَّهَ بعدَ اللَّهِ أعلمُ باللَّهِ من رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وهذا الأصلُ الثاني عَلَّمَنَاهُ خالقُ الكونِ (جل وعلا) تعليمًا سَمَاوِيًّا أَعْظَمَ، لا يقعُ في الحقِّ بعدَه لَبْسٌ، وذلك قولُه جل وعلا:{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فإتيانُه بقولِه: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد قولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فيه سرٌّ أعظمُ، وَمَغْزًى أكبرُ، وتعليمُ خالقِ السماواتِ والأرضِ، وإيضاحُه لهذه العقائد إيضاحًا كالشمسِ.
والمعنى: لا تَتَنَطَّعْ يا عَبْدِي، يا مسكينُ، اعْرَفْ قَدْرَكَ، ولا تَنْفِ عَنِّي صفةَ سَمْعِي وَبَصَرِي مُدَّعِيًا أنكَ إن أَثْبَتَّ لِي سَمْعِي وَبَصَرِي شَبَّهْتَنِي بالحيواناتِ التي تسمعُ وتبصرُ، لا، ما هكذا الأمرُ. المعنَى: أَثْبِتْ لِي سَمْعِي وَبَصَرِي، وَرَاعِ في ذلك الإثباتِ قولي قبلَه مقترنًا به:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فأولُ الآيةِ تنزيهٌ كاملٌ من غيرِ تعطيلٍ، وآخِرُهَا إيمانٌ بالصفاتِ
إيمانًا تَامًّا من غيرِ تشبيهِه ولا تمثيلٍ، فعلينا أن نُنَزِّهُ خالقَنا (جل وعلا) بقولِه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وأن نُثْبِتَ له ما أَثْبَتَ لنفسِه، ولا نقول إذا أَثْبَتْنَاهُ: كُنَّا مُشَبِّهِينَ؛ لأن الحيواناتِ تتصفُ بهذا!! ولأجلِ هذا وَصَفَ نفسَه بالسمعِ والبصرِ، مع أنهما من حيث هُمَا سمعٌ وبصرٌ يتصفُ بهما جميعُ الحيواناتِ، فَكُلُّ الحيواناتِ تسمعُ وتبصرُ؛ ولذا وصفَ نفسَه بالسمعِ والبصرِ بعدَ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} يعني: لا تَنْفِ عَنِّي سَمْعِي وَبَصَرِي بدعوى
أنكَ إن أَثْبَتَهُمَا كنتَ مُشَبِّهًا لي بالحيواناتِ التي تسمعُ وتبصرُ، لا. أَثْبِتْ لِي صفةَ سَمْعِي وبصري إثباتًا مُرَاعًى فيه قَوْلِي قَبْلَهُ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} ولأجلِ هذه الحكمةِ قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .
فأولُ هذين الأَصْلَيْنِ - الذي هو الأساسُ الأكبرُ للتوحيدِ والصلةِ بِاللَّهِ صلةً صحيحةً -: تنزيهُ خالقِ السماواتِ والأرضِ عن أن يُشْبِهَ شيئًا مِنْ خَلْقِهِ بِأَيِّ شيءٍ مِنْ صِفَاتِهِمْ.
الأساسُ الثاني: هو أن لا تتنطعَ - أيها المسكينُ - وتنفيَ عن اللَّهِ وصفًا مَدَحَ به نفسَه، أو أَثْنَى عليه به رسولُه، بل أَثْبَتَ له هذا الوصفَ مُرَاعِيًا في ذلك أنه (جل وعلا) ليس كمثلِه شيءٌ، كما قال:{وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعد: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
فعلينا أن نُنَزِّهَ اللَّهَ عن مُشَابَهَةِ الخلقِ، وعلينا أن نُصَدِّقَ اللَّهَ بما وَصَفَ به نفسَه، ونُصَدِّقَ رسولَه بما وَصَفَ بِهِ رَبَّهُ، ولا يخطرُ في عُقُولِنَا التشبيهُ بصفاتِ المخلوقين. ومَنْ المخلوقون حتى تُشْبِهَ صفاتُهم صفاتِ خالقِهم؟ أليسوا أثرًا مِنْ آثارِ قدرتِه وإرادتِه؟ وكيف تُشْبِهُ الصنعةُ صانعَها؟
ولو تَنَطَّعَ مُتَنَطِّعٌ وقال: نحن ما عَرَفْنَا صفةَ سمعٍ ولا بصرٍ مُنَزَّهَةً عن صفةِ الخلقِ، وما عَلِمْنَا صفةَ وجهٍ منزهة عن صفاتِ الخلقِ، وما عَلِمْنَا كيفيةَ صفةِ استواءٍ منزهةً عن استواءاتِ الْخَلْقِ، فَبَيِّنُوا لنا كيفيةَ هذه الصفاتِ حتى نعقلَ كيفيةً منزهةً نَعْتَقِدُهَا.
فنقول في هذا: قال مالكُ بنُ أنسٍ: السؤالُ عن هذا
بدعةٌ
(1)
. ولكن نَتَنَزَّلُ معه ونقولُ: أيها المتنطعُ: هَلْ عَرَفْتَ كيفيةَ الذاتِ الكريمةِ المقدسةِ المتصفةِ بهذه الصفةِ؟ فلا بد أن يقولَ: لا، فنقولُ: معرفةُ كيفيةِ الاتصافِ بهذه الصفاتِ متوقفةً على معرفةِ كيفيةِ الذاتِ.
هذانِ أَصْلَانِ:
الأولُ منهما: تنزيهُ خالقِ السماواتِ عن أن يُشْبِهَ شيئًا مِنْ خَلْقِهِ.
الثاني: تصديقُه فيما وَصَفَ به نفسَه، وعدمُ تكذيبِه، وتصديقُ رسولِه بما وَصَفَ به رَبَّهُ تصديقًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، على نحوِ:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: 11] فأولُ الآيةِ تنزيهٌ من غيرِ تعطيلٍ، وآخِرُهَا إثباتٌ للصفاتِ من غيرِ تشبيهٍ ولا تمثيلٍ، وإن كانت الحيواناتُ تسمعُ وَتُبْصِرُ.
الأصلُ الثالثُ: هو أن نقطعَ طَمَعَنَا عن إدراكِ كيفيةِ صفاتِ اللَّهِ (جل وعلا). وَاللَّهُ قد نَصَّ على عجزِ الخلقِ عن الإحاطةِ بإدراكِ كيفياتِه. أَشَارَ إلى ذلك في السورةِ الكريمةِ - سورةِ طه - حيث قَالَ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: آية 110].
هذه الأصولُ الثلاثةُ:
الأولُ: تنزيهُ اللَّهِ.
(1)
الرد على الجهمية للدارمي ص 33، البيهقي في الأسماء والصفات ص 515، اللالكائي رقم (664)، شرح السنة (1/ 171)، مختصر العلو رقم (208)، فتح الباري (13/ 406 - 407).
الثاني: الإقرارُ بصفاتِ اللَّهِ مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ على غِرَارِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
الثالثُ: قَطْعُ الطمعِ عن إدراكِ الكيفيةِ.
وأنا أُؤَكِّدُ لكم - أيها الإخوانُ - أَنَّا جميعًا سننتقلُ من هذه الدارِ إلى القبورِ، وننتقلُ سريعًا من القبورِ إلى عَرَصَاتِ القيامةِ. ولا شَكَّ أننا هناك نُناقَشُ عَنْ كُلِّ ما قَدَّمْنَا، وما أَسْلَفْنَا من خيرٍ أو شَرٍّ، ومما يسألنا اللَّهُ عنه: هل ما مدحتُ به نفسي وأثنيتُ به على [نفسي]
(1)
أو أَثْبَتَهُ لِي [رَسُولِي يُعَدُّ تَشْبِيهًا؟ لو مُتُّمْ يا إخواني وأنتم على هذا الْمُعْتَقَدِ، أترون اللَّهَ يومَ القيامةِ يقولُ لكم: لِمَ نَزَّهْتُمُونِي عن مشابهةِ الخلقِ؟ ويلومُكم على ذلك؟ لا وكلَاّ، وَاللَّهِ لا يلومُكم على ذلك. أترونَ أنه يلومُكم على أنكم آمَنْتُمْ بصفاتِه، وَصَدَّقْتُمُوهُ فيما أَثْنَى به على نفسِه، ويقولُ لكم: لِمَ آمَنْتُمْ بِمَا أَثْبَتُّ لنفسي .. ]
(2)
ولا بما قد نَصَّ رسولي صلى الله عليه وسلم فيما أَثْنَى به عَلَيَّ، تصديقًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ. لَا وكلَاّ، أبدًا، فهو طريقُ سلامةٍ محققةٌ، ولا يقولُ له: لِمَ لَا تَدَّعِي أن عقلَك المسكينَ القصيرَ محيطٌ بكيفياتِ صِفَاتِي؟ لا أبدًا. فهذه طريقُ سلامةٍ محققةٌ، وهي التي سارَ عليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم، والسلفُ الصالحُ، والقرونُ المشهودُ لهم بالخيرِ، بيضاءَ ليلُها كنهارِها؛ لأنَّ على العبدِ أن يُنَزِّهَ خالقَه عن مشابهةِ الخلقِ، وأن يؤمنَ
(1)
في هذين الموضعين انقطع الصوت في التسجيل. وقد استدركتُ النقص من المواضع التي تكلم فيها الشيخ رحمه الله على هذه المسألة بنحو هذا الكلام، كما في محاضرة الصفات ص44 - 45، ومن كلامه في هذا التفسير كما في الأنعام عند الآيتين (103، 158)، الأعراف (54، 99، 144)، التوبة (21).
(2)
نفس المصدر السابق.
بصفاتِ رَبِّهِ، ولا يُكَذِّبَ رَبَّهُ، ولا نَبِيَّهُ، إيمانًا مَبْنِيًّا على أساسِ التنزيهِ، ويعرف قَدْرَ عقلِه، ويعلمَ أنه عاجزٌ عن الإحاطةِ بكيفياتِ خالقِ السماواتِ والأرضِ.
الأصلُ الأولُ بقولِه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} والثاني بقولِ: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} بعدَ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} والثالثُ بقولِه: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} فَعَلَيْنَا - معاشرَ المؤمنين - أن نُمِرَّ آياتِ الصفاتِ وأحاديثَها، ونصدقَ اللَّهَ بما مَدَحَ به نفسَه، ونعلمَ أنه لا يمدحُ نفسَه بنقصٍ ولا باطلٍ، ولا يُثْنِي على نفسِه إلا بكمالٍ وجلالٍ، ونُنَزِّهَ ربَّنا عن صفاتِ المخلوقين، فبالتنزيهُ نَسْلَمُ من ورطةِ التشبيهِ، وبالإيمانِ والتصديقِ بصفاتِ اللَّهِ نَسْلَمُ من ورطةِ التعطيلِ ونكون مؤمنين موحدين منزهين، لسنا مُرْتَطِمِينَ في تشبيهٍ، ولسنا مرتطمين في تعطيلٍ، هذا هو الوجهُ فيما جاءَ من هذه الصفاتِ؛ وَلِذَا قال اللَّهُ:{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ابتغاءَ وجهِ اللَّهِ. فالمعنَى: أن ذلك العملَ خالصٌ لِلَّهِ، لا يشوبُه رياءٌ ولا سُمْعَةٌ ولا غَرَضٌ من أغراضِ الدنيا. وهذا معنى قولِه:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} .
وقولُه: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّنْ شَيْءٍ} [الأنعام: آية 52] هذه الآيةُ والآياتُ التي نَزَلَتْ مثلها في قضيةِ نوحٍ في سورةِ هودٍ
(1)
، وفي سورةِ
(1)
وهي قوله: {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ} [هود: آية 29] وقوله في الآية بعدها: {وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: آية 30] وذلك بعد قولهم له: {مَا نَرَاكَ إِلَاّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَاّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: آية 27].
الشعراءِ
(1)
، معناها: أن الكفارَ قالوا له: هؤلاء الضعافُ النَّتْنَى الذين مَعَكَ، ليس لهم إيمانٌ، ولا معرفةٌ بالله، ولا التجاءٌ إلى الله، وإنما هم يقولونَ هذا الكلامَ لِتَسْمَعَهُمْ وتعطيَهم شيئًا يأكلونه ويشربونه، فَهُمْ يراؤونَ لأجلِ الطعامِ. اللَّهُ (جل وعلا) بَرَّأَهُمْ من هذه الدعوى، وَبَيَّنَ أنهم مُخْلِصُونَ لِلَّهِ، وقال:{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} ثم قال: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} يعني: عَمَلُهُمْ لهم، صَالِحُهُ لهم وَطَالِحُهُ عليهم، ولستَ مأخوذًا بالتنقيبِ عنهم:{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّنْ شَيْءٍ} يعني: لستَ مُحَاسَبًا بما يفعلونَ، وليسوا مُحَاسَبِينَ بما تفعلُ، فعليكَ أن تأخذَ بالظاهرِ من أحوالِهم - الإيمان - مع أن الله نَصَّ له على أن باطنَهم سليمٌ، وأن نِيَّتَهُمْ صحيحةٌ، وأنهم بَرِيئُونَ مما قَالَ الكفارُ حيث قال:{يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} .
ثم قال: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} قال بعضُ العلماءِ
(2)
: الفاءُ الأُولَى: {فَتَطْرُدَهُمْ} في جوابِ النفيِ، والفاءُ الأُخْرَى من جوابِ النهيِ. والمعنى: لا تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ فتكونَ من الظالمين، ما عَلَيْكَ من حسابِهم من شيءٍ فَتَطْرُدَهُمْ. أي: لو كان حسابُهم عليكَ، لو كانوا فَعَلُوا في الباطنِ شيئًا أَمْكَنَ أن تطردَهم؛ لئلا يكونَ فَعَلُوهُ في الباطنِ
(3)
. لكن لو فَرَضْنَا أنهم فَعَلُوا في الباطنِ غيرَ طَيِّبٍ فَحِسَابُهُمْ عليهم لا عليكَ، فَأَيُّ موجب تطردُهم
(1)
وهي قوله: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء. آية 114].
(2)
انظر: القرطبي (6/ 434)، البحر المحيط (4/ 138)، الدر المصون (4/ 645).
(3)
المعنى المُراد تقريره هو: لو كان حسابهم موكلا بك فوقع منهم شيء في الباطن فلك أن تطردهم لأجل ما وقع منهم في الباطن.
عليه، فعلى كُلِّ حالٍ فقولُه:{فَتَطْرُدَهُمْ} قولاً واحدًا منصوبٌ في جوابِ النفيِ؛ لأنها فاءُ السببيةِ بعدَ النفيِ نحو: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا}
(1)
[فاطر: آية 36]{مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ} .
وقولُه: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} فيه وَجْهَانِ:
أحدُهما: أنه معطوفٌ عليه: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} بسببِ طَرْدِهِمْ.
الثاني: أنه في جوابِ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} فتكونَ من الظالمين. وأن الجملةَ اعتراضيةٌ بين هذا وهذا.
والطردُ: الإبعادُ.
والظالمونَ: قَدْ قَدَّمْنَا أن معناهُ وَضْعُ الشيءِ في غيرِ مَوْضِعِهِ
(2)
. وَمَنْ طَرَدَ مُسْلِمًا طَيِّبًا كَرِيمًا يستحقُ التقديرَ والإحسانَ على خَاطِرِ خَبِيثٍ خَسِيسٍ - يستحقُّ الطردَ - فقد وَضَعَ الأمرَ في غيرِ مَوْضِعِهِ، حيث طَرَدَ مَنْ يَسْتَحِقُّ القُرْبَ على خاطرِ مَنْ يستحقُّ البُعْدَ؛ ولذا قال:{فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} .
(3)
وهذه القضيةُ أَجْرَى اللَّهُ العادةَ بأن الرؤساءَ يقولون للأنبياءِ: اطْرُدُوا هؤلاءِ النَّتْنَى الضعافَ، لا نؤمنُ بكم ومعكم هؤلاء. والدليلُ على هذا: أن نُوحًا - صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه وعلى نَبِيِّنَا - أولَ الأنبياءِ، قالوا له: {مَا نَرَاكَ إِلَاّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَاّ الَّذِينَ
(1)
انظر: التوضيح والتكميل (2/ 296).
(2)
مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.
(3)
مضى قريبا.
هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: آية 27] وَطَلَبُوا منه أَنْ يَطْرُدَهُمْ؛ ولذا قَالَ: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْما تَجْهَلُونَ} [هود: آية 29] وقال في شَأْنِهِمْ: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدتُّهُمْ} [هود: آية 30] وقال في هذا في سورةِ الشعراءِ: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: آية 111] وَبَيَّنُوا له أن أعمالَهم رياءٌ - كما قال هؤلاء في أصحابِ النبيِّ - فقال نوحٌ: {قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَاّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)} [الشعراء: الآيتان 112 - 113] ليس عَلَيَّ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، ولا عليهم من حِسَابِي مِنْ شَيْءٍ، ثم قال:{وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء. آية 114] لا أَطْرُدُهُمْ أبدًا. فالقصةُ شبيهةٌ بالقصةِ؛ ولذا قال هنا: {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} .
يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: آية 53].
قولُه: {كَذَلِكَ} أي: وكذلك الفتونُ المتقدمُ الذي فَتَنَ اللَّهُ فيه أغنياءَ العربِ ورؤساءَهم فَتَنَهُمْ بضعفاءِ المسلمين حيث احتقروهم، وَأَبَوْا أن يُجَالِسُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهم مَعَهُ في المجلسِ، وقالوا له: اطْرُدْهُمْ عَنَّا، فَإِنَّا لَا نرضى أن نجلسَ معهم. حتى أنزلَ اللَّهُ في ذلك ما أَنْزَلَ.
{وَكَذَلِكَ} أي: كما فَتَنَ هؤلاء الأغنياءَ بهؤلاء الفقراءِ، كذلك
فَتَنَّا بعضَهم ببعضٍ، فاللَّهُ يَفْتِنُ بعضَ الناسِ ببعضٍ، يفتنُ الغنيَّ بالفقيرِ، والفقيرَ بِالْغَنِيِّ.
وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا أن الفتنةَ أُطْلِقَتْ في القرآنِ ثلاثةَ إطلاقاتٍ، وبعضُهم
يقولُ: أربعةُ إطلاقاتٍ
(1)
، أما الإطلاقاتُ الثلاثُ التي لم يُخَالِفْ فيها أَحَدٌ:
فمنها إطلاقُ الفتنةِ على (الاختبارِ)، وهو أشهرُها في القرآنِ.
ومنها إطلاقُ الفتنةِ على (الإحراقِ بالنارِ)؛ لأن العربَ تقولُ: فَتَنْتُ الذهبَ، إذا سَبَكْتَهُ في النارِ وَأَذَبْتَهُ، أي: لِيَتَبَيَّنَ أخالصٌ هو أم زَائِفٌ. ومن إطلاقِ الفتنةِ على مُطْلَقِ الوضعِ في النارِ قولُه تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: آية 13] أي: يُحْرَقُونَ بالنارِ - والعياذُ بِاللَّهِ - وقولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: آية 10] أي: أَحْرَقُوهُمْ بنارِ الأخدودِ على أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ.
وكذلك تُطْلَقُ الفتنةُ على نتيجةِ الاختبارِ إن كانت سيئةً خاصةً، كالمعاصِي والكفرِ، فإن الكفارَ والعصاةَ اخْتَبَرَهُمُ اللَّهُ بالأوامرِ والنواهِي، فكانت نتيجةُ الاختبارِ فيهم غيرَ محمودةٍ حيث كَفَرُوا وَعَصَوْا؛ وَلِذَا يُطْلَقُ اسمُ (الفتنةِ) على الكفرِ والمعاصِي، ومنه قولُه تعالى:{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: آية 193] أي: حَتَّى لا يَبْقَى شِرْكٌ. وهذا أَصَحُّ التفسيرين، والدليلُ على صحةِ هذا التفسيرِ: قولُه صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ»
(2)
.
(1)
انظر: المفردات (مادة: فتن) ص623، نزهة الأعين النواظر ص477، إصلاح الوجوه والنظائر ص347.
(2)
جاء ذلك في عدد من الأحاديث رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم:
1 -
ابن عمر رضي الله عنه، عند البخاري في الإيمان، باب:{فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلَاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] رقم (25)، (1/ 75)، ومسلم في الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله. حديث رقم (22)، (1/ 53).
2 -
أبو هريرة رضي الله عنه، عند البخاري في الزكاة، باب وجوب الزكاة، حديث رقم (1399)، (3/ 262)، ومسلم في الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. حديث رقم (20، 21)، (1/ 51، 52).
3 -
جابر رضي الله عنه، عند مسلم في الإيمان، باب: الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، ورقمه في الباب (35)، (1/ 53).
4 -
أنس رضي الله عنه، عند البخاري في الصلاة، باب: فضل استقبال القبلة، حديث رقم (392)، (1/ 497).
…
5 -
النعمان بن بشير رضي الله عنه، عند النسائي في تحريم الدم، حديث رقم (3979)، (7/ 79 - 80).
6 -
أوس بن حذيفة رضي الله عنه، عند النسائي في تحريم الدم الأحاديث (3980 - 3983)، (7/ 80 - 81).
فغايةُ «حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ» في هذا الحديثِ الصحيحِ يُفَسِّرُ الغايةَ في قولِه: {حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: لَا يَبْقَى أحدٌ إلا وهو يشهدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ على أظهرِ التفسيرين، وخيرُ ما يُفَسَّرُ به القرآنُ بعدَ القرآنِ: السنةُ الصحيحةُ؛ لأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ له: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: آية 44] فالسنةُ بيانٌ للقرآنِ.
الرابعُ: إطلاقُ الفتنةِ بمعنَى (الحجةِ)، كما قالَه بعضُ العلماءِ في قولِه المتقدمِ:{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} [الأنعام: آية 23] أي: حُجَّتُهُمْ {إِلَاّ أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} على القولِ بذلك.
والمرادُ بالفتنةِ في هذه الآيةِ التي نحن بِصَدَدِهَا: الاختبارُ والابتلاءُ. أي: {فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} أَيِ: اخْتَبَرْنَا وَابْتَلَيْنَا بعضَهم
ببعضٍ. فالأغنياءُ يُبْتَلَوْنَ بالفقراءِ، والفقراءُ يُبْتَلَوْنَ بالأغنياءِ، وقد بَيَّنَ اللَّهُ في سورةِ الفرقانِ: أن هذا الابتلاءَ يحتاجُ إلى صبرٍ، وأن لله فيه حكمةً كما قال:{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: آية 20] غالبًا الأغنياءُ يُبْتَلَوْنَ وَيُفْتَنُونَ بما يُعْطِيهِ اللَّهُ للفقراءِ من الدِّينِ والإيمانِ بِاللَّهِ (جل وعلا)، والفقراءُ غَالِبًا يُبتلون بما يعطيه اللَّهُ للأغنياءِ من الدنيا، فيقولُ الفقراءُ: كيف أُعْطِيَ هؤلاء الغنَى والدنيا، ونحن خيرٌ منهم ولم نُعْطَهَا؟ وَيَحْسُدُونَهُمْ على غِنَاهُمْ، كما أن الأغنياءَ يَقُولُونَ: كيف يكونُ هؤلاء الفقراءُ على حَقٍّ وَدِينٍ ويكونون أفضلَ منا ونحن خيرٌ منهم؟
وهذا النوعُ من الابتلاءِ هو المقصودُ هنا. أي: جَعَلْنَا فقراءَ المسلمين ابتلاءً وامتحانًا لأغنياءِ الكفارِ، حيث قالوا: هؤلاءِ الضعفاءُ كيف يَعْبَأُ اللَّهُ بهم وهم لا جَاهَ لهم ولا مَكَانَةَ؟ وَاللَّهِ لَا يَعْبَأُ اللَّهُ بهم، ولو كان ما هم عليه فيه خيرٌ لَكُنَّا سابقين إليه؛ لأَنَّا أفضلُ منهم وَأَوْلَى منهم بِكُلِّ خيرٍ. كما قال تعالى عن الكفارِ في هذا الموضوعِ:{لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: آية 11] وكما قال: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَّقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: آية 73] أَيُّنَا أحسنُ مجالسَ وأكثرُ غِنًى وأثاثًا؟ يَعْنُونَ: أَنَّا أفضلُ منكم، ولو لم نكن أفضلَ عند اللَّهِ منكم في الآخرةِ لَمَّا فَضَّلَنَا عليكم في الدنيا!! يَقِيسُونَ الدنيا على الآخرةِ، ويحتقرون المسلمين، ويحلفونَ أن هؤلاء الضعفاءَ لا يرحمهم اللَّهُ، ولا يَعْبَأُ بهم لسقوطِ مكانتِهم فيما يَظُنُّونَ.
كما يأتي في الأعرافِ في قولِه: {أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} [الأعراف: آية 49] وكانوا إذا رَأَوْهُمْ
يحتقرونهم، ويسخرونَ منهم، ويغمزُ بعضُهم بعضًا فيقولون: هؤلاءِ الضعفاءُ الفقراءُ، والأعبُدُ الْمَوَالِي الذين لا يَعْبَأُ بهم أَحَدٌ هم الذين يقولُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم: إن لهم عندَ اللَّهِ المكانةَ العظيمةَ، وأنهم خيرٌ منا، كما قال اللَّهُ تعالى:{وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: آية 30] أي: يغمزُ بعضُهم بعضًا احتقارًا لضعفاءِ المؤمنين، كانوا يسخرونَ منهم في دارِ الدنيا، ويتغامزونَ عليهم، ثم إنه يومَ القيامةِ يكونُ أولئك الضعفاءُ في أَعْلَى عِلِّيِّينَ، ويسخرونَ في ذلك الوقتِ مِنَ الذين كانوا يَسْخَرُونَ منهم، كما في قولِه:{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: آية 212] وقد نَصَّ اللَّهُ تبارك وتعالى في السورةِ الكريمةِ - سورةِ الصافاتِ - على أن أهلَ الجنةِ يمكنُهم أن ينظروا أهلَ النارِ، وقد يتكلمونَ مع بعضِهم، كما جاءَ في قصةِ ذلك الرجلِ المقصوصِ خبرُه في الصافاتِ، وذلك كما بَيَّنَهُ المفسرون
(1)
: أنه كان رَجُلَانِ شريكين في تجارةٍ كثيرةٍ، ثم اقْتَسَمَا، وَأَخَذَ كُلٌّ منهما نصيبَه، وأحدُهما مؤمنٌ، والثاني كافرٌ، وكان المؤمنُ ينصحُ الكافرَ لِلدِّينِ، والكافرُ يرشدُ المؤمنَ إلى الكفرِ وإنكارِ البعثِ - والعياذُ بالله - فتزوجَ الشريكُ الكافرُ امرأةً حسنةً جميلةً، وأعطاها مالاً طائلاً، فقال شريكُه المؤمنُ: اللَّهُمَّ إن فلانًا تَزَوَّجَ امرأةً جميلةً، وَأَعْطَاهَا كذا وكذا، وإني أَخْطُبُ إليكَ من نساءِ الجنةِ بمثلِ المهرِ الذي تَزَوَّجَ به، وَتَصَدَّقَ بقدرِ ذلك المهرِ.
ثم إن فلانًا - الكافرَ - اشترى بساتينَ وَضِيَاعًا، فقال أيضا صاحبُه: اللهم إن فلانًا اشترى كذا وكذا بكذا، وإني
(1)
انظر: ابن جرير (23/ 59)، وأورد السيوطي في الدر (5/ 275 - 276) روايات متعددة في هذا المعنى.
أشتري منكَ في الجنةِ بذلك الثمنِ، فَتَصَدَّقَ بالثمنِ على الفقراءِ والمساكين. حتى افْتَقَرَ ذلك المؤمنُ، وجاء لشريكِه الكافرِ يطلبُ أن يكونَ عندَه أجيرًا، فامتنعَ أن يُشَغِّلَهُ، ولَامَه وَوَبَّخَهُ، فدخلَ ذلك المؤمنُ الجنةَ وذلك الكافرُ النارَ، وكان ذلك المؤمنُ يتحدثُ [مع] جلسائِه [في]
(1)
الجنةِ، وقال لهم: كان لي في الدنيا صديقٌ صاحِبٌ من أمرِه كيت وكيت، فاطَّلِعوا معي لِنَرَى حالَه وما هو عليه في النارِ، فَأَخْبَرُوهُ أنهم لا يعرفونَه معرفةً سابقةً، ولا حاجةَ لهم فيه، وأنه هو إن شَاءَ يَطَّلِعُ لِيَنْظُرَ إليه، فَاطَّلَعَ فرآه في النارِ، وقال له ذلك الكلامَ الذي ذَكَرَهُ اللَّهُ في الصافاتِ، أشار اللَّهُ إلى هذه القصةِ بقولِه في أهلِ الجنةِ:{وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52)} إِنْكَارًا للبعثِ {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53)} إِنَّا لَمُجَازَوْنَ؟ لا يكونُ ذلك. إِنْكَارًا منه للبعثِ {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57)} [الصافات: الآيات 48 - 57].
ومعنى قولِه (جل وعلا) هنا: {فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي: جَعَلْنَا بعضَهم فتنةً لبعضٍ، كما جَعَلَ اللَّهُ فقراءَ المسلمين الضعفاءَ الذين ليس لهم مالٌ ولا جاهٌ في ذلك الوقتِ كبلالٍ وعمارٍ وصهيبٍ وما جرى مَجْرَى ذلك من الفقراءِ الذين لَيْسُوا أصلاً من قريشٍ ولا مالَ عندهم فَتَنَ اللَّهُ بهم أولئك الأغنياءَ. كأن اللَّهَ (جل وعلا) قال: إنه من حكمتِه أن يَفْتِنَهُمْ بهم ليقولوا هذا القولَ مُحْتَقِرِينَ
(1)
في الأصل: «في جلسائه في الجنة» . وهو سبق لسان.
لهؤلاء، ليسوا عارفينَ بحقيقةِ الأمرِ:{فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} لأَجْلِ أن يقولوا. أي: أن يقولَ أولئك الأغنياءُ محتقرين لأولئك الفقراءِ إنكارًا: {أَهَؤُلَاءِ} يَعْنُونَ: أهؤلاءِ المساكينُ الفقراءُ الذين لَا يُعْبَأُ بهم {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} فَأَعْطَاهُمُ المنَّة العظمى، وهي التوفيقُ والإيمانُ لِمَا يُرْضِي اللَّهَ جل وعلا، والفضل برضا اللَّهِ (جل وعلا) عَنْهُمْ، إنكارًا لهم أن اللَّهَ يَمُنُّ على الضعفاءِ في زعمِهم أنهم أَحَقُّ بذلك منهم، وأن الذي هم عليه لو كان حَقًّا لكان أولئك الأغنياءُ سابقين إليه.
كما قال عنهم: {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: آية 11] وقال الواحدُ منهم: {وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: آية 50]{وَلَئِن رُّدِدْتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: آية 36]{لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا} [مريم: آية 77] هذا كُلُّهُ جهلٌ منهم، يظنونَ أن اللَّهَ ما أعطاهم الغنَى والجاهَ في الدنيا إلا لأنهم يستحقونَ ذلك، وأن لهم مكانةً عِنْدَ اللَّهِ وشرفًا استحقوا به ذلك، واللَّهُ (جل وعلا) كَذَّبَهُمْ مِرَارًا في هذه المقالةِ الكاذبةِ، قال:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ} يعني: التي تفتخرونَ بها في الدنيا وَتَقِيسُونَ عليها الآخرةَ {بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ: آية 37] وقال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: الآيتان 55 - 56] وَبَيَّنَ أن ذلك استدراجٌ من اللَّهِ، كما قال:{سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)} [الأعراف: الآيتان 182 - 183]{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: آية 178] وَلِذَا قال هنا: {لِّيَقُولوا} مُحْتَقِرِينَ ضعفاءَ المسلمين {أَهَؤُلَاءِ} الضعفاء الذين لا مكانةَ لهم،
ولا مالَ ولا جاهَ {مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} أي: أَعْطَاهُمُ الْمِنَّةَ العظمى برضاه ودِينِه وَهُدَاهُ {مِّنْ بَيْنِنَا} أي: لم يُعْطِنَا نحن ذلك؟ كما قال قومُ صالحٍ عنه: {أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ} [القمر: آية 24] إلى أن قالوا: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا} [القمر: آية 25] أجاءه الوحيُ من اللَّهِ مِنْ بَيْنِنَا، ولم يكن أَفْضَلَنَا ولا أَغْنَانَا؟ هذا لا يمكنُ أبدًا!! كما قال كفارُ مكةَ: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ
مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: آية 31] صاحبِ مالٍ وجاهٍ؛ لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يَكُنْ عندَه الغنَى، وقد رَدَّ اللَّهُ عليهم بقولِه:{أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف: آية 32] لَا وَكَلَاّ؛ ولذا قال هنا: {لِّيَقُولوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا} واللامُ هنا (لامُ كَيْ)، وهي للتعليلِ، وَاللَّهُ يبتلي الخلقَ ليقعَ منهم ما يشاء اللَّهُ من خيرٍ وَشَرٍّ، وله في ذلك حكمةٌ، وَبَيَّنَ أنه يبتلي لينجحَ بعضُ الناسِ في ذلك الامتحانِ، ويسقطَ بعضُهم في ذلك الامتحانِ، أوضحَ ذلك في سورةِ المدثرِ، حيث قال (جل وعلا) - لأنه لَمَّا جاء في القرآنِ أن خَزَنَةَ جهنمَ تسعةَ عشرَ مَلَكًا، كان هذا فتنةً للكفارِ، حيث قالوا: كيفَ ونحنُ الآلافُ المؤلفةُ يَقْهَرُنَا تسعةَ عشرَ شخصًا؟ فقال لهم واحدٌ منهم كان قَوِيًّا: أنا أكفيكم منهم كذا وكذا - قدرَ سبعَ عشرةَ - وأنتم تقتلون الباقيَ فَنَحْتَلُّ الجنةَ، وندخلُها قَهْرًا
(1)
!! ولذا قال اللَّهُ -: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} ثم قال: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَاّ مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَاّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا} ثم بَيَّنَ نتيجةَ هذه الفتنةِ وهذا الاختبارِ، وَصَرَّحَ بأن قومًا ناجحونَ فيه، وقومًا بعكسِ ذلك. قال:{لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} ثم قال في غيرِ الناجحين: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم
(1)
انظر: ابن جرير (29/ 159 - 160).
مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} كذلك قولُه هنا: {لِّيَقُولوا} محتقرين ضعفاءَ المسلمين: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنْ بَيْنِنَا} لا يمكنُ ذلك؛ [لأنه لو كان ما أعطاهم اللَّهُ خيرًا لأعطانا]
(1)
؛
لأنَّا أَوْلَى منهم وَأَعْظَمُ وأحقُّ بالخيرِ {لَوْ كَانَ خَيْرًا مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: آية 11] رَدَّ اللَّهُ عليهم هنا بقولِه: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} هذا النوعُ من الاستفهامِ هو الاستفهامُ الْمُسَمَّى بـ (استفهامِ التقريرِ) والمقصودُ من استفهامِ التقريرِ ليس السؤالَ عن شيءٍ يفهمُه السائلُ، بل المرادُ به: حَمْلُ الْمُخَاطَبِ على أن يُقِرَّ فيقولَ: «بلى» ، ولا يكونُ استفهامُ التقريرِ إلا في شيءٍ لَا يمكنُ أن يُنَازَعَ فيه، وإن كان يمكنُ فيه النزاعُ فَالْمُخَاطَبُ يَعْرِفُ الْمُخَاطِبُ أنه لَا ينازعُ في ذلك الشيءِ، وأنه مُقِرٌّ به. فمثالُ الذي لا يمكنُ أن يكونَ فيه نزاعٌ قولُه هنا:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} الجوابُ: بلى، هو واللَّهِ أَعْلَمُ. ولا يمكن جوابٌ غير هذا لأحدٍ. أما الجوابُ الذي يمكنُ الخلافُ فيه، إلا أن المخاطِبَ يعلمُ أن المخاطَبَ مُقرٌّ به ويكفيه ذلك عن غيرِه: فَكَقَوْلِ جريرٍ يمدح عبدَ الملكِ بنَ مروانَ
(2)
:
أَلَسْتُم خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ
فهو يعلمُ أن الممدوحَ يعتقدُ هكذا، وإن كان غيرُه قد يخالفُ ويقولُ: ليسوا أَنْدَى الناسِ بطونَ راح.
وقولُه: {بِالشَّاكِرِينَ} هذه (الباءُ) التي تأتي بعدَ (ليس) وبعدَ (ما) النافيةِ باطرادٍ إنما فائدتُها أنها تدلُّ على توكيدِ النفيِ، فالنفيُ الذي تدخلُ فيه هذه (الباءُ) أَوْكَدُ من غيرِه، فإن هذه (الباءَ)
(1)
في الأصل: ((لأن الله لو كان ما أعطاهم خيراً لأعطانا)) ..
(2)
انظر: الخصائص (2/ 463)، (3/ 269)، مغني اللبيب (1/ 16).
تُؤَكِّدُ الإسنادَ الخبريَّ في حالةِ السلبِ، كما يُؤَكَّدُ الإسنادُ الخبريُّ بـ (إن) و (اللام) في حالةِ الإثباتِ.
{الشَّاكِرِينَ} جمعُ الشاكرِ. و (الشاكرُ): اسمُ فاعلِ الشكرِ، و (الشكرُ) أصلُه في لغةِ العربِ: الظهورُ
(1)
. ومنه: ناقةٌ شكورٌ. يظهرُ عليها السِّمَنُ، ومنه سَمَّتِ العربُ (العُسْلُوج) الذي ينبتُ في الشجرةِ التي كانت مقطوعةً إذا ظَهَرَ فيها غصنٌ جديدٌ بعدَ أن لم يَكُنْ، قالوا:(شَكِيرٌ)؛ لأنه يظهرُ بعدَ أن لم يكن ظاهرًا. هذا أصلُه في اللغةِ.
وهو في القرآنِ
(2)
يُطْلَقُ من الربِّ لعبدِه، ومن العبدِ لِرَبِّهِ، كما قال في شكرِ الربِّ لعبدِه:{فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: آية 158]{إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: آية 34] وقال في شُكْرِ العبدِ لِرَبِّهِ هنا: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: آية 53]{أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: آية 14]{إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: آية 3].
قال بعضُ العلماءِ: معنى شُكْرِ اللَّهِ لعبدِه: هو إثابتُه الثوابَ الجزيلَ من عَمَلِهِ القليلِ. ومعنى شكرِ العبدِ لِرَبِّهِ: هو أن يصرفَ العبدُ نِعَمَ رَبِّهِ فيما يُرْضِي رَبَّهُ.
فعلينا جميعًا أن نصرفَ نِعَمَ رَبِّنَا فيما يُرْضِيهِ، فهذه العيونُ التي فتحَ لنا في أَوْجُهِنَا على هذا الشكلِ الغريبِ شُكْرُهَا عندَ اللَّهِ أن لَا ننظرَ بها في شيءٍ إلا في شيءٍ يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا وَمَنَّ بها (جل وعلا).
(1)
مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة.
(2)
مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة.
وهذه اليدُ التي فَرَّقَ اللَّهُ أصابَعَها، وشدَّ رؤوسها بالأظفارِ، شُكْرُ نعمةِ مَنْ أنعمَ بها أن لَا نَمُدَّهَا ولا نبطشَ بها إلا في شيءٍ يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا وَمَنَّ بِهَا. وهذه الرِّجْلُ التي جَعَلَهَا اللَّهُ للإنسانِ يمشي عليها إلى حيثُ يشاءُ، شُكْرُ نِعْمَتِهَا أن لا يمشيَ بها الإنسانُ إلا إلى شيءٍ يُرْضِي مَنْ خَلَقَهَا وَمَنَّ بها. وهكذا، فالجاهُ إذا مَنَّ اللَّهُ على إنسانٍ بجاهٍ وقبولِ كلمةٍ فشُكْرُ هذا أن لا يستغلَّ ذلك الجاهَ والنفوذَ إلا في شيءٍ يُرْضِي مَنْ خَلَقَهُ وَمَنَّ به، وكذلك الأموالُ، شُكْرُ المالِ أن لا يصرفَه العبدُ ولا يفعلَ فيه إلا شيئًا يُرْضِي خَالِقَهُ (جل وعلا) الذي مَنَّ به.
وفي
(1)
الحقيقةِ أن الإنسانَ يفعلُ أمورًا يعرقُ منها الجبينُ، ويخجلُ منها العاقلُ؛ لأن هذا الإنسانَ المسكينَ الضعيفَ يمنُّ عليه هذا الخالقُ الجليلُ العظيمُ بهذه النِّعَمِ، ثم يصرفُ هذه النعمَ أمامَ رَبِّهِ فيما يُسْخِطُ رَبَّهُ (جل وعلا) وَيُغْضِبُهُ، فهذا أمرٌ يعرقُ منه الجبينُ، وهو عظيمٌ جِدًّا، فعلى المسلمِ أن يستحييَ من رَبِّهِ الذي خَلَقَهُ وَأَنْعَمَ عليه، ويحترزُ من أن يصرفَ نعمةً من نِعَمِ خالقِه إلا في شيءٍ يُرْضِي خَالِقَهُ (جل وعلا)، وعلى الأقلِّ إلا في شيءٍ لا يُسْخِطُ مَنْ خَلَقَهُ (جل وعلا) وَيُغْضِبُهُ عليه.
هذا أصلُ شُكْرِ العبدِ لِرَبِّهِ كما قالَه العلماءُ. وقد قَدَّمْنَا معنى الشكرِ لغةً
(2)
. ومادةُ «شَكَرَ» لها حَالَتَانِ
(3)
: قد تَتَعَدَّى إلى النعمةِ، وَتَعَدِّيهَا إلى النعمةِ تتعدى إليها بنفسِها بلا حرفٍ بإطباقِ أهلِ اللسانِ العربيِّ، كأن تقولَ:«شكرتُ نعمةَ زيدٍ» . ومنه قولُه جل وعلا:
(1)
مضى عند تفسير الآية (46) من سورة الأنعام.
(2)
مضى عند تفسير الآية (52) من سورة البقرة.
(3)
انظر: بصائر ذوي التمييز (3/ 334)، الدر المصون (1/ 357)، (2/ 184).
{أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} [النمل: آية 19] أما إذا أوقعتَ الشكرَ على نفسِ الْمُنْعِمِ، كأن يُنْعِمَ عليك إنسانٌ فتقول له:«أنا أشكرُ لكَ» . فاللغةُ العربيةُ الفصحى هي تَعْدِيَتُهُ باللامِ، ولا تكادُ العربُ تُعَدِّيهِ بنفسِه، تقولُ:«شكرتُ لكَ، وشكرَ اللَّهُ لكَ» . ولا تقول: «شَكَرْتُكَ» . وتقول: «أَحْمَدُ اللَّهَ وأشكرُ له» . ولا تقولُ: «أشكرُه» . فاللغةُ الفصحى هي تعديةُ (شَكَرَ) إلى المنعمِ باللامِ لا بالفعلِ بنفسِه. [هذه]
(1)
هي لغةُ القرآنِ، وهي اللغةُ الفصحى بإطباقِ أهلِ اللسانِ العربيِّ، ولم يأتِ في القرآنِ مادةُ (الشكر) مُعَدًّاة إلى المنعمِ إلا باللامِ، نحو قولِه:{أَنِ اشْكُرْ لِي} ولم يقل: «أَنِ اشْكُرْنِي» {وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: آية 14]{وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: آية 152] ولم يَقُلْ: «واشكروني» فَيُعَدِّيهَا للمفعولِ.
وَظَنَّ قومٌ أن تعديةَ (شكر) إلى المنعمِ بالفعلِ نفسِه لَا بالحرفِ أنها لحنٌ، وقالوا:(أشكره) لحنٌ، و (شكرتُك) لحنٌ. والتحقيقُ: أنه ليس بلحنٍ، وأنه لغةٌ مسموعةٌ في كلامِ العربِ، إلا أن تعديتَه باللامِ أجودُ. ومن إطلاقِ مادةِ (الشكرِ) متعديةً إلى المنعمِ بنفسِها لا باللامِ قولُ أَبِي نُخَيْلَةَ
(2)
:
شَكَرْتُكَ إِنَّ الشُّكْرَ حَبْلٌ مِنَ التُّقَى وَمَا كُلُّ مَنْ أَوْلَيْتَهُ نِعْمَةً يَقْضِي
فإن هذا الشاعرَ العربيَّ قال: «شكرتُك» . ومن هذا المعنَى قولُ جميلِ بنِ معمرٍ الشاعرِ المشهورِ، قال
(3)
:
(1)
في الأصل: هذا.
(2)
البيت في عيون الأخبار (3/ 165)، اللسان (مادة: شكر) (2/ 344).
(3)
ديوان جميل بن معمر ص102.
خَلِيْلَيَّ عُوْجَا الْيَوْمَ حَتَّى تُسَلِّمَا عَلَى عَذْبَةِ الأَنْيَابِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ
فَإِنَّكُمَا إِنْ عُجْتُمَا لِي سَاعَةً شَكَرْتُكُمَا حَتَّى أُغَيَّبَ فِي قَبْرِي
فقولُه: «شكرتُكما» لم يقل: «شكرتُ لَكُمَا» على هذه اللغةِ القليلةِ. وهذا معنى قولِه: {لِّيَقُولوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} .
{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} في هذين الْحَرْفَيْنِ
(1)
ثلاثُ قراءاتٍ سبعيات
(2)
: قرأه ابنُ عامرٍ وعاصمٌ: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بفتحِ همزةِ الْحَرْفَيْنِ، وَوَافَقَهُمَا نافعٌ في فتحِ الحرفِ الأولِ، وَخَالَفَهُمَا فَكَسَرَ الثانيَ، وباقي السبعةِ يكسرُها في الحرفين {كتب ربكم على نفسه الرحمة إِنَّهُ من عمل منكم} ثم يقرؤون:{فَإِنَّهُ غفور رحيم} وَهُمْ: ابنُ كثيرٍ،
(1)
المراد بالحرفين: الهمزة في قوله {أَنَّهُ مَن عَمِلَ} والهمزة كذلك في قوله {فَأَنَّهُ غَفُورٌ} .
(2)
انظر: المبسوط لابن مهران ص194 - 195.
وأبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، هذه هي قراءةُ السبعةِ في هذين الحرفين.
ومعنى الآيةِ الكريمةِ: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} جمهورُ المفسرين
(1)
على أن المرادَ بـ {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} هُمُ الفقراءُ، فقراءُ المؤمنين الذين طَلَبَ الكفارُ طَرْدَهُمْ وإبعادَهم وقتَ مُجَالَسَتِهِمْ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فجمعَ اللَّهُ لهم بين ثلاثةِ أشياء تدلُّ على عِظَمِ مكانتِهم، وعِظَمِ منزلتِهم عِنْدَ اللَّهِ (جل وعلا)، وَإِنِ احْتَقَرَهُمُ الكفرةُ الفجرةُ:
الأولُ: هو نَهْيُهُ صلى الله عليه وسلم عن أن يَطْرُدَهُمْ.
وشهادةُ اللَّهِ لهم بالإخلاصِ والعبادةِ حيث قال: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} .
وَنَهَى النبيُّ عن طردِهم: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ} ثم في سورةِ الكهفِ أَمَرَهُ بالصبرِ معهم، وأن لا يقومَ حتى يقوموا {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} ونهاه أن يطيعَ الكفرةَ فيهم {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: آية 28] ثُمَّ هنا أَمَرَهُ إذا جاؤوا أن يَتَلَقَّاهُمْ، ويُسلِّمَ عليهم، وَيُخْبِرَهُمْ
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 376 - 380)(ولم يرجح هذا القول). وابن عطية (6/ 59)(وعزاه للجمهور) والقرطبي (6/ 435)، البحر المحيط (4/ 139) والشوكاني (2/ 124).
بسعةِ رحمةِ اللَّهِ (جل وعلا)؛ لتطمئنَ قلوبُهم، وَيُسَرُّوا بذلك. وعلى هذا فالمعنَى:{وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا} أي: وهم {الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} إذا جاؤوكَ {فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} فَابْتَدَرَهُمْ وَسَلَّمَ عليهم.
وقولُه: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} فيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ
(1)
:
أشهرُها: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بأن يُسلمَ عليهم مبتدئًا إياهم بالسلامِ.
القولُ الثاني: {فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} أَيْ مِنْ رَبِّكُمْ. وعلى هذا التفسيرِ فاللَّهُ يُقْرِئُهُمُ السلامَ على لسانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا احتقرهم أعداءُ اللَّهِ.
الوجهُ الثالثُ: أن السلامَ من النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنه رَدٌّ لسلامِهم عليه، وهذا لم يَقُمْ ما يدلُّ عليه، فأشهرُها: أن النبيَّ أُمِرَ بالتسليمِ عليهم.
ومعنَى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} {سَلَامٌ} هنا مبتدأٌ، و {عَلَيْكُمْ} خبرُه، وإنما سَوَّغَ الابتداءَ به وهو نكرةٌ: أنه مُشَمٌّ رائحةَ الدعاءِ
(2)
، وقد تقررَ في فَنِّ العربيةِ: أن النكرةَ إن كان فيها معنَى الدعاءِ بِخَيْرٍ، نحو:(سلام)، أو بِشَرٍّ، نحو:(ويل لهم)، أنها يجوزُ الابتداءُ بها
(3)
.
و {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} معناه: سَلَّمَكُمُ اللَّهُ من الآفاتِ والمحذورِ.
(1)
انظر: القرطبي (6/ 435)، البحر المحيط (4/ 140).
(2)
انظر: البحر المحيط (4/ 140)، الدر المصون (4/ 649).
(3)
انظر: التوضيح والتكميل (1/ 169).
وهذه تحيةُ الإسلامِ، هي أكملُ تحيةٍ وأفضلُها؛ لأن معنَى (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ): سَلَّمَكُمُ اللَّهُ (جل وعلا) من الآفاتِ ومما يُؤْذِيكُمْ. وهي أحسنُ من تحيةِ الجاهليةِ الذين كانوا يقولونَ: (حَيَّاكَ اللَّهُ) فـ (السلامُ عليكم) أفضلُ من (حَيَّاكَ اللَّهُ)، وإنما كانت أفضلَ منها لأن معنَى (السلام عليكم): سَلَّمَكُمُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ ما يُؤْذِي ومن جميعِ الآفاتِ. ومعنَى (حَيَّاكَ اللَّهُ) لا تزيدُ (حَيَّاكَ اللَّهُ) على معنى أطالَ اللَّهُ حياتَك؛ وهذا الدعاءُ لا يستلزمُ الفائدةَ؛ لأنه كَمْ مِنْ إنسانٍ تكونُ حياتُه ويلاً عليه، وضررًا عليه، ويكونُ يتمنى الموتَ. وما كُلُّ حياةٍ مرغوبة ولا مرغوب فيها، بَلْ رُبَّ حياةٍ الموتُ خيرٌ منها، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، وقد سَمِعْتُمْ بعضَ الناسِ من المتأخرين، وإن كان مثلُه يُذْكَرُ للمثالِ لا للاستدلالِ يقولُ
(1)
:
أَلَا مَوْتٌ يُبَاعُ فَأَشْتَرِيهِ فَهَذَا الْعَيْشُ مَا لَا خَيْرَ فِيهِ
أَلَا رَحِمَ الْمُهَيْمِنُ نَفْسَ حُرٍّ تَصَدَّقَ بِالْوَفَاةِ عَلَى أَخِيهِ
فهذا الذي يطلبُ مَنْ يَتَصَدَّقُ عليه بالموتِ لا يرغبُ فِي [الحياةِ]
(2)
فلو قلتَ له: «حَيَّاكَ اللَّهُ» لقال لكَ - البعيدُ -: «لَا حَيَّانِي اللَّهُ» !! لأنه يرغبُ في الموتِ، بخلافِ (السلامُ عليكم) فليسَ هذا معناه، ومن هذا المعنى قولُ الأَعْشَى أو غيرِه في الأبياتِ التي اخْتُلِفَ
(1)
الأبيات للوزير المهلبي وهو في زهر الآداب (1/ 139 - 140)، صبح الأعشى (1/ 41)، قصص العرب (3/ 264)، معجم الأدباء (3/ 977)، وفيه بين البيتين بيت آخر وهو قوله:
إذا أبصرتُ قبرا من بعيد
…
وددتُ لو أنني فيما يليه
(2)
في الأصل: (الموت) وهو سبق لسان.
في قَائِلِهَا
(1)
:
الْمَرْءُ يَرْغَبُ فِي الْحَيَا
…
ةِ وَطُولُ عَيْشٍ قَدْ يَضُرُّهْ
تَفْنَى بَشَاشَتُهُ وَيَبْـ
…
ـقَى بَعْدَ حُلْوِ الْعَيْشِ مُرُّهْ
وَتَسُوؤُهُ الأَيَّامُ حَتَّـ
…
ـى مَا يَرَى شَيْئًا يَسُرُّهْ
فَمَنْ كان بهذه المثابةِ لا خيرَ له في الحياةِ.
وقولُه في هذه الآيةِ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ليس يمكنُ لأحدٍ أن يُلْزِمَ اللَّهَ شيئًا، ولكن اللَّهَ يُلْزِمُ نفسَه ما شَاءَ، ومعنى إلزامِه: أن يُخْبِرَ به، ووعدُه (جل وعلا) صادقٌ لا يتخلفُ، فما وَعَدَ اللَّهُ به فهو واجبُ الوقوعِ لازمُه محتومٌ؛ لأن اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الميعادَ، وقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في الصحيحِ من حديثِ أبي هريرةَ ما يدلُّ على أن اللَّهَ (جل وعلا): كَتَبَ في كتابٍ فهو عندَه فوقَ عرشِه: «إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي»
(2)
، وسيأتي في قولِه جل وعلا:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: آية 156] فرحمةُ اللَّهِ (جل وعلا) وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، ولا يَهْلَكُ على اللَّهِ إلا هَالِكٌ. ألا تَرَوْنَ ما يدلُّ على نظائرَ كثيرةٍ من هذا في القرآنِ؟
تعلمونَ أنه لا أحدَ أشنعُ قولاً من الذين قالوا: إن اللَّهَ ثالثُ ثلاثةٍ، ومع هذه الفريةِ
(1)
هذه الأبيات نسبها بعضهم لمضرس بن ربعي، كما في (المعمرون والوصايا) لأبي حاتم كما تُنسب لأبي العتاهية وهي في ديوانه ص 104 وهي في الحماسة للبحتري ص 95 مع بعض الاختلاف في اللفظ.
(2)
البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: ما جاء في قول الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ
…
} حديث رقم (3194)، (6/ 287)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث: (7404، 7422، 7453، 7553، 7554)، ومسلم، كتاب التوبة، باب: في سعة رحمة الله تعالى. حديث رقم (2751)، (4/ 2107).
الْعُظْمَى والوقوعِ في جَنَابِ اللَّهِ (جل وعلا) بهذا الأمرِ الهائلِ العظيمِ، فَاللَّهُ مع هذا يستعطفُهم ويتلطفُ بهم للتوبةِ:{أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: آية 74] ويأمرُ نَبِيَّهُ أن يخاطبَ الكفرةَ الفجرةَ: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: آية 38] وَمِنْ أَصْرَحِ ذلك: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} هذا خطابٌ مُوَجَّهٌ بخصوصِ الْمُسْرِفِينَ على أنفسِهم دونَ غيرِهم، يقولُ لهم اللَّهُ:{لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: آية 53] فَأَمْرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من خالقِ السماوات والأرض أن يُوَجِّهَ هذا الخطابَ العظيمَ لخصوصِ المسرفين يدلُّ على سَعَةِ رحمةِ اللَّهِ جل وعلا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا} لم يَقُلْ: «الذين آمنوا» ، ولا «الذين أَخْلَصُوا». خَصَّ به المسرفين على أنفسِهم {لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} الآيةَ؛ وَلِذَا قال:{كَتَبَ رَبكُم عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: آية 54] على قراءةِ مَنْ قَرَأَ: {أَنَّهُ} بفتحِ (أنه) هنا، وهي في هذا الحرفِ قراءةُ ابنِ عامرٍ وعاصمٍ ونافعٍ. فالمصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها يُعْرَبُ بدلاً من الرحمةِ
(1)
. والمعنَى: كَتَبَ رَبُّكُمْ على نفسِه الرحمةَ. معنى هذه الرحمةِ: هي غفرانُه لمن عَمِلَ منكم سوءًا. فقولُه: {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا} مُفسِّرٌ لتلك الرحمةِ مُبَيِّنٌ لها، فهو بدلٌ منها، وعلى قراءةِ مَنْ قَرَأَ:{إِنَّهُ من عمل منكم سوءا} فهو على الاستئنافِ قُطِعَ مِمَّا قَبْلَهُ، وكان مُسْتَأْنَفًا، و (إِنَّ) إذا كانت في ابتداءِ الْجُمَلِ الاستئنافيةِ كُسِرَتْ. والضميرُ في (إنه) ضميرُ الشأنِ.
(1)
انظر: القرطبي (6/ 436)، البحر المحيط (4/ 141)، الدر المصون (4/ 650).
وقولُه: {مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ} قال بعضُ العلماءِ: {مِّنْ عَمَلِ} هنا شرطيةٌ، وجوابُها مقترنٌ بالفاءِ. وقال بعضُهم: هي موصولةٌ، والمبتدأُ إذا كان موصولاً اقترنَ خبرُه بالفاءِ، كما قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا.
وقولُه: {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا} السوءُ: هو كُلُّ ما يسوءُ صاحبَه إذا رآه في صحيفتِه.
والأعمالُ قد دَلَّ الكتابُ وَالسُّنَّةُ على أنها أربعةُ أنواعٍ
(1)
، كُلُّهَا إذا عَمِلَهَا الإنسانُ على غيرِ الوجهِ المشروعِ كان عاملاً سوءًا، واللَّهُ (جل وعلا) يقولُ:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [آل عمران: آية 30] أي: لكراهتِها إياه.
العملُ على أربعةِ أنواعٍ، هي التي إذا عَمِلَهَا الإنسانُ على غيرِ الوجهِ المشروعِ كان عملُه عملَ سوءٍ:
منها: فعلُه - المعروفُ - الزنى والسرقةُ.
الثاني: فعلُ اللسانِ، فهو عملٌ، والدليلُ على أن قولَ اللسانِ من الأفعالِ: أن اللَّهَ صَرَّحَ أن قولَ اللسانِ من الأفعالِ في سورةِ [الأنعام]
(2)
، في قولِه جل وعلا:{زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام: آية 112] فأطلقَ على زخرفِ القولِ اسمَ (الفعلِ)، فدلَّ على أن قولَ اللسانِ فِعْلٌ. هذان قِسْمَانِ: الفعلُ - المعروفُ - بأحدِ الجوارحِ، وفعلُ اللسانِ.
(1)
انظر: نثر الورود (1/ 78)، مذكرة أصول الفقه ص 38 - 40.
(2)
في الأصل: (الأعراف) وهو سبق لسان.
الثالثُ: العزمُ المُصَمِّمُ
(1)
؛ لأن عزمَ الإنسانِ المُصَمِّم دَلَّتِ السُّنَّةُ الصحيحةُ على أنه من الأفعالِ السيئةِ التي تُدْخِلُ صاحبَها النارَ، والدليلُ على ذلك: ما ثَبَتَ في الصحيحين من حديثِ أبي بكرةَ رضي الله عنه: «إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ» قالوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ قد عرفنا القاتلَ، فما بالُ المقتولِ؟ قال:«إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ»
(2)
. فقولُهم: ما بالُ المقتولِ؟ سؤالٌ من الصحابةِ واستفهامٌ عن إبرازِ السببِ الذي دَخَلَ به المقتولُ النارَ، فَبَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم جوابًا مُطَابِقًا للسؤالِ أن حرصَه وعزمَه
المُصَمِّمَ على قتلِ أخيه هو السببُ الذي أَدْخَلَهُ النارَ. أما الهمُّ الذي لم يكن عزمًا مُصَمِّمًا، فليس من الأفعالِ، كما قال جل وعلا:{إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا} [آل عمران: آية 122] وإتباعُه لذلك بقولِه: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} دَلَّ على أنه هَمٌّ لم يَسْتَقِرَّ، ولم يكن عَزْمًا مُصَمِّمًا حتى يُعَدَّ من الأفعالِ، ومن ذلك الهمِّ - الذي ليس من العزمِ المُصَمِّمِ الذي هو من الأفعالِ - ما في الحديثِ:«وَإِذَا هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ»
(3)
وإنما كُتِبَتْ له حسنةٌ؛ لأنه تَرَكَهَا لوجهِ اللَّهِ (جل
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (10/ 720)، فتح الباري (11/ 324 - 329)، (12/ 197)، نثر الورود (1/ 78)، مذكرة أصول الفقه ص 39.
(2)
البخاري، كتاب الديات، باب: قول الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا
…
} حديث رقم (6875)، (12/ 192)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب: إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، حديث رقم (2888)، (4/ 2213).
(3)
هذه الجملة رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الصحابة:
الأول: أنس بن مالك رضي الله عنه في حديث الإسراء الطويل الذي أخرجه الشيخان وغيرهما. إلا أن هذه الجملة لم ترد في لفظ البخاري وإنما هي في صحيح مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات، وفرض الصلوات، حديث رقم (162)، (1/ 145).
الثاني: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:{يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} حديث رقم (7501)، (13/ 465)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة كُتبت، وإذا هم بسيئة لم تُكتب، حديث رقم (128 - 130)، (1/ 117 - 118).
الثالث: حديث ابن عباس رضي الله عنه عند البخاري، كتاب الرقاق، باب: من هم بحسنة أو بسيئة حديث رقم (6491)، (11/ 323)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب: إذا هم العبد بحسنة كُتبت، وإذا هم بسيئة لم تُكتب. حديث رقم (131)، (1/ 118).
وعلا)، فكان تركُه إياها امتثالاً لأمرِ اللَّهِ، وكانت بذلك حسنةً، كما قال تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)} [النازعات: الآيتان 40 - 41].
الرابعُ: هو التركُ، والتركُ من الأفعالِ الحقيقيةِ، فهو فعلٌ على التحقيقِ
(1)
، وإن خَالَفَ فيه مَنْ خَالَفَ، فَمَنْ تركَ الصلاةَ حتى ضاعَ وقتُها فقد عَمِلَ بهذا التركِ عملاً سَيِّئًا يدخلُ به النارَ، وكان ابنُ السبكيِّ في بعضِ تآليفِه في الأصولِ يقولُ: طالعتُ كتابَ اللَّهِ لأجدَ فيه آيةً تدلُّ على أن التركَ فعلٌ فما وجدتُ فيه شَيْئًا يدلُّ على أن التركَ فعلٌ إلا شيئًا يُفْهَمُ من آيةٍ في سورةِ الفرقانِ هي قولُه: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: آية 30] قال: الاتخاذُ أصلُه من الأخذِ، والأخذُ: التناولُ. فقال: تَنَاوَلُوهُ
(1)
انظر: مجموع الفتاوى (14/ 282 - 285)، القواعد والفوائد الأصولية ص 62، المسودة ص80، المستصفى (1/ 90)، شرح مختصر الروضة (2/ 242 - 247)، شرح الكوكب المنير (1/ 491)، نثر الورود (1/ 78)، مذكرة أصول الفقه ص 38 - 40، أضواء البيان (6/ 317).
مهجورًا. فَدَلَّ على أن الهجرَ فِعْلٌ.
ونحن نقولُ: إِنَّا باتباعِ كتابِ اللَّهِ وَجَدْنَا آياتٍ صريحةً من كتابِ اللَّهِ تدلُّ بصراحةٍ لا شكَّ فيها على أن التركَ من الأفعالِ، منها: آيتانِ في سورةِ [المائدة]
(1)
، ذَكَرْنَاهُمَا فيما مَضَى، إِحْدَاهُمَا قولُه تعالى:{لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: آية 63] فَسَّمَى عدمَ نهيهِم وتركهِم للأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ سَمَّاهُ: (صُنْعًا)، والصُّنعُ أَخَصُّ من مطلقِ الفعلِ، ومنه قولُه تعالى في المائدةِ أيضًا:{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} ثم قال: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة: آية 79] يعني به تركَهم للتناهِي عن المنكرِ، سَمَّاهُ (فعلاً) وأنشأَ له الذمَّ بقوله:{لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} . هذه الأقسامُ الأربعةُ هي الأفعالُ، واللغةُ العربيةُ تَدُلُّ على أن التركَ من الأفعالِ، وقد قال بعضُ الصحابةِ لَمَّا أراد النبيُّ صلى الله عليه وسلم عند أولِ مجيئِه لهذه المدينةِ مُهَاجِرًا عند بنائِه هذا المسجدَ الكريمَ، كانوا يحملون المؤونةَ لِيَبْنُوهُ، وواحدٌ جالسٌ، فرأى النبيَّ صلى الله عليه وسلم يعملُ معهم، فقال رَاجِزًا
(2)
:
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلَّلُ
فَسَمَّى تركَهم للعملِ سَمَّاهُ (عَمَلاً مُضَلَّلاً) وبهذا يُعْلَمُ أن قولَه في هذه الآيةِ الكريمةِ: {مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا} أن عَمَلَ السوءِ قد يكونُ بفعلِ أحدِ الجوارحِ، وقد يكونُ بفعلِ اللسانِ، وقد يكونُ
(1)
في الأصل: (الأنعام) وهو سبق لسان.
(2)
البيت في السيرة النبوية لابن هشام (1/ 522)، نثر الورود (1/ 79).
بالعزمِ المصممِ، كما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ»
(1)
. وقد يكونُ بتركِ ما أَوْجَبَهُ اللَّهُ جل وعلا.
هذه الأعمالُ التي يعملها الإنسانُ سيئةٌ.
وقولُه: {مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا} السوءُ: كُلُّ عملٍ يسوءُ صاحبَه إذا رآه في صحيفتِه يومَ القيامةِ.
وقولُه: {بِجَهَالَةٍ} الجارُّ والمجرورُ في منزلةِ الحالِ. أي: حال كونِه متصفًا بالجهالةِ. ولا يَعْصِي اللَّهَ أحدٌ إلا هو متصفٌ بجهالةٍ؛ لأن المعاصيَ غالبًا لا تُحْمَلُ عليها إلا أغراضٌ دنيويةٌ عاجلةٌ، وَمَنْ آثَرَ هذا الغرضَ الدنيويَّ العاجلَ على ما عِنْدَ اللَّهِ (جل وعلا) فهو جاهلٌ، وإن كان في الجملةِ يعلمُ أن فعلَه هذا حرامٌ، وأنه عَالِمٌ بما يأتي، فلا بُدَّ أن يكونَ جاهلاً من تلك الحيثيةِ، وَكُلُّ مَنْ وقعَ في أمرٍ لا ينبغي تقول له العربُ:«جاهلٌ»
(2)
، و «وَقَعَ فيه بِجَهْلٍ» ، وهو كلامٌ معروفٌ في كلامِ العربِ الذين نزلَ القرآنُ بلغتِهم، ومن هذا المعنى قولُ الشاعرِ
(3)
:
عَلَى أَنَّهَا قَالَتْ عَشِيَّةَ زُرْتُهَا جَهِلْتَ عَلَى عَمْدٍ وَلَمْ تَكُ جَاهِلَا
تعني أنه فعلَ ما لا ينبغي أن يفعلَ، وهذا معنى قولِه:{مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ} .
{ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ} أَيْ مِنْ بعدِ ذلك العملِ الذي عمل به السوءَ بجهالةٍ {تَابَ وَأَصْلَحَ} .
(1)
مضى تخريجه قريبا.
(2)
مضى عند تفسير الآية (67) من سورة البقرة.
(3)
البيت في مشاهد الإنصاف ص 93.
قولُه: {وَأَصْلَحَ} دليلٌ على أن التوبةَ ليست قولاً باللسانِ مع الرجوعِ للمعاصِي، هذا ليس كما ينبغي، بل يتوبُ توبةً نصوحًا، ثم بعدَ ذلك يُصْلِحُ ولا يرجعُ لِمَا كان يعملُ من السوءِ، وَحَذَفَ مفعولَ (أصلح) لقصدِ التعميمِ، وأصلحَ جميعَ أقوالِه وأفعالِه وَنِيَّاتِهِ وقصدِه، فلم يَفْعَلْ إلا طَيِّبًا.
والتوبةُ عندَ العلماءِ تتركزُ على ثلاثةِ أُسُسٍ
(1)
، إذا اجتمعت كُلُّهَا
فالتوبةُ نصوحٌ، وإذا اخْتَلَّ واحدٌ منها فليست بتوبةٍ نصوحٍ:
أولُها: أن يُقْلِعَ عن الفعلِ إن كان مُتْلَبِسًا به.
والثاني: أن يندمَ على الفعلِ الذي صَدَرَ منه ندمًا شديدًا وَيَأْسَفَ.
والثالثُ: أن ينويَ أن لا يعودَ إلى الذنبِ حتى يعودَ اللَّبَنُ في الضرعِ.
ومعلومٌ أن التوبةَ واجبةٌ بإجماعِ المسلمين من كُلِّ ذنبٍ يَجْتَرِمُهُ الإنسانُ، وتأخيرُها ذنبٌ يحتاجُ إلى توبةٍ، واللَّهُ أَمَرَ بها أمرًا صَارِمًا، قال:{وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: آية 31] وقولُه: {تُوبُوا} صيغةُ أَمْرٍ واجبةٌ، فالتوبةُ واجبةٌ من كُلِّ ذنبٍ بإجماعِ المسلمين. وقد بَيَّنَ (جل وعلا) أنها مظنةٌ لغفرانِ الذنوبِ حيث قال جل وعلا:{تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا} وَأَتْبَعَ ذلك بقولِه: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم: آية 8] فـ (عَسَى) من الله عظيمةٌ تدلُّ على أن مَنْ تَابَ توبةً نصوحًا كَفَّرَ اللَّهُ عنه سيئاتِه.
(1)
انظر: القرطبي (5/ 91).
وَاعْلَمُوا أن العلماءَ مُطْبِقُونَ على أن التوبةَ تتركزُ على هذه الأشياءِ الثلاثةِ: الإقلاعِ عن الذنبِ إن كان مُتْلَبِسًا به، والندمِ على فعلِ الذنبِ، ونيةِ أن لا يعودَ إلى ذلك الذنبِ.
ومعروفٌ أن في أركانِ التوبةِ - هذه - إشكالاتٌ وسؤالاتٌ معروفةٌ عند العلماءِ
(1)
، منها: أن الندمَ ركنٌ من أركانِ التوبةِ بالإجماعِ، والتوبةُ واجبةٌ بالإجماعِ، وَرُكْنُ الواجبِ واجبٌ، فالندمُ على الذنبِ واجبٌ إِجْمَاعًا، وهذا مِمَّا لا خلافَ فيه، وَمَحَلُّ الإشكالِ في هذا الركنِ من أركانِ التوبةِ هو أن يقولَ المُسْتَشْكِلُ: أما الندمُ فإنه ليس من أفعالِ الإنسانِ الاختياريةِ، وإنما هو انفعالٌ وَتَأَثٌّرٌ نفسانيٌّ، والانفعالاتُ والتأثراتُ النفسانيةُ ليست تحتَ قدرةِ البشرِ، وليست من أفعالِ البشرِ، وليست مِنْ عَمَلِ البشرِ باختيارِهم حتى يُطلقَ عليها أنها واجبةٌ، ونحن نشاهدُ هذا، ترى الرجلَ البائعَ المغبونَ إذا باعَ وغُبِنَ في بيعِه غَبْنًا شديدًا تراه في شدةِ الندمِ، وهو يتجلدُ ويحاولُ أن يدفعَ الندمَ عن نفسِه فلا يستطيعُ، فهذا يُبَيِّنُ أن الندمَ ليس من الأفعالِ الاختياريةِ، وإنما هو انفعالٌ، وتأثرٌ نفسانيٌّ، وترى الرجلَ - والعياذُ بالله - إذا كان يعشقُ امرأةً جميلةً بارعةً في الجمالِ، إذا نال منها قُبْلَةً، إذا أراد أن يتندمَ يتخيلُ له خيالُ ذلك الجمالِ فينبسطُ إليه قلبُه، ولا يستطيعُ الندمَ؛ فَلِذَا كُنَّا نعاينُ الرجلَ قد يريدُ أن يندمَ ولا يندمُ، وقد يريدُ أن لا يندمَ فيندمُ، فالندمُ انفعالٌ نفسانيٌّ، وتأثرٌ ليس من الأفعالِ الاختياريةِ، فكيف نقولُ: إنه واجبٌ، وإنه ركنٌ للواجبِ؟ هذا السؤالُ الأولُ.
