الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مَنْهَجُ الشَّيْخِ رحمه الله فِي تَدْرِيسِ التَّفْسِيرِ
(1)
:
كان لدرسِ الشيخِ رحمه الله في التفسيرِ من حيث التوسعُ وعدمُه - كما ذَكَرَ أَحَدُ تَلَامِذَتِهِ
(2)
- ثلاثةُ أحوالٍ:
الأُولَى: الإسهابُ والتوسعُ. وعلى هذه الحالِ كانت دروسُه في المسجدِ النبويِّ.
الثانيةُ: التوسطُ بين التوسعِ والاقتضابِ. وهذه حالُ دُرُوسِهِ في الجامعةِ في الأحوالِ العاديةِ.
الثالثةُ: الاقتضابُ الشديدُ. وهو المرورُ السريعُ على بعضِ المفرداتِ في الآيةِ، والإشارةُ السريعةُ إلى بعضِ مَعَانِيهَا، وكان يَلْجَأُ إلى ذلك في آخِرِ السنةِ الدراسيةِ عندما يَرَى أنه لا يمكن إِكْمَالُ المنهجِ المقررِ بأسلوبِ الحالةِ الثانيةِ.
وسوف أقتصرُ في الكلامِ هنا على الحالةِ الأُولَى؛ لأنها هي التي تتعلقُ بغالبِ المادةِ التي بَيْنَ أَيْدِينَا.
لقد كان درسُ الشيخِ رحمه الله يمتازُ بتسخيرِ جميعِ علومِ العربيةِ وغيرِها من العلومِ الإسلاميةِ في تفسيرِ كتابِ اللَّهِ (تعالى)، ومحاكمةِ الآراءِ والمعانِي التي تُقَالُ في الكلمةِ أو الآيةِ إلى ما غَلَبَ في القرآنِ نفسِه، ثم تفسيرِه بِالسُّنَّةِ، ثم بما وَرَدَ عن السلفِ، مع التعمقِ في فَهْمِ ذلك بالأساليبِ العربيةِ
(3)
.
(1)
المصدر السابق ص11.
(2)
وربما كانت بعض تلك الشواهد تحمل معاني غير مستحسنة، وقد برر الشيخ رحمه الله إيرادها بقوله:«وقصدنا بهذا الكلام الخبيث بيان لغة العرب، لا المعاني الخسيسة التافهة؛ لأن معاني لغة العرب يُستفاد منها ما يعين على فهم كتاب الله وسنة رسوله، وإن كان مُفْرَغًا في مَعَانٍ خسيسة تافهة، فنحن نقصد مطلق اللغة لا المعاني التافهة التي هي تابعة لها» ا. هـ من كلامه على الآية رقم (2) من سورة الأعراف.
(3)
علماء ومفكرون عرفتهم (1/ 181).
(2)
(3)
كانت حلقةُ الدرسِ تُفْتَتَحُ بآيٍ من السورةِ المقصودِ تفسيرُها، يَتْلُوهَا أحدُ التلاميذِ - وهي بمعدلِ خمسِ آياتٍ تقريبًا - فإذا فَرَغَ القارئُ شَرَعَ الشيخُ في التفسيرِ مُبْتَدِئًا بالمناسبةِ بَيْنَ الآيةِ وما قَبْلَهَا في بعضِ الأحيانِ، ثُمَّ يَعْرِضُ للمفرداتِ اللغويةِ بحيثُ يَعْرِضُ معانيها واشتقاقاتِها وَكُلَّ ما يتصلُ بها مِنْ قريبٍ أو بعيدٍ، مُسْتَعِينًا على ذلك بِمَا لا يُحْصَى من شواهدِ اللغةِ
(1)
، وَمِنْ ثَمَّ يتناولُ العلائقَ التركيبيةَ بين المفرداتِ، فيعرضُ لضروبِ القراءاتِ الواردةِ فيها مع عَزْوِهَا وَتَوْجِيهِهَا، كما يَذْكُرُ وجوهَ الإعرابِ وما تُقَرِّرُهُ من المدلولاتِ، فإذا انْتَهَى من ذلك صرفَ الأذهانَ إلى الاستنباطِ الفقهيِّ، مع ذِكْرِ الخلافِ والأدلةِ والترجيحِ، مستعينًا على ذلك بِكُلِّ ما يتطلبُه المقامُ من علومِ اللسانِ، والبيانِ، والأصولِ، والناسخِ والمنسوخِ، وأسبابِ النزولِ، وما يتصلُ بذلك من العمومِ والخصوصِ والإطلاقِ والتقييدِ، ولا يَفُوتُهُ أن يربطَ بعضَ المعانِي ببعضِ الوقائعِ الْمُشَابِهَةِ على صورةٍ تُثْرِي المعرفةَ، وَتُعَمِّقُ أسبابَ الإقناعِ.
