الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العواصم والقواصم
في الذب عن سنة أبي القاسم
تصنيف الإمام العلامة النظار المجتهد محمد بن إبراهيم الوزير اليماني
المتوفى سنة 840 هـ
حققه وضبط نصه، وخرج أحاديثه، وعلّق عليه
شعيب الأرنؤوط
الجزء السادس
مؤسسة الرسالة
العواصم والقواصم
في
الذب عن سنة أبي القاسم
6
جميع الحقوق محفوظَة
لمؤسسَة الرسَالة
ولا يحق لأية جهة أن تطبع أو تعطي حق الطبع لأحد.
سَواء كان مؤسسَة رسميّة أو أفراداً.
الطبعة الثالثة
1415 هـ - 1994 م
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
مؤسسة الرسالة بَيْروت - شارع سُوريا - بناية صَمَدي وَصالحة
هاتف: 603243 - 815112 - ص. ب: 7460 برقياً، بيوشران
بسم الله الرحمن الرحيم
قالت المعتزلة: القول بأن أهل النار خُلِقُوا لها يستلزم أن لا يجب عليهم شكر نعمة الله وحمده عليها سيما إذا لم يتأول قوله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ (1) الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [آل عمران: 178] وتأويل الآية صعبٌ لأنها من النصوص المصادمة للتأويل، وهو مشترك الإلزام في الشكر على العقوبة، أما الحمدُ، فلازم على كل حال كما ورد به الأثر، وكما يقتضيه النظر، ولكل طائفة جواب من جهة الشكر خصوصاً، ومن جهة الحمد عموماً.
وجواب أهل الحقِّ في ذلك من وجهين:
أحدهما: ما تقدم في مسألة المشيئة في آخر الدليل الثالث مبسوطاً، وتحقيقه المنع من كون الله ما خلق الكفار إلا للعذاب، بل خلقهم سبحانه لحكم كثيرة غير لا منحصرة وردت النصوص بذكر كثيرٍ منها مما يشهدُ له سبحانه بالنعم السابغة، والحكم البالغة، والبراهين الدامغة.
منها: الإحسان إليهم قبل كفرهم، واستحقاقهم العقوبة بما يوجب عليهم
(1) في (أ): " تحسبن " بالتاء خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهي قراءة حمزة، وموضع " الذين " نصب المفعول الأوَّل من " تحسبن " وكفروا صلتُه، و " أن " وما اتَّصل في موضع المفعول الثاني، وقرأ عامة القراء:{ولا يحسبن} إخبار عن الذين كفروا، فموضع " الذين " رفع بفعلهم، و " أن " وما بعدها سدَّت مسدَّ مفعولي " يحسبن ". " انظر:" حجة القراءات " ص 182، و " الدر المصون " 3/ 496 - 498.
شكره، ثم العفو عن تعجيل العقوبة بعد استحقاقها كما مرَّ في حديث " لو لم تُذنبوا "(1)، وذلك قبل الإملاء لهم، لِيزدادو إثماً، وقد ذكرت من ذلك سبعة أمور، أولها هذا.
وثانيها: خلقهم لعبادته بالنظر إلى أمره (2) ومحبته.
وثالثها: الابتلاءُ بالنظر إلى عدله وحجته.
ورابعها: ظهورُ عدله في تعذيبهم على كفر نعمه، وجحد حجته بالنظر إلى خبره وعلمه وقدره وكتابته.
وخامسها: الحكمةُ الأولةُ المرجِّحة لذلك على عفوه عنهم، التي هي تأويل المتشابه بالنظر إلى حكمته وإرادته ومشيئته، وعلى هذا مدارها.
وسادسها: ما لا يُحيط بجميعه إلَاّ هو بالنظر إلى سعة علمه ورحمته.
وسابعها: ما للمؤمنين في خلقهم من اللطف والنفع في دنياهم ودينهم وأُخراهم، وهو (3) يستحق من الجميع على حكمته، كما يستحق الشكر من أهل النعم على نعمته، كما تقدم مبسوطاً في موضعه.
الوجه الثاني: القطع بأن مراد الله بالشر خير، لأن الحكيم لا يريدُ الشر لنفسه، وإنما يريده لغيره، لحديث " سبقت رحمتي غضبي "(4)، وحديث " والشر ليس إليك "(5) كما تقدم تقريرُه، وكما أوضحه الغزالي في " المقصد الأسنى "(6) في شرح " الرحمن الرحيم ".
فكل شر أراده الله، فهو لحكمة هي خيرٌ محضٌ، وإن لم يحط بها أحد،
(1) تقدم تخريجه في 4/ 161.
(2)
في (ش): مراده.
(3)
في (ش): وهذا.
(4)
تقدم تخريجه في 5/ 110.
(5)
تقدم تخريجه في 5/ 131.
(6)
ص 63.
وهي تأويلُ المتشابه، كما دلَّت عليه قصة الخَضِر مع موسى عليهما السلام، وكما دلَّ عليه قوله:{وما يَعْلَمُ تأوِيلَه إلَاّ الله} [آل عمران: 7]، فلو أُريد الشر لكونه شراً لم يُحتج إلى تأويل: لا يعلمه إلَاّ الله، وقد أشار الله إلى هذا في جوابه على الملائكة حيث قال:{إنِّي أعلَمُ ما لا تَعْلَمونَ} [البقرة: 30].
ففي كل عقوبةٍ ظاهرة نعمة باطنة، ولذلك اختصَّ الله بوجوب شكره على ما ساء وسر، ونفع وضر، وقد صح النصُّ بذلك في الحدود، فإنها كفارةٌ مع كونها عقاباً ونَكالاً، ولا إشكال في شيءٍ من ذلك الشر إلَاّ (1) دوام العقاب، وسيأتي الاختلاف فيه، والمختار من ذلك.
وهذه القاعده توجب على أهل النار أن يحمدوا ربَّهم عليها لما لهم فيها من العدل والحكمة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين} [الزمر: 75]، وإلى ذلك أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:" الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار " رواه ابن ماجه (2)، وفيه إشارةٌ إلى استحقاقه عز وجل الحمد لله على المعذَّبين بالنار،
(1) في (ش): " من ذلك إلَاّ " بحذف كلمة " الشر ".
(2)
رقم (3804) من طريق موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت، عن أبي هريرة مرفوعاً. وقال البوصيرى في " مصباح الزجاجة " 3/ 192: هذا إسناد فيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف، وشيخه مجهول.
وروى أبو نعيم في " الحلية " 3/ 157 من طريق الفضل الرقاشي، عن محمد بن المنكدر عن أبي هريرة قال: كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمدان يُعرفان: إذا جاءه ما يكره قال: الحمد لله على كل حال "، وإذا جاءه ما يسُرُّه قال: " الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم بنعمته تَتِمُّ الصالحات " وقال: غريب من حديث محمد والفضل الرقاشي لم نكتبه إلَاّ من هذا الوجه.
قلت: والفضل - وهو ابن عيسى الرقاشي: ضعيف.
وروى ابن ماجه (3803)، وابن السني (380)، والحاكم 1/ 499 من طريق هشام بن خالد الأزرق أبي مروان، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا زهير بن محمد، عن منصور بن عبد =
ولكن السنة سؤال العافية.
ومما قلت في هذا المعنى من جملة أبيات:
أنت الحكيم بكل ما قدَّرْتَهُ
…
وعلى العَبيد بكُلِّه كل الثنا
ونعوذ بالله الرؤوف وفضله
…
من حال أهل النار خلداً أو فَنا
ضعفاً وعجزاً لا اعتراضاً للقضا
…
مِنَّا ولا سُخطاً لحكمة ربنا
فكيف لا يجب عليهم الشكر لما لا يُحصى من نعمه المتقدمة، وقد مرَّ طرفٌ من هذا في الدعوى الأولى عند الكلام على حديث " لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون كي يَغْفِرَ لَهُم ".
قالت المعتزلة إلَاّ القليل منهم: يجب تأويل آيات المشيئة على أنه لو شاء أن يُكرِهَ العُصاة على الطاعة لفعل، لأنه لو كان يعلم لهم لُطفاً إذا فعله لهم أطاعوه، لزم (1) عليه فعلُ ذلك، وهو سبحانه لا يُخِلُّ بواجبٍ.
وخالفهم في هذا جميع فرق أهلِ السنة، وجميعُ متقدمي أهل البيت كما تقدم من طريق أهل البيت وغيرهم.
وخالفهم جماعةٌ جِلَّةٌ من متأخري أهل البيت عليهم السلام، مثل السيد الإمام أبي عبد الله مصنف " الجامع الكافي "، والإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة، والإمام الناصر، والإمام المنصور.
= الرحمن، عن أمه صفية بنت شيبة، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الأمر يسره قال: " الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات "، وإذا أتاه الأمر يكرهه قال:" الحمد لله على كل حال ".
والوليد بن مسلم: موصوف بتدليس التسوية، ولم يصرح هنا بالتحديث في بقية إسناده، ورواية أهل الشام عن زهير بن محمد غيرُ مستقيمة، وهذا منها.
(1)
في (ش): لوجب.
وخالف المعتزلة في ذلك من شيوخهم بِشْرُ بن المعتمر، وجعفر بن حرب على تفصيلٍ له في ذلك، حكاه عنهما الإمام يحيى بن حمزة في كتابه " النهاية "(1).
وحُكي عن أبي الحسين أنه حكى رجوع ابن المعتمر كذا بصيغة الجزم.
قال الإمام: وقال -يعني قاضي القضاة-: ومنهم من فصل -يعني جعفر بن حرب- فقال: إن كان ما يفعله المكلف من أسباب عدم اللطف أشق وأعظم ثواباً لم يجب اللطف، وإلا وَجَبَ. قال: وحُكِيَ عنه الرجوع عن هذا، كذا قال. " حُكي " بصيغة ما لم يُسَم فاعله، وهي المعروفة بصيغة التمريض.
وفي كتاب " الملل والنحل "(2) عن بِشر بن المعتمر أن في مقدور الله لُطفاً لو أتى به، لآمن من في الأرض إيماناً يستحقون عليه الثواب استحقاقهم لو آمنوا من غير وجوده وأكثر منه، وليس على الله أن يفعل ذلك لعباده ولا يجب عليه رعايةُ الأصلح، لأنه لا غاية لما يقدر عليه من الصلاح، فما من أصلح (3) إلا وفوقه أصلح. انتهى.