(1)
انظر: الأضواء (6/ 206).
والجوابُ عن هذا هو ما حَقَّقَهُ بعضُ العلماءِ من أن الندمَ لا يعجزُ عنه الإنسانُ إلا إذا كان مُسْتَرْسِلاً مع النفسِ، مُحَابِيًا لها فيما [لا] ينبغي
(1)
؛ لأن أسبابَ الندمِ قائمةٌ بكثرةٍ، متوفرةٌ كُلَّ التَّوَفُّرِ، وَمَنْ أَخَذَ بالأسبابِ كان في استطاعتِه حصولُ المسببِ
(2)
، ذلك لأن عامةَ العقلاءِ يُطْبِقُونَ على أن الإنسانَ إذا قُدِّمَ إليه شرابٌ في غايةِ الحلاوةِ واللذاذةِ، لا يوجدُ شرابٌ أَحْلَى منه، ولا أَلَذَّ، إلا أن هذا الشرابَ فيه سُمٌّ قَاتِلٌ فَتَّاكٌ، فعامةُ العقلاءِ لَا يَسْتَحْلُونَ حلاوةَ هذا الشرابِ، ولا يَلْتَذُّونَ بِلَذَّتِهِ؛ لِمَا فيه من السمِّ القاتلِ الفتاكِ، وحلاوةُ المعاصي - أَعَاذَنَا اللَّهُ والمسلمين منها - تَنْطَوِي على السمِّ القاتلِ الفتاكِ، وهو سخطُ رَبِّ العالمين وغضبِه (جل وعلا)؛ لأن الإنسانَ لا يدري إذا سَخِطَ عليه رَبُّهُ أن يهلكَه في وقتِه، ثم يجعله في عذابٍ، فإذا عَرَفَ الإنسانُ أن حلاوةَ المعاصِي تنطوي على السمِّ القاتلِ الفتاكِ مِنْ سَخَطِ رَبِّ العالمين، وألزمَ نفسَه بالحقائق، وعرفَ أنه تَعَرَّضَ لسخطِ خالقِ السماواتِ والأرضِ بلذةٍ فانيةٍ، تَنْطَوِي على السمِّ الفتاكِ من سخطِ رَبِّ العالمين، فالعاقلُ إذا أَخَذَ هذه الأسبابَ على حقيقتِها، ولم يُجَامِلْ نفسَه، ولم يُحَابِهَا، لا بد أن يندمَ، فبسببِ كونِ أسبابِ الندمِ متيسرةً، متوفرةً قائمةً، وأن مَنْ أَخَذَ بالأسبابِ غالبًا يُحَصِّلُ المُسَبَّبَ، من هنا قِيلَ: إن الندمَ واجبٌ من هذه الحيثيةِ.
الثاني: أن الإنسانَ قد يتوبُ إلى اللَّهِ توبةً نصوحًا، ويحاولُ الإقلاعَ عن الذنبِ، ولكنه يكونُ تمادي فعله الأول متماديا
(3)
لا يقدرُ
(1)
ما بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.
(2)
انظر: البرهان للزركشي (2/ 203 - 204)، قواعد التفسير (2/ 784).
(3)
أي: أن تأثيره باق مستمر.
على نزعِه، فهل يكون تائبًا؛ لأنه فَعَلَ مَقْدُورَهُ، أو لا يكون تائبًا؛ لأنه لم يُقْلِعْ
(1)
؟
ومن أمثلةِ هذا عند العلماءِ: رجلٌ كان مُبْتَدِعًا، وَبَثَّ بدعتَه في الناسِ، حتى طارَ بها أتباعُه في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، وجنوبِها وشمالِها، وَبَقَوْا على ذلك البدعةِ، ومعلومٌ أن مَنْ سَنَّ سُنةً سيئةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بها، وأعمالُ أولئك من ذنوبِه؛ لأنه سَنَّهَا لهم، وَاللَّهُ يقولُ في رؤساءِ الضلالِ الذين يَسُنُّونَ البدعَ والضلالاتِ:{وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: آية 13] ويقولُ فيهم: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل: آية 25] هذا المبتدعُ الذي طارت بدعتُه في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، ففسادُها منتشرٌ، إذا عرفنا أنه كان مبتدعًا وراجعَ التوبةِ، هل نقولُ: هو تائبٌ توبةً مستكملةَ الشروطِ؛ لأنه فَعَلَ قدرَ ما يقدرُ عليه؟ أو نقولُ: ليس بتائبٍ؛ لأنه لم يُقْلِعْ؛ لأن شَرَّ فِعْلِهِ باقٍ مُتَمَادٍ في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها؟ ومن هذا المعنى: إذا غَصَبَ الرجلُ أرضًا نحو عشرين كيلاً مُرَبَّعًا، ثم نَدِمَ على الغصبِ وأرادَ أن يخرجَ منها، لو أَدْرَكَهُ الموتُ وهو ماشٍ خَارِجًا منها، هل نقولُ: ماتَ تَائِبًا؛ لأنه فَعَلَ قَدْرَ ما يستطيعُ؟ أو نقولُ: لم يَمُتْ تائبًا؛ لأنه أَخَذَ الأرضَ بغيرِ وجهٍ شَرْعِيٍّ، وماتَ وجرمُه باقٍ فيها: سَالِبٌ أَرْضًا لغيرِه؟ وكذلك الإنسانُ، إذا رَمَى إنسانًا بسهمٍ من بعيدٍ، فَلَمَّا فارقَ السهمُ الرميةَ تابَ وأقلعَ قبلَ أن يصيبَ السهمُ الْمَرْمِيَّ، فلو فَرَضْنَا أن هذا الإنسانَ عندما رَمَى السهمَ، والسهمُ في الهواءِ، وأقلعَ وتابَ إلى اللَّهِ توبةً نصوحًا، فأخذه أحدٌ وَقَطَعَ رأسَه قبلَ أن يصلَ السهمُ إلى المرمي، فنقول: هل ماتَ تائبًا؛ لأنه فَعَلَ
(1)
انظر: الموافقات (1/ 231)، نثر الورود (1/ 215) ..
قدرَ ما يَقْدِرُ عليه؟ أو نقول: لم يَتُبْ؛ لأنه لم يُقْلِعْ؛ لأن شَرَّ فِعْلِهِ بَاقٍ مُتَمَادٍ؟ ولهذا نظائرُ كثيرةٌ.
للعلماءِ في هذا الأخيرِ وَجْهَانِ، كما هو مقررٌ في الأصولِ، وأظهرُ القولين وَأَجْرَاهُمَا على قواعدِ الشرعِ: أنه تائبٌ، وأن توبتَه كاملةٌ؛ لأنه فَعَلَ قَدْرَ طاقتِه، وما عَجَزَ عنه فهو مَعْفُوٌّ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول:«إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»
(1)
. والله يقولُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: آية 16] هذا هو الظاهرُ. وهذا معنَى قولِه: {ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ} إصلاحُه لعملِه يأتي بثلاثةِ أشياء
(2)
، إذا تَحَصَّلَتْ هذه الأشياءُ كان عَمَلُهُ صالحًا، وإذا اختلتْ أو واحدٌ منها كان العملُ غيرَ صالحٍ.
أولُها: أن يكونَ عملُه مطابقًا لِمَا جاءَ به محمدٌ صلى الله عليه وسلم؛ لأن اللَّهَ مَلِكٌ لا يقبلُ أن يُتَقَرَّبَ إليه إلا تَقَرُّبًا مُطَابِقًا لِمَا شَرَعَ، وَاللَّهُ يقولُ:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: آية 21] ويقولُ اللَّهُ جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: آية 7]{مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: آية 80]{إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} الآية [آل عمران: آية 31] هذا هو الأولُ من الثلاثةِ.
(1)
أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث رقم (7288)، (13/ 251)، ومسلم، كتاب الحج، باب: فرض الحج مرة في العمر، حديث رقم (1337)، (2/ 975)، وفي كتاب الفضائل، باب توقيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، ورقمه في كتاب الفضائل (130)، (4/ 1830 - 1831).
(2)
انظر: أضواء البيان (3/ 352 - 353).
الثَّانِي: أن يكونَ العبدُ الذي جاءَ بذلك العملِ - مطابقًا لِمَا جَاءَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم، أن يكونَ - فيما بينَه وبينَ اللَّهِ - في نيتِه التى لا يَطَّلِعُ عليها إلا اللَّهُ. أن يكونَ مُخْلِصًا لِلَّهِ؛ لأن اللَّهَ يقول:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: آية 5] ويقولُ: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ الدِّينَ} [الزمر: آية 11] فَمَنْ عَبَدَ بغيرِ إخلاصٍ جاءَ بما لم يُؤْمَرْ به؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: آية 5].
الثالثُ: من هذه الأمورِ الثلاثةِ: أن يكونَ ذلك العملُ - الذي وقعَ بإخلاصٍ مُطَابِقًا للشرعِ - أن يكونَ مَبْنِيًّا على أساسِ التوحيدِ والإيمانِ الصحيحِ والعقيدةِ الصحيحةِ؛ لأن العقيدةَ كالأساسِ، والعملَ كالسقفِ، فإذا وَجَدَ السقفُ أساسًا ثَبَتَ عليه، وإن لم يَجِدْ أساسًا انْهَارَ؛ لأن اللَّهَ يقولُ:{وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: آية 124] فجعلَ الإيمانَ قَيْدًا في ذلك العملِ، وَبَيَّنَ مفهومَ قولِه:{وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أن العاملَ لو كان غيرَ مؤمنٍ فعملُه لا فائدةَ فيه، كما قال في أعمالِ غيرِ المؤمنين:{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: آية 23]{أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} [إبراهيم: آية 18]{أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ} [النور: آية 39] وقولُه جل وعلا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَاّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: آية 16] إلى غيرِ ذلك من الآياتِ، وهذا معنَى قولِه:{أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: آية 54] على قراءةِ: {فَإِنَّهُ غفور رحيم}
(1)
فالهمزةُ مكسورةٌ للاستئنافِ.
(1)
مضى عند تفسير الآية (53 - 54) من سورة الأنعام.
وعلى قراءةِ: {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فهو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، وتقريرُ المعنى:{أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ} أي: فَلَهُ غفرانُ اللَّهِ (جل وعلا)؛ لأن المصدرَ المنسبكَ من (أن) وصلتَها يُسْبَكُ من لفظٍ باسم المُسْتَقِلَيْنِ فيها، أي: الفعل، فمعنى {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فغفرانُ اللَّهِ، أي: فَلَهُ غفرانُ اللَّهِ ورحمتُه (جل وعلا)، وهذا أظهرُ الْوَجْهَيْنِ، واختارَه سيبويه، خلافًا لمن قَدَّرَهُ مبتدأً لخبرٍ محذوفٍ؛ لأن حذفَ المبتدأِ أكثرُ من حذفِ الخبرِ. وَغَلِطَ مَنْ قال: إنه معطوفٌ على (أنه) الأُولَى؛ لأن العطفَ لا يصحُّ هنا؛ لأن بينهما أداةَ شرطٍ، ولو قلنا إن (مَنْ) مَوْصُولَةٌ، وجعلناه معطوفًا، لم يَبْقَ هنالك خبرٌ للمبتدأِ الذي هو (مَنْ)، فكونُه عطفًا على (أن) الأُولَى لا يصحُّ، وإن غَلِطَ فيه جماعةٌ
(1)
.
ومعنى قولِه: {غَفُورٌ} أي: كثيرُ المغفرةِ لعبادِه {رَّحِيمٌ} يرحمُ عبادَه (جل وعلا)، والرحيمُ: مختصٌّ بالمؤمنين في الآخرةِ، كما بَيَّنَّاهُ في البسملةِ
(2)
، وكما قال تعالى:{وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} [الأحزاب: آية 43].
{وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام: آية 55] في هذا الحرفِ ثلاثُ قراءاتٍ سبعياتٍ
(3)
: قرأه مِنَ القراءِ نافعٌ وحدَه: {ولِتَسْتَبينَ سبيلَ المجرمين} بالتاءِ في {وَلِتَسْتَبِينَ}
(1)
انظر: القرطبي (6/ 436)، البحر المحيط (4/ 141)، الدر المصون (4/ 650 - 654).
(2)
انظر: الأضواء (1/ 40).
(3)
انظر: المبسوط لابن مهران ص 195، حجة القراءات ص 253، تفسير ابن جرير (11/ 395).
ونَصْبِ (سبيلَ المجرمين)، وعلى هذه القراءةِ فـ {وَلِتَسْتَبِينَ} تَاؤُهُ تاءُ خطابٍ والفاعلُ محذوفٌ لُزُومًا، تقديرُه: أنتَ. وعليه فالمعنى: ولتستبينَ أنتَ يا نَبِيَّ اللَّهِ سبيلَ المجرمين.
وقرأه حمزةُ والكسائيُّ وشعبةُ عن عاصمٍ: {وليستبينَ سبيلُ المجرمين} بالياءِ وَضَمِّ (السبيلُ)، على أن (السبيلَ) مذكرٌ {وليستبينَ سبيلُ المجرمين} و (السبيلُ) يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ
(1)
، وتذكيرُه لغةُ التميميين وغيرِهم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ. وعلى لغةِ التذكيرِ قراءةُ حمزةَ والكسائيِّ وشعبةَ عن عاصمٍ في قولِه هنا:{وليستبينَ سبيلُ المجرمين} أي: يظهرُ ويتضحُ طريقُ المجرمين. ومن تذكيرِ (السبيلِ) قولُه في الأعرافِ: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: آية 146] بتذكيرِ (السبيلِ).
وقرأ باقِي السبعةِ وَهُمْ: ابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو وابنُ عامرٍ وحفصٌ عن عاصمٍ، قرأ هؤلاء:{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} بالتاءِ في (تستبين) ورفعِ (السبيلُ)، على أن {سَبِيلُ المُجْرِمِينَ} فاعلُ (تستبين) وَأَنَّ (السبيل) مؤنثةٌ، وتأنيثُ (السبيل) كهذه القراءةِ كقولِه في سورةِ يوسفَ:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: آية 108] ولم يَقُلْ: هذا سبيلي.
فَتَحَصَّلَ أن قراءةَ التاءِ: {وَلِتَسْتَبِينَ} رَفَعَ بعدَها - غيرَ نافعٍ - (السبيل) فقالوا: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} أي: لتظهرَ وتتضحَ طريقُ الْمُجْرِمِينَ. والتاءُ في قراءةِ هؤلاء: هي تاءُ المؤنثةِ، كما
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 396)، القرطبي (6/ 437)، الدر المصون (4/ 655)، بصائر ذوي التمييز (3/ 185).
تقولُ: «تَسْتَبِينُ هِنْد وتقوم فلانةُ» . و «تستبين السبيلُ» على أنها مؤنثةٌ.
أما على قراءةِ نافعٍ: فالتاءُ في (تستبين) تاءُ خطابٍ ليست تاءَ تأنيثٍ، والفاعلُ غيرُ (السبيل) مضمرٌ، أي: ولتستبين أنتَ يا نَبِيَّ اللَّهِ سبيلَ المجرمين.
و (اسْتَبَانَ) تأتي لازمةً ومتعديةً
(1)
، (اسْتَبَانَ) و (أَبَانَ) و (تَبَيَّنَ) هذه الأفعالُ الثلاثةُ من المزيدِ من (بَانَ) تأتي في لغةِ العربِ لازمةً ومتعديةً، أما (اسْتَبَانَ) فقد جاءت لازمةً على قراءةِ الجمهورِ، مَنْ قَرَؤُوا:{وليستبينَ سبيلُ المجرمين} ومَنْ قرؤوا {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} على قراءتِهم كلهم فـ (تستبين) هنا لازمةٌ، و (سبيل المجرمين) فاعلٌ، ولا مفعولَ للفعلِ، أما على قراءةِ نافعٍ: ففعلُ الاستبانةِ هنا مُتَعَدٍّ إلى المفعولِ؛ لأن المعنَى: ولتستبينَ أَنْتَ سبيلَ الْمُجْرِمِينَ، أي: تَتَبَيَّنَهَا وتعرفَها. فهاتانِ القراءتانِ فيهما مثالٌ للزومِ (استبان) وَلِتَعَدِّيهَا.
ونحو (اسْتَبَانَ): (أَبَانَ) و (بَيَّن) فالعربُ أيضا تستعملُ (أبان) لازمةً، تقول:«أبانَ هذا الأمرُ وَاتَّضَحَ» . بمعنى: ظَهَرَ. وتستعملها متعديةً للمفعولِ، تقولُ:«أبانَ زيدٌ كَلَامَهُ، وأبانَ اللَّهُ الأمرَ الفلانيَّ» . كما هو معروفٌ، ومن إتيانِ (أبان) لازمةً: يَكْثُرُ في القرآنِ اسمُ فاعلِها {كِتَابٍ مُّبِينٍ} [المائدة: آية 59] و (الكتابُ المبينُ) هو مِنْ (أَبَانَ) اللازمةِ. ومن إتيانِ فاعلِ (أبان) اللازمةِ: قولُ كعبِ بنِ زهيرٍ في بَانَتْ سُعَادُ
(2)
:
(1)
انظر: الدر المصون (4/ 655)، الأضواء (6/ 224).
(2)
شرح قصيدة كعب بن زهير، لابن هشام ص210.
قَنْوَاءُ فِي حُرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا
…
عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدَّيْنِ تَسْهِيلُ
(مبين): اسمُ فاعلِ (أبانَ) اللازمةِ، بمعنى: بَيِّنٌ ظَاهِرٌ. ومن إتيانِ (أبان) لازمةً: قولُ عمرَ بنِ أَبِي ربيعةَ المخزوميِّ
(1)
:
لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فَوْقَ ضَاحِي
…
جِلْدِهَا لأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُورُ
يعني: لَظَهَرَ مِنْ آثارِ النملِ حُدُورٌ، أي: ورمٌ. و (أبان) لازمةٌ، وفاعلُها: الحدورُ، ولا مفعولَ لها، ومنه قولُ جريرٍ
(2)
:
إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عُدُّوا
…
أَبَانَ الْمُقْرِفَاتِ
(3)
مِنَ الْعِرَابِ
(4)
أي: ظَهَرَ وَتَبَيَّنَ المقرفات من العِرابِ، وكذلك (بَيَّنَ) تأتي لازمةً في كلامِ العربِ، ومنه المثلُ:(قد بَيَّنَ الصبحُ لذي عينين)
(5)
معناه: بَيَّنَ الصبحُ، أي: بَانَ وظهرَ وَتَبَيَّنَ. ومنه بهذا المعنى قولُ قيسِ بنِ ذُريحٍ في روايةِ الجمهورِ
(6)
:
وَلِلْحُبِّ آيَاتٌ تَبَيَّنُ بِالْفَتَى
…
شُحُوبٌ وَتَعْرَى مِنْ يَدَيْهِ الأَصَابِعُ
(7)
فروايةُ الجمهورِ فيمن رَوَى بيتَ ابنِ ذُريحٍ هذا يَرْوِيهِ:
(1)
البيت في اللسان (مادة: بين)(1/ 302).
(2)
مضى عند تفسير الآية (46) من هذه السورة.
(3)
جمع (مُقْرِف) وهو من الفرس وغيره: ما يُداني الهُجْنَة، أي أُمه عربية لا أبوه. انظر: القاموس (مادة: القِرْف)(1091).
(4)
العراب: هي التي عتقت وسلمت من الهُجنة. انظر: القاموس (مادة: العُرب)(145).
(5)
انظر: الأمثال لأبي عبيد ص59، معجم الأمثال العربية (3/ 260).
(6)
البيت في اللسان (مادة: بين)(1/ 302).
(7)
في اللسان: الأشاحم.
(شُحوبٌ) بالضمِّ، والمعنى: وللحبِّ آياتٌ تَبَيَّنُ بالفتِى، أي: تَظْهَرُ وتلوحُ بالفتَى. ما هذه الآياتُ؟ شحوبٌ وَتَعْرَى من يديه الأصابعُ. وَرَوَى بيتَ ابنِ ذريحٍ هذا ثعلبٌ، رواه ثعلبٌ:
وَلِلْحُبِّ آيَاتٌ تُبَيِّنُ بِالْفَتَى شُحُوبًا ................
بالنصبِ
(1)
وعلى هذه الروايةِ فلا شاهدَ في البيتِ. ومن إتيانِ (بَيَّنَ) لازمةً قولُ جريرٍ
(2)
:
رَأَى النَّاسُ الْبَصِيرَةَ فَاسْتَقَامُوا وَبيَّنَتِ الْمِرَاضُ مِنَ الصِّحَاحِ
يعني: ظَهَرَتْ وَتَبَيَّنَتْ. وقولُه يهجو الفرزدقَ
(3)
:
وُجُوهُ مُجَاشِعٍ طُلِيَتْ بِلُؤْمٍ
…
يُبَيِّنُ فِي الْمُقَلَّدِ وَالْعِذَارِ
ومعنى الآيةِ الكريمةِ: {وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ} وكذلك التفصيلُ الذي فَصَّلْنَا لكَ فيه آياتِ هذه السورةِ الكريمةِ مِمَّا كُنَّا نُفَصِّلُ، كذلك التفصيلَ والبيانَ الواضحَ نُفَصِّلُ آياتِ القرآنِ في كُلِّ ما يحتاجُ إليه الخلقُ من أمورِ دينِهم وَفِي كُلِّ إبطالِ المقالاتِ الباطلةِ التي يأتي بها الخصومُ:{وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَاّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: آية 33].
وقولُه: {وَلِتَسْتَبِينَ} - على قراءةِ الجمهورِ من (اسْتَبَانَ) اللازمةِ - معناه: ولتظهرَ طريقُ المجرمين. و (المجرمون) جمعُ (المجرمِ)، و (المجرمُ): اسمُ فاعلِ (الإجرامِ)، و (الإجرامُ): ارتكابُ الجريمةِ، و (الجريمةُ): الذنبُ العظيمُ الذي يستحقُّ صاحبُه
(1)
انظر: المصدر السابق.
(2)
ديوان جرير (1/ 90)، الأضواء (6/ 225).
(3)
ديوان جرير ص 146، الأضواء (6/ 225).
النكالَ، تُسْتَعْمَلُ مادتُه رباعيةً وثلاثيةً، تقولُ:«أَجْرَمَ» ، كقولِه:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [المطففين: آية 29] وتقول: «جَرَمَ الذَّنْبُ، فَهُوَ جَارِمٌ» ففاعلُ الثلاثيةِ: (جارم) على القياسِ، وفاعلُ الرباعيةِ (مجرمٌ) على القياسِ، ومن إطلاقِه ثلاثيًّا قولً الشاعرِ
(1)
:
ونَنْصُرُ مَوْلَانَا وَنَعْلَمُ أَنَّهُ كَمَا النَّاسِ مَجْرومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ
لأن (المجرومَ) و (الجارمَ) اسمُ مفعولٍ، واسمُ فاعلٍ لجرم الثلاثيةِ إذا ارتكبَ الجريمةَ
(2)
.
وقولُه هنا: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} أي: ولتظهر طريقُ المجرمين، وعلى قراءةِ نافعٍ:{وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلَ الْمُجْرِمِينَ} لتستبينَ يا نَبِيَّ اللَّهِ طريقَ المجرمين وَتَتَبَيَّنَهَا وتعلمها. والنبيُّ وإن كان عَالِمًا بسبيلِ المجرمين فإنه يُشَرَّعُ على لسانِه لأُمَّتِهِ، فَيُخَاطَبُ ليشرعَ على لسانِه لأُمَّتِهِ كما بَيَّنَّا
(3)
.
وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالانِ معروفانِ:
أحدُهما: في الواوِ، واوِ {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} علامَ عُطِفَ، وَبِمَ يَتَعَلَّقُ
(4)
؟
الثاني: لِمَ خَصَّ سبيلَ المجرمين، ولم يَذْكُرْ سبيلَ المؤمنين
(5)
؟
(1)
البيت لعمرو بن براقة. وهو في الأمالي (2/ 122).
(2)
انظر: اللسان (مادة: جرم)(1/ 445)، المصباح المنير (مادة: جرم) ص 38.
(3)
انظر: القرطبي (6/ 437)، البحر المحيط (4/ 141) وانظر: ما سيأتي عند تفسير الآية (90) من هذه السورة.
(4)
المصدران السابقان، الدر المصون (4/ 656).
(5)
المصادر السابقة.
الجوابُ عن الأولِ: أن الواوَ في قولِه: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} تتعلقُ بمحذوفٍ، واختلفوا في تقديرِه، قال بعضُهم: هو مُقَدَّرٌ بعدَها، وتقريرُ المعنى: ولأَجْلِ أن تستبينَ سبيلُ المجرمين فَصَّلْنَا لكَ هذا التفصيلَ. أي: ولأَجْلِ استبانتِها فَصَّلْنَا. وقال بعضُ العلماءِ: هو معطوفٌ على عِلَّةٍ محذوفةٍ، فدل المقامُ عليه: وكذلك نفصلُ الآياتِ لنبينَ لكم، ولتستبينَ سبيلُ المجرمين.
أما الجوابُ عن السؤالِ الثاني: وهو لِمَ خَصَّ سبيلَ المجرمين؟ فللعلماءِ عَنْهُ جَوَابَانِ:
أحدُهما: أن سبيلَ المجرمين إذا عُرِفَتْ عُرِفَتْ منها سبيلُ المسلمين؛ لأن الأشياءَ تُعْرَفُ بأضدادِها، وإذا عَرَفَ الإنسانُ الشرَّ عرفَ أن مُقَابِلَهُ هو الخيرُ، وكان حذيفةُ بنُ اليمانِ رضي الله عنه - كما ثَبَتَ عنه في الصحيحين - يسألُ عن الشرِّ لِيَعْرِفَهُ، ومعرفةُ الشرِّ على هذا طَيِّبَةٌ يعلمُها الناسُ لِيَتَجَنَّبُوهَا ويعلموا أن ما سواها هو الخيرُ، كما ثَبَتَ في الصحيحين عن حذيفةَ رضي الله عنه: كان الناسُ يسألون رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عن الخيرِ،
وكنتُ أسألُه عن الشرِّ مخافةَ أن يُدْرِكَنِي
(1)
.
قال بعضُ العلماءِ: في الآيةِ هنا حذفُ الواوِ وما عَطَفَتْ، أي:
(1)
أخرجه البخاري مختصرا، كتاب مواقيت الصلاة، باب: الصلاة كفارة، حديث رقم (525)، (2/ 8)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث (1435، 1895، 3586، 7096)، ومسلم، كتاب الإمارة، باب: وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، حديث رقم (1847)، (3/ 1475).
لتستبينَ سبيلُ المجرمين وسبيلُ المؤمنين. قالوا: ومنه: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: آية 81] أي: والبردَ {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ} [الأنعام: آية 13] أي: [وما تَحَرَّكَ]
(1)
، وحَذْفُ الواوِ وما عَطَفَتْ إن دَلَّ المقامُ عليه معروفٌ في كلامِ العربِ، وإليه أشارَ ابنُ مالكٍ في الخلاصةِ بقولِه
(2)
:
وَالْفَاءُ قَدْ تُحْذَفُ مَعْ مَا عَطَفَتْ وَالْوَاوُ إِذْ لَا لَبْسَ .....
يعني: وكذلك الواوُ تُحْذَفُ مع ما عَطَفَتْ كالفاءِ إن لم يَكُنْ هنالك لَبْسٌ.
يقول اللَّهُ جل وعلا: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: آية 56].
(1)
في الأصل: «والنهار» . وهذا سبق لسان أو وهم من الشيخ رحمه الله لأن النهار مذكور في الآية. وإنما الذي يذكره العلماء عند هذه الآية هو ما أثبته أعلى، والله أعلم. انظر: قواعد التفسير (1/ 374).
(2)
مضى عند تفسير الآية (42) من هذه السورة، وبقية البيت:«وهي انفردت» .
كان الكفارُ يقولونَ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: اعْبُدْ معنا آلِهَتَنَا مرةً، ونعبدُ معكَ إلهكَ مرةً أُخْرَى!! فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أن يقولَ لهم: إنه لا يعبدُ ما يَدَّعُونَ من دونِ اللَّهِ، قُلْ لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ:{إِنِّي نُهِيتُ} أي: نَهَانِي رَبِّي {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} والمعنَى: نَهَانِي أن أعبدَ الأصنامَ التي تعبدونَها من دونِ اللَّهِ، والمصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها في قولِه:{أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} مجرورٌ بحرفٍ محذوفٍ؛ لأن (نهى) تَتَعَدَّى بـ (عن) تقولُ: «نَهَانِي رَبِّي عن كذا» . كما تقدمَ في قولِه: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: آية 26] لأن (نَهَى) تتعدى بـ (عن)، والمصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها يَطَّردُ جَرُّهُ بحرفِ الجرِّ المحذوفِ، كما هو معروفٌ
(1)
، وتقريرُ المعنى: نَهَانِي رَبِّي عن أن أعبدَ الذين. وسَبْكُ المصدرِ: نَهَانِي رَبِّي عن عبادةِ الذين تدعونَ من دونِ اللَّهِ، وهذا نَهْيٌ عظيمٌ، ومعلومٌ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لا يعبدُ شيئًا من دُونِ اللَّهِ؛ إلا أن اللَّهَ يأمرُه وينهاهُ لِيُشَرِّعَ على لسانِه لأُمَّتِهِ.
إذا عَرَفْتُمْ أن المصدرَ المنسبكَ من (أن) وصلتِها في قولِه: {أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ} مجرورٌ بـ (عن) محذوفةٍ، فَاعْلَمُوا أن علماءَ العربيةِ مختلفونَ في المصدرِ المنسبكِ من (أن) وصلتِها المجرورِ بحرفٍ محذوفٍ، هل مَحَلُّهُ الجرُّ أو محلُّه النصبُ
(2)
؟ وفائدةُ هذا الخلافِ تظهرُ فيما لو عَطَفْتَ عليه اسمًا خَالِصًا، فعلى أن محلَّه النصبَ يُنْصَبُ المعطوفُ بعدَه، وعلى أن محلَّه الخفضَ يُخْفَضُ المعطوفُ عليه، وكبراءُ النحويين - منهم الخليلُ والكسائيُّ فمن حاذاهم - يقولون:
(1)
انظر: الدر المصون (4/ 656).
(2)
مضى عند تفسير الآية (67) من سورة البقرة.
إن مَحَلَّهُ النصبُ، وخالفَهم في هذا الأخفشُ الصغيرُ - عَلِيُّ بنُ سليمانَ النحويُّ المشهورُ - قال: مَحَلُّهُ الخفضُ؛ لأنه مخفوضٌ بالحرفِ المحذوفِ. قال: والدليلُ على ذلك أَنَّا وَجَدْنَا في كلامِ العربِ الفصحاءِ خفضَ المعطوفِ عليه، كقولِ الشاعرِ
(1)
:
وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً إِلَيَّ وَلَا دَيْنٍ بِهَا أَنَا طَالِبُهْ
فالروايةُ: «ولا دَيْنٍ» بالخفضِ وهو معطوفٌ على مصدرٍ مُنْسَبِكٍ من (أن) وصلتِها، مجرورٌ بحرفٍ محذوفٍ، وهو:«أن تكونَ» في قولِه: «وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً» أي: لكونِها حبيبةً، ولا لِدَيْنٍ. وقد أَجَازَ سيبويه الوجهين، واحتجَّ جماهيرُ النحويين عن هذا البيتِ - الذي أنشده الأخفشُ مُدَّعِيًا به أن المصدرَ المنسبكَ من «أن» وصلتِها المجرورَ بحرفٍ محذوفٍ، أن محلَّه الخفضُ - أجابوا عن ذلك: بأن محلَّه النصبُ، وأن خفضَ «ولَا دَيْنٍ» - بالجرِّ - أنه من نوعِ العطفِ المعروفِ بعطفِ التوهمِ، وعطفُ التوهمِ معروفٌ عند النحويين، وهو أن تكونَ الكلمةُ منصوبةً أو مرفوعةً، إلا أنها يجوزُ فيها أن تُجَرَّ فيتوهمون أنها مجرورةٌ، يتوهمون الوقوعَ من مطلقِ الجوازِ، ويعطفون عليها بالجرِّ، ومنه قولُ زهيرٍ وهو عربيٌّ قُحٌّ جَاهِلِيٌّ
(2)
:
بَدَا لِيَ أَنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى وَلَا سَابِقٍ شَيْئًا إِذَا كَانَ جَائِيَا
فإن الروايةَ بنصبِ (مُدْرِكَ)، وخفضِ (سابقٍ)؛ لأن «لستُ مُدْرِكَ مَا مَضَى» يجوزُ جرُّه بالباءِ؛ لأن خبرَ ليس يجوزُ جرُّه بالباءِ،
(1)
السابق.
(2)
السابق.
فَتَوَهَّمُوا أنها مجرورةٌ من جوازِ دخولِ الباءِ عليها، فَعُطِفَ عليها بالجرِّ، ونظيرُه قولُ الآخَرِ
(1)
:
مَشَائيِمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً وَلَا نَاعِبٍ إِلَاّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
فعطفَ (ناعب) بالجرِّ على (مصلحين) وهو منصوبٌ لِتَوَهُّمِ دخولِ الباءِ.
وقولُه جل وعلا: {نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ} أي: نَهَانِي رَبِّي عن عبادةِ الأوثانِ والأصنامِ والمعبوداتِ التي تَعْبُدُونَهَا من دونِ اللَّهِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ لنبيه في هذا المنوالِ: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي بَلِ اللَّهَ وحدَه {فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: الآيتان 65، 66]. هذا معنى قولِه: {إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ} أي: تعبدونَ من دونِ الله (جل وعلا) من جميعِ أنواعِ العباداتِ، قُلْ لهم يا نَبِيَّ اللَّهِ:{لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ} الأهواءُ: جمعُ (هَوًى)، بِفَتْحَتَيْنِ، و (الهوى): مَيْلُ النفسِ، وأكثرُ ما يُطْلَقُ في الشرعِ: إلى مَيْلِهَا إلى ما [لا]
(2)
ينبغي
(3)
. و (الهوى): هو مَيْلُ النفسِ إلى ما لا ينبغي هنا. فـ {أَهْوَاءَكُمْ} يعني: مهوياتكم التي تميلُ إليها نفوسُكم باتباعِ الهوى والباطلِ، كما قال:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:
(1)
مضى عند تفسير الآية (67) من سورة البقرة.
(2)
زيادة يقتضيها السياق.
(3)
انظر: المفردات (مادة: هوى) ص849، المصباح المنير (مادة: هوى) ص246، جامع العلوم والحكم (2/ 438)، الدر المصون (4/ 499)، الكليات ص962.
آية 23] وهمزةُ (الأهواءِ) مُبْدَلَةٌ من (ياءٍ)، على القياسِ المعروفِ: أن كُلَّ واوٍ أو ياءٍ تَطَرَّفَتْ بعد ألفٍ زائدةٍ وَجَبَ إبدالُها همزةً. وأصلُ الهوى: (هَوَيٌ) بفتحتين
(1)
. والمادةُ مما يُسَمِّيهِ علماءُ الصرفِ: اللفيفَ المقرونَ
(2)
. عينها واو، ولامها ياء، قُلِبَتِ الياءُ في محلِّ اللامِ أَلِفًا، فقيل لها:«هوى» وَأُبْدِلَتْ عند التكسيرِ همزةً، كما هو معروفٌ في فَنِّ الصرفِ
(3)
،
والمعنى: لا أَتَّبِعُ أهواءَكم الباطلةَ في عبادةِ الأصنامِ والإشراكِ بِاللَّهِ (جل وعلا)؛ لأني لا أَتَّبِعُ الهوى، ولا أتبعُ إلا الحقَّ، كما يأتي في كونِه على بينةٍ مِنْ رَبِّهِ. وهذا من جملةِ ما أَمَرَهُ رَبُّهُ أن يقولَ.
{قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} قُرِئَ بإدغامِ الدالِ في الضادِ {قَد ضَّللتُ إِذًا} وقرأه بعضُ السبعةِ بالإظهارِ
(4)
{قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا} . {إِذًا} معناه: إِنِ اتَّبَعْتُ أهواءَكم فقد ضَلَلْتُ ولم أكن من المهتدين. والمعنى: لا أَضِلُّ، ولا أخرجُ عن طريقِ الْهُدَى، ولا أتبعُ أهواءَكم أبدًا.
وهذه الآيةُ تدلُّ على أن مَنِ اتَّبَعَ هواه بغيرِ علمٍ ولا دليلٍ أنه ضَالٌّ، وأنه ليس من المهتدين.
(1)
انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص478، التوضيح والتكميل (2/ 482).
(2)
انظر: الكليات ص798.
(3)
انظر: شرح الكافية (4/ 2129 - 2130)، الدر المصون (1/ 499)، معجم مفردات الإبدال والإعلال ص271، التوضيح والتكميل (2/ 482) ..
(4)
انظر: النشر (2/ 3).
[6/أ] / {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: آية 57].
{قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ نِبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم أن يقولَ للكفارِ: إنه لا يعبدُ معبوداتِهم، ولا يتبعُ أهواءَهم، وأنه لو فَعَلَ ذلك كان ضَالاًّ غيرَ مُهْتَدٍ، أَمَرَهُ أن يقولَ لهم: إنه على بينةٍ من أَمْرِهِ {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ} البينةُ: هي البيانُ والدليلُ القاطعُ، الذي لا يتركُ في الحقِّ لَبْسًا
(1)
. وأصلُه صفةٌ مشبهةٌ من (بَانَ يَبِينُ)، إذا ظَهَرَ، فهو (بَيِّنٌ). وإنما أُنِّثَتِ (البينةُ) لأنها كأنها تُضَمَّنُ معنَى الحجةِ الواضحةِ التي يُعَضِّدُهَا الدليلُ القاطعُ، الذي لا يتركُ في الحقِّ لَبْسًا {عَلَى بَيِّنَةٍ} أي: بيانٍ وبرهانٍ وعلمٍ ويقينٍ من رَبِّي، وليس لِي في الحقِّ شكٌّ معه، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، كُلُّ أَمْرٍ واضح لا يتركُ في الحقِّ لَبْسًا يسمونه:(بينةً)؛ ولأجلِ هذا أُطْلِقَتِ (البيناتُ) على معجزاتِ الرسلِ {جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} [الأعراف: آية 101] أي: بالمعجزاتِ؛ لأنها لا تتركُ في الحقِّ لَبْسًا. وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشاعرِ
(2)
:
أَبَيِّنَةٌ تَبْغُونَ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ
…
وَقَوْلِ سُوَيْدٍ: قَدْ كَفَيْتُكُمُ بِشْرَا
يعني: هذا أمرٌ واضحٌ في البيانِ، لا يُحْتَاجُ معه إلى ما يُبَيِّنُ الحقيقةَ.
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 397)، القرطبي (6/ 438)، المفردات (مادة: بان) ص157.
(2)
البيت في ابن جرير (11/ 398).
وقولُه: {وَكَذَّبْتُم بِهِ} ذَكَّرَ الضميرَ مع أن (البينةَ) مؤنثةٌ لفظًا نظرًا إلى المعنى؛ لأن (البينةَ) معناها البيانُ والبرهانُ واليقينُ {وَكَذَّبْتُم بِهِ} أي: ذلك البرهانُ واليقينُ الذي أنا عليه، الْمُعَبَّرُ عنه بالبينةِ، وهذا هو الظاهرُ، خلافًا لمن قال: إن الضميرَ عائدٌ إلى الله، أي: كَذَّبْتُمْ بِاللَّهِ (جل وعلا) أنه المعبودُ وحدَه جل وعلا
(1)
.
{مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} كان الكفارُ يقولون للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: هذا الذي تُهَدِّدُنَا به من عذابِ اللَّهِ، إن كنتَ صادقًا، إن كنتَ نَبِيًّا فَعَجِّلْهُ علينا الآنَ
(2)
. كما بَيَّنَ اللَّهُ ذلك عنهم في آياتٍ من كتابِه، كقولِه:{وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: آية 16] والقِطُّ في لغةِ العربِ: أصلُه كتابُ الجائزةِ الذي يكتبُه الْمَلِكُ
(3)
. فالملكُ إذا أرادَ أن يُجِيزَ الوفودَ كَتَبَ لِكُلِّ رئيسٍ جائزةً معينةً في صَكٍّ، وذلك الصكُّ يُسَمَّى:(القِط). وعليه فقولُهم: {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} معناه: عَجِّلْ لنا نصيبَنا من مَلِكِ السماواتِ والأرضِ الذي تقولُ إنه نصيبُنا منه، وهو العذابُ في الدنيا والآخرةِ، كما قال الشاعرُ، وهو نابغةُ ذبيانَ
(4)
:
(1)
انظر: القرطبي (6/ 438)، البحر المحيط (4/ 142)، الدر المصون (4/ 657).
(2)
انظر: أسباب النزول للواحدي ص219.
(3)
انظر: اللسان (مادة: قطط)(3/ 117).
(4)
البيت للأعشى، وهو في ديوانه ص118، ولفظه في الديوان:
وَلَا الملكُ النعمانُ يَوْمَ لَقِيتَه
…
بِإِمّتِهِ يُعْطِي القُطُوطَ ويَأفِقُ
وقوله: (بإمته) أي: نعمته.
وَلَا الْمَلِكُ النُّعْمَانُ حِينَ لَقِيتَهُ عَلَى مُلْكِهِ يُعْطِي الْقُطُوطَ وَيَأْفِقُ
ومعنى (يَأْفِقُ) أي: يُفَضِّلُ في العطاءِ بعضَهم على بعضٍ {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: آية 32]{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: آية 8] أَيُّ شيء يحبسُ العذابَ ويؤخرُه، ولِمَ لا تُعَجِّلُهُ؟ وَاللَّهُ يقولُ:{يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [العنكبوت: آية 45]{يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى: آية 18] ونحو ذلك من الآياتِ الدالةِ على استعجالِهم العذابَ
(1)
، وقالوا له: إِنْ كنتَ نَبِيًّا حَقًّا فَعَجِّلْ لنا العذابَ الذي تُهَدِّدُنَا به، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أن يقولَ لهم:{مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} (ما) وهو الاسمُ المبهمُ الموصولُ واقعةٌ على العذابِ، والمعنَى: ليس بِيَدِي العذابُ الذي تطلبونَ استعجالَه عليكم {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} [ص: آية 16] لَيْسَ بِيَدِي، وإنما هو بِيَدِ اللَّهِ.
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} قرأ هذا الحرفَ قارئُ أهلِ المدينةِ، وقارئُ أهلِ مكةَ - أعني: نافعًا وابنَ كثيرٍ - وقرأ معهما عاصمٌ من الكوفيين، هؤلاء الثلاثةُ من القراءِ السبعةِ - أعني: نافعاً وابنَ كثيرٍ وعاصمًا - قرؤوا: {يَقُصُّ الْحَقَّ} بِضَمِّ القافِ، وصادٍ مهملةٍ مضمومةٍ. وقرأ باقي السبعةِ - وهم: أبو عمرو وابنُ عامرٍ وحمزةُ والكسائيُّ - قرؤوا: {يقْضِ الحق} بسكونِ القافِ والضادِ المكسورةِ
(2)
.
(1)
انظر: أضواء البيان (2/ 194، 490)، (3/ 78)، (5/ 716)، (7/ 23).
(2)
انظر: المبسوط لابن مهران ص 195.
وعلى قراءةِ الحَرَمِيَّيْنِ وعاصمٍ - أعني: نافعًا وابنَ كثيرٍ، وعاصم - فمعنَى:{يَقُصُّ الْحَقَّ} أي: يَتْلُو علينا في كتابِه الحقَّ الواضحَ، الذي لَا لَبْسَ فيه، كما قالَ تعالى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ} [يوسف: آية 3] وعلى هذا فإعرابُ (الحقِّ) واضحٌ؛ لأنها مفعولٌ به لـ (يقص).
وأما على قراءةِ البصريِّ والشاميِّ والاثنين من الكوفيين
(1)
{يَقضِ الحق} ففي إعرابِ (الحقِّ) إشكالٌ، وبِمَ نُصِبَتْ؟ وفي إعرابِه للعلماءِ ثلاثةُ أَوْجُهٍ:
أحدُها: أنه نَعْتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: ما نابَ عن المطلقِ. والمعنى: يَقْضِي القضاءَ الْحَقَّ، الذي لا جَوْرَ فيه ولا حَيْفَ.
الثاني: أنه منصوبٌ بنزعِ الخافضِ. أي: يقضي بالحقِّ، فَحُذِفَ حرفُ الجرِّ فَنُصِبَ الاسمُ. ومما يدلُّ على هذا قولُه:{وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر: آية 20].
الوجهُ الثالثُ: أن (يقضي) معناه: يصنعُ. أي: يصنعُ الحقَّ؛ لأن كُلَّ أعمالِه التي يَعْمَلُهَا، من تشريعٍ وإثابةٍ وعقابٍ كُلُّهُ حقٌّ واقعٌ موقعَه منه (جل وعلا). والعربُ تُطْلِقُ (القضاءَ) وتريدُ (الصُّنْعَ) وهو معنًى معروفٌ في كلامِ العربِ
(2)
، ومنه قولُ أبي ذؤيبٍ
(1)
البصري: أبو عمرو، والشامي: ابن عامر، والكوفيان هنا: حمزة والكسائي.
(2)
انظر: البحر المحيط (4/ 143)، الدر المصون (4/ 657 - 659).
الْهُذَلِيِّ
(1)
:
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ
قضاهما: يعني صَنَعَهُمَا.
وقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ} (إن) هي النافيةُ، والألفُ واللامُ في (الحكمِ) هي للاستغراقِ، والعبرةُ بعمومِ الألفاظِ لا بخصوصِ الأسبابِ
(2)
؛ لأن سببَ نزولِ الآيةِ في الحكمِ الكونيِّ القدريِّ، حيث قالوا له: عَجِّلْ لنا العذابَ، وَأَنْزِلْ علينا الآياتِ. فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ أن ذلك الحكمَ الكونيَّ القدريَّ من تعجيلِ العذابِ وإنزالِ الآياتِ إنما هو لِلَّهِ وَحْدَهُ، هو الذي بيدِه ذلك، وعمومُ الآيةِ يقتضي أن الحكمَ من حيث هو: هو لِلَّهِ (جل وعلا) وحدَه، كذلك الحكمُ الشرعيُّ له وحدَه. ويدلُّ على دخولُ الحكمِ الشرعيِّ: أنه قَالَ في الآيةِ: {وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} لأن (الفاصلين) جمعُ (الفاصلِ)، وهو الذي يَفْصِلُ الخصومَ، وينصف بينها، وَيُحَقِّقُ الحقَّ بينها. ولا شَكَّ أن الحكمَ من حيث هو حكمٌ سواء كان شَرْعِيًّا أو قَدَرِيًّا فإنه لِلَّهِ وَحْدَهُ، فالأحكامُ القدريةُ له، لا يقعُ تحريكٌ ولا تسكينٌ، ولا خيرٌ ولا شَرٌّ، ولا شيءٌ كائنٌ ما كان إلا بِحُكْمِهِ (جل وعلا) وقدرتِه ومشيئتِه. وكذلك الأحكامُ الشرعيةُ لا تشريعَ لأحدٍ ولا تحليلَ لأحدٍ إلا لَهُ (جل وعلا) وحدَه، فالحلالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينُ ما شَرَعَهُ اللَّهُ؛ لأنه من المعلومِ أنه لا تشريعَ إلا للسلطةِ العليا،
(1)
البيت في البحر المحيط (4/ 143)، الدر المصون (2/ 86).
(2)
انظر: البحر المحيط في أصول الفقه (3/ 198، 210، 220)، شرح الكوكب المنير (3/ 177)، قواعد التفسير (2/ 593).
والسلطةُ الحاكمةُ على السماواتِ والأرضِ هي التي لَهَا الأمرُ والنهيُ والتشريعُ. فالتشريعُ لِرَبِّ العالمين {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: آية 12]{إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ} [الأنعام: آية 57]{وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: آية 26] فالحاكمُ هو اللَّهُ، والتشريعُ تشريعُ اللَّهِ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم مُبَلِّغٌ عن اللَّهِ شَرْعَهُ لخلقِه، والمشرعُ هو الخالقُ جل وعلا.
وَيُفْهَمُ من هذا أن مَنْ زَيَّنَ لَهُ الشيطانُ أن يكونَ مُشرِّعًا يُحَلِّلُ وَيُحَرِّمُ، ويضعُ النُّظُمَ والقوانين لِيُحَكِّمَهَا في دماءِ الناسِ وأموالِ الناسِ وأعراضِهم وعقولِهم: أن هذا متمردٌ على نظامِ السماءِ، يُحَاوِلُ أن يجعلَ لنفسِه خصوصيةَ خالقِ السماواتِ والأرضِ، عُتُوًّا وَتَمَرُّدًا على اللَّهِ، فهو كافرٌ، وقد دَلَّ القرآنُ العظيمُ في آياتٍ كثيرةٍ أن مَنْ يَتَّبِعُ نُظُمًا وقوانين وضعيةً شَرَّعَهَا الشيطانُ على ألسنةِ أوليائِه مُدَّعِيًا أن تشريعَ خالقِ السماواتِ والأرضِ لا يصلحُ لتنظيمِ الْعَالَمِ، ولا يُسَايِرُ التطورَ، فمن يرى هذا ويرى نظامَ إبليسَ هو الذي يقومُ بمصالحِ البشرِ، ونظامَ خالقِ السماواتِ والأرضِ - الذي خَلَقَ هذا الكونَ وهو أعلمُ بِمَصَالِحِهِ - أنه لَا يُسَايِرُ التطورَ، ولا يُنَظِّمُ علاقاتِ الدنيا على الوجهِ الذي ينبغي: فهذا لا شَكَّ بين أهلِ العلمِ في أنه كافرٌ كُفْرًا بواحًا مُخْرِجًا عن دينِ الإسلامِ
(1)
، والآياتُ القرآنيةُ الدالةُ على هذا كثيرةٌ جِدًّا، من ذلك ما بَيَّنَّاهُ مِرَارًا: أن إبليسَ عليه لعنةُ اللَّهِ لَمَّا جاء تلامذتُه وإخوانُه من أهلِ مكةَ، وأرادَ أن يُهَيِّئَ لهم وحيَ الشياطين ليجادلوا به النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قال لهم: سَلُوا مُحَمَّدًا
(1)
انظر: الأضواء (7/ 162).
عن الشاةِ تُصْبِحُ ميتةً، مَنْ هو الذي قَتَلَهَا؟ فَلَمَّا أخبرَهم أن اللَّهَ هو الذي قَتَلَهَا، قالوا له من وحيِ الشيطانِ: ما ذَبَحْتُمُوهُ بِأَيْدِيكُمْ - يعنونَ المذكاةَ - تقولونَ: حلالٌ وطاهرٌ وطيبٌ مُسْتَلَذٌّ، وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ - يَعْنُونَ الميتةَ، أن اللَّهَ قَتَلَهَا - تقولونَ: هو حرامٌ ميتةٌ مُسْتَقْذَرٌ فَأَنْتُمْ إذًا أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ!! وأنزلَ اللَّهُ في وَحْيِ الشياطين جوابًا لِنَبِيِّهِ عنه
(1)
قوله: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: آية 121] يعنِي الميتةَ، وَإِنْ زَعَمَ أولياءُ الشيطانِ أنها ذبيحةُ اللَّهِ، ثم قال:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} أي: وإن أَكْلَ الميتةِ لَفِسْقٌ، وخروجٌ عن طاعةِ اللَّهِ، ثم قال - وهو مَحَلُّ الشاهدِ - {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وإن أطعتموهم في تحليلِ الميتةِ إنكم لَمُشْرِكُونَ.
اعْلَمْ أن تحليلَ الميتةِ وتحريمَها ليس عقيدةً من العقائدِ، ولا أصلاً من الأصولِ، وإنما هو فرعٌ من الفروعِ. مُضْغَةُ لَحْمٍ شَرَّعَ اللَّهُ على لسانِ نَبِيِّهِ تحريمَها؛ لأنها مَاتَتْ ولم يُذْكَرِ عليها اسمُ اللَّهِ، وَشَرَّعَ إبليسُ على لسانِ أوليائِه تَحْلِيلَهَا، فهذا نظامُ إبليسَ، وهو تحليلُ الميتةِ، وهذا نظامُ خالقِ السماواتِ والأرضِ الذي شَرَعَهُ على لسانِ نَبِيِّهِ. اللَّهُ يقول: هذه مَاتَتْ حتفَ أَنْفِهَا، وَلَمْ تُذَكَّ ولم يُذْكَرِ اسمُ اللَّهِ عليها. والشيطانُ يُشَرِّعُ بفلسفتِه ويقولُ: هذه ذبيحةُ اللَّهِ، وما ذبحَ اللَّهُ أطهرُ وَأَحَلُّ مِمَّا ذَبَحْتُمُوهُ بأيدِيكم، وَاللَّهُ يقولُ بالمقارنةِ بينَ تشريعِ الشيطانِ وتشريعِ اللَّهِ:{وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} إن أطعتموهم في تحليلِ الميتةِ الذي هو تشريعُ إبليسَ، تَارِكِينَ تحليلَ وتشريعَ اللَّهِ
(1)
انظر: ابن جرير (12/ 77 - 82) الأضواء (7/ 169). وسيأتي تخريجه عند تفسير الآية (118) من سورة الأنعام ..
- وهو تحريمُها - إنكم لَمُشْرِكُونَ.
وهذه الآيةُ الكريمةُ من سورةِ الأنعامِ هي عندَ علماءِ العربيةِ
(1)
مثالٌ لِحَذْفِ لامِ توطئةِ القسمِ، قالوا: والأصلُ: (ولئن أطعتموهم) فَحُذِفَتِ اللامُ الموطئةُ للقسمِ. قالوا: والقرينةُ على لامِ القسمِ: أنه لو كان الشرطُ وحدَه ليس مَعَهَ قَسَمٌ لَاقْتَرَنَتِ الجملةُ بالفاءِ، لقال:«وإن أطعتموهم فإنكم لمشركون» فَلَمَّا لم تَقْتَرِنْ بالفاءِ عَلِمْنَا أن عدمَ اقترانِها بالفاءِ لأنها جوابُ القسمِ المقدرِ المحذوفةُ لامُه، لقرينةِ عدمِ الفاءِ؛ ولأن الشرطَ إذا جاء معه القسمُ - يكون القسمُ قَبْلَهُ - ويكونُ الجوابُ والقسمُ، وَيُحْذَفُ جوابُ الشرطِ، كما هو معروفٌ في علمِ النحوِ
(2)
.
وإذا تَقَرَّرَ هذا فقد أقسمَ اللَّهُ - كما قُلْنَا - في هذه الآيةِ الكريمةِ على أَنَّ مَنْ أطاعَ الشيطانَ وَاتَّبَعَ تحليلَه مُخَالِفًا لتشريعِ اللَّهِ أنه مُشْرِكٌ، وهذا الشركُ شركُ ربوبيةٍ؛ لأن التشريعَ، والأمرَ والنهيَ للربِّ الخالقِ، فالشيطانُ أرادَ أن يشاركَ اللَّهَ في السُلطةِ العليا والأمرِ والنهيِ فَمَنِ اتَّبَعَهُ فكأنه جَعَلَهُ رَبًّا، وهذا الشركُ في قولِه:{إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} هو شركٌ أكبرُ مُخْرِجٌ عن ملةِ الإسلامِ، وَسَيُوَبِّخُ
(1)
انظر: البحر المحيط (4/ 213)، الدر المصون (5/ 132)، الأضواء (7/ 170).
(2)
المراد: أنه إذا اجتمع شرط وقسم، وكان القسم سابقا على الشرط، فالجواب للقسم، وجواب الشرط يكون محذوفا؛ لأن الجواب في هذه الحالة للسابق منهما. انظر: البحر المحيط (4/ 345)، ضياء السالك (4/ 53)، التوضيح والتكميل (2/ 321)، النحو الوافي (4/ 486)، الدر المصون (5/ 385).
اللَّهُ مُرْتَكِبَهُ على رؤوسِ الأشهادِ، كما بَيَّنَهُ اللَّهُ في سورةِ يس في قولِه:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] عبادتُهم للشيطانِ التي عَهِدَ اللَّهُ إليهم في دارِ الدنيا النهيَ عنها ليس معناها أنهم يَسْجُدُونَ للشيطانِ، ولا يركعونَ له ولا يصومونَ ولا يُصَلُّونَ له، وإنما هو اتِّبَاعُهُمْ تشاريعَه وَنُظُمَهُ، تَارِكِينَ تشريعَ اللَّهِ ونظامَه؛ وَلِذَا قال:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي} وَاتَّبِعُوا تَشْرِيعِي {هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: الآيتان 60، 61] ثم بَيَّنَ (جل وعلا) كثرةَ مَنِ اتَّبَعَ نظامَ الشيطانِ واختارَ تشريعَه ودينَه عن تشريعِ اللَّهِ، وَبَيَّنَ مصيرَهم، قال:{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: آية 62] أليست عندكم عقولٌ تعلمونَ أن التشريعَ هو تشريعُ اللَّهِ الذي خَلَقَكُمْ فَتَمْتَثِلُوا أَوَامِرَهُ، وتجتنبوا نواهيَه، وتتركوا تشريعَ الشيطانِ؛ لأن كُلَّهُ كفرٌ وَمَعَاصٍ - والعياذُ بالله - ثم بَيَّنَ مصيرَ مَنْ كان يتبعُ نظامَ الشيطانِ ويتركُ نظامَ اللَّهِ فقال:{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: الآيتان 63 -
65] إلى آخِرِ الآياتِ؛ ولأَجْلِ هذا المعنَى قال نَبِيُّ اللَّهِ إبراهيمُ الخليلُ الذي قال له اللَّهُ: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة: آية 124] وَشَهِدَ له في قولِه: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: آية 37] وبقولِه له: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: آية 124] قال لأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: آية 44] عبادتُه للشيطانِ التي يَنْهَاهُ عنها ليست السجودَ له ولا الركوعَ ولا الصيامَ وإنما هي اتباعُ نظامِه من عبادةِ الأصنامِ
ومعاصِي الله (جل وعلا)؛ وَلِذَا قال تعالى: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَاّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا} [النساء: آية 117] يعني: لا يَعْبُدُونَ إلا الشيطانَ؛ لأن اتباعَهم لتشريعِه ونظامِه وتركَهم تشريعَ اللَّهِ ونظامَه هو عبادتُهم له؛ وَلِذَا سَمَّى اللَّهُ تبارك وتعالى في هذه السورةِ - سورةِ الأنعامِ - سَمَّى فيها الذين يُطَاعُونَ في معاصِي اللَّهِ، سَمَّاهُمْ (شركاءَ) حيث قال:{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: آية 137] فَسَمَّاهُمْ (شركاءَ) لَمَّا زينوا لهم الحرامَ واتبعوهم فيه. وقد صَحَّ عن عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه أنه سألَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن آيةِ التوبةِ - وكان عَدِيٌّ هذا نَصْرَانِيًّا - قال له: يا نَبِيَّ اللَّهِ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: آية 31] كيف اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا؟ يعني أنهم لم يَسْجُدُوا ولم يَرْكَعُوا لهم ولم يصوموا لهم. قال له صلى الله عليه وسلم: «أَلَمْ يُحِلُّوا لَهَمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَيُحَرِّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، فَاتَّبَعُوهُمْ؟» قال: بَلَى. قال: «بِذَلِكَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا»
(1)
.
(1)
أخرجه الترمذي، في التفسير، باب: ومن سورة التوبة .. حديث رقم (3095)، (5/ 278)، وعقَّبه بقوله:«هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب، وغُطيف بن أعين ليس بمعروف في الحديث» اهـ.
كما أخرجه البخاري في التاريخ الكبير (7/ 106)، والطبراني في الكبير (17/ 92)، والببهقي في السنن (10/ 116)، وابن جرير (14/ 209 - 211)، وقال عنه شيخ الإسلام (وهو حديث حسن طويل)(الإيمان ص 64)، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (3/ 56)، وغاية المرام ص 19، والحديث له شواهد بتقوى بها، والله أعلم.
وهو نَصٌّ في أن مَنْ يتبعُ تشريعَ الشيطانِ تاركًا تشريعَ اللَّهِ أنه اتخذَ الشيطانَ رَبًّا، ومعنى هذا واضحٌ؛ لأن الأمرَ والنهيَ والتحليلَ والتحريمَ لا يكونُ إلا للأعظمِ الذي بيدِه كُلُّ شيءٍ، فإذا جَعَلَهُ لغيرِ اللَّهِ فَقَدْ أَعْطَى منصبَ الربوبيةِ الكاملَ لغيرِ اللَّهِ (جل وعلا)، وَجَعَلَهُ رَبًّا غيرَ اللَّهِ، وَبَيَّنَ اللَّهُ (تعالى) في سورةِ النساءِ أن الذي يريدُ أن يُحَكِّمَ قوانينَ الشيطانِ دونَ نظامِ اللَّهِ ويَدَّعي مع ذلك أنه مؤمنٌ، أن دَعْوَاهُ هذه كاذبةٌ بعيدةٌ، تستحقُّ أن يُتَعَجَّبَ منها، والآية التي بَيَّنَ اللَّهُ بها هذا هي قولُه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء: آية 60] والتحاكمُ إلى الطاغوتِ يشملُ كُلَّ تَحَاكُمٍ إلى غيرِ ما أَنْزَلَهُ اللَّهُ، فقولُه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ} صيغةٌ يُعجِّبُ اللَّهُ بها نَبِيَّهُ، يقولُ:{يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا} كيف يزعمونَ الإيمانَ، ومع ذا يُرِيدُونَ التحاكمَ للطاغوتِ، فهذا شيءٌ لا يَجْتَمِعُ!! ولذا عَجَّبَ اللَّهُ مِنْهُ نَبِيَّهُ.
ثم خَتَمَ الآيةَ بقولِه: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا} فالواقعُ أن خالقَ السماواتِ والأرضِ له الحكمُ كُلُّهُ، له الحكمُ الكونيُّ القدريُّ، وله الحكمُ الشرعيُّ، فهو الذي يفعلُ ما يشاءُ، ولا يكونُ خيرًا ولا قَدَرًا إلا ما شاءه (جل وعلا). وكذلك له الحكمُ الشرعيُّ، فهو الذي يَأْمُرُ، وهو الذي يَنْهَى، وهو الذي يُحَلِّلُ، وهو الذي يُحَرِّمُ، فالحلالُ ما أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ ما حَرَّمَهُ اللَّهُ، والدينُ ما شَرَعَهُ اللَّهُ، فليس لأحدٍ تحليلٌ ولا تحريمٌ، ولَا شرعُ دينٍ ولا نظامٍ. وقد بَيَّنَّا أن مَنِ ادَّعَى أنه يَمْلِكُ هذه السلطةَ - وهي سلطةُ التشريعِ - أنه جَعَلَ نفسَه له أن يأخذَ حقوقَ اللَّهِ الخالصةَ له؛ لأجلِ ربوبيتِه فيجعلُها لِنَفْسِهِ.
وهذا الذي ذَكَرْنَا - أن اتباعَ نظامِ إبليسَ، وَتَرْكَ نظامِ خالقِ السماواتِ والأرضِ - أنه كُفْرٌ، قد بَيَّنَّا في هذه الدروسِ مِرَارًا أن النظمَ ليست كُلُّهَا على وتيرةٍ واحدةٍ، بل هي نَوْعَانِ: نظامٌ إداريٌّ، ونظامٌ شَرْعِيٌّ.
أما النظامُ الإداريُّ الذي لا يخالف نصوص الشرع، بل قد تشهد أصول الشرع للمصلحة فيه، فهذا ليس أحد يقول: إنه كفر، ولا حرام، والصحابة رضي الله عنهم جعلوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم أشياء كثيرة من هذا، ولم يقع بينهم فيها خلافٌ، بَيَّنَّا بَعْضَ أمثلتِها، من ذلك أنه في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وزمنِ أبي بكرٍ لم يَكُنِ الْجُنْدُ مكتوبًا في ديوانٍ، فَمَنْ أرادَ أن يتخلفَ قد يتخلفُ ولَا يُطَّلَعُ على تَخَلُّفِهِ إلا بعدَ زمنٍ؛ ولأَجْلِ ذلك ثَبَتَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا تَخَلَّفَ عنه - في غزوةِ تبوكَ - كعبُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه لم يَتَفَقَّدْ كَعْبًا، ولم يسأل عنه حتى وَصَلَ تَبُوكَ
(1)
، ولم يَدْرِ أهو موجودٌ في الجيشِ أو غيرُ موجودٍ فيه؛ لأنهم لم يَكُنْ عندهم ديوانٌ، وكذلك زَمَنَ أبي بكرٍ، فلما كانت الخلافةُ إلى عمرَ كَتَبَ أسماءَ الْجُنْدِ في ديوانٍ، فَدَوَّنَ جميعَ أسماءِ الْمُقَاتِلِينَ في ديوانٍ
(2)
،
فصارَ إذا تَخَلَّفَ واحدٌ عُرِفَ مِنْ وقتِه أنه
(1)
قصة تخلف كعب رضي الله عنه أخرجها البخاري في صحيحه، كتاب الوصايا، باب: إذا تصدق أو وقف بعض رقيقه أو دوابه فهو جائز. حديث رقم (2757)، (5/ 386)، وأخرجها في مواضع متفرقة. انظر: الأحاديث (2947) ، (2948) ، (2949) ، (2950) ، (3088) ، (3556) ، (3889) ، (3951) ، (4418) ، (4673) ، (4676) ، (4677) ، (4678) ، (6255) ، (6690) ، (7225) ، ومسلم، كتاب التوبة، باب: حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه، حديث رقم:(2769) ، (4/ 2120).
(2)
انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (18/ 319)، التراتيب الإدارية (1/ 225) ..
تَخَلَّفَ، وَعُرِفَ مُقَاتِلَةُ كُلِّ جهةٍ من الجهاتِ، وَجُعِلَ كُلُّ جهةٍ في جهتِهم يَحْمُونَهَا مما يكون إليهم، وَصَارَتْ كُلُّ جهةٍ أهلُها أَهْلُ ديوانٍ، فكتبَ أسماءَ الجندِ في ديوانٍ. هذا نظامٌ عسكريٌّ لَمْ يَفْعَلْهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكرٍ، ولكنها مصلحةٌ محضةٌ لا تُخَالِفُ نَصًّا من كتابِ اللَّهِ ولا سنةِ نَبِيِّهِ، فهي مصلحةٌ عَمِلَهَا عمرُ بنُ الخطابِ، ولم يُخَالِفْ أحدٌ من الصحابةِ مع كثرتِهم وَعِلْمِهِمْ. ومن هذا المعنى: أن زمنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وزمنَ أبي بكرٍ لم يكن عندَ المسلمين سجنٌ يقفون فيه الجُناةَ، ولا يسجنونَ فيه، فَلَمَّا كانت الخلافةُ لعمرَ رضي الله عنه اشترى دارَ صفوانَ بنِ أميةَ في مكةَ، وَجَعَلَهَا سجنًا يقفُ فيه الناسُ حتى ينظرَ في أمورِهم، وربما سُجِنَ به بعضُ الْمُذْنِبِينَ
(1)
. فهذا السجنُ هو مصلحةٌ إداريةٌ لم تَكُنْ في زمنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكرٍ، والقصدُ مطلقُ التمثيلِ.
فهذا النوعُ من ضبطِ الأمورِ وتنظيمِ الإدارةِ بما لا يخالفُ نَصًّا من كتابِ اللَّهِ ولا سنةِ نَبِيِّهِ، فهذا لا نقولُ: إنه كُفْرٌ، ولا نقول: إنه حَرَامٌ. وهو من المصالحِ المرسلةِ التي عَمِلَ بها الصحابةُ، ولم يُخَالِفْ منهم أَحَدٌ، وكان مالكٌ يجعلُ هذا النوعَ أصلاً من أصولِ مَذْهَبِهِ
(2)
، وهو (الْمَصَالِحُ الْمُرْسَلَةُ) قال: لأن الصحابةَ أَجْمَعُوا عليه؛ لأن أفضلَ الصحابةِ بعدَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أبو
بكر، عَمِلَ بالمصلحةِ المرسلةِ لَمَّا حَضَرَتْهُ الوفاةُ - يعني باحتضارِ الوفاةِ، في ذلك الوقتِ
(1)
انظر: البخاري، الخصومات، باب الربط والحبس في الحرم، (5/ 75)، تغليق التعليق (3/ 326)، أخبار مكة للأزرقي ج (2/ 165، 263)، تهذيب الأسماء واللغات (2/ 122)، التراتيب الإدارية (1/ 298).
(2)
انظر: نثر الورود (2/ 505).
يتوبُ المجرمُ، وينيبُ الظالمُ، أَحْرَى أبو بكر رضي الله عنه، فهذا فرعونُ الذي كان يقولُ:{أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: آية 24] لَمَّا عَايَنَ الغرقَ قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ} [يونس: آية 90]{فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [غافر: آية 84] أَحْرَى أبو بكر في آخِرِ لحظةٍ من حياتِه - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كَتَبَ أبي وصيتَه في سطرين: هذا ما أَوْصَى ابنُ أَبِي قحافةَ: إني استخلفتُ عليكم عمرَ بنَ الخطابِ، فإن يَعْدِلْ فذلكَ ظَنِّي به، وإن يَجُرْ فلَا أعلمُ الغيبَ {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء: آية 222]
(1)
. لم تَرِدْ آيةٌ في كتابِ اللَّهِ، ولا نَصٌّ من سنةِ رسولِ اللَّهِ لأَبِي بكرٍ أن ينيبَ عمرَ على الناسِ، ولكن رَأَى المصلحةَ تَقْتَضِي ذلك، فَفَعَلَ هذه المصلحةَ، ولم يُنْكِرْ عليه أحدٌ من الناسِ، فتوليتُه له من المصلحةِ المرسلةِ
(2)
، لا من قياسِ العهدِ على العقدِ، كما قال به بعضُ الناسِ.
والحاصلُ أن النظامَ نوعانِ: نظامٌ لا يَتَعَرَّضُ لقواعدِ الشرعِ، وإنما هو تنظيمٌ مَصْلَحِيٌّ لَا يتعرضُ للقواعدِ، فهذا هو الذي ذَكَرْنَا أنه لَا بَأْسَ به، وأن الصحابةَ فَعَلُوهُ.
والثاني: نظامٌ تَشْرِيعِيٌّ، وهو الذي كُنَّا نتكلمُ عليه وَنُورِدُ فيه الآياتِ، كالذي يقولُ: إن الأُنْثَى تَمُتُّ بالقرابةِ التي يَمُتُّ بها الذَّكَرُ، فتفضيلُه عليها ظلمٌ وَجَوْرٌ. وكالذي يقولُ: إن تعددَ الزوجاتِ يجعلُ الرجلَ دَائِمًا فِي شَغَبٍ، ولو أَخَذَ واحدةً لكانَ معها في خفضٍ وَدَعَةٍ،
(1)
الطبقات الكبرى (3/ 142)، عيون الأخبار (1/ 14)، مختصر تاريخ دمشق (13/ 120).
(2)
انظر: نثر الورود (2/ 506 - 507).
وأن الشغبَ دائمٌ لا يزولُ، وأن هذا أمرٌ لا يصلحُ في الاجتماعِ. والذي يقول: إِنَّ قَطْعَ اليدِ عملٌ وَحْشِيٌّ لا ينبغي أن يكونَ في النظمِ التي يُعَامَلُ بها الإنسانُ. وما جرى مَجْرَى ذلك، مع أن كُلَّ هذه الأمورِ حِكْمَتُهُ بالغةٌ، وَسَنُبَيِّنُ - إن شاء الله - حِكَمَ الجميعِ إن مَرَرْنَا على الآياتِ التي هي بِهَا.
