المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

عن مثل قول المسيح الصريح: "رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون - العلمانية - نشأتها وتطورها

[سفر الحوالي]

فهرس الكتاب

- ‌ملخص هذه المادّة

- ‌ مقدمة الكتاب:

- ‌أسباب اختيار المؤلف لموضوع العلمانية:

- ‌المباحث التي اشتملت عليها الرسالة:

- ‌ تعريف العلمانية:

- ‌ الباب الأول: دين أوروبا أو النصرانية بين التحريف والإبداع:

- ‌ الفصل الأول: التحريف:

- ‌مقدمة:

- ‌أولاً: تحريف العقيدة:

- ‌ثانياً: تحريف الشريعة:

- ‌ الفصل الثاني: البدع المستحدثة في الدين النصراني:

- ‌توطئة:

- ‌أولاً: رجال الدين الإكليروس:

- ‌ثانياً: الرهبانية:

- ‌ثالثاً: الأسرار المقدسة:

- ‌رابعاً: عبادة الصور والتماثيل:

- ‌المعجزات والخرافات:

- ‌صكوك الغفران:

- ‌ الباب الثاني: أسباب العلمانية:

- ‌ الفصل الأول: الطغيان الكنسي:

- ‌أسباب طغيان رجال الكنيسة:

- ‌أولاً: الطغيان الديني:

- ‌ثانياً: الطغيان السياسي:

- ‌ثالثاً: الطغيان المالي:

- ‌خلاصة مظاهر الطغيان الكنسي:

- ‌ الفصل الثاني: الصراع بين الكنيسة والعلم:

- ‌أولاً: مطلع العصر الحديث والقرن السابع عشر:

- ‌ثانياً: القرن الثامن عشر:

- ‌ الفصل الثالث: الثورة الفرنسية:

- ‌أولاً: الفكر اللاديني الذي طبع عصر التنوير:

- ‌ثانياً: وقوف الكنيسة ضد مطالب الجماهير:

- ‌ثالثاً: القوى الشيطانية الخفية

- ‌ الفصل الرابع: نظرية التطور:

- ‌آثار الداروينية:

- ‌ الباب الثالث: العلمانية في الحياة الأوروبية:

- ‌ الفصل الأول: علمانية الحكم:

- ‌أولاً: النظرية الخيالية:

- ‌ثانياً: نظرية العقد الاجتماعي:

- ‌ثالثاً: نظرية الحق الإلهي:

- ‌النظريات الحديثة والمعاصرة:

- ‌نظرة إلى الواقع المعاصر:

- ‌ الفصل الثاني: علمانية الاقتصاد:

- ‌أولاً: نظرية الكنيسة ونظام الإقطاع:

- ‌ثانياً: المذاهب الاقتصادية اللادينية:

- ‌ثالثاً: الواقع المعاصر للجاهلية الحديثة:

- ‌ الفصل الثالث: علمانية العلم:

- ‌موقف العلم المعاصر تجاه الدين في القرن التاسع عشر:

- ‌ الفصل الرابع: علمانية الاجتماع والأخلاق:

- ‌مجتمع القرون الوسطى وأخلاقها:

- ‌النظريات والمدارس المجتمعة اللادينية:

- ‌واقع المجتمع اللاديني المعاصر:

- ‌ الفصل الخامس: علمانية الأدب والفن:

- ‌توطئة:

- ‌أولاً: عصر النهضة الأوروبية .. الكلاسيكية الجديدة:

- ‌ثانياً: العصر الحديث:

- ‌ثالثاً: الأدب المعاصر من الواقعية إلى اللامعقول:

- ‌أمثلة من أدب الضياع

- ‌نماذج من مدارس الضياع:

- ‌ الفصل السادس: ماذا بقي للدين:

- ‌ الباب الرابع: العلمانية في الحياة الإسلامية:

- ‌ الفصل الأول: أسباب العلمانية في العالم الإسلامي:

- ‌أولاً: انحراف الأمة الإسلامية:

- ‌ثانياً: التخطيط اليهودي الصليبي:

- ‌ الفصل الثاني: مظاهر العلمانية في الحياة الإسلامية:

- ‌أولاً: في الحكم والتشريع:

- ‌ثانياً: في التربية والثقافة:

- ‌ثالثاً: في الاجتماع والأخلاق:

- ‌ الباب الخامس: حكم العلمانية في الإسلام:

- ‌ الفصل الأول: هل للعلمانية في العالم الإسلامي مبرر

- ‌الفروق الجوهرية بين الإسلام والديانة الكنسية:

- ‌ الفصل الثاني: حكم العلمانية في الإسلام:

- ‌حقيقة الطاغوت والعبادة:

- ‌نواحي تنافي العلمانية مع الإسلام:

- ‌النتائج السيئة للعلمانية على الإنسان:

- ‌ المراجع:

- ‌ المراجع العربية

- ‌المراجع الإنجليزية:

- ‌الفوائد المستخلصة

الفصل: عن مثل قول المسيح الصريح: "رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون

عن مثل قول المسيح الصريح: "رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون عليهم، فلا يكون هكذا فيكم" وقوله: "أحبوا أعداءكم أحسنوا إلى مبغضيكم، باركوا لاعنيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم"(1).

‌ثانياً: الرهبانية:

للوجود الإنساني في هذه الأرض غاية سامية أرادها الخالق سبحانه منذ أن اختار الإنسان للقيام بالمهمة العظمى "الخلافة في الأرض"، وأناط به مسئولية عمرانها بالصلاح والخير، ولكيلا ينسى الإنسان الغاية من وجوده، ولتقوم عليه الحجة أمام خالقه، جعل الله تعالى تلك الغاية جزءاً من تكوينه، مودعاً إياها في أعماق نفسه، ((فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ)) [الروم:30]، وبعث إليه الرسل تترى ليكونوا نماذج حية لتحقيق هذه الغاية الإيجابية والدعوة إليها.

لكن الناس -بإغواء الشيطان لهم- يضلون الطريق، فيغفلون عن غاية وجودهم، منغمسين في حدود المطالب الحيوانية العاجلة، أو يتصورون هذه الغاية على غير حقيقتها، فتضل أعمالهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

ومن تصور هذه الغاية على غير حقيقتها، الاعتقاد بتفاهة الحياة الدنيا إلى درجة إسقاط القيمة التي جعلها الله لها، والغلو في تهذيب النفس البشرية إلى حد التضييق والتعذيب، مع صرف النظر عن عمارة الكون التي هي جزء من الغاية العظمى.

(1) لوقا: (6/ 28).

ص: 85

وما الرهبانية التي عرفها الناس منذ القدم إلا تطبيق عملي للتصور السلبي الخاطئ الذي نشأ عن الجهل بطبيعة الإنسان ومهمته في الوجود.

ومع أن الرهبانية بدعة بشرية مشتركة بين أديان عديدة، نلاحظ أن للرهبانية النصرانية ظروفاً وأسباباً بارزة تضافرت على إيجادها وتنميتها، حتى أصبحت أبرز مظاهر الدين الكنسي على مر العصور.

أسباب الرهبانية:

1 -

عقيدة الخطيئة الأصلية الموروثة: إحدى التعاليم الكبرى في المسيحية المحرفة، وموجزها أن آدم عليه السلام أكل من الشجرة "شجرة المعرفة! " فعاقبه الله بالطرد من الجنة وأسكنه التراب، وظل الجنس البشري يرسف في أغلال تلك الخطيئة أحقاباً متطاولة، حتى أنزل الله ابنه -تعالى على ذلك علواً كبيراً- ليصلب فداءً للنوع الإنساني، وليبين للناس طريق الخلاص من هذه الخطيئة، فأصبح لزاماً على الإنسان أن يقتل نفسه لمنحها الخلاص، يقول إنجيل متى:"من أراد أن يخلص نفسه يهلكها"(1).