وهي حجةٌ حسنةٌ في نفي وجوب الأصلح، وجمهور المعتزلة على إيجاب اللطف، وقد ألزمهم علماء الإسلام تعجيز الرب سبحانه عن هداية عاصٍ واحدٍ على سبيل الاختيار، وهم يلتزمونه في المعنى، فإنه صريح مذهبهم إلَاّ أنهم يقولون: إنه لا يستلزم العجز، لأن اللطف بهم مُحالٌ، والمحالُ ليس بشيء، والقادر لا يُوصف بالقدرة على لا شيء.
قلنا: الإحالة ممنوعةٌ، وعلى تقدير تسليمها، فيلزم المعتزلة قبح التكليف، لأن إزاحة أعذار المكلفين عندهم واجبةٌ، ولذلك أوجبوا اللطف على الله
(1) اسمه الكامل: " نهاية الوصول إلى علم الأصول ". كما في " البدر الطالع " 2/ 331.
(2)
1/ 65.
(3)
في (أ): صلاح.
تعالى، لأن ترك اللطف يُناقِضُ ما أراده الله تعالى على زعمِهم مِنْ دخول الكفار الجنة على أبلغ الوجوه.
فنقول: لو كان واجباً مُعَلَّلاً بما ذكرتم لَقَبُحَ على أصولكم تكليف من علم الله سبحانه أنه لا لطف له ألبتة، وأنه لا يدخل الجنة قطعاً، بل من علم أن تكليفه يكون سبباً لخلوده في النار، لأن ذلك أعظم مناقضةً لمراد الله سبحانه لو كان مراده هو ما ذكرتم من دخول الكفار الجنة (1) على أبلغ الوجوه.
فإن قيل: إلزامُكم لهم (2) تعجيزه سبحانه، وتعالى عن ذلك عُلُوّاً كبيراً، ومنعكم لما اعتذروا به من الإحالة مبنيٌّ على أن الله تعالى يعلم لهم لُطفاً، لكن المعتزلة منعت أن يكون في معلوم الله تعالى للعُصاة لطفٌ، وإذا لم يكن في معلوم الله لطفٌ بهم (3)، لم يكن في مقدوره، إذ يستحيل أن يقدر على ما لا يعلم، والجواب من وجوه.
الوجه الأول: أنهم أرادوا الاعتذار عن التعجيز بنفي العلم، فزادوا تجهيل الرب تعالى مع تعجيزه تعالى عن ذلك لأنهم فرُّوا من قولهم: إن ذلك عجز، إلى قولهم: ليس بمعلوم، فليس بمقدورٍ فزادوا على نفي القدرة الاستدلال على صحة نفيها بنفي العلم فراراً من لفظ التعجيز إلى نفي القدرة والعلم.
فلا وجه لعدول من عدل منهم عن أن يقول بالتعجيز إلَاّ التستر (4)، وإلا فالمعنى واحد، لأن أهل الإسلام يجزمون بتضليل من جحد قدرة الله تعالى على هداية عاصٍ واحد من خلقه، كما يجزمون على تضليل من عجَّزَهُ عن ذلك، ولا يفرقون بين العبارتين قبل هذا العرف المبتدع، فاحتالوا على تحسين
(1) من قوله: " يكون سبباً " إلى هنا ساقط من (ش).
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
" بهم " لم ترد في (ش)، وفي (ف) لهم.
(4)
في (أ): اليسير، وهو خطأ.
هذه الشناعة بذلك التوجيه، فأضافوا إلى تلك الشناعة مثلها، وهي قولهم: إن الرب اللطيف لما يشاء سبحانه وتعالى لا يعلم لُطفاً لمن شاء هدايته من جميع العصاة، وكلا هاتين الشناعتين مما يأباه من بقي على الفطرة من جميع المسلمين.
ولا يحتاج من يُقرُّ بالنبوات إلى مناظرة في ذلك، فإن المعلوم ضرورة من النبوات يدفَعُه، وقواعدهم تصحح هذا الإلزام (1) الشنيع، وهم لا يبعدون من التزامه في المعنى، ولذلك صرَّح من أجمعوا على تعظيمه بنفي قدرة الله على القبيح كالنظام (2) والأسْوَاري (3) وجعلوا هذه المسألة من مسائل الخلاف بين شيوخهم، وهي (4) صريح التعجيز بإثباتهم (5) معها حكم العقل بالحسن
(1) في (ش): الالتزام.
(2)
هو شيخ المعتزلة، صاحب التصانيف، أبو إسحاق إبراهيم بن سيار مولى آل الحارث بن عبَّاد الضبعي البصري المتكلم، تكلم في القدر، وانفرد بمسائل، وهو شيخ الجاحظ. مات في خلافة المعتصم سنة بضع وعشرين ومئتين.
انظر " سير أعلام النبلاء " 10/ 541 - 542.
(3)
هو علي الأسواري المتوفَّى سنة 240 هـ، وإليه تُنسب الأسوارية، وهم طائفة من المعتزلة.
قال عبد القاهر البغدادي في " الفرق بين الفرق " ص 151: وهم أتباع علي الأسواري، وكان من أتباع أبي الهذيل، ثم انتقل إلى مذهب النظام، وزاد عليه في الضلالة بأن قال: إن ما علم الله ألا يكون لم يكن مقدوراً لله تعالى.
وفي " مقالات الإسلاميين " ص 555: وقال النظام وأصحابه وعلي الأسواري والجاحظ وغيرهم: لا يوصف الله سبحانه بالقدرة على الظلم والكذب، وعلى ترك الأصلح من الأفعال إلى ما ليس بأصلح، وقد يقدر على ترك ذلك إلى أمثال لهُ لا نهاية لها مما يقوم مقامه، وأحالوا أن يوصف البارىء بالقدرة على عذاب المؤمنين والأطفال وإلقائهم في جهنم.
وانظر " الأنساب " للسمعاني 1/ 257 - 259.
(4)
تحرفت في (ش) إلى: ونفي.
(5)
في (ش): لإثباتهم.
والقُبح (1) في الأفعال، ولو قُدرتْ من الله بخلاف من علَّل ذلك بأنه لا يقبح (2) منه عز وجل قبيحٌ، ويلزمهم عدم اختيار الرب عز وجل في ترك الواجب عليه عندهم، وذلك صريح القول بأن الله عز وجل غير مختار.
فالعجب منهم لا يكفرون من قال ذلك من أكابر شيوخهم ويكفرون من قال: أفعال العباد مخلوقة، وبيَّن أن مراده بذلك ذواتها، لا كونها معاصي كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وأكثر هذه البدع باطلٌ بالضرورة، وما أحسن قول بعضهم: إن النبوات في جانب، وما جاء به المتكلمون من (3) البدع في جانب، وممن أشار إلى هذا الفخر الرازي كما تقدم في الصفات، ولذلك ترى علماء الكلام أعداء لحملة العلم النبوي إلَاّ من عصم الله، وإنما نتكلم في الرد عليهم نافلةً وتبرُّعاً وتعرُّضاً لثواب الله تعالى في نصر (4) السنة وذلك على القول المختار عندنا من حسن المناظرة لمنكري الضرورات متى كانت من الدعاء إلى الله بالتي هي أحسن، ولم تكن من (5) المراء المقصور على إثارة الشرور، وإيحاش الصدور (6)، ولذلك لم يشتمل هذا الوجه على حجة زائدة على بيان مقصدهم (7) بياناً لا يستتر معه قبح مذهبهم، فإنه متى وَضَحَ وبان لم تقبله قلوب أهل الإيمان، ولم يُحْتَجْ في رده إلى برهانٍ.
الوجه الثاني: أن كل مُبطلٍ أراد تعجيز الله تعالى عن أمرٍ، فإنه لا يعجز عن مثل هذه الحيلة، وقد ألزمهم أهل السنة تجويز أن لا يقدر الله تعالى على هداية العُصاة كُرْهاً، كما لا يقدر على هدايتهم اختياراً، ثم لا يكون ذلك عجزاً
(1) في (ش): والقبيح.
(2)
في (ش): لا يصح.
(3)
في (أ): في.
(4)
في (ش): نصرة.
(5)
في (أ): في.
(6)
في (أ): الصدر.
(7)
في (ش): مقاصدهم.
أيضاً ما لم (1) يعلم الله سبحانه ما يُلجىء المكلف إلى الطاعة، وهذا يبطل تأويلهم آيات المشيئة على الإكراه، ولا يبعد أنهم يلتزمون هذا عقلاً، ولكنهم يُقرون بأن السمع دلَّ على قدرة الله تعالى على هداية العصاة كرهاً.
والجواب عليهم منعُ ما ذكروه من قصر دلالة السمع على ذلك، فإن دِلالة السمع وردت بكمال قدرته على ما يشاء عموماً، ثم على هداية الخلق أجمعين خصوصاً.
وعلى الجملة، فإن أحسن ما يُدفعون به تذكيرهم أن هذا معلوم بالضرورة من الدين، ومعارضة قولهم بما يُشبهه من أقوال المبطلين بإجماع المسلمين، فما أجابوا به فهو جوابنا.
مثالُ ذلك: أن يقال لهم: ما الفرق بين قولكم وبين قول جماعة من الفلاسفةٍ: إنه ليس في مقدور الله تعالى أحسن من هذا العالم، لأن الكريم يبادرُ بأحسن ما في مقدوره من الخير، وليس في هذا تعجيزٌ لله تعالى، لأنه ليس في (2) معلومه تعالى أحسن منه، وما ليس في معلومه، لم تصح القدرة عليه.
فهذه الحيلة على تعجيز الربِّ عن خلق أحسن من هذا العالم مثل حيلة المعتزلة على تعجيزه سبحانه عن اللُّطف بالعصاة، بل هي هي، وقد قاربت المعتزلة مقالة الفلاسفة هذه.
وأما البغدادية من المعتزلة، فإذا تأمَّلْت مذهبهم لم تجدْهُ يخالف قول هذه الطائفة من الفلاسفة إلَاّ في العبارة، أو فيما يلزمهم الموافقه فيه مع اشتغالهم بتأويل السمع على وَفْقِ قولهم، وذلك أن مذهبهم أن الأصلح للخلق في دينهم ودنياهم وآخرتهم واجبٌ على الله تعالى، وكل ما لم يفعله الله تعالى من مصالح الخلق في الدنيا والآخرة، فليس في معلومه سبحانه ما هو أصلح منه لهم، حتى
(1) في (ش): متى لم.
(2)
في (أ): ما في.
قطعوا أن خلود أهل النار فيها إلى غير غايةٍ أصلح ما في معلوم الله تعالى لهم ومقدوره، وهذا خروجٌ عن المعقول والمنقول، فنسأل الله العافية عن مثل هذه البدع التي تبلغ بأهلها في الجهالات إلى هذه الغاية، هذا مع اعتقادهم أنهم أئمة المعارف والدِّراية.
