الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان إيمان هؤلاء بالمسيحية متغلغلاً إلى درجة يصعب معها فراقه ولكن كفرهم برجال الدين - أولئك الطغاة المتغطرسين - كان كفراً صريحاً لا هوادة فيه.
ونستطيع أن نقول: إن ما قام به علماء وفلاسفة القرن السابع عشر من هجوم على الدين، ليس في حقيقته سوى اندفاع أعمى، ورد فعل غير موجه هدفه الانفكاك من ربقة الكنيسة والتحرر من عبوديتها، فلم يكن همهم "إلى أين نتجه؟ " بقدر ما كان "كيف نهرب؟ ".
ولكن التأثيرات والايحاءات الفلسفية لنظرية نيوتن أسهمت في إيجاد فكر لا ديني منظم ينتهج طرائق محددة، وإن كان قد ظل مشوباً بالتعصب والسلبية، مندفعاً في مهاجمة الكنيسة ومعتقداتها.
ولعل من الصواب أن نقول: إن نظرية نيوتن لم تمهد فكرياً للثورة الفرنسية فحسب، بل إنها قطعت نصف الطريق إلى داروين أيضاً.
والكلام عن آثار النيوتونية ينقلنا إلى القرن الثامن عشر الذي كان دخوله إيذاناً بأفول نجم الكنيسة وولادة آلهة جديدة لا كنائس لها.
ثانياً: القرن الثامن عشر:
يتميز القرن الثامن عشر بظهور روح الشك العام في كل شيء تقريباً، ومع ذلك فقد ظهرت فلسفات إيجابية متنوعة يدور محورها حول كلمتين، هما في الواقع صنمان استحدثهما الهاربون من نيران الكنيسة، ليحلا محل إلهها المخيف، وهما:"العقل والطبيعة".
أما العقل فلم يعد مقيداً بأغلال الثنائية الديكارتية، بل بدأ يبحث عن ذاته ويسلك طريقه
لكي يتصرف كما لو كان "إلها" بالفعل، وتعالت أصوات الباحثين والفلاسفة، منادية بأن العقل هو الحكم الوحيد والعقل هو كل شيء، وما عداه فوهم وخرافة، الوحي يخالف العقل فهو أسطورة كاذبة، والمعجزات لا تتفق ومألوف العقل فهي خرافات بالية، والفداء والصلب والرهبانية
…
إلخ، كلها أباطيل مضللة وعقائد مرذولة لأنها لا تتسق مع العقل، والصنم الثاني كان "الطبيعة ".
يقول " سول": "صار لزاماً على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك ووجدوه في الطبيعة"(1).
وكتب الفكر الغربي تسمي ذلك العصر عصر "تأليه الطبيعة " أو عبادة الطبيعة، وليست هذه العبارات مجازاً، بل هي مستعملة على الحقيقة تماماً، فكل صفات الله التي عرفها الناس عن المسيحية نقلها فلاسفة الطبيعة إلى إلههم الجديد، مع فارق كبير بين الإلهين في نظرهم.
فإله الكنيسة بطَّاش حقود يعذب السلالة البشرية ويقتل ابنه لأن الإنسان الأول أكل فاكهة من حديقته.
وهو إله متعنت يضع القيود الاعتباطية على حرية الإنسان ويقيده بالالتزامات، ويفرض عليه الرهبانية والخضوع المذل لممثليه على الأرض.
أما الطبيعة فإلهها "جذاب" رحب الصدر ليس له كنيس ولا التزامات، ولا يستدعي طقوساً ولا صلوات، وكل ما يطالب به الإنسان أن يكون إنساناً طبيعياً يلبي مطالبه الطبيعية في وضوح وصراحة.
والإله الجديد ليس له رجال دين يستعبدون الناس لأنفسهم، ولا كتاب مقدس متناقض ولا أسرار عليا مقدسة، بل له دعاة من أمثال
(1) جورج سول: المذاهب الإقتصادية الكبرى: (51).
" روسو وفولتير وديدرو" وله كتب علمية هي " دائرة المعارف" أو " العقد الاجتماعي" أو " روح القوانين".
والقانون الطبيعي "الجاذبية" يجعل الكون مترابطاً متناسقاً لا اضطراب فيه ولا خلل، وبالمقابل جعلت الطبيعة للإنسان قانوناً طبيعياً يكفل له السعادة التامة، ولكن النظم الإنسانية والأديان طمست هذا القانون فشقي الإنسان وتعذب.
تلك هي المبادئ الأولى للمذهب الطبيعي الذي تبلور ليصبح ديناً إنسانياً عند " كومت " في القرن التاسع عشر، وعنه انبثقت الماديات المتعددة التي تفسر الكون تفسيراً آلياً حسب القوانين التي سميت "قوانين الطبيعة ".