ويقول إنجيل لوقا: "من طلب أن يخلص نفسه يهلكها ومن أهلكها

" (2).

ولما كانت المرأة -حسب رواية سفر التكوين- هي التي أغرت الرجل بالأكل من الشجرة، فإن النصرانية المحرفة ناصبت المرأة العداء، باعتبارها أصل الشر ومنبع الخطيئة في العالم، لذلك فإن عملية الخلاص من الخطيئة لا تتم إلا بإنكار الذات وقتل كل الميول الفطرية والرغبات الطبيعية، والاحتقار البالغ للجسد وشهواته لا سيما الشهوة الجنسية.

(1)(16: 26).

(2)

(17: 24).

ص: 86

ومن ناحية أخرى تولد عن الشعور المستمر بالخطيئة أن قنط كثيرون من رحمة الله، فلا يكاد أحدهم يقترف كبيرة حتى تظلم الدنيا في عينيه، ويثأر من نفسه بإرغامها على الالتحاق بأحد الأديرة والمترهبين فيه.

2 -

رد الفعل المتطرف للمادية اليهودية الجشعة والأبيقورية الرومانية النهمة:

فقد بعث الله عبده ورسوله المسيح بين ظهراني فئتين يربطهما رباط التهالك على الدنيا، والتفاني في سبيل ملذاتها، والعبودية الخانعة لشهواتها، هما: قومه اليهود أجشع بني الإنسان وأشدهم تعلقاً وتشبثاً بالحياة، ومستعمروهم الروم الغارقون إلى آذانهم في مستنقع الحياة البهيمية وأوكار الشهوات الدنسة، فكان المسيح عليه السلام بأمر الله - يعظهم بأبلغ المواعظ، ويذكرهم بالآخرة أعظم تذكير، ويضرب لهم الأمثال المتنوعة، ويقص عليهم القصص المؤثرة، كل ذلك لكي يرفعهم من عبودية الدنيا إلى عبادة الله، ويفتح عيونهم على ما ينتظرهم في العالم الآخر من الأهوال، فيحسبوا له الحساب، وآمن بالمسيح قوم تأثرت أنفسهم، واتعظت قلوبهم بما سمعوا منه، لكنهم مع مرور الزمن ورد فعل منهم للضغط المادي عليهم، غلوا واشتطوا حتى خرجوا عن حدود ما يأمرهم به الوحي وتمليه الفطرة السوية، ونسبوا إلى المسيح أنه أمر الغني أن يتجرد من أمواله، ويحمل الصليب ويتبعه، وقال:"مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله "(1)، وأنه أوصى تلاميذه قائلاً:"لا تقتنوا ذهباً ولا فضةً ولا نحاساً في مناطقكم، ولا مزوداً للطريق، ولا ثوبين، ولا أحذية، ولا عصاً"(2).

(1) مرقص (10: 22)، ومتى (19: 25).

(2)

متى (10: 10 - 11)، ومثله لوقا (9: 4 - 10).

ص: 87

3 -

الأثر الذى خلفته الفلسفات ووثنيات التهربية القانطة:

كان العالم في العصر الواقع بين وفاة المسيح ومبعث محمد صلى الله عليه وسلم يعيش فترة من انقطاع الوحى، والمتعطش إلى دين حقيقى لم تستطع المسيحية المحرفة أن تسدها، فاستبدت الحيرة والضلال بكثير من ذوي التفكير العميق والإحساس المرهف، فابتكروا، أو اعتنقوا، فلسفات تنم عن التذمر والتهرب من الحياة، وتقوم على التأمل والاستغراق في عالم ما وراء المادة، وخير مثال لذلك الفلسفة الرواقية.

وكان إلى جانب ذلك وثنيات قاتلة تقهر الجسد على حساب الروح وتقدس اليأس والتقشف، كالبوذية والبرهمية.