وأما البصرية من المعتزلة، وهم الجُبَّائية والبَهْشمية (1) نسبةً إلى أبي علي الجُبَّائي وابنه أبي هاشم (2)، فإنهم يقولون: ذوات كل الأشياء ثابتة فيما لم يزل مع قِدَم (3) الرب جل جلاله، وما كان من هذه الثوابت في الأزل من أفعال العباد فليس بمقدورٍ لله تعالى (4) إلى أمور كثيرة يخرجونها من القدرة بهذه الحيلة.
فيقال (5) لهم: من (6) قال: الفلسفي والباطني إنه لم يخالف في قدرة الله تعالى على الممكنات، ولكنه يعتقد أن حياة الموتى محال لشبهه بالمحالات العادية، كما هو اعتقاد المعتزلة في إحالة إحياء الجماد من غير بيِّنةٍ مخصوصة، ولا مستند لهم إلَاّ شبه ذلك بالمحالات العادية، وقطعهم أنه منه، فإن كَفَّروا الباطنيَّ بمصادمة النصوص المعلومة بالضرورة من الدين لما جاء به من التأويلات، كان له أن يُعارِضَهم بمثل ما عارضوا به أهل السنة، ولأهل السنة أن يجيبوا عليهم بمثل ما أجابوا به على الباطني، وإن كَفَّروا الفلسفي بذلك، كان لأهل السنة أن يعارضوهم بمثله.
فإن قيل: وأي فرق بين الضرورة العادية وما يشبهها.
قلنا: وجهان:
أحدهما: فقد العلم عند الإصغاء إلى جانب الشك، وهذا هو المعتمد.
(1) في (ش): والبهاشمة.
(2)
تقدمت ترجمتهما في 2/ 318.
(3)
تحرفت في (ش) إلى: قدر.
(4)
انظر " الفرق بين الفرق " ص 197.
(5)
في (أ): فقال.
(6)
في (ش): متى.
وثانيهما: أن العلوم العاديَّات مسلمةٌ بالنظر إلى عادتنا وقدرتنا، فإحياء الجماد، وإحياء الموتى في المعاد محال في العقل كما قالوا، ولكن بالنظر إلى قدرتتا وعادتنا، وكذلك عامة (1) ما يفارق الرب به تعالى عبيده من إيجاد المعدوم من غير شيءٍ، ولذلك أنكرته المعتزلة، وقالت: إن تذويت الذوات مُحال، وكذلك الفعل من غير آلة أنكرته الفلاسفة وبعض القدرية (2).
وإنما غَلِطُوا في ذلك، لأنهم نقلوا العلم الضروري الحق المتعلق بعجزنا عن هذه الأشياء إلى الربِّ تعالى، ووجه غَلَطهم أنهم حَسِبُوا أن ذلك محالٌ لنفسه لا لعجزنا خصوصاً عنه. فافهم هذا واعتبره، فإنه نافع جداً، وقد كفر لأجله خلائق من المشركين، وضل لأجله خلائق من المسلمين.
الوجه الثالث: أن البرهان القاطع دل على نقيض مذهبهم، وهو أنا نعلم يقيناً لُطفاً معلوماً مقدوراً لله تعالى لو فعله، لآمن الناس أجمعون اختياراً من غير إكراهٍ، ولنذكر على ذلك أدلةً.
الأول: أن الله سبحانه قادر على أن يخلق العصاة على بِنيةٍ قابلة للألطاف مثل بنية الملائكة والأنبياء، سواء قلنا: إن بنيتهم التي خُلِقُوا عليها قابلة للألطاف، كقول أهل السنة، أو غير قابلة كقول المعتزلة.
ذكر هذا الوجه ابن الملاحمي (3) في كتابه " الفائق " وهو أحد أئمة المعتزلة، على رأي أبي الحسين، وهو وجهٌ صحيح معلومٌ من الدين، قال الله تعالى:{وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60]، ولا
(1) ساقطة من (أ).
(2)
في (ش): ولذلك أنكرته المشبهة وكذا علم الغيب من غير سبب، وكذلك أنكرته بعض القدرية.
(3)
وقال: ذكره أحمد بن يحيى المرتضى في " المنية والأمل " ص 71 في تلامذة أبي الحسين البصري، فقال: الشيخ النحرير محمود بن الملاحمي.
شك أن بنية الملائكة تخالِفُ بنية الإنس (1)، فإنهم لا يأكلون ولا يشربون، ولا يفتُرُون من العبادة، فمن قدر على تحويل بنية البشر إلى بنية الملائكة، فهو على تحويل بنية بشر إلى بنية بشرٍ مثله أقدرُ، بل في كتاب الله تعالى ما يدُلُّ على قدرة الله سبحانه على ذلك دِلالةً خاصة مع بقاء بنيتهم، وإلا فهو معلومٌ ضرورة من الدين، وذلك مثل قوله تعالى:{عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} [الممتحنة: 7]، وإليه إلإشارة بقوله:{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم} وقد اعترف الخصم بهذا المعنى في تفسيره، فقال: ومعنى {والله قديرٌ} على تقليب القلوب، وذلك هو المراد.
وقد قال الله تعالى في خطاب من شك في قدرته على أبعدَ من ذلك في العقل وأصعب: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 50 - 51]، وما أدلَّ (2) قوله:{أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} على تعميم قدرته تعالى على تغيير كل بنية إلى ما يخالفها. وقد صح في الحديث " أن الله يقلب القلوب كيف شاء "، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" يا مقلِّبَ القلوب ثَبِّتْ قلبي على دينك "(3) وقد تقدم الكلام عليه وقد حكى الله عن الراسخين قالوا: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8].
وجاء هذا في كلام الله تعالى بعباراتٍ مختلفة:
منها قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 7 - 8].
(1) في (ش): البشر.
(2)
في (ش): " دل "، وهو خطأ.
(3)
تقدم تخريجه في 2/ 271 - 272.
منها: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].
ومنها: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [الأنعام: 125].
ومنها: {وَجَعَلْنا قُلوبَهُم قاسيةً} [المائده: 13]، وأمثال ذلك كثير لا يكاد يحصى.
ومن ذلك قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِين} [المعارج: 40 - 41]، ووجهُ الحجة من الآية أنها تدل على أن لله تعالى حكمة وإرادة في وجود العصاة مع كراهة المعاصي، لأنه تمدَّح بالقدرة على إيجاد خلق غير عصاة في هذه الآية، وفي غيرها كقوله:{وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
فتأمل ذلك مع مثل قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّم} [هود: 119]، وفي آية:{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} [السجدة: 13]، كما تقدم في أن عذاب الله في الدار الآخرة راجحٌ مشتمل على الحكم الخفية والمصالح، وأنه ليس بمُباحٍ خالٍ من الحكمة والصلاح.
وقد صَحَّ وثبت من غير وجهٍ أنه شُقَّ قلبُ النبي صلى الله عليه وسلم وغُسِلَ ومُلِىءَ حكمةً وإيماناً (1)، وذلك ظاهر في أنه سبب العصمة، ومثله مقدورٌ لله تعالي في كل بشر، وليس هذا من القياس في شيءٍ، وإنما هو من قبيل احتجاج الرب سبحانه على قدرته على الإعادة: بقدرته على النشأة الأولى، وكما احتج المسلمون على قدرة الرب سبحانه على كل شيءٍ بذلك وبالمعجزات، ووجهُه
(1) تقدم تخريجه في 3/ 372.
أنه يحصل بعد النظر في ذلك علمان ضروريَّانِ عقلي وسمعي.
أما العقليُّ: فمثاله: عِلْمُنا أن الزجاج ينكسر بالحديد، ولعل الواحد منا ما كسر زجاجة واحدة، وكذلك جميع العاديات، لأنا نعلم أنه لا تأثير في ذلك لاختلاف الأزمان والبلدان والقادرين منا، ومن ثم قال الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه:{أعلمُ أنَّ الله على كُلِّ شيءٍ قديرٌ} [البقرة: 259].
وأما السمعي: فقد اتفق العقلاء على أنه يُفهم من مقصود المتكلم ما لم ينطق، كما يفهم تحريم ضرب الوالدين من تحريم أذاهما وانتهارهما، والذي يَحْسِمُ مادة النزاع في هذا بين المسلمين أن إجماعهم منعقد، والعلم الضروري من دينهم أنه يجب الجزم بقدرة الرب تعالى على كل شيء على العموم، ولا يقال: يخرج من ذلك المحال، لأنه ليس بشيء، فلم يدخل في العموم حتى يخرُجَ منه، وأن الاحتجاج بهذا العموم على الجزئيات التي لا نصَّ فيها على قدرة الله تعالى عليها بأعيانها احتجاجٌ صحيح، والدليل القاطع على هذا من العقل أن البنية التي تقبل اللطف، والبنية التي لا تقبل عارضتان غير ذاتيتين (1) عقلا وسمعاً وإجماعاً، ولا نزاع في قدرة الله تعالى على تغيير ما هو خلقه من الأمور العارضة الممكنة.
والعجب من المعتزلة أنهم بالغوا في الاعتذار للرب عز وجل حتى أقاموا العذر للعبد، فإن الله تعالى متى خلق العبد على بنية يعجز الرب عن هدايته معها، فإن العبد يكون أعجز عن هداية نفسه مع ذلك بالنظر إلى الدواعي، وهذا يناقض أصل مذهبهم في إزاحة الأعذار، وتقبيح خلق المفاسد، فلا أعظم مفسدةً من إيجاد بنية لا تدخل في مقدور الربِّ، ولا في معلوم اللطف لها على زعمهم (2)، وإن كان (3) الحق بطلان زعمهم لقوله:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30].
(1) في الأصلين: ذاتيين.
(2)
في (ش): لها فإنها.
(3)
ساقطة من (ش).
وثبت في "الصحيح"" أن كل مولودٍ يُولَدُ على الفطرة، وأنما أبواه يُهَوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمجِّسانه "(1)، فكيف يقال فيما خلق على الفطرة: إنه قد يُبنى بِنيةً لا تقبل اللطف ألبتة؟ ولك (2) أن تقول في تحرير الدليل العقلي أيضاً: فالأجسام عندهم متماثلة في ذواتها، وإنما اختلفت بما أكسبها الله تعالى من الأمور الزائدة على الذوات من أعراضٍ وصفات وأحكام وأحوال، وتغيير كل شيء منها مقدور لله تعالى، ولا فرق عندهم بين المَلَكِ والبشر، والمؤمن والكافر إلَاّ فيها، فثبت أن تغييرها عندهم مقدورٌ لله تعالى.
