الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقضت سنة الله أن ينتصر الشعب على جلاديه، وأن تحصد "المقصلة" معظم الرءوس المترفة الطاغية.
وتمخضت الثورة عن نتائج بالغة الأهمية، فقد ولدت لأول مرة في تاريخ أوروبا المسيحية دولة جمهورية لا دينية، تقوم فلسفتها على الحكم باسم الشعب "وليس باسم الله"، وعلى حرية التدين بدلاً من الكثلكة، وعلى الحرية الشخصية بدلاً من التقيد بالأخلاق الدينية، وعلى دستور وضعي بدلاً من قرارات الكنيسة.
وقامت الثورة بأعمال غريبة على عصرها، فقد حلت الجمعيات الدينية، وسرحت الرهبان والراهبات وصادرت أموال الكنيسة، وألغت كل امتيازاتها، وحوربت العقائد الدينية هذه المرة علناً وبشدة، وأصبح رجل الدين موظفاً مدنياً لدى الحكومة (1).
هذه النتائج والتطورات تستحق أن يقف عندها الإنسان باحثاً عن أسبابها ودوافعها، وبالنظرة الفاحصة نجد أن عوامل متعددة قد تضافرت على تحقيقها، وأهمها ثلاثة:
أولاً: الفكر اللاديني الذي طبع عصر التنوير:
-كما يسمى- بطابعه الخاص، والذي كانت مدارسه رغم تباينها تسعى إلى غاية واحدة، هي تقويض الدين واجتثاث مبادئه من النفوس، وقد سلكت كل مدرسة منحى خاصاً لتحقيق ذلك وأشهرها:
1 -
مدرسة ذات طابع علمي عام، وأبرز الأمثلة عليها الكتاب الموسوعيون الذين كتبوا دائرة المعارف بزعامة " ديدرو"، وكانوا كما يقول ويلز:" يناصبون الأديان عداوة عمياء ".
(1) فيما يتعلق بأسباب ونتائج الثورة انظر: تاريخ أوروبا في العصر الحديث - فيشر الأول.
2 -
مدرسة ذات طابع اجتماعي وسياسي: ويرأس هذا الاتجاه "روسو" صاحب كتاب "العقد الاجتماعي" الذي أطلق عليه "إنجيل الثورة الفرنسية" و"مونتسكيو" صاحب "روح القوانين"، ومن كتابات هؤلاء استلهم زعماء الثورة مبادئهم واقتباساتهم.
والغرض من فكرة العقد الاجتماعي واضح للعيان؛ فهي تهدف إلى استبدال "المصلحة الاجتماعية " أو الرابطة النفعية للأفراد "بالأخلاق والنظم الدينية وتحل عبادة "المجتمع " ممثلاً في الوطن أو القوم محل عبادة الله، وذلك ما نادت به الثورة حرفياً.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الفكرة ليست من بنات أفكار روسو، فقد سبقه إليها الفلاسفة المثاليون في المدينة الفاضلة، ففي " جمهورية أفلاطون" و" اليوتوبيا" لتوماس مور، و" مدينة الشمس" لكامبانيللا، نماذج واضحة للحياة اللادينية، التي تقوم على أساس من التفاهم والوفاق المجرد بين الأفراد، وهو ماعبر عنه روسو بالعقد الاجتماعي، إلا أنه أضاف إلى هذا النموذج ما اقتبسه من "هوبز" و"ميكافيلي"، اللذين غلَّبا جانب الشر لدى الإنسان على الخير، لذلك كان روسو هداماً أكثر منه فيلسوفاً (1).
3 -
مدرسة ذات طابع فلسفي هدام: سبق الفلاسفة العقلانيون غيرهم في بحث علاقة الفرد بالدولة، والمناداة بمجتمع ينفصل فيه الدين عن الدولة، وكانت فكرتهم اللادينية أوسع مما تصوره ميكافيلي، لأن الدين نفسه عندهم يجب أن يلغى ليحل محله "الدين الطبيعي، أو القانون الطبيعي" وربما كان الفيلسوف اليهودي "سبينوزا" رائد الفكرة العلمانية باعتبارها منهجاً للحياة، فهو يقول في كتابه" رسالة في اللاهوت والسياسة":
(1) سيأتي تفصيل هذه النظريات في فصل "علمانية الحكم والسياسة من الباب الثالث" انظر صفحات: (212 - 213 - 214).
"ومن الخطورة على الدين وعلى الدولة على السواء إعطاء من يقومون بشئون الدين الحق في إصدار القرارات أياً كانت، أو التدخل في شئون الدولة، وعلى العكس يكون الاستقرار أعظم إذا اقتصروا على الإجابة على الأسئلة المقدمة إليهم، والتزموا في أثناء ذلك بالتراث القديم الأكثر يقيناً والأوسع قبولاً بين الناس"(1).
واكتملت لدى فولتير فكرة الدين الطبيعي التي ورثها عن سبينوزا ولايبنتز، واشتق منها فكرة "القانون الطبيعي" حيث نجده يقول:
"إن دين أهل الفكر دين رائعٍ خالٍ من الخرافات والأساطير المنتاقضة، وخال من العقائد المهينة للعقل والطبيعة، لقد منع الدين الطبيعي آلاف المرات المواطنين من ارتكاب الجرائم، أما الدين المصطنع فإنه يشجع على جميع مظاهر القسوة
…
كما يشجع على المؤامرات والفتن وعلى أعمال القرصنة وقطع الطريق .. ويسير كل فرد نحو الجريمة مسروراً تحت حماية قديسه ".
ويقول: "هناك قانون طبيعي مستقل عن الاتفاقات الإنسانية، يبدو لي أن معظم الناس قد أخذوا من الطبيعة حساً مشتركاً لسن القوانين "(2).
وإذا كان روسو وفولتير لم يدركا الثورة الفرنسية، فإن الفيلسوف الألماني " كانت"(1804م) عاصرها واشتهر بتأييدها، وهو الذي طور فكرة "العقد الاجتماعي" في كتابه "الدين في حدود العقل وحده "(3).
كما أن كاتباً ثائراً معاصراً لها، هو "وليم جدوين"، نشر سنة 1793 كتاب "العدالة السياسية" الذي كان دعوة علمانية صريحة (4).
(1)(ص:426).
(2)
مقتطفات من القاموس الفلسفي لفولتير سلسلة تراث الإنسانية: (ج:8).
(3)
انظر: عنه سطور مع العظماء (173)، وسلسلة تراث الإنسانية (8/ 207).
(4)
انظر: أفكار ورجال (489).