ولما كان بولس - محرف المسيحية الأكبر - مطلعاً على هذه الفلسفات والوثنيات متأثراً بآرائها، فقد لقح بها ديانته الوضعية، وأدخلها في صلب مسيحيته، ثم توارثها الأتباع من بعده، ومن اقتباسات بولس النظرة المتشائمة إلى الحياة الدنيا ومتاعها.

وقد أثرت هذه الاعتقادات وما اقتبسته المسيحية المحرفة منها في رواج الرهبانية وشيوعها في القرون التي تلت المسيح.

يقول صاحب " معالم تاريخ الإنسانية": "كانت الأديرة موجودة في العالم قبل ظهور المسيحية، وفي الفترة التي ألمَّ فيها الشقاء الاجتماعي باليهود، قبل زمان يسوع الناصري، كانت طائفة من النساك الأسينيين تعيش منعزلة في مجتمعات وهبت نفسها لحياة تقشفية من الوحدة والطهر وإنكار الذات، كذلك أنشأت البوذية لنفسها مجتمعات من رجال اعتزلوا غمرة الجهود العامة والتجارة في العالم ليعيشوا عيشة التقشف والتأمل". "ونشأت في زمن مبكر جداً من تاريخ المسيحية حركة مشابهة لهذه تتنكب ما يغمر حياة الناس اليومية من منافسة وحمية وشدائد، وفي

ص: 88

مصر على وجه الخصوص، خرجت حشود كبيرة من الرجال والنساء إلى الصحراء، وهناك عاشوا عيشة عزلة تامة، قوامها الصلوات والتأملات، وظلوا يعيشون في فقر مدقع في الكهوف أو تحت الصخور على الصدقات التي تقذفها إليهم الصدفة من أولئك الرجال الذين يتأثرون بقداستهم" (1).

4 -

الأوضاع الاجتماعية القاسية: كان المجتمع الروماني مجتمعاً طبقياً ظالماً، تكدح فيه قطاعات ومجموعات كبيرة لصالح أفراد قلائل، وكان سكان المستعمرات خاصة يعانون البؤس وشظف العيش إلى جانب الظلم والطغيان، فقنط كثيرون من الحياة، ورأوا أن خير وسيلة للتخلص من خدمة الأسياد والحصول على العيش ولو كفافاً، هو دخول الأديرة حيث ينفق عليهم من تبرعات المحسنين وأوقاف الكنيسة، ويذكر صاحب كتاب " قصة الحضارة" أن "الآلاف من الشباب كانوا يدخلون الأديرة فراراً من الخدمة العسكرية التي فرضها الرومان"(2)

نظام الرهبانية:

يتضمن نظام الرهبانية شروطاً لا بد من تحقيقها في الراهب منها:

1 -

العزوبة: أهم شروط الرهبانية، إذ لا معنى للرهبانية مع وجود زوجة، ومعلوم أن المسيح عليه السلام، لم يتزوج، وينسب إنجيل متى إلى المسيح قوله:"يوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات من استطاع أن يقبل فليقبل"(3).

على أن التنفير

(1) ويلز (3: 730، 732)، وانظر: حياة المسيح للعقاد، (ص:46).

(2)

(ج:14)، (ص:15).

(3)

(19: 13).

ص: 89

من المرأة وإن كانت زوجة، واحتقار وترذيل الصلة الجنسية وإن كانت حلالاً، من أساسيات المسيحية المحرفة، حتى بالنسبة لغير الرهبان، يقول " سان بونافنتور " أحد رجال الكنيسة:"إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائنا بشرياً، بل ولا كائناً حياً وحشياً، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته والذي تسمعون هو صفير الثعبان"(1).