إذا تقرر هذا، فقد قال ابن الملاحمي بعد ذكر موافقة المعتزلة لأهل السنة على هذا ما معناه: فإن قيل: فما الوجه عندكم في خلق العصاة على البنية التي لا تقبل اللطف مع قدرة الرب تعالى على خلقهم على البنية التي تقبلُ اللطف، بل تقبل العصمة؟
قال ما معناه: إنا نعلم أن لله تعالى في ذلك حكمة على سبيل الإجمال، وإن لم نعلم تعيينها، فرجعت المعتزلة بعد القطع بقبح ظواهر القرآن والسنن وآثار السلف، وركوب كلِّ صعبٍ وذلول في تأويل ذلك إلى مثل ما بدأ به أهل السنة.
وليت شعري ما الفرق بين تجويز المعتزلي في هذا لحكمة لا يعلمها، وبين تجويز إراده الله تعالى لأسباب وقوع معاصي العصاة وترك هدايتهم مع القدرة عليها لوجه حكمةٍ لا نعلمه، لا لأجل الوجه القبيح التي قبحت وكرهت لأجله، وإن خالف بعض المعتزلة في ذلك رضينا منه أن ينزل أهل السنة منزلة من جوَّز ذلك من المعتزلة (3)، وهو أبو الحسين وأصحابه.
(1) تقدم تخريجه في 3/ 387.
(2)
في (ش): وذلك.
(3)
من قوله: " في ذلك " إلى هنا ساقط من (ش).
الدليل الثاني: أنَّ أبا هاشم وأصحابه وجمهور المعتزلة جوزوا أن يَخْلُقَ الله تعالى أسباباً يعلم أن المعاصي تقع بسببها زائدة على أصل التكليف، مثل خلق الشياطين والشهوات الزائدة (1)، ويكون ذلك تعريضاً للثواب العظيم، كما جاز منه ذلك في أصل التكليف، ولم يخالف في ذلك إلَاّ أبو علي (2)، حكى ذلك السيد صاحب الابتداء المجاب عليه " بالعواصم " في آخر تفسيره " تجريد الكَشَّاف المزيد فيه النكت اللطاف " وقوَّى ذلك وصححه، واحتج عليه بآيات من القرآن كقوله تعالى في الشيطان:{فدَلَاّهُما بِغُرورٍ} [الأعراف: 22]، وقوله:{كما أَخْرَجَ أبَوَيكُم مِنَ الجَنّةِ} [الأعراف: 27] وغير ذلك.
وعلى هذا يجبُ تجويز أن في العصاة من عصى بسببٍ من هذه الأسباب، الزائدة، ويجب القطع بقُدرة الله تعالى على هداية من عصى بتلك الأسباب، لأن الله تعالى قادر على هدايته بترك تلك الأسباب، وهذا يناقض القطع بنفي قدرته على هداية العصاة.
الدليل الثالث: أن المعتزلة اعترفت أنه لا يقع القبيح من فاعله إلا لداعٍ إليه، ولذلل أمكنهم القطع بأن الله تعالى لا يفعل القبيح مع قدرته عليه، لأنه لا داعي إليه.
إذا تقرر هذا، فلا خلاف بين الجميع أنَّ الرب سبحانه قادرٌ على أن يُعلِّم العاصي قُبح القبيح، وعلى أن لا يجعل له إليه داعياً ألبتة، وعلى أنه متى فعل ذلك، لم يقع القبيح، سواء قلنا: إن وقوعه ممكنٌ أو ممتنع، ولكن المعتزلة اعتذرت عن هذا بشُبَهٍ:
الشبهة الأولى: قالوا: لو لم يجعل الله تعالى للعاصي داعياً إلى
(1) ساقطة من (ش).
(2)
هو شيخ المعتزلة أبو علي محمد بن عبد الوهاب البصري الجبائي المتوفى سنة (303 هـ). انظر " السير " 14/ 183 - 185.
المعصية، لم يصح وقوعها منه، فيكون كالمُلْجَأ بالصوارف إلى الترك، والمُلجأ لا يستحق الثناء والثواب، وأجيب عليهم بوجوه:
أحدها: أنه يناقض قولهم في أنه لا أثر للداعي، ثم إن قولهم: إنه كالمُلجأ، والملجأ لا يستحق الثناء والثواب مغالطةٌ ظاهرة، لأن كاف التشبيه والتجوُّز في العبارات لا يصح في البراهين، لأنه لا يصير مُلجأ محققاً بكونه كالملجأ، بل (1) ولا يصح كونه كالملجأ، لمجرد عدم الداعي إلى القبح، لأنه لا داعي لله تعالى إلى القبيح، فلا يصح وصفه بأنه كالملجأ (2)، وإذا لم يكن العبد ملجأً، لم يكن له حكمُ الملجأ الذي هو عدم استحقاق الثناء والثواب، ونحن لم نقل: بأن الله تعالى قادر على أن يُلجئه إلى الطاعة، بل قلنا: هو قادر على أن يجعله مختاراً، يوضِّحُهُ.
الوجه الثاني: وهو أن الله تعالى مستحقٌّ لأعظم الثناء على ترك القبائح مع أنه لا يصحُّ وقوعها منه عند الجميع، ولا ولا داعي له إليها، ولا مشقة عليه في تركها، وكذلك يستحق أعظم المحامد على ما يفعله من الجود والإحسان وإن لم يكن عليه في ذلك مشقة ألبتة.
الوجه الثالث: أنه يلزم بطلان الثناء والثواب عقلاً مطلقاً على جميع أفعال المختارين لما سيأتي في مسألة إيجاب الداعي، فإنه قد تقرَّر هناك أنه لا يصح من كل مختار حين اختياره أن يقع منه ضد اختياره بدلاً من اختياره من غير مُرَجِّح، ولا يمكن دخول هذه الصورة في الوجود، وكل مختار عند اختياره كالملجأ على زعمهم، ولو رام المعتزلي أن ينازع في ذلك بَطَلَ عليه أساس العدل، ولَزِمَهُ تجويز ذلك في حق الرب تعالى.
(1) ساقطة من (ش).
(2)
من قوله: " لمجرد " إلى هنا ساقط من (أ).
فإن قالوا: إنما لم يفعله الله تعالى طلباً منه لمصلحة المكلَّفِ في الفعلِ مع المشقة، لأنه حينئذ يستحق الثناء والثواب.
قلنا: إن أردتم المشقة مع زوال، الاختيار فباطل، لموافقتكم على بطلانه، ولما تقرَّر عندكم في أن المستحق على الآلام هو العوض دون الثناء والثواب مع ما فيها من المشقة، وإن أردتم المشقة مع الاختيار، فلا برهان بأيديكم على أنها هي المؤثرة في استحقاق الثناء والثواب (1)، لأنهما ثبتا بثبوته، وانتفيا بانتفائه، ولأن التعليل في ذلك وافق المعلوم من أن الله على كل شيءٍ قدير عموماً، وعلى هداية العصاة خصوصاً، فهو الأصل، ومن ادعى خلافه، فعليه الدليل القاطع.
الوجه الرابع: أنه يلزمهم أن يكون الله عز وجل، كالملجأ إلى الخيرات كلها، فلا يستحقُّ الثناء، وهم لا يقولون بذلك.
الشبهة الثانية: قالوا: سلمنا أنه يستحق الثناء بمجرد الاختيار من غير مشقةٍ بدليل استحقاق الربِّ جل وعلا لذلك بمجرد اختياره، لكن لا نُسَلِّمُ استحقاق الثواب إلَاّ مع المشقة، وما ذكرتموه من عدم اعتبار المشقة معارضٌ بدليل أنه يبطُلُ اسم التكليف ببطلان المشقة، لأنه مشتق من الكُلْفَة في اللغة، ولا يسمى ترك الشائع الراوي للمستقذرات تكليفاً، والجواب من وجوهٍ:
الأول: مطالبتهم بالدليل القاطع على ذلك، وقد وصَّى بعض العلماء أن يطالب المبتدع بالدليل ولا يُحْتَجَّ عليه، فإن القدح في شبهته ولو بمجرد المنع من صحته حتى يستبين أسهل وأوضح من رد تشكيكه في دليل أهل الحق، وذلك لأن الخراب أسهل من العمارة، ولأن من وصايا المبطلين التمسك بالجحد الصِّرْف في خصومات الدين، كما ذلك دأبُهم في خصومات الدنيا،
(1) في (ش): وإن أردتم استحقاق [الثناء] والثواب، لأنها قد وجدت غير مؤثرة فيهما، وذلك في الآلام، ومثل ذلك يقدح في قياس الفروع الظنية، فكيف الأدلة القطعية والظاهرة مع أهل السنة في أن المختار هو عليه الثناء والثواب.
والجحد للحق ينتهي إلى جَحْد الضرورة، وحينئذٍ ينقطع المُحِقُّ من الكلام، وينتقل إلى مرتبة الجهاد بالسيف أو الصبر إلى يوم الفصل، وإذا كان مفزَعُهم إلى جحد الحق كان المُحِقُّ أولى أن يفزَعَ إلى جحد الباطل، ويرد عليهم مكرَهُم، ويُوقِعَهم في كيدهم.
فإن قالوا: ليس على النافي دليل.
قلنا: من ادعى نفي العلم وكان حاصل دعواه أنه جاهل، فلا دليل عليه، ولكن أن نفى الضرورة، قطعنا بتكذيبه وإلَاّ وقفنا في ذلك (1). وأما من ادَّعى العلم بالنفي، فعليه الدليل، ولذلك احتجنا إلى الاستدلال على نفي الثاني.
الوجه الثاني: أنه لا مانع من بُطلان هذا الاسم أو بطلان معناه مع بقاء اسم (2) الطاعة والعبادة، وكذلك اسم المعصية والمخالفة، ولم تَرِدِ الأوامرُ الشرعية على الخلق بأن يتكلَّفُوا ما شَقَّ بل وردت بأن يطيعوا ولا يعصوا، ويعبدوا ولا يكفروا، فحيث شق ذلك، أمرنا بالصبر، وحيثُ لم يشُقَّ، لم نُحْرَمِ الأجر، بل قد جاء نفي الحرج والعسر في نصوص كتاب الله تعالى وقال:{ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى} [طه: 2]، وقال في صفته صلى الله عليه وسلم:{وما أنا من المُتَكَلِّفين} [ص: 86]، وسمى دينه الذي ارتضاه لعباده اليُسرى، وسمَّى خلاف ذلك العسرى. وقد بينت (3) في مقدمات هذا الكتاب أن العُسرى أمرٌ نِسبيٌّ إضافي، وأكثر ما يكون على حَسَبِ الدواعي والصوارف، ولذلك كانت الصلاةُ كبيرة إلا على الخاشعين مع مساواة غيرهم لهم في القوة والصحة أو زيادة غيرهم عليهم في ذلك، ولا معنى لاشتراط (4) بقاء اسم التكليف (5)، ولولا ذلك كذلك (6) لم
(1) من قوله: " ولكن " إلى هنا ساقط من (ش).