أما هنا في القرن الثامن عشر فإن عبادة العقل والطبيعة هي ميزة العصر الذي يسمى "عصر التنوير ".
ويصف برنتن " شيئاً من مظاهر الصراع بين الدين والعلم في هذا العصر بقوله:
"كان العقل للرجل العادي في عصر التنوير هو كلمة السر الكبرى لعالمه الجديد، العقل هو الذي يسوق الناس إلى فهم الطبيعة" وهذه هي كلمة السر الثانية الكبرى "وبفهمه للطبيعة يصوغ سلوكه طبقاً لها، وبذلك يتجنب المحاولات العابثة التي قام بها في ظل أفكار المسيحية التقليدية الخاطئة، وما يخالفها في الأخلاق والسياسة مما يناقض الطبيعة"(1).
"والعقل يبين أن الرهابنية تعني إسرافاً عظيماً في قدرة الإنسان الإنتاجية، وأوضح من ذلك أن العقل يبين أنه من غير الطبيعي
(1) أفكار ورجال (474، 476).
للكائنات البشرية صحيحة البدن أن تمتنع بتاتاً عن الاتصال الجنسي، وأن التبرير الديني لمثل هذا السلوك غير الطبيعي كان هراء كَهُراء فكرة الشياطين التي تستولي على المجنون ".
"إن المسيحية التقليدية لم تعد قادرة على أن تمد المستنيرين بنظرية كونية، فقد بدأ الناس يعرفون ما يكفي من الجيولوجيا لكي يبين أن تاريخ الخليقة الذي حدده الأسقف " آشر" بعام (4004ق. م)، وتاريخ قصة الطوفان بعيدا الاحتمال، ولكن لم تكن هناك حاجة إلى أن ينتظر الناس نمو المعرفة الجيولوجية، خذ مبدأ التثليث في المسيحية مثلاً: إن الرياضة كانت ضد هذا المبدأ فإن أي نظام رياضي محترم لا يسمح بأن يكون الثلاثة ثلاثة وواحداً في آن واحد، أما عن المعجزات فلماذا توقفت؟ إذا أمكن إحياء الميت في القرن الأول فلماذا لا يحيا في القرن الثامن عشر؟ (1)
وربما كان أعدى أعداء الكنيسة آنذاك هو فولتير، ولنقتطف نماذج من نقده للدين ورجاله من كتابه (القاموس الفلسفي):
(أول ما انتقد فولتير العقيدة المسيحية في التثليث وتجسيم الإله والصور المقدسة، وأنحى باللائمة على بولس الذي طمس المسيحية وحرفها، ولذلك كان الإيمان بالمسيحية في نظره هو " الاعتقاد بأشياء مستحيلة أو بأشياء تستعصي على الفهم، فالحية تتكلم، والحمار يتحدث، وحوائط أريحا تتساقط بعد سماعها صوت الأبواق، أن الإيمان على هذا النحو هو على ما يقول إرازم هو الجنون ".
"أما الخطيئة الأولى فيرفضها فولتير ويعتبرها إهانة لله واتهاماً له بالبربرية والتناقض، وذلك للتجرؤ على القول بأنه خلق الأجيال
(1) المصدر السابق: (476).
البشرية وعذبها لأن أباهم الأول قد أكل فاكهة من حديقته" (1).
وينقد فولتير الطقوس السبعة نقداً مريراً، ويسخر من الكتاب المقدس سخرية لاذعة، تتجلى في قوله تعليقاً على معلومات التوراة الجغرافية:
(من الواضح أن الله لم يكن قوياً في الجغرافيا)(2)، وقوله: إن صيام المسيحية دواء للفقراء لا يتعاطاه الأغنياء "ويرى" أن الطقوس والشعائر والعبادات والاحتفالات الدينية جرائم محلية يعاقب عليها كل من يزاولها لأنها ضارة بالمجتمع خاصة إذا تمت في صورة أضاحٍ وقرابين " أما آراؤه السياسية فقد عبر عنها بقوله:
"إن التوحيد بين الدين والدولة لهو أبشع نظام، لذلك يجب إلغاؤه وإقامة نظام آخر يخضع فيه رجال الدين لنظم الدولة، ويخضع فيها الراهب للقاضي" وقوله:
"إنه لا يمكن طاعة البشر باسم طاعة الله، لابد من طاعة البشر باسم قوانين الدولة" ولقد جزعت الكنيسة من هذه الانتقادات والآراء جزعا شديداً، ولعنت فولتير وأشياعه وكفرتهم، وحرمت قراءة كتبهم وتعرض فولتير للمضايقة والاضطهاد من قبل رجال اللاهوت، حتى إنه قال مخاطباً إنسان ذلك العصر:" أنت طائر في قفص محاكم التفتيش، لقد قصت محاكم التفتيش جناحيك "(3).