وكان من المشاكل المستعصية على الكنيسة مشكلة زواج رجال الدين غير الرهبان أو تسريهم، و (كانت الكنيسة منذ زمن بعيد تعارض زواج رجال الدين بحجة أن القس المتزوج يضع ولاءه لزوجه وأبنائه في منزلة أعلى من إخلاصه للكنيسة) .... (وأنه سيحاول أن ينقل كرسيه أو مرتبته لأحد أبنائه، يضاف إلى هذا أن القس يجب أن يكرس حياته لله وبني الإنسان، وأن مستواه الأخلاقي يجب أن يعلو على مستوى أخلاق الشعب وأن يضفي على مستواه هذه المكانة التي لا بد منها لاكتساب ثقة الناس وإجلالهم إياه" (2)"بوجوب التبتل على رجال الدين وتطليق زوجات المتزوجين منهم، وكان لهذا الأمر آثار امتدت إلى القرن السادس عشر وانتهت بانتصار الكنيسة"(3).

وإذا كان هذا هو الحال مع غير الرهبان، فلنتصور كيف تكون الحال معهم!

2 -

التجرد الكامل عن الدنيا: ويعنى ذلك: العزلة النهائية عن المجتمع، وقطع النظر عن كل أمل في الحياة، والرضا من الرزق

(1) أشعة خاصة بنور الإسلام: (29).

(2)

قصة الحضارة (14: 382).

(3)

تاريخ أوروبا في العصور الوسطى: (2: 152).

ص: 90

بالكفاف، وعدم الاهتمام بالمطالب الجسدية حتى الضروري منها كالملابس والنظافة، وإذا كانت المسيحية المحرفة تأمر الأفراد العاديين باحتقار الحياة وتعده من أولى الواجبات، فبديهي أن تكون معاملة الراهب أقسى وأعتى.

يقول صاحب كتاب " المشكلة الأخلاقية والفلاسفة ": "لنقرأ هذا السفر الطريف (محاكاة المسيح)، إنه سفر من أكبر أسفار التبتل المسيحي، ولنطلب بين صحائفه مظاهر الحياة المسيحية بمعناها الصحيح، وأن ما نجده لمعبر عن الحال أبلغ عبارة: احتقار أساسى لكل علم، حتى يشمل ذلك علم الإلهيات، واحتقار أصيل لكل ما نسميه خيرات هذا العالم: الثراء والشرف الاجتماعي، حتى المركز الوسط، وإنه لحتم علينا أن نستشعر دائماً التواضع والندم، وأن نمارس عملياً على الدوام التضحية وكل مظهر تمليه الرحمة، وأن نجمع حواسنا في صمت وذهول تام وتأمل ديني ينسى المرء فيه كيانه، يجب أن نقتل فينا كل ميول دنيوي، يجب أن يموت عالم الرغبة، يجب أن نبدأ من هذا العالم الزائل ما سوف يُكوِّن لنا الوجود الأبدي".

ثم يعلق على هذه التعاليم قائلاً:

"عظمة وعلاء؛ ولكنه قضاء قاسٍ على الإنسانية، وإن التطبيق الكامل لمثل تلك المبادئ ليمكن أن يملأ الأرض بأديرة فيها الرجال من جهة والنساء من جهة أخرى، ينتظرون في طهارة وتأمل الزوال النهائي للنوع الإنساني"(1).

3 -

العبادة المتواصلة: يفرض نظام الحياة الرهبانية على الراهب أن يكون في حالة عبادة مستمرة يمليها عليه الأب، ولا يستطيع

(1)(ص:115)، ولم يذكر المؤلف اسم كاتب السفر، وقد علمت بعد البحث أنه الراهب أوغسطين، انظر: سلسلة تراث الإنسانية: (2/ 649).

ص: 91

التردد في الطاعة، بل عليه أن يجهد نفسه ويرهفها ويكلفها ما لا تطيقه من الصلوات والصيام والتراتيل والترانيم وسائر الطقوس، وإذا سئم من ذلك أو قصر في شيء منه فإن للنظام عقوباته الرادعة

ولنأخذ نموذجاً لذلك تعاليم القديس " كولمبان" الذي أسس الأديرة في جبال الفوج بفرنسا، ومن تعاليمه:" يجب أن تصوم كل يوم، وتصلي كل يوم، وتعمل كل يوم وتقرأ كل يوم، وعلى الراهب أن يعيش تحت حكم أب واحد ".

