الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خلاصة مظاهر الطغيان الكنسي:
ونستطيع أن نلخص مظاهر الطغيان الكنسي في هذا المجال بما يلي: -
1 -
الأملاك الإقطاعية:
يقول "ديورانت": "أصبحت الكنيسة أكبر ملَاّك الأراضي وأكبر السادة الإقطاعيين في أوروبا، فقد كان "دير فلدا" مثلاً، يمتلك (15000) قصر صغير، وكان دير "سانت جول" يملك ألفين من رقيق الأرض، وكان "الكوين فيتور" (أحد رجال الدين) سيداً لعشرين ألفاً من أرقاء الأرض، وكان الملك هو الذي يعين رؤساء الأساقفة والأديرة، وكانوا يقسمون يمين الولاء كغيرهم من الملاك الإقطاعيين، ويلقبون بالدوق والكونت وغيرها من الألقاب الإقطاعية
…
وهكذا أصبحت الكنيسة جزءاً من النظام الإقطاعي". "وكانت أملاكها الزمنية -أي: المادية- وحقوقها والتزاماتها الإقطاعية مما يجلل بالعار كل مسيحي متمسك بدينه، وسخرية تلوكها ألسنة الخارجين على الدين، ومصدراً للجدل والعنف بين الأباطرة والباباوات" (1).
2 -
الأوقاف:
كانت الكنيسة تملك المساحات الشاسعة من الأراضي الزراعية باعتبارها أوقافاً للكنيسة بدعوى أنها تصرف عائداتها على سكان الأديرة وبناء الكنائس وتجهيز الحروب الصليبية، إلا أنها أسرفت في تملك الأوقاف، حتى وصلت نسبة أراضي الكنيسة في بعض الدول إلى درجة لا تكاد تصدق، وقد قال المصلح الكنسي " ويكلف" وهو من أوائل المصلحين: "إن الكنيسة تملك ثُلث أراضي انجلترا، وتأخذ
(1) قصة الحضارة: (14/ 425).
الضرائب الباهظة من الباقي، وطالب بإلغاء هذه الأوقاف، وأتهم رجال الدين بأنهم "أتباع قياصرة لا أتباع الله"(1).
3 -
العشور:
فرضت الكنيسة على كل أتباعها ضريبة "العشور"، وبفضلها كانت الكنيسة تضمن الحصول على عشر ما تغله الأراضي الزراعية والإقطاعيات، وعشر ما يحصل عليه المهنيون وأرباب الحرف غير الفلاحين.
يقول ويلز: "كانت الكنيسة تجبي الضرائب، ولم يكن لها ممتلكات فسيحة ولا دخل عظيم من الرسوم فحسب، بل فرضت ضريبة العشور على رعاياها، وهي لم تدع إلى هذا الأمر بوصفه عملاً من أعمال الإحسان والبر، بل طالبت به كحق"(2).
ولم يكن في وسع أحد أن يرفض شيئاً من ذلك، فالشعب خاضع تلقائياً لسطوتها، أما الملوك فقد كانوا يخشون بأسها من جهة كما كانت بها مصالح مشتركة من جهة أخرى، إذ كانت هي أيضاً تمدهم بأسباب البقاء.
يقول تولستوي: "لقد استولى حب السلطة على قلوب رجال الكنيسة كما هو مستول على نفوس رجال الحكومات، وصار رجال الدين يسعون لتوطيد سلطة الكنائس من جهة ويساعدون الحكومات على توطيد سلطتها من جهة أخرى"(3).
إذن فمصلحة السلطتين تقتضي بقاء الأوضاع على صورتها الواقعة.
(1) انظر: تأريخ أوروبا فيشر (2/ 362 - 364).
(2)
معالم تاريخ الإنسانية: (3/ 895).
(3)
أحاديث في السياسة والإجتماع للحصري: (301).