وإذا كان المضمونُ قَصَصِيًّا عَمَدَ إلى عناصرِ القصةِ فاستخرجَ عِبَرَهَا، وَكَشَفَ نُذُرَهَا، وقاسَ ما فيها من صورِ الماضي على ما يُعَايِشُهُ الناسُ من أحداثِ الحاضرِ
(2)
، فكان كثيرَ الربطِ بين هذا
وهذا، فتجدُه يتحدثُ عن أسبابِ ضَعْفِ المسلمين اليومَ، وعن الموقفِ من الحضارةِ الغربيةِ، ولزومِ الأخذِ بأسبابِ القوةِ، وأسبابِ النصرِ والتمكينِ. . . وغيرِ ذلك مما تَجِدُهُ في مواضعِه من هذه الدروسِ.
وهكذا حِينَمَا يعرضُ لغزوةٍ من الغزواتِ فإنه يَسْتَطْرِدُ في ذِكْرِ تفاصيلِها المختلفةِ، وقد قال رحمه الله عندَ تفسيرِ الآياتِ المتعلقةِ بغزوةِ حُنَيْنٍ من سورةِ بَرَاءَةٍ:«ونحنُ دائمًا في هذه الدروسِ إذا جاءت غزوةٌ من مَغَازِي رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الآياتِ القرآنيةِ نُفَصِّلُهَا ونذكرُ تفاصيلَها لتمامِ الفائدةِ، كما أَوْضَحْنَا فيما مَضَى غزوةَ أُحُدٍ في سورةِ آلِ عمرانَ، وغزوةِ بَدْرٍ في سورةِ الأنفالِ، وسيأتي في سورِ القرآنِ العظيمِ أكثرُ مَغَازِيهِ صلى الله عليه وسلم» اهـ.
وإذا كانت الآيةُ المفسرةُ مما يتعلقُ به بعضُ المبتدعةِ فإنه يُنَبِّهُ على ذلك ثم يَسْتَطْرِدُ فِي الردِّ عليهم، وقد قال عندَ تفسيرِ الآيةِ رقم (107) من سورةِ الأعرافِ حينَ عَرَضَ لشبهةِ الجبرِ والقَدَرِ:«وَنَحْنُ في هذه الدروسِ دائمًا نُبَيِّنُ كيفيةَ رَدِّ هذه الشُّبَهِ» اهـ.
وكان رحمه الله كثيرًا ما يَعْرِضُ السؤالَ الذي يَتَوَقَّعُ انقداحَه في أذهانِ السامعين ثم يجيبُ عنه، وقد قال عند تفسيرِ الآيةِ رقمِ (37) من سورةِ التوبةِ:«إِنَّ من عادتنا التي نَجْرِي عليها في هذه الدروسِ أن نتعرضَ لِمَا نَظُنُّ أنه يَسْأَلُ عنه طلبةُ العلمِ» اهـ وهذا تجده مبثوثًا في هذا التفسيرِ فيما يَقْرُبُ من سبعين موضعًا.