فهذا النوعُ من النظامِ هو الضلالُ والكفرُ، وقد بَيَّنَ اللَّهُ أن مَنْ يقول: إن الأُنْثَى كالذكرِ في الميراثِ أَنَّهُ ضَالٌّ، كما قال (جل وعلا) في آيةِ الصيفِ، الآية الأخيرة من سورةِ النساءِ:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} ثم أَتْبَعَهُ بقولِه: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} [النساء: آية 176] يبينُ لكم هذا البيانَ كراهةَ أن تقولوا: هُمَا سواءٌ في الميراثِ فَتَضِلُّوا. وهذا معنَى قولِه: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَاّ لِلَّهِ} .
{يَقُصُّ الْحَقَّ} [الأنعام: آية 57]: يَقُصُّ الحقَّ كقولِه: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: آية 3] و {يَقْضِ الحقَّ} كقولِه: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} [غافر: آية 20]{وَهُوَ} (جل وعلا){خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} الذين يَفْصِلُونَ بَيْنَ الخصومِ، وسيفصلُ بينَ الخلائقِ يومَ القيامةِ، كما قال:{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [السجدة: آية 25].
{قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} [الأنعام: آية 58].
هذا أَمْرٌ من اللَّهِ لِنَبِيِّهِ أن يقولَ للكفارِ الذين يستعجلونَ بالعذابِ
ويقولونَ له: {عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: آية 16]{إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: آية 32]، {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: آية 8] قُلْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ لهؤلاء المتمردين الْمُتَعَنِّتِينَ، الذين يستعجلونَ بالعذابِ تَعَنُّتًا وَعِنَادًا:{لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} أي: العذاب الذي تستعجلونَ به، لو كان بِيَدِي لَعَجَّلْتُهُ عليكم، وَقُضِيَ الأمرُ بيني وبينَكم، وَسَلِمْتُ من ذلك لأَنَّنِي على حَقٍّ، وَأَهْلَكَكُمُ العذابُ هلاكَ استئصالٍ، وَاسْتَرَحْتُ مِنْكُمْ.
وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالانِ لطالبِ الْعِلْمِ أن يسألَ عنهما: أحدُهما نَحْوِيٌّ، والثاني وَحْيِيٌّ
(1)
.
أما النحويُّ فهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: همزةُ (أن) إذا فُتِحَتْ
(1)
لم يذكر السؤال الثاني هنا، وقد ذكره في أضواء البيان (2/ 194) حيث قال:
تنبيه: قوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ} الآية، صريح في أنه صلى الله عليه وسلم لو كان بيده تعجيل العذاب عليهم لعجله عليهم، مع أنه ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الله إليه ملك الجبال، وقال له: إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين - وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها - فقال صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئا» .
والظاهر في الجواب: هو ما أجابه به ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية، وهو أن هذه الآية دلّت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبون تعجيله في وقت طلبهم تعجيله لعجله عليهم، وأما الحديث فليس فيه أنهم طلبوا تعجيل العذاب في ذلك الوقت، بل عرض عليه الملك إهلاكهم فاختار عدم إهلاكهم، ولا يخفى الفرق بين المتعنت الطالب تعجيل العذاب وبين غيره ..
دَلَّتْ على مصدرٍ، فهي في مَحَلِّ اسمٍ مُفْرَدٍ؛ لأنها إن فُتِحَتْ سَدَّتْ مَسَدَّ مصدرٍ، وهذا المصدرُ - طَبْعًا - معروفٌ أنه اسمٌ، و (لو) حرفَ شرطٍ، وَحُرُوفُ الشروطِ لا تَتَوَلَّى إلا الجملَ الفعليةَ، فَلِمَ تَوَلَّى حرفُ الشرطِ اسْمًا، وهو هذا المصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها؟ هذا وجهُ السؤالِ.
والجوابُ عنه: هو ما حَقَّقَهُ علماءُ العربيةِ: أن المصدرَ المنسبكَ من (أن) وصلتِها فاعلُ فِعْلٍ محذوف، والفعلَ المضمرَ هو الذي يَلِي حرفَ الشرطِ، وتقديرُ المعنى: لو ثَبَتَ كونُ ما ستطلبونَه عندي لَعَجَّلْتُهُ عليكم. ولم يكن بعدَه إلَاّ فِعْلٌ، والمصدرُ المنسبكُ من (أن) وصلتِها فاعلُ الفعلِ. هكذا يقولون
(1)
.
{لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ} قضاءُ الأمرِ هنا كنايةٌ عن إنزالِ العذابِ عليهم واستراحتِه منهم.
وَمَنْ قَالَ: «إن قضاءَ الأمرِ هنا معناه ذبحُ الموتِ»
(2)
. فهو غلطٌ وَوَهْمٌ منه، لأن ذلك الذي معناه ذبحُ الموتِ هو في آيةِ مريمَ، وليس في هذه الآيةِ، وهو قولُه (جل وعلا) في أُخْرَيَاتِ مريمَ:{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} [مريم: آية 39] فقد ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم تفسيرُ آيةِ مريمَ
(3)
هذه: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ
(1)
انظر: ضياء السالك (4/ 66).
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 400).
(3)
البخاري، كتاب التفسير، باب (وأنذرهم يوم الحسرة) حديث رقم (4730)، (8/ 428)، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب: النار يدخلها الجبارون، حديث رقم (2849)، (4/ 2188)، وانظر: حديث رقم (2850) ولفظه عند البخاري: عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: «يُؤتى بالموتِ كهيئةِ كبش أملَحَ، فيُنادي منادٍ: يا أهل الجنة فيَشرئِبُّون ويَنظُرون، فيقول: هل تَعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت. وكلُّهم قد رآه. ثم يُنادي: يا أهل النار، فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت. وكلُّهم قد رآه. فيُذبَح. ثم يقول: يا أهلَ الجنة، خلودٌ فلا مَوت. ويا أهلَ النار، خلودٌ فلا موت. ثم قرأ:{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} وهؤلاء في غفلةِ أهل الدنيا {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .
قُضِيَ الْأَمْرُ} قال: إِذْ ذُبِحَ الْمَوْتُ {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} أَنْذِرْهُمْ وَهُمْ في غفلةٍ {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ} وَذُبِحَ الموتُ. ولا يَصِحُّ في آيةِ الأنعامِ هذه هذا التفسيرُ؛ لأن المعنَى هنا: {لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} لَعَجَّلْتُ لكم العذابَ الذي تطلبونَه فَهَلَكْتُمْ، وَنَفَذَ القضاءُ بَيْنِي وبينَكم. ونفوذُ القضاءِ: هو إهلاكُ الظالمِ وبقاءُ المطيعِ سَالِمًا، وهذا معنَى قولِه:{لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} .
{وَاللَّهُ} جل وعلا {أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} أي: الْكَافِرِينَ الذين يَتَعَنَّتُونَ ويستعجلونَ، هو أعلمُ بهم، عَالِمٌ مَنْ يَهْدِيهِ اللَّهُ فيتوب، ومن يَخْذُلُهُ فلَا يتوبُ، وعالمٌ بالوقتِ الذي يَأْتِيهِمْ فيه العذابُ، وعالمٌ بما يستحقونَ من العذابِ، ووقتِ مَجِيئِهِ لهم، وسيكونُ ذلك على حسبِ مَا سَبَقَ في عِلْمِهِ (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه:{وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ} .
قال بعضُ العلماءِ: صيغةُ التفضيلِ هنا لَيْسَتْ على بَابِهَا؛ لأن الْمُقَرَّرَ في عِلْمِ العربيةِ: أن صيغةَ التفضيلِ تَدُلُّ على مشاركةٍ بَيْنَ المُفَضَّلِ والمُفَضَّلِ عليه، إلا أن المُفَضَّلَ أكثرُ في المصدرِ مِنَ المُفضَّلِ عليه
(1)
. و (زَيْدٌ أَعْلَمُ مِنْ عَمْرٍو) يَدُلُّ على أنهما مشتركانِ
(1)
انظر: التوضيح والتكميل (2/ 126).
في العلمِ، إلا أن المُفَضَّلَ يَفْضُلُ فيه المُفَضَّلُ عليه. وَالْعِلْمُ بالظالمين: بأحوالِهم وما يَؤُولُونَ إليه، ووقتِ نزولِ العذابِ عليهم، هذا لا يُشَارِكُ اللَّهَ فيه أَحَدٌ، وهذا إنما يعلمُه اللَّهُ وحدَه؛ وَلِذَا يقولونَ: إنَّ صيغةَ (أَفْعَل) هنا بِمَعْنَى (الوصفِ) بِمَعْنَى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، كقولِه:{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} لأَنَّ هذه لا يُشَارِكُهُ فيها غيرُه، وقد تَقَرَّرَ في علمِ العربيةِ: أن صيغةَ (أَفْعَل) قد تأتي مُرَادًا بها الوصفُ من غيرِ إرادةِ التفضيلِ
(1)
وشواهدُ ذلك كثيرةٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الشَّنْفَرَى
(2)
:
وَإِنْ مُدَّتِ الأَيْدِي إِلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ بِأَعْجَلِهِمْ إِذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ
يعني بـ (أجشع القوم): هو العَجِلُ منهم، وقولُ الفَرَزْدَقِ
(3)
:
إِنَّ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ
يعني عزيزةً طويلةً. وهذا أسلوبٌ معروفٌ في كلامِ العربِ.
يقولُ اللَّهُ جل وعلا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: آية 59].
ذَكَرَ بعضُ أهلِ العلمِ أن سَبَبَ نزولِ هذه الآيةِ الكريمةِ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم جاءه بَدَوِيٌّ فقال له: إِنِّي تَرَكْتُ امْرَأَتِي حُبْلَى، وتركتُ قَوْمِي في جَدْبٍ، فَأَخْبِرْنِي عَمَّا فِي بَطْنِ امْرَأَتِي: أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى؟ وَأَخْبِرْنِي عن الوقتِ الذي يأتِي فيه الغيثُ لِقَوْمِي فإنهم مُجْدِبُونَ. ثم
(1)
المصدر السابق (2/ 133).
(2)
المصدر السابق.
(3)
المصدر السابق (2/ 134)، خزانة الأدب، (3/ 486)، وفيه:(سمك السماء).
قال له: ولقد عرفتُ الوقتَ الذي وُلِدْتُ فيه، فَأَخْبِرْنِي عن الوقتِ الذي أموتُ فيه. فأنزلَ اللَّهُ:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ}
(1)
.
ومفاتحُ الغيبِ المذكورةُ في هذه الآيةِ هي المذكورةُ في أُخْرَيَاتِ سورةِ لقمانَ في قولِه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: آية 34]. وتفسيرُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لمفاتحِ الغيبِ هنا بأنها الخمسُ المذكورةُ في قولِه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إلى آخِرِهَا، ثَبَتَ في الصحيحِ عن [6/ب] أَبِي هريرةَ
(2)
وعبدِ اللَّهِ بنِ عمرَ
(3)
، وجاء بأسانيدَ لا بأسَ عليها عن / قومٍ آخَرِينَ من الصحابةِ، منهم بُرَيْدَةُ
(4)
، وابنُ مسعودٍ
(5)
، وابنُ عَبَّاسٍ
(6)
، وصحابيٌّ مِنْ
(1)
أخرجه ابن جرير (21/ 87)، وابن أبي حاتم (9/ 3101)، عن مجاهد مرسلا، وعزاه في
(2)
(الدر) إلى الفريابي، وابن أبي حاتم. وأورده الواحدي في أسباب النزول بغير سند ص347. وذكر في (الدر) نحوه عن عكرمة، وعزاه إلى ابن المنذر. انظر: الدر المنثور (5/ 169).
() البخاري، كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام .. حديث رقم (50)، (1/ 114)، وأخرجه في موضع آخر، انظر: الحديث (4777)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان .. الأحاديث (8 - 10)، (1/ 36 - 40).
(3)
البخاري، كتاب الاستسقاء، باب لا يدرى متى يجيء المطر إلا الله. حديث رقم (1039)، (2/ 524)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر: الأحاديث (4627، 4697، 4778، 7379).
(4)
أخرجه أحمد في المسند (5/ 353).
(5)
أخرجه ابن جرير (21/ 89)، وانظر: الدر المنثور (5/ 169).
(6)
أخرجه أحمد (1/ 319).
بَنِي عَامِرٍ
(1)
: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَّرَ مفاتحَ الغيبِ المذكورةَ هنا بأنها المذكورةُ في قولِه: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}
(2)
؛ لأَنَّ هذه الخمسَ أمهاتٌ عظيمةٌ لها أهميتُها من أمهاتِ علمِ الغيبِ، فَفَسَّرَ النبيُّ بها هذه الآيةَ؛ لأن الساعةَ هي أفظعُ أَمْرٍ وَأَهَمُّ أمرٍ يُوجَدُ، لَيْسَ عِلْمُهَا إِلَاّ عند اللَّهِ وحدَه، كما قَالَ:{لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَاّ هُوَ} [الأعراف: آية 187]{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)} [النازعات: الآيات 42 - 44] وَلَمَّا سَأَلَهُ جبريلُ في حديثِه المشهورِ عن الساعةِ. قَالَ لَهُ: ما المسؤولُ عنها بأعلمَ من السائلِ. وَبَيَّنَ له شيئًا من أَمَارَاتِهَا
(3)
.
هذه هي مفاتحُ الغيبِ، فالوقتُ الذي تقومُ فيه الساعةُ لا يَعْلَمُهُ إلا اللَّهُ وحدَه (جل وعلا)، لا يعلمُه أحدٌ {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَاّ هُوَ} [الأعراف: آية 187] {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الوقتُ الذي يَنْزِلُ فيه المطرُ لَا يعلمُه إلا اللَّهُ وحدَه {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} الذي هو في رَحِمِ أُمِّهِ لا يَعْلَمُ حقيقتَه إلا اللَّهُ، أَذَكَرٌ هُوَ أَمْ أُنْثَى؟ قبيحٌ أو جميلٌ؟ شَقِيٌّ أو سَعِيدٌ؟ لا يَدْرِي الإنسانُ ماذا يَكْسِبُ غَدًا. والمرادُ بـ (ما يَكْسِبُ غَدًا): من خيرٍ أو شَرٍّ، ما يكسبُ مِنَ الْحَسَنَاتِ التي تُقَرِّبُهُ لِلَّهِ، وما يَكْسِبُ من السيئاتِ التي تُبْعِدُهُ عن اللَّهِ (جل وعلا)، ويدخلُ في ذلك: مَا يَكْسِبُهُ من مالٍ ونحوِه؛ لأَنَّ اللَّهَ قد يُغْنِيهِ من حيثُ لَا يشعرُ،
(1)
أحمد في المسند (4/ 129، 164)، وانظر: الدر المنثور (5/ 169، 170) من حديث أبي عامر الأشعري رضي الله عنه.
(2)
انظر: الأضواء (2/ 195).
(3)
هذا الحديث رواه جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وقد مضى عند تفسير الآبة (58) من سورة البقرة.
وقد يُفْقِرُهُ من حيثُ لَا يَشْعُرُ؛ لأن اللَّهَ بيدِه كُلُّ شَيْءٍ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} لا يعرفُ الإنسانُ المحلَّ الذي فيه قَبْرُهُ، وإن كان سَاكِنًا في محلٍّ وإذا كتبَ اللَّهُ أجلَه في محلٍّ لَا بُدَّ أن تكونَ له حاجةٌ إلى ذلك المحلِّ، فيذهبُ إليه لِيُدْرِكَهُ أَجَلُهُ فيه، وينفذَ قضاءُ اللَّهِ كما سَبَقَ في عِلْمِهِ الأَزَلِيِّ، وجاء بذلك حديثٌ عن جماعةٍ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أن اللَّهَ إذا كَتَبَ أن يموتَ رجلٌ في محلٍّ، لا بد أن يجعلَ له حاجةً إلى ذلك المحلِّ حتى يذهبَ إليه ويدركَه أَجَلُهُ فيه
(1)
.
هذه مفاتحُ الغيبِ الخمسُ التي بَيَّنَ النبيُّ أنها معنَى هذه الآيةِ، وَخَيْرُ التَّفْسِيرِ تَفْسِيرُهُ صلى الله عليه وسلم.
وقد بَيَّنَ (جل وعلا) في آيةٍ عَامَّةٍ أن الغيبَ كُلَّهُ لَا يعلمُه إِلَاّ اللَّهُ، كما قال تعالى:{قُل لَاّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل: آية 65] وقد بَيَّنَّا فيما مَضَى أمثلةً لمصداقِ هذه الآياتِ، وَبَيَّنَّا أن أعظمَ الخلقِ: الملائكةُ والرسلُ، والملائكةُ لَمَّا قَالَ لَهُمُ اللَّهُ:{أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} ؟ أَجَابُوا بِأَنْ قالوا: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَاّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: آية 32] وقولُه: {لَا عِلْمَ لَنَا} النكرةُ فيه مَبْنِيَّةٌ مع (لا) والنكرةُ لَا تُبْنَى على الفتحِ مع
(1)
أخرجه أحمد في المسند (5/ 227)، والترمذي في السنن، كتاب القدر، باب: ما جاء أن النفس تموت حيث ما كُتب لها. حديث رقم (2146)، (4/ 452)، من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه، وانظر: صحيح الترمذي (2/ 227)، المشكاة (1/ 39). وأخرجه الترمذي أيضا من حديث أبي عزة رضي الله عنه. انظر: السنن، حديث رقم (2147)، (4/ 453)، وابن أبي حاتم (4/ 1303 - 1304)، (9/ 3102) وانظر: صحيح الترمذي (2/ 227) ولفظ الحديث عند الترمذي: «إذا قضى الله لعبد أن يموت بأرض جعل له إليها حاجة» .
(لا) إلا التي هي لنفيِ الجنسِ. فمعنَى الآيةِ: أنهم نَفَوْا جنسَ العلمِ مِنْ أصلِه عن أنفسِهم إلا شَيْئًا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهُ. وهؤلاء الرسلُ الكرامُ (عليهم صلواتُ اللَّهِ وسلامُه) مع ما أَعْطَاهُمُ اللَّهُ من العلمِ والمكانةِ يقولونَ: إنهم لا يعلمونَ من الغيبِ إِلَاّ مَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ. هذا سَيِّدُهُمْ وَخَاتَمُهُمْ صلى الله عليه وسلم قد بَيَّنَّا أن اللَّهَ أَمَرَهُ قال: {قُل لَاّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَاّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام: آية 5] وَأَمَرَهُ أيضًا فى سورةِ الأعرافِ أَنْ يقولَ: {قُل لَاّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَاّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: آية 188] وقد قال في أُخْرَيَاتِ أيامِ حياتِه صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً»
(1)
.
كما هو معروفٌ. وقد بَيَّنَّا أن نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا ذَكَرَ اللَّهُ عنه في سورةِ هودٍ: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} [هود: آية 31] وقد بَيَّنَّا أمثلةً من هذا، فهذا سيدُ ولدِ آدمَ على الإطلاقِ، وأفضلُ الرسلِ، وأعلمُ الناسِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، رُمِيَتْ أَحَبُّ أزواجِه بأعظمِ فِرْيَةٍ، أُمُّ المؤمنين عائشةُ لَمَّا رَمَوْهَا
(1)
قطعة من حديث جابر رضي الله عنه عند البخاري، كتاب الحج، باب تقضي الحائض المناسك كلَّها إلا الطواف بالبيت .. حديث رقم (1651)، (3/ 504)، وأطرافه في:(1568، 1570، 2506، 4352، 7230، 7367)، ومسلم، كتاب الحج، باب: بيان وجوه الإحرام. حديث رقم (1213، 1216، 1218)، (2/ 881 - 885).
وقد روى هذا الحديث أيضا البراء بن عازب رضي الله عنه عند أبي داود، والنسائي. وأخرج الشيخان نحوه من حديث أنس ولفظه:«لولا أن معي الهدي لأحللت» .
بصفوانَ بنِ المُعَطلِ في غزوةِ بني المُصْطَلقِ، كما قَصَّ اللَّهُ القصةَ مُوضحةً في سورةِ النورِ، كان (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) مع ما آتَاهُ اللَّهُ من العلمِ والمكانةِ العظيمةِ لَا يَدْرِي أَحَقٌّ ما قالوا عن زوجتِه أَمْ كَذِبٌ، وكان يقولُ:«كَيْفَ تِيكُمْ؟» وفَقَدَتْ منه العطفَ الذي كَانَتْ تَجِدُهُ إذا مَرِضَتْ، وكان يقولُ لها غيرَ دَارٍ بالحقيقةِ:«يَا عَائِشَةُ إِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَتُوبِي، وَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ» . ولم يَعْلَمْ بالحقيقةِ حتى أخبرَه عَالِمُ الغيبِ والشهادةِ {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ} [النور: آية 11] فَسَمَّاهُ: إِفْكًا، ثم قال في آخِرِ الآياتِ:{أُولَئِكَ مُبَرَّؤُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: آية 26] فَلَمْ يَعْلَمِ الحقيقةَ إلا بعد أن عَلَّمَهُ اللَّهُ إياها.
وَلَمَّا نَزَلَتْ عليه آياتُ بَرَاءَتِهَا في بيتِ أبي بكرٍ وسُرِّيَ عنه وهو يَتْبَسِمُ، وقال:«أَمَّا أَنْتِ يَا عَائِشَةُ فَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ» . فقالت لها أُمُّهَا أُمُّ رُومَانَ: «قُومِي إليه فَاحْمَدَيْهِ» . قالت لها: «وَاللَّهِ لا أحمدُه، ولا أحمدُ اليومَ إلا اللَّهَ؛ لأنه لم يُبَرِّئْنِي، وإنما بَرَّأَنِي اللَّهُ»
(1)
.
وهذا نَبِيُّ اللَّهِ إبراهيمُ، وهو هو، ذَبَخَ عِجْلَهُ، وتعبَ هو وامرأتُه بإنضاجِ العجلِ وحَمْلِهِ، كما قال اللَّهُ:{فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: آية 69] ولم يدرِ أن الذين يُنْضِجُ لهم عجلَه أنهم ملائكةٌ كرامٌ لا يأكلونَ! ولأجلِ عدمِ عِلْمِهِ بذلك لَمَّا لم يأكلوا خافَ منهم {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: آية 70] وما هذا إلا لأنه لا يعلمُ بحقيقتِهم، وما دَرَى عن الأمرِ حتى أَخْبَرُوهُ! سألَهم:{فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} ؟ [الحجر: آية 57]
(1)
البخاري، كتاب الشهادات، باب تعديل النساء بعضهن بعضا. حديث رقم (2661)، (5/ 269)، ومسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك، حديث رقم (2770)، (4/ 2129).
{قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: آية 70] وَلَمَّا ارتحلوا من عنده وَنَزَلُوا على نَبِيِّ اللَّهِ لوطٍ وكانوا في صفةِ شبابٍ مُرْدٍ حَسَنَةٌ ثيابُهم، حسنةٌ رِيحُهُمْ، خافَ عليهم أن يفعلَ بهم قومُه فاحشةَ اللواطِ، فَحَزِنَ أَشَدَّ الحزنِ؛ وَلِذَا قال تعالى عنه:{وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: آية 77] وما سببُ مُسَاءَتِهِ بهم وضيقِه ذرعًا بهم - كقولِه: إن ذلك يومٌ عصيبٌ - إلا لعدمِ عِلْمِهِ بحقيقةِ الواقعِ، حتى قال ذاك الكلامَ المؤسفَ المحزنَ:{لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: آية 80] ولم يَعْلَمْ بحقيقةِ الأمرِ حتى أَخْبَرُوهُ، وقالوا له:{يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ} الآيات [هود: آية 81]. وقال الْمُفَسِّرُونَ
(1)
: عند ذلك نَشَرَ جبريلُ أجنحتَه عليه وِشَاحه، وَضَرَبَ أوجهَهم بريشةٍ من جَنَاحِه، فتركها ليس فيها محلُّ العيونِ، لا أثرَ فيها للعيونِ، كأن وجوهَهم لم تكن بها عيونٌ أصلاً!! كما أَشَارَ اللَّهُ إلى ذلك في سورةِ القمرِ بقولِه في قصةِ لوطٍ والملائكةِ وقومِ لوطٍ:{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} والعياذُ بِاللَّهِ {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: آية 37].
وهذا نَبِيُّ اللَّهِ يعقوبُ قال اللَّهُ فيه: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: آية 68] مَدَحَهُ اللَّهُ بالعلمِ الذي عَلَّمَهُ، ومع هذا فَوَلَدُهُ يوسفُ كان في مصرَ، ما بينَه وبينَه ثمان مراحلَ، لا يعلمُ عن أمرِه شيئًا {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: آية 84] يقولُ لأولادِه: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَّوْحِ اللَّهِ} [يوسف: آية 87] يطلبُ من أولادِه التحسسَ لِيَعْثُرُوا له على خَبَرٍ، وهو لا يَدْرِي عنه حقيقةً حتى
(1)
انظر: ابن جرير (27/ 105 - 106).
جَاءَ البشيرُ بالقميصِ، كما هو مُبَيَّنٌ في سورةِ [يوسفَ]
(1)
. وهذا نَبِيُّ اللَّهِ نوحٌ، وهو هو، لَمَّا قال له رَبُّهُ:{فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون: آية 27] ظَنَّ أن ولدَه الفاجرَ أنه مِنْ أَهْلِهِ، ولم يَدْرِ أنه ليسَ من أهلِه حتى قال:{رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود: آية 45] ولم يَعْلَمْ بحقيقةِ الأمرِ حتى قال له عَالِمُ الغيبِ والشهادةِ: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: آية 46] كان جوابُه أن قال: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَاّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: آية 47]. وهذا نَبِيُّ اللَّهِ سليمانُ أَعْطَاهُ اللَّهُ الريحَ، غُدُوُّهَا شهرٌ، ورواحُها شهرٌ، وَسَخَّرَ له مَرَدَةَ الشياطين مع قدرتِهم على الطيرانِ في آفاقِ الأرضِ، ما كان يَدْرِي عن قصةِ (
…
)
(2)
بِلْقِيسَ وجماعتِها حتى جاءَه الهدهدُ الضعيفُ المسكينُ، وكان قد خَرَجَ بغيرِ إِذْنٍ، وكان نَبِيُّ اللَّهِ سليمانُ يتهددُه ويتوعدُه على الخروجِ بِلَا إِذْنٍ، كما قَصَّ اللَّهُ في سورةِ النملِ:{وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)} [النمل: الآيتان 20، 21] فَعَلِمَ مِنْ تاريخِ اليمنِ، ومن جغرافيةِ اليمنِ، ما لَمْ يَعْلَمْهُ سليمانُ عليه السلام!! وهذا العلمُ الضيئلُ البسيطُ - علمُ تاريخٍ وجغرافيةٍ - أَعْطَى هذا الضعيفَ قوةً، وكان له سلاحًا، وَقَوَّاهُ على سليمانَ، حيث كان هو يَعْلَمُ شيئًا يجهلُه
(1)
في الأصل: (هود). وهو سبق لسان.
(2)
في هذا الموضع كلمة غير واضحة. ولعلها: «أهل مأرب» والكلام مستقيم بدونها ..
سليمانُ؛ ولذا قام غَيْرَ مُبَالٍ بالوعيدِ، مع أن سليمانَ مَلِكٌ نَبِيٌّ، له هيبةُ الملكِ، وهيبةُ النبوةِ، ومع هذا وَقَفَ ذلك الهدهدُ بين يديه وقفةَ البطلِ غيرَ مكترثٍ بالوعيدِ، وإنما قوَّاه أنه عَلِمَ شيئًا من جغرافيةِ اليمنِ وتاريخِهم لم يَعْلَمْهُ سليمانُ، وَنَسَبَ الإحاطةَ إلى نفسِه، وَنَفَاهَا عن سليمانَ، وقال له: إِنِّي {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل: آية 22] وهذا النبأُ بَيَّنَ فيه بعضَ تاريخهم، أنهم كفرةٌ يسجدونَ للشمسِ، وأن ملكتَهم امرأةٌ، قال:{إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [النمل: الآيتان 23، 24] وعندَ خَبَرِ الهدهدِ إياه لم يَعْلَمْ أيضا حقيقةَ الأمرِ؛ لأنه [ما كان يعلم صِدْقَ]
(1)
الهدهدِ؛ وَلِذَا قال مُخَاطِبًا له: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [النمل: آية 27] ثم أَرْسَلَهُ بكتابٍ كما في هذه الآياتِ من سورةِ النملِ، كُلُّ هذه الأمورِ من [عدمِ]
(2)
علمِ الأنبياءِ الكرامِ والملائكةِ الكرامِ، هذه الأمورُ من الغيبِ كُلُّهُ مصداقٌ لقولِه:{قُل لَاّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ}
(3)
[النمل: آية 65] وقولُه هنا: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ} [الأنعام: آية 59].
وَاللَّهُ (جل وعلا) يُطْلِعُ رسلَه على ما شَاءَ من غَيْبِهِ، وَيُطْلِعُ ملائكتَه على ما شاءَ من غَيْبِهِ، كما بَيَّنَهُ في آياتٍ من كتابِه:{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَاّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}
(1)
في الأصل كلمتان غير واضحتين، وما بين المعقوفين زيادة ينتظم بها الكلام.
(2)
زيادة يقتضيها السياق ..
(3)
انظر: الأضواء (2/ 196).
[الجن: الآيتان 26، 27]، وكقولِه:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: آية 179] أي: فَيُطْلِعُ مَنِ اجْتَبَى من رسلِه على ما شاءَ من غَيْبِهِ، وقد أَطْلَعَ نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم على أمورٍ كثيرةٍ، أَخْبَرَ بكثيرٍ منها، منه ما حَفِظَهُ الناسُ حتى وَقَعَ، ومنه ما نَسُوهُ.
وهذه الآيةُ الكريمةُ وأمثالُها في القرآنِ العظيمِ أجمعَ العلماءُ على أنه أكبرُ واعظٍ وأعظمُ زَاجِرٍ نَزَلَ من السماءِ إلى الأرضِ، فهي أعظمُ موعظةٍ تُلْقَى يتعظُ بها الناسُ. إلا أنَّهُ مع الأسفِ تَمُرُّ على آذانِهم ولم تَكُنْ في قلوبِهم!! وهذا أكبرُ وَاعِظٍ؛ لأنه أَطْبَقَ العلماءُ على أن أعظمَ المواعظِ، وأعظمَ الزواجرِ، هو واعظُ المراقبةِ والعلمِ.
وَضَرَبَ العلماءُ لهذا مثلاً قالوا
(1)
- ولله المثلُ الأَعْلَى -: لو فَرَضْنَا أن هذا البراحَ من الأرضِ، فيه مَلِكٌ قَتَّالٌ للرجالِ إن انْتُهِكَتْ حرماتُه، سفَّاكٌ للدماءِ إن انتُهكت حرماتُه، ذو قوةٍ وعزةٍ ومَنَعَةٍ، وحولَه جيوشُه، وحولَ هذا الملكِ بناتُه ونساؤُه وجواريه، أَيَخْطُرُ في بالِ أحدٍ أن أولئك الحاضرين مجلسَ هذا الملكِ الجبارِ يقومُ واحدٌ منهم بغمزةِ عَيْنٍ إلى حَرَمِ ذلك الملكِ أَوْ رِيبَةٍ؟ لَا وَكَلَاّ، كُلُّهُمْ خاضعونَ خاشعةٌ عيونُهم، خاشعةٌ جوارحُهم، غايةُ أمانيهم السلامةُ!! ولا شَكَّ أن خالقَ الكونِ - وله المثلُ الأَعْلَى - أعظمُ بَطْشًا، وأشدُّ نَكَالاً إن انْتُهِكَتْ حرماتُه، وَحِمَاهُ في أرضِه مَحَارِمُهُ.
ولو قيل لأهلِ بلدٍ: إن أميرَ ذلك البلدِ يَبِيتُ عَالِمًا بِكُلِّ ما يفعلونَه في الليلِ من الخسائسِ والدسائسِ لَبَاتُوا مُتَأَدِّبِينَ، لا يفعلونَ
(1)
انظر: الأضواء (3/ 10).
إلا شيئًا طَيِّبًا!! وهذا خالقُ السماواتِ والأرضِ، الْمَلِكُ الجبارُ، يُخْبِرُهُمْ في آياتِ كتابِه، لَا تكادُ تَقْلِبُ ورقةً واحدةً من أوراقِ المصحفِ الكريمِ إلا وجدتَ فيها هذا الواعظَ الأكبرَ والزاجرَ الأعظمَ {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} ، {يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ} {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَاّ يَعْلَمُهَا} الآيات [الأنعام: آية 59] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: آية 16]{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} [البقرة: آية 235]{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: آية 61] فَيَنْبَغِي علينَا جميعًا أن نعتبرَ بهذا الزاجرِ الأكبرِ، والواعظِ الأعظمِ، وأن لا نَتَنَاسَاهُ؛ لئلَاّ نُهْلِكَ أنفسَنا، ونعتقدَ أَنَّا لو كُنَّا في حضرةِ مَلِكٍ جَبَّارٍ من ملوكِ الدنيا يموتُ ويأكلُه الدودُ، أَنَّا بحضرتِه وملاقاتِه لا يُمْكِنُنَا أن نفعلَ إلا شيئًا يَسُرُّهُ وَيُرْضِيهِ، فعلينا أن نعلمَ أننا بينَ يَدَيْ مَلِكِ السماواتِ والأرضِ (جل وعلا)، وأنه أعظمُ بطشًا وأفظعُ نكالاً إِنِ انْتُهِكَتْ حرماتُه، وأنه عَالِمٌ بِكُلِّ ما نُسِرُّ وما نُعْلِنُ، فعلينا أن نعتبرَ هذا لنتعظَ، فقد بَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديثِ جبريلَ المشهورِ
(1)
(
…
)
(2)
أن جبريلَ أَرَادَ أن يُبَيِّنَ هذا الواعظَ الأكبرَ، والزاجرَ الأعظمَ لأصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا لَمْ يَنْتَبِهُوا له.
وإيضاحُ ذلك: أن الله بَيَّنَ لنا في آياتٍ من كتابِه أن الحكمةَ التي خَلَقَ من أَجْلِهَا الخلقَ والسماواتِ والأرضَ، وخلقَ مِنْ أَجْلِهَا الموتَ والحياةَ، هي أن يَبْتَلِيَ خَلْقَهُ، أي: يختبرهم بنقطةٍ واحدةٍ، هي نقطةُ العملِ، مَنْ يُحْسِنُ عملَه فيأتِي به حَسَنًا كما يَنْبَغِي، وَمَنْ لَا يُحْسِنُهُ؛
(1)
مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة.
(2)
في هذا الموضع كلمة غير واضحة، والكلام مستقيم بدونها.
وَلِذَا قال في أولِ سورةِ هودٍ: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} ثم بَيَّنَ الحكمةَ والعلةَ الغائيةَ قال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: آية 7] ولم يَقُلْ: أَيُّكُمْ أكثرُ عملاً، وقال في أولِ سورةِ الكهفِ:{إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا} ثم بَيَّنَ الحكمةَ في ذلك قال: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: آية 7] وقال في أولِ سورةِ الْمُلْكِ: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} ثُمَّ بَيَّنَ الحكمةَ فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: آية 2] ولم يَقُلْ: أكثرُ عملاً، فَدَلَّتْ هذه الآياتُ القرآنيةُ أَنَّا خُلِقْنَا لِنُخْتَبَرَ وَنُبْتَلَى في شيءٍ هو إحسانُ العملِ، وَلَا شَكَّ أن العاقلَ يقولُ: إذا كان رَبِّي (جل وعلا) خَلَقَ الخلائقَ والسماواتِ والأرضَ والموتَ والحياةَ؛ لأجلِ الابتلاءِ في إحسانِ العملِ، يا لَيْتَنِي عَرَفْتُ الطريقَ إلى إحسانِ العملِ لأَنْجَحَ بهذا الاختبارِ.
وجاء جبريلُ يُبَيِّنُ هذا المغزَى الأكبرَ والمقصدَ الأعظمَ لأصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم حيث قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا مُحَمَّدُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) أَخْبِرْنِي عن الإحسانِ - المعنَى الذي خُلِقَ الخلقُ لأجلِ الاختبارِ فيه - فَبَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنه لا طريقَ إلى الإحسانِ الذي خُلِقْنَا من أجلِه إلا باعتبارِ هذا الزاجرِ الأكبرِ والواعظِ الأعظمِ، وهو مراقبةُ خالقِ السماواتِ والأرضِ، والعلمُ بأنه رَقِيبٌ، عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ؛ ولذا قال له:«الإِحْسَانُ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» . ولَا شَكَّ أن مَنْ عَبَدَ اللَّهَ كأنه يَرَى اللَّهَ، وإذا تَنَزَّلَ فقال: لا أَرَى اللَّهَ، فهو عَالِمٌ أن اللَّهَ يَرَاهُ، مُطَّلِعٌ عليه، من كان يعملُ أمامَ الملكِ الجبارِ، وهو مطلعٌ عليه، ناظرٌ إليه، لا يمكنُ أن يسيءَ العملَ، فلا بُدَّ أن يحسنَ العملَ {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا
غَائِبِينَ} [الأعراف: آية 7] في هذه الآياتِ القرآنيةِ زاجرٌ أعظمُ، وواعظٌ أكبرُ.
وإذا عَلِمْتُمْ من هذا أن الغيبَ لا يَعْلَمُهُ إِلَاّ اللَّهُ، كما قال هنا:{وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ} [الأنعام: آية 59] وقال: {قُل لَاّ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ} [النمل: آية 65] فَاعْلَمُوا أن كُلَّ طريقٍ يفعلُها الإنسانُ ليصلَ بها إلى شيءٍ من الغيبِ أنها طريقٌ باطلةٌ، وبعضُها يكونُ كُفْرًا؛ لأن الغيبَ من خصائصِ اللَّهِ التي اخْتَصَّ بِعِلْمِهَا، ولا يعلمُ الناسُ إلا ما عَلَّمَهُمُ اللَّهُ؛ ولأَجْلِ ذلك لا يجوزُ اتخاذُ شيءٍ يَدَّعِي صاحبُه أنه يصلُ به إلى الغيبِ، فَكُلُّ ذلك حرامٌ، كالطَّرْقِ
(1)
، والزَّجْرِ
(2)
، والعِيَافَةِ
(3)
، وما جَرَى مَجْرَى ذلك من الأمورِ التي يُرَادُ بها الاطلاعُ على الغيبِ. وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) قال:«مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا»
(4)
. هذا لفظُ مسلمٍ في
(1)
الطرق: ضرب الكاهن بالحصى. انظر: القاموس (مادة: طرق)، (1166)، وانظر: الأضواء (2/ 199).
(2)
قال في القاموس: الزجر: «العيافة والتكهن» القاموس (مادة: زجر)(511)، وفي المعجم الوسيط:«زَجَر الطير: أثارها ليتيمن بِسُنُوحِها أو يتشاءم ببروحها» اهـ (المعجم الوسيط (مادة: زجر)(1/ 389)، وانظر: الأضواء (2/ 199).
(3)
عيافة الطير: زجرها. والمقصود الاعتبار بأسمائها ومساقطها وأصواتها، فيتفاءل بذلك أو يتشاءم، والعائف هو المتكهن بالطير أو غيرها. انظر: القاموس (مادة: عاف)(1086)، وانظر: الأضواء (2/ 199).
(4)
مسلم، كتاب السلام، باب: تحريم الكهانة وإتيان الكهان، حديث رقم (2230)(4/ 1751)، وفيه (ليلة) بدل (يوما).
صحيحِه، والمرادُ بِالْعَرَّافِ: هو مَنْ يَدَّعِي أنه يعرفُ موضعَ الضالةِ، وموضعَ الشيءِ المسروقِ وما جَرَى مَجْرَى ذلك، مع أن العَرَّافَ قد يدخلُ فيه الكاهنُ وَالْحَازِي وَالزَّاجِرُ
(1)
.
وهذه أمورٌ كلها حرامٌ، وهي من أمورِ الشرِّ، فبعضُها يَكُونُ كُفْرًا. وما تجري به العادةُ في هذه البلادِ من أن الواحدَ يأتي للواحدِ هنا ويقولُ: ضَاعَتْ لنا شاةٌ أو جَفْرَةٌ، فَاعْرِفْ لي محلَّها بعرافةٍ أو بشيءٍ!! هذا من كبائرِ الذنوبِ، وصاحبُه لن تُقْبَلَ له صلاةٌ أربعينَ ليلةً على لسانِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، كما ثَبَتَ عنه في صحيحِ مسلمٍ. والسائلُ والمسؤولُ كِلَاهُمَا في غايةِ الضلالِ. فهذه أمورٌ لا تجوزُ، وكل هذا يدخلُ في الكهانةِ. فالكهانةُ والطَّرْقُ والزَّجْرُ والعرافةُ وما جَرَى مَجْرَى ذلك، كُلُّ هذا حَرَامٌ
(2)
، ولا يجوزُ منه شيءٌ الزجرُ ولَا العيافةُ.
وَالْمُرَادُ بالعيافةِ: زَجْرُ الطيرِ، وادعاءُ أهلِها الَّذِينَ يَزْجُرُونَهَا أنهم يَعْرِفُونَ الْمُغَيَّبَاتِ، وَيَطَّلِعُونَ على الأمورِ من أحوالِ طيرانِ الطيورِ من أسمائِها وألوانِها وجهاتِها ومواقعِها التي تقعُ عليها. وهذا النوعُ من العيافةِ كان موجودًا عِنْدَ العربِ، ومما اشْتُهِرَ به من قبائلِ العربِ: بَنُو لِهْبٍ، حتى كان الشاعرُ يقولُ فيهم
(3)
:
خَبِيرٌ بَنُو لِهْبٍ فَلَا تَكُ مُلْغِيًا مَقَالَةَ لِهْبِيٍّ إِذَا الطَّيْرُ مَرَّتِ
والطَّرْقُ بعضُ العلماءِ يقولُ: هو الخطُّ الرَّمْلِيُّ الذي يَخُطُّونَهُ، وَيَدَّعُونَ به الاطلاعَ على الغيبِ. وبعضُهم يقولُ: هي حجارةٌ كان
(1)
انظر: القرطبي (7/ 3)، الأضواء (2/ 198).
(2)
انظر: الأضواء (2/ 197).
(3)
البيت في ضياء السالك (1/ 136)، وانظر: المعجم المفصل في شواهد النحو الشعرية (1/ 146)، وهو في الأضواء (2/ 199).
يَرْمِي بها النساءُ، ويزعمونَ أنهم يَطَّلِعُونَ بها على الغيبِ. وقد صَدَقَ لَبِيدٌ حيث قال
(1)
:
لَعَمْرُكَ مَا تَدْرِي الضَّوَارِبُ بِالْحَصَى وَلَا زَاجِرَاتُ الطَّيْرِ مَا اللَّهُ صَانِعُ
والذي يعملُ هذه العلومَ الشَّرِّيَّةَ ويقولُ: «عرفتُ منها غَيْبًا» . فهو ضَالٌّ. وبعضُ العلماءِ يقولُ: إنه في [مسائلَ منها]
(2)
كافرٌ. قالوا: فَمَنْ قَالَ: «أنا أعلمُ الوقتَ الذي يأتِي فيه المطرُ، وأعلمُ ما في بطنِ هذه المرأةِ هل هو ذَكَرٌ أو أُنْثَى» . جَزَمَ ابنُ العربيِّ المالكيُّ في أحكامِ القرآنِ
(3)
، والزجاجُ
(4)
أَنَّ مَنْ يقولُ هذا أنه كَافِرٌ. اللَّهُمَّ إلا إذا ادَّعَى أنه يستندُ لعاداتٍ وَأُمُورٍ، كالذي يقولُ: إذا اسْوَدَّتْ حَلَمَةُ ثَدْيِ المرأةِ الأيمنِ فهو ذَكَرٌ، وإذا اسودت حلمةُ الثديِ الأيسرِ فهو أُنْثَى
(5)
والظاهرُ أن هذه عوائدُ أَجْرَاهَا اللَّهُ بمشيئتِه وَقَدَرِهِ، فهذا قد لَا يُكَفَّرُ عندَ مَنْ قالوا هذا، ولكنهم يقولونَ: يُنْهَى. وكذلك الذي يقولُ: العادةُ جَرَتْ بأن الحاملَ إن كانت تَرَى جَنْبَهَا الأيمنَ أثقلَ فهو ذَكَرٌ، وإن كانت تَرَى جَنْبَهَا الأيسرَ أثقلَ فهو أُنْثَى
(6)
. هذه كُلُّهَا أمورٌ باطلةٌ. وَمَنِ ادَّعَى أن السحابةَ [تُمْطِرُ]
(7)
بِعِلَّةٍ: أن اللَّهَ رَبَطَ بمجارِي
(1)
البيت في الدر المصون (10/ 751)، الأضواء (2/ 199).
(2)
في هذا الموضع كلمة غير واضحة في الأصل، وهي شبيهة بما أَثْبَتُّ.
(3)
أحكام القرآن (2/ 738)، وانظر: القرطبي (7/ 2)، الأضواء (2/ 197).
(4)
معاني القرآن وإعرابه (4/ 202).
(5)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 738)، والقرطبي (7/ 2)، إكمال إكمال المُعْلم (1/ 76)، الأضواء (2/ 197).
(6)
نفس المصدر السابق.
(7)
في الأصل كلمة غير واضحة، وما بين المعقوفين زيادة يتم بها الكلام.
عادتِه أن النوعَ الفلانيَّ يُنْزِلُ اللَّهُ عندَه [المطرَ]
(1)
نَاسِبًا الأمرَ لِلَّهِ، وأنها عاداتٌ رَبَطَهَا اللَّهُ وإن شَاءَ خَرَمَهَا. مِثْلُ هذا لا يُكَفَّرُ صاحبُه، ولكنه يُنْهَى. ولو قال: إن عندَه مقدماتٍ يَعْلَمُهَا هو مِنْ نَفْسِهِ يعلمُ بها أَذَكَرًا هو أَمْ أُنْثَى، ويعلمُ بها أن المطرَ سَيَنْزِلُ.
فهذا الذي جَزَمَ ابنُ العربيِّ بِكُفْرِهِ والزجاجُ وغيرُ واحدٍ من العلماءِ، والذين كَفَّرُوهُ قالوا: لأنه كَذَّبَ كلامَ اللَّهِ، وَعَارَضَ كلامَ اللَّهِ الصريحَ: أن هذا لا يَعْلَمُهُ إِلَاّ اللَّهُ، أما الذين يقولونَ: إن في اليومِ الفلانيِّ سَتُكْسَفُ الشمسُ وَيُخْسَفُ القمرُ. وَعَامَّةُ العلماءِ على أن هؤلاء لا يُكَفَّرُونَ؛ لأن هذا شيءٌ قَدْ يُدْرَكُ بالحسابِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ في قضيةِ القمرِ: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: آية 39] ويقولُ فيه: {لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} [يونس: آية 5] إِلَاّ أن علماءَ المالكيةِ مَنَعُوا على مَنْ عَلِمَ هذا بالحسابِ أن يبوحَ به. قالوا: ولو تَكَلَّمَ به لَوَجَبَ على الإمامِ تعزيرُه وحبسُه. قالوا: لأَنَّهُ يشوشُ على الجهلةِ الذين لا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ الأمورِ الغيبيةِ، وبينَ ما جَعَلَ اللَّهُ له منها علاماتٍ يُعْرَفُ بها، وما لم يَجْعَلْ له علاماتٍ وَاخْتَصَّ اللَّهُ بِعِلْمِهِ
(2)
. وعلى كُلِّ حَالٍ فهذه الأمورُ، قولُ إنسانٍ لإنسانٍ:«فَتِّشْ لِي بعلمِ غيب القراءة على محلِّ الضَّالَّةِ» . هذا - والعياذُ بالله - ضلالٌ كبيرٌ، من كبائرِ الذنوبِ. ولو جاءَ واحدٌ وقال لإنسانٍ:«افْعَلْ لِي هذا» ، أو سَأَلَهُ عن شيءٍ:«أين ضَالَّتِي؟» أو شيئًا من المسروقِ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صلاةٌ أربعينَ ليلةً، كما صَرَّحَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذلك. هذا السائلُ فكيفَ بالذي يفعلُ ذلك وَيَتَعَاطَاهُ؟ وقد أَجْمَعَ
(1)
في الأصل: «السحاب» وهو سبق لسان.
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (2/ 739)، القرطبي (7/ 3)، الأضواء (2/ 198).
العلماءُ أن ما يُدْفَعُ للكاهنِ من الحلوانِ وللعرافِ أنه مِمَّا لَا يجوزُ، كُلُّ تلك المكاسبِ بإجماعِ العلماءِ
(1)
باطلةٌ، كالذي يُعْطَى للكاهنِ لكهانتِه وَيُسَمَّى حلوانًا، والذي يُعْطَى للنائحِ في نياحتِه، والذي يُعْطَى للمُغَنِّي في غِنَائِهِ، والذي يُعْطَى لِكُلِّ مُبْطِلٍ وَلَهْوٍ، والذي يُعْطَى لاطِّلَاعِ الغيبِ، كُلُّ ذلك من المكاسبِ السيئةِ التي هي حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ العلماءِ، لا يجوزُ شيءٌ منها.
ومعنى قولِه: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} {وَعِندَهُ} أي: عِنْدَ اللَّهِ وحدَه جل وعلا {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} في مفردِ المفاتحِ هنا وَجْهَانِ معروفانِ عندَ العلماءِ
(2)
:
أحدُهما: أن مُفْرَدَ الْمَفَاتِحِ هنا (مَفتح) بفتحِ الميمِ، و (المَفتح) بفتحِ الميمِ هو الخزانةُ. وعلى هذا فالقولُ {وَعِندَهُ} جل وعلا {مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} أي: خزائنُ الغيبِ، يعلمُ كُلَّ ما يغيبُ مِمَّا يَجْهَلُهُ خَلْقُهُ. وهذا مَرْوِيٌّ عن ابنِ عباسٍ، وَجَزَم به السديُّ.
القولُ الثاني: أن واحدَ المفاتحِ في هذه الآيةِ أنه (مِفْتَح) بكسرِ الميمِ. و (المِفتحُ) بكسرِ الميمِ هو المفتاحُ. وقد تقررَ في فَنِّ التصريفِ أن (المِفْعَل) وزنٌ قياسيٌّ لآلاتِ الفعلِ، و (المفْتَح): آلةُ الفتحِ، فهو أَمْرٌ قِيَاسِيٌّ، بحسبِ الميزانِ الصرفيِّ
(3)
أن يكونَ على (مِفْعَل) ويأتِي على مفتاح (مِفْعَال) أيضا.
(1)
انظر: الكافي لابن عبد البر ص191، القرطبي (7/ 3)، الأضواء (2/ 198) ..
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 401)، القرطبي (7/ 1)، البحر المحيط (4/ 144)، الدر المصون (4/ 659)، أضواء البيان (2/ 195).
(3)
انظر: ضياء السالك (3/ 48).
قال بعضُ العلماءِ
(1)
: (المِفْتَح) أفصحُ من (المِفتاحِ). والذين قالوا: إن (المفاتح) جمعُ (مفتاح)، وأنها قُصِرَتْ، وأن القياسَ (المفاتيح)؛ لأن المفردَ (مفتاح) إلا أنها قُصِرَتْ، كما قالوا في القطرِ: قَوَاطِر، وقالوا في المحرابِ: محارِب، هذا لا يُحْتَاجُ إليه؛ لأن (المفتاحَ) فيه لغةٌ فصيحةٌ هي (المِفْتَح) بلا أَلِفٍ. وعليها فتكونُ (مفاتح) جَمْعًا لـ (المفتاح) قِيَاسِيًّا. وعلى كُلِّ التَّقْدِيرَيْنِ فالمعنَى: إنما خزائنُ الغيبِ ومفاتُحه التي يُفْتَحُ بها ويظهرُ كُلُّ هذا عند اللَّهِ وحدَه، لا يعلمُها إلا هُوَ وحدَه (جل وعلا)، ولا ينافِي ذلك أن اللَّهَ يُعَلِّمُهَا لِمَنْ شَاءَ.
المعنَى أنه ليس عندَ أحدٍ قدرةٌ وَلَا اكتسابٌ يكتسبُ هذه، ولا مانعَ مِنْ أن يُعَلِّمَ اللَّهُ ما شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، فقد يَعْلَمُ الملَائِكَةُ الْمُوَكَّلُونَ بالسحابِ الوقتَ الذي تَنْزِلُ فيه السحابُ؛ لأن اللَّهَ يقولُ لهم: احْمِلُوا هذا المطرَ حتى تُنْزِلُوهُ في وقتِ كَذَا، في موضعِ كَذَا، فهم يَعْلَمُونَ هذا بتعليمِ اللَّهِ قبلَ أن يعلمَه غيرُهم، وكذلك الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بالرحمِ، كما ثَبَتَ في حديثِ ابنِ مسعودٍ الصحيحِ
(2)
: أنه يقولُ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، شَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فيخبرُه اللَّهُ وهو في بطنِ أُمِّهِ قبلَ أن يعلمَ به الآخَرُونَ. وهكذا.
وهذا معنَى قولِه: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَاّ هُوَ} ثم
(1)
انظر: القرطبي (7/ 1)، البحر المحيط (4/ 144).
(2)
البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، حديث رقم (3208)(6/ 303)، وأخرجه في مواضع أخرى من صحيحه، انظر: الأحاديث (3332، 6594، 7454)، ومسلم، كتاب القدر، باب كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه
…
حديث رقم (2643)، (4/ 2036).
قال: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} يعني يعلمُ ما يختصُّ بِعِلْمِهِ، ويعلمُ كُلَّ شيءٍ، الذي يعلمُه الخلقُ هو يعلمُه، والذي لَا يعلمُه إلَاّ هو وحدَه فقد اسْتَأْثَرَ بعلمِه جل وعلا.
{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ} والتحقيقُ أن البرَّ ضِدُّ البحرِ
(1)
، والمرادُ بـ {مَا فِي الْبَرِّ} أي: جميعُ ما فِي [الْبَرِّ]
(2)
.
[7/أ] قال اللَّهُ تعالى: / {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ
فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)} [الأنعام: الآيات 74 - 82].
يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأنعام: آية 74].
(1)
انظر: البحر المحيط (4/ 145).
(2)
في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين في الأصل: «البحر» ، وهو سبق لسان.
قرأ هذا الحرفَ نافعٌ وأبو عمرٍو وابنُ كثيرٍ
(1)
{إِنِّيَ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وقرأه الباقون من السبعةِ: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وهما قراءتانِ سبعيتانِ، ولغتانِ فصيحتانِ.
ووجهُ مناسبةِ هذه الآيةِ الكريمةِ لِلَّتِي قَبْلَهَا التي كُنَّا نُفَسِّرُهَا: أن الكفارَ قالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه: ارْجِعُوا إلى دِينِنَا، فَاعْبُدُوا معنا معبوداتِنا، وأنزلَ اللَّهُ في ذلك:{قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} [الأنعام: آية 71]
(2)
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ أنهم دَعَوْهُمْ إلى عبادةِ الأوثانِ، وأنهم لا يمكنُ أن يَرْجِعُوا إِلَى [الكفرِ]
(3)
بعدَ أن عَلَّمَهُمُ اللَّهُ الدينَ، وَعَلَّمَهُمْ تَوْحِيدَهُ الصحيحَ {وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ} هذا لا يكونُ، بَيَّنَ اللَّهُ في هذه الآيةِ سفاهةَ عقولِ مُشْرِكِي مكةَ، وهم يقولونَ إن إبراهيمَ جَدُّهُمْ، وإنه على دِينٍ صحيحٍ، وَمِلَّةٍ حنيفيةٍ سَمْحَةٍ!! فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ أن يذكرَ لهم قصةَ إبراهيمَ مع أَبِيهِ وقومِه، وتفنيدِه لعبادةِ الأوثانِ، وتحذيرِهم من ذلك؛ لِيَعْلَمُوا أن الذي يَدْعُونَكُمْ إليه أنه كُفْرٌ وَضَلَالٌ وَسَفَهٌ، وأنه مخالفٌ لِمِلَّةِ إبراهيمَ التي يُقِرُّونَ بأنها حَسَنَةٌ
(4)
.
(1)
انظر: النشر (2/ 163 - 164)
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 452).
(3)
في هذا الموضع يوجد مسح في التسجيل، وما بين المعقوفين [] زيادة يتم بها الكلام.
(4)
انظر: البحر المحيط (4/ 163).
ومعنَى قولِه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} وَاذْكُرْ يا نَبِيَّ اللَّهِ {إِذْ} أي: حِينَ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} جَرَتْ عادةُ العلماءِ أَنْ يُقَدِّرُوا الناصبَ لـ (إذْ) يُقَدِّرُوهُ: (اذكر)
(1)
.
ولطالبِ العلمِ أن يقولَ: أين القرينةُ على أن العاملَ في هذا الظرفِ الذي هو (إِذْ) أنه لفظةُ (اذكر)، أين قرينةُ ذلك؟
الجوابُ: أن العلماءَ فَهِمُوا ذلك مِنَ استقراءِ القرآنِ، وأن اللَّهَ فِي القصصِ يأتِي بلفظةِ (اذْكُرْ) عاملةً فِي (إذْ) هذه ونحوِها، كقولِه:{وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} [الأحقاف: آية 21]{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ} [الأنفال: 26]{وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: آية 86] ونحو ذلك في القرآنِ، كذلك قولُه هنا: وَاذْكُرْ {إِذْ قَالَ} أي: حينَ قال نَبِيُّ اللَّهِ وخليلُه إبراهيمُ قال: {لأَبِيهِ آزَرَ} التحقيقُ الذي لَا شَكَّ فيه أن (آزَرَ) بَدَلٌ، أو عطفُ بيانٍ من الأبِ
(2)
، وأنه أَبُوهُ، وإن كان عامةُ المؤرخينَ يقولونَ: إن أَبَا إبراهيمَ اسمُه (تارح). وقد أجابَ عن هذا ابنُ جريرٍ وغيرُه
(3)
، قالوا: لَا أصدقَ من اللَّهِ، وَذَكَرَ هنا أن أَبَاهُ (آزَرَ)، وقد يكونُ له اسمانِ، أي: اسمٌ ولقبٌ، أحدُهما:(تارح)، والثاني:(آزر). وهذه قراءةُ السبعةِ، وجماهير القراء
(4)
،
وهناك قراءاتٌ
(1)
مضى عند تفسير الآية (51) في سورة البقرة.
(2)
انظر: البحر المحيط (4/ 163).
(3)
انظر: تفسير ابن جرير (11/ 468)، القرطبي (7/ 22)، البحر المحيط (4/ 163)، ابن كثير (2/ 150)، كلمة الحق للشيخ أحمد شاكر ص302.
(4)
انظر: المبسوط لابن مهران ص196.
شَاذَّةٌ
(1)
: منها مَنْ قَرَأَ: {وَإِذْ قال إبراهيم لأَبِيهِ آزرُ} بضمِّ الراءِ. وعلى هذا فالمعنى: يا آزرُ أَتَتَّخِذُ أصنامًا آلهةً. ومنهم من يقولُ: إن (آزرَ) ليس اسمَ أَبِيهِ، إنما هو اسمُ صنمٍ
(2)
. والذين قالوا: هو اسمُ صنمٍ، قالوا: كَثُرَتْ عبادتُه لذلك الصنمِ، وملازمتُه إياه حتى نُبِزَ به، كما قيلَ في ابنِ قيسِ الرُّقَيَّاتِ
(3)
؛ لأنه تَشَبَّبَ بنساءٍ متعددات، كُلُّهُنَّ تُسَمَّى (رقيةَ)، فنبزوه بها. وفيه قراءاتٌ شاذةٌ غيرُ هذا، وأقوالٌ أُخَرُ لَا مُعَوَّلَ عليها.
وَاعْلَمُوا أن قصةَ أَبِي إبراهيمَ هذه ذَكَرَهَا اللَّهُ مِرَارًا كثيرةً في سورٍ متعددةٍ من كتابِه، وَكُلُّهَا صريحٌ في أنه أَبُوهُ لَا عمَّه، ولم يَرِدْ في كتابِ اللَّهِ ولا في سنةِ رسولِ اللَّهِ حرفٌ واحدٌ يدلُّ على أنه عمُّه، إلا أن أهلَ السِّيَرِ أُولِعُوا بأن قالوا: أَبُوهُ: عمُّه. والذي يَجِبُ علينا جميعًا هو تصديقُ اللَّهِ، وأن لَا نُحَرِّفَ كلامَ اللَّهِ، ولا نفسرَه بغيرِ معناه إلا بدليلٍ يجبُ الرجوعُ إليه مِنْ كتابٍ أو سُنَّةٍ، فاحترامُ اللَّهِ واجبٌ، واحترامُ كتابِه واجبٌ، وَمَنْ أَوْجَبِ احترامِه: أَنْ لَا نُحَرِّفَهُ، ولا ننقلَ لَفْظًا
(4)
منه عن ظاهرِه الْمُتَبَادَرِ منه إلا بدليلٍ يجبُ الرجوعُ إليه، لَا سيما وَاللَّهُ في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه جَاءَ بالقصةِ بعباراتٍ مختلفةٍ، منها ما هو في الخطابِ، ومنها ما هو في غيرِه، كُلُّهَا صريحةٌ فِي أنه أَبُوهُ لَا عمَّه.
(1)
انظر: المحتسب (1/ 223)، ابن جرير (11/ 467).
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 467)، القرطبي (7/ 22)، ابن كثير (2/ 149).
(3)
هو عبيد الله بن قيس، أحد بني عامر بن لؤي. انظر: الشعر والشعراء ص366.
(4)
مضى عند تفسير الآية (56) من سورة البقرة.
والأبُ إِذَا أَطْلَقَتْهُ العربُ انْصَرَفَ إلى أَبِ الرجلِ الذي وَلَدَهُ، ولا يجوزُ أن يُحْمَلَ على أنه عَمُّهُ إلا بدليلٍ يجبُ الرجوعُ إليه، لا سيما لو كَثُرَ ذِكْرُهُ في القرآنِ بعباراتٍ كثيرةٍ مختلفةٍ، على أنحاءَ مختلفةٍ، كُلُّهَا صريحٌ في أنه أَبُوهُ، فَنَقَلَهَا إلى عَمِّهِ من غيرِ دليلٍ من كتابٍ وَلَا سُنَّةٍ تَجَرُّؤٌ على اللَّهِ وعلى كتابِه بما لا يجوزُ. وَأَهَمُّ شيءٍ في التعظيمِ والاحترامِ: كلامُ خالقِ السماواتِ والأرضِ، والحذرُ مِنْ أَنْ يُبَدَّلَ أو يُحَرَّفَ، اللَّهُ قال هنا:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام: آية 74] وقال في مَوْضِعٍ آخَرَ في سورةِ الأنبياءِ: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} [الأنبياء: الآيتان 51، 52] وقال في الشعراءِ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70)} [الشعراء: الآيتانِ 69، 70] وقال في سورةِ مريمَ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} إلى آخِرِ الآياتِ. [مريم: الآيات 41 - 43].
وقال في براءة: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَاّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [براءة: آية 114] وهذا كثيرٌ في القرآنِ، وكذلك قال نفس إبراهيم:{وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: آية 86] فجاءَ مِرَارًا كثيرةً بكلامِ خالقِ السماواتِ والأرضِ، وليس لنا أَنْ نُحَرِّفَ كلامَ اللَّهِ، ولا أن نَحْمِلَهُ على غيرِ معناهُ إلا بدليلٍ يجبُ الرجوعُ إليه من كتابٍ وَسُنَّةٍ، وكونُه أَبَاهُ لو كان فيه منقصةٌ أو مَضَرَّةٌ على إبراهيمَ لَمَا كان إبراهيمُ يقولُ:{وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء: آية 86]{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَاّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: آية 114] فَشَرَفُ إبراهيمَ
وجلالتُه ومكانتُه هِيَ هِيَ، لا يُنْقِصُهَا شيءٌ من ذلك، وعلى كُلِّ حالٍ فَعَلَيْنَا أن نُصَدِّقَ اللَّهَ، ولَا نُحَرِّفَ كلامَه، ونحملَه على غيرِ معناهُ افتراءً على اللَّهِ من غيرِ برهانٍ من كتابٍ وَلَا سُنَّةٍ.
ومعنَى قولِه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} وَاذْكُرْ {إِذْ قَالَ} نَبِيُّ اللَّهِ {إِبْرَاهِيمُ} وخليلُه {لأبِيهِ آزَرَ} وكان في قومٍ يعبدونَ الكواكبَ السَّيَّارَةَ السبعةَ، ويعبدونَ تماثيلَ أصنامٍ أرضيةٍ، فَلَهُمْ معبوداتٌ أرضيةٌ، ومعبوداتٌ سماويةٌ، معبوداتُهم الأرضيةُ: أصنامٌ وتماثيلُ يزعمونَ أنهم يجعلونَ صُوَرَهَا وأشكالَها على هيئةِ الملائكةِ، وَيَعْبُدُونَهَا لِتَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، وكذلك يعبدونَ الكواكبَ السيارةَ التي هي الشمسُ، والقمرُ وزحلُ والمشتري والزهرةُ وعطاردُ والمريخُ كما هي معروفةٌ. قال لَهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ إبراهيمُ مُوَبِّخًا لهم مُسَفِّهًا أحلامَهم: قال لأَبِيهِ (آزَرَ) مُنْكِرًا عليه بهمزةِ الإنكارِ:
{أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} المعنَى: أَتَتَّخِذُ تماثيلَ مصورةً من حجارةٍ، أو من غيرِها من الأجسامِ، تتخذُها آلهةً تعبدُها من دونِ اللَّهِ، وتصرفُ لها حقوقَ اللَّهِ، مع أنها لا تنفعُ ولا تَضُرُّ؟ هذا مِمَّا لا يليقُ!! كما قال له:{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: آية 42] وقد أَفْحَمَهُمْ بالحجةِ في سورةِ الأنبياءِ، ذلك كما قَصَّهُ اللَّهُ في الأنبياءِ
(1)
، والصافاتِ
(2)
، أنه ما كان يجدُ فرصةً يَكْسِرُ أصنامَهم فيها؛ لأنه إِنْ كسرهم وهم ينظرونَ أَهَانُوهُ وَآذَوْهُ، وكان يرتقبُ فرصةً يكسرهم فيها، حتى جاءَ يومُ عيدِهم، فَجَاؤُوا بطعامِهم وشرابِهم
(1)
كما في قوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} والآيات بعدها.
(2)
كما في قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89)} والآيات بعدها.
وَوَضَعُوهُ عندَ الأصنامِ، وقالوا للأصنامِ: اجْعَلُوا لنا البركاتِ والخيراتِ في هذا الطعامِ والشرابِ حتى نرجعَ مِنْ عِيدِنَا، وقالوا لإبراهيمَ: اخْرُجْ مَعَنَا إلى عِيدِنَا. {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} . يريدُ أن يتخلصَ منهم ليكسرَ الأصنامَ، فَلَمَّا خَرَجُوا جاءَ إلى الأصنامِ وبيدِه الفأسُ، فوجدَ الطعامَ عندَهم {فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} مُسْتَهْزِئًا بهم، لِمَ لا تَأْكُلُونَ من الطعامِ؟ كما قالَ في الصافاتِ:{فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ} [الصافات: آية 91]{فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: آية 93] يَضْرِبُهُمْ ويُكَسِّرُهُمْ بيمينِه بالفأسِ، فَلَمَّا كَسَّرَهُمْ تركَ كَبِيرَهُمْ، وهو أعظمُ صنمٍ عندَهم، يقولونَ: إنه مُرَصَّعٌ بالجواهرِ، وأن عليه ياقوتتين. علق الفأسَ في عنقِه
(1)
،
فلما جَاؤُوا من عيدِهم وَجَدُوا الأصنامَ مُكَسَّرَةً، والفأسَ مُعَلَّقًا في عُنُقِ الكبيرِ، فقالوا: مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَا؟ فَدُلُّوا على إبراهيمَ، كما فَصَّلَهُ اللَّهُ في سورةِ الأنبياءِ:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)} [الأنبياء: الآيات 51 - 54] وكما قال هنا في الأنعامِ: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: آية 74] فَأَجَابُوا: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَاّعِبِينَ} [الأنبياء: آية 55] فَأَجَابَهُمْ أنه جَاءَ بالحقِّ: {بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} [الأنبياء: آية 56] ثم قَالَ: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم} يعني بِكَيْدِهَا: أن يكسرَها من حيثُ لا يحضر أحدٌ يَرَاهُ {بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} وفي القراءةِ الأُخْرَى:
(1)
انظر: تاريخ ابن جرير (1/ 122)، البداية والنهاية (1/ 145) ..
{جِذاَذًا}
(1)
أي: كَسَّرَهُمْ {إِلَاّ كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} فَلَمَّا رجعوا {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} يَعِيبُهُمْ ويقولُ: إنه يكيدُهم {يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61)} يشهدونَ عليه أنه الذي فَعَلَ هذا، فَاسْتَنْطَقُوهُ وقالوا:{أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} ؟ {هَذَا} يعني: جَعْلهم جذاذًا، قال إبراهيمُ:{بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: الآيات 57 - 63] إلى أَنْ قَالُوا لَهُ: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ} [الأنبياء: آية 65] أَنْتَ تعرفُ أن هؤلاءِ جَمَادٌ، ما عِنْدَهُمْ نُطْقٌ، ولا يتكلمونَ. وكان هذا هو قَصْدُهُ، فقال:{أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: آية 67] فَلَمَّا أَفْحَمَهُمْ بالحجةِ والبرهانِ والدليلِ لَجَؤُوا إلى القوةِ {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأخْسَرِينَ (70)} [الأنبياء: الآيات 68 - 70] هذه القصةُ مكررةٌ في القرآنِ، ومما بَسَطَهَا اللَّهُ فيه: سورةُ الأنبياءِ، وذلك معنَى قوله هنا في الأنعامِ:{إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: آية 74] أي: في ذَهَابٍ عن طريقِ الحقِّ بَيِّن واضح لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ، كيف تتركونَ عبادةَ الخالقِ الرازقِ النافعِ الضَّارِّ الْمُحْيِي المميتِ وتعبدونَ جماداتٍ لا تنفعُ وَلَا تَضُرُّ، ولَا تسمعُ ولَا تُبْصِرُ؟!! هذا هو الضلالُ المبينُ الواضحُ لِكُلِّ مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ.
(1)
انظر: المبسوط لابن مهران 302 ..
{وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: آية 75] الإشارةُ في قولِه: {كَذَلِكَ} كَمَا بصَّرنا إبراهيمَ العقيدةَ الصحيحةَ، وَعَرَّفْنَاهُ إخلاصَ العبادةِ لِلَّهِ، حيثُ وَبَّخَ المشركينَ، وَبَيَّنَ لهم أنهم في الضلالِ المبينِ، كذلك التبصيرُ والتعريفُ بالدينِ الصحيحِ، وإخلاصُ العبادةِ لِلَّهِ، كذلك التعريفُ والتبصيرُ نُرِيهِ - أيضا - ملكوتَ السمواتِ والأرضِ؛ ليكونَ من الْمُوقِنِينَ في عقيدتِه وَدِينِهِ
(1)
، و (الملكوتُ): أصلُه مصدرُ الملكِ، إلا أنه تُزَادُ فيه الواوُ والتاءُ، كالرَّهَبُوتِ، والرَّحَمُوتِ والرَّغَبُوتِ في: الرحمةِ والرهبةِ والرغبةِ وهي مصادرُ مسموعةٌ في كلامِ العربِ، نَزَلَ بها القرآنُ العظيمُ
(2)
.
{نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: مُلْكَ السمواتِ والأرضِ، وما أَبْدَعَ اللَّهُ في مُلْكِهِ في السماواتِ والأرضِ من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه؛ ليكونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.
وفي {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} في هذه الآيةِ الكريمةِ وَجْهَانِ لعلماءِ التفسيرِ مَعْرُوفَانِ
(3)
: قالت جماعةٌ كثيرةٌ من العلماءِ: إن اللَّهَ فتحَ له السماواتِ فَنَظَرَ كُلَّ ذلك، حتى إلى العرشِ، وأنه شقَّ له الأَرَضِينَ، وَأَطْلَعَهُ حتى الأرض السفلى.
وهذا قال به جمعٌ كثيرٌ من العلماءِ، ولكن التحقيقَ في الآيةِ: أَنَّ {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} التي أَرَاهُ ليكونَ بها من الْمُوقِنِينَ هو الظاهرُ من غرائبِ صنعِ اللَّهِ
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 470)، الدر المصون (5/ 5).