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
في (ش): ثبت، وهو تصحيف.
(4)
في (أ): " لاشتراك "، والمثبت كتب فوقها في إحدى النسخ.
(5)
من قولهم: " غيرهم لهم " إلى هنا ساقط من (ش).
(6)
ساقط من (أ).
تصح الصلاة من غير مشقَّةٍ، ولكانت المشقة أحد شروط صحتها في كتب الفقه، بل كان يلزم بطلان صلاة الخاشعين، بل بطلان إسلام كثير من المسلمين.
فهذه الأسماء التي هي العبادة والطاعة والمعصية (1) والمخالفة باقية مع مجرد الاختيار، سواء بقي اسم التكليف ومعناه أو لا، وذلك مثلما بقي في حق الرب (2) عز وجل اسم الجواد الكريم الوهاب الحميد، الفعَّال لما يريد مع انتفاء المشاق.
وقد ورد ما يدل على عدم اعتبار المشقة، بل على مضاعفة الثواب مع عدمها، وذلك كقوله تعالي:{وإنَّها لكبيرةٌ إلَاّ على الخاشعين} [البقرة: 45]، ولا شك أن ثواب الخاشعين أعظم من ثواب غيرهم، ولا شك أن الصلاة أسهل وأخفُّ عليهم من غيرهم، بل قد جاء " جُعلت قُرَّةُ عيني في الصلاة "(3)، و" أرحنا بالصلاة يا بلال "(4).
(1) ساقط من (أ).
(2)
في (أ): في حق اسم الرب.
(3)
حديث صحيح، أخرجه أحمد 3/ 128 و199 و285، وأبو يعلى (3482) و (3530)، والنسائي في " السنن " 7/ 61 و61 - 62 وفي " عشرة النساء "(1) و (2)، وأبو الشيخ في " أخلاق النبي " ص 229 و230، والحاكم 2/ 160، والبيهقي 7/ 78 من طريق ثابت البناني، والطبراني في " المعجم الصغير " 1/ 262 من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، كلاهما عن أنس بن مالك، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
(4)
أخرجه أحمد 5/ 371، وأبو داود (4986) من طريق إسرائيل عن عثمان بن المغيرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن عبد الله بن محمد بن الحنفية قال: انطلقتُ أنا وأبي إلى صهرٍ لنا من الأنصار نعودُه فحضرت الصلاة، فقال لبعض أهله: يا جارية ائتوني بوضوء لعلي أصلي فأستريح، قال: فأنكرنا ذلك عليه، فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قم يا بلال فأرحنا بالصلاة " وإسناده صحيح. =
وسواء حصل وصف الخاشعين برياضة فيها مشقة، أو برياضةٍ لا مشقة فيها أو موهبة من الله تعالى من غير رياضةٍ، لأن الثواب الحاصل على صلاة الخاشع غير الثواب الحاصل على الرياضة. وقد أثنى الله على يحيى بن زكريا بكونه سيداً وحصوراً، وذلك منصوصٌ في كتاب الله تعالى من أن عفة الحَصُور عن النساء موهبة من الله تعالى.
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كُلُّ بني آدم يلقى الله يوم القيامة بذنب، يعذبه عليه إن شاء أو يرحمه إلَاّ يحيى بن زكريا، فإنه كان سيداً وحصوراً "، وأهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قذاةٍ من الأرض فأخذها، وقال:" ذكره مثل هذه القذاة "(1). رواه الطبراني في " الأوسط " من معاجمه من حديث حجاج بن سليمان الرُّعيني، وهو مختلفٌ فيه، ووثَّقه ابن حبان وغيره، ومَشَّاه ابن عدِيٌّ، ولكن شواهده في الثناء على يحيى بن زكريا عليهما السلام قرآنية ضرورية (2)، ونبوية شهيرة.
= وأخرجه أحمد 5/ 364، وأبو داود (4785) من طريق مسعر بن كدام، عن عمرو بن مُرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن رجل -قال مسعر: أراه من خزاعة- وفي رواية أحمد: رجل من أسلم- قال: ليتني صليتُ فاسترحت، فكأنهم عابوا عليه ذلك، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يا بلال أقم الصلاه أرحنا بها ".
(1)
أخرجه ابن عدي في " الكامل " 2/ 651، وابن أبي حاتم في تفسيره فيما نقله عنه ابن كثير في " تفسيره " 1/ 369 من طريق أبي الأزهر حجاج بن سليمان الرعيني عن الليث بن سعد، عن محمد بن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعاً.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 8/ 209 وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه حجاج بن سليمان الرعيني وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه أبو زرعة وغيره، وبقية رجاله ثقات.
قلت: وقال ابن عدي: وإذا روى حجاج هذا عن غير ابن لهيعة، فهو مستقيم إن شاء الله.
(2)
في (ش): ضرورة.
ففي الباب عن ابن عباس (1) بإسناد رجاله ثقات.
وعنه أيضاً بإسناد آخر رجاله رجال الصحيح، وخرجه الحاكمُ عنه، وقال: على شرط مسلم (2).
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص (3) بإسناد رجاله ثقات كلها مرفوعة. ذكرها
(1) أخرجه أحمد 1/ 254 و292 و295 و301 و320، وأبو يعلى (2544)، والبزار (2358)، والطبراني (12933)، والحاكم 2/ 591 من طريق حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 8/ 209 وقال: وفيه علي بن زيد، ضعفه الجمهور، وقد وثق، وبقية رجال أحمد رجال الصحيح. وقال ابن حجر في " تلخيص الحبير ": وهو من رواية علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران وهما ضعيفان.
وأخرجه البزار (2359) عن سهل، حدثنا محمد بن سليمان، حدثنا إسماعيل بن زكريا مولى بني أسد، عن محمد بن عون الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس.
وقال ابن حجر في " التلخيص " تعليقاً على هذه الطريق: ومحمد بن عون الخراساني ضعيف.
(2)
أخرجه الحكم 2/ 591 وليس فيه ما نقله عنه المؤلف.
(3)
أخرجه البزار (2360) من طريق سفيان، وابن المنذر فيما ذكره ابن كثير في " تفسيره " 1/ 369 من طريق علي بن مُسْهِرٍ، كلاهما عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو وقال الهيثمي في " المجمع " 8/ 209: رواه البزار ورجاله ثقات.
وأخرجه الطبراني (6981)، والحاكم 2/ 373 من طريق محمد بن إسحاق قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب، حدثني عمرو بن العاص مرفوعاً، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي.
وأخرجه ابن أبي حاتم فيما ذكر ابن كثير 1/ 369 من طريق عباد بن العوام، والطبري (6983) من طريق شعبة، كلاهما عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال ابن العاص - إما عبد الله وإما أبوه فرفعه ابن أبي حاتم، ووقفه الطبري. =
الهيثمي في " مجمع الزوائد ".
وقال الحافظ ابن حجر في كتاب الشهادات من " تلخيصه "(1) رواه أحمد والحاكم وأبو يعلى من حديث ابن عباس.
وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح إلى الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً (2).
وأخرجه عبد الرزاق من طريق سعيد بن المسيب مرسلاً أيضاً (3)، وذكر له طرقاً أُخر.
ويشهد له حديث " لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، لكن برحمة الله "(4) وفيه
= وأخرجه ابن أبي حاتم فيما ذكر ابن كثير من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، أنه سمع سعيد بن المسيب، عن عبد الله بن عمرو بن العاص موقوفاً. وقال ابن كثير: فهذا موقوفٌ أصحُّ إسناداً من المرفوع.
(1)
4/ 199.
(2)
وأخرجه الحاكم 2/ 591، والبيهقي 10/ 186 من طرق عن الحسن مرسلاً.
(3)
وأخرجه الطبري (6982) عن يونس، عن أنس بن عياض، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قوله. ورجاله ثقات.
(4)
أخرجه البخاري (5673) و (6463)، ومسلم (2816) من حديث أبي هريرة، وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(348) و (350).
وأخرجه البخاري (6464) و (6467)، ومسلم (2818) من حديث عائشة.
وأخرجه مسلم (2817) من حديث جابر. وانظر تمام تخريجه في " صحيح ابن حبان "(350).
وأخرجه أحمد 3/ 52 من طريق عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري. وحسن إسناده الهيثمي في " المجمع " 10/ 356!
وأخرجه البزار (3447) من حديث أبي موسى الأشعري.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 356 - 357 وقال: رواه البزار والطبراني في " الأوسط " و " الكبير "، وفي أسانيدهم أشعث بن سوار، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجالهم ثقات. =
ثلاثة عشر حديثاً مما اتَّفق عليه البخاري ومسلم منها على اثنين، وانفرد مسلم بحديث، وبقيتها في " مجمع الزوائد "، وُثِّقَ منها رجال أربعةٍ، وبقيتها على شرط التواتر.
ويشهد له مثل قول آدم: {وإنْ لم تَغفِرْ لنا وترحَمْنا لنكونَنَّ من الخاسرين} [الأعراف: 23]، وقوله تعالى:{وإلَاّ تَغفِرْ لي وترحمني أكُنْ من الخاسرين} [هود: 47]، إلى أمثالٍ لذلك كثيرة ذكرتها في آخر هذا المجلد، وأوضحت أن الباء في قوله تعالى:{ادخُلُوا الجَنَّةَ بما كُنْتُم تعملون} [النحل: 32] باء السبب لا باء الثمن والقيمة، وإنما هي كقولك أغناني الأمير بأبياتٍ قلتها أو بتقبيلي قدمه.
ويشهد لطرف الحديث الآخر، وهو عموم البلوى بالذنوب قوله تعالى:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: 61]، وفى آية:{على ظهرها} [فاطر: 45]، وقوله تعالى:{كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23].
= وأخرجه " البزار "(3446) والطبراني (7318) و (7219) و (7220) و (7221) من حديث شريك بن طارق. وذكره الهيثمي في " المجمع " من حديث شريك بن طريف -وهو خطأ، والصواب ما أثبت- وقال: رواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح.