وكثيرًا ما يَقْرِنُ الشيخُ ذلك كُلَّهُ بالوعظِ والتذكيرِ بالاستعدادِ للآخرةِ واستحضارِ المراقبةِ لِلَّهِ عز وجل.
وقد يَسْتَطْرِدُ في بعضِ الأحيانِ في قضيةٍ واحدةٍ تستغرقُ الدرسَ كُلَّهُ - وهذا قليلٌ فيما وَقَفْتُ عليه - كما فَعَلَ عند الكلامِ على قولِه (تعالى) من سورةِ الأعرافِ: {مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: آية 12] حيث أَطَالَ في الردِّ على ابنِ حَزْمٍ في رَدِّهِ القياسَ، كما سَتَقِفُ على ذلك في موضعِه من سورةِ الأعرافِ.
وكذلك عند الكلامِ على قوله (تعالى) من السورة نفسها: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: آية 54] حيث بَسَطَ الكلامَ على مسألةِ الصفاتِ.
وكذا في تفسيرِ قولِه تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: آية 57] حيث أطالَ النَّفَسَ في الردِّ على أهلِ الفَلَكِ.
وربما أَحَالَ إلى بعضِ كُتُبِهِ، كما نرى ذلك عند كلامِه على المجازِ أثناءَ تفسيرِ الآيةِ رَقْمِ (21) من سورةِ بَرَاءَةٍ.
ومما يُذْكَرُ في هذا المقامِ مِمَّا يَدُلُّ على غَزَارَةِ تلك الدروسِ بالعلمِ أن الشيخَ رحمه الله حينما عُرِضَ عليه درسُه السابقُ المتعلقُ بالردِّ على ابنِ حَزْمٍ في إنكارِ القياسِ - مُفرَّغًا من الشريطِ الْمُسَجَّلِ بعد سنةٍ من إلقائِه - وَسَمِعَهُ الشيخُ بصوتهِ قال: «لِوْلَا أَنِّي أَسْمَعُ صَوْتِي بِأُذُنِي وأنتَ - يعني تلميذَه الشيخَ عطيةَ - أَتَيْتَنِي بها مكتوبةً؛ ما صدقتُ أن شخصًا يقولُ هذا ارْتِجَالاً»
(1)
.
(1)
ترجمة الشيخ محمد الأمبن الشنقيطي، للسديس ص222.
وَلَمَّا رَاجَعَهُ أحدُ تلامذتِه في تخفيفِ مستوى الدرسِ، أَجَابَ بقولِه:«إن اللَّهَ يفتحُ على المرءِ ما لم يكن يتوقعُ، ثم إن المسجدَ يَجْمَعُ عجائبَ من أجناسٍ مختلفةٍ، وَيَكْفِينِي واحدٌ يَحْمِلُ عَنِّي ما بَلَّغْتُ مِمَّا عِنْدِي»
(1)
اهـ.
وقد نَبَّهَ الشيخُ رحمه الله على ذلك عند الكلامِ على قولِه (تعالى) من سورة براءة: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
…
} [التوبة: آية 44] لَمَّا تكلمَ على بعضِ النواحِي الإعرابيةِ واللغويةِ المتصلةِ بالآيةِ، فقال بعدَ ذلك:«ونحنُ نذكرُ هذه الأشياءَ العربيةَ، وإن كانَ أكثرُ المستمعين لا يَفْهَمُونَهَا؛ لأَنَّا نريدُ أن تكونَ هذه الدروسُ القرآنيةُ يستفيدُ منها كُلُّ الحاضرين على قَدْرِ استعداداتِهم، وَاللَّهُ يُوَفِّقُ الجميعَ للخيرِ» اهـ.