(2)
ابن جرير (11/ 470)، ابن عطية (6/ 88)، القرطبي (7/ 23)، البحر المحيط (4/ 165)، الدر المصون (5/ 6).
(3)
انظر: ابن جرير (11/ 470 - 475)، القرطبي (7/ 23 - 24).
وعجائبِه، مِمَّا أَبْدَعَ فِي أرضِه وسمائِه حيث جَعَلَ السماءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا، تَمُرُّ عليه آلافُ السنينَ لا يَتَفَطَّرُ ولا يَتَشَقَّقُ، ولا يحتاجُ إلى ترميمٍ، مرفوعًا على غيرِ عَمَدٍ:{مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)} [الملك: الآيتان 3، 4] أي: ذَلِيلاً مِنْ عِظَمِ ما رَأَى، وجلالةِ ذلك الصُّنْعِ، وكذلك الأرضُ بما أَوْدَعَ اللَّهُ فيها من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه مِنْ أنواعِ الثمارِ والجبالِ وألوانِها والحيواناتِ والناسِ واختلافِ ألسنتِهم، وما أَوْدَعَ فيها من المنافعِ والمعادنِ والثمارِ مِمَّا هو آياتٌ تُبْهِرُ العقولَ، كما قَالَ:{أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} مُخَاطِبًا لِكُلِّ الناسِ الذين لم يَشُقَّ لهم السماواتِ ولا الأرضَ {وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [الأعراف: آية 185] وَقَالَ: {قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [يونس: آية 101]{وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: آية 105]{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً} [ق: الآيات 6 - 8] هذه (التبصرةُ) المذكورةُ هنا هي (الإيقانُ) المذكورُ في قولِه: {نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: آية 75] هذا هو القولُ الصحيحُ الذي دَلَّ عليه استقراءُ القرآنِ
(1)
،
لا ما زَعَمُوا مِنْ أَنَّهُ شُقَّتْ له السماواتُ إلى العرشِ، وأنه شُقَّتْ له الأرضونَ إلى السُّفْلَى، وأن اللَّهَ (جل وعلا) رفعَه حتى اطَّلَعَ على أعمالِ بَنِي آدَمَ، وَكُلَّمَا رَأَى
(1)
وهو ما رجحه ابن جرير رحمه الله .. انظر: جامع البيان (11/ 475)، وابن كثير، كما في التفسير (2/ 150).
إنسانًا على فاحشةٍ دَعَا عليه فَهَلَكَ، وأن اللَّهَ نَهَاهُ عن ذلك، وأخبرَه أن مِنْ أَسْمَائِهِ الصبورَ. كُلُّ هذه مقالاتٌ ذَكَرَهَا كثيرٌ من علماءِ السلفِ من أكابرِ الْمُفَسِّرِينَ
(1)
. والظاهرُ أن التحقيقَ خلافُ ذلك كُلِّهِ، وهو ما ذَكَرْنَا، وهو أن ملكوتَ السماواتِ والأرضِ: ما أَوْدَعَ اللَّهُ فيهما من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِها مِمَّا يدلُّ العقلاءَ على أَنَّ مَنْ صَنَعَهَا هو العظيمُ القادرُ على كُلِّ شيءٍ، وأنه المعبودُ وحدَه، كما قال:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الألْبَابِ} [آل عمران: آية 190] وأمثالُ ذلك من الآياتِ.
هذا معنَى قولِه: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ} الظاهرُ أن {نُرِي} هنا من (رَأَى) البصريةِ. وقال بعضُ العلماءِ: مِنْ (رَأَى) الْعِلْمِيَّةِ. و {نُرِي} عُدِّيَ، أصلُه مضارعُ (أَرَيْنَا) بهمزةِ التعديةِ؛ وَلِذَا كانت (رَأَى) بَصَرِيَّةً، فَعَدَّتْهَا إلى المفعولين
(2)
.
وقولُه جل وعلا: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} فيه الوجهانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَا في قولِه: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}
(3)
[الأنعام: آية 55] أحدُهما: وليكونَ من الْمُوقِنِينَ أَرَيْنَاهُ ذلك. والمعنَى: ولأَجْلِ أن يكونَ من الْمُوقِنِينَ أَرَيْنَاهُ ملكوتَ السماواتِ والأرضِ.
وَقَالَ بعضُ العلماءِ: نُرِي إبراهيمَ ملكوتَ السماواتِ والأرضِ ليُحَاجِجَ قومَه، وليكونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. والمعنَى مُتَقَارِبٌ.
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 472 - 473).
(2)
انظر: ابن عطية (6/ 88)، البحر المحيط (4/ 165)، الدر المصون (5/ 5).
(3)
راجع ما سبق عند تفسير الآية المشار إليها. وفي هذه الآية انظر: ابن كثير (2/ 150 - 151)، البحر المحيط (4/ 165)، الدر المصون (5/ 7).
و (الْمُوقِنُونَ) جَمْعُ (الْمُوقِنِ)، و (الْمُوقِنُ) اسمُ فاعلِ (الإيقانِ)، وَوَاوُهُ مبدلةٌ من ياءٍ، أصلُه (مُيْقِن)(مُفْعِل) من (اليقينِ)
(1)
. و (اليقينُ) هو العلمُ الذي لا تَتَطَرَّقُهُ الشكوكُ ولا الأوهامُ، لا يقبلُ التغيرَ بحالٍ
(2)
. وهذا معنَى قولِه: {وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} .
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: آية 76].
{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا} العربُ تقولُ: «جَنَّ عليه الليلُ، وجنَّه الليلُ، وأَجَنَّ عليه الليلُ، وأَجَنَّهُ الليلُ» . فإذا قالت: «أَجَنَّ» رباعيةً كان قولُها: «أَجَنَّهُ الليلُ» أَفْصَحُ من «أَجَنَّ عليه الليلُ» . وإذا قالت: «جَنَّ عليه الليلُ» فهو أَفْصَحُ من «جَنَّهُ الليلُ» والكلُّ معروفٌ في لغةِ العربِ
(3)
. ومن تعديةِ (جَنَّ) - ثلاثيةً - قَوْلُ الْهُذَلِيِّ
(4)
:
وَمَاءٍ وَرَدْتُ قُبَيْلَ الْكَرَى وَقَدْ جَنَّهُ السَّدَفُ الأَدْهَمُ
وَأَصْلُ مادةِ (الجيمِ، والنونِ، والنونِ)(جَنَنَ) أصلُ هذه المادةِ في جميعِ تصرفاتِها معناها: الاستتارُ
(1)
انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال، ص295.
(2)
انظر: المفردات (مادة: يقن) 892، التعريفات للجرجاني 316.
(3)
انظر: ابن جرير (11/ 478 - 479)، الدر المصون (5/ 8).
(4)
البيت في ابن جرير (11/ 479)، البحر المحيط (4/ 162)، الدر المصون (5/ 7).
والسَّدَف: الظُلْمة من أول الليل، أو آخره عند اختلاط الضوء.
والأدهم: الضارب إلى السواد.
والتغطيةُ
(1)
، ومنه (الجِنَّةُ) وهم - مثلاً - إبليسُ وَجُنْدُهُ؛ لأَنَّا لا نَرَاهُمْ. ومنه:(الجنينُ)؛ لأنه مُسْتَتِرٌ في بطنِ أُمِّهِ، ومنه:(الجُنَّةُ) للدَّرَقَةِ؛ لأنها تَسْتُرُ صاحبَها وتغطيهِ عن السهامِ، ومنه:(جَنَانُ الليلِ). أي: ظلامُه وادْلِهْمَامُهُ. وهذا معروفٌ، كما قال الشاعرُ دُريدُ بنُ الصُّمَّةِ
(2)
:
وَلَوْلَا جَنَانُ اللَّيْلِ أَدْرَكَ رَكْضَنَا بِذِي الرَّمْثِ وَالأَرْطَى عِيَاضَ بْنُ نَاشِبِ
هذا أصلُ المادةِ، ومعنَى {جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} أَظْلَمَ عليه الليلُ، وَأَرْخَى سدولَه، حتى غَطَّى الأجرامَ بسوادِه؛ لأنه عندَ ذلك الوقتِ تظهرُ الكواكبُ نَيِّرَةً؛ لأنه قبلَ ادْلِهْمَامِ الليلِ وظلامِه لَمْ تُنِرِ الكواكبُ. {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ} أَظْلَمَ وَادْلَهَمَّ وَغَطَّى الأجرامَ بظلامِه.
{رَأَى كَوْكَبًا} {رَأَى} معناه: أَبْصَرَ بِعَيْنِهِ {كَوْكَبًا} والكوكبُ: النجمُ الكبيرُ، وعلماءُ التفسيرِ يقولون: إن ذلك الكوكبَ الذي رَآهُ هو الكوكبُ الْمُسَمَّى بالزُهرةِ
(3)
. وهو من الإسرائيلياتِ، وغايةُ ما دَلَّ عليه القرآنُ أنه رَأَى نَجْمًا كبيرًا، وهو مُرادُهُ بقولِه:{كَوْكَبًا} وكان
(1)
انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الجيم، باب: ما جاء من كلام العرب في المضاعف والمطابق أوله جيم. ص200، المجمل، كتاب الجيم، باب ما جاء من كلام العرب أوله جيم في المضاعف والمطابق، ص120، المفردات (مادة: جن) 203.
(2)
البيت في مجاز القرآن (1/ 198)، الأصمعيات ص112، إصلاح المنطق ص211.
(3)
انظر: القرطبي (7/ 25)، البحر المحيط (4/ 166)، البداية والنهاية (1/ 143)، الدر المنثور (3/ 25).
أَبُوهُ وقومُه يعبدونَ معبوداتٍ أرضيةً ومعبوداتٍ سماويةً، منها الكواكبُ السبعةُ
(1)
.
قال: {هَذَا رَبِّي} ، قولُ إبراهيمَ:{هَذَا رَبِّي} في رؤيتِه للكوكبِ ورؤيتِه للقمرِ ورؤيتِه للشمسِ أصلُه فيه بحثٌ معروفٌ للعلماءِ، غَلِطَ جماعةٌ في هذا المقامِ من العلماءِ، منهم العالمُ الكبيرُ ابْنُ جريرٍ الطبريُّ، فَزَعَمَ أن إبراهيمَ قال هذا ناظرًا لَا مُنَاظِرًا، وأنه قال هذا قبل أن يتيقنَ الدليلَ، يَظُنُّ أن الكوكبَ رَبُّهُ. هذا قاله
(2)
ونقلَه عن ابنِ عباسٍ
(3)
، واستدلَّ عليه بقولِه:{لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: آية 77] قال: فَقَوْلُهُ: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} هذا يدلُّ على أنه قَالَ هذا قبلَ أن يتيقنَ الحقيقةَ، وقبلَ أن يتمَّ له النظرُ، فبعدَ أن تَمَّ نظرُه وعلم الحقَّ، قال:{إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا} [الأنعام: الآيتان 78، 79].
والتحقيقُ بدلالةِ القرآنِ والسنةِ: أن هذا القولَ لهذه الطائفةِ من العلماءِ، منهم كبيرُ الْمُفَسِّرِينَ ابنُ جريرٍ الطبريُّ، وَرَوَاهُ عن ابنِ عباسٍ، أن هذا القولَ غلطٌ لا شَكَّ فيه، وأن إبراهيمَ لَمْ يَظُنَّ يومًا في ربوبيةِ كوكبٍ، ولم يشكَّ يومًا واحدًا في ربوبيةِ اللَّهِ، هذا التحقيقُ الواجبُ اعتمادُه، الذي دَلَّ عليه كتابُ اللَّهِ وسنةُ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم
(4)
، أما
(1)
انظر: البداية والنهاية (1/ 140).
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 483 - 485).
(3)
المصدر السابق (11/ 480).
(4)
انظر: معاني القرآن للزجاج (2/ 266)، القرطبي (7/ 25)، ابن كثير (2/ 151)، البداية والنهاية (1/ 142)، فتح الباري (6/ 391).
القرآنُ: فقد دَلَّ على هذا في مواضعَ كثيرةٍ:
منها: أنه أَوَّلاً قال رافعًا لهذا الاحتمالِ: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: آية 75] فلما أَثْبَتَ له اليقينَ قال بَعْدَ ذلك مرتِّبًا عليه بالفاءِ: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 76].
والثانيةُ: أن اللَّهَ ذَكَرَ أنه قال هذا في سبيلِ المناظرةِ وَالْمُحَاجَّةِ، لا في سبيلِ النظرِ بنفسِه، حيثُ قال:{وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: آية 80]، وقال:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: آية 83] وَمِنْ أَصْرَحِ الأدلةِ في هذا: أن اللَّهَ نَفَى عن إبراهيمَ كونَ الشركِ في مَاضِي الزمنِ مُطْلَقًا، حيث قال في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه:{ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: آية 123] ونَفْيُ الكونِ الماضِي يستغرقُ الكونَ في جميعِ الزمنِ كائنًا مَا كَانَ، وكذلك قولُه:{مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران: آية 67] هذا جاءَ في آياتٍ كثيرةٍ، ونفيُ الإشراكِ عنه في الكونِ الماضِي يَدُلُّ بدلالةِ القرآنِ - دلالةِ المطابقةِ - على أَنَّهُ لم يَتَقَدَّمْ له كونُ إشراكٍ أَلْبَتَّةَ. واللَّهُ يقولُ:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِه عَالِمِينَ} [الأنبياء: آية 51] فَعِلْمُ اللَّهِ به وبصلاحِه يدلُّ على ذلك، هذا هو الحقُّ الذي لا شَكَّ فيه.
ولطالبِ العلمِ أن يقولَ: قَرَّرْتُمْ لنا أن إبراهيمَ لا يعتقدُ ربوبيةَ الكوكبِ، وأن القرآنَ دَلَّ على ذلك، ومن السنةِ الصحيحةِ الدالةِ عليه: ما ثَبَتَ في الصحيحين من حديثِ أَبِي هريرةَ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ إِلَاّ ثَلَاثَ كَذِبَاتٍ، اثْنَتَيْنِ مِنْهَا فِي
ذَاتِ اللَّهِ .. » الحديثَ
(1)
.
وهذا حديثٌ صحيحٌ متفقٌ عليه، وهذه الكذباتُ الثلاثُ التي قالها النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعني أنها في الصورةِ كصورةِ الكذبِ، وهي في نفسِ الأمرِ لَيْسَتْ من حقيقةِ الكذبِ
(2)
، بدليلِ أنه قال:«اثْنَتَيْنِ مِنْهَا فِي ذَاتِ اللَّهِ» وكيفَ يكونُ الكذبُ في ذاتِ اللَّهِ؟ فالذي يأتِي في ذاتِ اللَّهِ هو أَحَقُّ الْحَقِّ، وأصدقُ الصدقِ.
والكذباتُ الثلاثُ التي يَعْنِيهَا رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في حديثِ أَبِي هريرةَ المتفقِ عليه:
أحدُها: قولُه لقومِه لَمَّا أرادوا أن يخرجَ معهم إلى عِيدِهِمْ، وهو يريدُ أن يتخلفَ عنهم لِيَتَسَنَّى له تكسيرُ الأصنامِ:{فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93)} [الصافات: الآيات 88 - 93] فقوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} - وهو صحيحٌ - قال بعضُ العلماءِ
(3)
: يريدُ أَنِّي سقيمٌ عليكم، سقيمُ القلبِ لخساسةِ عقولِكم، وأنكم تَعْبُدُونَ مع اللَّهِ جماداتٍ، وأنكم ذَاهِبُونَ بفعلِكم إلى النارِ. أو: إِنِّي سقيمٌ في المستقبلِ؛ لأن الإنسانَ لَا بُدَّ أن يمرضَ فَيَأْتِيهِ الموتُ. وفِي الْمَعَارِيضِ مَنَادِحُ كثيرةٌ عن الكذبِ.
(1)
أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} . حديث رقم: (3357،3358)(6/ 388)، وأطرافه:(2217، 2635، 5084، 6950) ومسلم في الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، حديث رقم:(2371)(4/ 1840).
(2)
انظر: الفتح (6/ 391).
(3)
انظر: الفتح (6/ 391).
الثانيةُ: هي قولُه: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: آية 63] وبعضُ العلماءِ يقولُ: إنه قَالَ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} قَصَدَهُ لِيُلْجِئَهُمْ إلى الإقرارِ؛ لأن كبيرَهم لا يفعلُ، وأنه جَمَادٌ لَا يفعلُ شيئًا، فكأنه يُعْرِضُ ويقول: أنتم تَعْبُدُونَ ما لَا ينفعُ ولا يَضُرُّ، إلى غيرِ ذلك من الأجوبةِ
(1)
.
أما الثالثةُ: فهي أنه لَمَّا هَاجَرَ من بلادِ قومِه، لَمَّا أَنْجَاهُ اللَّهُ من النارِ مَرَّ على ذلك الْجَبَّارِ فِي القصةِ المشهورةِ الثابِتِ فِي الصحيحين
(2)
، وكانت امرأتُه - سارةُ - من أجملِ النساءِ، فَعَلِمَ بها ذَاكَ الجبارُ فَطَلَبَهَا، وَلَمَّا قال له: مَا هِيَ مِنْكَ؟ قال: هِيَ أُخْتِي. ولم يَقُلْ: هِيَ زَوْجَتِي. خوفَ أن يغارَ عليه فَيَلْحَقَهُ منه بَأْسٌ، وَجَاءَهَا وقال لها: يا سارةُ، إني قلتُ لهذا الجبارِ: إِنَّكِ أُخْتِي، وأنتِ أُخْتِي في الدِّينِ، ليس هُنَا مَنْ يَدِينُ بِدِينِ الإِسْلَامِ إلا أَنَا وَأَنْتِ، فأنتِ أُخْتِي فِي الإِسْلَامِ، فلَا تُكَذِّبِينِي. في القصةِ المشهورةِ الثابت في الصحيحِ، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ عليه وَأَرَادَ أن يتناولَها بسوءٍ أُخِذَ، فقال لَهَا: ادعِي اللَّهَ لِي ولَا أعودُ، فَدَعَتْ له فَبَرِئَ، فَهَمَّ أن يعودَ فَأُخِذَ أشدَّ من الأولِ، فقال لِخَدَمِهِ: ما أَتَيْتُمُونِي بإنسانٍ، وإنما أَتَيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ!! وأَخْدَمَهَا هاجرَ التي أَعْطَتْهَا لإبراهيمَ، فتسرَّاها وَكانتْ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ. ويذكرونَ في التاريخِ - وقد دَلَّ عليه بعضُ الأحاديثِ - أن هاجرَ أَصْلُهَا بِنْتُ مَلِكِ القبطِ - مَلِكِ مصرَ - أَخَذَهَا منه هذا الملكُ الجبارُ
(3)
.
(1)
المصدر السابق (6/ 391 - 392)، وانظر: البداية والنهاية (1/ 145).
(2)
مضى تخريجه في الصفحة السابقة.
(3)
انظر: الفتح (6/ 394).
هذه الثلاثُ محلُّ الشاهدِ من هذا الحديثِ الصحيحِ: [ولو كان المعنى: أن إبراهيم كان يعتقد]
(1)
أن الكوكبَ رَبٌّ، وأن القمرَ رَبٌّ، وأن الشمسَ رَبٌّ لكان هذا أعظمَ فِرْيَةٍ، وأعظمَ كَذِبٍ. فلم يَقُلِ النبيُّ: إنه لم يَكْذِبْ إلا هذه الكذباتِ، وإن كانت في نفسِ الأمرِ ليست بكذباتٍ، إلا أن صورتَها كأنها صورةُ الكذبِ، وهي في الحقيقةِ بعيدةٌ من الكذبِ، لطالبِ العلمِ أن يقولَ: قد قَرَّرْتُمْ لنا أن قولَ إبراهيمَ: {هَذَا رَبِّي} في الكوكبِ وفي القمرِ وفي الشمسِ ليس يُظَنُّ أن الكوكبَ رَبٌّ، ولا يَشُكُّ في ذلك، ولكن إذًا فَمَا معنَى قولِه:{هَذَا رَبِّي} ؟ وأينَ نَصْرِفُ هذا اللفظَ عن الاعترافِ بربوبيةِ الكوكبِ، والقمرِ والشمسِ؟
الجوابُ: أن العلماءَ خَرَّجُوا هذا على وَجْهَيْنِ
(2)
، كِلَاهُمَا قد يُغْنِي عن الآخَرِ:
الأولُ: الذي عليه الجمهورُ: أن الْمُنَاظِرَ إذا أرادَ أن يُفْحِمَ خَصْمَهُ سلَّم له مقدمةً تسليمًا جَدَلِيًّا لِيُمْكِنَهُ أن يَفْحَمَهُ؛ لأنه إذا نَفَى المقدمةَ لا يُمْكِنُ أن يفحمَه. فالمعروفُ في فنونِ الجدلِ: أنه لا بُدَّ للخصمين من أن يَتَّفِقَا على قاعدةٍ، وإن اختلفا مِنَ الأول لا يمكن أن يفحمه. وعليه فالمعنَى:{هَذَا رَبِّي} على التسليمِ الْجَدَلِيِّ، وفي زَعْمِكُمُ الكافرِ الفاسدِ كما قال اللَّهُ جل وعلا:{أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: آية 27] فَنَسَبَ إلى نفسِه الشركاءَ {أَيْنَ شُرَكَائِيَ} وليس له شريكٌ (جل وعلا) لِيُقَرِّعَهُمْ،
(1)
في الأصل: ((أن إبراهيم لوكان معناه
…
)).
(2)
انظر: معاني القرآن للزجاج (2/ 266)، القرطبي (7/ 25)، ابن كثير (2/ 151)، البداية والنهاية (1/ 142)، فتح الباري (6/ 391)، القاسمي (6/ 589 - 590).
وَيُوَبِّخَهُمْ، كأنه يقولُ: هذا رَبِّي على التسليمِ الجدليِّ وَالتَّنَزُّلِ، وفَرْضِ الْمُحَالِ، وتسليمِ الْمُحَالِ، على قولِكم الكاذبِ الفاسدِ، فكيفَ يكونُ الرَّبُّ وهو يأفلُ ويسقطُ؟ فمقصودُه بهذا ليُفْحِمَهُمْ، فلو قال لهم عندَ أولِ وَهْلَةٍ: الكوكبُ مخلوقٌ مُسَخَّرٌ، لَا يمكنُ أن يكونَ رَبًّا. لقالوا له: أنتَ كَذَّابٌ، الكوكبُ رَبٌّ لَا محالةَ. فَلَمَّا تَنَزَّلَ معهم، وَسَلَّمَ لهم الكذبَ والمحالَ أَمْكَنَهُ أن يُفْحِمَهُمْ، وعلى هذا فمعنَى قولِه:{هَذَا رَبِّي} أي: في زَعْمِكُمْ الكافرِ الفاسدِ. فَمِنْ أينَ يكونُ الربُّ وهو يَأْفُلُ؟ أي يَسْقُطُ.
الوجهُ الثاني: هو ما قَالَهُ بعضُ العلماءِ: مِنْ أن المقررَ في علومِ العربيةِ أن الجملةَ إذا صُدِّرَتْ بهمزةِ استفهامٍ أو همزةِ تسويةٍ، وكان المقامُ يَدُلُّ عليها، أن حذفَها جائزٌ، وعليه فالمعنَى: أَهَذَا رَبِّي؟! إنكارًا لهم. وحَذَفَ همزةَ الاستفهامِ. قالوا: وحَذْفُ همزةِ الاستفهامِ إذا دَلَّ المقامُ عليه ذَهَبَ غيرُ واحدٍ من علماءِ العربيةِ إلى أنه جائزٌ، وقال بِاطِّرَادِهِ جماعةٌ من النحويين، منهم: الأخفشُ، واعتمدَه ابنُ مالكٍ في شرحِ الكافيةِ، وقال به غيرُ وَاحِدٍ
(1)
.
وإذا نَظَرْتَ كلامَ الربِّ وَجَدْتَهُ كَثِيرًا فيه، فائضًا فيه، كثرةً تُعْرَفُ منها أنه جَائِزٌ.
وهو يُوجَدُ في كلامِ العربِ على ثلاثة أنحاءَ - أَعْنِي حذفَ همزةِ الاستفهامِ إذا دَلَّ المقامُ عليها -: يوجدُ بدونِ (أَمْ)، وبدونِ
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 484)، الكتاب (3/ 174)، الصاحبي 296، الخصائص (2/ 281)، شرح الكافية لابن مالك (3/ 1215 - 1217)، الخزانة (4/ 447 - 450)، القرطبي (7/ 26)، الدر المصون (5/ 12)، التوضيح والتكميل (2/ 177)، ضياء السالك (3/ 197).
ذِكْرِ الجوابِ، ويوجدُ بدونِ (أَمْ) مع ذِكْرِ الجوابِ. وهو مع (أَمْ) كثيرٌ مُطَّردٌ شائعٌ.
فمثالُ وجودِه دونَ (أَمْ) ودونَ ذِكْرِ الجوابِ: قولُ أَبِي خراشٍ الْهُذَلِيِّ - وَاسْمُهُ خويلدُ
(1)
-:
رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرَعْ فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمُ هُمُ
يعني: أَهُمُ هُمُ؟ فحذفَ همزةَ الاستفهامِ، وَمِنْ هَذَا المعنَى قولُ الكُمَيْتِ
(2)
:
طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ وَلَا لَعِبًا مِنِّي وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ؟
يعني: أَوَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ؟! فحذفَ همزةَ الاستفهامِ.
ومنه دونَ (أَمْ) مع ذكرِ الجوابِ على التحقيقِ: قولُ عمرَ بنِ أَبِي ربيعةَ المخزوميِّ
(3)
:
أَبْرَزُوهَا مِثْلَ الْمَهَاةِ تَهَادَى بَيْنَ خَمْسٍ كَوَاعِبٍ أَتْرَابِ
ثُمَّ قَالُوا: تُحِبُّهَا؟ قُلْتُ بَهْرًا عَدَدَ النَّجْمِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ
فقوله: «تُحِبُّهَا» ، يعني: أَتُحِبُّهَا؟؟ وإتيانُه مع (أَمْ) لا تكادُ تُحْصِيهِ في كلامِ العربِ وأشعارِهم، فَمِنْ حَذْفِ همزةِ الاستفهامِ قبلَ
(1)
البيت في: الخصائص (1/ 247)، (3/ 337)، الصاحبي 296، ابن جرير (11/ 484)، الخزانة (1/ 211).
(2)
البيت في: الخصائص (2/ 281)، شرح الكافية (1/ 399)، (3/ 1217)، الخزانة (4/ 448).
(3)
هذان البيتان يفصل بينهما نحو ستة أبيات من القصيدة. وهما في ديوانه 59 - 60، الخصائص (2/ 281) والمثبت فيهما:«عدد القطر» .
(أَمْ) قولِ عمرَ بنِ أَبِي رَبِيعَةَ
(1)
:
بَدَا لَِي مِنْهَا مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ
…
وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنَانِ
فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَحَاسِبٌ
…
بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ
يَعْنِي: أبسبعٍ أَمْ بِثَمَانِ.
ومنه بهذا المعنَى قولُ الأَخْطَلِ
(2)
:
كَذَبَتْكَ عَينُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ
…
غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالَا
يعني: أَكَذَبَتْكَ، بحذفِ الهمزةِ. كما جَوَّزَهُ سيبويه في كتابِه خلافًا للخليلِ
(3)
. ومنه بهذا المعنَى قولُ الأسودِ بنِ يعفرَ التميميِّ
(4)
:
فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا
…
شُعَيثُ بُنْ سَهْمٍ أَمْ شُعيْثُ بْنُ مِنْقَرِ
يعني: أَشُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ؟ ومنه بهذا المعنَى قولُ أُحيحةَ بنِ الجُلاحِ الأنصاريِّ المشهور
(5)
:
وَمَا تَدْرِي وَإِنْ ذَمَّرْتَ سَقْبًا
…
غَيْرِكَ أَمْ يَكُونُ لَكَ الْفَصِيلُ
يعني: أَلِغَيْرِكَ.
(1)
البيت في: الكتاب (3/ 175)، الصاحبي 297، شرح الكافية (3/ 1215)، الخزانة (4/ 447).
(2)
البيت في ديوانه 245، الكتاب لسيبويه (3/ 174)، الخزانة (4/ 452).
(3)
انظر: الكتاب لسيبويه (3/ 174).
(4)
البيت في الكتاب (3/ 175)، الخزانة (4/ 448 - 450) شرح الكافية (3/ 1213)، وشطره الأول هكذا:
(لعمرك ما أدري
…
) إلخ.
(5)
البيت من قصيدة لأُحيحة بن الجلاح الأوسي الجاهلي كما في ديوانه، ص75.
وقولُ الخنساءِ الشاعرةِ
(1)
:
قَذًى بِعَيْنَيْكَ أَمْ بِالْعَيْنِ عُوَّارُ أَمْ خِلْتَ إِذْ أَقْفَرتْ مِنْ أَهْلِهَا الدَّارُ
وقولُ امْرِئِ الْقَيْسِ
(2)
:
تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أَوْ تَبْتَكِرْ وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأَنْ تَنْتَظِرْ؟
وهو كثيرٌ شائعٌ، قالوا: فَعَلَى هذا فيكونُ الْمَعْنَى: أَهَذَا رَبِّي؟ فَحُذِفَتْ أداةُ الاستفهامِ، وعلى هذا القولِ فالقرينةُ على أداةِ الاستفهامِ: إيقانُ إبراهيمَ المذكورُ قبلَه في قولِه: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام: آية 75] وتصريحُ اللَّهِ بأنه مُحَاجٌّ وَمُنَاظِرٌ لَا ناظر بقولِه: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: آية 80] وقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: آية 83] قالوا: وَمِنْ حذفِ الاستفهامِ في القرآنِ قولُه تعالى: {أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء: آية 74] لأَنَّ المعنَى: أَفَئِنْ مِتَّ أَفَهُمُ الخالدونَ بعدَ موتِكَ؟ في نظائرَ ذَكَرُوهَا. هذانِ الوجهانِ في قولِه: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 76].
وقولُه: {فَلَمَّا أَفَلَ} أُفُولُ النجمِ هو سقوطُه وغيبوبتُه، إذا طَلَعَ النجمُ تقولُ العربُ: طَلَعَ، وتقولُ في القمرِ والشمسِ: بَزَغَ. فإذا غابَ تقولُ العربُ: أَفَلَ، فالأُفُولُ: الغيبوبةُ
(3)
، ومنه قولُ العربِ: أينَ أَفَلْتَ عنَّا؟ أَيْنَ غِبْتَ عَنَّا؟ فلمَّا أَفَلَ ذلك النجمُ - أي: غَابَ -
(1)
شرح ديوان الخنساء 38 ولفظه في الديوان:
قذى بِعَينِكِ أمْ بالعَينِ عُوَّارُ
…
أمْ ذَرَفَتْ إذْ خَلَتْ من أهلها الدارُ
(2)
ديوان امرئ القيس 67.
(3)
انظر: ابن جرير (11/ 485).
قال إبراهيمُ: {لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ} يعني بقولِه: {لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ} لا أحبُّ أن أعبدَ هذا الساقطَ المُتَغَيِّرَ المُسَخَّرَ؛ لأنه لا يمكنُ أن يكونَ هو الْمُدَبِّرَ لشؤونِ هذا الْعَالَمِ، الذي بِيَدِهِ النفعُ والضرُّ، فَمَنْ يتصفُ بصفةِ الأفولِ والغيبوبةِ والسقوطِ لا يحبُّ عبادتَه؛ لأنه ليس مُتَّصِفًا بصفاتِ الربِّ؛ لأن صفاتِ الربِّ: العظمةُ، والقدرةُ الكاملةُ، وهذا متصفٌ بصفةِ نقصٍ وتغيرٍ، لا يصلحُ أن يكونَ رَبًّا. قال بعضُ العلماءِ: ووافقَ هذا أن في مُعْتَقَدِهِمْ أن الكواكبَ التي يَعْبُدُونَهَا أنها وَقْتَ أُفُولِهَا يسقطُ تأثيرُها في ذلك الوقتِ، وأنها تضعفُ حتى ترجعَ طالعةً، فيرجعَ لها ما كان لها من [7/ب] التأثيرِ في زَعْمِهِمْ / فوافقَ هذا أُفُولَهُ؛ ولذا قال لهم:{لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ} . فكأنه هنا اسْتَنْتَجَ لهم إنتاجًا واضحًا أن الكوكبَ لَا يمكنُ [أن يكونَ]
(1)
رَبًّا من مُقَدِّمَتَيْنِ:
أحدُهما: أنه آفِلٌ، وكونُه آفلاً يدلُّ على أنه مُسَخَّرٌ، أنه جرمٌ مُسَخَّرٌ بقدرةِ وإرادةِ غَيْرِهِ.
الثَّانِيَةُ: هي أنه لا يُحِبُّ الآفِلِينَ، فكأنه يقول: هذا آفِلٌ، وَكُلُّ آفِلٍ كائنًا ما كَانَ مُتَّصِفٌ بِصِفَاتِ النقصِ لا يمكنُ أن يكونَ رَبًّا، فهذا لا يمكنُ أن يكونَ رَبًّا.
ثم قال جل وعلا: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 77] أَصْلُ البزوغِ: أولُ الطلوعِ، لَمَّا رَآهُ طَالِعًا في أولِ طلوعِه قال:{هَذَا رَبِّي} على ما بَيَّنَّا في غيرِه.
(1)
زيادة يقتضيها السياق.
{فَلَمَّا أَفَلَ} أي: غَابَ القمرُ وَذَهَبَ. {قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} . العلماءُ قالوا: قولُه: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي} فيه وجهانِ من التفسيرِ
(1)
:
أحدُهما: أنه تَوَاضُعٌ مِنْ إبراهيمَ، كقولِه هو وإسماعيل:{رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: آية 128] يطلبُ اللَّهَ أن يجعلَه مِنْ جُمْلَةِ المسلمين تَوَاضُعًا لِلَّهِ (جل وعلا). وكقولِه: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم: آية 35] كُلُّ هَذَا تواضعٌ من الأنبياءِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم)، وإظهارُهم للفقرِ والعجزِ بين يَدَيِ اللَّهِ (جل وعلا)، ولذا قال:{لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام: آية 77].
الثَّانِي: هو ما قَالَ بعضُ العلماءِ: أن هذا تعريضٌ بقومِه، يعنِي مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ فإنه ضَالٌّ، فكيفَ تَضِلُّونَ وَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أجرامًا لا تنفعُ ولا تَضُرُّ، وليس بيدِها شيءٌ؟ والمعنَى: مَنْ لَمْ يَهْدِهِ اللَّهُ فلَا هاديَ لَهُ، فهو ضَالٌّ، كأنه تعريضٌ بقومِه على هذا القولِ.
ثم لَمَّا رَأَى الشمسَ {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً} أي: طَالِعَةً {قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 78] والمعنَى: هذا الطالعُ المنيرُ رَبِّي، فَعَبَّرَ عنها بالمعنَى، هذا الطالعُ المنيرُ رَبِّي
(2)
. قال بعضُ العلماءِ
(3)
: وَوَجْهُ تذكيرِه لأنه لَا ينبغي أن يُطْلَقَ على الرَّبِّ اسمُ أُنْثَى، ولو على لَفْظِهِ؛ وَلِذَا قال:{هَذَا رَبِّي} هذا الطالعُ المنيرُ رَبِّي.
(1)
انظر: القاسمي (6/ 591).
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 486)، البحر المحيط (4/ 167)، ابن كثير (2/ 151).
(3)
انظر: البحر المحيط (4/ 167)، الدر المصون (5/ 14)، القاسمي (6/ 591).
ثم قال: {هَذَا أَكْبَرُ} هذا مِنَ التَّنَزُّلِ كالأولِ، يعني: هذا أكبرُ من الكوكبِ ومن القمرِ، فَحَذَفَ (مِنْ) وما بَعْدَهَا
(1)
، هذا أكبرُ من الكوكبِ ومن القمرِ، ومقصودُه بـ {هَذَا أَكْبَرُ} هو إسقاطُ الشمسِ أيضًا؛ لأن الأكبرَ الأعظمَ إذا كان يتصفُ بصفةِ النقصِ فصفةُ النقصِ أعظمُ في الكبيرِ الجليلِ منها في الصغيرِ الحقيرِ.
{فَلَمَّا أَفَلَتْ} أي: غَابَتِ الشمسُ {فَلَمَّا أَفَلَتْ} أَقَامَ عليهم الحجةَ ثلاثَ مراتٍ، فأظهرَ حقيقةَ أمرِه، وقد قَضَى وَطَرَهُ مِنَ التَّنَزُّلِ لهم حتى أَلْقَمَهُمُ الْحَجَرَ، فَصَرَّحَ لهم بعقيدتِه، قال لهم:{يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} أَبْرَأُ إلى اللَّهِ مِمَّا تعبدونَ مِنْ دُونِهِ.
ثم قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: آية 79] أي: أَخْلَصْتُ عِبَادَتِي وَقَصْدِي {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} للقادرِ النافعِ الضارِّ الذي هو الخالقُ الرازقُ. وقولُه: {لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} يُشِيرُ به إلى أن علامةَ استحقاقِ العبادةِ شيءٌ واحدٌ، العلامةُ لِمَنْ يستحقُّ العبادةَ شيءٌ واحدٌ، وهو أنه الذي يَخْلُقُ وَيُبْرِزُ من العدمِ إلى الوجودِ، فَمَنْ يُبْرِزُكَ من العدمِ إلى الوجودِ هذا رَبُّكَ الذي يستحقُّ أن تعبدَه، وَمَنْ لَا يَقْدِرُ على إبرازِك من العدمِ إلى الوجودِ فهو عبدٌ مربوبٌ محتاجٌ إلى خالقٍ يعبدُه مثلُك؛ وَلِذَا قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} [البقرة: آية 21] وقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَن لَاّ يَخْلُقُ} [النحل: آية 16] لا وَاللَّهِ {أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الرعد: آية 16] وخالقُ كُلِّ شيءٍ هو المعبودُ وحدَه.
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 486).
ومعنَى: {فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام: آية 79] فَطَرَهُمَا يَعْنِي: خَلَقَهُمَا وَاخْتَرَعَهُمَا على غيرِ مثالٍ سابقٍ. فـ (الفَطْرُ) معناه: الاختراعُ والابتداعُ على غيرِ مثالٍ سابقٍ، رُوِيَ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنه قال: ما كنتُ أتحققُ حقيقةَ معنَى {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الأنعام: آية 14] حَتَّى اختصمَ إِلَيَّ أعرابيانِ في بِيرٍ، فقال أحدُهما: إِنَّهَا بِيرِي، وأنا الذي فَطَرْتُهَا
(1)
. يعني: اخْتَرَعْتُهَا، وَابْتَدَأْتُ حَفْرَهَا. فعلمتُ أن العربَ تُطْلِقُ هذا على اختراعِ الفعلِ وابتدائِه. وهذا معنَى قوله:{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} أي: أَخْلَصْتُ عِبَادَتِي وَقَصْدِي للذي خَلَقَ السمواتِ والأرضَ.
{فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أي: خَلَقَهُمَا وَابْتَدَعَهُمَا بما فيهما.
{حَنِيفًا} أي: حالَ كَوْنِي حَنِيفًا، أي: مائلاً عن الدينِ الباطلِ إلى دينِ الحقِّ، أصلُ الحنيفِ:(فَعِيْل) من (الحَنَف) بفتحتين،
(1)
أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن (2/ 174)، وفي غريب الحديث له (4/ 373)، وابن جرير (11/ 283)، والبيهقي في الشعب (4/ 316)، وفي الأسماء والصفات له ص44، وابن عبد البر في الاستذكار (8/ 384)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (انظر: مختصره لابن منظور (13/ 313))، وذكره السيوطي في الدر (3/ 7)، وعزاه لأبي عبيد، وابن جرير، وابن الأنباري في الوقف والابتداء. ومداره على إبراهيم بن مهاجر، وهو البجلي. قال عنه في التقريب (ص 256):«صدوق لين الحفظ» اهـ. وانظر: ترجمته في تهذيب الكمال (2/ 211).
قال الحافظ في الكافي الشاف (ملحق بالكشاف (4/ 61)): «بإسناد حسن ليس فيه إلا إبراهيم بن مهاجر» اهـ. وانظر: تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في تفسير الكشاف للزيلعي (1/ 434).
و (الحَنَفُ) أصلُه في لغةِ العربِ أن يميلَ مقدمُ الرجلِ اليمنى إلى جهةِ الرِّجْلِ اليُسْرَى، ويميلُ مقدمُ الرجلِ اليُسْرَى إلى جهةِ الرِّجْلِ اليُمْنَى، فيقال للرجلِ:(أحنفُ)، وللمرأةِ:(حَنْفَاء). وقد كان كذلك الأحنفُ بنُ قيسٍ المشهورُ، وقد قالت أُمُّهُ تُرقِّصُهُ وَهُوَ صَغِيرٌ
(1)
:
وَاللَّهِ لَوْلَا حَنَفٌ برِجْلِهِ مَا كَانَ فِي فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ
فهذا الميلُ صارَ حقيقةً عُرفيةً في الميلِ عن الدينِ الباطلِ إلى دينِ الحقِّ، فمعنَى {حَنِيفًا}: مائلاً عن كُلِّ دينٍ باطلٍ إلى دينِ اللَّهِ الصحيحِ
(2)
.
{وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: آية 79] يعنِي في قولِه: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 76] لستُ أُشْرِكُ بِرَبِّي شيئًا، ولا أعتقدُ رُبُوبِيَّةَ كوكبٍ ولَا شمسٍ ولَا قَمَرٍ. هذا هو الظاهرُ في هذه الآياتِ الكريمةِ أن نَبِيَّ اللَّهِ إبراهيمَ مُنَاظِرٌ لا نَاظِرٌ، وأنه يريدُ بهذا التَّنَزُّلِ: التوصلَ إلى إفحامِ خصومِه بدليلِ قولِه: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: آية 80] حَاجَّهُ: أصلُه (حَاجَجَهُ) من (الْمُحَاجَجَةِ)، بأن يُدْلِي كُلٌّ منهما بحجتِه ضِدَّ الآخَرِ، وَكُلُّ كلامٍ يُدْلِي به خصمٌ ضِدَّ آخَرَ يُسَمَّى:(حجةً) ولو كان في غايةِ البطلانِ، كما قال تعالى في قومٍ أَدْلَوْا بكلامٍ باطلٍ:{حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الشورى: آية 16] فهو يُطْلَقُ على كُلِّ ما أَدْلَى به خصمٌ ضِدَّ آخَرَ، تقولُ له العربُ:(حجة)
(3)
، و (المُفَاعَلَةُ):(حَاجَّ) أصلُها: (حَاجَجَ)، على وزنِ
(1)
البيت في القرطبي (2/ 140)، الدر المصون (2/ 137).
(2)
انظر: ابن جرير (3/ 104)، المفردات (مادة: حنف) 260، القرطبي (2/ 139 - 140)، الدر المصون (2/ 137).
(3)
مضى عند تفسير الآية (76) من سورة البقرة.
(فَاعَلَ) أُدْغِمَتْ إحدى الْجِيمَيْنِ في الأُخْرَى.
{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} قومُ الرجلِ أصلُهم: جماعتُه، و (القومُ) في وضعِ اللسانِ العربيِّ يُطْلَقُ على الذكورِ خاصةً، وربما دَخَلَ فيهم الإناثُ بِحُكْمِ التَّبَعِ
(1)
. فالدليلُ على إِطْلَاقِهِ على الذكورِ خاصةً في الوضعِ العربيِّ قولُه تعالى: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ} ثم قال: {وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ} [الحجرات: آية 11] فَعَطْفُ النساءِ عليهم يدلُّ على اختصاصِ اسمِ (القومِ) بالذكورِ دونَ الإناثِ، ونظيرُه من كلامِ العربِ قولُ زهيرِ بنِ أَبِي سُلْمَى
(2)
:
وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْري أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ
والدليلُ على دخولِ النساءِ في اسمِ (القومِ) بحكمِ التبعِ قولُه تعالى في بلقيسَ: {وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: آية 43] دَخَلَتْ بالتبعِ، بدليلِ قرينةِ السياقِ.
ومعنى محاجةِ قومِه له: أنهم قالوا له: كَيْفَ تَدَّعِي أن المعبودَ واحدٌ، وأن العَالَمَ كُلَّهُ يُدَبِّرُ شؤونَه ويسمعُ نداءَه معبودٌ واحدٌ؟ هذا لا يمكنُ!! كما قال قومُ نَبِيِّنَا له:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: آية 5] فقالوا له: مَنْ يَعْبُدُ آلهةً متعددةً خيرٌ مِمَّنْ يقتصرُ على واحدٍ؛ لأن هؤلاء المتعددين تَتَكَرَّرُ بهم الشفاعةُ من جهاتٍ، وهذا واحدٌ. ومحاججتُهم له في توحيدِ اللَّهِ؛ وَلِذَا قال:{أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ} [الأنعام: آية 80] دَلَّ ذلك على أن محاججتَهم فِي
(1)
انظر: المفردات (مادة: قوم) 693، اللسان (مادة: قوم) (3/ 195)، الكليات 728.
(2)
البيت في اللسان: (مادة: قوم)(3/ 195)، الدر المصون (1/ 360).
اللَّهِ وَفِي عبادتِه، قال مُنْكِرًا عليهم:{أَتُحَاجُّونِّي} قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ، ما عدا نَافِعًا وحدَه، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ، وهشامٌ عن ابنِ عامرٍ - بخلافٍ عنه - قَرَأَهُ كُلُّهُمْ:{أَتُحَاجُّونِّي} بتشديدِ النونِ، وقرأَه نافعٌ بروايةِ ورشٍ وقالونَ وهشامٍ - بخُلف عنه - عن ابنِ عامرٍ كذلك {أَتُحَاجُّونِي} بتخفيفِ النونِ. والياءُ مثبتةٌ عِنْدَ جميعِ القراءِ، فَهُمَا قراءتانِ سَبْعِيَّتَانِ
(1)
{أَتُحَاجُّونِّي} وهذه قراءةُ الجمهورِ، وقراءةُ نافعٍ وهشامٍ - في إحدى الروايتين -:{أَتُحَاجُّونِي} بنونٍ بعدَها ياءٌ، نونٌ مُخَفَّفَةٌ.
أما قراءةُ الجمهورِ فلا إشكالَ في الآيةِ عليها، أصلُها تأتي هنا نونانِ، النونُ الأُولَى: نونُ الرفعِ، والثانيةُ: نونُ الوقايةِ، فأُدْغِمَتْ إحدى النُّونَيْنِ في الأُخْرَى، وهذا لا إشكالَ فيه
(2)
.
أما على قراءةِ نافعٍ: {أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ} وقرأ بها هشامٌ عن ابنِ عامرٍ - في إحدى الرِّوَايَتَيْنِ - {أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ} فقد اسْتَشْكَلَهَا بعضُ العلماءِ، وذُكِرَ عن بعضِ علماءِ العربيةِ أنه قال: قراءةُ نافعٍ في هذا لَحْنٌ
(3)
!! وهذا خطأٌ، بل هي قراءةٌ فصيحةٌ، ولغةٌ عربيةٌ فُصْحَى، قرأ بها نافعٌ في حروفٍ كثيرةٍ من القرآنِ، في قولِه هنا في الأنعامِ:{أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ} وفي قولِه في الزمرِ: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: آية 64] وفي قولِه في النحلِ: {أَيْنَ
(1)
انظر: المبسوط لابن مهران 197.
(2)
انظر: حجة القراءات 257، القرطبي (7/ 29)، البحر المحيط (4/ 169)، الدر المصون (5/ 15).
(3)
انظر: القرطبي (7/ 29)، البحر المحيط (4/ 169)، الدر المصون (5/ 19).
شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: آية 27] وفي قولِه في الحجرِ: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: آية 54] بكسرِ النونِ. كُلُّ هذه الحروفِ قَرَأَهَا نافعٌ على هذه الوتيرةِ. والتحقيقُ في هذا: أن هذه لغةٌ فُصْحَى، كما جَزَمَ به سيبويه
(1)
أن من عادةِ العربِ إذا اجتمعَ مِثْلَانِ أن يُخَفِّفُوا وَيَحْذِفُوا أحدَ الْمِثْلَيْنِ، وأنشدَ له سيبويه قولَ عمرِو بنِ مَعْدِي كَرِبَ الزبيديِّ
(2)
:
تَرَاهُ كَالثَّغَامِ يُعَلُّ مِسْكًا
…
يَسُوءُ الْفَالِيَاتِ إِذَا فَلَيْنِ
قال: الأصلُ: فَلَيْنَني. فَلَمَّا اجتمعَ نونانِ حُذِفَتْ إِحْدَاهُمَا
(3)
. والتحقيقُ المقررُ في علومِ العربيةِ: أن نونَ الرفعِ المعروفةَ في الأفعالِ الخمسةِ أنها لها حالاتٌ متعددةٌ - لها تقريبًا خمسُ حالاتٍ - في ثلاثِ حالاتٍ يجبُ حذفُها بقياسٍ مُطَّرِدٍ، وهذه الثلاثُ التي يجبُ فيها حذفُ نونِ الرفعِ
(4)
:
أَوَّلُهَا: ما إذا دَخَلَ عليها جَازِمٌ.
والثانيةُ: إذا دَخَلَ عليها ناصبٌ. وقد جَمَعَهُمَا قولُه: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} [البقرة: آية 24].
(1)
انظر: الكتاب (3/ 519).
(2)
البيت في: الكتاب (3/ 520) وحجة القراءات 258، القرطبي (7/ 29)، الدر المصون (5/ 18).
والثغام: نبت له نور أبيض يُشَبَّه به الشيب.
ويُعلْ: أي: يطيب شيئا بعد شيء.
(3)
انظر: حجة القراءات 258.
(4)
انظر: التوضيح والتكميل (1/ 60 - 61).
الثالثةُ
(1)
: إذا دَخَلَتْ عليها نونُ التوكيدِ الثقيلةُ نحو: {لَتُبْلَوُنَّ} فإنها يجبُ حَذْفُهَا فِي هذه الأمورِ الثلاثةِ بقياسٍ مُطَّرِدٍ. ما إذا تَقَدَّمَهَا جَازِمٌ، أو تَقَدَّمَهَا ناصبٌ، أو دَخَلَتْ عليها نونُ التوكيدِ الثقيلةُ. فَتُحْذَفُ نونُ الرفعِ باطرادٍ، وبقاؤُها مع الجازمِ أو الناصبِ لغاتٌ قليلةٌ مسموعةٌ، وبقاؤُها مع الجازمِ كقولِ الشاعرِ
(2)
:
لَوْلَا فَوَارِسُ مِنْ نُعْمٍ وَأُسْرَتِهِمْ يَوْمَ الصُّلَيْفَاءِ لِمْ يُوفُونَ بِالْجَارِ
فهذه لغةٌ قليلةٌ تُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عليها. وكبقائِها مع الناصبِ، كقولِ الشاعرِ
(3)
:
أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا مِنِّي السَّلَامَ وَأَنْ لَا تُشْعِرَا أَحَدَا
هذا أيضًا كذلك.
أما الموضعُ الرابعُ: فهو يجوزُ فيه حذفُها وإبقاؤُها بقياسٍ مُطَّرِدٍ، كأن تجتمعَ نونُ الرفعِ مع نونِ الوقايةِ - كهذه الآياتِ التي ذَكَرْنَا - فإنها يجوزُ إثباتُ نونِ الرفعِ كقراءةِ الجمهورِ، ويجوزُ حذفُها كقراءةِ نافعٍ، وقد غَلِطَ مَنْ ظَنَّ أن النونَ المحذوفةَ أنها نونُ الوقايةِ، فالمحذوفةُ نونُ الرفعِ
(4)
.
(1)
انظر: الكتاب لسيبويه (3/ 519)، المصدر السابق (2/ 258 - 259).
(2)
البيت في المحتسب (2/ 42)، الخصائص (1/ 388)، الخزانة (3/ 626).
والصُّليفاء: مصغَّر صلفاء، وهي الأرض الصلبة. ويوم الصلفاء: من أيام العرب. وقد صغّره الشاعر هنا. وهو لهوازن على فزارة وعبس.
(3)
انظر: الخصائص (1/ 390)، أوضح المسالك (3/ 166)، الخزانة (3/ 559).
(4)
انظر: القرطبي (7/ 29)، الدر المصون (5/ 16).
الْمَوْضِعُ الخامسُ: هو أَنْ تُحْذَفَ نونُ الرفعِ لغيرِ واحدٍ من الأسبابِ الأربعةِ - لأَنْ لَا يدخلَ عليها نَاصِبٌ وَلَا جَازِمٌ، ولَا تكونُ مع نونِ التوكيدِ الثقيلةِ، وَلَا مَعَ نونِ الوقايةِ - فَحَذْفُهَا في مثلِ هذا شَاذٌّ يُحْفَظُ وَلَا يُقَاسُ عليه، كقولِ الراجزِ
(1)
:
أَبِيتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تَدْلُكِي وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الذَّكِي
فالتحقيقُ أن قراءةَ نافعٍ في هذا الحرفِ وفي غيرِه أنها على لغةٍ عربيةٍ فُصْحَى.
ومعنى الآيةِ الكريمةِ: أَتُحَاجُّونَنِي، أَتُجَادِلُونَنِي في اللَّهِ، وأني لا أعبدُه وحدَه، والحالُ قد هَدَانِي رَبِّي، وَشَرَحَ صَدْرِي بما أَوْحَى إِلَيَّ، وبما أَرَانِي من ملكوتِ السمواتِ والأرضِ حتى صرتُ من الْمُوقِنِينَ، أَبَعْدَ هذا من العلمِ واليقينِ الذي أَعْطَانِي اللَّهُ تُحَاجُّونَنِي وَتُجَادِلُونَنِي في اللَّهِ، في أنه المعبودُ وحدَه؟ هذا مما لا يكونُ ولا يصحُّ. ثم إنهم قالوا له على عادةِ الكفارِ: تَرَى أَنَّكَ عِبْتَ آلِهَتَنَا وأصنامَنا، وَعِبْتَهَا وكسرتَها، وقلتَ: إنها لا تنفعُ ولا تَضُرُّ. ترى أنها ستصيبُك ببرصٍ أو جُذَامٍ أو تُخَبِّلُكَ فَتُجَنّنكَ
(2)
!! وهذه عادةُ الكفارِ، يخوفونَ أنبياءَ اللَّهِ من أصنامِهم. فأجابَهم إبراهيمُ قال لهم:{وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} قال لهم: لا أخافُ ما تشركونَ به؛ لأنه لا ينفعُ ولا يَضُرُّ، ولا يُتَرَقَّبُ منه خوفٌ ولا نفعٌ، فلا أخافُه أَبَدًا.
(1)
البيت في الخصائص (1/ 388)، الخزانة (3/ 525)، الدر المصون (5/ 17).
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 489).
والتحقيقُ في الاستثناءِ في قولِه: {إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} أنه استثناءٌ منقطعٌ. هذا هو التحقيقُ
(1)
، والمعنَى: لكن إن شاءَ رَبِّي أمرًا مَخُوفًا أَوْقَعَنِي فيه، أَمَّا أصنامُكم فليس منها خوفٌ، وليس منها نَفْعٌ؛ لأنها جماداتٌ لا تنفعُ ولا تَضُرُّ. وهذا هو التحقيقُ، خلافًا لقومٍ زَعَمُوا أن الاستثناءَ مُتَّصِلٌ، وقالوا: لا أَخَافُ من معبوداتِكم إلا أن يشاءَ اللَّهُ أن يجعلَ لِي منها ضررًا، كأن يُسْقِطَ عَلَيَّ قطعةً من القمرِ الذي تعبدونَ، أو من الشمسِ الذي تعبدونَ، وأن يخلقَ في الحجارة عقولاً وقوةً تبطشُ بِي بها
(2)
. هذا كُلُّهُ خلافُ التحقيقِ.
والتحقيقُ أن الاستثناءَ منقطعٌ، وأن المعنَى: ولا أخافُ ما تشركونَ به شيئًا، فلا أخافُ ما تشركونَ به، ثم إنه لَمَّا نَفَى الخوفَ عن نفسِه اسْتَثْنَى مشيئةَ اللَّهِ، إلا أن يشاءَ اللَّهُ أن يُخَوِّفَنِي بما شاءَ، فَلَهُ في ذلك ما شَاءَ، والاستثناءُ استثناءٌ منقطعٌ، والتحقيقُ: أن الاستثناءَ المنقطعَ جائزٌ في لغةِ العربِ، وفي كلامِ العربِ، خلافًا للمقررِ في
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 489)، القرطبي (7/ 29)، ابن كثير (2/ 152)، البحر المحيط (4/ 169)، الدر المصون (5/ 20).
(2)
انظر: البحر المحيط (4/ 170).
أصولِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ، فالمقررُ في الأصولِ
(1)
عند ثلاثةٍ من الأئمةِ: مالكٍ، والشافعيِّ، وأبِي حنيفةَ، أن الاستثناءَ المنقطعَ صحيحٌ، وأنه جائزٌ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ، خلافًا لِلْمُقَرَّرِ في أصولِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ أن الاستثناءَ المنقطعَ لا يجوزُ؛ لأن غيرَ ما دَخَلَ لا يمكنُ أن يُخْرَجَ بالاستثناءِ، وحجةُ الجمهورِ وُرُودُ الاستثناءِ في القرآنِ وفي كلامِ العربِ، وَمِنْ ورودِ الاستثناءِ المنقطعِ في القرآنِ:{مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَاّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: آية 157] فاتباعُ الظَّنِّ ليس من جنسِ العلمِ، وكقولِه:{وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (20)} [الليل: الآيتان 19، 20].
فليس من جنسِ نعمةٍ لأحدٍ عندَه، وكقولِه:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} {إِلَاّ سَلَامًا} [الواقعة: الآيتان 25، 26] فالسلامُ ليس من جنسِ اللغوِ. وهو كثيرٌ في كلامِ العربِ، ومن أمثلتِه في كلامِ العربِ قولُ نابغةِ ذبيانَ
(2)
:
وَقَفْتُ فِيهَا أُصَيْلَانًا أُسَائِلُهَا
…
عَيَّتْ جَوَابًا، وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
إِلَاّ الأَوَارِيَّ لأْيًا مَا أُبَيِّنُهَا
…
وَالنُّؤْيُ كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الْجَلَدِ
فالأَوَارِيُّ التي هي مرابطُ الخيلِ لَيْسَتْ من جنسِ الأحدِ. وكقولِ الراجزِ
(3)
:
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ
…
إِلَاّ الْيَعَافِيرُ وَإِلَاّ الْعِيسُ
(1)
في هذه المسألة راجع: ابن جرير (2/ 264)، (8/ 136، 137)، (9/ 31)، البحر المحيط في أصول الفقه (3/ 277)، شرح الكوكب المنير (3/ 286)، المذكرة في أُصول الفقه 226، نثر الورود (1/ 281)، أضواء البيان (4/ 336 - 339).
(2)
البيت الثاني مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة، وهما في ديوان النابغة ص9. وقوله:(أصيلاناً) أي: عند الأصيل. و (عيت جوابا) أي: عجزت عن الإجابة. و (الأواري) مفردها الآري، وهي الآخية التي تشد بها الدابة. و (اللأي) الشدة. و (النؤي) ما يُحفر حول الخيمة لعدم تسرب الماء أو غيره بداخلها. و (المظلومة الجلد) أي: الأرض الشاقة التي أُقيم فيها حوض على غير استحقاق منها لذلك.
(3)
البيت لجران العود. وهو في الخزانة (4/ 197)، الدر المصون (11/ 33) واليعافير: جمع يعفور، وهو الظبي بلون التراب، أو عام.
وذلك ليس من جنسِ الأنيسِ. وقول الفرزدقِ
(1)
:
وَبِنْتُ كَرِيمٍ قَدْ نَكَحْنَا وَلَمْ يَكُنْ لَهَا خَاطِبٌ إِلَاّ السِّنَانَ وَعَامِلَهْ
فالسنانُ ليس من جنسِ الخاطبِ.
وَيَنْبَنِي في الأصولِ على الخلافِ في الاستثناءِ المنقطعِ: ما لو قال رجلٌ في إقرارِه: أُقِرُّ لزيدٍ أن له عَلَيَّ ألفَ دينارٍ إلا ثوبًا. فالذين قالوا بجوازِ الاستثناءِ المنقطعِ قالوا: تسقطُ قيمةُ الثوبِ من الألفِ. وعلى مذهبِ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبلٍ - المانعُ للاستثناءِ المنقطعِ - لا يسقطُ من الألفِ شيءٌ؛ لأن الثوبَ ليس من جنسِ الدنانيرِ التي أَقَرَّ بها.
وعلى هذا فالمعنَى: {وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ} لا أخافُ الأصنامَ التي تُشْرِكُونَهَا بِاللَّهِ (جل وعلا). فالتحقيقُ في الضميرِ في (به) أنه عائدٌ إلى اللَّهِ
(2)
. (تشركونها بالله) أي: به (جل وعلا). لا أخافُها لأنها لا تنفعُ ولا تَضُرُّ. ثم استثنَى وقال: {إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} لكن إن شَاءَ رَبِّي مَخُوفًا أن يوقعَني فيه فَلَهُ (جل وعلا) ما شَاءَ، فالاستثناءُ منقطعٌ، وليس المرادُ أنه اسْتَثْنَى مخافةً من الأصنامِ أبدًا؛ لأنها جمادٌ لا ينفعُ ولا يَضُرُّ، والاستثناءُ منقطعٌ، كما جَزَمَ به غيرُ واحدٍ من الْمُحَقِّقِينَ، وقد غَلِطَ من جعلَه متصلاً، كمن قال: إن اللَّهَ قادرٌ على أن يخلقَ في الأصنامِ عقولاً وبطشًا تضرُّه به، وقادرٌ على أن يُسْقِطَ عليه فلقةً من القمرِ الذي يعبدونَ فتضره!! هذا بعيدٌ من
(1)
البيت في المقاصد النحوية (3/ 110).
(2)
انظر: القرطبي (7/ 29)، البحر المحيط (4/ 169)، الدر المصون (5/ 20).
كلامِ العربِ، والظاهرُ ما ذَكَرْنَا. وهذا معنَى قولِه:{وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَاّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا} يُخَوِّفُنِي به فمشيئةُ اللَّهِ نافذةٌ كائنةٌ ما كَانَتْ.
{وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} {عِلْمًا} تمييزٌ مُحَوَّلٌ عن الفاعلِ
(1)
. والمعنَى: وَسِعَ علمُه كُلَّ شيءٍ، فهو عَالِمٌ بِكُلِّ شيءٍ، وعلمُه المحيطُ بِكُلِّ شيءٍ إذا أحاطَ بأنه يَجْعَلُنِي في مخافةٍ فذلك حقيقٌ، فلما نَفَى الخوفَ من الأصنامِ تداركَ وقال: لا يُمْكِنُنِي أن أنفيَ الخوفَ، بل أُنِيطُهُ بمشيئةِ اللَّهِ، إذا شاءَ أن يُخِيفَنِي أَخَافَنِي، وإلا فَلَا. هذا معنَى الكلامِ.
ثُمَّ قَالَ: {أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} أفلَا تَتَّعِظُونَ وتعلمونَ أَنَّنِي لا ينبغي لي أن أخافَ من جماداتٍ لا تَنْفَعُ مع أنكم لا تَخَافُونَ من شديدِ البطشِ، ملكِ السماواتِ والأرضِ، حيثُ تكفرونَ به، وتصرفونَ حقوقَه لغيرِه؛ وَلِذَا أتبعَه بقولِه:{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ} [الأنعام: آية 81] في غايةِ الإنكارِ، كيفَ أخافُ هذه الجماداتِ التي أَشْرَكْتُمُوهَا بِاللَّهِ، لا تنفعُ ولا تضرُّ، وأنتم لا تخافونَ جبارَ السماواتِ والأرضِ، حيث تَكْفُرُونَ به، وَتُشْرِكُونَ به غيرَه؟
{وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ} (ما) موصولةٌ، وهي في محلِّ المفعولِ لـ:{أَشْرَكْتُمْ}
(2)
أي: أشركتُم بِاللَّهِ الشيءَ الذي لم يُنَزِّلْ به سلطانًا. أي: حُجَّةً.
(1)
انظر: البحر المحيط (4/ 170)، الدر المصون (5/ 21).
(2)
انظر: الدر المصون (5/ 21).
وهذه الآيةُ الكريمةُ تدلُّ على أن نفيَ الشيءِ لا يدلُّ على إمكانِه؛ لأن نفيَ السلطانِ عن الآلهةِ لا يدلُّ على إمكانِه، كقولِه:{وَمَا ظَلَمُونَا} [البقرة: آية 57] فَنَفْيُهُ ظُلْمَهُمْ عنه لا يدلُّ على إمكانِه
(1)
، فهذا يدلُّ على أن نفيَ الفعلِ لا يدلُّ على إمكانِه، كما قال جل وعلا:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: آية 117] فنفيُ البرهانِ لا يدلُّ على إمكانِ البرهانِ؛ إِذْ لا يقومُ عليه برهانٌ أبدًا. وهذا معنَى قولِه: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: آية 81] أي: حجةً واضحةً.
ثم قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ} أَيُّ الفريقين أحقُّ بالأمنِ، أهو الفريقُ الذي يعبدُ اللَّهَ، ويوحدُ اللَّهَ، ويطيعُ اللَّهَ، الذي بيدِه النفعُ والضرُّ، وَيُرْقَبُ وَيُرْجَى مِنْ قِبَلِهِ كلُّ شيءٍ، أو هذا الذي يكفرُ باللَّهِ ويغضُبه ويسخطُه ويصرفُ حقوقَه للجماداتِ؟ أَيُّ هذين الفريقين أَحَقُّ بالأمنِ والسلامةِ من الآخَرِ؟ الجوابُ: أن فريقَ اللَّهِ الذي يعبدُه ويوحدُه ويطيعُه
لَا شَكَّ أنه أَحَقُّ بالأمنِ؛ وَلِذَا قال: {الَّذِينَ آمَنُوا} [الأنعام: آية 82] وهم إبراهيمُ {وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} أي: لم يَخْلِطُوا إيمانَهم بشرك {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} وقد ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ، في تفسيرِ هذه الآيةِ الكريمةِ أنه لَمَّا نَزَلَ قولُه:{الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذلك على أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وقالوا: أَيُّنَا لَمْ يَظْلِمْ نفسَه؟ فقال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الَّذِي تُرِيدُونَ» . ثم تَلَا قوله: «{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
(2)
(1)
مضى عند تفسير الآية (57) من سورة البقرة.
(2)
مضى عند تفسير الآية (51) من سورة البقرة.
[لقمان: آية 13]» وَبَيَّنَ لهم أن المرادَ بالظلمِ هنا: الشركُ.
وكان الزمخشريُّ يقولُ: لَا يمكنُ أن يُفَسَّرَ الظلمُ هنا بالشركِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: {إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} لأن الشركَ لا يختلطُ مع الإيمانِ؛ لأنهما ضِدَّانِ
(1)
. وهذا في الحقيقةِ أمرٌ غيرُ صحيحٍ؛ لأن اللَّهَ يقول: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} [يوسف: آية 106] فإنهم يؤمنونَ بربوبيةِ اللَّهِ (جل وعلا)، وَبِأَنَّهُ النافعُ الرازقُ، ويشركونَ معَه غيرَه في عبادتِه، كما قال تعالى:{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} وقد جاء في بعضِ الأحاديثِ: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ في سفرٍ من أسفارِه من المدينةِ، ثم بعدَ ذلك لَحِقَ بهم بَدَوِيٌّ راكبًا على بعيرٍ، وقد قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إني أتيتُك من بلادِي وَتِلَادِي، أُرِيدُ أن تعلمنَي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، وأدخلَ في دِينِكَ، فَعَلَّمَهُ النبيُّ شرائعَ الإسلامِ، وَآمَنَ على يدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إيمانًا صحيحًا، وفي ذلك الوقتِ سَقَطَتْ يدُ بعيرِه في جُحْرٍ في الليلِ، فانكسرَ عُنُقُهُ فماتَ، فقال لهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم:«هَذَا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» . لأنه عندمَا آمَنَ إِيمَانًا صَحِيحًا نَقِيًّا أَخَذَهُ اللَّهُ إليه.
وفي بعضِ الرواياتِ: فيه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لهم: «إِنَّهُ رَأَى مَلَكًا يَدُسُّ فِي فِيهِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ؛ لأَنَّهُ مَاتَ جَائِعًا» . جاء هذا في أحاديثَ مرفوعةٍ، اللَّهُ أعلمُ بأسانيدِها
(2)
.
(1)
عبارة الكشاف: «أي: لم يخلطوا إيمانهم بمعصية تفسقهم. وأبى تفسير الظلم بالكفر لفْظُ اللَّبْس» اهـ. الكشاف (2/ 25).
(2)
أخرجه أحمد (4/ 357، 358، 359)، والطبراني في الكبير (2/ 319 - 320)، والبيهقي في الشعب (8/ 254)، وفي الحلية (4/ 203)، وابن عدي في الكامل (5/ 1814)، وأورده الهيثمي في المجمع (1/ 41)، وابن كثير في التفسير (2/ 153)، والسيوطي في الدر (3/ 27)، وعزاه لأحمد، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب. من حديث جرير رضي الله عنه مع شيء من التفاوت في لفظه، حيث يرويه بعضهم بمثل السياق الذي ذكره الشيخ هنا، وبعضهم يرويه مختصرا.
وللحديث طرق لا تخلو من ضعف ولا يتقوى الحديث بمثلها، والله أعلم. وقد أخرج ابن أبي حاتم في التفسير (4/ 1334) نحوه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، ومن طريقه أورده ابن كثير في التفسير (2/ 153)، والسيوطي في الدر (3/ 27) وعزاه للحكيم الترمذي وابن أبي حاتم.
وقوله جل وعلا: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} أي: لم يَخْلِطُوا إيمانَهم بشركٍ {أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} كإبراهيمَ وَمَنْ سَارَ على سَيْرِهِ. {وَهُم مُّهْتَدُونَ} على طريقٍ صحيحةٍ.
يُفْهَمُ من مفهومِ مخالفةِ الآيةِ: أن الذين لم يؤمنوا وكانوا يلبسون كُلَّ شيءٍ بِظُلْمِهِمْ وَكُفْرِهِمْ وعبادتِهم للأصنامِ لَا أَمْنَ لهم في الدنيا ولا في الآخرةِ، وليسوا مُهْتَدِينَ. هذا معنَى الآيةِ الكريمةِ.
يقول اللَّهُ جل وعلا: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: الآية 83].
في هذا الحرفِ قراءتانِ سبعيتانِ
(1)
: قَرَأَهُ أربعةٌ من السبعةِ: نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وابنُ عامرٍ:{نَرْفَعُ درجاتِ مَنْ نَشَاءُ} غيرَ مُنَوَّنٍ مُضافًا إلى (مَنْ)، وقرأهُ الكوفيون - عاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ - {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء} بتنوينِ
درجاتٍ، وإدغامِ نونِ التنوينِ في الميمِ.
ومعنَى الآيةِ الكريمةِ: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} اختلفَ العلماءُ في المشارِ إليه بقولِه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} فَعَنْ مُجَاهِدٍ: أن الحجةَ الْمُشَارَ إليها بقولِه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} أنها قولُ نبيِّ اللَّهِ إبراهيمَ: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا} [الأنعام: آية 81]. قال: لَمَّا خوَّفوه أَصْنَامَهُمْ، وزعموا أنها تُخَبِّلُهُ وتستجلبُ له البرصَ ونحوَه، قال لهم: كيف أخافُ أصنامًا لا تنفعُ ولا تضرُّ، وأنتم تشركونَ مع اللَّهِ غيرَه ولا تخافونَه؟ قال مجاهدٌ وغيرُه: هذه هي حجةُ اللَّهِ التي آتَاهَا إبراهيمَ
(2)
. والظاهرُ أن الإشارةَ في قولِه: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} راجعةٌ إلى المناظرةِ كُلِّهَا
(3)
، من قولِه:{فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} [الأنعام: آية 76]. كَمَا جَزَمَ به غيرُ واحدٍ وهو الصوابُ، أما عدمُ الخوفِ من الأصنامِ، فهذا أمر حجته أُعْطِيَتْ لجماعةٍ من الرسلِ، ولم يُخَصَّ بها إبراهيمُ، ألا ترى أن قومَ هودٍ قالوا له: إِنَّ بعضَ آلهتِهم اعْتَرَاهُ بسوءٍ، كما نَصَّ اللَّهُ عليه في قولِه:{إِن نَّقُولُ إِلَاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ} [هود:
(1)
انظر: المبسوط لابن مهران 198.