وفي إنجلترا طور جيبون النقد التاريخي للمسيحية في كتابه " سقوط الامبراطورية الرومانية واضمحلالها" " أما هيوم فقد ابتدع
(1) سلسلة تراث الإنسانية: (8، 78، 80).
(2)
قصة النزاع (190).
(3)
مقتطفات من سلسة قراءات إنسانية: (ج:8)، (ص:80 - 87).
مذهب الشك المطلق، الذي كان ثورة نفسية على الإيمان المطلق طوال القرون الماضية.
وجدير بالذكر أن شيوع المذهب العقلي الطبيعي في عصر التنوير قد نتج عنه بالاعتماد على نظرية نيوتن مذهبان جديدان على العالم المسيحي ينمان عن التخبط والضياع:
الأول: مذهب المؤلهة الربوبيين " دايزم " Deism" أو المؤمنين بإله مع إنكار الوحي، وهذا المذهب يمثل فكرة انتقالية لأن الوثبة من إله مسيحي إلى عدم وجود إله كانت مستحيلة كما يقول برنتن.
"هذا المذهب هو أقرب انعكاس ممكن واضح لعالم نيوتن، الذي يخضع للنظام ويدور وفقاً للقانون، والإله في هذا المذهب هو الشخص المسئول عن التدبير والبناء وتحريك هذا العالم الآلي".
وكان من زعماء هذا المذهب " فولتير وبوب "ومعهم عدد آخر ممن كانوا يرون ضرورة الإيمان بالله - ولو أمام الجمهور - أما الوحي فأنكروه لأن إثباته يعني صحة تعاليم عدوهم الكنيسة، وليس معنى ذلك أن إيمانهم بالله يمكن أن يسمى ايماناً على الحقيقة، فإن كل عمل هذا الإله في نظرهم هو أنه خلق الكون ثم تركه يدور وفق القوانين المودعة فيه والتي أوضحها نيوتن، فهو يشبه صانع الساعة الذي يديرها ثم يدعها تتحرك من تلقاء نفسها. أما الإنسان فقد منحه العقل وتركه وشأنه، فهو وإن كان جزءاً من آلة الكون العظمى، إلا أنه عليه أن يستغل مواهبه ويستخدم عقله بما يتمشى مع قانون الطبيعة ".
ومن الواضح (في نظر أصحاب هذا المذهب) أنه ليست هناك فائدة من الصلاة للإله الذي يشبه صانع الساعة، والذي لا يستطيع -حتى إن أراد- أن يتدخل فيما صنعت يداه.
"ومن الواضح كذلك أن هذا الإله لم يظهر لموسى في صحراء
سيناء، ولم يرسل ابنه الأوحد إلى الأرض ليخلص الناس المذنبين، بل لا يمكن أن يكون له ابن" (1).
- الثاني: المذهب الإلحادي المادي: إن تهافت مذهب المؤلهة وتفاهته، هي التي أوحت إلى بعض معاصريهم بإنكار هذا الإله البعيد البارد، الذي لا أثر له ولا ضرورة لاختراعه، كما تقول حكمة فولتير "إذا كان الله غير موجود فلا بد من اختراعه"! فالطبيعة تغني عنه، والاعتراف بوجوده هو نوع من الإقرار بصحة دعاوى الكنيسة، فالأولى أن نستبعد وجوده نهائيا إرغاماً لأنف الكنيسة على الأقل.
وتطرف منهم طائفة "رأوا أن الله شر إيجابي، وبخاصة إذا كان إله الكنيسة الكاثوليكية الرومانية".
يقول " كرسون": ذهب بعضهم في الإنكار إلى أبعد حد، حتى أنهم يدعوننا حتى إلى حذف اسم الله نفسه وفي هذا يقول " دولباخ":
إن عقيدة الله المأثورة نسيج من المتناقضات، إن فكرة الله هو الضلالة المشتركة للنوع الإنساني" (2).
تلك هي الخطوط العامة في القرن الثامن عشر للصراع بين الكنيسة والدين، على أنه ينبغي أن ننبه إلى أن هذا الصراع كان مقتصراً على الفلاسفة والطبقات المثقفة، ولم يتجاوز ذلك إلى القاعدة الشعبية ويصبح قضية جماهيرية، إلا بعد الثورة الفرنسية التي قامت في أواخر هذا القرن سنة (1789م) وبقيامها رُسم معلم واضح من معالم التاريخ الأوروبي، وافتُتح عصر جديد من الصراع بين الدين واللادين يستحق أن يفرد له فصل مستقل.
(1) أفكار ورجال (477 - 478).
(2)
المشكلة الأخلاقية والفلاسفة (138).