وذكر رحمه الله بعضَ التحقيقاتِ اللغويةِ في موضعٍ آخرَ، ثم عَقَّبَ ذلك بقولِه:«فنحنُ - أيها الإخوانُ - نذكرُ هذه المناسباتِ؛ لأَنَّا نعلمُ أن القرآنَ العظيمَ هو مصدرُ العلومِ، وله في كُلِّ عِلْمٍ بيانٌ، فنتطرقُ الآيةَ من وجوهها، وَقَصْدُنَا انتفاعُ طلبةِ العلمِ؛ لأن القرآنَ أصلٌ عظيمٌ تُعْرَفُ به أصولُ التصريفِ، والنحوِ، وأصولِ الفقهِ، والتاريخِ، والأحكامِ، إلى غيرِ ذلك من جميعِ النواحِي، فنحن جَرَتْ عادتُنا بأن نتطرقَ الآيةَ من جميعِ نواحيها بحسبِ الطاقةِ لينتفعَ كُلٌّ بِحَسَبِهِ»
(2)
اهـ.
وقال عند تفسيرِ قولِه (تعالى): {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}
…
[التوبة: آية 34]: «ونحنُ - عادةً في هذه
(1)
المصدر السابق.
(2)
ذكره عند تفسير الآية (101) من سورة الأعراف.
الدروسِ - إذا مررنا بآيةٍ من كتابِ اللَّهِ هي أصلُ بابٍ من أبوابِ الفقهِ نتعرضُ إلى مسائلِه الكبارِ، وَنُبَيِّنُ عيونَها ومسائلَها التي لها أهميةٌ» اهـ.
ولم يكن الشيخُ رحمه الله يتركُ الحديثَ عن الأحكامِ المتعلقةِ بالآيةِ نظرًا لأن موضوعَها قد عُطِّلَ أوكَادَ في هذا العصرِ أَنْ يُعَطَّلَ، فنجدُه عند الكلامِ على قولِه تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّنْ شَيْءٍ}
…
وقد ينسى الشيخُ رحمه الله مسألةً يَرْغَبُ في عَرْضِهَا عندَ تفسيرِه للآيةِ فَيَسْتَدْرِكُ ذلك في الدرسِ الذي يَلِيهِ ويتكلمُ عليها قَبْلَ أن يَشْرَعَ في تفسيرِ الآياتِ التي بعدَها، كما وَقَعَ عندَ تفسيرِ الآيةِ رقم (37) من سورةِ براءةٍ. ولربما وقعَ له ذهولٌ عن أحدِ الأقسامِ التي هو بِصَدَدِ الحديثِ عنها فلا يَذْكُرُهُ، ثم يُنَبِّهُ على ذلك في مناسبةٍ أخرى تُمَاثِلُهَا، كما في كلامِه على مادةِ (بَيَنَ) والمعاني التي تأتي لها في حالِ لُزُومِهَا وَتَعَدِّيهَا، فقد تكلمَ عليها في سبعةِ مواضعَ، ثلاثة في الأنعامِ وأربعة في الأعرافِ، وقد قال عندَ كلامِه عليها في الموضعِ
السادسِ، وذلك ضمنَ تفسيرِ الآيةِ رقم (101) من سورةِ الأعرافِ: «وَقَدْ ذَكَرْنَا فيما مَضَى في الكلامِ على قولِه: {قَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ} [الأنعام: آية 157] تصريفَ هذه الكلمةِ وما جاءَ من أمثلتِها في القرآنِ ببعضِ أمثلتِها، وكانَ ذلك الذي ذَكَرْنَا هنالك سَقَطَ منه قِسْمٌ نِسْيَانًا، وكنا نَتَحَرَّى إِنْ جَاءَتْ لها مناسبةٌ أخرى أن نُبَيِّنَ القسمَ الذي سقطَ من كلامنا سَهْوًا لئلا يضيعَ على بعضِ طلبةِ العلمِ الذين يسمعون هذه الدروسَ
…
» إلى آخرِ ما ذَكَرَهُ رحمه الله.