4 -
ضريبة السنة الأولى:
لم تشبع الأوقاف والعشور نهم الكنيسة الجائع وجشعها البالغ، بل فرضت الرسوم والضرائب الأخرى، لا سيما في الحالات الاستثنائية: كالحروب الصليبية والمواسم المقدسة، وظلت ترهق بها كاهل رعاياها، فلما تولى البابا يوحنا الثاني والعشرون جاء ببدعة جديدة هي "ضريبة السنة الأولى" وهى مجموعة الدخل السنوي الأول لوظيفة من الوظائف الدينية أو الإقطاعية، تُدفع للكنيسة بصفة إجبارية، وبذلك ضمنت الكنيسة مورداً مالياً جديداً (1).
5 -
الهبات والعطايا:
كانت الكنيسة تحظى بالكثير من الهبات يقدمها الأثرياء الإقطاعيون للتملق والرياء، أو يهبها البعض بدافع الإحسان والصدقة، وصحيح أن الكنيسة لم تطالبهم بذلك، لكنهم لولا معرفتهم بحرصها على الدنيا وإمكان استمالتها بطريق البذل والعطاء لما فعلوا ذلك، كما أنهم كانوا يخشون غائلة غضب الكنيسة بحرمانهم من المغفرة عند الاحتضار على الأقل، وقد قويت هذه الدوافع بعد مهزلة صكوك الغفران إذ انهالت التبرعات على الكنيسة وتضخمت ثروات رجال الدين كما أسلفنا.
هذا ولا ننسى المواسم المقدسة والمهرجانات الكنسية التي كانت تدر الأموال الطائلة على رجال الكنيسة، فمثلاً "في سنة (1300م) عقد مهرجان لليوبيل، واجتمع له جمهور حاشد من الحجاج في روما، بلغ من انثيال المال إلى خزائن البابوية أن ظل موظفان يجمعان بالمجاريف الهبات التي وضعت عند قبر القديس بطرس"(2).
(1) انظر: تاريخ أوروبا فيشر (2/ 380).
(2)
معالم تاريخ الإنسانية/ (3/ 913).
6 -
العمل المجاني "السخرة":
سبق القول بأن الكنيسة تملك الإقطاعيات برقيقها، وأن بعض رجال الدين كان يملك الآلاف من الأرقاء، غير أن ذلك لم يقنع الكنيسة، بل أرغمت أتباعها على العمل المجاني في حقولها وفي مشروعاتها، لا سيما بناء الكنائس والأضرحة، وكان على الناس أن يرضخوا لأوامرها ويعملوا بالمجان لمصلحتها مدة محددة هي في الغالب يوم واحد في الأسبوع، ولا ينالون مقابل ذلك جزاءً ولا شكوراً.
وهكذا كانت الجماهير ترزح تحت أثقال الكنيسة وأعبائها المالية المرهقة، وكان الملوك والأباطرة ورجال الدين الصغار يحسون بذلك أيضاً، ويتحينون الفرصة لإعلان احتجاجهم.
ومن الذين تضجروا من ذلك ودفعتهم جرأتهم إلى الاحتجاج العلني: الملك لويس التاسع ملك فرنسا، الذي كتب إلى البابا رسالة احتجاجية خطيرة بالنسبة لعصرها، قال فيها:"إن الذي يشتد في إدرار الأضراع لابد أن يصيب الدم من حلماتها".
أما رجال الدين فقد كان أحد الموضوعات التي نظر فيها المجلس الديني العام المنعقد في ليون سنة (1246م) شكوى مقدمة من بعضهم يستغيثون فيها من مطالب البابا والكنيسة الأم (1).
ولكن هذه الاحتجاجات والاستغاثات ظلت صرخة في واد ولم تزحزح الكنيسة عن موقفها، وظلت الأمور على هذه الوتيرة حتى تضافرت عوامل أخرى سيأتي الحديث عنها فيما بعد بإذن الله.
(1) انظر: آخر الجزء الأول من تاريخ أوروبا من (ص:259).