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 505).
(3)
انظر: القرطبي (7/ 30)، البحر المحيط (4/ 171 - 172)، أضواء البيان (2/ 202)، آداب البحث والمناظرة (2/ 82).
آية 54]. قولُهم: {إِن نَّقُولُ إِلَاّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ} يَعْنُونَ: أنَّ بعضَ معبوداتِهم مَسَّ نَبِيَّ اللَّهِ هودًا بسوءٍ، حتى جَعَلَهُ مجنونًا مُخْتَبَلاً، يقول: اعْبُدُوا اللَّهَ، اعْبُدُوا اللَّهَ، اعْبُدُوا اللَّهَ. كأن هذا عندَهم هذيانٌ وجنونٌ، وأن آلهتَهم خَبَّلَتْهُ، حتى صارَ يقولُ هذا.
فأجابَهم نبيُّ اللَّهِ هودٌ: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَاّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)} [هود: الآيات 54 - 56] وقد بَيَّنَ اللَّهُ في سورةِ الزمرِ أنهم خَوَّفُوا نَبِيَّنَا صلى الله عليه وسلم بآلهتِهم، ثم أَمَرَهُ أن يقولَ: إنها لا تنفعُ ولا تَضُرُّ، لا تكشفُ ضُرًّا ولا تستجلبُ نفعًا. وذلك في قولِه:{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: آية 36] يعني يُهَدِّدُونَكَ بالأصنامِ أن تَضُرَّكَ كما خَوَّفُوا بها إبراهيمَ وهودًا على الجميعِ صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه.
ثُمَّ إن اللَّهَ أمرَ نَبِيَّهُ أن يبينَ أنها لا تنفعُ ولا تضرُّ، في قولِه بعدَ الآيةِ التي ذَكَرْنَا:{قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} الآية. [الزمر: آية 38]. وهذا مِمَّا يبين أن الحجةَ التي آتَاهَا اللَّهُ نَبِيَّهُ إبراهيمَ هي إفحامُه الخصومَ، ومناظرتُه لهم جميعًا؛ ذلك أنهم كانوا يعبدونَ كواكبَ مسخرةً، ويعبدونَ أصنامًا أرضيةً، وأجرامًا سماويةً، فقال لهم في الأجرامِ الأرضيةِ:{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: آية 95]{أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: آية 67]{هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} [الشعراء: الآيتان 72 - 73]{لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: آية 42] هذا في الأجرامِ الأرضيةِ، وهي أصنامُهم،
وقد أَشَارَ له في هذه الآياتِ بقولِه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: آية 74] حيث تعبدونَ ما لَا ينفعُ ولا يَضُرُّ، وتتركونَ عبادةَ الخالقِ الرازقِ النافعِ الضارِّ. ثم نَاظَرَهُمْ في عبادتِهم الأجرامَ السماويةَ، فَلَمَّا رأى كوكبًا:{قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: آية 76] فَكَأَنَّهُ يَتَنَزَّلُ لهم في المناظرةِ ويُسلِّمُ لهم مقدمةً باطلةً، هي مقدمة كفر، يُسلِّمُها لهم على زَعْمِهِمُ الفاسدِ الكافرِ
(1)
؛ لِيُمْكِنَهُ إفحامُهم، ويبين لَهُمْ أن الأُفولَ صفةُ نقصٍ محققةٌ، تُنَافِي صفاتِ الربوبيةِ، فاتصافُه بالأفولِ يُنَافِي كونَه رَبًّا، كما بَيَّنَهُ، وكأنها نتيجةٌ تَرَتَّبَتْ على مُقَدِّمَتَيْنِ:
إحداهُما: كونُ ذلك المزعومِ معبودًا، كونُه آفِلاً. وهذه في قولِه:{فَلَمَّا أَفَلَ} لأَنَّ أصلَ المعنَى: رَأَى كَوْكَبًا فَأَفَلَ {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ} بحذفِ الفاءِ وَمَا عُطِفَتْ عليه. فقولُه {فَلَمَّا أَفَلَ} تَضَمَّنَتْ مقدمةً معناها: هذا الجرمُ آفِلٌ.
ثم رَتَّبَ المقدمةَ الأُخْرَى: {لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ} لَا أُحِبُّ أَنْ أعبدَ مَنْ يَتَّصِفُ بصفةِ الأُفولِ والغيبوبةِ؛ لأنها صفةُ نقصٍ، تَدُلُّ على النقصِ والتسخيرِ، فَمَنْ كَانَ كذلك لَا يستحقُّ أن يكونَ رَبًّا. فهذا نَظَرٌ عَقْلِيٌّ صحيحٌ، واستنتاجٌ صحيحٌ، وقد تقررَ عند عامةِ النظارِ أن الاستنتاجَ العقليَّ إذا كان على طَرِيقِهِ الصحيحةِ أنه أَمْرٌ صحيحٌ. وقالوا: نَوَّهَ اللَّهُ بشأنِه حيثُ جَعَلَهُ حجةً أَضَافَهَا لنفسِه، وَآتَاهَا إبراهيمَ
(1)
انظر: الأضواء (2/ 201).
على قَوْمِهِ
(1)
، حيث قَالَ:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: آية 83].
ومعلومٌ أن النظرَ العقليَّ أنه محصورٌ في أربعةِ أنواعٍ؛ لأَنَّ المُسْتَدَلَّ به: إمَّا وجودٌ، وإمَّا عدمٌ. والمُسْتَدَلَّ عليه: إما وجودٌ، وإما عدمٌ. فَتَضْرِبُ حَالَتَيِ الدليلِ في حَالَتَيِ المدلولِ، اثنين باثنين: بأربعةٍ. بَسْطُهَا وتَصْطِيْحُهَا: استنتاجُ وجودٍ من وجودٍ، واستنتاجُ عدمٍ من عدمٍ، استنتاجُ عدمٍ من وجودٍ، واستنتاجُ وجودٍ من عدمٍ. هذا معروفٌ.
مثالُ استنتاجِ الوجودِ من الوجودِ: هو استنتاجُ وجودِ خالقِ هذا الكونِ من وجودِ هذا الكونِ على هذه الأساليبِ الغريبةِ العجيبةِ، الدالةِ على أن له خَالِقًا مدبرًا هو الربُّ المعبودُ وحدَه، كما قال تعالى:{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُولِي الألْبَابِ} [آل عمران: أية 190] فَبَيَّنَ أَنَّ وجودَ هذا الكونِ دليلٌ على وجودِ صانعِه، فهو وجودٌ يَلْزَمُ منه عقلاً وجودُ خالقٍ مُدَبِّرٍ، هو الربُّ المعبودُ.
ومثالُ استنتاجِ العدمِ من العدمِ: قولُه تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: آية 22] فَهُنَا: عدمُ فسادِ السماواتِ والأرضِ يستلزمُ عدمَ تعددِ الآلهةِ. فهو عدمٌ يُنْتِجُ عَدَمًا، كما في قولِه:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} فعدمُ الفسادِ المشاهَدُ يلزمُه عدمُ تعددِ الآلهةِ.
وكذلك رُبَّمَا يُسْتَنْتَجُ عدمٌ من وجودٍ - كما في هذه الآيةِ - فإن
(1)
انظر: آداب البحث والمناظرة (2/ 83).
أُفُولَ الكوكبِ صفةٌ وجوديةٌ عَايَنُوهَا بالحسِّ فيه، اسْتَنْتَجَ منها عدمَ الربوبيةِ، حيث قال:{لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام: آية 76].
وأما استنتاجُ الوجودِ من العدمِ: فهو معروفٌ باستنتاجِ عدمِ النقيضِ من وجودِ نقيضِه، أو مُسَاوِي نقيضِه، كما هو معروفٌ.
والشاهدُ أن نَبِيَّ اللَّهِ إبراهيمَ نَاظَرَ قومَه مناظرةً عقليةً، بَيَّنَ لهم فيها أن هذه المعبوداتِ التي يَزْعُمُونَهَا أَرْبَابًا هي آفِلَةٌ، وهذه المقدمةُ - التي كَوْنُ تلك المعبوداتِ آفلةً - مُقَدِّمَةٌ قطعيةٌ؛ لأنها تُدْرَكُ بالحواسِّ، فهم يشاهدونَ أُفُولَهَا بأعينِهم، فهي مقدمةٌ لا يمكنُ إنكارُها. ثم رَتَّبَ لهذه المقدمةِ المحسوسةِ مقدمةً عقليةً ضَمَّهَا معها، أشارَ لها بقوله:{لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ} هي أن الأُفولَ صفةُ نقصٍ لَا شَكَّ فيها، تَدُلُّ على حدوثٍ وتسخيرٍ، وهذه تُنَافِي صفاتِ الربوبيةِ، فالآفلُ لا يمكنُ أن يكونَ رَبًّا. ثم قال لهم مثلَ هذا في الشمسِ والقمرِ، حتى أَلْقَمَهُمُ الْحَجَرَ
(1)
. ثم بعدَ ذلك بَيَّنَ لهم معتقدَه، وأظهرَ حقيقتَه، وقال:{إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام: الآيتان 78 - 79] وكان اللَّهُ (جل وعلا) أَعْطَى إبراهيمَ حُسْنَ الْحُجَجِ والمناظرةِ، واللطفَ فيها. من ذلك أنه لَمَّا نَاظَرَ نَمْرُود، وهو الذي بُعِثَ إبراهيمُ في زمنِ ولايتِه، وكان مَلِكًا جَبَّارًا طَاغِيًا، نمرودُ بنُ كنعانَ بنِ سِنْجَارِي بنِ كُوشَ بنِ سامِ بنِ
(1)
في هذا الموضوع انظر: آداب البحث والمناظرة (2/ 78، 82 - 83).
نوحٍ
(1)
،
الفاجرُ المعروفُ، لَمَّا قال له: مَنْ رَبُّكَ الذي تَدْعُونَا إليه؟ {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: آية 258] وكان نمرودُ جاهلاً، فَأَخَذَ رَجُلَيْنِ، أحدُهما كان محكومًا عليه بالقتلِ فأطلقَه، وأخذ آخَرَ بريئًا فَقَتَلَهُ، فقال: هذا كان حَيًّا فأنا أَمَتُّهُ، وهذا كان سيموتُ الآنَ فأنا أَحْيَيْتُهُ
(2)
!! فَلِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ من الحجةِ وحسنِ المناظرةِ لم يَقُلْ له: هذه ليست الحياةَ التي أُرِيدُ، ولا الموتَ الذي أُرِيدُ. بل تَرَكَ له هذا كُلَّهُ، ولم يُجِبْهُ بشيءٍ منه، وقال:{فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} فَزَعَمُوا في قصتِه أنه أَوَّلاً أرادَ أن يكذبَ وأن يقولَ: أنا هو الذي آتِي بها من المشرقِ، فَقُلْ لِرَبِّكَ يأتِي بها من المغربِ!! فَنَظَرَ فإذا في المجلسِ رجالٌ كبارُ السِّنِّ، يعلمونَ الشمسَ تطلعُ من المشرقِ، يُطْلِعُهَا اللَّهُ قبلَ أن يولدَ نمرود، فَخَافَ أن يُكَذِّبُوهُ فيفتضحُ في المجلسِ، فَبُهِتَ الذي كَفَرَ. هذه المناظراتُ التي يُفْحَمُ بها الخصومُ، كما في آيةِ الأنعامِ هذه، هي التي نَوَّهَ اللَّهُ بشأنِها، وأضافَها إلى نفسِه، وقال: إنه آتَاهَا إبراهيمَ، مُعَظِّمًا نفسَه:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا} تلك الحجةُ التي أَفْحَمَ بها الخصومَ
(1)
في تاريخ ابن جرير (1/ 147): «نمروذ بن كنعان بن حام بن نوح» . وفي التفسير (5/ 430): «نمروذ بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح. وقيل: إنه نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح» . وانظر: البداية والنهاية (1/ 148).
تنبيه: هناك شيء من الاختلاف بين هذه المصادر في بعض هذه الأسماء، بل هذا الاختلاف موجود في المصدر الواحد في المواضع المتعددة، فـ (فالخ) في بعض المصادر:(فالح)، وفي بعضها:(فالغ). وهكذا (شالخ) فهو في بعضها: (صالح)، وفي بعضها:(شالح).
(2)
انظر: ابن جرير (5/ 433، 436 - 437).
حُجَّتُنَا، أضافَها اللَّهُ لنفسِه تشريفًا وَإِعْظَامًا.
{آتَيْنَاهَا} أي: أَعْطَيْنَاهَا {إِبْرَاهِيمَ} ، فَهَّمْنَاهُ إِيَّاهَا، وَأَلْهَمْنَاهُ إِيَّاهَا {عَلَى قَوْمِهِ} ، هذه الحجةُ يَحْتَجُّ بها على قومِه الكفرةِ الذين يجادلونَه، كما قال:{وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ} [الأنعام: آية 80] حتى يُفْحِمَهُمُ ويلقمَهم الحجرَ.
ثم قال: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} [الأنعام: آية 83] هذه الآيةُ تَدُلُّ على أنَّ مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْحُجَجَ، ومناظراتِ الخصومِ التي يُثْبِتُ بها التوحيدَ، ويدفعُ بها شُبَهَ المُبْطِلِينَ، أن هذا رَفْعٌ من اللَّهِ في درجاتِه، حيث أَتْبَعَ قولَه:{حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ} أَتْبَعَهُ بقولِه: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} أي: كما رَفَعْنَا درجةَ إبراهيمَ بِمَا آتَيْنَاهُ من تلك الحجةِ التي صَدَعَ بها بالحقِّ، وَقَهَرَ بها الخصومَ.
أما على قراءةِ الجمهورِ: {نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَن نَّشَاءُ} بالإضافةِ، فالدرجاتُ: مفعولٌ به لـ {نَرفَعُ} و {مَّن نَّشَاءُ} مضافٌ إليه ما قَبْلَهُ. وَمَنْ رُفِعَتْ درجاتُه فَقَدْ رُفِعَ
(1)
، كقولِه:{رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} وفي الحديثِ: «اللَّهُمَّ ارْفَعْ دَرَجَتَهُ»
(2)
والدرجةُ: المرتبةُ والمنزلةُ، فَإِنَّ مَنْ رُفِعَتْ درجتُه ومنزلتُه فقد رُفِعَ، وعلى هذا فمعناهُ: نَرْفَع رُتَبَ وَمَنَازِلَ مَنْ نشاءُ أن نرفعَ رتبتَه ومنزلتَه.
(1)
انظر: القرطبي (7/ 30)، البحر المحيط (4/ 172)، الدر المصون (5/ 26).
(2)
قطعة من حديث أم سلمة عند مسلم (في وفاة أبي سلمة رضي الله عنه. كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له إذا حُضر. حديث (920)(2/ 634).
أما على قراءةِ الكوفيين - عاصمٍ وحمزةَ والكسائيِّ -
(1)
: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ} فـ {مَّن} الموصولةُ هي مفعولٌ {نَرْفَعُ} أي: نرفعُ مَنْ نَشَاءُ رَفْعَهُ، نرفعُه درجاتٍ.
وفي إعرابِ {دَرَجَاتٍ} على هذه القراءةِ أَوْجُهٌ معروفةٌ للعلماءِ
(2)
:
أحدُها: أنها ما نَابَ عن المطلقِ؛ لأن معنَى نرفعُ مَنْ نَشَاءُ درجاتٍ أي: رفعاتٍ عاليةً، فالدرجةُ في معنَى الرفعِ، فَهِيَ في معنَى المفعولِ المطلقِ لَا بِلَفْظِهِ.
وقومٌ قالوا: هي منصوبةٌ بنزعِ الخافضِ. أي: نرفعُه في درجاتٍ. إلى غيرِ ذلك من الأعاريبِ.
ومفعولُ المشيئةِ محذوفٌ، (نرفعُ درجاتِ مَنْ نَشَاءُ رَفْعَ دَرَجَاتِهِ). أو:(نرفعُ درجاتٍ مَنْ نشاءُ رَفْعَهُ). فعلى الإضافةِ: فالتقديرُ: (نَرْفَعُ درجاتِ مَنْ نَشَاءُ رَفْعَ درجاتِه). وعلى التنوينِ: فالتقديرُ: (نرفعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ رَفْعَهُ). هذا مَعْنَاهُ.
{إِنَّ رَبَّكَ} جل وعلا {حَكِيمٌ عَلِيمٌ} الحكيمُ في الاصطلاحِ: هو من يضعُ الأمورَ في مواضعِها، وَيُوقِعُهَا في مواقعِها. فَاللَّهُ (جل وعلا) حكيمٌ لا يضعُ أمرًا إلا في موضعِه، ولا يُوقِعُهُ إلا في موقعِه، ولا يأمرُ إلا بما فيه الخيرُ، ولا يَنْهَى إلا عَمَّا فيه الشرُّ، ولا يعذبُ إلا مَنْ يَسْتَحِقُّ، وهو (جل وعلا) ذو الحكمةِ البالغةِ، له الحجةُ والحكمةُ البالغةُ. وأصلُ (الحكيمِ): هو المتصفُ بالحكمةِ.
(1)
مضت هذه القراءات عند تفسير الآية (83) من سورة الأنعام.
(2)
انظر: البحر المحيط (4/ 172)، الدر المصون (5/ 26).
وَأَصْلُ (الحكمةِ): (فِعْلة) من الْحُكْمِ. وأصلُ مادةِ (الحُكْمِ) في لغةِ العربِ
(1)
: أصلُها معناها (المَنْعُ). تقولُ العربُ: «حَكَمَهُ وأَحْكَمَهُ» إذا مَنَعَهُ.
أَبَنِي حَنَيْفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ
…
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا
(2)
لَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدٍّ
…
سِبَابٌ أَوْ قِتَالٌ أَوْ هِجَاءُ
فَنُحْكِمُ بِالْقَوَافِي مَنْ هَجَانَا
…
وَنَضْرِبُ حِينَ تَخْتَلِطُ الدِّمَاءُ
(3)
هذا أصلُ (الحكمِ): المنعُ، وَمِنْهُ:(حَكَمَةُ الدَّابَّةِ). لأنها تمنعُها من الجريِ على غيرِ مرادِ صاحبِها. والحِكْمةُ: (فِعْلة) من (الحُكم) بمعنَى: المنعِ. وأظهرُ تفسيراتِها: أنها العلمُ النافعُ؛ لأن العلمَ النافعَ هو الذي يَحْكُمُ الأقوالَ والأفعالَ. أي: يمنعُها أن يعتريَها الخللُ. فَمَنْ كان عندَه العلمُ الكاملُ كان لا يضعُ الأمرَ إلا في موضعِه، ولا يوقعُه إلا في موقعِه؛ لأن كُلَّ إخلالٍ في الإحكامِ إنما هو من الجهلِ بعاقبةِ الأمورِ، فَتَرَى الرجلَ الحاذقَ القُلَّبَ البصيرَ يفعلُ الأمرَ يظنُّ أنه في غايةِ الإحكامِ، ثم ينكشفُ الغيبُ عن أن فيه هلاكَه، فيندمُ حيث لا ينفعُ الندمُ، ويقولُ: ليتني لَمْ أَفْعَلْ، ولو فَعَلْتُ لكانَ كَذَا!! كما قال الشاعرُ
(4)
:
أُلَامُ عَلَى لَوٍّ وَلَوْ كُنْتُ عَالِمًا
…
بِأَذْنَابِ لَوٍّ لَمْ تَفُتْنِي أَوَائِلُهْ
(1)
انظر: المقاييس في اللغة، كتاب الحاء، باب الحاء والكاف وما يثلثهما ص277.
(2)
البيت لجرير، وهو في المقاييس في اللغة ص277، الدر المصون (1/ 267).
(3)
البيتان لحسان بن ثابت رضي الله عنه وهما في ديوانه، ص20.
(4)
البيت في الكتاب لسيبويه (3/ 262)، ما ينصرف وما لا ينصرف للزجاج، ص66، فتح الباري (13/ 226).
يقولونَ لِي: لو فَعَلْتَ كذا لكانَ خَيْرًا!! أنا لو كنتُ عالِمًا بما يصيرُ إليه الأمرُ لفعلتُه من أول. فَرَبُّ السماواتِ والأرضِ وحدَه لَا يَجْرِي عليه: لَوْ فَعَلْتُ كذا لكانَ أحسنَ؛ لأنه عَالِمٌ بعواقبِ الأمورِ، وما تصيرُ إليه، وَعَالِمٌ بما كانَ وما يكونُ، فلا يضعُ أمرًا إلا في موضعِه، وَمُحَالٌ عن أن ينكشفَ الغيبُ عن أن ذلك الأمرَ على خلافِ الصوابِ؛ لأنه عَالِمٌ بعاقبةِ الأمرِ، وما يؤولُ إليه، كما بَيَّنَّاهُ مِرَارًا.
والعَليمُ: صيغةُ مبالغةٍ؛ لأن عِلْمَ اللَّهِ (جل وعلا) محيطٌ بِكُلِّ شيءٍ، يعلمُ خَطَرَاتِ القلوبِ، وخائنةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصدورُ، حتى قَدَّمْنَا أنه من إحاطةِ علمِه: يعلمُ المعدومَ الذي سَبَقَ في علمِه أنه لا يوجدُ، هو عَالِمٌ أن لو وُجِدَ كيف يكونُ؛ لشدةِ إحاطةِ عِلْمِهِ بالموجوداتِ والمعدوماتِ. وقد بَيَّنَّاهُ في هذه السورةِ الكريمةِ؛ لأَنَّ أهلَ النارِ لَمَّا عَايَنُوا النارَ ورأوا الحقيقةَ وَنَدِمُوا تَمَنَّوْا أن يُرَدُّوا إلى دارِ الدنيا مرةً أُخْرَى لِيُصَدِّقُوا الرسلَ، ورَدُّهُمْ ذلك الذي تَمَنَّوْهُ: اللَّهُ عَالِمٌ أنه لا يكونُ، وقد صَرَّحَ بأن ذلك الردَّ - الذي هو عَالِمٌ أنه لا يكونُ - صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أن لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ، حيث قَالَ:{وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: آية 27] هذا الردُّ الذي تَمَنَّوْهُ هو عَالِمٌ أنه لَنْ يكونَ، ثم صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أَنْ لَوْ كَانَ كيف يكونُ، حيث قال بعدَه:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28] والْمُتَخَلِّفُونَ عن غزوةِ تبوكَ لا يحضرونَها أبدًا؛ لِمَا سَبَقَ في عِلْمِ اللَّهِ من تَثْبِيطِهِمْ عَنْهَا، وَاللَّهُ ثَبَّطَهُمْ عنها بإرادتِه لحكمةٍ:{وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} وَخُرُوجُهُمْ إلى
غزوةِ تبوك، الذي ثَبَّطَهُمْ عنه، وسبقَ في علمِه أنه لا يكونُ، صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أن لو كانَ كيف يكونُ، حيث قَالَ:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً ولأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} الآيةَ [التوبة: الآيتان: 46، 47]. وأمثالُ هذا في القرآنِ كثيرةٌ. اللَّهُ (جل وعل) محيطٌ علمُه بِكُلِّ شيءٍ.
وفي اسْمَيْهِ: (الحكيمُ، العليمُ) أكبرُ مدعاةٍ للعبادِ أن يُطِيعُوهُ وَيَتَّبِعُوا تشريعَه؛ لأن بحكمتِه يعلمونَ أنه لَا يأمرُهم إلَاّ بِمَا فيه الخيرُ، ولا ينهاهُم إلا عَمَّا فيه الشرُّ، فلَا يُوقِعُ لهم أَمْرًا إلا في موقعِه، ولا يضعُه إلا في موضعِه، وبإحاطةِ علمِه: يعلمونَ أنه ليس هنالك غَلَطٌ في ذلك الفعلِ، ولا عاقبةٌ تنكشفُ عن غيرِ مَا أَرَادَ، بل هُوَ في غايةِ الإحاطةِ والإحكامِ. وإذا كان مَنْ يَأْمُرُكَ عليمٌ لا يَخْفَى عليه شيءٌ، حكيمٌ في غايةِ الإحكامِ، لَا يأمرُك إلا بما فيه الخيرُ، ولا يَنْهَاكَ إلا عَمَّا فيه الشرُّ، فإنه يَحِقُّ لكَ أن تُطِيعَ وَتَمْتَثِلَ.
{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الأنعام: آية 84]، صيغةُ الجمعِ في قولِه:{وَوَهَبْنَا} للتعظيمِ، ومعنَى {وَهَبْنَا لَهُ}: أَعْطَيْنَاهُ إِيَّاهُمَا. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) أن هبتَه إياه إسحاقَ كانت على كِبَرٍ عَظِيمٍ منه، وعلى كِبَرٍ من امرأتِه، بحيثُ لا يحملُ مِثْلُهَا عادةً، وأن الرسلَ الذين بُعِثُوا إلى قومِ لوطٍ لَمَّا نزلوا عندَه، وذبحَ لهم عِجْلَهُ وَأَنْضَجَهُ ونَكِرَهُم لَمَّا رَأَى أيديَهم لا تَصِلُ إليه وَخَافَ منهم، في ذلك الوقتِ بَشَّروهُ بإسحاقَ، وَمِنْ وراءِ إسحاقَ: يعقوبَ، بَشَّرُوهُ بأن امرأتَه تَلِدُ إسحاقَ، وأنه يُولَدُ له يعقوبُ، حتى تَقَرَّ به أعينُهما وَهُمَا حَيَّانِ، كما نَصَّ اللَّهُ عليه في سورةِ هودٍ:
{وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ}
[هود: آية 71] حتى إن امرأتَه لشدةِ تَعَجُّبِهَا مِنْ أنها تَلِدُ وهي عجوزٌ فانيةٌ صَرَخَتْ، وَصَكَّتْ وَجْهَهَا، كما قال تعالى في الذارياتِ:{فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: آية 29] يعني: في صَيْحَةٍ وَضَجَّةٍ: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} لاستعجابِها واستغرابِها من هذا الخبرِ، وكذلك قال عنها في سورةِ هودٍ:{قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: آية 72]. أما إسماعيلُ فقد أَعْطَاهُ اللَّهُ إياه قبلَ ذلك مِنْ سُرِّيتِهِ هَاجَرَ، كما هو مشهورٌ في التاريخِ، ولم يُعْطِهِ إسماعيلَ أيضًا إلا بعدَ أن كَبِرَ وَطَعَنَ في السِّنِّ، كما نَصَّ عليه في سورةِ إبراهيمَ الخليلِ:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} [إبراهيم: آية 39]. إِلَاّ أن وقتَ بشارتِه بإسحاقَ كان كبيرًا كِبَرًا شديدًا، وامرأتُه عجوزٌ فانيةٌ، أكبرُ مِنْ زَمَنِ إيتائِه إسماعيلَ، وإن كَانَ كبيرًا عند الْوَقْتَيْنِ. وهذا معنَى قولِه:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [الأنعام: آية 84].
وآية هودٍ هذه من النصوصِ الدالةِ على أنَّ الذبيحَ: إسماعيلُ، وليسَ بإسحاقَ؛ لأن ذلك دَلَّ عليه القرآنُ في مَوْضِعَيْنِ، وهو الصحيحُ. إلا أن الإِسْرَائِيلِيِّينَ يَحْكُونُ إسرائيلياتٍ كثيرةً في أنه إسحاقُ، اغْتَرَّ بها بعضٌ من علماءِ المسلمينَ، فَظَنَّ أنه إسحاقُ، وهو غَلَطٌ، والتحقيقُ أن الذبيحَ: إسماعيلُ، وأن آيةَ هودٍ التي ذَكَرْنَا هي دليلٌ قَوِيٌّ على ذلك، كما دَلَّتْ عليه آيةُ الصافاتِ.
أما وجهُ دلالةِ آيةِ هودٍ لأَنَّ اللَّهَ قال، وهو أصدقُ مَنْ يقولُ {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: آية 71] أي: وَبَشَّرْنَاهَا بِأَنَّ إسحاقَ - وهو ولدُها - يَلِدُ يعقوبَ، وهو ولدُ وَلَدِهَا، فبعدَ البشارةِ بالوحيِ الصادقِ أن إسحاقَ
لَنْ يموتَ حتى يَلِدَ يعقوبَ فليس من المعقولِ يُؤْمَرُ بذبحِه وهو صغيرٌ!! وهذا مَعْرُوفٌ.
أما الآيةُ الأُخْرَى التي هِيَ في الصافاتِ فهي واضحةٌ جِدًّا في ذلك؛ لأَنَّ اللَّهَ قال: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: آية 102] حتى جَاءَ بقصةِ إسماعيلَ الذبيحِ تَامَّةً، قال بَعْدَهَا لَمَّا أَنْهَاهَا:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ (113)} [الصافات: الآيتان 112، 113]. فَصَارَ صريحُ القرآنِ أَنَّ الذبيحَ غيرُ إسحاقَ، حيثُ قَالَ في ذلك الغلامِ:{بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: الآيتان 101، 102] حَتَّى انْتَهَى من قصتِه، وَجَاءَ بقصةِ إسحاقَ مستقلةً بَعْدَهَا، حيثُ قال:{وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ}
…
[الصافات: الآيتان 112، 113]. وهذه الآيةُ الكريمةُ يُفْهَمُ منها معنًى أَوْضَحَهُ اللَّهُ في سورةِ مريمَ؛ ذلك أنه قال هنا إِنَّ إبراهيمَ سَفَّهَ أَحْلَامَ قومِه، وَعَادَاهُمْ وَكَفَّرَهُمْ وَضَلَّلَهُمْ، حتى اضطره ذلك إلى الخروجِ عنهم، والهجرةِ إلى بلادِ الشامِ، كما يأتِي في قولِه:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: آية 26] وَكَانَ فِي قريةٍ بسوادِ العراقِ تُسَمَّى (كوثى)
(1)
.
لَمَّا هَجَرَ قومَه وخرجَ من الوطنِ في اللَّهِ عَوَّضَهُ اللَّهُ عنهم قرةَ عينٍ تُؤْنِسُهُ، وهي الأولادُ الصالحونَ الكرامُ، يَخْلُفُونَ له الوطنَ والأقاربَ؛ لأنه لَمَّا ذَكَرَ قِصَّتَهُ معهم هنا قال بعدَها: {وَوَهَبْنَا لَهُ
(1)
انظر: تاريخ ابن جرير (1/ 119).
إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا} [الأنعام: آية 84] فهذا يَدُلُّ على أن إقرارَ عينِه بالذريةِ الصالحين؛ لأنه هَجَرَ الْوَطَنَ، وَخَرَجَ عن القرباءِ والأحباءِ في اللَّهِ، وقد أَوْضَحَ اللَّهُ هذا في سورةِ مريمَ حيث قال:{فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} [مريم: آية 49].
وَيُفْهَمُ من هذه الآياتِ أَنَّ مَنْ هَجَرَ الأوطانَ والأقاربَ لِلَّهِ أَقَرَّ اللَّهُ عينَه مِنْ ظَهْرِهِ بما يُسَلِّيهِ عَنْهُمْ
(1)
؛ وَلِذَا قَالَ هُنَا: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا} [الأنعام: آية 84] نونُ التنوينِ عِوَضٌ عن كلمةٍ، أي: كُلُّ واحدٍ منهم هَدَيْنَا، و {كُلاًّ} مفعولٌ به لـ {هَدَيْنَا} . وهذا تمامُ إقرارِ العينِ؛ لأَنَّ الولدَ إذا كان غيرَ صالحٍ لم يَكُنْ قُرَّةَ عَيْنٍ، فَهِبَتُهُ والنعمةُ به إنما تَتِمُّ إذا كان مَهْدِيًّا، لَا إِنْ كَانَ غَيْرَ مَهْدِيٍّ؛ وَلِذَا قال:{كُلاًّ هَدَيْنَا} .
ثم قال: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} لَمَّا كَانَتْ قصةُ نوحٍ شبيهةً بقصةِ إبراهيمَ ذَكَرَهُ مَعَهُ؛ لأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ نُوحًا نَشَأَ في قومٍ يعبدونَ الأصنامَ، وهو أولُ نَبِيٍّ أُرْسِلَ لقومٍ يعبدونَ الأصنامَ، وَجَادَلُوهُ جِدًّا في الأوثانِ {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: الآيتان 23، 24] وَكَانَ يُجَادِلُهُمْ فِي عبادةِ الأصنامِ حتى قالوا له:{قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: آية 32] وكان إبراهيمُ نَشَأَ في قومٍ يعبدونَ أجرامَ السماءِ وأجرامَ الأرضِ كذلك، وَخَاصَمَهُمْ مثلَ مخاصمةِ نُوحٍ، بَيَّنَ أنه هَدَى نُوحًا مِنْ قَبْلِ إبراهيمَ، كما هَدَى
(1)
في هذا المعنى انظر: البداية والنهاية (1/ 146)، تفسير ابن كثير (2/ 154)، (3/ 124).
إِبْرَاهِيمَ، وهذا معنَى قولِه:{وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: آية 84]. (نوح): يُسَمُّونَهُ (آدمَ الصغيرَ)؛ لأنه ليس على الأرضِ إنسانٌ إِلَاّ وهو مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، كما قال اللَّهُ جل وعلا:{وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} [الصافات: آية 77] وَنَبِيُّ اللَّهِ إبراهيمُ لم يكن بعدَه نَبِيٌّ إلا وهو من ذُرِّيَّتِهِ، فالأنبياءُ الذين ليسوا من ذُرِّيَّتِهِ: إما مَنْ سَبَقَهُ، وَإِمَّا مَنْ كَانَ مُعَاصِرًا له، كلوطٍ ابنِ أَخِيهِ، أما مَنْ بَعْدَهُ فهم جميعُهم مِنْ ذُرِّيَّتِهِ، فالأنبياءُ مِنْ ذريةِ نوحٍ وإبراهيمَ، فالذي لم يَكُنْ مِنْ ذريةِ إبراهيمَ فهو من ذريةِ نوحٍ، وإبراهيمُ مِنْ ذريةِ نوحٍ، كَمَا قال جل وعلا:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [الحديد: آية 26] وقال في سورةِ العنكبوتِ في إبرإهيمَ: {وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا} الآيةَ [العنكبوت: آية 27] وَلِذَا قَالَ: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} ، {نُوحًا}: مفعولٌ به لـ {هَدَيْنَا} مُقَدَّمًا عليه.
وَأَهْلُ التاريخِ يَزْعُمُونَ أن (نوحًا) أنه: ابنٌ لمك بنِ متوشَلَخَ بنِ خَنُوخَ
(1)
. ويزعمونَ أن خنوخَ هو إدريسُ
(2)
. هكذا يقولونَ. ويزعمونَ أن إبراهيمَ بنَ تارحَ. هذا المعروفُ في التاريخِ، يقولونَ: إنه ابنُ تارحَ بنِ ناحورَ بنِ أَرْغُو بنِ فالغَ بنِ عابرِ بنِ شالخَ بنِ قينانَ بنِ أرفخشدَ بنِ سامِ بنِ نوحٍ
(3)
. هكذا يقولُ الْمُؤَرِّخُونَ، وهي أمورٌ تُذْكَرُ
(1)
انظر: البداية والنهاية (1/ 100)، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (26/ 190).
(2)
انظر: البداية والنهاية (1/ 100)، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (26/ 190).
(3)
في تاريخ ابن جرير (1/ 119): «إبراهيم بن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن قينان بن أرفخشد بن سام بن نوح» .
وهو في البداية والنهاية (1/ 139) مع بعض الاختلافات (إبراهيم بن تسارخ بن ناحور بن ساروغ بن راعو بن فالغ بن عابر بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح) وانظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (3/ 344).
وراجع التنبيه المذكور سابقا في الحاشية عند تفسير الآية (83) من سورة الأنعام.
في التاريخِ شِبْهَ الإسرائيلياتِ، لَمْ يَقُمْ على ضَبْطِهَا وتحقيقِها دليلٌ. وهذا معنَى قولِه:{وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} .
قولُه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} أي: وَهَدَيْنَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داودَ. فهذا معطوفٌ على معمولِ {هَدَيْنَا} . أي: وَهَدَيْنَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ.
واختلفَ العلماءُ في الضميرِ في قولِه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ}
(1)
قال بعضُهم: هو راجعٌ إلى إبراهيمَ؛ لأنه هو الْمُحَدَّثُ عنه
(2)
، وهذا في حِجَاجِهِ مع قومِه، والآياتُ كُلُّهَا فيه. وقال بعضُ العلماءِ: الضميرُ راجعٌ إلى نوحٍ. والذين قالوا: «يَرْجِعُ إِلَى نُوحٍ» عَضَّدُوهُ بِأَمْرَيْنِ:
أحدُهما: أنه هو أقربُ مذكورٍ، والضميرُ يرجعُ لأقربِ مذكورٍ
(3)
.
الثاني: أن هؤلاء الرسلَ الذين قِيلَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ ذُكِرَ فيهم لوطٌ، ولوطٌ ليس من ذريةِ إبراهيمَ؛ لأنه ابنُ أَخِيهِ، وَذُكِرَ فيهم يونسُ، وأكثرُ المؤرخين أن يونسَ ليس من ذريةِ إبراهيمَ، وَإِنْ زعمَ قومٌ أنه منه،
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 507)، القرطبي (7/ 31)، البحر المحيط (4/ 173)، الدر المصون (5/ 27).
(2)
انظر: قواعد الترجيح (2/ 603).
(3)
المصدر السابق (2/ 621).
ولا يكادُ يختلفُ المؤرخونَ أن لوطًا ليس ابنَ إبراهيمَ، وإنما هو ابنُ أَخِيهِ؛ لأَنَّ لوطَ بنَ هارانَ بنِ تارحَ ابنَ أَخِي إبراهيمَ
(1)
. قالوا: لو كان الضميرُ لإبراهيمَ لَمَا ذَكَرَ لُوطًا؛ لأنه ليس من ذُرِّيَّتِهِ. واختارَ أن الضميرَ راجعٌ إلى نوحٍ، اختارَه ابنُ جريرٍ
(2)
لِذِكْرِ لوطٍ. ولأَنَّ نوحًا أقربُ إلى الضميرِ مِنْ إبراهيمَ. وعن ابنِ عباسٍ: أن الضميرَ لإبراهيمَ
(3)
، وأن يونسَ من أنبياءِ بَنِي إسرائيلَ، أو مِنْ ذريةِ إبراهيمَ، خلافَ ما يَزْعُمُهُ أكثرُ الْمُؤَرِّخِينَ، وأن لوطًا جُعِلَ من ذُرِّيَّتِهِ تَغْلِيبًا؛ لأنه ابنُ أَخِيهِ، فَجُعِلَ من ذُرِّيَّتِهِ تَغْلِيبًا؛ كما جُعِلَ إسماعيلُ أَبًا لَهُ تَغْلِيبًا، لما ذُكِرَتْ آبَاؤُهُ، وهو عَمُّهُ. هكذا يقولونَ
(4)
.
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} أي: وَهَدَيْنَا مِنْ ذُرِّيَّتِهِ. أي: إبراهيمَ، أو نوحًا على الخلافِ الذي ذَكَرْنَا.
{دَاوُودَ} هو نَبِيُّ اللَّهِ داودُ، وهو أولُ مَنْ جَمَعَ مِنْ أنبياءِ بَنِي إسرائيلَ بَيْنَ الْمُلْكِ والنبوةِ. وهو داودُ بنُ إيشى، يزعمونَ أنه ابنُ إيشى بنِ عوبد. على كُلِّ حالٍ لهم أسماءُ يختلفُ فيها الْمُؤَرِّخُونَ
(5)
،
(1)
انظر: تاريخ الطبري (1/ 150).
(2)
انظر: تفسير ابن جرير (11/ 507).
(3)
ذكره في الدر المنثور (3/ 28) وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(4)
انظر: القرطبي (7/ 31).
(5)
في تاريخ ابن جرير (1/ 247)«داود بن إيشى بن عوبد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عمى نادب بن رام بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم» . وانظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (8/ 105).
وفي البداية والنهاية: (2/ 9) «داود بن ايشا بن عوبد بن عابر بن سلمون بن نحشون بن عويناذب بن أرم بن حصرون بن فارص بن يهوذا بن يعقوب
…
».
عجميةٌ، وعلى كُلِّ حَالٍ داودُ يقولونَ: هو داودُ بنُ إيشى بنِ عوبد. يزعمونَ أنه مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا. هكذا يقولونَ: {وَسُلَيْمَانَ} وَلَدُهُ.
وقولُه: {وَأَيُّوبَ} أكثرُ المؤرخينَ يقولونَ: إن أيوبَ بنَ موص، وأنه مِنْ ذُرِّيَّةِ عيصَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ. وفيه غيرُ ذلك
(1)
.
{وَيُوسُفَ} : هو يوسفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابنُ يعقوبَ. {وَمُوسَى وَهَارُوُنَ} معروفانِ، أبناءُ عِمْرَانَ، وَعِمْرَانُ: - يزعمونَ - ابنُ يصهرَ بنِ قاهثَ بنِ لاوي بنِ يعقوبَ
(2)
.
ويعقوبُ: بنُ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ. كما هُوَ معروفٌ.
وهؤلاء الأنبياءُ - كُلُّ هؤلاءِ المذكورين - لهم قِصَصٌ معروفةٌ في القرآنِ، بَيَّنَهَا اللَّهُ جل وعلا.
{وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} كَمَا هَدَيْنَا هؤلاءِ الرسلَ الكرامَ، وَوَفَّقْنَاهُمْ لطريقِ الصوابِ: كذلك الجزاءُ نَجْزِي المحسنين، فَنَهْدِيهِمْ وَنُوَفِّقُهُمْ إِلَى ما يُرْضِينَا. والمحسنونَ: جَمْعُ الْمُحْسِنِ، وهو اسمُ فاعلِ الإحسانِ. والإحسانُ هو: الإتيانُ بالعملِ حَسَنًا. وطريقُ الإتيانِ بالعملِ حسنًا بَيَّنَهَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم في قولِه: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ
(1)
في تاريخ ابن جرير (1/ 165): «أيوب بن موص بن رازح بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم» وذكر قولين آخرين. وانظر: تفسير ابن جرير (11/ 508) البداية والنهاية (1/ 220) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (5/ 105).
(2)
انظر: تاريخ الطبري (1/ 198)، وكذا التفسير له (11/ 508)، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (25/ 300).
وفي البداية والنهاية (1/ 237): «موسى بن عمران بن قاهث بن عازر بن لاوي بن يعقوب» .
لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
(1)
.
والآيةُ تَدُلُّ على أَنَّ مَنْ أَحْسَنَ العملَ لِلَّهِ زَادَهُ اللَّهُ هُدًى؛ لأَنَّ التشبيهَ في قولِه: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي} عائدٌ إلى الْهُدَى في قولِه: {كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا} .
{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} أي: وَهَدَيْنَا مِنْ ذريتِه داودَ. كذلك الْهُدَى والتوفيقُ نَجْزِي ذلك الجزاءَ الحسنَ {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} مثلَ ذلك الجزاءِ؛ لأَنَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وأحسنَ العملَ زَادَهُ اللَّهُ هدًى {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد: آية 17].
{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام: آية 85] يعني: وَهَدَيْنَا أيضًا زَكَرِيَّا وَيَحْيَى. قَرَأَهُ أكثرُ القراءِ: {وزكريآءَ ويحيى} بهمزةٍ. وَقَرَأَهُ بعضُ الكوفيين {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى} بِلَا همزةٍ. وَهُمَا قراءتانِ سبعيتانِ معروفتانِ
(2)
.
وأكثرُ المؤرخينَ يقولونَ: إن زَكَرِيَّا بن برخيا
(3)
. وهو مِنْ ذريةِ سليمانَ بنِ داودَ (عليهم وعلى نَبِيِّنَا الصلاةُ والسلامُ). قَصَّ اللَّهُ قصصَه
(1)
مضى عند تفسير الآية (58) من سورة البقرة.
(2)
انظر: الكشف لمكي (1/ 341 - 342)، الإقناع في القراءات السبع (2/ 619)، النشر (2/ 239).
(3)
في تفسير ابن جرير (11/ 508): «زكريا بن إدُّو بن برخيَّا» . وفي مختصر تاريخ دمشق (9/ 54): «زكريا بن حنا. ويقال: زكريا بن دان. ويقال: زكريا بن أدن بن مسلم بن صدوف» . وقيل: زكريا بن برخيا. انظر: البداية والنهاية (6/ 47).
في سورةِ مريمَ
(1)
، وسورةِ آلِ عمرانَ
(2)
، والأنبياءِ
(3)
، وغيرِها.
{وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} يَحْيَى: هو ابنُ زَكَرِيَّا، وقصتُه معروفةٌ بَيَّنَّاهَا في آلِ عمرانَ، وستأتِي فِي سورةِ مريمَ. وَعِيسَى: هو عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ.
وذِكْرُ عِيسَى هنا أَخَذَ العلماءُ منه حُكْمًا فِقْهِيًّا معروفًا، وهو أنه إذا قال رجلٌ:«هذا وَقْفٌ على ذُرِّيَّتِي» . أو أَوْصَى لِذُرِّيَّتِهِ أَنَّ أولادَ البناتِ يدخلونَ؛ لأَنَّ عيسى ولدُ بنتٍ؛ لأنه لَا يُدْلِي إلى إبراهيمَ - الذي إليه الضميرُ في قولِه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} (أو نوحٍ، على القولِ بأن [8/ب] الضميرَ لَهُ)
(4)
. لا يُدْلِي بواحدٍ منهما - إلا بِبِنْتِهِ مريمَ؛ لأَنَّهُ لَا أَبَ لَهُ./ فَاللَّهُ (جل وعلا) أَدْرَجَهُ في اسمِ الذريةِ، وَمِنْ هُنَا يُعْرَفُ أَنَّ أولادَ البناتِ مِنَ الذريةِ، وهذه المسألةُ التي هَدَّدَ الحجاجُ عليها يَحْيَى بنَ يَعْمُرَ، قال له: أَتَقُولُ إن الحسنَ والحسينَ رضي الله عنهما من ذُرِّيَّةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم؟ قال: نَعَمْ. وأنه قَالَ له: إِنْ لَمْ تَجِئْنِي بدليلٍ من كتابِ اللَّهِ فَعَلْتُ بِكَ وَفَعَلْتُ. قال: أتقرأُ في سورةِ الأنعامِ؟ قال: نَعَمْ، قال: قَالَ اللَّهُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} ثُمَّ إلى أن قَالَ
(1)
كما في الآية (2) من سورة مريم. وهي قوله تعالى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا} والآيات بعدها.
(2)
كما في الآية (38) من سورة آل عمران وهي قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} والآيات بعدها.
(3)
كما في الآية (89) من سورة الأنبياء وهي قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً} والآيات بعدها.
(4)
انظر: القرطبي (7/ 31 - 32)، ابن كثير (2/ 155)، البحر المحيط (4/ 173).
{وَعِيسَى} وَعِيسَى ابنُ بِنْتٍ
(1)
. وهذا صريحٌ في دخولِ ابنِ البنتِ في الذريةِ، وعلى هذا أكثرُ العلماءِ
(2)
. على أنه لَوْ أَوْصَى للذريةِ أو وَقَفَ عليهم أن أولادَ البناتِ يدخلونَ لهذه الآيةِ.
وَاخْتَلَفُوا في البنينَ والأولادِ
(3)
، لو قال:«هَذَا وَقْفٌ عَلَى بَنِيَّ، أو عَلَى وَلَدِي» . قال جماعةٌ: يدخلُ أولادُ البناتِ في لفظِ الأبناءِ؛ لأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم ثَبَتَ عنه في الصحيحِ أنه قَالَ في الحسنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنه: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنْ أُمَّتِي» . الحديث المشهور
(4)
. قالوا: سَمَّاهُ ابْنًا، وهو ابنُ بِنْتٍ. وقال بعضُ العلماءِ: تسميتُه هنا ابنًا ليست على حقيقتِها؛ لأَنَّ اللَّهَ يقول: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ} [الأحزاب: آية 40] فَاللَّهُ نَفَى هذه البنوةَ، فَدَلَّ على أنها كقولِ الرجلِ للقريبِ:«يَا بُنَيَّ» . وكذلك لو قَالَ: «وَقْفٌ عَلَى وَلَدِي» . أو أَوْصَى لولدِه. أكثرُ العلماءِ على أن أولادَ البناتِ لا يدخلونَ؛ لأن الشاعرَ
(1)
هذا الأثر أخرجه ابن أبي حاتم (4/ 1335) ونقله ابن كثير (2/ 155)، وهو في الدر المنثور (3/ 28).
(2)
في هذه المسألة: انظر: المدونة (6/ 103)، كتاب الوقوف للخلال (1/ 407 - 412)، المجموع (15/ 352)، المغني (8/ 202)، الإنصاف (7/ 79) 0 القرطبي (4/ 104)(7/ 32)، ابن كثير (2/ 155)، البحر المحيط (4/ 173).
(3)
راجع الحاشية السابقة.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للحسن بن علي رضي الله عنهما: «إن ابني هذا سيد
…
»، حديث (2704)(5/ 306). وأخرجه في مواضع أخرى من الصحيح، انظر: الأحاديث: (3629، 3746، 7109).
يقول
(1)
:
بَنُونَا بَنُو أَبْنَائِنَا وَبَنَاتُنَا بَنُوهُنَّ أَبْنَاءُ الرِّجَالِ الأَبَاعِدِ
ولإجماعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ من العلماءِ في قولِه: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَيَيْنِ} [النساء: آية 11] أنه لم يَقُلْ أحدٌ إنه يدخلُ فيها أولادُ البناتِ فيكونونَ عَاصِبِينَ كأولادِ الذكورِ. ومن هنا قالوا: لَمَّا قال اللَّهُ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} ولم يَدْخُلْ في الميراثِ أولادُ البناتِ في هذه الآيةِ: عُرِفَ أنه إذا قال: «وَقْفٌ عَلَى وَلَدِي، أو: أَوْلَادِي» . لَمْ يَدْخُلْ فيه أولادُ البناتِ، كما هو معروفٌ.
وقولُه: {عِيسَى} هو عِيسَى ابنُ مريمَ الذي خَلَقَهُ اللَّهُ بقدرتِه مِنْ غَيْرِ أَبٍ {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} [آل عمران: آية 59]. {وَإِسْمَاعِيلَ} إسماعيلُ على التحقيقِ: هو نَبِيُّ اللَّهِ إسماعيلُ بنُ إبراهيمَ، جَدُّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وقال قومٌ: هو نَبِيٌّ آخَرُ مِنْ بَنِي إسرائيلَ
(2)
. والذين قالوا هذا قد غَلِطُوا. والتحقيقُ أنه إسماعيلُ، وأنه رسولٌ كريمٌ، كما قال الله جل وعلا:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا} [مريم: آية 54]. والمؤرخونَ يقولونَ: إنه أُرْسِلَ إلى قبيلةِ جُرْهُمَ مِنَ الْعَرَبِ البائدةِ
(3)
.
(1)
البيت في حماسة الخالديين ص98، الخزانة (1/ 213).ونسبه بعضهم للفرزدق.
(2)
انظر: البحر المحيط (4/ 174).
(3)
انظر: البداية والنهاية (1/ 193).
وقولُه: {وَإِلْيَاسَ} المؤرخونَ يقولونَ إنه: إلياسُ بنُ ياسينَ بنِ فنحاصَ بنِ العيزارِ بنِ هارونَ بنِ عمرانَ أخي مُوسَى
(1)
. هكذا يقولونَ، وَاللَّهُ تعالى أَعْلَمُ. وقد ذَكَرَ اللَّهُ قصتَه في آياتٍ من كتابِه، وَبَيَّنَ أنه رسولٌ كريمٌ، وَبَيَّنَ في سورةِ الصافاتِ محاجتَه لقومِه في قولِه:{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ} [الصافات: الآيات 123 - 126] إلى غيرِ مَا ذَكَرَ مِنْ خَبَرِهِ.
وقولُه: {كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ} يعنِي: {كُلٌّ} مِنْ هؤلاءِ الأنبياءِ الذين هَدَيْنَاهُمْ من ذريةِ إبراهيمَ أو مِنْ ذريةِ نُوحٍ {مِّنَ الصَّالِحِينَ} . والصالحونَ جمعُ الصالحِ، وهو مَنْ كانت أعمالُه ونياتُه صالحةً لِلَّهِ (جل وعلا). والصلاحُ يتفاوتُ تفاوتًا كثيرًا.
{وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام: آية 86]{وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا} قَرَأَ هذا الحرفَ عامةُ القراءِ ما عدا حمزةَ، والكسائيَّ:{وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ} . وَقَرَأَهُ حمزةُ والكسائيُّ: {وَإِسْمَاعِيلَ واللَّيْسَعَ} بتشديدِ اللامِ وسكونِ الياءِ وَهُمَا قراءتانِ سبعيتانِ معروفتانِ
(2)
. أي: وَهَدَيْنَا إسماعيلَ، وَهَدَيْنَا اللَّيْسَعَ، وَهَدَيْنَا الْيَسَعَ.
بعضُ العلماءِ يقولُ: اليسعُ هو يوشعُ بنُ نون. وأكثرُ المؤرخين
(1)
انظر: تاريخ الطبري (1/ 239)، والتفسير له (11/ 509)، مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (5/ 23).
(2)
انظر: المبسوط لابن مهران 198.
يقولونَ: إنه اليسعُ بنُ أخطوبَ بنِ العجوزِ
(1)
. وَاللَّهُ (جل وعلا) ذَكَرَهُ في مواضعَ من كتابِه في جملةِ الأنبياءِ.
وقولُه: {وَيُونُسَ} هو نَبِيُّ اللَّهِ يونسُ بنُ مَتَّى، أَرْسَلَهُ اللَّهُ إلى مئةِ ألفٍ أو يزيدونَ، في بَلَدِ (نِيْنَوَى) من بلادِ الموصلِ. وقصتُه مشهورةٌ، ذَكَرَهَا اللَّهُ في آياتٍ كثيرةٍ من كتابِه. أرسلَه اللَّهُ إلى مئةِ ألفٍ أو يزيدونَ، ولم يُرْسِلِ اللَّهُ نَبِيًّا لقومٍ إلا كَذَّبُوهُ وَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بعذابٍ مُسْتَأْصِلٍ، وَلَمْ يُسْتَثْنَ من هذا أحدٌ إلا الجماعة الذين أُرْسِلَ إليهم نَبِيُّ اللَّهِ يونسُ بنُ مَتَّى (عليه وعلى نَبِيِّنَا الصلاةُ والسلامُ). سَيَأْتِيكُمْ في مواضعَ في الصافاتِ، وفي القلمِ، وغيرِها: أن نَبِيَّ اللَّهِ يونسَ لَمَّا كَذَّبَهُ قومُه وَعَدَهُمْ بالهلاكِ، وأن العذابَ يَنْزِلُ عليهم، وَخَرَجَ عنهم، وسافرَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يأذنَ لَهُ رَبُّهُ، كأنه ضَجِرَ منهم وَعَجِلَ. وذلك الضجرُ والعجلةُ هو الذي نَهَى اللَّهُ عنه نَبِيَّنَا محمدًا صلى الله عليه وسلم في سورةِ القلمِ، مُؤَدِّبًا له بِالتَّأَنِّي والحَمْلِ والصبرِ، قَالَ:{وَلَا تَكُنْ كصَاحِبِ الْحُوتِ} يَعْنِي يونسَ بنَ مَتَّى {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: آية 48] حَيْثُ ضَجِرَ وَعَجِلَ.
زَعَمَ بعضُ المفسرين أنه كان شَرْعُهُمْ ونظامُهم أَنْ مَنْ جُرِّبَ عليه الكذبُ أنهم يقتلونَه. هكذا زَعَمُوا، وأن نَبِيَّ اللَّهِ يونسَ وَعَدَهُمْ بالعذابِ، وَاللَّهُ (جل وعلا) جَاءَهُمْ بالعذابِ، فَلَمَّا أَظَلَّهُمْ وَعَايَنُوا أوائلَه خَافُوا خَوْفًا عظيمًا، وَأَنَابُوا إلى اللَّهِ إنابةً صادقةً، وتوبةً عظيمةً، وَضَجُّوا جَمِيعُهُمْ، وَفَرَّقُوا بينَ الأمهاتِ والأولادِ من الآدَمِيِّينَ
(1)
انظر: تفسير ابن جرير (11/ 510)، البداية والنهاية (2/ 4) مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (28/ 37).
والحيواناتِ، وصارَ الجميعُ يَضِجُّ مبتهلين إلى اللَّهِ، فَرَفَعَ اللَّهُ عنهم العذابَ، ولم يُوجَدْ هذا لناسٍ غيرِهم أبدًا، كما نَصَّ اللَّهُ عليه في سورةِ يونسَ:{فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَاّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس: آية 98] فقولُه هُنَا: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الظاهرُ أنه ما كَشَفَ عنهم خزيَ العذابِ في الحياةِ الدنيا إلا وهو يكشفُه عنهم في الآخرةِ إِذَا دَامُوا وَلَمْ يَنْكُثُوا
(1)
. ويدلُّ عليه الإطلاقُ في الصافاتِ في قولِه: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)} [الصافات: الآيتان 147، 148] فَلَمَّا سَلِمُوا وَلَمْ يأتِهم العذابُ كان نَبِيُّ اللَّهِ يونسُ زَعَمَ أنه إن رَجَعَ إليهم قالوا: قُلْتَ: إِنَّا نُهْلَكُ بالعذابِ وَلَمْ نُهْلَكْ، فقد جَرَّبْنَا عليكَ الكذبَ. فَخَرَجَ مِنْ غَيْرِ إِذْنٍ، فدخلَ في البحرِ، فَلَمَّا دَخَلَ مَعَهُمْ فِي البحرِ وَقَفَتِ السفينةُ ولم تَمْشِ، فقالوا: لَعَلَّ فيها عَبْدًا آبق على رَبِّهِ، هنا عَبْدٌ آبِقُ عَلَى رَبِّهِ، فَاجْعَلُوا القرعةَ نَقْتَرِعْ، فَإِنْ سَقَطَتِ الْقُرْعَةُ على واحدٍ أَلْقَيْنَاهُ فِي الْبَحْرِ، فهو العبدُ الآبِقُ عَلَى رَبِّهِ. فَصَارُوا كُلَّمَا اقْتَرَعُوا تسقط القرعةُ على يونسَ.
فقالوا: هذا العبدُ آبِقٌ على رَبِّهِ؛ لأنه خَرَجَ بغيرِ إِذْنٍ
(2)
. كما قال تعالى: {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141)} [الصافات: الآيتان 140، 141] يعنِي كانَ سهمُه دَاحِضًا؛ لأنه هو الذي تأتِي القرعةُ أنه يُرْمَى في البحرِ. فَرَمَوْهُ في البحرِ {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات: الآيات 142 - 144] كما قَصَّ اللَّهُ قصتَه في آياتٍ من كتابِه، وهو نَبِيُّ اللَّهِ
(1)
انظر: ابن كثير (2/ 433)، البداية والنهاية (1/ 232).
(2)
انظر: تاريخ ابن جرير (2/ 43).
يونسُ بنُ مَتَّى. والمؤرخونَ لَا يكادونَ يَصِلُونَ له نَسَبًا إلى محلِّه، وهو ابنُ مَتَّى كـ (حَتَّى) أُرْسِلَ لجماعةٍ فِي (نِينَوَى) من بلادِ الموصلِ، هكذا يقولونَ.
وقولُه: {وَلُوطًا} هو نَبِيُّ اللَّهِ لوطُ ابنُ أَخِي إبراهيمَ، وقد هَاجَرَ مَعَهُ من بلادِ العراقِ إلى بلادِ الشامِ، مُهَاجَرَ إبراهيمَ، كما قَالَ اللَّهُ جل وعلا:{فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [العنكبوت: آية 26] بعضُ المؤرخين يقولونَ: هَاجَرَ مَعَهُ
(1)
، وبعضُهم يقولُ: لم يُهَاجِرْ مَعَهُ. وَاسْتَدَلَّ بما ثَبَتَ في الصحيحِ أنَّ إبراهيمَ قال لِسَارَّةَ: ليس على وجهِ الأرضِ مسلمٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ
(2)
. وعلى كُلِّ حالٍ: اللَّهُ بَيَّنَ أَنَّ لُوطًا آمَنَ بإبراهيمَ.
والمعروفُ في التاريخِ أنه هَاجَرَ معه إلى الشامِ، ثم إن اللَّهَ أرسلَ لوطًا إلى قُرَى (سدوم)، كما هو معروفٌ.
{وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} وكلاًّ من أولئك الأنبياءِ فَضَّلْنَا على العالمين، عَالَمَيْ زَمَانِهِمْ
(3)
، فلا يلزمُ من ذلك تفضيلُهم على مَنْ بَعْدَهُمْ كالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فإنه أَفْضَلُهُمْ.
وكان بعضُ العلماءِ
(4)
يقولُ: آيةُ الأنعامِ هذه مِمَّا اسْتَدَلَّ به العلماءُ على أن الأنبياءَ من الآدميين أفضلُ من الملائكةِ؛ لأَنَّ الملائكةَ يَدْخُلُونَ فِي اسْمِ: {الْعَالَمِينَ} ، بدليلِ قولِه: {قَالَ فِرْعَوْنُ
(1)
انظر: تاريخ الطبري (1/ 150)، البداية والنهاية (1/ 150).
(2)
مضى تخريجه عند تفسير الآية (76) من سورة الأنعام.
(3)
انظر: ابن جرير (11/ 512).
(4)
انظر: البحر المحيط (4/ 174).
وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)} [الشعراء: الآبتان 23، 24] قالوا: وَاللَّهُ فَضَّلَهُمْ على العالمين، والتفضيلُ بَيْنَ الرُّسُلِ والملائكةِ معروفٌ عِنْدَ العلماءِ
(1)
، ولم يَقُمْ عليه دليلٌ قَاطِعٌ، ولا حاجةَ لنا فيه. لو لَقِيَ الإنسانُ رَبَّهُ وهو لم يَبْحَثْ في التفضيلِ بَيْنَهُمْ لَمْ يَسْأَلْهُ عن ذلك، وَمِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ. وهذا معنَى قولِه:{وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} .
{وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: آية 87] قولُه: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ} معطوفٌ على معمولِ (هَدَيْنَا) أي: وَهَدَيْنَا أيضًا مِنْ آبائِهم وذرياتِهم. وَدَلَّ بـ (مِنْ) على أن مفعولَ (الهدايةِ) البعضُ. أي: وَهَدَيْنَا أيضًا بعضَ ذرياتِهم. {وَإِخْوَانِهِمْ} لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ هؤلاءِ الرسلَ الكرامَ ذَكَرَ أنه هَدَى بعضَ أصولِهم وفروعِهم، وبعضَ حواشِيهم. فبعضُ الأصولِ كآدمَ وإدريسَ، وبعضُ الفروعِ كأولادِهم من الطَّيِّبِينَ، وبعضُ الحواشِي كإخوةِ يوسفَ وَمَنْ جَرَى مَجْرَى ذلك. أي: وَهَدَيْنَا مِنْ آبَائِهِمْ وذرياتِهم وإخوانِهم.
{وَاجْتَبَيْنَاهُمْ} أي: اجْتَبَيْنَا هؤلاءِ الرسلَ الْمَذْكُورِينَ. والاجتباءُ: الاصطفاءُ والاختيارُ. أي: اخْتَرْنَاهُمْ وَاصْطَفَيْنَاهُمْ {وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . أي: وَفَّقْنَاهُمْ وَأَرْشَدْنَاهُمْ إلى صراطٍ مستقيمٍ. والصراطُ في لغةِ العربِ: الطريقُ الواضحُ
(2)
.
(1)
مضى عند تفسير الآية (50) من هذه السورة.
(2)
راجع ما سبق عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.
والمستقيمُ: الذي لَا اعوجاجَ فيه
(1)
وَمِنْهُ قولُ جريرٍ يمدحُ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ
(2)
:
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمُ
وهذا الصراطُ المستقيمُ، أي: الطريقُ الواضحُ الذي لا اعوجاجَ فيه: طريقُ دينِ الإسلامِ، دينِ الحنيفيةِ السمحةِ، التي بَعَثَ اللَّهُ بها إبراهيمَ، وَحَاصِلُهَا: اعتقادٌ نَافِعٌ، اعتقادٌ بجميعِه لِلَّهِ (جل وعلا) وَمَا يَجِبُ اعتقادُه، مع امتثالِ الأمرِ، واجتنابِ النهيِ بإخلاصٍ، مُطَابِقًا للوجهِ الذي شَرَعَهُ اللَّهُ (جل وعلا).
{ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: آية 88] ذلك الْهُدَى الذي هَدَى اللَّهُ به هؤلاءِ الأنبياءَ الكرامَ المذكورين فِي سورةِ الأنعامِ هو هُدَى اللَّهِ، ولا هُدًى إلا هُدَى اللَّهِ، كما قال تعالى:{قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: آية 120].
{يَهْدِي بِهِ} أي: بِهُدَاهُ مَنْ يَشَاءُ أن يَهْدِيَهُ من عبادِه. ومفهومُ مخالفةِ الآيةِ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَهْدِيَهُ فلَا هاديَ له؛ لأَنَّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هاديَ لَهُ. فالهدايةُ والإضلالُ كُلُّهَا بمشيئتِه وحدَه (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه:{يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} ومفعولُ {يَشَاءُ} محذوفٌ. أي: مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ.
(1)
السابق.
(2)
انظر: تفسير ابن جرير (1/ 170)، المحتسب (1/ 43)، الدر المصون (1/ 64).
ثم قال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} هؤلاء الرسلُ الكرامُ الذين هَدَاهُمُ اللَّهُ لَوْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ غيرَه، وَعَبَدُوا معَه غيرَه، كما كان أبو إبراهيمَ يُرَاوِدُ إبراهيمَ أن يَرْجِعَ لعبادةِ الأصنامِ، لو أَشْرَكُوا مع اللَّهِ غيرَه لَحَبِطَ عنهم ما كانوا يعملونَ، فَبَطَلَ جميعُ ما عَمِلُوهُ مِنَ الْخَيْرِ؛ لأَنَّ الشركَ كفرٌ يُبْطِلُ جميعَ الحسناتِ، كما قال تعالى مُخَاطِبًا لِنَبِيِّنَا وغيرِه من الأنبياءِ في سورةِ الزمرِ:{وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: آية 65]، وهذه الآيةُ الكريمةُ تَدُلُّ على أن الشركَ - والعياذُ بالله - مَحْبَطَةٌ للعملِ، وأنه يُبْطِلُ جميعَ أعمالِ الإنسانِ
(1)
.
وَمِنْ هذه الآيةِ الكريمةِ أَخَذَ الإمامُ مالكُ بنُ أَنَسٍ رحمه الله فَرْعًا فِقْهِيًّا، قال: إن الرجلَ إذا ارْتَدَّ بَانَتْ منه زوجتُه
(2)
. تارةً يقولُ: بفسخٍ، وتارةً يقول: بطلقةٍ بَائِنَةٍ؛ لأَنَّ ذلك النكاحَ الذي عَمِلَ مِنْ عَمَلِهِ، وَقَدْ أَشْرَكَ، وَإِذَا أَشْرَكَ حَبِطَ جميعُ ما كانَ يعملُ، حتى مُعَاشَرَتُهُ؛ لأنه أَخَذَ تلك المؤمنةَ بكلمةِ اللَّهِ، وبكتابِ اللَّهِ (جل وعلا)، والشركُ يُحْبِطُ ذلك
(3)
.
وهنا بَحْثٌ أُصُولِيٌّ؛ لأن القاعدةَ المقررةَ في الأصولِ: أنه إذا جاءَ في كتابِ اللَّهِ نَصٌّ مُطْلَقٌ، ثم جَاءَ في موضعٍ آخَرَ مُقَيَّدًا، فالجماهيرُ على أنه يُحْمَلُ المطلقُ على الْمُقَيَّدِ
(4)
. وإحباطُ الشركِ
(1)
انظر: الأضواء (2/ 7، 202).
(2)
المصدر السابق (2/ 67).
(3)
انظر: القرطبي (3/ 48)، (15/ 277).
(4)
انظر: البحر المحيط للزركشي (3/ 416)، أضواء البيان (1/ 196، 197، 264، 281، 2/ 7، 30، 127، 138)، وغير ذلك من المواضع.
للأعمالِ جاءَ مُطْلَقًا في آياتٍ من كتابِ اللَّهِ، وجاءَ مُقَيَّدًا في آيةٍ أُخْرَى، فَمِنَ الآياتِ المطلقاتِ: قولُه هنا: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقولُه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: آية 65] وقولُه: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة: آية 5] هذه الآياتُ تَدُلُّ على أن الكفرَ بِاللَّهِ يُحْبِطُ العملَ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ. وهذا إذا كان مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ. وقد بَيَّنَ في موضعٍ مِنْ سورةِ البقرةِ أَنَّ مَحَلَّ إحباطِ الإشراكِ والرجوعِ للكفرِ بعدَ الإيمانِ، محلُّ إحباطِه للعملِ ما إذا ماتَ على ذلك، حَيْثُ قَالَ:{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} [البقرة: آية 217] فَقُيَدَّ بقولِه: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} .
وَذَهَبَ مالكٌ في جماعةٍ من العلماءِ إلى أن الآياتِ المطلقةَ هنا على بَابِهَا، قال: إذا ارْتَدَّ الإنسانُ حَبِطَ جميعُ عملِه، وَبَطَلَتْ حَجَّةُ الإسلامِ - إن كان حَجَّهَا - وَبَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ. وإذا رَاجَعَ الإسلامَ ليس عليه قضاءُ فَائِتٍ مِنْ صَوْمٍ وَلَا صَلَاةٍ؛ لأَنَّ جميعَ أعمالِه حَبَطَتْ.
وَذَهَبَتْ جماعةٌ من العلماءِ، منهم محمدُ بنُ إدريسَ الشافعيُّ رحمه الله، إلى أن الكفرَ بعدَ الإيمانِ، والإشراكَ بعدَ الإسلامِ لَا يُحْبِطُ جميعَ عملِه إلا إذا مَاتَ على الكفرِ
(1)
. بدليلِ القيدِ الذي في قولِه: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ} .
وقولُ الشافعيِّ في هذه المسألةِ أجرى على الأصولِ؛ لأن المقررَ في الأصولِ: أنه إذا جَاءَ نَصٌّ من كتابِ اللَّهِ عَامًّا أو مُطْلَقًا،
(1)
انظر: القرطبي (3/ 48)، (15/ 277).
وجاء مُقَيَّدًا في موضعٍ آخَرَ، فَلَهُ عِنْدَ العلماءِ حالاتٌ
(1)
: تارةً يكونُ الحكمُ والسببُ واحدًا، وتارةً يكونُ الحكمُ واحدًا دونَ السببِ، وتارةً يكونُ السببُ واحدًا دونَ الحكمِ، وتارةً لَا يَتَّحِدُ حكمٌ وَلَا سَبَبٌ.
فَإِذَا كان الحكمُ والسببُ مُتَّحِدَيْنِ فجمهورُ العلماءِ على أن المطلقَ يُحْمَلُ على الْمُقَيَّدِ، وأنه يُقَيَّدُ بِقَيْدِهِ؛ ولأجلِ هذا فقد جاءت في تحريمِ الدمِ أربعُ آياتٍ من كتابِ اللَّهِ، ثلاثٌ منها مُطْلَقَاتٌ، وواحدةٌ مُقَيَّدَةٌ:
أَمَّا المُطْلَقَاتُ: فقولُه في سورةِ النحلِ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: آية 115] وقولُه في سورةِ البقرةِ: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: آية 173] وقولُه في سورةِ المائدةِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: آية 3] فالدمُ في آيةِ النحلِ، وآيةِ البقرةِ، وآيةِ المائدةِ، مُطْلَقٌ عَنْ قَيْدٍ.
وقد جَاءَ في سورةِ الأنعامِ هذه مُقَيَّدًا بالمسفوحيةِ، في قولِه:{لَاّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: آية 145] وجماهيرُ العلماءِ على
(1)
في هذه المسألة راجع: البحر المحيط (3/ 416)، شرح مختصر الروضة (2/ 635)، شرح الكوكب (3/ 395)، المذكرة في أصول الفقه 232، نثر الورود (1/ 323).