ومع هذه الغزارةِ في المعلوماتِ؛ فقد كان الشيخُ رحمه الله حين يُلْقِي درسَه كالسيلِ المنحدرِ؛ فهو يُسْرِعُ في الإلقاءِ، وتتواردُ عليه هذه المعلوماتُ المتنوعةُ، التي تَمُدُّهُ بها تلك الذاكرةُ النادرةُ، فيضعُ كُلَّ معلومةٍ في مَوْضِعِهَا، فتأتي متسقةً مترابطةً، كُلُّ ذلك في لغةٍ عاليةٍ، لا لَحْنَ فيها ولا سُوقِيَّة
(1)
.
ومع هذا الإسراعِ في العرضِ، بالإضافةِ إلى ذلك الكمِّ الهائلِ من المعلوماتِ المتنوعةِ، مع ما في ضِمْنِ ذلك من عَزْوٍ للقراءاتِ إلى قارئيها، والأحاديثِ إلى مُخَرِّجِيهَا، والأقوالِ والمذاهبِ الفقهيةِ لأصحابِها، والأشعارِ والشواهدِ لقائلِيها، إلى غيرِ ذلك مِمَّا عَرَضَ له في هذا التفسيرِ؛ فإنك مع ذلك كُلِّهِ يَنْدُرُ أن تقولَه على غلطٍ مُحَقَّقٍ، وقد تَتَبَّعْتُ كُلَّ ما يذكره في هذا التفسيرِ بُغْيَةَ تَوْثِيقِهِ فَهَالَنِي قوةُ ضَبْطِهِ وحفظِه وإتقانِه. ولعلَّ من الطريفِ أن أذكرَ أن الشيخَ رحمه الله عند كلامِه على القراءاتِ في معرضِ تفسيرِه للآيةِ رقم (61) من سورةِ براءة أخطأَ فنسبَ قراءةَ الخفضِ في قولِه
(1)
انظر: علماء ومفكرون عرفتهم (1/ 182).
تعالى: {ورحمةٍ} إلى الكسائيِّ، فَتَرَدَّدْتُ في التعليقِ على ذلك لِمَا عهدتُه من ضَبْطِه وحفظِه، ثم وجدتُه بعد أن جاوزَها وتكلمَ على بعضِ المسائلِ يَرْجِعُ ويقول: «وأما على قراءةِ حمزةَ الذي قرأَ {ورحمةٍ} بالخفضِ - هو حمزةُ لا الكسائي - أما على قراءةِ حمزةَ
…
» إلى آخرِ ما ذَكَرَ.
ولربما عزَا الحديثَ إلى بعضِ المصنفاتِ فَتَطَلَّبْتُهُ فيه مرةً بعد مرةٍ بشتى الطرقِ المعروفةِ في تخريجِ الحديثِ حتى إذا كِدْتُ أن أجزمَ بعدمِ وجودِه فيه وجدتُه بعد ذلك في غيرِ مَظَانِّهِ.
هذا وقد جَرَى كثيرٌ من المفسرين على إيرادِ الأدلةِ والتفصيلاتِ المختلفةِ عندَ أولِ مناسبةٍ تَعْرِضُ لهم، ثم إذا تَكَرَّرَ نظائرُ لذلك فإنهم يكتفونَ بالإشارةِ لِمَا حَرَّرُوهُ في الموضعِ المتقدمِ، وهذا أمرٌ يُفِيدُ في اختصارِ حجمِ الكتابِ بلا رَيْبٍ وإن كان يؤثرُ على القارئِ كما لا يَخْفَى، وقد جرى على هذه الطريقةِ الشيخُ نفسُه في كتابِه:"أَضْوَاءِ الْبَيَانِ".