وأخرجه الطبراني 1/ (493) من حديث أسامة بن شريك.
وقال الهيثمي في " المجمع ": وفيه المفضل بن صالح الأسدى. وهو ضعيف.
وأخرجه الطبراني 1/ (1001) من حديث أسد بن كرز: وحسَّن الحافظ ابن حجر إسناده في " الإصابة " 1/ 49.
وفي " مجمع " الزوائد " في هذا المعنى حديثان لأبي هريرة بزيادة ليست في الصحيح، وحديث أنس بن مالك وابن عمر وواثلة بن الأسقع، وبذلك يتم العدد ثلاثة عشر حديثاً كما ذكر المؤلف.
وذكر في " الجامع الكافي " على مذهب الزيدية أن زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام بكى عند موته، فقال له ولده الباقر: لِمَ تبكي؟ فوالله ما علمتُ أحداً طلب الله ما طلبته، فقال له أبوه: اسكت يا ولدي، فإنه ليس أحد يأتي يوم القيامة إلَاّ وله زلَّة، إن شاء الله عاقبه عليها، وإن شاء عفا عنه.
ويعضده حديث عائشة وأبي هريرة " لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة ولا أنا ".
وفي " مسلم " عن جابر مثله.
ومنه قول الخليل: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]. وفي " مجمع الزوائد " عشرة أحاديث مثل ذلك. وفي قول آدم ونوحٍ في كتاب الله.
والعجب من المعتزلة أنهم يُفضلون الملائكة على الأنبياء والصالحين مع قوله في الملائكة: {لا يفتُرُون} [الأنبياء: 20]، وفي آية:{وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] أي: يَعْيَوْنَ، ومع ما عُلِمَ من عصمة الملائكة من شهوة النساء والطعام والشراب، ثم يُعَوِّلُون بعد هذا على أن الثواب علي قَدَرِ المشقة.
ومن أعظم ما يُحتج به على ذلك ما قطع به الجماهير وجوَّزه الجميع من تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم على نوحٍ عليه السلام، وأمثاله ممن كانت شِرعته أشق وعمره أطول، ومشقته أكثر، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما بقي عاملاً بشريعته قدر عشرين عاماً مع ما عُلِمَ من سهولتها بالنسبة إلى ما قبلها من الشرائع، وإلى ذلك الإشارة بنحو قوله تعالى:{وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
ولذلك ورد في الصحيح أنهم تقالُّوا عبادته، وقال بعضهم: إنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب، وقال: "إني
لأعلمُكم بالله وأخشاكم له، ولكنَّها سُنَّتي" (1) الحديث أو كما ورد.
ووصف شريعته صلى الله عليه وسلم بأنها الحنيفية السمحة (2)، ونهى عن الرهبانية (3)
(1) أخرجه أحمد 3/ 241 و259 و285، والبخاري (5063)، ومسلم (1401)، والنسائي 6/ 60، وابن حبان (14) و (317)، والبيهقي 7/ 77، والبغوي في " شرح السنة " (96) من حديث أنس. وتمام لفظه من البخاري:" جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبداً، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء، فلا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ".
(2)
تقدم تخريجه في 1/ 175.
(3)
أخرج أحمد 6/ 226، والبزار (1458) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة قال: دخلت امرأة عثمان بن مظعون أحسب اسمها خولة بنت حكيم على عائشة وهي باذّة الهيئة، فسألتها ما شأنك؟ فقالت: زوجي يقوم الليل، ويصوم النهار، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكرت عائشة ذلك له، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان، فقال:" يا عثمان إن الرهبانية لم تكتب علينا، أفما لك فيَّ أسوة، فوالله إني أخشاكم لله، وأحفظكم لحدوده ". لفظ أحمد، ورجال إسناده ثقات.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 4/ 302 من حديث أبي أمامة، ونسبه إلى الطبراني وقال: وفيه عُفير بن معدان وهو ضعيف، ولفظه:" إني إنما بعثث بالحنيفية السمحة، ولم أبعث بالرهبانية البدعة، وإن أقواماً ابتدعوا الرهبانية فكُتِبَتْ عليهم، فما رَعَوْها حق رعايتها، ألا فكلوا اللحم، وائتوا النساء، وصوموا وأفطروا، وصلوا وناموا، فإني بذلك أُمرت ".
وأخرج الدارمي 2/ 133 عن محمد بن يزيد الحزامي، حدثنا يونس بن بكير، حدثني ابن إسحاق، حدثني الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان من أمر عثمان بن مظعون الذي كان ممن ترك النساء، بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" يا عثمان إني لم أومر بالرهبانية، أرغبت عن سنتي؟ " قال: لا يا رسول الله، قال: " إن من سنتي أن أصلي وأنام، وأصوم وأطعم، وأنكح وأطلق، فمن رغب عن سنتي فليس مني
…
".
والتشديد (1)، وقد أفردت هذا المعنى في جزءٍ مفرد ولله الحمد، وأوضحت فيه أنه لا رابطة عقلية ولا شرعية بين الحقِّ والعسر، ولا بين الباطل والسهولة لما صح من ضلال كثير من أهل الأعمال الشاقة من رهبان النصارى وخوارج هذه الأمة ومبتدعتها، وعكس ذلك والحمد لله رب العالمين.
ولذلك صح بلوغ صلاة الجماعة والصلاة في الحرم، وفي ليلة القدر، وعلى هذه الأحوال كلها تلك المبالغ العظيمة (2)، ومن ثم (3) صح تفضيل سورةٍ على سورة، وآيةٍ على آية، وكانت {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] تعدل ثلث القرآن (4)، ومن ثم كان الحليم أفضل من المتحلِّم ونحو ذلك، ومجموع
(1) يشير إلى قوله صلى الله عليه وسلم: " إن هذا الدين يُسرٌ، ولن يُشاد الدينَ أحدٌ إلَاّ غلبه، فسدِّدوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والرواح وشيء من الدُّلْجة ". أخرجه البخاري (39)، والنسائي 8/ 121 - 122، وابن حبان (351)، والبيهقي في " السنن " 3/ 18 من حديث أبي هريرة.
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
في (ش): العطفة.
(4)
أخرج مالك 1/ 208، ومن طريقه البخاري (5013) و (6643) و (7374)، وأبو داود (1461)، والنسائي في " السنن " 1/ 171 وفي " عمل اليوم والليلة "(698) عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رجلاً يقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يرددها، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكأن الرجل يتقالُّها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" والذي نفسي بيده إنها لتَعْدِلُ ثلث القرآن ".
وأخرجه من طريق أخرى عنه: البخاري (5015) بلفظ: " أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟ " فشق ذلك عليهم وقالوا: أيُّنا يطيق ذلك يا رسول الله؟ فقال: " الله الواحد الصمد ثلث القرآن ".
وأخرجه من حديث أبي الدرداء: مسلم (811)، والدارمي 2/ 460، وأحمد 6/ 442 و447، والنسائي في " عمل اليوم والليلة "(701).
وأخرجه من حديث أبي هريرة: مسلم (812)، والترمذي (2900).
ذلك يوجب التواتر، ومنع التأويل بما ذكرنا غير مرة من أن العادة تقضي بالظاهر فيما شاع من عصر النبوة والصحابة، ولم يذكر تأويله ويحذر من ظاهره.
وقد ردَّ الإمام المتوكل أحمد بن سليمان (1) عليه السلام على نشوان بن سعيد قوله بنفي التفضيل، لأنه أراد نفي (2) تفضيل أهل البيت بنسبهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالغ في أن الله لا يفضل أحداً إلَاّ بالعمل، فبالغ الإمام في رد ذلك، واحتج بالنصوص مثل قوله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]، وقوله عز وجل:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 247]، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ} [النمل: 15]، وذكر ما تقدم من تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم مع قصر عمره وسهولة شريعته، وذكر أن الله فاضل (3) بين المواضع، وفضل بعضها على بعض كالكعبة، وبين الأزمان كرمضان، وبين الليالي كليلة القدر، فجعلها خيراً من ألف شهر، وبين الأيام كيوم الجمعة، وطوَّل عليه السلام في ذلك، وجوّد في الرد على شُبَهِ (4) نشوان في نفي ذلك.
وتلخيصُ هذا الجواب أن المشقة في التكليف صارفٌ عن الخير، وداعٍ
= وأخرجه من حديث أبي أيوب الأنصاري: الترمذي (2896)، والنسائي في " المجتبى " 2/ 172، وفي " عمل اليوم والليلة "(679) و (680) و (681) و (682) و (683).
وأخرجه من حديث أبي مسعود الأنصاري: النسائي في " عمل اليوم والليلة "(693)، وابن ماجه (3789).
وأخرجه من حديث ابن مسعود: النسائي في " عمل اليوم والليلة "(675)، وابن حبان (2576)، والبزار (2298)، والطبراني (10485).
(1)
تقدمت ترجمته 2/ 332.
(2)
ساقطة من (ش).
(3)
في (أ): فضل.
(4)
في (ش): شبهة.
إلى الشرِّ، لا معنى لها غير ذلك، فإمَّا أن يشترطوا في التكليف أن تكون تلك المشقة اللازمة (1) له راجحةً على الدواعي إلى الخير والصوارف عن الشر أو لا، والأول ممنوع لوجوه:
أولها: الاتفاق على ذلك، فإن المعتزلة لا توجب ذلك (2) التكليف.
وثانيها: لزوم أن لا تقع الطاعة من مكلَّفٍ أبداً، لأن المرجوح لا يقع قطعاً، وإلَاّ لزم تجويز وقوعه من الله تعالى.
وثالثها: وقوع جميع أنواع المعاصي من كل أحدٍ (3) من المكلفين.
ورابعها: أن ذلك يناقض إيجاب المعتزلة اللطف على الله تعالى.
وخامسها: أنه يوجب جواز أن يفعل الله المفسدة في التكليف، وهو عندهم ممنوعٌ، فإنهم منعوا أن يفعل الله الدواعي الزائدة التي يعلم الله تعالى أن العبد (4) يعصي عندها، ويصح تكليفه بدونها، وهذا يلزمهم قبح جميع الدواعي إلى القبيح (5) الأصلية التي وقع القبيح عندها، لأن العلة وقوعه (6) عندها، سواء كانت أصليةً أو زائدة، وفرقهم بينها بأن الأصلية شرطٌ في صحة التكليف ممنوع بما ذكرنا في هذا البحث، ولأنه يؤدي إلى أن يكون الشرط في صحة التكليف فعل ما هو مفسدةٌ فيه، وهذا متناقض.