"ويجب أن يأوي إلى الفراش وهو متعب يكاد يغلبه النوم وهو سائر في الطريق، وكانت العقوبات صارمة أكثر ما تكون بالجلد: ستة سياط إذا سعل وهو يبدأ ترنيمة، أو نسي أن يدرم أظافره قبل تلاوة القداس، أو تبسم أثناء الصلاة، أو قرع القدح بأسنانه أثناء العشاء الرباني ".

" وكانت اثنا عشر سوطاً عقاب الراهب إذا نسي أن يدعو الله قبل الطعام، وخمسون عقاب المتأخر عن الصلاة، ومائة لمن يشترك في نزاع، ومائتان لمن يتحدث من غير احتشام مع امرأة.

وأقام " كولمبان " نظام الحمد الذى لا ينقطع، فقد كانت الأوراد يتلوها بلا انقطاع ليلاً ونهاراً طائفة بعد طائفة من الرهبان " يوجهونها إلى عيسى ومريم والقديسين"(1)

4 -

التعذيب الجنوني: لم يقتصر الأمر على ما ذكره بل كما هي طبيعة البدع تجاوز ذلك إلى تصرفات جنونية تشمئز لها الفطر السليمة، ابتدعها بعض الرهبان ليعبروا عن قوة إيمانهم وعمق إخلاصهم لمبدئهم، (وروى المؤرخون من ذلك عجائب فحدثوا عن

(1) قصة الحضارة (14: 365).

ص: 92

الراهب ماكاريوس أنه نام ستة أشهر في مستنقع ليقرض جسمه العاري ذباب سام، وكان يحمل دائماً نحو قنطار من حديد، وكان صاحبه الراهب يوسيبيس يحمل نحو قنطارين من حديد

، وقد أقام ثلاثة أعوام في بئر نزح

وقد عبد الراهب يوحنا ثلاث سنين قائماً على رجل واحدة، ولم ينم ولم يقعد طوال هذه المدة، فإذا تعب جداً أسند ظهره إلى صخرة. وكان بعض الرهبان لا يكتسون دائما، وإنما يتسترون بشعرهم الطويل ويمشون على أيديهم وأرجلهم كالأنعام، وكان أكثرهم يسكنون في مغارات السباع والآبار النازحة والمقابر، ويأكل كثير منهم الكلأ والحشيش، وكانوا يعدون طهارة الجسم منافية لنقاء الروح، ويتأثمون عن غسل الأعضاء، وأزهد الناس عندهم وأنقاهم أبعدهم عن الطهارة، وأوغلهم في النجاسات والدنس، يقول الراهب اتهينس: إن الراهب أنتوني لم يقترف إثم غسل الرجلين طوال عمره، وكان الراهب أبراهام لم يمس وجهه ولا رجله الماء خمسين عاماً، وقد قال الراهب الإسكندري بعد زمان متلهفاً: واأسفاه، لقد كنا في زمن نعد غسل الوجه حراماً، فإذا بنا الآن ندخل الحمامات" (1).

وهناك "راهب منعزل اخترع درجة جديدة من الورع يربط نفسه بسلسلة إلى صخرة في غار ضيق "(2) وأما القديس كولمبان فـ (كانت السناجب تجثم على كتفيه، فتدخل في قلنسوته وتخرج منها" (3) وهو ساكن.

نتائج الرهبانية:

من سنن الله في الكون أن كل مبدأ أو نظام لا يساير الفطرة البشرية فإن مآله إلى الخسران والفناء، ومصير أتباعه شقاء مطبق

(1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: (168).

(2)

معالم تاريخ الإنسانية: (732).

(3)

قصة الحضارة: (14/ 356).

ص: 93

وضياع مرير، لا يستطيع أحد أن يأتي بدين يوائم الفطرة إلا خالقها جل شأنه، ولذلك كان المبتدعون وواضعو المذاهب البشرية أكثر شيء إساءة إلى الجنس البشري.