وأما الطريقةُ الثانيةُ وهي أن يُبَيِّنَ ما احتاجَ إلى بيانٍ في كُلِّ موضعٍ، وإن كان ذلك متكررا، فهذه الطريقةُ أنفعُ للقارئِ من التي قَبْلَهَا خاصةً في التفسيرِ، يقول الشيخُ عبدُ الرحمنِ بنُ سَعْدِي رحمه الله: «اعْلَمْ أن طريقتي في هذا التفسيرِ أَنِّي أذكرُ عندَ كُلِّ آيةٍ ما يحضرني من معانيها ولا أَكْتَفِي بِذِكْرِي ما تَعَلَّقَ بالمواضعِ السابقةِ عن ذِكْرِ ما تعلقَ بالمواضعِ اللاحقةِ؛ لأن اللَّهَ وَصَفَ هذا الكتابَ أنه: {مَّثَانِيَ} ثَنَّى فيه الأخبارَ والقصصَ والأحكامَ وجميعَ المواضيعِ النافعةِ لِحَكَمٍ عَظِيمَةٍ، وَأَمَرَ بِتَدَبُّرِهِ جميعِه لِمَا في ذلك من زيادةِ العلومِ والمعارفِ وصلاحِ
الظاهرِ والباطنِ وإصلاحِ الأمورِ كُلِّهَا» اهـ
(1)
.
ثم إن الْحَاجَةَ لذلك تَعْظُمُ إذا كان التفسيرُ دَرْسًا يُلْقَى في سنين متطاولةٍ في مواسمَ معينةٍ مع ما بَيْنَهَا من التباعدِ في المدةِ وما يحصلُ مع ذلك من النسيانِ لَدَى السامعين؛ إضافةً إلى تَجَدُّدِ الكثيرِ من الوجوهِ في كُلِّ مَرَّةٍ؛ ولذا جَرَى الشيخُ رحمه الله في هذا التفسيرِ على بيانِ الآيةِ من جميعِ الوجوهِ مع صَرْفِ النظرِ عن كَوْنِ ذلك يقعُ مُتَكَرِّرًا، فنجدُه يُبَيِّنُ أَنَّ:{لَعَلَّ} تأتي لمعنى التعليلِ في جميعِ القرآنِ إلا في موضعٍ واحدٍ؛ يذكر ذلك في أحدَ عشرَ موضعًا، وَيُنَبِّهُ على الفرقِ بين النبأِ والخبرِ في تسعةِ مواضعَ، كما نَجِدُ بعضَ القضايا يُكَرِّرُهَا في ثمانيةِ مواطنَ كبيانِ الفرقِ بينَ الخوفِ والحزنِ، ولزومِ الحملِ على ظاهرِ القرآنِ إلا لدليلٍ، وأن الشيءَ قد يُقْصَرُ على بعضِ أفرادِه؛ لأنهم المنتفعون به، وقضيةُ الحكمِ بغيرِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ، وأن عِلْمَ الغيبِ يختصُّ بِاللَّهِ عز وجل، وهناك بعضُ المسائلِ التي تَكَرَّرَتْ في سبعةِ مواضعَ، كالكلامِ على أطوارِ خلقِ الإنسانِ، وأن الله خَلَقَ الخلقَ ليختبرهم في إحسانِ العملِ، وشرحِ الأُسُسِ الثلاثةِ التي يُبْنَى عليها الاعتقادُ في بابِ الأسماءِ والصفاتِ، والردِّ على القدريةِ القائلين بأن اللَّهَ لم يَشَأِ الكفرَ والمعاصيَ، والمناظرةُ المشهورةُ التي وَقَعَتْ بين أبي إسحاقَ الإسفرائيني والقاضي عبدِ الجبارِ المعتزليِّ في القدرِ، وغير ذلك مما تَكَرَّرَ هذا التَّكَرُّرَ في هذا التفسيرِ، وأما القضايا التي تَكَرَّرَتْ دونَ ذلك فهي كثيرةٌ لا أُطِيلُ بِذِكْرِهَا، عِلْمًا بأن ما بِأَيْدِينَا من هذه الدروسِ إنما يُمَثِّلُ أجزاءً قليلةً من هذا التفسيرِ الْمُبَارَكِ، فكيف لو وُجِدَ كَامِلاً؟
(1)
تيسير الكريم الرحمن ص28.