وسادسها: أن الله تعالى أخبر أنه لا يفعل مثل ذلك، فقال تعالى:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27]، وقال:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33].
(1) في (ش): الملازمة.
(2)
في (ش): ذلك في التكليف.
(3)
في (ش): واحد.
(4)
في (ش): المكلف.
(5)
في (ش): القبيحة.
(6)
في (ش): الوقوع.
وسابعها: أنه لا يلزم عدم التكليف بترك ما لا يشق، أو عدم الثواب بترك كثيرٍ من المحرمات من نكاح الأمهات والبنات وسائر المحارم، وكثير من أنواع الكفر، والسُّخْف، والخِسَّة، والكذب الضار، وهذه الأمور هي أعظم المحرمات وأغلظها.
وكذلك قضاء الجواد المُمَدَّح واسع الغنى لدانقٍ من الدين لا يسمى تكليفاً مشتقاً من الكُلفة مع كونه واجباً مأموراً به مُثاباً عليه، وكذلك قول الملائكة والصالحين: سبحان الله، مما لا يصح بقاء الكلفة فيه على الإطلاق في الحقيقة العرفية خصوصاً.
وكذلك اعتقاد بطلان ربوبية الحجارة ونحوها، وكذلك ترك الشيعة للنصب والسنية للرفض.
والثاني: -وهو أن تكون المشقة اللازمة للتكليف مرجوحة- مسلَّمٌ، ولا يضر تسليمه، لأن اللطف حينئذ حاصل بتكثير الدواعي إلى الخير وتقويتها، وذلك مقدورٌ لله تعالى بالإجماع كالمعصوم من الملائكة والأنبياء مع بقاء اسم الاختيار، واسم الطاعة والمعصية، وإن بطل المعنى المناسب لاسم التكليف في اشتقاقه. وقد صحح هذا الإمام يحيى بن حمزة في بعض مصنفاته، وابن عبد السلام في " قواعده "، وجوَّد ذلك فثبت أن اسم الطاعة والعبادة، واسم الحرام والمعصية لا يلازم اسم التكليف ومعناه ملازمة الصفات الذاتيات، ولا الشروط الواجبات، وإنما تكون المشقة في التكليف من العوارض الزائلات.
فإن قيل: إنا مُكَلَّفون فيما لا مشقة فيه بالأسباب الشاقة أجبنا بوجوه:
الأول: أن هذا السؤال لا يرد إلَاّ على السؤال السابع.
الثاني: أن فيه ما لا مشقة في سببه، مثل ترك عبادة الأصنام، وأن بطلان ربوبيتها معلومٌ بالضرورة، وكذا قبح عبادتها الصارف عنها، ولا داعي لنا إلى عبادتها ألبتة.
وكذلك نكاح الأمهات، النُّفرة فيها طبيعية لا كُلفة في تركه، ولا تتوقف النفرة عنه على معرفة صحة الشرائع.
الثالث: أنا نعلم ضرورة أن التكليف تعلق بترك ما لا مشقة فيه بنفسه من غير نظرٍ إلى مقدمات الترك، على أن تلك المقدمات الشافة إنما وجب لأجله، فلو كان شرط التكليف المشقة (1)، ولا مشقة في المقصود، لزم أن لا يصح التكليف به، فلا يجب التوصل إليه بما فيه مشقة على أن (2) تسمية ما لا يتم الواجب إلَاّ به واجباً متنازعٌ فيه، والصحيح أنه ليس بواجب، ولكن لا بد منه، ويظهر ذلك بعدم وجوب نيته، ولا تجب نية (3) صوم جزء من الليل، ولا غسل جزء من الرأس، ولا تتعلق به العقوبة.
الوجه الثالث من أصل الجواب: أن قولهم: إن اختيار (4) الحسن مع المشقة يوجب الثناء والثواب، ومع غير المشقة يوجب الثناء دون الثواب، يقتضي أن اختيار العبد الذي تصحبه المشقة أرفع مرتبة في استحقاق الحمد والثناء (5) من اختيار الرب عز وجل، لأن نزول اختيار الرب عن استحقاق درجة الثواب على هذا الوجه إنما كان بسبب قصوره عن مرتبة داعي العبد الذي قوي على دفع الصوارف، والصبر على المكالف، ولم يشعر المعتزلي أن هذه صفة نقصٍ للعبد تدل على عجزه لا سوى، إذ لا أثر لصارف المشقة مع رجحان داعي الرغبة، حيث إن الفعل يقع عند رجحانه سواءٌ شق أو لم يشق، ولا يقع مع عدم رجحانه شق أو لم يشق، فإنما المشقة من لوازم ضعف العبد، وقلة قدرته لا من لوازم زيادة الثناء والثواب.
(1) في (ش): فلو كان الشرط التكليف به المشقة.
(2)
في (ش): لأن.
(3)
ساقطة من (ش).
(4)
تحرفت في (ش) إلى: حساب.
(5)
في (ش): والثواب.
ولذلك ورد في الحديث " أن المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف "(1)، وما ورد في الشريعة المطهرة في بعض الصور من زيادة الأجر (2) عند المشقة فسببه رحمة الرب الكريم سبحانه للعبد، وليست المشقة تقتضي بنفسها وجوب ذلك بدليل ما قدمنا من تواتر المضاعفة من غير مشقة.
وكذلك ما ورد من تضعيف العقاب عند ضعف الداعي إلى المعصية، وعدم المشقة في تركها، سببه أنه ضعَّف داعي الرحمة المقتضي لتخفيف كثير من العقاب المستحق فبقي موجب العقاب بلا معارض، لا أن عدم المشقة أو ضعفها انتهض سبباً لتضعيف العقوبة، ويقوِّيه مثل قوله تعالى:{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} الآية [النور: 61]، فإنه لم ينف الحرج عنهم، لأنهم أفضل من الأصحَّاء (3)، بل لأنهم أضعف، وقد كان أفاضل الصحابة أصح وأقوى وأقل مشقة واتقى.
ويحتمل جواباً آخر في الوجهين، وهو أن يكون الأجر على المشقة من قبيل الأجر على الآلام، وهي ضرورية لا اختيار للعبد فيها، ويوضحه أن المشقة تزيد وتنقص بغير اختيار، بل توجد وتُعْدَمُ بغير اختيار، فيكون ذلك الأجر زيادة في بعض الصور ومُقَلِّلاً للعقاب في بعضها، وذلك من العوارض التي لا يجب استمرارها، فقد تكون المصلحة والحكمة في تضعيف ثواب ما لم تصحبه تلك
(1) أخرجه أحمد 2/ 366 و370، ومسلم (2664)، والنسائي في " عمل اليوم والليلة "(623)، و (624)، وابن ماجه (79) و (4168)، وابن أبي عاصم في " السنة "(356)، والطحاوي في " مشكل الآثار "(259) و (260) و (261) و (262)، وابن حبان (5721) و (5722)، وأبو نعيم في " الحلية " 10/ 296، والخطيب في " تاريخه " 12/ 223، والبيهقي في " السنن " 10/ 89، وفي " الأسماء والصفات " 1/ 263، والمزي في " تهذيب الكمال " 9/ 135 من حديث أبي هريرة.
(2)
في (ش): من زيادات الأحسن.
(3)
في (أ) و (ش): الأصحاب، وهو خطأ.
المشقة أعظم من ثواب ما صحبته.
فهذا الجواب قوي جداً وبتحقيقه يتضح ما تقدم أن ما يلحق العبد من المشقة عند أفعاله الاختيارية من جملة صفات النقص التي تنزه عنها الرب عز وجل، وأن أكمل الاختيار، وأكمل القدرة، وأتَمَّ التمكن ما لم تعلق به المشقة والعجز والكسل والتردد في العزم.
الوجه الرابع: أنه لو كان مجرد الاختيار من غير مشقة لا يكفي في استحقاق الثواب، لما كان اختياره تعالى للإحسان إلى العباد يكفي في استحقاق الشكر عقلاً على أصول المعتزلة، لأن الشكر جزاء النعمة، والجزاء في معنى الثواب، لكنه يختص في العُرف بما كان من المرتبة العليا إلى السفلى، فصار الشكر والثواب كالأمر والدعاء صورتهما واحدة، واسمهما ومعناهما يختلف باختلاف عُلُوِّ المرتبة وانحطاطها.
فصورة " افعل " منا إلى الله تعالى دعاء، ومن الله إلينا أمرٌ، ولا ينعكس، والجزاء منا لله تعالى شكرٌ، ولا يكون ثواباً، والجزاء من الله تعالى لنا ثواب، وقد يسمى شكراً إما مجازاً أو عرفاً، ولا يجوز تسمية شكر الله تعالى ثواباً لا حقيقة ولا مجازاً.
فإذا كان الله سبحانه قد أوجب شكره على ما لا يُشَقُّ عليه، والشكر له عز وجل عندهم كالجزاء على إحسانه مع أنه سبحانه هو الغني الحميد، فكيف لا يكون كذلك في حكمته في ثواب العبد؟.
الوجه الخامس: أنه إنما يلزم ما ذكروه بناء على أن الثواب واجب على الله تعالى في العقل، وإن لم يَعِدْ به، ولم يجمعوا على هذا، فإن البغدادية منهم لا يوجبون الثواب، وكذلك طوائف أهل السنة، ولكن الله سبحانه وتعالى يفعله قطعاً لوعده الصادق بذلك، وهم مطالبون بدليل قاطع على إيجاب الثواب عقلاً، وأدلتهم هنا ضعيفة، والطعن ممكن فيها، وبذلك يبطل قولهم: إنه ليس
في مقدور الله تعالى ولا في معلومه لُطْفٌ للعصاة، وإيجاب الثواب ينبني على قولهم: إن الواجبات كلها وَجَبَتْ لوجوهٍ ثابتة في نفس الأمر، لا بإيجاب الله تعالى، والله عندهم غير مختارٍ في الأحكام الشرعية.
وقد اكتفى بعض أهل السنة في رد مذهبهم باعتقاده أنه باطلٌ بالضرورة الشرعية وظنه (1) أنهم لا يتجاسرون على دفع (2) ذلك، ولم يشعر أنه صريح مذهبهم (2)، وهو يكفي السني (3) في معرفة بطلان قولهم، فإنه يستلزم أنه لا فرق بين الرب عز وجل وبين المفتي بالصواب في الأمور المعلومات، ويلزمهم مثل (4) ذلك في المظنونات، لأنهم يقطعون بتصويب كُلِّ مجتهد فيها، فيكون الصواب معلوماً للمفتي.