أن القيدَ بالمسفوحيةِ في الأنعامِ يُقَيَّدُ به إطلاقُ الآياتِ في النحلِ والبقرةِ والمائدةِ؛ وَلِذَا أطبقَ مَنْ يُعْتَدُّ به مِنَ العلماءِ على أن الْحُمْرَةَ التي تعلو الْقِدْرَ من أَثَرِ تقطيعِ اللحمِ أنها لا تُنَجِّسُهُ؛ لأن ذلك الدمَ غيرُ مسفوحٍ، خارجٌ بقيدِ المسفوحيةِ في قولِه:{إِلَاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [البقرة: آية 145] وهذا يدلُّ على أن العلماءَ يحملونَ المطلقَ على المقيدِ، ولو كان المقيدُ هو السابقَ نزولاً؛ لأَنَّ القيدَ في آيةِ الأنعامِ، وهي نازلةٌ قبلَ البقرةِ، وقبلَ المائدةِ، وقبلَ النحلِ. أما نزولُها قبلَ المائدةِ والبقرةِ فهو معروفٌ؛ لأن سورةَ الأنعامِ نازلةٌ قَبْلَ الهجرةِ بِلَا خلافٍ، إلا آياتٍ معروفةً منها
(1)
.
والمائدةُ والبقرةُ من القرآنِ الْمَدَنِيٍّ بالإجماعِ، نَزَلَتَا في المدينةِ بعدَ الهجرةِ، والمائدةُ مِنْ آخِرِ ما نَزَلَ، وفيها:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: آية 3] بَقِيَتِ: النحلُ والأنعامُ، هما مكيتان على التحقيقِ، إلا أن القرآنَ دَلَّ في مَوْضِعَيْنِ على أن سورةَ الأنعامِ نازلةٌ قبلَ سورةِ النحلِ، وهي التي فيها القيدُ، والموضعانِ الذي دَلَّ القرآنُ فيهما على أن الأنعامَ نازلةٌ قبلَ النحلِ: أن اللَّهَ قال في سورةِ النحلِ: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} [النحل: آية 118] وهذا الْمُحَرَّمُ المحالُ، الْمَقْصُوصُ عليه من قبلُ، في سورةِ الأنعامِ بِلَا خِلَافٍ في قولِه:{وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} الآيةَ [الأنعام: آية 146].
الْمَوْضِعُ الثاني: أن اللَّهَ قال في سورةِ الأنعامِ: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: آية 148] فَبَيَّنَ أنهم سَيَقُولُونَ هذا
في المستقبلِ، وأنهم لم يَقُولُوهُ فِعْلاً. وَبَيَّنَ في سورةِ
(1)
انظر: القرطبي (6/ 382)، ابن كثير (2/ 122)، مصاعد النظر (2/ 115).
النحلِ أن ذلك القولَ الموعودَ به في المستقبلِ أنه وَقَعَ فعلاً في قولِه: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَّحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا} الآية. [النحل: آية 35] فهذا دَلَّ على أن النحلَ بعدَ الأنعامِ. والمائدةَ والبقرةَ بعدَها بِلَا نِزَاعٍ. فَتَبَيَّنَ أن المطلقَ يُحْمَلُ على المقيدِ، ولو كان المقيدُ سابقًا نُزُولاً. هذا هو المعروفُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ.
أما إذا اتَّحَدَ حُكْمُهُمَا واختلفَ سببُهما: فكثيرٌ من العلماءِ - منهم أكثرُ الشافعيةِ والحنابلةِ وجماعةٌ مِنَ المالكيةِ - أن المطلقَ يُحْمَلُ على المقيدِ في هذه.
ومثالُ ما اتَّحَدَ حُكْمُهُ واختلفَ سَبَبُهُ: قولُه (جل وعلا) في كفارةِ القتلِ خَطَأً: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: آية 92] فَقَيَّدَ الرقبةَ بالإيمانِ، وَأَطْلَقَهَا عن قيدِ الإيمانِ في كفارةِ اليمينِ، وكفارةُ الظهارِ حيثُ قال في كفارةِ اليمينِ في سورةِ المائدةِ:{أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: آية 89] وَلَمْ يَقُلْ: مؤمنةٍ. وقال في الظهارِ في سورةِ المجادلةِ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّنْ قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة: آية 3] ولم يَقُلْ: مؤمنةٍ. فالحكمُ هنا واحدٌ، وهو التكفيرُ بتحريرِ رقبةٍ، والسببُ مختلفٌ؛ لأَنَّ الْمُقَيَّدَ سببُه: القتلُ خَطَأً، والمطلقُ سببُه: إما حِنْثٌ في يمينٍ، وإما ظهارٌ. وأكثرُ العلماءِ من الشافعيةِ والمالكيةِ والحنابلةِ يقولونَ: يُحْمَلُ المطلقُ هنا على المقيدِ، فَيُشْتَرَطُ في كفارةِ الظهارِ وكفارةِ اليمينِ الإيمانُ. خِلَافًا للإمامِ أَبِي حنيفةَ - رحمةُ اللَّهِ عَلَى الجميعِ - قال في مثلِ هذه: لَا يُحْمَلُ، ولو أَعْتَقَ الحانثُ في اليمينِ أو المظاهرُ رقبةً غيرَ مؤمنةٍ لأَجْزَأَتْهُ؛ لأن القيدَ في كفارةِ القتلِ خطأً، وهذه مُطْلَقَةٌ.
ومثالُ عكسِ هذا: وهو ما إذا اتَّحَدَ السببُ واختلفَ الحكمُ، في مِثْلِ هذه يخالفُ الحنابلةَ ويقولونَ: لَا حَمْلَ في هذه. وَيَبْقَى المالكيةُ والشافعيةُ يقولونَ: فيها الْحَمْلُ. وَمَثَّلَ الحنابلةُ لهذا قالوا: اللَّهُ (جَلَّ وَعَلَا) في كفارةِ الظهارِ قَيَّدَ بِكَوْنِهَا قبلَ المسيسِ بالعتقِ والصومِ، قال:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: آية 3] وقال في الصومِ: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: آية 4] وَأَطْلَقَ الإطعامَ عن كونِه قبلَ المسيسِ، معَ أن السببَ في الجميعِ واحدٌ، وهو الحنثُ في الظهارِ، والحكمُ مختلفٌ؛ لأن هذا عِتْقٌ، وهذا إطعامٌ، وهذا صومٌ، فَلَا يُحْمَلُ المطلقُ على المقيدِ، فيجوزُ أن يُعْطِيَ الطعامَ بعدَ المسيسِ، ولا يشترطُ في الطعامِ أن يُقالَ فيه: مِنْ قَبْلِ أن يَتَمَاسَّا. وقال غيرُهم: إن هذا يُحْمَلُ فيه المطلقُ على المقيدِ. قالوا: ومثالُه قولُه في سورةِ المائدةِ قال اللَّهُ جل وعلا: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} [المائدة: آية 89] فَقَيَّدَ الإطعامَ بكونِه مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ، ثم قال:{أَوْ كِسْوَتُهُمْ} وَلَمْ يُقَيِّدِ الكسوةَ بكونِها مِنْ أوسطِ ما تَكْسُونَ أهليكم. قالوا: فَنَحْمِلُ المطلقَ على المقيدِ ونقولُ: إِنَّ الكسوةَ مِنْ أوسطِ ما تَكْسُونَ أهليكم. كما قاله جماعةٌ من العلماءِ. والحكمُ هنا مختلفٌ؛ لأَنَّ الْمُطْلَقَ: كسوةٌ، والمقيدُ: إطعامٌ، إلا أن السببَ واحدٌ، وهو الحنثُ في كفارةِ اليمينِ.
وَمَحَلُّ هذه الأقوالِ ما إذا كان المُقَيَّدُ واحدًا، أما إذا كان هناكَ مطلقٌ وهناك مُقَيَّدَانِ بِقَيْدَيْنِ مختلفين، فَلَهُمَا حالتانِ
(1)
: إن كان
(1)
انظر: مذكرة أصول الفقه 234، نثر الورود (1/ 327).
المُقَيَّدَانِ بِقَيْدَيْنِ مختلفين ليس أحدُهما أقربَ لِلْمُطْلَقِ، فَلَا يُحْمَلُ على واحدٍ منهما. وإن كان أحدُهما أقربَ للمطلقِ، فَذَهَبَتْ جماعةٌ من العلماءِ إلى أَنَّ المطلقَ يُحْمَلُ إلى أقربِ المُقَيَّدَيْنِ له، وَيُقَيَّدُ بِقَيْدِهِ.
مثالُ ما إذا كان أحدُهما أقربَ: أن اللَّهَ تبارك وتعالى ذَكَرَ صومَ أيامِ اليمينِ، قال:{فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: آية 89] وأيامُ اليمينِ لَمْ يُقَيِّدْهَا بتتابعٍ ولا بتفريقٍ، مع أنه جَاءَ هنالك صومٌ مُقَيَّدٌ بالتتابعِ، وهو صومُ الظهارِ في قولِه:{فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: آية 4] وَجَاءَ هناك صومٌ آخَرُ مُقَيَّدٌ بِالتَّفْرِيقِ، وهو صومُ التمتعِ؛ لأَنَّ اللَّهَ قَيَّدَهُ بالتفريقِ، حيث قال:{فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: آية 196] فَقَيَّدَ صومَ الظهارِ بالتتابعِ، وَقَيَّدَ صومَ التمتعِ بالتفريقِ، وَأَطْلَقَ صومَ كفارةِ اليمينِ، لَمْ يُقَيِّدْهُ بِتَتَابُعٍ ولَا بِتَفْرِيقٍ.
وقراءةُ ابنِ مسعودٍ: {فصيام ثلاثة أيام متتابعات}
(1)
لم تَثْبُتْ قُرْآنًا. وإذا لم يَأْتِ بها إلا على أنها قرآنٌ، وَبَطَلَ كونُها قُرْآنًا بَطَلَ الاحتجاجُ بها عندَ مَنْ يقولُ بذلك، خِلَافًا لجماعةٍ آخَرِينَ
(2)
. قال بعضُ العلماءِ في هذه: نَحْمِلُ الإطلاقَ في كفارةِ اليمينِ على أَقْرَبِهُمَا لَهَا، والظهارُ أقربُ
(1)
انظر: تفسير ابن جرير (10/ 559 - 560).
(2)
في هذه المسألة راجع: المستصفى (1/ 102)، تفسير القرطبي (1/ 47)، الفتاوى (13/ 394، 397)، (20/ 260)، البحر المحيط للزركشي (1/ 475)، النشر (1/ 53 - 54)، شرح الكوكب المنير (2/ 13، 136)، أضواء البيان (5/ 248)، المذكرة في أصول الفقه 56، قواعد التفسير (1/ 92).
لليمينِ من التمتعِ؛ لأَنَّ الظهارَ واليمينَ كِلَاهُمَا كفارةٌ، والتمتعُ أبعدُ منهما.
ومثالُ ما لم يَكُنْ أقربَ لواحدٍ منهما: أن اللَّهَ قَيَّدَ صومَ الظهارِ بالتتابعِ، وَقيَّدَ صومَ التمتعِ بالتفريقِ، وَأَطْلَقَ قضاءَ رمضانَ، ولم يُقَيِّدْهُ بتتابعٍ ولَا تفريقٍ قال:{فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: آية 184] ولم يُقَيِّدْ قضاءَ صومِ رمضانَ الفائتِ بمرضٍ أو سَفَرٍ، لم يُقَيِّدْهُ بتتابعٍ ولا تفريقٍ، حيث قال:{فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، من غيرِ أن يقولَ: متتابعاتٍ، ولا متفرقاتٍ، مع أن صومَ الظهارِ مقيدٌ بالتتابعِ. وصومَ التمتعِ مُقَيَّدٌ بالتفريقِ. فنقولُ: قضاءُ رمضانَ الذي هو المطلقُ عن قيدِ التتابعِ أو قيدِ التفريقِ ليس أقربَ إلى الظهارِ ولَا إلى التمتعِ، فليس بأقربَ لهذا وهذا، فلا نُقَيِّدُهُ بقيدِ التفريقِ ولا نُقَيِّدُهُ بقيدِ التتابعِ، فَيَبْقَى مُطْلَقًا، مَنْ شَاءَ تَابَعَهُ، وَمَنْ شَاءَ فَرَّقَهُ، إلا أن جماعةً من العلماءِ قالوا: يُنْدَبُ تَتَابُعُهُ. وَاللَّهُ تعالى أَعْلَمُ.
يقولُ اللَّهُ جل وعلا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: آية 89] قَرَأَهُ أكثرُ القراءِ {وَالنُّبُوَّةَ} بالإدغامِ، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ:{والنبؤة} بتحقيقِ الهمزةِ
(1)
.
الإشارةُ في قولِه {أُوْلَئِكَ} إلى الأنبياءِ الكرامِ الْمَذْكُورِينَ في قولِه: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ}
(1)
انظر: السبعة لابن مجاهد (157 - 158)، الإقناع لابن الباذش (1/ 403)، النشر (1/ 383)، الموضح لابن أبي مريم (1/ 278)، الكشف لمكي (1/ 243 - 245)، إتحاف فضلاء البشر (1/ 395 - 360).
[الأنعام: آية 84] إلى آخِرِ مَنْ عَدَّ منهم. أولئك الرسلُ الكرامُ: نوحٌ وإبراهيمُ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ} أي: أَعْطَيْنَاهُمُ {الْكِتَابَ} أي: جِنْسَ الكتابِ، الصادقَ بصحفِ إبراهيمَ، وتوراةِ موسى، وإنجيلِ عيسى، وزبورِ داودَ، ونحوِ ذلك. وهذا معنَى قولِه {أُولَئِكَ} الرسلُ المذكورونَ {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ} أي: أَعْطَيْنَاهُمُ {الْكِتَابَ} أي: جِنْسَهُ الصادقَ بالكتبِ المنزلةِ عليهم.
وقولُه: {وَالْحُكْمَ} قال بعضُ العلماءِ: الحكمُ هو الْفَهْمُ في الدينِ، والفصلُ بَيْنَ الخصومِ. ومعنَى الحكمِ على هذا: هو فَهْمُ الكتابِ، والاطلاعُ على دَقَائِقِهِ
(1)
، والعملُ بما فيه.
وقولُه: {وَالنُّبُوَّةَ} هو مصدرٌ مَعْنَوِيٌّ، معناه: أن اللَّهَ جَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ.
و (النبوةُ) أصلُها مِنَ (النَّبَأِ)، و (النبأُ) في لغةِ العربِ: الخبرُ الذي له شَأْنٌ وَخَطْبٌ. لا تكادُ العربُ تُطْلِقُ (النبأَ) إِلَاّ على الخبرِ الذي له شَأْنٌ. تقولُ: «جاءنا نبأُ الأميرِ» . ولا تقولُ: «جاءنا نَبَأُ حِمَارِ الحجامِ» ؛ لأَنَّ هذا لا شأنَ له ولا خَطْبَ. فالنبأُ أخصُّ من الخبرِ؛ لأَنَّ كُلَّ نبأٍ خبرٌ، وليس كُلُّ خَبَرٍ نبأً؛ لاختصاصِ (النبأِ) عادةً بالخبرِ الذي له شَأْنٌ؛ وذلك لأَنَّ الأنبياءَ يُخْبِرُهُمُ اللَّهُ عن طريقِ الوحيِ أخبارًا لها شأنٌ وَأَمْرٌ عظيمٌ، خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أن (النبوةَ) و (النبيَّ) أنها من (النَّبْوَةِ) بمعنَى: الارتفاعِ؛ لارتفاعِ شأنِهم بما أَوْحَاهُ اللَّهُ إليهم. وهذا معنَى قولِه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} .
ثم قَالَ: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ} الضميرُ في قولِه: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ} قال بعضُ العلماءِ: عائدٌ إِلَى النبوةِ؛ لأَنَّهَا أقربُ
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 514).
مَذْكُورٍ
(1)
. فَإِنْ يَكْفُرْ بالنبوةِ، كنبوةِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، التي هي مِنْ جِنْسِ نبوتِهم، كما صَرَّحَ به فِي قولِه:{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: آية 163] وقال بعضُ العلماءِ: الضميرُ فِي {بِهَا} راجعٌ إلى المذكوراتِ الثلاثِ، وهي: النبوةُ والحكمُ والكتابُ
(2)
. {آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ}
بالثلاثةِ {هَؤُلَاءِ} يعني: كفارَ مكةَ، الذين كَذَّبُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم
(3)
. ولا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ أعطاهُ النبوةَ، وأعطاهُ الحكمَ، وأعطاهُ الكتابَ. فإن كَفَرُوا بنبوتِه وحكمِه وكتابِه:{فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي: بالنبوةِ أو بالمذكوراتِ {قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} كأن معنَى الآيةِ: يقولُ اللَّهُ: إِنْ كان هؤلاءِ تَمَرَّدُوا وَكَذَّبُوا رُسُلِي وَكَفَرُوا بِي وَلَمْ يَعْبُدُونِي فَلِي قومٌ آخَرُونَ غيرهم يَعْبُدُونَنِي وَيُوَحِّدُونَنِي كما ينبغي. وقولُه: {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا} أي: وَفَّقْنَاهُمْ للإيمانِ بها. أي: بالنبوةِ. أو: النبوةِ والْحُكْمِ والكتابِ. ومعنىَ وَكَّلْنَاهُمْ بها: أي: وَفَّقْنَاهُمْ لَهَا، وَهَيَّأْنَاهُمْ لَهَا، حتى كانوا يقومونَ بها، ويحافظونَ عليها، كما يقومُ الوكيلُ بما أُسْنِدَ إليه. وهذا معنَى قولِه:{فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} بل هم مؤمنونَ بها بقلوبِهم وألسنتِهم وجوارحِهم.
وهؤلاء القومُ المؤمنونَ- الذين هم لَيْسُوا بها بكافرينَ، الذين وَكَّلَهُمُ اللَّهُ بالإيمانِ بها- للعلماءِ فيهم أَوْجُهٌ مِنَ التفسيرِ، لا يُكَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا
(4)
.
(1)
انظر: ابن كثير (2/ 155).
(2)
المصدر السابق.
(3)
انظر: ابن جرير (11/ 515)، ابن كثير (2/ 155).
(4)
انظر: ابن جرير (11/ 515 - 518).
أظهرُها: أَنَّهُمْ الأنبياءُ المذكورونَ. يعنِي: إِنْ كَفَرَ هؤلاءِ الكفرةُ، وَكَفَرُوا بالنبوةِ فَلَنَا مِنْ صفوةِ خَلْقِنَا أناسٌ طَيِّبُونَ يؤمنونَ كَمَا يَنْبَغِي، وَيُعَظِّمُونَ اللَّهَ كما ينبغي، تظهرُ بإيمانِهم حكمةُ اللَّهِ في خَلْقِهِ الْخَلْقَ؛ لِيَعْبُدُوهُ وَيُعَظِّمُوهُ. وعلى هذا فالقومُ في قولِه:{قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} الأنبياءُ المذكورونَ. وَيَدُلُّ عليه: أنه قَالَ بعدَه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية 90].
وقال بعضُ العلماءِ: المرادُ بهؤلاءِ القومِ الذين وُكِّلُوا بها، وليسوا بها بكافرينَ: المؤمنونَ من المهاجرينَ والأنصارِ، حيث تَلَقَّوْهُ بالإيمانِ والعملِ الصالحِ.
وقال بعضُ العلماءِ: هي تشملُ كُلَّ مُؤْمِنٍ آمَنَ بِاللَّهِ (جل وعلا). وعليه فَالْمَعْنَى: إِنْ كَفَرَ بعضُ خَلْقِي وَتَمَرَّدُوا وَكَذَّبُوا رُسُلِي فَلِي بَعْضٌ آخَرُ من الناسِ الطيبين وَفَّقْتُهُمْ للعملِ والإيمانِ، يحصلُ بهم غرضُ التشريعِ، وَخَلْقُ الْخَلْقِ؛ لأَنَّ الغرضَ الأكبرَ من خلقِ الناسِ: أن يَعْبُدُوا رَبَّهُمْ (جل وعلا)، وَيُحْسِنُوا العملَ له، كما قال:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: آية 56] فهؤلاءِ الطيبونَ تَحْصُلُ بهم الحكمةُ المرادةُ في قولِه: {لِيَعْبُدُونِ} ويحسنونَ العملَ لِلَّهِ، فيحصلُ بهم المعنَى المرادُ في قولِه:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: آية 7]، وهذا معنَى قولِه:{فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} .
[9/أ] / {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: آية 90].
{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} قَرَأَ هذا الحرفَ حمزةُ والكسائيُّ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِ} في الصلةِ بلا هاءٍ، وَقَرَأَهُ غيرُهما وغيرُ ابنِ عامرٍ:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} بهاءِ السَّكْتِ وَصْلاً وَوَقْفًا، وَقَرَأَهُ ابنُ عامرٍ من روايةِ هشامٍ:{اقتدهِ} بكسرةٍ مُخْتَلَسَةٍ، وَقَرَأَهُ ابنُ عامرٍ من روايةِ ابنِ ذَكْوَانَ:{اقْتَدِهي} بكسرةٍ مُشْبَعَةٍ.
فَتَحَصَّلَ أن القراءاتِ فيه متعددةٌ
(1)
، قراءةُ الجمهورِ:{فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه} بهاءِ السكتِ الساكنةِ وَصْلاً وَوَقْفًا، وقرأه حمزةُ والكسائيُّ:{اقْتَدِ} بِلَا هاءٍ في حالةِ الوصلِ. {اقْتَدِهْ} بالهاءِ فِي حالةِ الوقفِ، وقرأه ابنُ عامرٍ بهاءٍ مكسورةٍ تُخْتَلَسُ كسرتُها في روايةِ هشامٍ عنه، وتُشْبَعُ كسرتُها في روايةِ ابنِ ذكوانَ عنه.
هذه هي القراءاتُ: {اقْتَدِ} وَصْلاً {اقْتَدِهْ} وَقْفًا {اقْتَدِه} وَصْلاً وَوَقْفًا {اقْتَدِهي} وَصْلاً {اقْتَدِهِ} وَصْلاً، هذه قراءاتُ القراءِ السبعِ في هذا الحرفِ.
و {اقْتَدِ} معناه: فِعْلُ أَمْرٍ من الاقتداءِ، والاقتداءُ معناه: الائْتِسَاءُ والاتباعُ في العملِ. يقولُ العربُ: «اقْتَدَى بِهِ» . إذا ائْتَسَى به وَتَبِعَهُ في عَمَلِهِ.
وقال قومٌ: إن قراءةَ ابنِ عامرٍ هنا {اقْتَدِهِي} {اقْتَدِهِ} زَعَمَ قومٌ أنها لَحْنٌ لَا تجوزُ؛ لأن هاءَ السكتِ لا يجوزُ كَسْرُهُ
(2)
. وهذا غَلَطٌ؛ لأن قراءةَ ابنِ عامرٍ قراءةٌ صحيحةٌ متواترةٌ، والعلماءُ خَرَّجُوهَا على أن الهاءَ في قراءةِ ابنِ عامرٍ- في حرفِ هشامٍ وابنِ ذكوانَ - ليست هاءَ
(1)
انظر: المبسوط لابن مهران 198.
(2)
انظر: القرطبي (7/ 36)
السكتِ؛ لأن هاءَ السكتِ ساكنةٌ على كُلِّ حَالٍ
(1)
، وإنما هي ضميرٌ راجعٌ إلى المصدرِ.
ومعنَى {اقْتَدِهِي} أي: الاقتداء فيكونُ بمعنَى اقْتَدِ اقْتِدَاءً بهم. هذا تخريجُ قراءةِ ابنِ عَامِرٍ
(2)
.
ومعنَى {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} اقْتَدِ بِهُدَاهُمْ، وَافْعَلْ كَمَا يَفْعَلُونَ مِنَ الْهُدَى.
وهذه الآيةُ الكريمةُ هي التي أَخَذَ منها جماهيرُ العلماءِ - هي وأمثالُها في القرآنِ - أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شرعٌ لَنَا إِنْ ثَبَتَ في شرعِنا إِلَاّ بدليلٍ يدلُّ على أنه ليسَ شَرْعًا لنا.
وهذه مسألةٌ معروفةٌ في الأصولِ
(3)
. اعْلَمْ أَوَّلاً: أن شرعَ مَنْ قَبْلَنَا له ثلاثُ حالاتٍ: تارةً يكونً شَرْعًا لنا بِلَا خِلَافٍ، وتارةً يكونُ غيرَ شرعٍ لَنَا بِلَا خِلَافٍ، وتارةً يكونُ مَحَلَّ خِلَافٍ، هو الذي فيه كلامُ العلماءِ؛ لأَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا واسطةٌ وَطَرَفَانِ: طرفٌ هو شَرْعٌ لَنَا إِجْمَاعًا، وطرفٌ لَيْسَ شَرْعًا لنا إِجْمَاعًا، وواسطةٌ هِيَ مَحَلُّ بحثِ العلماءِ وَخِلَافُهُمْ.
أما الطرفُ الذي هو شَرْعٌ لَنَا إِجْمَاعًا: وهو ما وَرَدَ في شرعِنا أنه كان شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، ثُمَّ جَاءَنَا في شرعِنا أنه مشروعٌ لنا - كقتلِ
(1)
انظر: البحر المحيط (4/ 176).
(2)
انظر: حجة القراءات 260.
(3)
انظر: إحكام الفصول للباجي 327 - 332، القرطبي (7/ 35)، البحر المحيط (6/ 41 - 47)، شرح الكوكب المنير (4/ 412)، المذكرة في أصول الفقه 161، الأضواء (2/ 63).
النفسِ بالنفسِ قِصَاصًا، فإن قتلَ النفسِ بالنفسِ قِصَاصًا كان شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، كما نَصَّ اللَّهُ عليه بقولِه:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: آية 45]،. ثُمَّ إن اللَّهَ بَيَّنَ في كتابِنا أنه شرعٌ لنا، حيثُ قال:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: آية 178]، وقال:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: آية 179]، وقال:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: آية 33]، - فمثلُ هذا الطرفِ هو شرعٌ لنا بِإِجْمَاعٍ.
الطرفُ الثاني: يكونُ شرعُ مَنْ قَبْلَنَا ليسَ بشرعٍ لنا إجماعًا، وهذا الطرفُ له صُورَتَانِ:
إحدَاهُمَا: ألا يُثْبَتَ بشرعِنا أَصْلاً، بِأَنْ لَا يوجدَ دليلٌ من كتابٍ ولا سُنَّةٍ على أنه كَانَ شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، وإنما تُلِقِّيَ عن الإسرائيلياتِ. فهذا لا يكونُ شَرْعًا لنا بالإجماعِ، لأَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَانَا عَنْ تصديقِ الإسرائيلياتِ وتكذيبِها
(1)
ما لَمْ يَقُمْ دليلٌ على صِدْقِهَا أو كَذِبِهَا. وما
(1)
ورد هذا النهي في عدة أحاديث منها:
1 -
حديث أبي هربرة رضي الله عنه بلفظ:» لا تصدقوا أهل الكتب ولا تكذبوهم
…
» الحديث وقد أخرجه البخاري في الصحيح، كتاب التفسير، باب:{قُولُواْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا} حديث رقم: (4485)، (8/ 170) وأطرافه (7362، 7542).
2 -
حديث أبي نملة الأنصاري رضي الله عنه بلفظ: «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم
…
» الحديث. وقد أخرجه عبد الرزاق (6/ 111)، (10/ 314)، (11/ 109 - 110)، وأحمد (4/ 136)، وأبو داود في السنن، كتاب العلم، باب رواية حديث أهل الكتاب. حديث رقم:(3627)، (10/ 76)، والدولابي في الكنى (1/ 58)، وابن حبان (الإحسان 8/ 51 - 52)، والطبراني (22/ 349 - 351)، والبيهقي في السنن (2/ 10)، وفي الشعب (9/ 420 - 421)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 801 - 802)، والخطيب في الجامع (2/ 115)، والبغوي في شرح السنة (1/ 268) والآحاد والمثاني (4/ 140)، وفي التفسير (3/ 470)، وابن الأثير في أُسد الغابة (6/ 315)، والمزي في تهذيب الكمال (34/ 354). وهو في ضعيف الجامع (5054).
3 -
عن عطاء بن يسار مرسلاً. أخرجه عبد الرزاق (6/ 111)، (10/ 312)، وابن عبد البر في جامع بيان العلم (2/ 803).
نُهِينَا عَنْ تَصْدِيقِهِ لا يُمْكِنُ أن يكونَ شَرْعًا لنا.
الثاني من هذا الطَّرَفِ: هو ما ثَبَتَ في شَرْعِنَا أنه كان شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، إلا أنه نُصَّ لنا في شَرْعِنَا أنه غيرُ مشروعٍ لنا. ومثالُ هذا كالآصَارِ والأغلالِ التي كانت على مَنْ قَبْلَنَا، فإن اللَّهَ بَيَّنَ لنا في كتابِنا أنه رَفَعَهَا عَنَّا، كما قَالَ تَعَالَى:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: آية 157] ومن هذه الآصارِ: ما جَاءَ في سورةِ البقرةِ من أَنَّ عَبَدَةَ العجلِ لَمَّا أَرَادُوا أن يَتُوبُوا إلى اللَّهِ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ تَوْبَتَهُمْ حَتَّى قَدَّمُوا أنفسَهم للقتلِ، كما تَقَدَّمَ في قولِه:{فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: آية 54]،
لأَنَّ اللَّهَ وَضَعَهَا عَنَّا بِنَصِّ قولِه: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: آية 157]، وَالإِصْرُ فِي اللغةِ: الأثقالُ. والمرادُ به: الأثقالُ الشَّاقَّةُ فِي التكاليفِ. وقد ثَبَتَ في صحيحِ مسلمٍ من حديثِ ابنِ عباسٍ وَأَبِي هريرةَ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَرَأَ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: آية 286]. أَنَّ اللَّهَ قال: «نَعَمْ» . في روايةِ
أَبِي هريرةَ: قال اللَّهُ: «نَعَمْ» . وفي روايةِ ابنِ عباسٍ: قال اللَّهُ: «قَدْ فَعَلْتُ»
(1)
. وهو حديثٌ صحيحٌ، يُصَرِّحُ بِأَنَّ اللَّهَ وَضَعَ عنا الآصَارَ والأثقالَ التي كانت على مَنْ قَبْلَنَا.
بَقِيَتْ واسطةٌ هِيَ مَحَلُّ الخلافِ بَيْنَ العلماءِ، وهي ما ثَبَتَ بِشَرْعِنَا أنه كان شَرْعًا لِمَنْ قَبْلَنَا، ولم يَثْبُتْ فِي شَرْعِنَا أنه شرعٌ لنا، ولا غيرِ شَرْعٍ لَنَا. هذا محلُّ الخلافِ، وجمهورُ العلماءِ - وهو المشهورُ عن الأئمةِ الثلاثةِ، مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ - أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا الثابتَ بِشَرْعِنَا يكونُ شَرْعًا لَنَا، إلا لدليلٍ يَدُلُّ على أنه منسوخٌ عَنَّا. وعن الشافعيِّ في أَصَحِّ الرواياتِ في أصولِه: أنه لَا يكونُ شَرْعًا لَنَا إِلَاّ بدليلٍ منفصلٍ. واحتجَّ الشافعيُّ بقولِه تعالى فِي الأنبياءِ والرسلِ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: آية 48] قال: لِكُلِّ نَبِيٍّ شِرْعَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَمِنْهَاجٌ مُسْتَقِلٌّ.
واستدلَّ الجمهورُ على أن شرعَ مَنْ قَبْلَنَا - إِنْ ثَبَتَ بِشَرْعِنَا - شَرْعٌ لنا بأدلةٍ كثيرةٍ مِنْ آيَاتٍ كَثِيرَةٍ
(2)
.
قَالُوا: اللَّهُ (جل وعلا) لَمَّا ذَكَرَ الأنبياءَ فِي سورةِ الأنعامِ قَالَ لِنَبِيِّنَا وهو قُدْوَتُنَا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية 90]، وَأَمْرُ القدوةِ أَمْرٌ لأَتْبَاعِهِ. قالوا: وَاللَّهُ (جل وعلا) بَيَّنَ أنه مَا قَصَّ علينا قصصَهم إلا لنعتبرَ بها، فنتباعدُ عَنْ مُوجبِ الهلاكِ، ونتسارعُ إلى موجبِ النجاةِ، كما قال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ
(1)
مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق. حديث (125، 126)(1/ 115 - 116).
(2)
انظر: الأضواء (2/ 63).
لِّأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف: آية 111] فَصَرَّحَ بأنه يَقُصُّ قصصَهم للاعتبارِ والعملِ بما تَضَمَّنَتْهُ قصصُهم،
وَوَبَّخَ مَنْ لَمْ يَعْقِلْ ذلك، قال في قومِ لوطٍ:{وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)} [الصافات: الآيتان 137، 138]، وبَّخَ مَنْ لَمْ يَعْقِلْ عن اللَّهِ وقائعَه في الأممِ الماضيةِ ليعتبرَ بها.
وفائدةُ ذلك العملِ وهو أن يَكُفَّ عن أسبابِ الهلاكِ الذي هَلَكَ بها الْهَالِكُونَ، وَيُسَارِعَ إلى أسبابِ النجاةِ. وقال جل وعلا:{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: آية 13]، وقال في التوراةِ:{يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} [المائدة: آية 44] والموجودُ مِنَ النَّبِيِّينَ عِنْدَ نزولِ الآيةِ: مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَحْدَهُ.
وكان الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله يقولُ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية90]، المرادُ بِالْهُدَى هنا في قولِه:{فَبِهُدَاهُمُ} والمرادُ بالدينِ في قولِه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ} خصوصُ العقائدِ والأصولِ لا الفروعِ العمليةِ؛ لأَنَّ اللَّهَ قال في الفروعِ العمليةِ: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: آية 48].
وَنَحْنُ نقولُ: إن هذا الذي يُذْكَرُ عن الإمامِ الشافعيِّ رحمه الله، وإن كان هُوَ هُوَ فِي الجلالةِ، إلا أن هذا الكلامَ غيرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِمَا ثَبَتَ في صحيحِ البخاريِّ عن مجاهدٍ في تفسيرِ سورةِ (ص) أنه سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ: أَفِي (ص) سَجْدَةٌ؟ يعني: وَمِنْ أَيْنَ أُخِذَتِ السجدةُ فِي (ص)؟ فقال له ابنُ عَبَّاسٍ: أَوَمَا تَقْرَأُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} ثم قَالَ {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} وكان دَاوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبِيُّكُمْ أن يقتديَ به، فَسَجَدَهَا داودُ، فَسَجَدَهَا رسولُ اللَّهِ
- صلى الله عليه وسلم
(1)
. هذا حديثٌ ثابتٌ في صحيحِ البخاريِّ عن ابنِ عباسٍ، صَرَّحَ فيه ابنُ عباسٍ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم اقْتَدَى بِدَاوُدَ في سجدةِ تلاوةٍ، وسجودُ التلاوةِ فرعٌ من الفروعِ كَمَا هو معلومٌ، لا أَصْلٌ مِنَ الأُصُولِ.
وكذلك كَانَ الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله يقولُ: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} هذا الأمرُ الخاصُّ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم لَا يَشْمَلُ الأُمَّةَ. هذا الصحيحُ في مذهبِ الشافعيِّ. قال: الأوامرُ الخاصةُ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم لَا تَشْمَلُ أحكامُها الأمةَ إِلَاّ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ. قال: لأَنَّ اللفظَ الخاصَّ بالرسولِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَشْمَلِ الأمةَ بحسبِ الوضعِ وَمُقْتَضَى الصيغةِ، وَإِدْخَالُنَا في كتابِ اللَّهِ شَيْئًا لم يَتَنَاوَلْهُ اللفظُ لا يجوزُ إلا بدليلٍ منفصلٍ. وقد بَيَّنَّا فيما مَضَى أن جماهيرَ العلماءِ على أن الخطاباتِ الخاصةَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم أنها تشملُ أحكامُها الأُمَّةَ، وإن كان اللفظُ لَا يتناولُ الأمةَ لأدلةٍ خارجيةٍ عن مادةِ اللفظِ
(2)
، مِنْهَا: أنه هو القدوةُ الْمُشَرِّعُ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه)، وَأَمْرُ القدوةِ أَمْرٌ لأَتْبَاعِهِ، وَاللَّهُ يقولُ:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: آية 21]، أي: اقتداءٌ كريمٌ. وذلك الاقتداءُ في أفعالِه وأقوالِه وتقريراتِه صلى الله عليه وسلم. وَاللَّهُ جل وعلا يقولُ: {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: آية 80]، {قُلْ إِنْ كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: آية 31]، وَاتِّبَاعُهُ يَقْتَضِي في كُلِّ شيءٍ مِمَّا أُمِرَ به،
(1)
البخاري، كتاب التفسير، (سورة ص) حديث (4807)(8/ 544).
(2)
في هذه المسألة انظر: البحر المحيط للزركشي (3/ 186 - 188)، شرح الكوكب المنير (3/ 218)، نهاية السول (2/ 101)، شرح مختصر الروضة (2/ 411)، الفتاوى (14/ 274، 275)، (15/ 81 - 82، 444 - 445)، (22/ 322)، أضواء البيان (1/ 219)، (2/ 64 - 67، 285)، (3/ 494، 495، 634) وغير ذلك من المواضع. وراجع ما سبق عند تفسير الآية (55) من سورة الأنعام.
ولو بأوامرَ خاصةٍ.
وَثَبَتَ عن عائشةَ رضي الله عنها أنها رَدَّتْ على مَنْ زَعَمَ أن تخييرَ الزوجةِ طلاقٌ لها: بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم خَيَّرَ أزواجَه فَاخْتَرْنَهُ، فلم يَعُدَّ ذلك طَلَاقًا
(1)
مع أن الصيغةَ خاصةٌ به صلى الله عليه وسلم في قولِه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: الآية 28]. وقد بَيَّنَّا مِرَارًا أن القرآنَ دَلَّ باستقرائِه أَنَّ اللَّهَ يُخَاطِبُ نَبِيَّنَا بصيغةٍ خاصةٍ به صلى الله عليه وسلم، ثم يُبَيِّنُ لنا أن مرادَه بالصيغةِ الخاصةِ أن يشملَ حُكْمُهَا الأسودَ والأحمرَ. هذا كثيرٌ في القرآنِ، يُورِدُ اللَّهُ الخطابَ خَاصًّا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم يُبَيِّنُ أن مرادَه عمومُ حكمِ ذلك الخطابِ الخاصِّ، كقولِه في صدرِ سورةِ الطلاقِ بخطابٍ خَاصٍّ بِهِ صلى الله عليه وسلم:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ثم قَالَ: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاءَ} بصيغةِ الجمعِ الشاملةِ للأَسْوَدِ والأَحْمَرِ، {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} [الطلاق: آية1] فلو لَمْ يكن قولُه: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} يُقْصَدُ منه شمولُ الحكمِ لجميعِ الأمةِ لأَفْرَدَ الخطاباتِ بَعْدَهُ، وَلَقَالَ:(إذا طَلَّقْتَ النساءَ فَطَلِّقْهُنَّ لعدتهن وَأَحْصِ)(وَاتَّقِ اللَّهَ)(لا تُخرج) فلما جاء بها مجموعةً تَبَيَّنَ أنه أَرَادَ إدخالَ الأمةِ تحتَ خطابِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} ونظيرُ هذا أيضًا في سورةِ التحريمِ، في قولِه بخطابٍ خَاصٍّ به صلى الله عليه وسلم:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ} [التحريم: آية 1]، ثم بَيَّنَ قصدَ شمولِ الخطابِ للجميعِ حيث قال بعدَه:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: آية 2] بصيغةِ الجمعِ الشاملةِ للأَسْوَدِ والأَحْمَرِ.
ونظيرُه أيضًا قولُه في صدرِ سورةِ الأحزابِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ
(1)
البخاري، كتاب الطلاق، باب من خيَّر أزواجه، حديث (5262، 5263)، (9/ 367)، ومسلم، كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقاً إلا بالنية، حديث:(1477)، (2/ 1103).
الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ} [الأحزاب: الآيتان 1، 2]. كُلُّ هذه خطاباتٌ خاصةٌ به صلى الله عليه وسلم.
ثم قَالَ: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ} بصيغةِ الجمعِ الشاملةِ للجميعِ، فَدَلَّ على أن المرادَ شمولَ الجميعِ بـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} وَمِنْ ظَوَاهِرِ هذا في القرآنِ قولُه في سورةِ يُونُسَ:{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ} ثم قال بصيغةِ الجمعِ الشاملةِ للجميعِ: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَاّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: آية 61] وقد بَيَّنَّا أن مِنْ أَصْرَحِ الأدلةِ في هذا آيَتَيِ الأحزابِ وآيةَ الرومِ. أما آيَتَا الأحزابِ: فالأُولَى منهما قولُه تعالى في قصةِ زواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم زينبَ بنتَ جَحْشٍ رضي الله عنها: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} فكافُ الخطابِ في قولِه: {زَوَّجْنَاكَهَا} خاصةٌ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو وحدَه الذي زُوِّجَهَا في ذلك الوقتِ، ثُمَّ بَيَّنَ أن هذا الخطابَ الخاصَّ به صلى الله عليه وسلم أنه يُرَادُ تعميمُ حُكْمِهِ للأَسْوَدِ والأَحْمَرِ حيث قال بعدَه:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: آية 37]، وَآيَةُ الأحزابِ الثانيةُ: قولُه تعالى: {وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا} ثم قال: {خَالِصَةً لَّكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: آية50]. أي: هذا الحكمُ يَخُصُّكَ دونَ أُمَّتِكَ. والخطابُ أَوَّلُهُ: {إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} فلو لم تَكُنِ الأُمَّةُ داخلةً حُكْمًا تحتَ اسمِ (النبي) لَمَا كان لقولِه: {خَالِصَةً لَّكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فائدةٌ، ولَمَا كانت إليه حَاجَةٌ.
وأما آيةُ الرومِ: فقولُه تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} [الروم: الآيتان 30، 31] فقولُه: {مُنِيبِينَ} حالٌ من ضميرِ الفاعلِ، الْمُخَاطَبُ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم فِي قولِه:{فَأَقِمْ} أنتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ {وَجْهَكَ} في حالِ كَوْنِكُمْ {مُنِيبِينَ} فلو لَمْ تَدْخُلِ الأمةُ تحتَ الخطابِ بقولِه: {فَأَقِمْ} لَقَالَ: مُنِيبًا إليه وَاتَّقِهِ، وَلَمْ يَقُلْ:{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ} وقد أجمعَ أهلُ اللسانِ العربيِّ على أن الحالَ الحقيقيةَ - أعني الحالَ التي لَمْ تَكُنْ سَبَبِيَّةً
(1)
- تَجِبُ مطابقتُها لصاحبِها في الإفرادِ والجمعِ والتثنيةِ والتأنيثِ والتذكيرِ فلا يقولُ: «جَاءَ زَيْدٌ ضَاحِكِينَ» . ولا يجوزُ أن تقولَ: «ادْخُلِ الدارَ قَائِمِينَ» . كُلُّ هذا لا يجوزُ
(2)
. فَلَمَّا قال: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ} في حالِ كَوْنِكُمْ {مُنِيبِينَ} عَرَفْنَا شمولَ الصيغةِ الخاصةِ به لجميعِ الأُمَّةِ. ومن هنا نعرفُ أن قولَه: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية 90]، أنه خطابٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأن الخطابَ الخاصَّ به يشملُ حُكْمُهُ أُمَّتَهُ، كما دَلَّ عليه استقراءُ القرآنِ.
(1)
انظر: الأضواء (2/ 66) وقد جرت العادة على ذكر هذا التقسيم عند الكلام على النعت، فيقولون: هو حقيقي وسببي. فالحقيقي: هو الذي يدل على صفة في المتبوع نفسه. ومن علامته أن يرفع الضمير المستتر. مثل: جاءني زيد العالم.
والسببي: هو الذي يدل على صفة في اسم ظاهر بعده متعلق بالمنعوت. وعلامته أن يرفع الاسم الظاهر المشتمل على ضمير يعود على المنعوت. مثل: جاءني زيد العالم أبوه.
وعلى ضوء ما سبق تعرف الفرق بين نوعي الحال هنا، والله أعلم.
(2)
انظر: التوضيح والتكميل (2/ 144 - 145)، توضيح النحو (4/ 8).
وهنا مسألةٌ تَخْطُرُ في ذهنِ طالبِ العلمِ، يقولُ: اللَّهُ أَمَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم في هذه الآيةِ من سورةِ الأنعامِ أن يقتديَ بهؤلاءِ الرسلِ الكرامِ، وهو سيدُ الرسلِ وخيرُهم وأفضلُهم، فكيف يأمرُ الأفضلَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِمَنْ هو [أَقَلُّ]
(1)
مِنْهُ؟
الجوابُ عن هذا
(2)
: أن اقتداءَه بهم أَعْلَى لظهورِ فضيلتِه وأوضحُ لذلك؛ لأنه إِنِ اقْتَدَى بهم شَارَكَهُمْ في كُلِّ ما كانوا عليه من الْهُدَى والخيرِ، وَزَادَ عليهم بأمورٍ عظيمةٍ خَصَّهُ اللَّهُ بها لم تَكُنْ لَدَيْهِمْ. وإذا كان مُشَارِكًا لهم بِمَا عندهم، زَائِدًا عليهم بما ليسَ عندهم ظَهَرَ بذلك الفضلُ، كما هو مَعْرُوفٌ.
والحاصلُ أن أكثرَ العلماءِ على أن شرعَ مَنْ قَبْلَنَا شرعٌ لنا، وأن مِنْ أَدِلَّتِهِ: هذه الآيةُ الكريمةُ؛ لأَنَّ اللَّهَ قال لِنَبِيِّنَا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية 90]، وما أَنْزَلَهُ اللَّهُ عليهم كُلُّهُ هُدًى، إلا ما ثَبَتَ نَسْخُهُ، ولم يَزَلِ العلماءُ يَسْتَدِلُّونَ بقصصِ الأممِ الماضيةِ عَمَلاً بهذه الآيةِ وأمثالِها في القرآنِ من جميعِ المذاهبِ وفقهاءِ الأمصارِ؛ وَمِنْ هُنَا كان علماءُ المالكيةِ يقولونَ: إن القرينةَ إذا قَوِيَتْ رُبَّمَا قامت مقامَ البينةِ
(3)
؛ ولأَجْلِ هذا لَمَّا سُئِلَ مالكُ بْنُ أَنَسٍ رحمه الله عن رجلٍ استُنْكِهَ فَشُمَّ مِنْ فِيهِ رِيحُ الْخَمْرِ!! أَفْتَى بِجَلْدِهِ؛
(1)
في الأصل: أفضل.
(2)
انظر: التفسير الكبير (13/ 70 - 71)، محاسن التأويل (6/ 618).
(3)
في العمل بالقرائن انظر: الكافي في فقه أهل المدينة 478، أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1077، 1085)، تفسير القرطبي (9/ 149، 174)، الطرق الحكمية ص4 فما بعدها. الإثبات بالقرائن 77 وما بعدها، الأضواء (2/ 69).
لأَنَّ رِيحَ الْخَمْرِ قرينةٌ جازمةٌ على أنه شَرِبَ الخمرَ؛ إِذْ لو لم يَشْرَبْهَا لَمَا كانت رِيحُهَا في فِيهِ
(1)
.
قالوا: لأَنَّ اللَّهَ دَلَّ في القصصِ الماضيةِ - بَيْنَ مَا يَدُلُّ - على أن القرائنَ الجازمةَ رُبَّمَا قَامَتْ مقامَ البيناتِ؛ ذلك لأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُوسُفَ لَمَّا بَهَتَتْهُ امرأةُ العزيزِ وَقَالَتْ {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلَاّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: آية 25]، وَاضْطُرَّ نَبِيُّ اللَّهِ يوسفُ إلى الدفاعِ فقال:{قالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} [يوسف: آية 126] وَلَمْ تَكُنْ هناك بينةٌ ولا شيءٌ يُصَدِّقُهُ أو يُصَدِّقُهَا، فجاءَ ذلك الشاهدُ وقال لَهُمْ: هذا أمرٌ يقومُ مقامَ البينةِ، وهي قرينةٌ تُبَيِّنُ الحقيقةَ تَرْكَنُ إليها النفسُ كما تَرْكَنُ لِلْبَيِّنَةِ. قال: انْظُرُوا إلى قميصِ الرجلِ: فَإِنْ كَانَ مَشْقُوقًا مِنْ جِهَةِ وَجْهِهِ فهو يَرْكُضُ على المرأةِ، والمرأةُ تَدْفَعُهُ عن نفسِها، وإن كان القميصُ مَشْقُوقًا من الوراءِ فهو هاربٌ وَهِيَ تَنْتَاشُهُ من وراء.
قال الله: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ} يعني مِنَ الأَمَامِ {فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27)} [يوسف: آية 26،27] وَمَحَلُّ الشاهدِ قولُه: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ} لَمَّا وَجَدُوا القميصَ مَشْقُوقًا مِنْ دُبُرٍ جَزَمُوا بأنها كاذبةٌ وَأَلْزَمُوهَا، وقالوا:{إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: آية 28]، وَاللَّهُ (جل وعلا) ما ذَكَرَ هذه القصةَ في معرضِ الاستحسانِ والتسليمِ مُبرِّئًا بها ساحةَ نَبِيِّهِ يوسفَ إلا أن مِثْلَ هذا يجوزُ أن يُعْتَمَدَ عليه إذا كانت القرائنُ واضحةً بَيِّنَةً لَا تَتْرُكُ فِي الْحَقِّ لَبْسًا
(2)
. وقد أَخَذَهَا العلماءُ بالإجماعِ
(1)
انظر: الأضواء (2/ 69)(3/ 70).
(2)
انظر: القرطبي (9/ 150)، الأضواء (3/ 69).
في بعضِ الأفرادِ. أجمعَ العلماءُ في أقطارِ الأرضِ أن الرجلَ يتزوجُ المرأةَ ولم يَرَ وَجْهَهَا قَطُّ ولم يَعْرِفْهَا، وإنما يسمعُ أن عندَ فلانٍ ابنةً فَيَخْطِبُهَا، ويتزوجُها من غيرِ أن يَرَاهَا. ثم إِنَّهَا وقتَ الزفافِ تَزُفُّهَا إليه ولائدُ وإماءٌ لَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِنَّ حقيرٌ ولا جليلٌ، فقد أجمعَ العلماءُ على أن لَهُ بِأَنْ يُجَامِعَهَا، وليس عليه أن يتوقفَ حتى تقومَ بينةٌ عدولٌ تشهدُ أن هذه عينُ فلانة ابنةِ فلانٍ التي وَقَعَ عليها العقدُ؛ لأن قرينةَ العقدِ ودَفْعَ الصداقِ والتهيؤَ للزفافِ قرائنُ قامت مقامَ البينةِ في هذا الموضوعِ
(1)
.
وَالرَّجُلُ ينزلُ عِنْدَ القومِ فيأتيه الولدُ والجاريةُ بطعامِ القومِ، والطعامُ مالٌ معصومٌ محترمٌ، وليس عليه أن يَتَثَبَّتَ حتى تقومَ بَيِّنَةٌ على أَنَّهُمْ أَذِنُوا له في الأَكْلِ؛ لأَنَّ القرينةَ تقومُ مقامَ ذلك
(2)
.
وقد أَخَذَ علماءُ المالكيةِ وغيرُهم من قصةِ يعقوبَ وأولادِه أن القرينةَ تَبْطُلُهَا قرينةٌ أَقْوَى منها
(3)
. وهو أَخْذٌ صحيحٌ من كتابِ اللَّهِ، ذلك أن أولادَ يعقوبَ لَمَّا أَرَادُوا أن يَجْعَلُوا يوسفَ في غيابةِ الْجُبِّ ذَبَحُوا سخلةً، وَلَطَّخُوا قميصَه بدمِ السخلةِ؛ ليكونَ الدمُ قرينةً لهم على صِدْقِهِمْ بأن يوسفَ أَكَلَهُ الذئبُ، وَنَسُوا أَنْ يَشُقُّوا القميصَ!! فلما جَاؤُوا بالليلِ إلى يعقوبَ بالقميصِ عليه الدمُ تَأَمَّلَ فِي القميصِ، فإذا هو ليس فيه شَقٌّ وهو صحيحٌ سَلِيمٌ، فقال: سبحانَ اللَّهِ!! مَتَى كانَ الذئبُ حَلِيمًا كَيِّسًا؟ يقتلُ يوسفَ ولا يَشُقُّ قميصَه؟! فَجَزَمَ بأنهم
(1)
انظر: قواعد الأحكام (2/ 136 - 139)، الأضواء (2/ 69)، (3/ 70).
(2)
انظر: الأضواء (2/ 69)، (3/ 70).
(3)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1077)، القرطبي (9/ 149)، الأضواء (2/ 69)(3/ 70).
كاذبونَ. كما نَصَّ اللَّهُ عنه في قولِه: {وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: آية 18]، وَحَكَى غيرُ واحدٍ إجماعَ العلماءِ
(1)
على أن مستندَ يعقوبَ في قولِه: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} أنه عدمُ شَقِّ القميصِ، وَتَيَقَّنَ أَنَّ الذئبَ لو كَانَ أَكَلَهُ لَا بُدَّ أَنْ يكونَ في القميصِ شَقٌّ مِنْ نَابِهِ أَوْ ظُفْرِهِ، كما هو مَعْرُوفٌ.
وكذلك أخذَ المالكيةُ ضمانَ الغُرْمِ من قولِه في قصةِ يوسفَ وإخوتِه: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوف: آية 72]
(2)
.
وأخذ بعضُ الشافعيةِ - مع أنهم يقولونَ: إِنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا ليسَ شَرْعًا لَنَا - أَخَذُوا ضمانَ الوجهِ المعروفِ في الاصطلاحِ بـ (الكفالةِ) مِنْ قَوْلِ يعقوبَ لأولادِه: {لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} [يوسف: آية 66]
(3)
.
وَأَخَذَ علماءُ المالكيةِ وغيرُهم أن القاضيَ إذا تَوَجَّهَ حُكْمُهُ إلى أحدِ الْخَصْمَيْنِ لا بُدَّ أن يُعْذِرَ إليه بـ: (أَبَقِيَتْ لَكَ حُجَّةٌ)؟ أُخِذَ هذا من قولِه في قصةِ الهدهدِ: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [النمل: آية 21] أي: مَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مدْفَعٌ وَعُذْرٌ يَدْفَعُ به عَنْ نَفْسِهِ
(4)
.
(1)
نقله القرطبي (9/ 150) وانظر: الأضواء (3/ 71).
(2)
انظر: أحكام القرآن لابن العربي (3/ 1096)، القرطبي (9/ 233)، الأضواء (2/ 70).
(3)
انظر: القرطبي (9/ 225)، الأضواء (2/ 70).
(4)
انظر: الأضواء (2/ 70).
وَأَخَذَ علماءُ المالكيةِ وغيرُهم أن القاضيَ إذا انْتَهَتِ الآجالُ والتّلَوُّماتُ للخصومِ ينبغي له أن يستظهرَ لِمَنْ تَوَجَّهَ عليه الحكمُ بثلاثةِ أيامٍ، أَخْذًا من قولِه في قصةِ صَالِحٍ:{تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: آية 65]
(1)
.
وَأَخَذَ علماءُ الحنابلةِ جوازَ طولِ مدةِ الإجارةِ من قولِه في مُوسَى وصهرِه شعيبٍ أو غيرِه: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} الآياتِ [القصص: آية 27]
(2)
.
أما الذين قَالُوا: إِنَّ شرعَ مَنْ قبلَنا ليس شَرْعًا لنا - وهو أَصَحُّ الرواياتِ في الأصولِ عن الإمامِ الشافعيِّ - فَتَمَسَّكُوا بظاهرِ قولِه تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة: آية 48]، وَفِي الحديثِ الصحيحِ عن النبيِّ:«إِنَّا مَعَاشِرَ الأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلَاّتٍ، دِينُنَا وَاحِدٌ»
(3)
. وأولادُ الْعَلَاّتِ: هُمْ أولادُ الرجلِ الواحدِ إذا كانت أمهاتُهم شَتَّى مُخْتَلِفَةً. يعني أن العقيدةَ والأصلَ واحدٌ، والفروعُ تختلفُ، أما اختلافُ الفروعِ الذي أَشَارَ إليه النبيُّ بقولِه:(أَوْلَادُ عَلَاّتٍ) وَبَيَّنَهُ اللَّهُ بقولِه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} فهو لَا يُنَافِي
(1)
المصدر السابق.
(2)
انظر: المغني (8/ 10)، حاشية الروض المربع لابن قاسم (5/ 316)، الأضواء (2/ 70).
(3)
البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16]. حديث (3442)، (6/ 477)، ومسلم، كتاب الفضائل، باب: فضائل عيسى عليه السلام، حديث (2365)، (4/ 1837).
ما ذَكَرْنَا؛ لأَنَّ بعضَ الشرائعِ يكونُ فيها نسخٌ لم يكن فيما قَبْلَهَا، وَيُزَادُ في بعضِ الشرائعِ أحكامٌ لَمْ تَكُنْ موجودةً فيما قَبْلَهَا، وبواسطةِ نسخِ بعضِ الأحكامِ السابقةِ، وزيادةِ بعضِ الأحكامِ التي لَمْ تَكُنْ تَخْتَلِفُ الشرائعُ بهذا الاعتبارِ، ويكونُ لِكُلٍّ شَرِيعَةٌ وَمِنْهَاجٌ؛ لأَنَّهَا لم تَتَّحِدْ في كُلِّ شَيْءٍ. وهذا معنَى قولِه:{أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: آية 90]، العائدُ إلى الصلةِ هنا محذوفٌ، والأصلُ: أولئك الذين هَدَاهُمُ اللَّهُ، فَحَذَفَ الضميرَ العائدَ على الصلةِ
(1)
لأنه منصوبٌ بِفِعْلٍ، وإذا كان مَنْصُوبًا بفعلٍ أو وَصْفٍ فَحَذْفُهُ مُطَّرِدٌ، كما هو مَعْرُوفٌ.
{قُل لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: آية 90] قُلْ لهم يَا نَبِيَّ اللَّهِ: {لَاّ أَسْأَلُكُمْ} أَيْ: لَا أطلبُ منكم {عَلَيْهِ} أي: على هذا التبليغِ الذي بَلَّغْتُكُمْ به ما فيه لكم خيرُ الدنيا والآخرةِ، لَا أَطْلُبُ منكم في مقابلتِه جُعْلاً، ولا أجرةً أنتفعُ بها في الدنيا، لَا وَكَلَاّ، إنما أَجْرِي في ذلك على اللَّهِ، وهذه عادةُ كُلِّ الأنبياءِ، يُبَلِّغُونَ العلمَ من غيرِ أن يَأْخُذُوا عليه جُعْلاً {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا} [يس: الآيتان 20، 21] {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: آية 47] وقد ذَكَرَ اللَّهُ قصصَ الأنبياءِ في سورةِ الشعراءِ
(2)
،
قصةَ نُوحٍ وهودٍ وصالحٍ ولوطٍ وشعيبٍ، كُلُّ وَاحِدٍ يَقُولُ:{وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: آية 109] وَذَكَرَ فِي (هودٍ) عَنْ نُوحٍ: {وَيَا قَوْمِ
(1)
انظر: الدر المصون (5/ 31).
(2)
كما في الآيات (109، 127، 145، 164، 180) ..
لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ عَلَى اللَّهِ} [هود: آية 29] وهذه عادةُ الرسلِ يُبَلِّغُونَ وَيَبْذُلُونَ العلمَ والنصائحَ والخيرَ مَجَّانًا من غيرِ عِوَضٍ في ذلك، وهذا معنَى قولِه:{قُل لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} لَا أَطْلُبُ منكم جُعْلاً في مقابلةِ هذا الذي أَتَيْتُكُمْ به، كما قال تعالى:{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [القلم: آية 46] وَاللَّهُ (جل وعلا) مَنَعَ على الأنبياءِ أن يأخذوا جُعْلاً في مقابلةِ التبليغِ؛ لأنهم لو أَخَذُوهُ لكانوا يتهمونهم ويقولونَ: يَأْتِي بهذه الدعوى التي جَاءَ بها لأَجْلِ أَنْ يَأْخُذَ؛ ولئلَاّ تثقل الناس من المغارمِ؛ لأَنَّ النفوسَ مَجْبُولَةٌ على بُغْضِ الْمَغْرَمِ، كما قال:{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ} [القلم: آية 46]، {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: آية 47]، أما قَوْلُهُ:{قُل لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: آية 23] فالتفسيرُ الصحيحُ الذي عليه جمهورُ الْمُفَسِّرِينَ، وأكثرُ علماءِ السلفِ
(1)
: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم له في كُلِّ فَخِذٍ مِنْ قريشٍ قرابةً. ومعنَى الآيةِ: {لَاّ أَسْأَلُكُمْ} على هذا الذي جِئْتُكُمْ به من الفضلِ {أَجْرًا} ، جُعْلاً وَلَا شَيْئًا {إِلَاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} إِلَاّ أَنْ تَوَدُّونِي في قَرَابَتِي منكم، وَتُرَاعُوا فِيَّ حَقَّ القرابةِ، فلَا تُؤْذُونِي. وهذا مضمونٌ للأَسْوَدِ والأَحْمَرِ.
وفي الآيةِ أقوالٌ: مِنْهَا ما رُوِيَ عن جماعةٍ مِنْ آلِ البيتِ، وجماعةٍ من العلماءِ، أن المعنَى: إلا أَنْ تُوَدُّونِي في قَرَابَتِي، فَتُرَاعُونِي فِيهِمْ
(2)
. هذا الوجهُ الآخَرُ في الآيةِ، والأولُ هو المشهورُ، وبقيةُ الأوجهِ ضعيفةٌ. وإذا كان لا يَطْلُبُ أَجْرًا إلا الشيءَ المبذولَ للأَسْوَدِ والأحمرِ من مودةِ كُلِّ قريبٍ لِقَرِيبِهِ تُبَيِّنُ أنه لا يطلبُ أَجْرًا،
(1)
انظر: ابن جرير (25/ 23).
(2)
انظر: القرطبي (16/ 21)، الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي ص258.
كما قال: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ: آية 47]، وهذا معنَى قولِه:{قُل لَاّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَاّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: آية 90]، يعنِي:{إِلَاّ ذِكْرَى} (ذكرى): اسمُ مصدرٍ بمعنَى التذكيرِ، مُؤَنَّثٌ بألفِ التأنيثِ المقصورةِ تَأْنِيثًا لَفْظِيًّا. فما هو إِلَاّ ذِكْرَى. أي: تَذْكِيرٌ وَعِظَةٌ للعالمين، يتذكرونَ ويتعظونَ بما فيه مِنَ الغرائبِ والعجائبِ والمواعظِ، وما كانَ بهذه المثابةِ لَا يَحْسُنُ وَلَا يَجْمُلُ أَنْ يُؤْخَذَ عليه جُعْلٌ أَوْ أَجْرٌ، لَا وَكَلَاّ
(1)
.
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} ذَهَبَتْ جماعةٌ من العلماءِ إلى أن هذه الآيةَ نَزَلَتْ في مالكِ بنِ الصيفِ، وهو حَبْرٌ مِنْ أَحْبَارِ اليهودِ، ذَكَرُوا في قصتِه: أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نَاشَدَهُ: «أَوَجَدْتَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ؟» وأنه قال: نَعَمْ. وأنهم قالوا له: أَنْتَ حَبْرٌ سَمِينٌ!! فَغَضِبَ، وقال:«مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ»
(2)
.
مع أن أَثَرَ: «إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْحَبْرَ السَّمِينَ» لَمْ يَثْبُتْ من طريقٍ صحيحٍ، إلا أن هذا ذَكَرَهُ بعضُ العلماءِ في سببِ نزولِ هذه
الآيةِ.
والذين قالوا هذا قالوا: هذه آيةٌ مدنيةٌ مِنْ سورةٍ مكيةٍ؛ لأَنَّ سورةَ الأنعامِ مكيةٌ نَزَلَتْ قبلَ الهجرةِ
(1)
انظر: القاسمي (6/ 619 - 622).
(2)
أخرجه ابن جرير (11/ 521)، وابن أبي حاتم (4/ 1342)، والواحدي في أسباب النزول ص 220 من طريق سعيد بن جبير مرسلا. وعزاه في الدر (3/ 29) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
وفي سنده - إضافة إلى الإرسال - (يعقوب القمي) و (جعفر بن أبي المغيرة) وكلاهما قال عنه الحافظ في التقريب (ص201، 1088): «صدوق يهم» اهـ.
إلا أن فيها آياتٍ مدنيةً، منهن عندَ بعضِ العلماءِ هذه الآيةُ
(1)
. قالوا: نَزَلَتْ في مالكِ بنِ الصيفِ اليهوديِّ، والتي بَعْدَهَا نَزَلَتْ في مُسَيْلِمَةَ والأسودِ العنسيِّ. أَعْنِي قولَه:{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: آية 93] وَأَنَّ آخِرَهَا: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} [الأنعام: آية 151] أنه مِمَّا نَزَلَ فِي المدينةِ، هكذا قالَ بعضُ العلماءِ.
والمعنَى كما ذَكَرَهُ المفسرونَ: أن هذا اليهوديَّ لَمَّا قال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ من شيءٍ.
وقال قومٌ: هذه المقالةُ لكفارِ مكةَ، والآيةُ مكيةٌ من سورةٍ مكيةٍ
(2)
. وعلى كُلِّ حالٍ فالذين قالوا هذه المقالةَ سواءً قُلْنَا إنه مالكُ بنُ الصيفِ، أو غيرُه من اليهودِ، أو كفارِ مكةَ الذين قالوا: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، هؤلاءِ:{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} يَعْنِي ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ: ما عَظَّمُوا اللَّهَ حَقَّ تعظيمِه، ولا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، حيث نَفَوْا إنزالَ اللَّهِ الكتبَ السماويةَ على الأنبياءِ.
ولطالبِ العلمِ أن يقولَ: إذا نَفَوْا عن الأنبياءِ إنزالَ شيءٍ، فَأَيُّ شيءٍ في هذا من عدمِ تعظيمِ اللَّهِ؟
الجوابُ: أن هذا نَزَّهَ اللَّهُ نفسَه عنه في سورةِ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) وَبَيَّنَ أنه لا يَلِيقُ به؛ لأَنَّ الحكيمَ الخبيرَ خَلَقَ هَذَا الْخَلْقَ، وَأَبْدَعَ هذا الكونَ، كيف يفعلُ هذا إِلَاّ لِحِكَمٍ بَالِغَةٍ؟ وهو أنه يَمْتَحِنُهُمْ وَيُجَازِيهِمْ، ويكلفُهم ويجازيهم. فهذا هو الذي نَزَّهَ اللَّهُ عنه نفسَه؛ إِذْ
(1)
انظر: القاسمي (6/ 624، 627).
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 524)، ابن كثير (2/ 156).
لو كان يخلقُ الخلقَ ولا يُكَلِّفُهُمْ ولَا يُجَازِيهِمْ كَانَ خَلْقُهُ إياهم كأنه مِنَ الْعَبَثِ، وَمَنْ ظَنَّ أن اللَّهَ يفعلُ هذا لَا لِحِكْمَةٍ فَوَيْلٌ لَهُ مِنَ النَّارِ، كما قال تعالى:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: آية 27]{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَاّ بِالْحَقِّ} [الدخان: الآيتان 38، 39] وقال جل وعلا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: آية 115] ثُمَّ نزَّه نفسَه عن هذا - وهو محلُّ الشاهدِ - فقال: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون: آية 116] تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عن أن يخلقَ هذا العالمَ عَبَثًا من غيرِ تكليفٍ ولَا جزاءٍ، لا يكونُ ذلك أبدًا. وَمِنْ هنا لَمَّا قالوا: لَمْ يُنْزِلِ اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، وليست هنالك كُتُبٌ على ضَوْئِهَا التكاليفُ والجزاءُ، بَيَّنَ اللَّهُ أنهم ما قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ، ما عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ، وَلَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، حيث يتركُ هذا العَالَمَ سُدًى عَبَثًا:{أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: آية 36] لَا وَكَلَاّ. ثم قَالَ: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ تُمْنَى} وفي القراءةِ الأُخْرَى: {يُمْنَى}
(1)
{ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: الآيات 36 - 38] فهؤلاء الذين نَفَوْا إنزالَ الكتبِ على الرسلِ وتكليفَ الخلائقِ ومجازاتِهم، هؤلاء ظَنُّوا باللَّهِ أنه خَلَقَ الخلقَ عَبَثًا، ولم يَخْلُقْهُ لِلْحِكَمِ البالغةِ، فما عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ، ولا عَرَفُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ {إِذْ قَالُوا} حِينَ قَالُوا:{مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ} [الأنعام: آية 91] المعروفُ عندَ جماعةِ المفسرين: أن مالكَ بنَ الصيفِ لَمَّا قال: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ} قالوا: إِنَّ قَوْمَهُ قالوا: كيفَ تُنْكِرُ إنزالَ شيءٍ على أحدٍ
(1)
انظر: المبسوط لابن مهران 453 ..
من البشرِ وأنتَ تعلمُ أن التوراةَ أُنْزِلَ على مُوسَى
(1)
؟ يَذْكُرُونَ في قصتِه أنه كانَ حَبْرَهُمْ، وأنهم خَرَّجُوهُ بسببِ هذا، وَوَضَعُوا بعدَه كعبَ بنَ الأشرفِ، أو عبدَ اللَّهِ بْنَ صُورِيَا الأعورَ، كما هو مذكورٌ في التاريخِ.
والعلماءُ في هذا يقولونَ: إن مناظرةَ هذا اليهوديِّ أو غيرِه أنها متطبقةٌ على المناظرةِ الاصطلاحيةِ تَمَامًا؛ لأَنَّ هذا اليهوديَّ قال: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ} فهذه المقدمةُ التي جاء بها هي التي تُسَمَّى في الاصطلاحِ: (كُلِّيَةٌ سَالِبَةٌ). وَلَا شَكَّ أَنَّهُ حَذَفَ مقدمةً أُخْرَى، وأنه يَقْصِدُ: أنتَ يَا مُحَمَّدُ مِنْ جُمْلَةِ البشرِ، والبشرُ جَمِيعُهُمْ - بالعنوانِ الأَعَمِّ الذين أنتَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ - ما أَنْزَلَ اللَّهُ عليهم مِنْ شَيْءٍ. ينتجُ من ذلك: أنتَ لَمْ يُنْزَلْ عليكَ شيءٌ، حيثُ كنتَ داخلاً في جملةِ البشرِ، وحيثُ إن البشرَ بالعنوانِ الأَعَمِّ حُجِبَ عن جميعِهم إنزالُ شيءٍ. ينتظمُ مِنَ الْمُقَدِّمَتَيْنِ: أنتَ لَمْ يُنْزَلْ عليك شَيْءٌ!! وقد تَقَرَّرَ في فنونِ المناظرةِ: أن (السالبةَ الكليةَ) إنما تَنْقُضُهَا (مُوجَبَةٌ جُزْئِيَّةٌ). فَالْخَصْمُ إذا أَرَادَ نقضَ كلامِ خَصْمِهِ؛ إذا كان مَبْنَى كلامِ خَصْمِهِ على (سَالِبَةٍ كُلِّيَّةٍ)؛ إنما يَنْقُضُهَا بـ (مُوْجَبَةٍ جُزْئِيَّةٍ)، كما هو معروفٌ. قالوا: وَلِذَا قال اللَّهُ: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} أَنْتَ قُلْتَ: {مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} مَنْ هو الذي أَنْزَلَ الكتابَ الذي هو التوراةُ على مُوسَى؟! فهذا في قوةِ: مُوسَى بَشَرٌ، وأنتم يا يهودُ تُسَلِّمُونَ بشريةَ مُوسَى، مُوسَى أُنْزِلَ عليه الكتابُ، وهو التوراةُ، فَأَنْتُمْ تُسَلِّمُونَ بَشَرِيَّتَهُ، ونزولَ الكتابِ عليه. ينتجُ:
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 522).