وما من شك في أن الرهبانية ليست من فطرة الإنسان ولا من غايات وجوده، بل هي على النقيض من ذلك، ولهذا لم يأمر بها الله ولم يشرعها ((وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)) [الحديد:27] فهي بدعة حتى بالنسبة للذين تطوعوا بإلزام أنفسهم بها مدفوعين بالحرص على رضاء الله، فما بالك بها بعد أن انخرط في سلكها الفساق وطلاب الدنيا؟

إن المرء لا تقع عينه على مؤلف من مؤلفات تاريخ الغرب في عصوره الوسطى، إلا ويرى فيه ما يشين ويلطخ الحياة الرهبانية من الفضائح الشنيعة والدعارة التى لا تضارعها دعارة مواخير الفساد.

يقول رئيس دير كلوني: " إن بعض رجال الدين في الأديرة وفي خارجها يستهترون بابن العذراء استهتاراً يستبيحون معه ارتكاب الفحشاء في ساحاته نفسها، بل في تلك البيوت التى أنشأها المؤمنون الخاشعون لكي تكون ملاذاً للعفة والطهارة في حرمها المسور، لقد فاضت هذه البيوت بالدعارة حتى أصبحت مريم العذراء لا تجد مكاناً تضع فيه الطفل عيسى"(1)

لقد أدى التزمت والغلو في الدين ومغالبة الطبع السوي والفطرة السليمة إلى نتيجة عكسية تماماً، وأصبحت الأديرة مباءات للفجور والفسق تضرب بها الأمثلة في ذلك، وقد وصل الحال بنصارى الشرق -وربما كانوا أكثر حياء وأشد تمسكاً- إلى حد أن المستهترين من

(1) قصة الحضارة: (145: 372).

ص: 94

الخلفاء والشعراء المجان كانوا يرتادون الأديرة كما يرتاد رواد الدعارة اليوم بيوت العهر، وألفوا في ذلك كتباً منها كتاب " الديارات" المعروف لدى دارسي الأدب العربي (1).

هذا بالنسبة للمترهبنين، أما الفرد المسيحى فقد ضعفت ثقته بالدين، وتزعزعت في نفسه القيم والأخلاق الدينية، كيف لا وهو يرى خصيان الملكوت ومثَّال الطهر يغرقون في الفجور وينالون من المتع الجسدية ما لا يمكنه بلوغه؟! أما الغيورون منهم فقد اتخذوا ذلك ذريعة للانشقاق عن الكنيسة، وتكوين فرق دينية جديدة لها أديرة خاصة تبدأ أول الأمر نظيفة، لكنها لا تلبث أن تعود فتسقط فيما سقط فيه أسلافها، كل ذلك كان في الفترة التي لا تزال قبضة الكنيسة فيها قوية، ونفوذها صلباً، لكن المرحلة التى شهدت ضعف سلطانها فيما بعد شهدت رد فعلٍ طاغياً ضد أغلال الكنيسة وقيودها مما جعل بذور الفلسفات الإباحية، والحركات غير الأخلاقية تنمو نمواً مطرداً، وصُحِّح الرأي القائل بأن " المسيحية نفاق منظم كما اتهمتها أجيال عديدة من النقاد العقليين المرة تلو الأخرى" وأنها "لم تكن عند أكثر الناس غير ستار رقيق يخفي تحته نظرة وثنية خالصة إلى الحياة"(2)

هذا وقد ظلت رواسب الرهبانية متغلغلة في أعماق النفسية الأوروبية؛ حتى بعد أن فقد الدين مكانته في النفوس -لاسيما ما يتعلق بالمرأة والجنس- وكان لذلك أثره في النظريات الهدامة الحديثة خاصة " الفرويدية " كما سيأتي في مبحث علمانية الاجتماع والأخلاق.

(1) كتبه أبو الحسن السابشتي، وطبع مؤخراً بتحقيق "كوركيس عواد".

(2)

تاريخ العالم: (4/ 330).

ص: 95