بعضُ البشرِ - وهو مُوسَى - أُنْزِلَ عليه الكتابُ
(1)
.
إلا أَنَّ هذا في الاصطلاحِ يَتَطَرَّقُهُ سُؤَالٌ، قد يكونُ بعضُ الحاضرينَ لا يَفْهَمُهُ؛ لأنه يُقَالُ: هذا اليهوديُّ بَنَى دَلِيلَهُ على (كُلِّيَّةٍ سَالِبَةٍ){مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ} وأن اللَّهَ لَمَّا نَقَضَ عليه، كان النقضُ في قوةِ (مُوْجَبَةٍ جُزْئِيَّةٍ)؛ لأَنَّ معنَى قولِه:{مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام: آية 91] هو في قوةِ: مُوسَى بَشَرٌ، مُوسَى أُنْزِلَ عليه كِتَابٌ. ينتجُ: بعضُ البشرِ أُنْزِلَ عليه كِتَابٌ.
العارفُ باصطلاحاتِ هذه الفنونِ يقولُ: هذا الميزانُ من الشكلِ المعروفِ بـ: (الشكلِ السالبِ) وأهلُه يشترطونَ فيه كُلِّيَّةِ إِحْدَى الْمُقَدِّمَتَيْنِ، وَهُمَا هُنَا: شَخْصِيَّتَانِ.
والجوابُ عن هذا هو: ما هو مُقَرَّرٌ: أن كُلَّ ما تُنتج فيه الكليةُ تُنتج فيه الشخصيةُ؛ لأَنَّ المرادَ أن لَا يَبْقَى شيءٌ مِنْ أَفْرَادِ الموضوعِ الداخلةِ تحتَ العنوانِ، سواء حَصَرَهَا سُورٌ أو حَصَرَهَا مُجَرَّدُ الْوَضْعِ
(2)
. وعلى كُلِّ حَالٍ فَهَذَا اليهوديُّ أو غيرُه قَالَ: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ} فَاللَّهُ أَلْزَمَ اليهودَ، وقال لهم: مَنْ هُوَ الذي أَنْزَلَ الكتابَ عَلَى مُوسَى؟
[9/ب] / وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ ببشريةَ مُوسَى، أنه بَشَرٌ، وَأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عليهِ الكتابَ، يَلْزَمُ مِنْ ذلك أن بعضَ البشرِ أُنْزِلَ عليه الكتابُ. وهو نقضٌ لِمَقَالَتِهِمْ، وَتَكْذِيبٌ لَهُمْ في قولِهم:{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} أي: وهو التوراةُ.
(1)
انظر: آداب البحث والمناظرة (2/ 78 - 80).
(2)
المصدر السابق (2/ 79 - 80).
وقولُه: {نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ} قولُه: {نُورًا وَهُدًى} كِلَاهُمَا حَالٌ. أي: جَاءَ به مُوسَى في حالِ كونِه نُورًا يكشفُ ظلامَ الجهلِ وَالشَّكِّ والشركِ {وَهُدًى} يُهْتَدَى بِهِ مِنَ الضَّلَالِ. الجوابُ: أَنْزَلَهُ اللَّهُ (جل وعلا)، وَاللَّهُ (جل وعلا) لم يَكِلْ هذا إليهم؛ لأنه قَالَ لِنَبِيِّهِ:{قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} [الأنعام: آية 91] قُلْ لَهُمْ يا نَبِيَّ اللَّهِ: أَنْزَلَهُ اللَّهُ. وهو محلُّ الشَّاهِدِ. وإذا كان الجوابُ: أَنْزَلَهُ اللَّهُ على مُوسَى. أَيْ: هذا الكتابُ أَنْزَلَهُ اللَّهُ على مُوسَى، وهو بَشَرٌ، تَبَيَّنَ كَذِبُ مَقَالَتِهِمْ:{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ} وهذا معنَى قولِه: قُلْ لَهُمْ يَا نَبِيَّ اللَّهِ: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ} مَنْ هُوَ الذي أَنْزَلَ الكتابَ {الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى} في حالِ كونِه {نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ} هذا السؤالُ في قولِه: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ} . أمر الله نبيه أن يجيب بقوله: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} {قُلِ اللَّهُ} معناه: قُلْ أَنْزَلَهُ اللَّهُ جل وعلا {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} .
وقولُه جل وعلا: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} فيه قراءتانِ سبعيتانِ
(1)
، قَرَأَهُ أكثرُ السبعةِ:{تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} . وَقَرَأَهُ بعضُ السبعةِ: {يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا} أَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ: {تَجْعَلُونَهُ} فهو خطابٌ لليهودِ
(2)
. وسياقُ الكلامِ يُعَيِّنُ أن الآيةَ نَازِلَةٌ في
اليهودِ لَا في مُشْرِكِي مكةَ، كما قَالَهُ بعضُ العلماءِ. ومعنَى:{يَجْعَلُونَهُ} أي: اليهودُ. أو {تَجْعَلُونَهُ} أَنْتُمْ أَيُّهَا اليهودُ.
(1)
انظر: المبسوط لابن مهران 198.
(2)
انظر: حجة القراءات 261، القرطبي (7/ 37).
وقولُه: {قَرَاطِيسَ} (القراطيس) جمعُ (قِرْطَاسٍ)، و (القرطاسُ): الورقةُ. كما هو معروفٌ؛ لأَنَّ نُسْخَةَ التوراةِ الكبيرةَ كُلَّهَا فيها الحقُّ، فإذا أَرَادُوا التحريفَ أَخَذُوا أوراقًا مُفَرَّقَةً، وَكَتَبُوا فيها أشياءَ متعددةً مِمَّا يريدونَ أن يُحَرِّفُوهُ، وَتَرَكُوا نسخةَ الكتابِ الكبيرةَ غيرَ حاضرةٍ، فإذا أَرَادُوا التحريفَ قالوا: هذا القرطاسُ نَقَلْنَا فيه مِنْ محلِّ التوراةِ فِي المحلِّ الفُلَانِيِّ كذا وكذا، وهذا نَصُّهُ!! وهو مُحَرَّفٌ، وَلَمْ يَأْتُوا بِأَصْلِ الْكِتَابِ؛ لأَنَّهُ لو جَاءَ لَظَهَرَتِ الحقيقةُ فيه. وهذا معنَى:{تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا} أي: القراطيسَ المحرفةَ على أهوائِكم {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} وَجَعْلُهُ بهذه القراطيسِ لِيَسْتَعِينُوا بها عَلَى إخفاءِ ما يُحِبُّونَ وإبداءَ ما يُحِبُّونَ؛ لأنه لو جَاءَتْ نسخةُ الكتابِ كاملةً لَعُرِفَ الحقيقةُ فيه؛ ولذلك يَكْتُبُونَهَا كُتُبًا مُحَرَّفَةً، كما قال:{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} [البقرة: آية 79] وقال: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: آية 78] وهذا معنَى قولِه: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا} محرفةً للناسِ {وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} في النسخةِ الكبيرةِ لَا تُظْهِرُونَهُ. كانوا يُخْفُونَ صفاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فيجدونَه في التوراةِ:(أَبْيَضَ مُشْرَبًا بِحُمْرَةٍ)، فيكتبونَ لونًا غيرَ ذلك. يَجِدُونَ:(رَبْعَةً)، يكتبونَ:(طَوِيلاً مُشَذَّبًا). (جَعْدَ الشَّعَرِ): يكتبونَ: (سَبْطَ الشَّعَرِ) ويغيرونَ الحقائقَ؛ وَلِذَا قال تعالى: {تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} .
ثم قال جل وعلا: {وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} أَظْهَرُ
الأقوالِ فيها: أَنَّ المرادَ بِهِمُ اليهودُ الذين أُنْزِلَ عليهم التوراةُ، أن الله عَلَّمَهُمْ بواسطةِ القرآنِ من غرائبِ ما في التوراةِ وعجائبِه ما كانوا جَاهِلِينَ به؛ لأَنَّ القرآنَ مُهَيْمِنٌ على الكتبِ، وَكَانَتْ أشياءُ غامضةً عليهم لا يَعْرِفُونَهَا، فَبَيَّنَهَا القرآنُ حتى عَرَفُوهَا، وَعَلِمُوا بِوَاسِطَةِ الْقُرْآنِ مِنْ أَسْرَارِ التوراةِ ما لَمْ يكونوا يَعْلَمُونَهُ، كما قال جل وعلا:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: آية 76] وقال اللَّهُ جل وعلا: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: آية 15] إلى غَيْرِ ذلك. وهذا معنَى قولِه: {وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا} أَيْ: وعُلِّمْتُمْ الشيءَ الذي لم تَعْلَمُوهُ أَنْتُمْ وَلَا آباؤكم من قبلُ، عَلَّمَكُمُ اللَّهُ إياه بواسطةِ القرآنِ العظيمِ؛ لأَنَّهُ مهيمنٌ على الكتبِ يُبَيِّنُ مَا فِيهَا، كما قَالَ:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: آية 76] مِمَّا كَانُوا لا يَعْلَمُونَهُ.
ثم قال جل وعلا: {قُلِ اللَّهُ} قولُه: {قُلِ اللَّهُ} جوابٌ للاستفهامِ في قولِه: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} قُلْ لَهُمْ: مَنْ هُوَ الذي أَنْزَلَ الكتابَ الذي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى للناسِ، ثُمَّ أَمَرَهُ بالجوابِ: قُلْ لَهُمْ: أَنْزَلَهُ اللَّهُ (جل وعلا). ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تُفْحِمَهُمْ {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} {ذَرْهُمْ} معناه: اتْرُكْهُمْ.
وَمَعْنَى: {فِي خَوْضِهِمْ} أي: فِي خَوْضِهِمْ في الباطلِ والكفرِ والتكذيبِ بآياتِ اللَّهِ {يَلْعَبُونَ} يتخذونَ ذلك لَعِبًا واستهزاءً.
وهذا الأمرُ قَالَ بعضُ العلماءِ: هِيَ مُتَارَكَةٌ مَنْسُوخَةٌ
(1)
؛ لأَنَّ أهلَ الكتابِ كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مَأْمُورًا بِتَرْكِهِمْ، حيث قال:{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: آية 109] ثُمَّ جَاءَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: آية 29].
{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: آية 92] لَمَّا قَالَ اليهودُ: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ} وأن اللَّهَ (جل وعلا) كَذَّبَهُمْ تَكْذِيبَتَيْنِ: الأُولَى: قولُه: {مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ
مُوسَى} ثم قَالَ في جوابِ هذا الاستفهامِ: {قُلِ اللَّهُ} اللَّهُ أَنْزَلَهُ. وهذا تكذيبٌ صريحٌ لقولِهم: ما أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ من شيءٍ. ثُمَّ كَذَّبَهُمُ التكذيبةَ الأُخْرَى: أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ على محمدٍ صلى الله عليه وسلم أعظمَ كتابٍ، وهو الكتابُ المباركُ، حيث قال:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} وهذا أيضًا كتابٌ آخَرُ غيرُ الذي أُنْزِلَ على مُوسَى، أَنْزَلْنَاهُ عَلَى بَشَرٍ تَكْذِيبًا لِقَوْلِكُمْ:{مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّنْ شَيْءٍ} وصيغةُ الجمعِ في قولِه: {أَنزَلْنَاهُ} للتعظيمِ؛ لأَنَّ مُنْزِلَ هذا الكتابِ عظيمٌ جِدًّا، فَهُوَ جَدِيرٌ بِالتَّعْظِيمِ.
وقولُه: {مُبَارَكٌ} أَيْ: كثيرُ البركاتِ والخيراتِ، فهذا القرآنُ كُلُّهُ بركاتٌ وَخَيْرَاتٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ قال إنه مُبَارَكٌ. والمباركُ: كثيرُ البركاتِ؛ لأَنَّ فيه خيرَ الدنيا والآخرةِ، يعتقدُ الإنسانُ عقائدَه، وَيُحِلُّ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمُ حَرَامَهُ، ويتأدبُ بِآدَابِهِ، ويعتبرُ بأمثالِه وقصصِه،
(1)
انظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس (2/ 321).
فيكونُ على أكملِ حالٍ في الدنيا والآخرةِ. فهو فيه البركاتُ والخيراتُ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ - للعملِ به - (جل وعلا)؛ وَلِذَا بَيَّنَّا مِرَارًا أنه أعظمُ نعمةٍ أَنْزَلَهَا اللَّهُ على خَلْقِهِ؛ وَلِذَا عَلَّمَهُمْ أن يَحْمَدُوهُ على هذه النعمةِ والبركاتِ في هذا القرآنِ العظيمِ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: آية 1] وَبَيَّنَ أن إِيرَاثَهُ علامةُ الاصطفاءِ، وَبَيَّنَ أن ذلك فضلٌ كبيرٌ من اللَّهِ حيث قَالَ في (فاطر):{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} فَبَيَّنَ أن إيراثَ هذا الكتابِ أنه لَا يكونُ إلا لِمَنِ اصْطَفَاهُ اللَّهُ. ثم قال في مَعْرِضِ التنويهِ به: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [فاطر: آية 32] أي: إِيرَاثُنَا الكتابَ إياهم عن نَبِيِّهِمْ هو الفضلُ مِنَ اللَّهِ الكبيرُ عليهم، كما قال هنا إِنَّهُ:{مُبَارَكٌ} .
وقولُه: {مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} مَعْنَاهُ: أن القرآنَ العظيمَ مصدقٌ للكتبِ السماويةِ التي قَبْلَهُ، وتصديقُه لها مِنْ جِهَاتٍ متعددةٍ منها
(1)
: أنه لا يُخَالِفُهَا. أن العلاماتِ التي قَامَتْ عن النبيِّ وعن كتابِه الذي يُنَزَّلُ عليه جاءت كُلُّهَا مُطَابِقَةً، وأن ما تَدْعُو إليه الكتبُ السماويةُ من التوحيدِ وطاعةِ اللَّهِ ومكارمِ الأخلاقِ كذلك جاءَ القرآنُ آمِرًا به. وَمِنْ تَصْدِيقِهِ لِلْكُتُبِ
السماويةِ: أنه يُهَيْمِنُ عليها ويمنعُها من التحريفِ، كُلَّمَا أَرَادُوا أن يُحَرِّفُوا مَنَعَهُمُ القرآنُ، كما قال:{وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: آية 48] وَبَيَّنَ اللَّهُ ذلك في مواضعَ من كتابِه حيث قال: {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: آية 15] وَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: آية 160] قال اليهودُ: لَمْ يُحَرَّمْ عَلَيْنَا إِلَاّ ما كانَ مُحَرَّمًا من الطعامِ على أَبِينَا إِسْرَائِيلَ. وهو
(1)
انظر: القاسمي (2/ 115).
يعقوبُ. فالقرآنُ كَذَّبَهُمْ وَأَلْقَمَهُمُ الحجرَ حيث قَالَ: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَاّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: آية 93]
(1)
. وَالْمُفَسِّرُونَ يقولونَ: إن هذا الذي حَرَّمَ على نفسِه هو لبنُ الإبلِ وَلَحْمُهَا. قالوا: إنه أَصَابَهُ مرضُ (عِرقِ النِّسَا) وأنه نَذَرَ لِلَّهِ إن شَفَاهُ اللَّهُ ليُحَرِّمَنَّ لِلَّهِ أَحَبَّ الطعامِ والشرابِ إليه، وأن ذلك كان جائزًا في شَرْعِهِ، فشفاه اللَّهُ، فَحَرَّمَ لبنَ الإبلِ ولحمَها. هكذا يَقُولُونَ
(2)
. ومحلُّ الشاهدِ قولُه: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: آية 93] فهذا إلقامُ الحجرِ أنهم كاذبونَ على كتابِ اللَّهِ؛ وَلِذَا قال هنا: {مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} .
وقولُه: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} يقولُ بعضُ العلماءِ
(3)
: المُعَلَّلُ محذوفٌ {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} أَنْزَلْنَا إليكَ هذا الكتابَ. وبعضُ العلماءِ يقولُ: هو معطوفٌ على معنَى مَا قَبْلَهُ. والمعنَى: كتابٌ أَنْزَلْنَاهُ إليكَ لأَجْلِ البركاتِ المشتملِ عليها؛ ولتصديقِ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ؛ ولتنذرَ أُمَّ الْقُرَى. وأكثرُ العلماءِ على أن الْمُعَلَّلَ محذوفٌ، والمعنَى: ولتنذرَ أُمَّ القرى أَنْزَلْنَاهُ إليكَ. و (أُمُّ الْقُرَى) هي مكةُ المكرمةُ حَرَسَهَا اللَّهُ. ومعنَى {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} لتنذرَ أَهْلَهَا.
وقولُه: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} يعني: وَمَنْ حَوْلَ أُمِّ الْقُرَى.
(1)
انظر: ابن جرير (7/ 7).
(2)
انظر: ابن جرير (7/ 13 - 15).
(3)
انظر: البحر المحيط (4/ 179).
وبقولِه: {وَمَنْ حَوْلَهَا} تَمَسَّكَ جماعاتٌ من اليهودِ، قالوا: لَمْ يُرْسَلْ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم إِلَاّ إِلَى جزيرةِ الْعَرَبِ؛ لأنه قال لَهُ: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} في مَوْضِعَيْنِ
(1)
.
وقد أَجْمَعَ العلماءُ، وَدَلَّ القرآنُ العظيمُ، وَالسُّنَّةُ الصحيحةُ، وإجماعُ العلماءِ، أن رسالةَ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم شاملةٌ عامةٌ للأَسْوَدِ والأَحْمَرِ
(2)
. وعليه يقولُ السائلُ: ما الجوابُ عن قولِه: {أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} والاقتصارُ على هذا هنا، وفي قولِه:{لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} ؟
للعلماءِ عنه جَوَابَانِ
(3)
:
أحدُهما: أَنَّ {وَمَنْ حَوْلَهَا} صادقٌ بالدنيا كلها؛ لأن الدنيا عِنْدَ اللَّهِ شيءٌ بسيطٌ كأنها نقطةٌ.
وقال بعضُ العلماءِ: غَايَةُ ما في البابِ أن هذه الآيةَ الكريمةَ اقْتَصَرَتْ على إنذارِ أُمِّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا، وَسَكَتَتْ عَمَّا سوى ذلك، وَجَاءَتْ آياتٌ أُخَرُ صَرَّحَتْ في الإنذارِ بالتعميمِ، كقولِه:{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: آية 1]{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: آية 158] وقال جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ} [سبأ: آية 28]
(1)
انظر: المصدر السابق.
(2)
انظر: ابن كثير (2/ 156 - 157)، القاسمي (6/ 629).
(3)
انظر: البحر المحيط (4/ 179)، ابن كثير (2/ 156)، فتح القدير (2/ 139)، القاسمي (6/ 629)، أضواء البيان (7/ 158)، دفع إيهام الاضطراب (مطبوع في آخر الأضواء (9/ 119).
{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: آية 1].
والآيةُ على هذا الوجهِ الأخيرِ الذي ذَكَرْنَا كقولِه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: آية 214] فليس لنا أن نقولَ: ليس مُرْسَلاً إِلَاّ لعشيرتِه الأَقْرَبِينَ؛ لأَنَّ اللَّهَ قال: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} لأَنَّهُ في هذه الآيةِ أَمَرَهُ أن ينذرَ عشيرتَه، وَعَمَّمَ الإنذارَ في آياتٍ أُخَرَ، كذلك في هذه الآيةِ:{لِّتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام: آية 92] وَعَمَّمَ الإنذارَ في آياتٍ أُخَرَ.
ثُمَّ قَالَ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام: آية 92] وفي بعضِ القراءاتِ: {عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}
(1)
.
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} قد بَيَّنَّا مِرَارًا أن معنَى (الآخرةِ) أنها لَا دَارَ بَعْدَهَا يُنْتَقَلُ إليها؛ وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ (آخِرَةً). والإنسانُ قَبْلَ أن يصلَ إليها ينتقلُ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ. وقد بَيَّنَّا أن رحلةَ الإنسانِ يجبُ عليه النظرُ فيها؛ لأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ بذلك. وأن مبدأَ رحلةِ الإنسانِ أنه ترابٌ بَلَّهُ اللَّهُ بِمَاءٍ، ثم صارَ طِينًا، ثم ذَكَرَ عن هذا الطينِ أطوارًا صَارَ فِيهَا حَمَأً مَسْنُونًا، ثم يُبِّسَ فصارَ صَلْصَالاً كالفخارِ، ثم إن اللَّهَ بقدرتِه خَلَقَ من هذا الطينِ بَشَرًا سَوِيًّا في غايةِ الجمالِ، اسْمُهُ آدَمُ، ثم خَلَقَ مِنْ ضِلْعِهِ امرأةً، ثم كان بَيْنَ هذا الرجلِ والمرأةِ ما يكونُ بينَ الرجلِ والمرأةِ. فَالطَّوْرُ لنا جَمِيعًا: هو ذلك الترابُ، والطَّورُ الثاني: هو تلك النطفةُ الأمشاجُ من ماءِ الرجلِ وماءِ المرأةِ.
(1)
انظر: البحر المحيط (4/ 180).
والطَّورُ الثالثُ: هو الدمُ الجامدُ الْمُعبَّرُ عنه بـ (العَلَقَةِ)، والطَّورُ الذي بَعْدَ ذلك: هو طَورُ (الْمُضْغَةِ)، وهو استحالةُ الدمِ مضغةً، قطعةَ لَحْمٍ، ليس فيها تَخْطِيطٌ وَلَا تَشْكِيلٌ ولَا رأسٌ ولَا يَدٌ ولَا رِجْلٌ، ثم إن اللَّهَ تبارك وتعالى يُقَلِّبُ تلكَ المضغةَ هيكلَ عِظَامٍ، وَاللَّهُ (جل وعلا) يُرَتِّبُ تلك العظامَ بعضَها ببعضٍ على هذا الأسلوبِ الغريبِ العجيبِ، في غايةٍ من الإحكامِ، ثم إن اللَّهَ (جل وعلا) بعدَ أن يصنعَ هيكلَ العظامِ يَكْسُوهُ اللَّحْمُ، ويجعلُ فيه العروقَ، فَيُفَصِّلُهُ وَيُخَطِّطُهُ، ويفتحُ فيه الْعَيْنَيْنِ، والأنفَ والفمَ والأُذُنَيْنِ، ويجعلُ فيه الأعضاءَ، ويضعُ كُلَّ عضوٍ في مَحَلِّهِ، ويضعُ الكبدَ في مَحَلِّهِ، والطحالَ وَالْكُلْيَتَيْنِ، إلى غيرِ ذلك، ويجعلُ الإنسانَ على هذا الأسلوبِ الغريبِ العجيبِ الهائلِ، الذي لو شُرِّحَ منه عضوٌ واحدٌ لَحَارَتْ عقولُ العقلاءِ بما أَبْدَعَ اللَّهُ فيه من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه، فليس في بدنِ الواحدِ منا مَوْضِعُ إبرةٍ إلا وَاللَّهُ أَوْدَعَ فيه من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ، وَكُلُّ هذا فَعَلَهُ فينا لم يَشُقَّ أُمَّهَاتِنَا، لَمْ يَشُقَّ طَبَقَةَ بَطْنِهَا السُّفْلَى وَلَا الْوُسْطَى ولا الْعُلْيَا وَلَمْ يَخُطَّهَا، ولم يُبَنِّجْهَا، وَلَمْ يُنَوِّمْهَا في صِحِّيةٍ. يفعلُ في بطنِها هذه الأفعالَ الهائلةَ الغريبةَ العجيبةَ وهي لاهيةٌ تَفْرَحُ وَتَمْرَحُ، لَا تَدْرِي عَنْ شيءٍ من ذلك، بكمالِ قدرتِه وَصُنْعِهِ. وَاللَّهُ يُلْفِتُ أنظارَنا إلى هذا ونحن نُلْفِتُ أنظارَ إخوانِنا إليه دائمًا؛ لأن اللَّهَ يقولُ:{يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: آية 6] يعني: بعدَ النطفةِ علقةً، وبعدَ خلقِ العلقةِ مضغةً، وبعدَ خلقِ المضغةِ عظامًا، إلى آخِرِهِ. وهو يقولُ:{فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} يعنِي: ظلمةَ البطنِ، وظلمةَ الرحمِ، وظلمةَ المشيمةِ التي هي على الولدِ في داخلِ
الرحمِ. لم يَحْتَجْ إلى أن يُزِيحَهَا أو يسلطَ عليها أشعةً كهربائيةً.
الْعِلْمُ وَالْبَصَرُ نافذٌ لهذا الصنعِ الغريبِ العجيبِ في بَطْنِ أُمِّهِ {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: آية 6] وَلِذَا لَمَّا قَالَ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} .
قَالَ: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ} ثُمَّ قَالَ - وهو مَحَلُّ الشَّاهِدِ -: {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: آية 6] أَيْنَ تُصْرَفُونَ؟ أين تذهبُ عقولُكم عن هذه الغرائبِ والعجائبِ التي يَفْعَلُهَا فيكم خالقُ السماواتِ والأرضِ؟ ثم إن اللَّهَ (جل وعلا) يُخْرِجُهُ من بطنِ أُمِّهِ، وَيُسَهِّلُ له طريقَ الخروجَ:{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: آية 20] ويكونُ في هذه المحطةِ التي نَحْنُ فيها، فَكُلُّ ما قَبْلَهَا جَاوَزْنَاهُ، ثم إنه عَنْ قريبٍ ينتقلُ الجميعُ من هذه المحطةِ إلى محطةِ القبورِ، فَيَمْكُثُونَ فيها ما شَاءَ اللَّهُ، ثم يُنَادِي خَالِقُ السماواتِ والأرضِ أَنْ يَرْحَلُوا من القبورِ {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: آية 25] فَيُجِيبُونَ دَاعِيَ اللَّهِ مُهْطِعِينَ إلى الدَّاعِي، فَيَجْمَعُهُمْ في صعيدٍ واحدٍ، صعيدِ الْمَحْشَرِ، يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، ثُمَّ يَمْكُثُونَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثم يتفرقونَ كما قَالَ:{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} [الزلزلة: آية 6] مُتَشَتِّتِينَ مُتَفَرِّقِينَ، وهذه الأشتاتُ في سورةِ الزلزلةِ أَوْضَحَهَا اللَّهُ في سورةِ الرومِ:{يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)} [الروم: الآيات 14 - 16] فَبَعْدَ ذلك يدخلُ أهلُ الجنةِ الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، وعندَ ذلك تُلْقَى عَصَى التَّسْيَارِ، وَيُذْبَحُ الْمَوْتُ، ويقولُ:
يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ
فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ. وهو معنَى قولِه:{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: آية 39].
بهذا تَعْرِفُونَ حقيقةَ معنَى (الآخرةِ)؛ لأَنَّ الأطوارَ قَبْلَهَا كُلَّهَا ينتقلُ من طورٍ إلى طورٍ، بعدَ الترابِ نطفةً، وبعدَ النطفةِ علقةً، وبعدَ الدنيا قبرٌ، وبعدَ القبرِ بَعْثٌ. أَمَّا فِي الآخرةِ فالدارُ التي يَحِلُّهَا الإنسانُ ليسَ بعدَها انتقالٌ آخَرُ إلى شيءٍ، ومن هنا قِيلَ لَهَا (الآخرةُ)؛ لأَنَّهَا ليس بعدَها شيءٌ، والمنزلُ في ذلك إِمَّا غرفة مِنْ غُرَفِ الجنةِ، وإما سِجْنٌ مِنْ سُجُونِ النارِ.
{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ} [الأنعام: آية 92] بهذا القرآنِ العظيمِ. كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ باليومِ الآخِرِ يُؤْمِنُ بهذا القرآنِ العظيمِ، لوضوحِ أَدِلَّتِهِ. أَمَّا الذي لَا يُؤْمِنُ باليومِ الآخِرِ فَهُوَ لَا يخافُ مِنْ عِقَابٍ، وَلَا يَرْجُو ثَوَابًا، فَلَا يُؤْمِنُ بِشَيْءٍ.
ثم خَصَّ الصَّلَاةَ لِعِظَمِ مَكَانَتِهَا
(1)
، قال:{وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} .
نَزَلَتْ هذه الآيةُ الكريمةُ من سورةِ الأنعامِ في مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ،
(1)
انظر: البحر المحيط (4/ 179).
وكذابِ صنعاءَ: الأَسْوَدِ الْعَنْسِيِّ
(1)
، كُلٌّ مِنْهُمَا ادَّعَى أنه نَبِيٌّ كَذِبًا وافتراءً على اللَّهِ،
فَبَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) أنه لَا أحدَ أظلمَ مِمَّنْ يَفْتَرِي الكذبَ على اللَّهِ، أو يَدَّعِي أن اللَّهَ أَوْحَى إليه وهو لَمْ يُوحَ إليه.
وقولُه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} الاستفهامُ إنكاريٌّ. والمعنَى: لَا أحدَ أظلمُ {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} .
وقد بَيَّنَّا في هذه الدروسِ مِرَارًا: أَنَّ مثلَ هذه الآيةِ فيه سؤالٌ معروفٌ؛ لأَنَّ مَعْنَى: {وَمَنْ أَظْلَمُ} {فَمَنْ أَظْلَمُ} معناهُ: لَا أحدَ أظلمُ. وإذا كانَ المعنَى في قولِه هنا: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى} لَا أحدَ أظلمُ مِمَّنِ افْتَرَى على اللَّهِ كَذِبًا. فَإِنَّ هَذَا تُشْكِلُ عليه آيَاتٌ أُخَرُ كقولِه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [البقرة: آية 114]{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا} [الكهف: آية 57] إِذْ يَصِيرُ الْمَعْنَى: لَا أحدَ أظلمُ مِمَّنِ افْتَرَى، لَا أَحَدَ أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ اللَّهِ، لَا أحدَ أظلمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّهِ فأعرضَ عنها. فَيَنْشَأُ من هذا سؤالٌ، فيقولُ طالبُ العلمِ: كيفَ يقولُ: لَا أحدَ أظلمُ من هذا، ثُمَّ يقولُ في موضعٍ
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 533)، أسباب النزول للواحدي 220، الدر المنثور (3/ 30). قال ابن عاشور تعقيبا على هذا القول:«وهذا يقتضي أن يكون مسيلمة قد ادعى النبوة قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ لأن السورة مكية. والصواب: أن مسيلمة لم يدَّع النبوة إلا بعد أن وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في قومه - بني حنيفة - بالمدينة سنة تسع طامعا في أن يجعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر بعده، فلمَّا رجع خائبا ادعى النبوة في قومه. وفي تفسير ابن عطية أن المراد بهذه الآية مع مسيلمة الأسود العنسى المتنبئ بصنعاء. وهذا لم يقله غير ابن عطية، وإنما ذكر الطبري الأسود تنظيرا مع مسيلمة. فإن الأسود العنسى ما ادعى النبوة إلا في آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم» اهـ التحرير والتنوير (7/ 375).
آخَرَ: لا أحدَ أظلمُ من هذا، في شَيْءٍ آخَرَ؟
وللعلماءِ عن هذا السؤالِ أجوبةٌ معروفةٌ
(1)
، أشهرُها اثنانِ، فيهما الكفايةُ:
أَحَدُهُمَا: أنه لَا معارضةَ أَلْبَتَّةَ بَيْنَ الآياتِ، وأن هؤلاء المذكورينَ لا يوجدُ أحدٌ أظلمُ منهم، وهم مُتَسَاوُونَ في مرتبةِ الظلمِ، فَلَا يكونُ هنالكَ تعارضٌ، كما لو قُلْتَ: لَا أَحَدَ أعلمُ في هذا البلدِ مِنْ زَيْدٍ، ولا أحدَ أعلمُ فيه من عمرٍو. فيكونُ زيدٌ وعمرٌو مُسْتَوِيَيْنِ في العلمِ، ولا يَفُوقُهُمَا أحدٌ فيه، فيكونُ كِلَا الْمَقَالَيْنِ حَقًّا.
الوجهُ الثاني: أن هذه المواضعَ تتخصصُ بِصِلَاتِهَا. ومعنَى (تتخصصُ بِصِلَاتِهَا): أَنَّ كُلَّ واحدٍ منها تُفَسِّرُهُ صلةُ مِوْصُولِهِ، فيكونُ المعنَى هنا: لَا أحدَ مِنَ الْمُفْتَرِينَ أظلمُ مِمَّنِ افْتَرَى على اللَّهِ كَذِبًا، ولا أحدَ مِنَ الْمَانِعِينَ أظلمُ مِمَّنْ مَنَعَ مساجدَ اللَّهِ، ولَا أحدَ مِنَ الْمُعْرِضِينَ أظلمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عنها إلى آخِرِهِ.
وقولُه: {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} افتراءُ الكذبِ: اختلاقُه. والكذبُ في أَصَحِّ مَعَانِيهِ: هو عدمُ مطابقةِ الخبرِ للواقعِ
(2)
، فالكفارُ كَذَّابُونَ، خَبَرُهُمْ لَا يُطَابِقُ الْوَاقِعَ، وإن ظَنُّوا في نفسِ الأمرِ أنه خيرٌ وَسَدَادٌ، كما قال جل وعلا:{إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: آية 30] وقال جل وعلا: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
(1)
انظر: البحر المحيط لأبي حيان (1/ 357، 415)، البرهان للزركشي (4/ 74 - 75)، أضواء البيان (4/ 143 - 144)، دفع إيهام الاضطراب (ملحق في آخر الأضواء 9/ 25)، قواعد التفسير (2/ 528).
(2)
انظر: التعريفات للجرجاني 234.
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)} [الكهف: آية 103، 104] فقولُه: {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} كَمَنِ ادَّعَى لِلَّهِ الشركاءَ، أو ادَّعَى له الأولادَ، أو ادَّعَى أنه حَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، أو أَحَلَّ مَا لَمْ يُحَلِّلْهُ، أو قال: أُوحِيَ إِلَيَّ. هذا دَاخِلٌ في افتراءِ الكذبِ، إلا أنه عَطَفَهُ عليه بـ (أو) لأَنَّهُ من أعظمِ أنواعِ الافتراءِ، كأنه لِعِظَمِهِ صارَ قِسْمًا مُقَابِلاً للافتراءِ وهو من أشنعِ أنواعِ الافتراءِ.
{أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ} أي: قَالَ: إن اللَّهَ أَوْحَى إليه، كمسيلمةَ الكذابِ (رَحْمَنِ الْيَمَامَةِ)، وكالأسودِ العنسيِّ (صاحبِ صنعاءَ)، وَيَدْخُلُ في حُكْمِهْمْ غيرُهم من الْمُتَنَبِّئِينَ، حيثُ قال كُلُّ مِنْ هَؤُلَاءِ: إنه أُوحِيَ إِلَيَّ.
وَذَكَرُوا في تاريخِ مسيلمةَ أنه أرسلَ رسولاً إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يُذْكَرُ أنه ابنُ النواحةِ الذي قَتَلَهُ بعد ذلك ابنُ مسعودٍ، أَرْسَلَهُ إليه - بكتابٍ فيه:«مِنْ مسيلمةَ رسولِ اللَّهِ، إلى محمدٍ رسولِ اللَّهِ، إن الأرضَ نِصْفَانِ، نِصْفُهَا لِي، وَنِصْفُهَا لَكَ، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا قومٌ يَعْتَدُونَ» . فأجابَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «مِنْ مُحَمِّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، إِلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»
(1)
.
ومعلومٌ أن ما يَدَّعِي أَنَّهُ قرآنٌ بَالِغٌ من التفاهةِ والسقوطِ مَا لَا يَخْفَى على أَحَدٍ، كقولِه:«والطاحناتِ طحنًا، والعاجناتِ عجنًا، والخابزاتِ خبزًا، فالفارداتِ فردًا، فاللاقماتِ لقمًا» . وغير ذلك من التُّرَّهَاتِ والخرافاتِ.
(1)
انظر: السيرة لابن هشام (4/ 1456 - 1457)، زاد المعاد (3/ 611).
الذين يَدَّعُونَ النبوةَ - كمسيلمةَ والأسودِ العنسيِّ - لا أحدَ أظلمُ منهم، حيث قالوا: إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إليهم - ولم يُوحَ إليهم - ظُلْمًا وَعُدْوَانًا. وهذا معنَى قولِه: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} والحالُ: {وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} .
{وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ} (من) في قولِه: {أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ} هذا كُلُّهُ معطوفٌ على المجرورِ في قولِه: {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ولا أحدَ أظلمُ مِمَّنْ قال: أُوحِيَ إِلَيَّ [وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ]
(1)
، ولا أحدَ أظلمُ مِمَّنْ قَالَ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
وقولُه: {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ} هذه نَزَلَتْ في عبدِ اللَّهِ بنِ سعدِ بنِ سَرْحٍ، على قولِ أكثرِ المفسرين
(2)
. أسلمَ أَوَّلاً، وكانَ مِنْ كُتَّابِ الْوَحْيِ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فِي سورةِ (قد أفلح المؤمنون):{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} [المؤمنون: الآيات 12 - 14] عَجِبَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ سعدِ بنِ أَبِي سرحٍ من تفصيلِ اللَّهِ هذا لخلقِ الإنسانِ فقال: «فَتَبَارَكَ اللَّهُ أحسنُ الخالقين» فقال له النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَكَذَا أُنْزِلَتْ» فَشَكَّ فِي كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنِّي أُوحِيَ إِلَيَّ مثلَ ما أُوحِيَ إليه، إن كان صادقًا فقد أُوحِيَ إلي مثلَ ما أُوحِيَ إليه، وإن كان كَاذِبًا فقد جئتُ بمثلِ ما جاءَ به. وَارْتَدَّ عن الإسلامِ - والعياذُ بالله
(3)
- وهو مِمَّنْ أَمَرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بقتلِهم يومَ فتحِ مكةَ،
(1)
مابين المعقوفين زيادة يقتضيها السياق.
(2)
انظر: المستدرك (3/ 45)، ابن جرير (11/ 533 - 534)، أسباب النزول للواحدي 220، لباب النقول 119، الدر المنثور 3/ 30.
(3)
هذا الخبر بهذا التفصيل لم أقف عليه بسند صحيح. وإنما ورد في بعض الروايات الضعيفة، وعامتها من المراسيل. فالله تعالى أعلم. قال ابن عاشور معقبا على القول بأنها نزلت في عبد الله بن أبي السرح:«وهذا أيضا مما لا ينثلج له الصدر؛ لأن عبد الله بن أبي السرح ارتد بعد الهجرة ولحق بمكة، وهذه السورة مكية» اهـ التحرير والتنوير (7/ 375) ..
وكانَ أَخًا لعثمانَ بنِ عفانَ رضي الله عنه مِنَ الرضاعةِ، فَأَخْفَاهُ عثمانُ عندَه حتى سَكَنَتِ الحركةُ وَاسْتَأْمَنَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لَهْ فَأَمَّنَهُ
(1)
، وحَسُنَ إسلامُه، وكانَ وَالِيًا لعثمانَ على جهةِ مصرَ، وهو الذي فَتَحَ إِفْرِيقِيَّةَ، وقتلَ مَلِكَهَا (جرجير)، والذي تَوَلَّى قتلَه عبدُ اللَّهِ بنُ الزبيرِ كما هو معروفٌ في التاريخِ
(2)
. أَنْزَلَ اللَّهُ فيه عندمَا ارْتَدَّ: {وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ} [الأنعام: آية 93] ونظيرُه قولُ بعضِ الكفارِ: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَاّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ} [الأنفال: آية 31].
ثُمَّ إن اللَّهَ (جل وعلا) لَمَّا بَيَّنَ أنواعَ الكفرةِ الظالمين باجترائِهم على الكذبِ، كادعائِهم لِلَّهِ الأولادَ والشركاءَ، وكقولِ بعضِهم: إِنَّهُ أُوحِيَ إليه، وكقولِ بعضِهم: إنه قادرٌ على أن يُنْزِلَ مثلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ. بَيَّنَ وَعِيدَهُ لهؤلاء الكفرةِ، قال:{وَلَوْ تَرَىَ} يا نَبِيَّ اللَّهِ {إِذِ الظَّالِمُونَ} حِينَ الظالمونَ كالذين يفترونَ على اللَّهِ الكذبَ، ويقولونَ: إنهم أُوحِيَ إليهم. أو يقولونَ: سَنُنْزِلُ مثلَ ما أنزلَ اللَّهُ. لو تَرَى حِينَ الظالمونَ أمثالُ هؤلاءِ حينَ هُمْ: {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} غمراتُ
(1)
سنن أبي داود، كتاب الحدود، باب الحكم فيمن ارتد، حديث (4336، 4337)، (عون المعبود)(12/ 12 - 13)، النسائي في تحريم الدم، باب: توبة المرتد، حديث (4069)(7/ 107)، والحاكم (3/ 45). وانظر: صحيح سنن أبي داود (3/ 823 - 824)، صحيح سنن النسائي (3/ 853).
(2)
انظر: سير أعلام النبلاء (3/ 34، 371).
الموتِ: سكراتُه وشدائدُه وكرباتُه. وأصلُ (الغَمْرَةِ) هي مَا يَغْمُرُ الشيءَ، كالماءِ الذي يغمرُ الواديَ فَيُغَطِّيهِ، كُلُّ ما غَمَرَ شَيْئًا حتى غَطَّاهُ وَسَتَرَهُ
(1)
. المصدرُ من ذلك: (غَمْرًا) والمرادُ بـ (غمراتِ الموتِ): شدائدُه وسكراتُه وكرباتُه، حين هُمْ في سكراتِ الموتِ وشدائدِه وكرباتِه. والحالُ:{وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} بَاسِطُو أيديهم: يعني بَاسِطُوهَا إليهم بالضربِ الوجيعِ، والأَذَى الفظيعِ. والعربُ تُكَنِّي عن السوءِ بـ (بَسْطِ اليدِ)، كقولِه:{لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ} [المائدة: آية 28] وكقولِه: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} [الممتحنة: آية 2] والدليلُ على أن بسطَ الملائكةِ أيديَهم إليهم أنه للأَذَى والضربِ الوجيعِ: آياتٌ جَاءَتْ بِذَلِكَ، كقولِه:{وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: آية 50] فضَرْبُهُمْ هَذَا لِوُجُوهِهِمْ وَأَدْبَارِهِمْ هو الذي بَسَطُوا إليهم أيديَهم بِهِ فِي قولِه: {وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} هذا هو الأظهرُ
(2)
،
خلافًا لِمَنْ قال: إنهم يَمُدُّونَ أيديَهم إليهم ليأخذُوا أنفسَهم وأرواحَهم من أبدانِهم، كما يَمُدُّ الغريمُ يدَه لغريمِه ليأخذَ حَقَّهُ عليه بِشِدَّةٍ وَعُنْفٍ.
وقولُه: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} أَخْرِجُوا أنفسَكم: فيه وجهانِ معروفانِ من التفسيرِ
(3)
:
أحدُهما: أن المعنَى: أَخْرِجُوا أيها المُحتضَرونَ أنفسَكم من
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 538)، القرطبي (7/ 41)، الدر المصون (5/ 41).
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 538 - 539)، القرطبي (7/ 41)، الأضواء (2/ 203) ..
(3)
انظر: القرطبي (7/ 42).
هذه الكرباتِ إن كانت لَكُمْ قُدْرَةٌ. والمعنَى: لَا تَقْدِرُونَ على الخروجِ عَمَّا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يفعلَه فيكم.
القولُ الثاني: أن روحَ الكافرِ إذا عَلِمَتْ بما لها عِنْدَ اللَّهِ من العذابِ الشديدِ تَفَرَّقَتْ فِي جسدِه وَامْتَنَعَتْ مِنَ الخروجِ، فَهُمْ يقولونَ:{أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} قَدِّمُوا أَرْوَاحَكُمْ وَأَخْرِجُوهَا مِنْ أَبْدَانِكُمْ لِنَأْخُذَهَا.
ثم قال: {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} الْهُونُ: هو أَشَدُّ الهوانِ، وهو الذُّلُّ والخزيُ - والعياذُ بِاللَّهِ - وإنما أضافَ العذابَ إلى (الهونِ) لأَنَّهُ عذابٌ موصوفٌ بأن صاحبَه يقعُ عليه أعظمُ الهوانِ وأشدُّه، كَقَوْلِكَ: رَجُلٌ سُوءٌ، وَعَذَابٌ هُونٌ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك
(1)
.
وقولُه: {بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} لأَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أن الذين يفترونَ على اللَّهِ الكذبَ لَا أحدَ أظلمُ منهم في قولِه: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} .
ثم بَيَّنَ أنهم عندَ الاحتضارِ تَتَوَفَّاهُمُ الملائكةُ، ويبسطونَ أيديَهم إليهم بضربِ الوجوهِ والأدبارِ. ثم بَيَّنَ عِلَّةَ ذلك:{بِمَا كُنْتُمْ} في دارِ الدنيا: {تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} كَادِّعَائِكُمْ لَهُ الأولادَ والشركاءَ، وأنه حَرَّمَ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَأَحَلَّ ما لم يُحَلِّلْهُ، وكقولِ بعضِكم إنه أُوحِيَ إليه ولم يُوحَ إليهِ شيءٌ، وكقولِ بعضِ الكفارِ: إنه سَيُنْزِلُ مثلَ ما أنزلَ اللَّهُ. كُلُّ هذا من افتراءِ الكذبِ على اللَّهِ، الذي بَيَّنَ اللَّهُ أنه سببٌ لعذابِه وضربِ الملائكةِ إِيَّاهُ، حيثُ بَيَّنَ العلةَ بقولِه:{بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ} مِنَ افْتِرَاءِ الكذبِ بادعاءِ الأولادِ والشركاءِ، وما
(1)
انظر: الدر المصون (5/ 43).
جَرَى مَجْرَى ذلك: {وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} وَكُنْتُمْ عن آياتِه (جل وعلا) إِذَا تُلِيَتْ عليكم تَسْتَكْبِرُونَ، تتكبرونَ عنها وتأنفونَ مِنَ اتِّبَاعِهَا؛ لأَنَّ قادةَ الكفارِ ورؤساءَهم كانوا إِذَا تُلِيَ عليهم القرآنُ وَدُعُوا إلى الدِّينِ قالوا بِجَهْلِهِمْ: نحنُ الآنَ رؤساءُ مَتْبُوعُونَ، كيف نتنازلُ ونكونُ أتباعًا مأمورينَ مَرْؤُوسِينَ؟ لا يكونُ ذلك!! وَلِذَا أَجْرَى اللَّهُ العادةَ أن مَنْ يُنَاصِبُ الرسلَ بالعداوةِ هو أَشْرَافُ الناسِ والمترفونَ منهم، كما صَرَّحَ اللَّهُ به في آياتٍ من كتابِه:{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [سبأ: آية 34] وفي حديثِ هرقلَ مع أَبِي سفيانَ الثابتِ في الصحيحِ: أن مَلِكَ الرومِ (هرقلَ) لَمَّا سَأَلَ أَبَا سفيانَ: أَأَشْرَافُ الناسِ يَتَّبِعُونَهُ أم ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قالَ: بَلْ ضعفاؤُهم. قال: أولئك أتباعُ الأنبياءِ
(1)
.
أَجْرَى اللَّهُ العادةَ بذلك، وَمِمَّا يوضحُ هذا أن أولَ الأنبياءِ الذين بُعِثُوا إلى الأرضِ بعدَ أن وَقَعَ الكفرُ والإشراكُ بِاللَّهِ: هو نوحٌ (عليه وعلى نبينا الصلاةُ والسلامُ)، كان أتباعُه مِنْ ضُعَفَاءِ قَوْمِهِ؛ وَلِذَا قال له قومُه:{أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: آية 111] وقالوا لَهُ: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَاّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: آية 27] وَآخِرُهُمْ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم. كذلك قَدَّمْنَا في هذه السورةِ الكريمةِ العظيمةِ - سورةِ الأنعامِ - أن رؤساءَ الكفرةِ قالوا له: لَا نُجَالِسُكَ حتى تَطْرُدَ عنا هؤلاء النَّتْنَى، يَعْنُونَ ضعفاءَ المسلمين. وقد مَرَّ معنا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فيهم في قولِه:{وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}
(1)
أخرجه البخاري في بدء الوحي، باب (6)، حديث رقم:(7)، (1/ 31)، ومسلم في الجهاد والسير، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام. حديث رقم:(1773)، (3/ 1393).
[الأنعام: آية 52] وأنه صلى الله عليه وسلم لَمَّا نُهِيَ عَنْ طَرْدِهِمْ كانَ يجلسُ مَعَهُمْ، فإذا كَانَتْ لَهُ الحاجةُ قَامَ عنهم، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: آية 28] حتى صَارُوا يقولونَ: قُومُوا عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لِيُمْكِنَهُ أن يقومَ لحاجتِه. وَلَمَّا أَجْرَى اللَّهُ العادةَ بِأَنَّ أولَ مَنْ يُكَذِّبُ الرسلَ وَيُنَاصِبُهُمْ بالعداوةِ الرؤساءُ المترفونَ قال هُنَا فيهم: {وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} .
لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) في هذه الآياتِ من سورةِ الأنعامِ أنه لا أحدَ أظلمُ مِمَّنِ افْتَرَى على اللَّهِ كَذِبًا، ولا أحدَ أظلمُ مِمَّنِ ادَّعَى الوحيَ كَذِبًا، ولا أحدَ أظلمُ مِمَّنِ ادَّعَى أنه قادرٌ على إنزالِ مثلِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ، وَبَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) أن هؤلاءِ الظالمينَ الذين قالوا هذه المقالاتِ أنهم إذا حَضَرَتْهُمُ الوفاةُ بَسَطَتِ الملائكةُ أيديَهم إليهم بالعذابِ والنكالِ، وقالوا لهم:{أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: آية 93] بَيَّنَ حالتَهم التي يُبْعَثُونَ عليها، وشدةَ ضَعْفِهِمْ وعدمَ قُوَّتِهِمْ التي كانت هي سببَ تمردِهم فِي الدنيا.
وقولُه في هذه الآياتِ: {سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ} يَدْخُلُ في معناه: مَنِ ادَّعَى أنه يُنَظِّمُ للبشريةِ ما يُغْنِيهَا عَنْ نِظَامِ اللَّهِ (جل وعلا) الذي وَضَعَهُ، وَمَنِ اتَّبَعَ هذا - والعياذُ بِاللَّهِ - فَقَدِ اتَّبَعَ أحدًا لَا أظلمَ في الدنيا مِنْهُ - والعياذُ بِاللَّهِ - فالذي يُنْزِلُهُ اللَّهُ لَا يقدرُ أحدٌ على أن ينزلَ مثلَه. وَمَنِ ادَّعَى أنه ينزلُ مثلَه صَرَّحَ اللَّهُ في هذه الآياتِ الكريمةِ أنه لَا أحدَ أَلْبتَّةَ أَظْلَمُ منه.
وبهذا تعلمونَ أن الذين يَتَنَطَّعُونَ وَيَدَّعُونَ أنهم يُنَظِّمُونَ للبشريةِ نظامًا أحسنَ مِمَّا أنزلَ اللَّهُ، أنهم يدخلونَ في هذه الآيةِ، وَأَنَّ الملائكةَ سَتَضْرِبُهُمْ عِنْدَ الموتِ. ستضربُ وجوهَهم وأدبارَهم، وتقولُ لهم:{أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأنعام: آية 93] ومعلومٌ أنه لا تشريعَ إلا للسلطةِ الْعُلْيَا. فالسلطةُ العليا الحاكمةُ على كُلِّ شيءٍ هي التي لَهَا الأَمْرُ وَالنَّهْيُ.
فهؤلاءِ الذين يَتَمَرَّدُونَ على نظامِ السماءِ، ويحاولونَ قَلْبَ الحكمِ السماويِّ لو جاءَ أحدٌ يريدُ أن يَقْلِبَ الحكمَ عليهم ويحكمَ بغيرِ ما شَرَّعُوا لَقَتَلُوهُ شَرَّ قِتْلَةٍ، مع أنهم يتجاهرونَ بأن نظامَ خالقِ السماواتِ والأرضِ الحكيمِ الخبيرِ، الذي نَظَّمَ فيه علاقاتِ الدنيا، وَأَوْضَحَ فيه طُرُقَ الخيرِ في الدنيا والآخرةِ، وَأَتْبَعَ فيه متطلباتِ الروحِ بالتربيةِ والتهذيبِ، ومتطلباتِ الجسمِ على الوجوهِ الشرعيةِ، يقولونَ: إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ، ولَا يُنَظِّمُ الحياةَ، ولا يسايرُ التطورَ الْحَالِيَّ للحياةِ. الذين يقولونَ هذا والذين يَتَّبِعُونَهُمْ، لَا شَكَّ أنهم دَاخِلُونَ في هذا الوعيدِ في قولِه:{وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللَّهُ} . لأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ ما أنزلَه اللَّهُ: وَضْعُ النظامِ البشريِّ الذي يَمْشِي عليه البشرُ لِيُؤَاخِيَ بينهم، وينشرَ بينهم العدالةَ والطمأنينةَ والرخاءَ والمساواةَ في الحقوقِ الشرعيةِ.
قَدْ قَدَّمْنَا في هذه الدروسِ مِرَارًا كثيرةً
(1)
: أَنَّ مَنِ ادَّعَى أن هنالك تَنْظِيمًا ينظمُ الحياةَ البشريةَ في الدنيا مثلَ تنظيمِ اللَّهِ أو أحسنَ من تنظيمِ اللَّهِ، أن هذه الدَّعْوَى كُفْرٌ بَوَاحٌ، لَا يَشُكُّ فيه مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ، والآياتُ المُصَرِّحةُ بذلك بإيضاحٍ كثيرةٌ في القرآنِ العظيمِ
(1)
مضى عند تفسير الآية (57) من هذه السورة.
(1)
، منها: أن الشيطانَ لَمَّا جاءَ تلامذتُه مِنْ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، وجاءهم بوحيِ الشياطين، وقال لهم: سَلُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عن الشاةِ تُصْبِحُ مَيِّتَةً، مَنْ هُوَ الذي قَتَلَهَا؟ فَلَمَّا أَجَابَ وَقَالَ:«اللَّهُ قَتَلَهَا» . أَوْحَى إليهم الشيطانُ أن قالوا: مَا ذَبَحْتُمُوهُ بأيديكم - يَعْنُونَ الْمُذَكَّى - تقولونَ: حَلَالٌ. وما ذَبَحَهُ اللَّهُ بيدِه الكريمةِ - يَعْنُونَ الْمَيْتَةَ - تقولونَ: هُوَ حَرَامٌ؟ فَأَنْتُمْ إِذًا أحسنُ مِنَ اللَّهِ؛ حيث كانت ذبيحتُكم أَحَلَّ من ذبيحتِه
(2)
!! فهذه قضيةٌ اخْتَلَفَ الحقُّ والباطلُ فيها في مضغةِ لحمٍ، شاةٌ مَاتَتْ وَلَمْ تُذَكَّ، فجاء تشريعُ الشيطانِ بأنها: حَلَالٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ هو الذي ذَبَحَهَا، وجاءَ نظامُ الإسلامِ، وتشريعُ السماءِ، على لسانِ سَيِّدِ الخلقِ: أنها حرامٌ؛ لأَنَّهَا لَمْ تُذَكَّ، ولم يُذْكَرْ عليها اسمُ اللَّهِ، فَصَرَّحَ اللَّهُ (جل وعلا) بأن الذين يَتْبَعُونَ قانونَ إبليسَ، ونظامَ الشيطانِ،
وَيُحَلِّلُونَ لحمَ الميتةِ الذي حَرَّمَهُ نظامُ السماءِ، أنهم كفرةٌ مُشْرِكُونَ؛ وَلِذَا قال اللَّهُ جل وعلا:{وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} يعنِي الميتةَ. ثُمَّ قَالَ: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} .
ثُمَّ قَالَ: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} يُجَادِلُوهُمْ بوحيِ الشيطانِ: ما ذَبَحْتُمُوهُ حلالٌ وما ذَبَحَهُ اللَّهُ حرامٌ، فَأَنْتُمْ إِذًا أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ. هذا معنَى قولِه:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} .
ثُمَّ قَالَ - وهو محلُّ الشاهدِ -: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: آية 121] وإن أَطَعْتُمُوهُمْ في نظامِ إبليسَ في تحريمِ تلك اللحمةِ التي حَلَّلَهَا إبليسُ على لسانِ أَتْبَاعِهِ - بِدَعْوَى شبهةِ أنها ذبيحةُ اللَّهِ، وَحَرَّمَهَا اللَّهُ في تشريعِه السماويِّ على لسانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم صَرَّحَ اللَّهُ بأن مَنِ اتَّبَعَ نظامَ إبليسَ وَأَحَلَّ تِلْكَ الميتةَ، وَتَرَكَ نظامَ اللَّهِ الذي هو تحريمُها: أنه مُشْرِكٌ بِاللَّهِ،
(1)
انظر: أضواء البيان (3/ 439).
(2)
انظر: ابن جرير (12/ 78)، ابن كثير (2/ 171).
كما قال: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} لأَنَّ الرَّبَّ هو الذي يُحَلِّلُ وَيُحَرِّمُ، فَمَنِ اتَّبَعْتَ تَحْرِيمَهُ وَتَحْلِيلَهُ فَقَدْ جَعَلْتَهُ رَبَّكَ.
وهذا الشركُ: شركُ طاعةٍ ونظامٍ، وقانونٌ في التحريمِ والتحليلِ، وَسَيُوَبِّخُ اللَّهُ مُرْتَكِبِيهِ يومَ القيامةِ على رؤوسِ الأشهادِ، وَيُبَيِّنُ مصيرَهم الفظيعَ الشنيعَ من النارِ؛ وذلك أَنَّ اللَّهَ يقولُ لِمَنْ كانوا يَتَّبِعُونَ نُظُمَ الشيطانِ وقوانينَه التي شَرَعَهَا على ألسنةِ أوليائِه، تَارِكِينَ نظامَ السماءِ الذي أَنْزَلَهُ خالقُ الخلقِ على لسانِ نَبِيِّهِ، يقولُ اللَّهُ لهم:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَاّ تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: الآية 60] يعني: باتباعِ نظامِه وتشريعِه وقانونِه: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلاًّ كَثِيرًا} والجِبِلُّ الكثيرُ الذي أَضَلَّهُ: هم الذين يَتَّبِعُونَ تَزْيِينَهُ فِي المعاصِي وتشريعِه ونظامِه المخالفِ لتشريعِ السماءِ ونظامِ خالقِ الكونِ: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} لا عقولَ لكم حيث تَتَّبِعُونَ نظامَ إبليسَ، وتتركونَ نظامَ خالقِكم (جل وعلا)، ثُمَّ قال:{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} [يس: الآيات 60 - 65] وَقَالَ اللَّهُ (جل وعلا) عن نَبِيِّهِ إبراهيمَ أنه يقولُ لأَبِيهِ: {يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} يعني بقولِه: {لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ} لا تَتَّبِعْ نظامَه وتشريعَه بالكفرِ والمعاصِي {إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم: آية 44].
وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ (جل وعلا) الذين يُطَاعُونَ في معصيةِ اللَّهِ، سَمَّاهُمْ (شركاءَ) في هذه السورةِ الكريمةِ، سورةِ الأنعامِ، في قولِه جل وعلا:{وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام: آية 137] فَسَمَّاهُمْ (شركاءَ) لَمَّا
أَطَاعُوهُمْ في التحليلِ من قتلِ الأولادِ، وقال جل وعلا:{إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَاّ إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَاّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا} [النساء: آية 117] يعني: مَا يَعْبُدُونَ إِلَاّ شَيْطَانًا مَرِيدًا. وعبادتُهم له هي: اتباعُ تشريعِه، وقد بَيَّنَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم هذا البيانَ لَمَّا سَأَلَهُ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ رضي الله عنه عن قولِه تعالى:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} [التوبة: آية 31] قَالَ عَدِيُّ للنَّبِيِّ: كيفَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا؟ قال: «أَلَمْ يُحِلُّوا لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَيُحَرِّمُوا عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فَاتَّبَعُوهُمْ؟» قال: بَلَى، قال:«بِذَلِكَ اتَّخَذُوهُمْ أَرْبَابًا»
(1)
.
وَقَدْ صَرَّحَ اللَّهُ (جل وعلا) في سورةِ النساءِ أن مَنْ يَدَّعِي الإسلامَ ويزعمُ أنه مؤمنٌ، ثم يريدُ التحاكمَ إلى الطاغوتِ مِنْ تشاريعِ الشيطانِ، أن دَعْوَاهُ للإيمانِ مع ذلك بالغةٌ مِنَ الكذبِ والبطلانِ ما يَسْتَوْجِبُ التعجبَ منها، وذلك في قولِه:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيدًا} [النساء: آية 60].
والآياتُ بمثلِ هذا كثيرةٌ، وعلى كُلِّ حالٍ فَعَلَيْنَا جميعًا نحنُ المسلمينَ أن نعرفَ ونعتقدَ أنه لا تشريعَ إلا لخالقِ السماءِ والأرضِ، فالحلالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، والحرامُ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَالدِّينُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ، والأمرُ أَمْرُ اللَّهِ، والنهيُ نَهْيُ اللَّهِ، وِالْحَسَنُ مَا حَسَّنَهُ اللَّهُ، والقبيحُ مَا قَبَّحَهُ اللَّهُ، وَكُلُّ نِظَامٍ وَتَشْرِيعٍ غَيْرِ تَشْرِيعِ السماءِ وبالٌ وويلٌ على صاحبِه - والعياذُ بِاللَّهِ جل وعلا - وَلِذَا أولئك يدخلونَ في قولِه هنا:{وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [الأنعام: آية 93].
(1)
مضى عند تفسير الآية (57) من سورة الأنعام.
وقد بَيَّنَ (جل وعلا) في هذه الآيةِ الكريمةِ، أن أولئك الْمُسْتَكْبِرِينَ في دارِ الدنيا، الذين يستكبرونَ عَنْ آياتِه، الذين كان لَهُمْ في الدنيا خَدَمٌ وَحَشَمٌ وَأَتْبَاعٌ، وَأُبَّهَةٌ، أنهم يومَ القيامةِ يُبْعَثُونَ وَيُعْرَضُونَ إلى رَبِّهِمْ لَا أَتْبَاعَ لَهُمْ، ولَا حَشَمَ وَلَا خَدَمَ حتى وَلَا نِعَالَ وَلَا ثِيَابَ، كُلُّ وَاحِدٍ بِمُفْرَدِهِ:{يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: آية 111]{كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: آية 94] لأَنَّ الإنسانَ يَخْرُجُ مِنْ بطنِ أُمِّهِ وحيدًا فريدًا، لَا مالَ لهُ حَافِيًا عَارِيًا لَا نِعَالَ لَهُ وَلَا لِبَاسَ، غَيْرُ مَخْتُونٍ، لَا خدمَ لَهُ، ولَا حَشَمَ، كذلك يخرجُ مِنْ قَبْرِهِ وحيدًا فريدًا متجردًا مِنَ الأُبَّهَةِ التي كَانَ فِيهَا، ليس معَه خادمٌ، ولا وزيرٌ، ولا مالٌ، ولا نعلٌ، ولا لباسٌ، يُحْشَرُونَ يومَ القيامةِ حفاةً عُراةً غُرْلاً. أي: غَيْرَ مَخْتُونِينَ؛ وَلِذَا يقولُ اللَّهُ لِلَّذِينَ يستكبرونَ ويكفرونَ - كانوا يَجْمَعُونَ في دارِ الدنيا بَيْنَ أَمْرَيْنِ: التكبرُ، والتعاظمُ، وعدمُ الإذعانِ لآياتِ اللَّهِ والإيمانِ به، ويزعمونَ أن الأصنامَ التي يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنَّهَا تشفعُ لهم يومَ القيامةِ، وَتُنَجِّيهِمْ من كرباتِ يومِ القيامةِ، فَوَبَّخَهُمُ اللَّهُ هذا التوبيخَ العظيمَ - قال:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا} هُوَ مَجِيئُهُمْ يومَ القيامةِ مَحْشُورِينَ مَعْرُوضِينَ على خَالِقِهِمْ (جل وعلا){فُرَادَى} الفُرَادَى: جَمْعُ فَرْدٍ أو فَرَدٍ. خلافًا لِمَنْ قال: إِنَّ وَاحِدَهُ (الفَرْدَان) كالسكرانِ والسكارى. وَوَاحِدُهُ في الحقيقةِ: الفَرْدُ والفَرَدُ، وتقولُ: هو فَرْدٌ وفَرَدٌ، إذا كان واحدًا
(1)
. وَرُبَّمَا قيل فيه: فَرِدٌ، وَيُرْوَى بهما معًا قولُ نابغةِ ذبيانَ
(2)
:
(1)
انظر: الأضواء (2/ 204).
(2)
مضى عند تفسير الآية (71) من سورة البقرة.
كَأَنَّ رَحْلِي وقَدْ زَالَ النَّهارُ بِنَا بِذِي الْجَلِيلِ عَلَى مُسْتَأْنَسٍ وَحَدِ
مِنْ وَحْشِ وَجْرَةَ مَوْشِيٌّ أَكَارِعُهُ طَاوِي الْمُصَيْرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الْفَرَدِ
وَيُرْوَى: الفَرِدِ
(1)
، وَالْفَرَدُ: هو الوحيدُ الذي لا شيءَ مَعَهُ، {جِئْتُمُونَا فُرَادَى} كُلُّ وَاحِدٍ منكم فَرْدًا بمفردِه، ليس مَعَهُ مالٌ، ولا ولدٌ، ولَا حشمٌ، ولَا خَدَمٌ، حتى إنه حَافٍ عَارٍ لَيْسَ بِمَخْتُونٍ
(2)
. وهذا معنَى: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} .
وفي إعرابِ (الكافِ) من (كَمَا خَلَقْنَا) وجهانِ مِنَ الإِعْرَابِ
(3)
:
أحدُهما: أنه في مَحَلِّ نصبٍ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ. والمعنَى: جِئْتُمُونَا مجيئًا مُشَابِهًا لِخَلْقِنَا لكم أَوَّلاً في التجردِ عن المالِ والأعوانِ والحشمِ والخدمِ.
الثاني: أنه في مَحَلِّ الحالِ. أي: جِئْتُمُونَا فُرَادَى في حالِ كونِكم مُشَابِهِينَ حالتَكم الأُولَى التي وُلِدْتُمْ عليها؛ لأَنَّ الواحدَ منكم يخرجُ من بطنِ أُمِّهِ فَرْدًا لَا مالَ له، ولا ولدَ، ولا حشمَ ولا خدمَ. وهذا معنَى:{كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} .
{وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} العربُ تقولُ: «خَوَّلَهُ» إذا أَعْطَاهُ وَأَنْعَمَ عليه، {مَّا خَوَّلْنَاكُمْ}: أَيْ: ما أَعْطَيْنَاكُمْ، وَأَنْعَمْنَا عليكم بِهِ مِنَ المالِ والخَوَلِ والخدمِ تَرَكْتُمُوهُ وراءَكم، أي: خَلْفَكُمْ، حيث مُتُّمْ عنه ولم يَأْتِ مَعَكُمْ.
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 543 - 544)، المفردات (مادة: فرد) 629، القرطبي (7/ 42)، الدر المصون (5/ 44 - 45).
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 543)، البحر المحيط (4/ 182)، القرطبي (7/ 42 - 43)، الأضواء (2/ 204).
(3)
انظر: البحر المحيط (4/ 182)، الدر المصون (5/ 45).
ثُمَّ قَالَ: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} الشفعاءُ الذين كُنْتُمْ تزعمونَ أنهم شركاءُ لنا فيكم، وَأَنَّ نصيبًا لهم مِنْ حُقُوقِنَا، وتعبدونَهم معنا، وتزعمونَ أنهم يشفعونَ لكم، ما نَرَاهُمْ معكم. وهذا توبيخٌ لهم - والعياذُ بِاللَّهِ - كما قال تعالى:{وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: آية 18].
وقولُه: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} فيه قِرَاءَتَانِ
(1)
: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} ، {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنُكُمْ} فَعَلَى قراءةِ:{لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنُكُمْ} فـ (البَيْنُ) من الأضدادِ يُطْلَقُ على البُعْدِ وعلى الوصلِ. والمعنَى: تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ، والوصالاتُ: الاتصالاتُ التي كانت بينَكم، كما قال تعالى:{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة: آية 166]، الوصلاتُ التي كانت بينَهم في الدنيا تَنْقَطِعُ يومَ القيامةِ، كما قَالَ اللَّهُ في سورةِ العنكبوتِ:{مَوَدَّةً بَيْنَكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وفي القراءةِ الأُخْرَى: {مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُم بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُم بَعْضًا} [العنكبوت: آية 25]
(2)
. وعلى قراءةِ: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} فبعضُ العلماءِ يقولُ: فاعلُ الفعلِ هو المصدرُ (لَقَدْ تَقَطَّعَ هُوَ) أي: التقطعُ، أي: وَقَعَ التقطعُ بينَكم، وبعضُ العلماءِ يقولُ: أَصْلُهُ (لقد تقطع ما بينَكم)، وهو في بعضِ القراءاتِ الشاذةِ
(3)
.
(1)
انظر: المبسوط لابن مهران 199.
(2)
انظر: المبسوط لابن مهران ص344. وفي الآية قراءات أخرى غير ما ذُكر.
(3)
انظر: حجة القراءات 261 - 262، ابن جرير (11/ 549)، القرطبي (7/ 43)، البحر المحيط (4/ 172)، الدر المصون (5/ 48).
ومعنَى القراءتين واحدٌ
(1)
؛ ذلك لأَنَّ الْعَابِدِينَ والمعبودين يومَ القيامةِ يَتَعَادَوْنَ غايةَ المعاداةِ
(2)
،
كما قال الله جل وعلا: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)} [مريم: الآيتان 81، 82] وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)} [الأحقاف: الآيتان 5، 6] وهذا هو معنَى قولِه هنا: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُم مَّا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} .
قد بَيَّنَّا مِرَارًا
(3)
أن (الضلالَ) في القرآنِ وفي لغةِ العربِ يُطْلَقُ على معانٍ متعددةٍ، منها: يُطْلَقُ الضلالُ على (الغَيْبُوبَةِ والاضمحلالِ)، كما هنا. فَكُلُّ ما غَابَ واضمحلَّ تقولُ العربُ فيه:(ضَلَّ). ومنه قولُه هنا: {وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} أي: غابَ واضمحلَّ، ولم يُوجَدْ معكم، كما قال:{وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: آية 10] يَعْنُونَ: أن الأرضَ أَكَلَتْ عظامَهم فَاخْتَلَطَتْ بها، فَذَهَبَتْ بها، وَاضْمَحَلَّتْ فيها، كما تقولُ العربُ: ضَلَّ السَّمْنُ في الطعامِ. وهو معنًى مشهورٌ فِي كلامِ العربِ، ومنه قولُ الأَخْطَلِ
(4)
:
كُنْتَ الْقَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبدٍ
…
قَذَفَ الأَتِيُّ بِهِ فَضَلَّ ضَلَالَا
أَيْ غَابَ وَاضْمَحَلَّ، وهذا معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنهُ تقولُ
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 549)، القرطبي (7/ 43).
(2)
انظر: الأضواء (2/ 204) ..
(3)
مضى عند تفسير الآية (39) من سورة الأنعام.
(4)
مضى عند تفسير الآية (39) من هذه السورة.
العربُ للدفنِ إِضْلَالاً، تقولُ: أَضَلُّوهُ إِذَا دَفَنُوهُ، ومنه قولُ الشاعرِ
(1)
:
وَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ
…
وَغُودِرَ بِالْجَوْلَانِ حَزْمٌ وَنَائِلُ
وقولُه: {وَضَلَّ عَنْكُمْ} أي: غَابَ، وَذَهَبَ وَاضْمَحَلَّ عَنْكُمْ، مَا كُنْتُمْ تفترونَه من أن هذه الأصنامَ أنها تشفعُ لكم، وتنقذُكم من كرباتِ يومِ القيامةِ. وهذا توبيخٌ من اللَّهِ (جل وعلا)، وهذا التوبيخُ وَبَّخَهُمُ اللَّهُ بمثلِه في سورةِ الكهفِ، وَزَادَ توبيخَهم بأنهم كانوا يُنْكِرُونَ هذا البعثَ، كما قال:{لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا} [الكهف: آية 48].
ثم بَيَّنَ أنه إِذَا جَمَعَهُمْ فُرَادَى يَجِدُونَهُ مَحْصِيًّا عليهم جميعَ أعمالِهم، كما قال بعدَه:{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: آية 49] فالناسُ يومَ القيامةِ يُحْشَرُ كُلُّ وَاحِدٍ منهم بمفردِه، لا مالَ معه، ولَا خدمَ، ولَا حشمَ، والدليلُ على أَنَّ (الفُرَادَى) وَاحِدُهُ فَرْدٌ أو فَرَدٌ: قولُه في سورةِ مريمَ: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم: آية 95]، دَلَّ ذلك على أنه وَاحِدُ قولِهِ هنا:{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} ، والعربُ تقولُ: تَرَكْتُ هذا وراءَ ظَهْرِي. يعني: خَلْفِي. أي: تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْنَاكُمْ خَلْفَكُمْ، أي: وراءَ ظهورِكم حيث ارْتَحَلْتُمْ عنه في الدنيا، فَعَلَى الإنسانِ أن لا يتركَ - أَعْنِي خلفَ ظهرِه - ما خَوَّلَهُ اللَّهُ، وأن ما أعطاهُ اللَّهُ يقدمُه لآخِرَتِهِ بِصَرْفِهِ فِي وُجُوهِ
الخيرِ، والاستعانةِ بِهِ على ما يُرْضِي اللَّهَ جل وعلا.
(1)
السابق.
يقول اللَّهُ جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)} [الأنعام: الآيتان 95، 96].
بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) في هذه الآياتِ عجائبَ صُنْعِهِ الدالةَ على أنه المعبودُ وَحْدَهُ، القادرُ على كُلِّ شَيْءٍ. وهذه مع أنها آياتٌ، فهي نِعَمٌ عِظَامٌ، فهو يُذَكِّرُ الخلقَ بنعمِه العِظَامِ، وآياتِه العظامِ.
وقولُه: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} [الأنعام: آية 95] الفَلْقُ في لغةِ العربِ معناهُ: الشّقُّ
(1)
. وفي هذه الآيةِ ثلاثةُ أَوْجُهٍ معروفة من التفسيرِ
(2)
:
أَشْهَرُهَا وعليه الجمهورُ، وهو ظاهرُ القرآنِ العظيمِ الذي دَلَّ عليه بعضُ القرائنِ أن معنَى قولِه:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} إن اللَّهَ (جل وعلا) فَالِقُ الْحَبِّ، يفلقُ حَبَّ القمحِ - مثلاً - إذا بُذِرَ في الأرضِ يفلقُه ويشقُّه عن سنبلةٍ فيها مئاتُ الْحَبِّ، ويفلقُ النواةَ.
(1)
انظر: المفردات (مادة: فلق) 645، الدر المصون (5/ 56).
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 550)، القرطبي (7/ 44)، البحر المحيط (4/ 184).
{وَالنَّوَى} جمعُ نواةٍ، وقيل: هو اسمُ جمعٍ
(1)
للنواةِ
(2)
، كَنَوَى التمرِ وغيرِه، فَكُلُّ ثَمَرٍ في داخلِه عجمٌ يُسَمَّى: نَوًى.
فإن الإنسانَ يَبْذُرُ النواةَ فِي الأرضِ - نواةَ النخلةِ مثلاً، وهي صلبةٌ قاسيةٌ - فيشقُّها اللَّهُ، وَيُخْرِجُ منها هذه النخلةَ، هذه الشجرةَ العظيمةَ، ذاتَ الخوصِ، وذاتَ العيدانِ، وَيُنْبِتُ من تلك النخلةِ تَمْرًا أيضًا، فالذي يشقُّ الحبةَ إذا بُذِرَتْ في الأرضِ، ويُخْرِجُ منها سنبلةً، ويشقُّ النواةَ، وَيُخْرِجُ منها نخلةً، أو شجرةً أخرى - إذا كانت نواةً غيرَ نواةِ النخلِ - مَنْ يفعلُ هذه الأفعالَ التي تشاهدونَها فهو العظيمُ القادرُ على كُلِّ شَيْءٍ، وهو الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه (جل وعلا)، فَعَلَى هذا الوجهِ الذي عليه جمهورُ المفسرين يُذَكِّرُنَا اللَّهُ بعظمتِه، وكمالِ قدرتِه، حيث يُنْبِتُ السنبلةَ من الحبةِ، والنخلةَ من النواةِ، فَمَنْ يفعلُ هذا فهو عظيمٌ قادرٌ على كُلِّ شيءٍ، وكأنه يشيرُ إلى أن ذلك السنبلَ الذي يُفْلَقُ عنه الْحَبَّةُ هو معيشتُنا التي لا نَسْتَغْنِي عنها، فكما أنه من باهرِ آياتِه فهو من نِعَمِهِ العُظْمَى علينا، وقد أَوْجَبَ اللَّهُ على كُلِّ إنسانٍ مِنَّا أن ينظرَ في هذا؛ لأَنَّ اللَّهَ قال بصيغةِ أَمْرٍ تقتضي الوجوبَ، في سورةِ عبسَ قال:{فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: آية 24] فأوجبَ على الإنسانِ بصيغةِ الأمرِ النظرَ إلى طعامِه، ومعناه: كأنه يقولُ: أيها الإنسانُ انْظُرْ إلى طعامِك، انْظُرْ إلى الخبزِ الذي تأكلُه، مَنْ هو الذي خَلَقَ الماءَ الذي أَنْبَتَهُ اللَّهُ بسببِه؟ أَيَقْدِرُ أحدٌ غيرُه على أن يخلقَ الماءَ؟! لَا، هَبْ أن الماءَ خُلِقَ، مَنْ يَقْدِرُ على إنزالِه على هذا
(1)
في عمدة الحفاظ (599) والدر المصون (5/ 57): (اسم جنس).
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 550)، القرطبي (7/ 44)، الدر المصون (5/ 57)، عمدة الحفاظ (مادة: نوى) 599.
الأسلوبِ العجيبِ رشاشا يَسْقِي الأرضَ من غيرِ أن يَضُرَّ بأحدٍ، لا يقدرُ على هذا إلا اللَّهُ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ} يعني المطرَ {يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [النور: آية 43] مِنْ فُتُوقِ السحابِ ومخارجِه رشاشًا؛ لأنه لو نَزَلَ مُجْتَمِعًا لأَهْلَكَ ما سَقَطَ عليه.
هَبْ أن الماءَ خُلِقَ، وأنه أُنْزِلَ إلى الأرضِ على هذا الأسلوبِ الغريبِ العجيبِ حتى شَرِبَتِ الأرضُ وَرَوِيَتْ، مَنْ هو الذي يقدرُ على شَقِّ الحبةِ عن السنبلةِ أَوَّلاً، ثم على شَقِّ الأرضِ وإخراجِ مسمارِ النباتِ منها؟ هَبْ أن مسمارَ النباتِ خُلِقَ؟ مَنْ هو الذي يقدرُ أن يُخْرِجَ منه السنبلةَ؟ هَبْ أن السنبلةَ خَرَجَتْ، مَنْ هو الذي يقدرُ على تنميةِ حَبِّهَا؟ وَنَقْلِهِ من طَوْرٍ إلى طَوْرٍ، حتى يصيرَ
صَالِحًا مُدْرِكًا، صَالِحًا للأَكْلِ؟ {انْظُرُوا إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: آية 99] هذا ذَكَرَهُ اللَّهُ بقولِه: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) إِنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} . وفي القراءةِ الأُخْرَى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا}
(1)
[عبس: الآيتان 24، 25] يعني: فَسَقَيْنَا به الأرضَ، ثم شَقَقْنَا الأرضَ عن النباتِ شَقًّا بعدَ أن شَقَقْنَا الحبةَ عن السنبلةِ، كما قال هنا:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} هذه غرائبُ صنعِ اللَّهِ وعجائبُه يُبَيِّنُهَا لِخَلْقِهِ، ويذكرُهم بنعمتِه ليعلموا عظمةَ من خلقِهم (جل وعلا) فيعبدوه وَيُنِيبُوا إليه.
هذا معنَى قولِه: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ} يعني: فالقُ الْحَبِّ عن السنبلِ، وفالقُ النَّوَى عن الشجرِ، كالنخلِ مثلاً. هذا مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِهِ وعجائبِ قدرتِه، وَمِنْ نِعَمِهِ الْعُظْمَى عليكم، حيثُ أَنْبَتَ لكم الحبوبَ والثمارَ لِتَأْكُلُوا منها.
(1)
انظر: المبسوط لابن مهران 462.
وهذا معنَى قولِه: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} هذا التفسيرُ هو الذي عليه جمهورُ المفسرين، وهو المعروفُ عن علماءِ السلفِ والخلفِ، وفي الآيةِ قولانِ آخَرَانِ:
أحدُهما: أن معنَى كونِه فالقَ الحبِّ والنَّوَى: أن حبةَ القمحِ مثلاً فيها شِبْهُ شَقٍّ فِي بَعْضِ جَوَانِبِهَا، والنواةُ فيها شَقٌّ في جَانِبِهَا، أنه هو الذي جَعَلَ ذلك الشقَّ في الْحَبِّ، وجعلَه في النَّوَى لِيُرِيَ الناسَ كمالَ قُدْرَتِهِ.
الوجهُ الثاني: هو ما ذَكَرَهُ بعضُ أهلِ العلمِ: أن الفلقَ والفطرَ والخلقَ كُلُّهَا مترادفةٌ. فمعنَى: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} أي: خالقُ الْحَبِّ والنوى وغير ذلك.
والأولُ هو أَشْهَرُهَا.
وقولُه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} فقولُه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} كالتفسيرِ لقولِه: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} لأَنَّ الحبةَ اليابسةَ كأنها
مَيِّتَةٌ، وَكُلُّ شيءٍ يَنْمُو ويتزايدُ تُسَمِّيهِ العربُ حَيًّا؛ وَلِذَا يُسَمُّونَ النباتَ حَيًّا؛ لأنه ينمو، وَيُسَمُّونَ اليابسَ منه - الذي لَا يَنْمُو - يُسَمُّونَهُ مَيْتًا. ومن هنا كانوا يقولونَ للأرضِ الجدبةِ القاحلةِ: مَيْتَةً؛ لأَنَّ نَبَاتَهَا يابسٌ لَا يَنْمُو، فإذا نَبَتَ فيها النباتُ الأخضرُ النَّامِي سَمَّوْهَا: حيةً. كما قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} [يس: الآيات 33 - 35]. وَلِذَا قال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} الْحَيُّ هنا: هو السنبلُ الأخضرُ النَّامِي، والنخلُ والشجرُ الأخضرُ النامي يُخْرِجُهُ اللَّهُ من
ذلك الميتِ اليابسِ الذي لَا يَنْمُو، وهو الْحَبُّ اليابسُ، أو النَّوَى اليابسُ، وكذلك يُخْرِجُ اللَّهُ النطفةَ - وهي ميتةٌ - يُخْرِجُهَا من الْحَيِّ الذي هو الإنسانُ، والبيضةَ من الدجاجةِ. فقولُه:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} أي يُخْرِجُ الناميَ من النباتِ والحيواناتِ من الميتِ وهو بِذْرُ النباتِ اليابسِ الذي لَا يَنْمُو بِذَاتِهِ، وكذلك ما يَخْرُجُ من الإنسانِ، كالنطفةِ فإنها لا تَنْمُو بنفسِها إلا أن اللَّهَ (جل وعلا) يُخْرِجُ منها الْحَيَّ، كما قال:{وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} المعنَى: أن اللَّهَ (جل وعلا) يُخْرِجُ الْحَيَّ الناميَ كالنخلةِ، والسنبلةَ من الحبةِ، والنَّوَى، ويخرجُ الإنسانَ من النطفةِ، والدجاجةَ من البيضةِ مثلاً، كما أنه يُخْرِجُ الميتَ من الحيِّ، يُخْرِجُ أيضًا ذلك الزرعَ الميتَ من الحيِّ الذي هو النباتُ، ويخرجُ الثمرَ من الشجرِ الذي هو النَّامِي، كما يُخْرِجُ أيضًا النطفةَ والبيضةَ من الحيِّ الذي هو الإنسانُ والدجاجةُ.
هذا معنَى قولِه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} وهذا هو الذي عليه جمهورُ المفسرين، خِلَافًا لِمَنْ قال: إنه يُخْرِجُ الكافرَ من المؤمنِ، والمؤمنَ مِنَ الكافرِ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك
(1)
. القولُ الأولُ هو المشهورُ.
وفي هذه الآيةِ الكريمةِ سؤالٌ عَرَبِيٌّ: وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: قال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} بصيغةِ المضارعِ، وَعَطَفَ عليه قولَه:{وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} بصيغةِ اسمِ الفاعلِ، فما النكتةُ العربيةُ في عطفِ اسمِ الفاعلِ هنا على المضارعِ؟ وَلِمَ لَا يُعطف عليه مضارعا آخر؟ كما فَعَلَ في سورةِ آلِ عمرانَ حيث قال: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 553)، القرطبي (4/ 56)، (7/ 44).
وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ} [آل عمران: آية 27].
عن هذا السؤالِ للعلماءِ وَجْهَانِ
(1)
:
أحدُهما: أن قولَه: {وَمُخْرِجُ} معطوفٌ على اسمِ الفاعلِ، وعليه فالمعنَى: إِنَّ اللَّهَ فالقُ الْحَبِّ والنوى، ومخرجُ الميتِ من الحيِّ. فهو اسمُ فاعلٍ معطوفٌ على اسمِ فاعلٍ؛ لأَنَّ قولَه:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} كأنه تفسيرٌ لقولِه: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} فجاءَ باسمِ الفاعلِ في {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} وَفَسَّرَهُ بأن معناه: يُخْرِجُ الحيَّ من الميتِ. أي: يخرجُ النخلةَ التي هي ناميةٌ حَيَّةٌ من النواةِ التي هي ميتةٌ، والسنبلةَ التي هي ناميةٌ حَيَّةٌ من الحبةِ التي هي ميتةٌ. وإذا كان قولُه:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} كالتفسيرِ لقولِه: {فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} يكونُ قولُه: {وَمُخْرِجُ} عطفًا عَلَى {فَالِقُ} فهو اسمُ فاعلٍ معطوفٌ على اسمِ فاعلٍ. وعلى هذا فالتقديرُ: إن اللَّهَ فالقُ الحبِّ وَالنَّوَى. أَيْ: مُخْرِجُ الحيِّ من الميتِ، ومخرجُ الميتِ مِنَ الْحَيِّ.
الوجهُ الثاني: هو أن عطفَ اسمَ الفاعلِ على الفعلِ، وعطفَ الفاعلِ على الاسمِ المشتقِّ، كلها أساليبُ معروفةٌ في القرآنِ وَفِي لغةِ العربِ. ومن أمثلةِ عَطْفِ الفعلِ على اسمِ الفاعلِ: قولُه جل وعلا: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: آية 19] لَمْ يَقُلْ: وقابضات، وقولُه:{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)} [العاديات: الآيات 1 - 4] وَلَمْ يَقُلْ:
(1)
انظر: ملاك التأويل (1/ 295)، البحر المحيط (4/ 185)، الدر المصون (5/ 57).
فالمثيرات. وكذلك عَكْسُهُ، وهو: عطفُ الاسمِ على الفعلِ - اسمُ الفاعلِ على الفعلِ - أَمْرٌ معروفٌ موجودٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الراجزِ
(1)
:
بَاتَ يُغَشِّيهَا بِعَضْبٍ بَاتِرٍ يَقْصِدُ فِي أَسْوُقِهَا وَجَائِرُ
فقوله: «جائر» معطوف على «يقصد» بمعنَى: قاصدٍ وجائرٍ. وهذا أسلوبٌ معروفٌ في كلامِ العربِ.
{وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} ثم إِنَّ اللَّهَ لَمَّا نَبَّهَنَا على عظمتِه وكمالِ قدرتِه، وأنكَ أيها الإنسانُ [تشاهدُ أَنَّكَ]
(2)
تبذرُ حبةً في الأرضِ، فيُخرجها لكَ سنبلةً خضراءَ فيها مئاتُ الْحَبِّ، وتبذرُ نواةً في الأرض فيُخرج لكَ منها نخلةً ذاتَ أغصانٍ، وذاتَ خُوصٍ وَجَرِيدٍ، وذاتَ ثَمَرٍ، وهذا من أبدعِ صُنْعِهِ (جل وعلا)، دَالٌّ على أنه الربُّ وحدَه. قال بعدَ هذه الآياتِ:{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أَيْنَ تُصْرَفُونَ عن النظرِ في هذا؟ كيف تُشَاهِدُونَ غرائبَ صُنْعِهِ وعجائبِها الدالةِ على كمالِ قدرتِه، وَتُسَوُّونَ به غيرَه، وتعبدونَ معه ما لَا ينفعُ ولا يَضُرُّ؟ أين تصرفون؟ وأين تذهبُ عقولُكم عن أفعالِ رَبِّكُمُ العظيمةِ الدالةِ على أنه المعبودُ وحدَه؟
و {تُؤْفَكُونَ} مضارعٌ مبنيٌّ للمفعولِ، من (أَفَكَه يَأْفِكُهُ) إذا قَلَبَهُ، العربُ تقولُ:«أَفَكَ الأَمْرُ يَأْفِكُه» إذا قَلَبَهُ، ومنه قِيلَ لِقُرَى قومِ لوطٍ:(المؤتفكات) لأَنَّ جبريلَ أَفَكَهَا، أي: قَلَبَهَا فجعلَ عاليَها سافلَها، ومن هنا قيل للكذبِ: إِفْكٌ؛ لأَنَّ الإفكَ أسوأُ الكذبِ، لأَنَّهُ صَرْفٌ للكلامِ عن وَجْهِهِ الحقيقيِّ إلى وَجْهِهِ الباطلِ. فمعنَى:
(1)
البيت في البحر المحيط (4/ 185)، الدر المصون (3/ 178).
(2)
في الأصل: "تشاهدك".
{فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أين تُصْرَفُونَ وتقلبونَ عن هذه البراهين والآياتِ العظيمةِ الدالةِ على عظمةِ رَبِّكُمْ وجلالِه، وأنه المعبودُ وحدَه جل وعلا.
[10/ب] / {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: آية 96].
{فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} قرأ هذا الحرفَ القراءُ السبعةُ ما عدا الكوفيين: {وجاعِلُ الليل سكنًا} وَقَرَأَهُ الكوفيون - حمزةُ والكسائيُّ وعاصمٌ-: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} بصيغةِ الفعلِ الماضي
(1)
.
وإعرابُ {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} فيه للعلماءِ ثلاثةُ أوجهٍ لَا يُكَذِّبُ بعضُها بَعْضًا
(2)
:
أحدُها: أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٌ. أي: هو (جل وعلا) فالقُ الإصباحِ.
الثاني: أنه نَعْتٌ لِلرَّبِّ في قولِه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ} اللَّهُ فالقُ الإصباحِ. فهو نعتٌ لاسمِ الجلالةِ.
وقال بعضُ العلماءِ: هو خَبَرٌ آخَرُ لقولِه: {إِنَّ} {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى} ، {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} والخبرُ يتعددُ للمبتدإِ، وإذا دَخَلَتْ (إن) على مبتدإٍ متعددِ الخبرِ: تَعَدَّدَتْ الأخبارُ لها، والمعنَى كُلُّهُ على هذه الأعاريبِ الثلاثةِ معنًى وَاحِدٌ.
(1)
انظر: المبسوط لابن مهران 199.
(2)
انظر: فتح القدير (2/ 143).
ومعنَى: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} الإصباحُ: أصلُه مصدرُ (أَصْبَحَ يُصْبِحُ إِصْبَاحًا)، إذا جاء ضوءُ النهارِ مِنْ بَعْدِ ظَلَامِ اللَّيْلِ
(1)
.
وعامةُ القراءِ السبعةِ قرؤوا: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} بكسرِ الهمزةِ. مصدرُ (أَصْبَحَ، يُصْبِحُ، إِصْبَاحًا). وهو مصدرٌ سُمِّيَ به، [والعربُ]
(2)
تقولُ للصبحِ: إصباحًا، وهو معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ امرئِ القيسِ
(3)
:
أَلَا أَيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ أَلَا انْجَلِ بِصُبْحٍ وَمَا الإِصْبَاحُ مِنْكَ بِأَمْثَلِ
فَبَيَّنَ أنه يقصدُ بالإصباحِ: الصبحَ، فأصلُه مصدرُ (أَصْبَحَ، يُصْبِحُ، إِصْبَاحًا).
وهناك قراءةٌ شاذةٌ قرأ بها الحسنُ وغيرُه: (فالقُ الأصباحِ وجاعلُ الليلِ سكنًا) هذه شاذةٌٌ غيرُ سبعيةٍ، هي معروفةٌ عن الحسنِ وغيرِه
(4)
.
القراءةُ: (الأصباح) بفتحِ الهمزةِ جَمْعُ (صبح)، والعربُ تقولُ:«أصباحٌ، وأَمْساء» . جَمْعُ (صبح، ومساء). و «إصباح وإمساء» ، مصدرُ (أصبح، وأمسى) وهو كلامٌ معروفٌ في كلامِ العربِ، ومنه قولُ الراجزِ
(5)
:
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 554)، القرطبي (7/ 44)، البحر المحيط (4/ 185)، الدر المصون (5/ 58).
(2)
في هذا الموضع انقطاع في التسجيل. وما بين المعقوفين زيادة يتم بها المعنى.
(3)
ديوان امرئ القيس، ص117.
(4)
انظر: ابن جرير (11/ 557)، القرطبي (7/ 45)، البحر المحيط (4/ 185)، الدر المصون (5/ 58).
(5)
البيت في البحر المحيط (4/ 185)، الدر المصون (5/ 59) وشطره الأول فيهما هكذا:«أفنى رياحا وبني رياح» .
أَرْبَى رَبَاحًا وَبَنِي رَبَاحِ
…
تَنَاسُخُ الأَمْسَاءِ وَالأَصْبَاحِ
وَيُرْوَى:
. . . . . . . . . . . . . . .
…
تَنَاسُخُ الإِمْسَاءِ وَالإِصْبَاحِ
وعلى قراءةِ الجمهورِ: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} معناها: مُبْدِي ضَوْءِ الصبحِ بعدَ ظلامِ الليلِ.
وفي هذا المعنَى سؤالٌ معروفٌ، لطالبِ العلمِ أن يقولَ: اللَّهُ ذَكَرَ هنا أن الإصباحَ هو الذي يفلقُه اللَّهُ. والذي يُفْلِقُ في الحقيقةِ: الظلامُ، هو الذي يُفْلِقُ وَيُشق عن نورِ الصباحِ، أما كونُ نورِ الصباحِ هو الذي يُفلق ويُشقُّ فهذا فيه إشكالٌ، فيه سؤالٌ معروفٌ للعلماءِ.
وللعلماءِ عن هذا السؤالِ أَجْوِبَةٌ
(1)
:
منها قولُ بعضِهم: الكلامُ على حذفِ مُضَافٍ: فالقُ ظلمةِ الإصباحِ. وأنه حَذَفَ المضافَ إليه، ولا يَخْلُو مِنْ بُعْدٍ؛ لأَنَّ هذا المضافَ لَمْ تَحْتَفَّ بِهِ قَرِينَةٌ.
وقال بعضُ العلماءِ: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ} لأَنَّ الإصباحَ يبدأُ شعاعُ الصبحِ أَوَّلاً وتحتَه ظلامٌ، وَلَمْ يُسْفِرْ إِسْفَارًا تَامًّا يكشفُ الظلامَ كَشْفًا كُلِّيًّا، ثم ينصدعُ ذلك الإصباحُ انصداعًا كُلِّيًّا عن ضوءِ النهارِ كما ينبغي، وهذا معروفٌ ومنه قولُ أَبِي تَمَّامٍ
(2)
:
وَأَزْرَقُ الْفَجْرِ يَبْدُو قَبْلَ أَبْيَضِهِ وَأَوَّلُ الْغَيْثِ قَطَرٌ ثُمَّ يَنْسَكِبُ
(1)
انظر: البحر المحيط (4/ 185)، الدر المصون (5/ 60).
(2)
البيت في مشاهد الإنصاف (ملحق بالكشاف 4/ 11)، الدر المصون (5/ 60).
فعلى هذا القولِ: أن الإصباحَ يَبْدُو أَوَّلاً وهو مختلطٌ بِغَلَسِ الظَّلَامِ، ثم إن اللَّهَ يشقُّ ذلك الإصباحَ الذي بَدَأَتْ أوائلُه مختلطةً بالظلامِ شَقًّا واضحًا عَنْ وَضَحِ النهارِ، وهذا هو المعروفُ، أن الظلامَ سواء كان ظلامًا دَامِسًا، أو ظَلَامًا مختلطًا ببعضِ ضوءِ الصبحِ، هو الذي يُشقُّ عن الصباحِ كما هو معروفٌ، ومنه قولُ أَبِي نواس
(1)
:
تَرَدَّتْ بِهِ ثُمَّ انْفَرَى عَنْ أَدِيمِهَا تَفرِّيَ لَيْلٍ عَنْ ضِيَاءِ نَهَارِ
هذا هو المعروفُ، وهم إما يُقَدِّرونَ مضافًا فيقولونَ: فَالِقُ ظلمةِ الإصباحِ. أي: شَاقُّهَا بضوءِ الصبحِ، أو {فَالِقُ الإِصْبَاحِ}. أي: أوائلُ الإصباحِ المختلطةِ بغَلَسِ الظلامِ، فَالِقُهَا وَشَاقُّهَا عن النورِ، نورِ النهارِ الحقيقيِّ.
وقولُه: {وجاعِلُ الليلِ سكنًا} على قراءةِ: {وجَاعِلُ الليلِ سكنًا} فلَا إشكالَ، اسمُ فاعلٍ معطوفٌ على اسمِ فاعلٍ. وعلى قراءةِ:{وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا}
(2)
هو مِمَّا كُنَّا نقولُ: إن الاسمَ إذا كان مُشْتَقًّا - كاسمِ الفاعلِ هنا - يُعْطَفُ عليه الفعلُ، وَيُعْطَفُ هو على الفعلِ، كما قال في الخلاصةِ
(3)
:
وِاعْطِفْ عَلَى اسْمٍ شِبْهِ فِعْلٍ فِعْلَا
…
وَعَكْسًا اسْتَعْمِلْ تَجِدْهُ سَهْلَا
(1)
البيت في مشاهد الإنصاف (ملحق بالكشاف 4/ 45)، البحر المحيط (4/ 185)، الدر المصون (5/ 60) وفي هذه المصادر:«عن بياض .... » إلخ.
(2)
انظر: المبسوط لابن مهران 199، حجة القراءات 262، ابن جرير (11/ 556)، القرطبي (7/ 45)، البحر المحيط (4/ 186)، الدر المصون (5/ 60).
(3)
الخلاصة ص 48، وانظر: شرحه في التوضيح والتكميل (2/ 189).
ومثالُه في القرآنِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: آية 19] وقولُه جل وعلا: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1)} - إلى قولِه - {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4)} [العاديات: الآيات 1 - 4] كما قال هنا: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} .
قولُه: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} فيه للعلماءِ وجهانِ
(1)
:
أحدُهما: أنه جَعَلَهُ سَكَنًا أي: شيئًا يسكنُ الناسُ فيه؛ لأَنَّ الناسَ في النهارِ يَكْدَحُونَ في أعمالِهم، ثم يَرُوحُونَ في تَعَبٍ، فيجدونَ ظلامَ الليلِ مناسبًا للهدوءِ والراحةِ. وعلى هذا فهو من السكونِ الذي هو ضِدُّ الحركةِ. يَسْكُنُونَ فيه وينامونَ لينقطعَ عنهم تعبُ الكدَّ بالنهارِ، كما في قولِه:{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} [الفرقان: آية 47] من (السَّبْتِ) بمعنَى القطعِ. يعني: يقطعُ عنهم تعبَ الكدِّ في النهارِ، وَمِمَّا يدلُّ على هذا: أن اللَّهَ في سورةِ القصصِ لَمَّا بَيَّنَ أن الليلَ والنهارَ آيتانِ من آياتِ اللَّهِ العظامِ، بَيَّنَ أيضًا أنهما نعمتانِ من نِعَمِ اللَّهِ العظامِ، وَجَعَلَ السُّكْنَى في الليلِ من ذلك الإنعامِ حيث قال:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} يعني في الليلِ {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} [القصص: الآيات 71 - 73] مِنْ طَلَبِ حوائجِكم وأرزاقِكم بالنهارِ، وهذه الآيةُ تُبَيِّنُ أن
(1)
انظر: ابن جرير (11/ 557)، القرطبي (7/ 45)، البحر المحيط (4/ 186)، الأضواء (2/ 204
السكنَ هنا: أَيْ مَحَلاًّ تسكنونَ فيه مُلَائِمًا لِلسُّكْنَى؛ لأَنَّ الليلَ ظرفٌ مناسبٌ للسُّكْنَى.
وعلى هذا: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} جَعَلَهُ سَاجِيًا مظلمًا مُنَاسِبًا لِلسُّكْنَى، كما قال:{وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: آية 2] أي: إذا صَارَ سَاجِيًا مُظْلِمًا، صَالِحًا لِلسُّكْنَى، ملائمًا للهدوءِ وعدمِ الحركةِ.
وقال بعضُ العلماءِ
(1)
: السكنُ في لغةِ العربِ: هو كُلُّ ما ترتاحُ إليه وتحبُّه فتسكنُ إليه؛ وَلِذَا قيل لامرأةِ الرجلِ: (سَكَنُهُ) لأنه يَأْوِي إليها، وَكُلُّ شيءٍ أَوَيْتَ إليه وَارْتَحْتَ إليه فهو سَكَنٌ لَكَ. والمعنَى: شيءٌ يستريحونَ إليه، وَيَأْوُونَ إليه، لمناسبتِه للراحةِ والهدوءِ. وهذا معنَى قولِه:{وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} {وجاعِلُ الليل سكنًا} .
{وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} الحُسْبَانُ هنا: هو من (الحِسَابِ) على أشهرِ التفسيراتِ.
قال بعضُ العلماءِ
(2)
: هو جَمْعُ حِسَابٍ، كشهابٍ وَشُهْبَانٍ، وحِسَاب وحُسْبَان.
وقال بعضُ العلماءِ
(3)
: هو مصدرُ (حَسَب) بفتحِ السينِ،
(1)
انظر: البحر المحيط (4/ 186).
(2)
انظر: ابن جرير (11/ 559)، القرطبي (7/ 45)، البحر المحيط (4/ 186)، الدر المصون (5/ 64).
(3)
انظر: ابن جرير (11/ 559)، القرطبي (7/ 45)، البحر المحيط (4/ 186)، الدر المصون (5/ 64).
(يَحْسِب)[بكسرها]
(1)
، (حِسَابًا وحِسَابَةً وحُسبانًا)، إذا عَدَّ الشيء، والمعنَى: جَعَلَ الشمسَ والقمرَ حُسْبَانًا يعنِي: خَلَقَهُمَا بحُسْبَانٍ، يحسب حركتِهما وَسَيْرِهِمَا بأسلوبٍ مُتْقَنٍ لَا يتغيرُ في السَّنَةِ؛ لتعلموا بذلك الحسابِ عددَ السنين والأَشْهُرِ والأيامِ. وهذه من نتائجِ الشمسِ والقمرِ التي ذَكَرَهَا اللَّهُ (جل وعلا)؛ لأنهم يعرفونَ بها الشهورَ والأيامَ والأعوامَ، فيعرفونَ من ذلك شهرَ الصومِ، وشهرَ الحجِّ، ويعرفونَ عِدَدَ النساءِ، وآجالَ الديونِ، وما جَرَى مَجْرَى ذلك، هذه من فوائدِ الشمسِ والقمرِ التي أَكْثَرَ اللَّهُ (جل وعلا) مِنْ ذِكْرِهَا.
ومعلومٌ أن أصحابَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كما قَدَّمْنَاهُ في هذه الدروسِ في سورةِ البقرةِ - أنهم تَاقَتْ نفوسُهم إلى هيئةِ القمرِ، فقالوا للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: ما بَالُ الهلالِ يبدُو دَقِيقًا ثُمَّ لم يَزَلْ يكبرُ حتى يستديرَ بَدْرًا
(2)
؟
وهذا سؤالٌ عن هيئةِ القمرِ، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أُرْسِلَ ليبينَ للناسِ
(1)
في الأصل: (بفتحها). وهو سبق لسان.
(2)
الروايات الواردة في أن الآية نزلت بسبب سؤالهم عن الأهلة متعددة، ومن ذلك:
1 -
ما أورده الواحدي في أسباب النزول ص53 - من غير إسناد - أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إن اليهود تغشانا ويُكثرون مسألتنا عن الأهلة، فأنزل الله
…
الحديث. وذكره الحافظ في العُجَاب (1/ 453) وقال ص454: «لم أر له سندا إلى معاذ، ويُحتمل أن يكون اختصره أولا، ثم أورده مبسوطا» اهـ.
2 -
ما أخرجه أبو نعيم في معرفة الصحابة (3/ 269)، وابن عساكر في تاريخه (مختصر ابن منظور 1/ 25) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت في معاذ بن جبل، وثعلبة بن عَنَمَة - وهما رجلان من الأنصار - قالا: يا رسول الله، ما بال الهلال
…
فنزلت
…
الحديث. وقد أورده ابن الأثير في أُسد الغابة (1/ 292)، والسيوطي في الدر (1/ 302) وقال: «أخرج ابن عساكر بسند ضعيف عن ابن عباس
…
إلخ. كما أورده لُبَاب النقول ص 28 وعزاه لأبي نعيم، وابن عساكر.
وقد أورده الواحدي في أسباب النزول ص 53 - من غير إسناد - والحافظ في الإصابة (1/ 201) عن الكلبي من غير ذكر الواسطة، وهما: أبو صالح الذي يرويه عن ابن عباس. كما أورده الحافظ في العُجاب (1/ 455) وقال: «وأما أثر الكلبي فلعله في تفسيره الذي يرويه عن أبي صالح عن ابن عباس، وقد وجدتُ مثله في تفسير مقاتل بن سليمان بلفطه، فلعله تلقاه عنه» . اهـ وقال المُناوي في الفتح السماوي (1/ 232): «إسناده واه» اهـ.
3 -
ما أخرجه ابن أبي حاتم في التفسير (1/ 322)، وابن جرير (3/ 554) من طريق العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت
…
الحديث. وقد أورده السيوطي في الدر (1/ 203)، ولُباب النقول ص 28 وإسناده ضعيف أيضا.
4 -
ما أخرجه ابن جرير (3/ 553) عن قتادة مرسلا. وذكره الواحدي في أسباب النزول ص53 - من غير إسناد - والسيوطي في الدر (1/ 203) وعزاه لعبد بن حميد وابن جرير. وانظر: تفسير ابن أبي حاتم (1/ 322) كما أورده الحافظ في العُجَاب (1/ 453) وقال (ص454): «أخرجه يحيى بن سلَاّم عن شعبة عنه بهذا اللفظ، وأخرجه الطبري
…
» اهـ.
5 -
ما أخرجه ابن جرير (3/ 553) عن الربيع بن أنس مرسلا. وذكره الحافظ في العُجَاب (1/ 454)، والسيوطي في الدر (1/ 203).
6 -
ما أخرجه ابن جرير (3/ 554) عن ابن جُريج مرسلا. وذكره الحافظ في العُجاب (1/ 454).
7 -
ما أخرجه ابن أبي حاتم (1/ 322) عن الربيع عن أبي العالية مرسلا. وذكره الحافظ في العُجاب (1/ 455)، والسيوطي في الدر (1/ 203)، ولُباب النقول ص28.
وقد رُوي عن جماعة غير هؤلاء كعطاء، والضحاك، والسدي، كما أشار لذلك ابن أبي حاتم في التفسير (1/ 322).
قال الحافظ في العُجاب (1/ 455): «وقد توارد من لا يد لهم في صناعة الحديث على الجزم بأن هذا كان سبب النزول مع وهاء السند فيه، ولا شعور عندهم بذلك، بل كاد يكون مقطوعا به لكثرة من ينقله من المفسرين وغيرهم» اهـ.
كُلَّ ما لهم فِيهِ فَائِدَةٌ، وما يحتاجونَ إلى بيانِه من آياتِ اللَّهِ وغرائبِه وعجائبِ صُنْعِهِ، فأنزلَ اللَّهُ جوابًا لسؤالهم:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: آية 189] فَبَيَّنَ أنها مواقيتُ، وهذه المواقيتُ إنما كانت مَوَاقِيتَ لأَنَّهَا بحسابٍ معينٍ مقدرٍ نَظَّمَهُ العزيزُ العليمُ (جل وعلا). ومشارقُ الشمسِ ومغاربُها معروفةٌ في كُلِّ يومٍ من السَّنَةِ، وكذلك منازلُ القمرِ مَعْرُوفَةٌ، وفي هذه المشارقِ والمغاربِ - التي تُشْرِقُ منها الشمسُ وتغربُ، ومنازلُ القمرِ - يعرفُ الناسُ بها عددَ السنينَ والشهورِ والحسابِ، ويعرفونَ شهرَ صومِهم، وشهرَ حَجِّهِمْ،
وعِدَدَ نِسَائِهِمْ، وآجالَ دُيُونِهِمْ، وما جرى مَجْرَى ذلك. أما غيرُ ذلك، فقد بَيَّنَ القرآنُ أنه مِمَّا ليس لهم فيه جَدْوَى ولا فائدةٌ. ومعلومٌ أن القرآنَ العظيمَ يُبَيِّنُ للناسِ كُلَّ ما يحتاجونَ إليه، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ كُلَّ ما يُحْتَاجُ إليه. ونحنُ نقولُ هذا، ونقولُ: إن اللَّهَ (جل وعلا) لم يَجْعَلْ لِخَلْقِهِ في القمرِ أشياءَ غيرَ ما هو مُشَاهَدٌ من عددِ السنينَ والحسابِ، وَمِمَّا جَعَلَ اللَّهُ في الشمسِ والقمرِ بمجارِي عادتِه وقدرتِه من المنافعِ للنباتاتِ والثمارِ والمعادنِ وغيرِ ذلك.
نحن نتكلمُ على هذا القرآنِ ولَا نَرْضَى لأحدٍ أن يُؤَوِّلَهُ بغيرِ
تأويلِه، وَلَا أَنْ يَعْطِفَهُ على آراءِ الكفرةِ الفجرةِ، في الوقتِ الذي نعلمُ فيه أن دينَ الإسلامِ يأمرُ بالتقدمِ في جميعِ ميادينِ الحياةِ. دِينُ الإسلامِ يَأْمُرُ المجتمعَ بالتقدمِ في جميعِ ميادينِ الحياةِ. والإخلادُ إلى الأرضِ والتواكلُ والكسلُ: مُخَالَفَةٌ للأمرِ السماويِّ الذي يَأْمُرُ به خالقُ السماواتِ والأرضِ، لأَنَّ اللَّهَ يقولُ:{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: آية 60] فهذا أَمْرٌ. فالمتواكلُ الْمُخْلِدُ إلى العجزِ والاستسلامِ، وَلَمْ يُعِدَّ مَا يُسْتَطَاعُ من قوةٍ، فهو مخالفٌ لأَمْرِ اللَّهِ في قولِه:{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} وبهذا يُعْلَمُ أن التقدمَ والكفاحَ والإعدادَ للقوةِ: كُلُّ هذا أوامرُ القرآنِ العظيمِ، ونظامُ السماءِ، وأن العاجزَ المتكاسلَ المخلدَ إلى الأرضِ مُخَالِفٌ لأوامرِ اللَّهِ، واللَّهُ يقولُ:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: آية 63] وعلى كُلِّ حَالٍ فَلَا شَكَّ أَنَّ دِينَ الإسلامِ، وهذا القرآنَ العظيمَ، يُنَظِّمُ للإنسانِ جميعَ ميادينِ الحياةِ في دِينِهِ وَدُنْيَاهُ، هذا هو الحقُّ.
ودينُ الإسلامِ دينُ تَقَدُّمٍ، ودينُ كفاحٍ فِي الميدانِ، ودينُ قوةٍ، وإذا قَرَأْتُمْ آياتٍ من كتابِ اللَّهِ عرفتُم ذلك واضحًا، إذا قَرَأْتُمْ مثلاً آيَتَيْنِ من سورةِ النساءِ يقولُ اللَّهُ فيهما:{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: آية 102] هذا وقتُ التحامِ الكفاحِ المسلحِ، والمفروضُ أن الرجالَ تَنْزِلُ رؤوسُهم عن أعناقِهم، والقرآنُ في هذا الوقتِ الضنكِ الْحَرِجِ، تَرَوْنَهُ يُنَظِّمُ الخطةَ العسكريةَ على أحسنِ الوجوهِ وأبدعِها، وأحصنِها
من العدوِّ في
الوقت الذي يَأْمُرُ فيه بالاتصالِ
(1)
بخالقِ هذا الكونِ، والتأدبِ بالآدابِ الروحيةِ السماويةِ، التي هي الصلاةُ في الجماعةِ، هكذا أوامرُ القرآنِ، الاتصالُ بالله، وتربيةُ الأرواحِ وتهذيبُها على ضوءِ النورِ السماويِّ، مع القوةِ الجسميةِ الماديةِ في جميعِ مظاهرِها مَهْمَا تَطَوَّرَتْ، وتسمعونَ اللَّهَ يقولُ في سورةِ الأنفالِ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال: آية 45] قولُه: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} يعنِي: إذا الْتَقَى الصفانِ وقتَ التحامِ الكفاحِ المسلحِ، وقولُه:{فَاثْبُتُوا} هذا تعليمٌ عسكريٌّ سماويٌّ عظيمٌ، معناه: الصمودُ في الخطوطِ الأماميةِ من خطوطِ النارِ، عند التقاءِ الصَّفَّيْنِ، وفي هذا الوقتِ يقولُ اللَّهُ جل وعلا:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا} وهذا مِمَّا يَدُلُّ أن دينَ الإسلامِ دينُ كفاحٍ، ودينُ قوةٍ، ودينُ عظمةٍ وَتَقَدُّمٍ في الميدانِ، ودينُ تربيةِ الأرواحِ على ضوءِ تعاليمِ خالقِ هذا الكونِ، والاتصالِ بخالقِ هذا الكونِ (جل وعلا)؛ لأَنَّ الإنسانَ المسكينَ إذا فَقَدَ حَظَّهُ من رَبِّهِ خَسِرَ كُلَّ شَيْءٍ، وَمَا لَهُ فِي الحياةِ فَائِدَةٌ.
فعلينا جميعًا معاشرَ المسلمين أن نعلمَ أن الدينَ - ديننَا - أنه تراثٌ سَمَاوِيٌّ عظيمٌ، وأنه يأمرُ بالتقدمِ والقوةِ في كُلِّ الميادين، وأن الإخلادَ إلى العجزِ والضعفِ خلافُ أوامرِ القرآنِ، وأنه مع هذا يُهَذِّبُ أرواحَنا على ضوءِ تعليمِ السماءِ، ويقربُنا من رَبِّنَا (جل وعلا). وقد بَيَّنَ لنا القرآنُ في مواضعَ منه: أن مَنْ كان متمسكًا بهذا الدينِ كما ينبغي، وكانت صِلَتُهُ بالله قويةً كما ينبغي، ذَا روحٍ مُرَبًّى على ضوءِ
(1)
في الأصل: على الاتصال.
نورِ القرآنِ، أنه ولو بَلَغُوا من القلةِ لَا يمكنُ أن تقهرَهم قوةٌ، وَلَا أَنْ يَغْلِبَهُمْ غالبٌ؛ لأَنَّ اللَّهَ الذي اعْتَمَدُوا إليه، وَصَارُوا من حِزْبِهِ: قَوِيٌّ قاهرٌ، لا يغلبُه شيءٌ. ونضربُ لكم بعضَ الأمثالِ بهذا:
أنتم تعلمونَ في التاريخِ، وتاريخِ القرآنِ، أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأصحابَه عام غزوةِ الأحزابِ - غزوةِ الخندقِ - لَمَّا حَاصَرَهُ المشركونَ ذلك الحصارَ العسكريَّ التاريخيَّ العظيمَ، الذي نَوَّهَ اللَّهُ به مُعَظِّمًا أَمْرَهُ:{إِذْ جَاؤُوكُم مِّنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا (11)} [الأحزاب: الآيتان 10، 11] هذا لقوةِ ذلك الحصارِ العسكريِّ، وهم في ذلك الوقتِ، جميعُ مَنْ فِي الأرضِ يُقَاطِعُونَهُمْ في السياسةِ، والاقتصادِ، ليس بينَهم رَوَابِطُ سياسيةٌ، ولَا اقتصاديةٌ مع أحدٍ، وهم في فَقْرٍ وَقِلَّةٍ وجوعٍ، وسيدُ الخلقِ (صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليه) فِي ذلك الوقتِ يَطْوِي حِزَامَهُ على الحجارةِ من الجوعِ، هُمْ في هذا الوقتِ من الجوعِ وشدةِ الأعداءِ، وقوةِ الحصارِ العسكريِّ، وَكُلُّ مَنْ في الأرضِ أعداءٌ لهم يُقَاطِعُونَهُمْ سِيَاسَةً، واقتصادًا، ما العلاجُ؟ وما قاوموا به هذا الأمرَ العظيمَ، وهذا الحصارَ العسكريَّ؟
الجوابُ: أنه قوةُ الإيمانِ بِاللَّهِ، وصدقُ الالتجاءِ لخالقِ هذا الكونِ، كَمَا نَصَّ اللَّهُ على ذلك في قولِه:{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَاّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: آية 22] هذا الإيمانُ والتسليمُ لِلَّهِ، وقوةُ الإيمانِ به، والاستسلامُ له (جل وعلا)، كَانَ من نتائجِه ما قَصَّ اللَّهُ علينا في سورةِ الأحزابِ: {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى
اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ} أي: مِنْ حُصُونِهِمْ {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)} [الأحزاب: الآيات 25 - 27] يعني: إِنْ كُنْتُمْ ضِعَافًا عاجزين فَمَنْ تَوَكَّلْتُمْ عليه وآمَنْتُمْ به وَكُنْتُمْ عبادَه حَقًّا ليس بعاجزٍ، بل هو قَادِرٌ على كُلِّ شيءٍ؛ وَلِذَا ختمَ القصةَ بقولِه:{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} .
ونظيرُ ذلك ما قَصَّهُ اللَّهُ في سورةِ (الفتحِ) عامَ الحديبيةِ، لَمَّا نَزَلَتْ سورةُ (إنا فتحنا) عامَ ستٍّ من الهجرةِ، رجوعَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم من عمرةِ الحديبيةِ، لَمَّا عقدَ الصلحَ مع قريشٍ، وأنزلَ اللَّهُ عليه سورةَ (الفتحِ). كان لَمَّا بَلَغَهُمْ أن قريشًا قتلوا عثمانَ بنَ عفانَ رضي الله عنه، وَبَايَعُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم تحتَ سمُرةٍ من شجرِ الحديبيةِ، بَايَعُوهُ بيعةَ الرضوانِ، عندَ هذه البيعةِ عَلِمَ اللَّهُ من قلوبِهم الإخلاصَ، والإيمانَ الكاملَ، والصدقَ كما ينبغي، وَنَوَّهَ بإيمانِهم الذي عَلِمَهُ في قلوبِهم قال:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: آية 18] فَنَوَّهَ عن إيمانِهم بالاسمِ الْمُبْهَمِ الموصولِ. أي: ما فِي قلوبِهم من الإيمانِ بِاللَّهِ (جل وعلا) كما يَنْبَغِي، عَدَّدَ نتائجَ هذا الإيمانِ الخالصِ الكاملِ، عَدَّدَ نتائجَه عليهم، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ نَتَائِجِهِ أَنْ قَالَ:{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} فَصَرَّحَ بأن إمكانياتِهم العدديةَ والعُدديةَ لَمْ تُقْدِرْهُمْ عليها. ثُمَّ قَالَ: {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} فَأَقْدَرَكُمْ عليها. وقال: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الفتح: آية 21] كما قال في (الأحزاب). يعنِي: إِنْ كُنْتُمْ في ضَعْفٍ فَهُوَ قَوِيٌّ قَادِرٌ.
وعلى هذا تعلمونَ أن دينَ الإسلامِ أَوَّلاً يأمرُ بالقوةِ والتقدمِ في كُلِّ الميادينِ، وَقَهْرِ الكفارِ، والعظمةِ والقوةِ في كُلِّ الميادين، مع أن أهلَه منصورونَ من خالقِ السمواتِ والأرضِ (جل وعلا)، فالإسلامُ هُوَ هُوَ، وصلتُه بِاللَّهِ هِيَ هِيَ، وقوتُه [هِيَ هِيَ، إلا أن أعداءَ الإسلامِ عَمِلُوا على التفريقِ بين هذه العقيدةِ]
(1)
وأهلِها، فَنَجَحُوا في ذلك بعدَ عشراتِ القرونِ، نَجَحُوا فيه عن طريقِ تعليمِ النشءِ، يأخذونَ أولادَ المسلمين ويغرسونَ في قلوبِهم ما شَاؤُوا من الكفرياتِ والإلحادياتِ وتصويرِ الإسلامِ ورجالِ الإسلامِ العظامِ بصورٍ مُشوَّهةٍ مُنَفِّرَةٍ، بعيدةٍ من الحقيقةِ بُعْدَ الشمسِ من اللمسِ.
واليومَ نَجَحُوا نجاحًا باهرًا، فصارَ جميعُ شبابِ المسلمين - إِلَاّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ - ينظرونَ إلى الإسلامِ بعينٍ عوراءَ لا تعرفُ الحقيقةَ، يتصورونَه بصورةٍ مشوهةٍ خسيسةٍ، بعيدةٍ عَنِ الحقائقِ كُلَّ البعدِ - والعياذُ بالله - وبهذا فَصَلُوا المسلمين عن شَرْعِهِمْ وَتُرَاثِهِمْ، حتى صَارُوا يُحَكِّمُونَ قوانينَ إبليسَ، وَفَصَلُوهُمْ عَنْ مَجْدِهِمْ، وعن قُوَّتِهِمْ باللَّهِ جل وعلا.
ونحنُ دائمًا نَذْكُرُ أمثالَ هذا لنُوَجِّهَ المسلمين إلى قوةِ الإسلامِ، وقوةِ صلتِه بِاللَّهِ، وأن أعداءَ اللَّهِ إنما تَوَصَّلُوا لإهانتِهم وَتَشْتِيتِهِمْ بعدَ أن حَالُوا بينَهم وبينَ الدِّينِ بِكُلِّ الوسائلِ.
فعلى المسلمينَ أن يَعْلَمُوا أن خالقَ السماواتِ والأرضِ هو الذي له التشريعُ، وأن تشريعَه هو التشريعُ الذي يقومُ بالمصالحِ
(1)
في هذا الموضع وُجد انقطاع في التسجيل. وللشيخ رحمه الله كلام بنحو هذا في تفسير سورة الأنعام، الآيات (115، 155)، الأعراف (3، 38)، الأنفال (30، 45، 60)، التوبة (30)، وفي الرحلة الى إفريقيا. وما بين المعقوفين زيادة يتم بها الكلام.
البشريةِ في الدنيا، يُرَبِّي الأَرْوَاحَ، وَيُعْطِي الأجسامَ حقوقَها، وينيرُ الطريقَ للإنسانِ في جميعِ ميادينِ الحياةِ الدنيا، والحياةِ الأُخْرَوِيَّةِ.
والمسلمونَ إذا أَلْهَمَهُمُ اللَّهُ الرجوعَ إلى دينِهم ذَلَّ لهم كُلُّ شيءٍ، وَخَضَعَتْ لهم رقابُ كُلِّ جبارٍ في الدنيا؛ لأَنَّ دينَ الإسلامِ دينٌ لَا يُغْلَبُ المتمسكُ بِهِ حقيقةً وَلَا يُقْهَرُ؛ وَلِذَا كان مِنْ عَلَامَاتِ دينِ الإسلامِ: أن الطائفةَ الضعيفةَ القليلةَ المتمسكةَ به تغلبُ الطائفةَ القويةَ الكثيرةَ التي لَمْ تَتَمَسَّكْ به؛ ولأجلِ هذا سَمَّى اللَّهُ (يومَ بدرٍ) سَمَّاهُ (فُرْقَانًا)، وَسَمَّاهُ (بَيِّنَةً)، وَسَمَّاهُ (آيةً)؛ لأنه برهانٌ فارقٌ بينَ الحقِّ والباطلِ. قال تعالى في سورةِ الأنفالِ:{إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [الأنفال: آية 41] يعني بقولِه: {يَوْمَ الْفُرْقَانِ} : يومَ بدرٍ؛ لأنه يومٌ فَرَّقَ اللَّهُ فيه بينَ الحقِّ والباطلِ؛ لأَنَّ الفئةَ الضعيفةَ القليلةَ لا يمكنُ أَنْ تَقْهَرَ الفئةَ القويةَ الكثيرةَ إلا بتوفيقٍ ونصرٍ مِنَ اللَّهِ. وقال (جل وعلا) في يومِ بدرٍ: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال: آية 42] وقال في يومِ بدرٍ أيضًا في سورةِ آلِ عمرانَ: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ} [آل عمران: آية 13] وهذه الآيةُ - التي هي لَهُمْ - والعبرةُ: أن الفئةَ القليلةَ الضعيفةَ غَلَبَتِ الفئةَ القويةَ الكثيرةَ، وهذا لا يكونُ إلا بنصرِ اللَّهِ كما قال الله جل وعلا.
{ذَلِكَ}
(1)
المذكورُ مِنْ فَلْقِ الْحَبِّ عن السنبلِ، والنَّوَى عَنِ النخلِ مثلاً، وفَلْقِ الإصباحِ عن ضوءِ النهارِ، وجَعْلِ الليلِ ساجيًا مُظْلِمًا ملائمًا للسكونِ، وَتَسْيِيرِ الشمسِ والقمرِ بحسابٍ مُتْقَنٍ، وليعرفَ الناسُ بها عددَ السنينَ والحسابَ، وغيرَ ذلك من الحِكَمِ،
(1)
هذا رجوع إلى تفسير الآية (96) من سورة الأنعام.
كُلُّ هذه الغرائبِ والعجائبِ {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} تقديرُه الذي قَدَّرَ هذا؛ لأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عندَه (جل وعلا) بِمِقْدَارٍ.
و {الْعَزِيزِ} : معناه الغالبُ الذي لا يَغْلِبُهُ شيءٌ؛ لأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على هذه الأفعالِ العظيمةِ إِلَاّ الغَالِبُ القاهرُ الذي لَا يَغْلِبُهُ شيءٌ.
والعزَّةُ في لغةِ العربِ: الغَلَبَةُ. ومنه: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} أي: الغَلَبَةُ، وفي الذِّكْرِ الحكيمِ:{وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أي: ظَلَمَنِي في المخاصمةِ. وَمِنْ أَمْثَالِ العربِ: (مَنْ عَزَّ بَزَّ)
(1)
يَعْنُونَ مَنْ غَلَبَ اسْتَلَبَ. ومنه قولُ الخنساءِ الشاعرةِ
(2)
:
كَأَنْ لَمْ يَكُونُوا حِمًى يُخْتَشَى إِذِ النَّاسُ إِذْ ذَاكَ مَنْ عَزَّ بَزَّا
وَرُبَّمَا أَطْلَقَتِ العربُ نادرًا العزةَ على (قلةِ الوجودِ وصعوبتِه)، فيقولونَ:«الشيءُ الفلانيُّ عزيزٌ» . أي: قليلُ الوجودِ وصعبُ المنالِ، إلا أن (العزيزَ) في أسمائِه (جل وعلا) معناه: الغالبُ الذي لَا يَغْلِبُهُ شيءٌ.
وقولُه: {الْعَلِيمِ} المحيطُ عِلْمُهُ بِكُلِّ شيءٍ (جل وعلا)؛ لأَنَّ اللَّهَ (جل وعلا) عِلْمُه محيطٌ بِكُلِّ شيءٍ، وَمَنْ أَرَادَ أن يعلمَ عظمةَ عِلْمِ اللَّهِ (جل وعلا) فَلْيَنْظُرْ إلى الحُجَّاجِ يومَ جمرةِ العقبةِ، يَجِدُ هذا الْعَالَمَ على اختلافِ ألوانِه وأشكالِه وَنَوَاحِيهِ وألسنتِه يجده كُلَّهُ مَصْبُوبًا صبةً واحدةً، الأنفُ مجعولٌ هنا، والعينانِ هنا، والفمُ هنا، ومع هذا لم يَضِقِ العلمُ حتى يكونَ اثنانِ مَصْبُوبَيْنِ في قَالَبٍ وَاحِدٍ، كُلُّ واحدٍ منهما مُغايَرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الآخَرِ، لا يلتبسُ منهم اثنانِ، حتى إن آثارَهم
(1)
انظر: الأمثال لأبي عبيد، ص113.
(2)
ديوان الخنساء، ص59 وفيه:«حِمىً يُتَّقَى» .
في الأرضِ، وبصماتِهم في الأوراقِ، وأصواتَهم، كُلُّ هذا لا يَشْتَبِهُ منه شَيْءٌ، وكل هذا أحاطَ به العلمُ قبلَ أن يوجدَ!! فعِلْمُ اللَّهِ محيطٌ بهذا قبلَ أن يوجدَ، وكلٌّ يُوضَعُ ويُطْبَعُ وَيُخْلَقُ على ما سبقَ به العلمُ الأَزَلِيُّ، فاللَّهُ (جل وعلا) عِلْمُهُ محيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ.
وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا: أن اللَّهَ (جل وعلا) يحيطُ علمُه بالشيءِ وغيرِ الشيءِ؛ لأَنَّ (الشيءَ) لا يُطْلَقُ في الاصطلاحِ إلا عَلَى (الموجودِ)، في مذهبِ أهلِ السنةِ؛ لأَنَّ اللَّهَ يقولُ:{وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: آية 9] فقولُه: {وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} دليلٌ على أن العدمَ ليسَ بشيءٍ
(1)
. وقد دَلَّتْ على هذا آياتٌ أُخَرُ، وَاللَّهُ (جل وعلا) يعلمُ المعدومَ الذي هو ليسَ بشيءٍ، وقد بَيَّنَّا في هذه السورةِ الكريمةِ فيما مَضَى أمثلةً كثيرةً من ذلك؛ لأَنَّ اللَّهَ قال في هذه السورةِ الكريمةِ - سورةِ الأنعامِ -:{فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} فالكفارُ إِذَا رَأَوُا العذابَ يومَ القيامةِ وَعَايَنُوا الحقيقةَ نَدِمُوا على تكذيبِ الرسلِ، وَتَمَنَّوُا الردَّ مرةً أُخْرَى إلى الدنيا فقالوا {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ} يَعْنُونَ إلى الدنيا:{وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام: آية 27] يعني: لَيْتَنَا رُدِدْنَا ونحنُ نصدقُ الرسلَ ولَا نُكَذِّبَهُمْ كالمرةِ الأُولَى.
هذا الردُّ الذي تَمَنَّوْهُ: اللَّهُ (جل وعلا) عَالِمٌ بأنه لَا يكونُ، ومع عِلْمِهِ بأنه لَا يكونُ فقد صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أن لو كانَ كيفَ يكونُ، حيث قَالَ:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: آية 28] وقد قَدَّمْنَا مِرَارًا: أن المتخلفين عن غزوةِ تبوكَ من المنافقين لَنْ يَحْضُرُوهَا أبدًا؛ لأَنَّ اللَّهَ هو الذي ثَبَّطَهُمْ عنها بإرادتِه لحكمةٍ، كما قال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا
(1)
انظر: شرح الطحاوية ص118.
لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: آية 46] وَخُرُوجُهُمْ هذا الذي كَرِهَهُ وثبطهم عنه هو عَالِمٌ بأنه لا يكونُ، ومع ذلك صَرَّحَ بأنه عَالِمٌ أَنْ لو كان كيفَ يكونُ، حيثُ قال:{لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَاّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: آية 47] إلى آخِرِ الآيَاتِ.
والآياتُ القرآنيةُ كثيرةٌ دَالَّةٌ على هذا. فَاللَّهُ يعلمُ الجائزاتِ والواجباتِ والمستحيلاتِ المعدوماتِ والموجوداتِ ويعلمُ المعدومَ الذي سَبَقَ في علمِه أنه لَا يكونُ، يعلمُ أن لو كان كيف يكونُ، يعلمُ ما تُخْفِي الضمائرُ، ويعلمُ خطراتِ القلوبِ، وكيفَ يجهلُ خطراتِ القلوبِ خالقُ خطراتِ القلوبِ؟ {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: آية 14] وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: آية 16].
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأنعام: آية 97]{وَهُوَ} أي: اللَّهُ جل وعلا.
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ} أي: خَلَقَ لكم النجومَ.
{لِتَهْتَدُوا بِهَا} كُلُّ هذا من غرائبِ صُنْعِهِ وعجائبِه؛ لأَنَّ النجومَ يَهْتَدِي بها الناسُ في ظلماتِ الليلِ، سواءً كانوا في بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، وقد يكونُ الناسُ مُلَجَّجِينَ في البحرِ لا يعرفونَ جهةَ قصدِهم إلا بالنجومِ، وكذلك تَأْتِيهُمُ الظلماتُ في فَيَافِي الأرضِ الواسعةِ فيستدلونَ بالنجومِ، وربما كانوا في مسافةٍ بعيدةٍ إذا جَاءَهُمْ غَيْمٌ هَلَكُوا، فإذا رَأَوُا النجومَ فَرِحُوا كُلَّ الفرحِ؛ لأنهم يَعْرِفُونَ بها الجهاتِ، وَيَسْتَدِلُّونَ
بها على قصدِ الطريقِ، كما قال الشاعرُ
(1)
:
يُهِلُّ بِالْفَرْقَدِ رُكْبَانُهَا
…
كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ الْمُعْتَمِرْ
يذكرُ فيفاءَ من الأرضِ إذا رأى رُكْبَانُهَا الفرقدَ بعدَ أن غابَ عنهم: أَهَلُّوا يصيحونَ بالفرقدِ فَرَحًا منهم أنهم رَأَوْهُ؛ لأنهم يهتدونَ به، كما قال تعالى:{وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: آية 16].
وقد بَيَّنَ القرآنُ العظيمُ ثلاثًا مِنْ حِكَمِ خلقِ النجومِ، ثلاثةَ أشياءَ
(2)
:
منها: أنها يَهْتَدِي بها الضَّالُّونَ فِي ظلماتِ البرِّ والبحرِ، يعني: ظلماتِ الليلِ الكائنةَ بَرًّا أو بَحْرًا كما قاله غيرُ واحدٍ.
الثاني: أن اللَّهَ زَيَّنَ بها السماءَ كما قال: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: آية 5].
الثالثُ: أنها تُرْجَمُ بها الشياطينُ كما قال: {رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: آية 5].
هذه الحِكَمُ الثلاثُ: مِنْ رَجْمِ الشياطين بالنجومِ، وتزيينِ السماءِ الدنيا بها، واهتداءِ الناسِ بها في ظلماتِ البرِّ والبحرِ، هي حِكَمٌ ثلاثٌ ذَكَرَهَا اللَّهُ من حِكَمِ خَلْقِهِ للنجومِ.
والنجومُ: هي الكواكبُ التي تُرَى في السماءِ. قِيلَ: سُمِّيَ
(1)
البيت لابن أحمر، وهو في القرطبي (2/ 224).
(2)
انظر: ابن كثير (2/ 159)، فتح القدير (2/ 143)، معارج القبول (1/ 428)، الأضواء (2/ 205).
النجمُ نَجْمًا لأَنَّهُ يَطْلُعُ، والعربُ تُسَمِّي الطلوعَ نَجْمًا، تقول:«نَجَمَ النَّبَاتُ» . إذا طَلَعَ
(1)
.
وهذا معنَى قولِه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} إنما أَضَافَ الظلماتِ إلى البرِّ والبحرِ لأَنَّ المسافرين قَدْ يكونونَ فِي ظلماتِ الليلِ تارةً فِي بَرٍّ، وتارةً في بَحْرٍ، فأضافَ الظلماتِ إلى مكانِها من بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ للملابسةِ بينهما
(2)
.
ثم قال تعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ} أي: الدلالاتِ الواضحةَ على قُدْرَتِنَا وَكَمَالِنَا، وأنه ليسَ لأحدٍ أن يَعْبُدَ غَيْرَنَا.
{لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وهذه الآياتُ التي فَصَّلَ كما ذَكَرَ من أنه يفلقُ الْحَبَّ عن السنبلِ، وَالنَّوَى عن النخلِ، وأنه (جل وعلا) يأتي بالليلِ بدلَ النهارِ، والنهارَ بدلَ الليلِ، وأنه (جل وعلا) يُسَخِّرُ الشمسَ والقمرَ، وأنه (جل وعلا) خَلَقَ النجومَ، وَبَيَّنَ من حِكَمِهَا: اهتداءَ الخلقِ بها، هذه الآياتُ الباهرةُ القاهرةُ قَدْ فَصَّلْنَاهَا لقومٍ يعلمونَ.
وإنما خَصَّ القومَ الذين يعلمونَ لأنهم هُمُ المنتفعونَ بها
(3)
، وَمِنْ أساليبِ القرآنِ العظيمِ: أَنْ يُخَصِّصَ بالكلامِ المُنْتَفِعِ به
(4)
، كقولِه:{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: آية 45] وهو مُذكِّرٌ
(1)
انظر: المفردات (مادة: نجم)791.
(2)
انظر: البحر المحيط (4/ 188).
(3)
انظر: القرطبي (7/ 46)، البحر المحيط (4/ 188) وراجع ما مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام.
(4)
مضى عند تفسير الآية (51) من سورة الأنعام.
للأَسْوَدِ وَالأَحْمَرِ، وكقولِه:{إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ} [يس: آية 11] وهو مُنْذِرٌ للأَسْوَدِ وَالأَحْمَرِ، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: آية 45] ونحو ذلك.
وقد بَينَّا فِيمَا مَضَى
(1)
أن (الآياتِ) جمعُ (آيةٍ)، وأنها عندَ الْمُحَقِّقِينَ من علماءِ العربيةِ، أصلُها:(أَيَيَة) على وزنِ (فَعَلَة). وَقَعَ الإعلالُ بموجبِه الأولِ، فَأُبْدِلَتِ الياءُ الأُولَى أَلِفًا، فقالوا:(آية).
إطلاقين، أَمَّا الإِطْلَاقَانِ في لغةِ العربِ فأشهرُهما: أن العربَ تُطْلِقُ (الآيةَ) على (العلامةِ)، تقولُ:«آيةُ كَذَا» ، أي: علامتُه. ومنه قولُه تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ} [البقرة: آية 248] أي: علامةُ أَنَّ اللَّهَ مَلَّكَ طالوتَ عليكم: أن يأتيكَم التابوتُ. وهذا أشهرُ اصطلاحِ الآيةِ. وقد جاءَ في شعرِ نابغةِ ذبيانَ - وهو عَرَبِيٌّ قُحٌّ جَاهِلِيٌّ - تفسيرُ الآيةِ بالعلامةِ، حيث قال
(2)
:
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا
…
لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
[ثم بَيَّنَ]
(3)
أن مرادَه بالآياتِ: علاماتُ الدارِ وآثارُها، حيث قال
(4)
:
رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْيًا أُبِينُهُ
…
وَنُؤْيٌ كَجَذْمِ الْحَوْضِ أَثْلمُ خَاشِعُ
(1)
مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة.
(2)
مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة.
(3)
في هذا الموضع انقطاع في التسجيل، وقد أتممتُ النقص من كلام الشيخ رحمه الله عند تفسير الآية (9) من سورة الأعراف.
(4)
مضى عند تفسير الآية (46) من سورة البقرة.
المعنَى الثاني من إطلاقِ الآيةِ في اللغةِ: أن العربَ تُطْلِقُ الآيةَ على الجماعةِ، تقولُ: جاءَ القومُ بآيتِهم، أَيْ: بِجَمَاعَتِهِمْ. ومنهُ قولُ بُرْجِ بْنِ مُسْهِرٍ
(1)
:
خَرَجْنَا مِنَ النَّقْبَيْنِ لَا حَيَّ مِثْلُنَا
…
بِآيَتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ الْمَطَافِلَا
أي: بِجَمَاعَتِنَا.
إذا عَرَفْتُمْ أن (الآيةَ) في لغةِ العربِ تُطْلَقُ على (العلامةِ)، وَتُطْلَقُ على (الجماعةِ)، فَاعْلَمُوا أن (الآيةَ) في القرآنِ تُطْلَقُ إِطْلَاقَيْنِ
(2)
:
أحدُهما: الآيةُ الكونيةُ الْقَدَرِيَّةُ.
الثاني: الآيةُ الشرعيةُ الدينيةُ.
أما الآيةُ الكونيةُ القدريةُ فَهِيَ العلامةُ التي نَصَبَهَا اللَّهُ كونًا وَقَدَرًا، لِيُبَيِّنَ بها لِخَلْقِهِ أنه الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه، كَفَلْقِهِ الحَبَّ عَنِ السُّنْبُلِ، والنَّوَى عن النخلِ، وكإتيانِه بالليلِ بدلَ النهارِ، والنهارِ بدلَ الليلِ، وكتسخيرِه الشمسَ والقمرَ، وكخلقِه النجومَ لِيُهْتَدَى بها، هذه آياتٌ كونيةٌ قَدَرِيَّةٌ، وَضَعَهَا خالقُ هذا الكونِ كَوْنًا وَقَدَرًا، جَعَلَهَا علامةً لِخَلْقِهِ أنه القادرُ على كُلِّ شَيْءٍ، المعبودُ وَحْدَهُ، والآيةُ الكونيةُ القدريةُ في القرآنِ هِيَ مِنَ الآيةِ اللغويةِ التي بمعنَى (العلامةِ) لَا غير.
الثاني مِنْ إِطْلَاقَيِ الآيَةِ فِي القرآنِ: الآيةُ الشرعيةُ الدينيةُ،
(1)
مضى عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة.
(2)
السابق.
كقولِه: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ} [الطلاق: آية 11] أَيْ آياتِه الشرعيةَ الدينيةَ، كآياتِ هذا القرآنِ العظيمِ.
أما الآيةُ الشرعيةُ الدينيةُ فقد قال بعضُ العلماءِ: هِيَ مِنَ (العَلَامَةِ) لغةً أيضا؛ لأَنَّهَا علاماتٌ على صدقِ مَنْ جَاءَ بِهَا لِمَا فيها من الإعجازِ.
وقال بعضُ العلماءِ: الآيةُ الشرعيةُ الدينيةُ من الإطلاقِ اللغويِّ الآخَرِ، أي: بمعنَى الجماعةِ؛ لأَنَّ الآيةَ: جماعةٌ مِنْ كَلِمَاتِ القرآنِ اشْتَمَلَتْ على بعضِ ما اشتملَ عليه القرآنُ من الإعجازِ والعقائدِ والحلالِ والحرامِ
(1)
.
وهذا معنَى قولِه: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . أما القومُ الذين لا يعلمونَ فتفصيلُ هذه الآياتِ لَا ينفعُ فيهم؛ لأَنَّهُمْ لَا يفهمونَ عَنِ اللَّهِ شيئًا، فَهُمْ كالأنعامِ؛ لأَنَّ الْحَمِيرَ والبغالَ والبعيرَ لَا يفهمونَ هذه الآياتِ عن اللَّهِ، وَاللَّهُ (جل وعلا) فَضَّلَ عليهم الأنعامَ، قال:{أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: آية 179]{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَاّ كَالْأَنْعَامِ} [الفرقان: آية 44] فالكفارُ - والعياذُ بِاللَّهِ - أَنْزَلُ درجةً من الأنعامِ، وإيضاحُ ذلك: أن البغلَ - مثلاً - والبعيرَ، البغلةُ التي تُعْطِيهَا الشعيرَ وَتُعْلِفُهَا إذا رَأَتْكَ صَهَلَتْ إليكَ، وَظَهَرَ عليها الفرحُ إذا رَأَتْكَ، الكافرُ يُغْدِقُ اللَّهُ عليه نِعَمَهُ، وهو يرتكبُ مَسَاخِطَهُ وَيُنَاصِبُهُ بالعداءِ جل وعلا!!
(1)
راجع ما سبق عند تفسير الآية (73) من سورة البقرة.