ومن تعاليلهم الركيكة في ذلك أن الصلاة وسائر الواجبات الشرعية إنما وجبت، لأنها لطفٌ في الواجبات العقلية على معنى أن الله تعالى علم أن من فعل واجباً شرعياً فَعَلَ واجباً عقلياً، والمحرمات الشرعية مفاسد في العقلية على معنى أن من فعل محرماً شرعياً فعل محرماً عقلياً.
وقد ألزموا أن من سَكِرَ من الخمر، قبح موته حتى يصحو، فمن واصل السكر كان في أمانٍ من الموت حتى يصحو، وحتى يرتكب قبيحاً عقلياً (5) بعد صحوه. وكذلك من فعل واجباً شرعياً، كان في أمان من الموت حتى يفعل واجباً عقلياً.
(1) في (ش): " وظنهم " وهو خطأ.
(2)
ساقطة من (أ).
(3)
في (ش): السنة.
(4)
من قوله: " أنه لا فرق " إلى هنا ساقط من (ش).
(5)
ساقطة من (أ).
وقد ألزموا مع توسعة الوقت في الواجب (1) أن تكون المصلحة المفعولة بعده واقعةً بعد خروج وقته الموسَّع، إذ لو جاز وقوعها قبله قبُحت التوسعة، ومنع (2) ذلك، فيلزم الأمان من الموت في أول وقت الصلاة إلى آخره في حقِّ من صلَّى أو عزم على الصلاة، والمعلوم بالحسِّ خلاف ذلك كله.
وأيضاً فقد أمر الله تعالى بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم بنصِّ كتاب الله، ولا موجب لتأويله بقثل بعضهم بعضاً، وعلى تسليمه، فصبر المقتول للقتل واجبٌ عليه شرعي، كصبر المقتول في حدِّ الزنى وفي القصاص.
ولا بُدَّ على أصولهم من كونه لطفاً في واجب عقلي يقوم به المقتول، ومتى يكون ذلك، ولا يصح التكليف عندهم في البرزخ ألبتة، ولا يكفي المقتول كون ذلك لطفاً للقاتل كما اعتذروا بذلك، لأنهما واجبان شرعيان على مكلفين مختلفين، فوجب أن يكون كل منهما لطفاً فيما يخصُّهُ.
بل الصبر في الجهاد الواجب المفضي إلى الشهادة واجبٌ شرعي، وقد يتصل به القتل فوراً قبل أداء واجب عقلي، مثل المقتول فوراً بسهم، أو المضروب عنقه (3) بغتةً أو نحو ذلك.
وعلى تسليم ما ذكروه فلا دلالة في العقل على وجوب الجزاء على السيد للعبد إذا فعل ما يجب عليه، خصوصاً على قول المعتزلة هذا المقدم، وهو أن الواجب يجب لنفسه، وأن الله لم يوجب شيئاً من الواجبات، ويتأوَّلون إيجابه تعالى بإخباره بالوجوب، والمختار أنه لا يجب البحث عن وجه وجوب الشرعيات لو لم يرد بيانه، لكنه قد ورد بيانه في أمرين في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
(1)" في الواجب " ساقطة من (أ).
(2)
في (ش): مع.
(3)
في (ش): بعنقه.
الأول: كونها شكراً لله عز وجل، وذكر في " شمس الشريعة " عن أبي مُضَرَ أنه مذهب أهل البيت عليهم السلام، وهو مذهب يحيى بن الحسين الهادي سمعته من العلامة علي بن عبد الله بن أبي الخير، ثم وجدته منصوصاً في كتاب " البالغ المدرك " وشرحه السيد أبو طالب ولم يتأوله، ونصَّ عليه عبد الله بن زيد في كتابه " المحجة البيضاء "، وهو قول البغدادية من المعتزلة (1)، وهو الذي تقتضيه قواعد أهل السنة أجمعين، قال الله سبحانه:{اعمَلُوا آلَ داودَ شُكْراً} [سبأ: 13]. قال الزمخشري (2) على اعتزاله: اعملوا لله واعبدوه على وجه الشكر لنعمائه، وفيه دليل على أن العبادة يجب أن تؤدَّى على طريق الشكر.
وقال في تفسير {وقليلٌ من عباديَ الشَكورُ} [سبأ: 13]: إنه المتوفر على أداء الشكر، الباذل وسعه فيه، قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعتقاداً واعترافاً وكَدْحاً. انتهى.
وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم حتى تورَّمت قدماه، فقيل له: أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخَّر؟ فقال: " أفلا أكون عبداً شكوراً "(3).
(1)" من المعتزلة " ساقطة من (ش).
(2)
3/ 283.
(3)
أخرجه عبد الرزاق (4746)، والحميدي (759)، وأحمد 4/ 251 و255، والبخاري (1130) و (4836) و (6471)، ومسلم (2819)، والترمذي (412)، وفي " الشمائل "(258)، والنسائي 3/ 219، وابن ماجه (1419)، وابن خزيمة (1182) و (1183)، وابن حبان (311)، والبيهقي 3/ 16 و7/ 39، والبغوي (931) من حديث المغيرة بن شعبة.
وأخرجه أحمد 6/ 115، والبخاري (4837)، ومسلم (2820)، والبيهقي 7/ 39، وأبو نعيم في " الحلية " 8/ 289 من حديث عائشة.
وأخرجه ابن خزيمة (1184)، وأبو نعيم في " الحلية " 7/ 205 من حديث أبي هريرة.
ولا شك أن امتثال أوامر المحسن لأجل إحسانه يُسمى شكراً، إما في الحقيقة الوضعية، أو في الحقيقة العرفية، أو فيهما معاً، وأما الكلام في كل فرد من أفراد التكليف وما الوجه في تسميته شكراً، فلا داعي إلى التطويل بذكره هنا، لأن هذا عارض، ولا حاجة إلى تكلُّفه هنا مع الاعتراف بحكمة الله تعالى، وأنه يعلم ما لا نعلم، ومن أدقِّه الكلام في أفعال الحج (1)، وقد تكلم فيه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح " العمدة "، وقد أفردت الكلام على هذه المسألة، وفيها مباحث سهلة.
الثاني: إنها من أسباب معرفة الله والإيمان به، لقوله تعالى:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المائدة: 97]، وقوله تعالى بعد ذكر حكم الظهار في المجادلة:{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [المجادلة: 4].
ويُؤيِّدُ هذا من العمومات مثل قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] ونحوها {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89] ففي ظاهرها (2) ما يدل على أن العلم بالحق هو المقصود الأكبر بجميع ما اشتمل عليه الكتاب من الأوامر والنواهي وغيرهما كما دلَّ على ذلك ما تقدم بالنصوصية الخاصة.
ويؤيد هذا أن الله تعالى قد علَّل وجود العالم في الابتداء والبعث في الانتهاء بكونه وسيلةً إلى العلم به سبحانه، أما في الابتداء فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
(1) في (ش): أنواع.
(2)
في (ش): ظاهرها.
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] وقال تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} [النحل: 38 - 39]، وقال تعالى بعد ذكر الشيطان:{وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54] فدل على أن المقصود الأعظم بجميع المخلوقات، وشرع الشرائع هو هذان الأمران.
وقد نبَّه الله تعالى على ذلك بقوله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] وهذه معارفٌ شرعية، وليس للعقول فيها حكم قاطع كما ذكرته المعتزلة، وربَّما تعلقت بهذا مباحث ليس هذا موضع شرحها، فثبت أن الثواب غير ثابت عقلاً للمطيعين، وبطل مع هذا قول المعتزلة: إن المشقة إنما كانت شرطاً في حسن التكليف ليجب الثواب عقلاً، وثبت أن الله تعالى لو هدى العصاة بإزالة المشقة في فعل الخير وترك الشر كان ذلك على الله يسيراً، وكان حسناً جميلاً، ولم يكن مُحالاً ولا قبيحاً.
الوجه السادس: أن السمع قد دل على قدرة الله تعالى على هداية الخلق أجمعين دلالة ضرورية أو قطعية يتعذر تأويلها (1) لوجهين:
أحدهما: ما تقدم من المنع من تأويل آيات المشيئة وأمثالها مما شاع مع الخاصة والعامة في عصر النبوة والصحابة وانقضاء ذلك العصر الذي هو عصر الهدى المجمع عليه والبيان لِمُهمات الدين، ولم يذكر لذلك الظاهر تأويل ألبتة، ولا حذر من اعتقاد ظاهره، فإن العادة تقضي بذلك وإن لم يكن واجباً كما مرَّ تقريره.
وثانيهما: أنه يُعْلَمُ من سياقها أن المراد بها التمدُّحُ بالقدرة على الهداية
(1) ساقطة من (أ).
التي يستحق بها الثناء والثواب، ويلزم من لم يقبلها حصول الذم والعقاب، وهي الهداية التي تكرَّر وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحرص عليها، والعجز عنها، والرغبة إلى الله تعالى فيها، والمبالغة في طلبها بعبارات متنوعة وصيغ مختلفة كقوله عز وجل:{إنَّك لا تهدي من أحببتَ ولكنَّ الله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} [القصص: 56]، وقوله تعالى:{لعلَّكَ باخِعٌ نفسَك أن لا يكونُوا مؤمنين} [الشعراء: 3]، وقوله:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر: 8]، وقوله:{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} [يونس: 99 - 100].
وأمثال هذه السياقات مما يدلُّ على أن الله عز وجل لو شاء لحصل منهم المطلوب، ولكنه لم يشأ ذلك لبالغ حكمته التي عجز عن دركها أذكياء النُّظار، وعَشِيَتْ عن أنوارها المضيئة منهم الأبصار، وفيها قال الله عز وجل:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، وفي جواب:{أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفْسِدُ فيها} ، قال:{إنِّي أعلَمُ ما لا تَعْلَمون} [البقرة: 30].
ومن ذلك ما حكاه الله عن المشركين من قولهم: {لو شاءَ الله ما أشْرَكْنا} [الأنعام: 148] مع قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} (1)[الأنعام: 107]، وقوله:{قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149] المعلوم (2) أن هذه الهداية هي التي ينتفعون بها لا الإكراه الذي يمنع نسبة الفعل إلى المكره، ولا يُغني عنه شيئاً.
وكذلك قوله عز وجل: {ولو شاء الله ما أشركوا} [الأنعام: 107] أي:
(1) من قوله: " مع قوله " إلى هنا ساقط من (ش).
(2)
في (ش): فمعلوم.
لكانوا مؤمنين ينفعُهم إيمانُهم، ويُنجيهم من عذاب الله، كقولهم:{لو شاء الله ما أشركنا} [الأنعام: 148] أي: لصرفنا عن الشرك بمشيئته، فهدانا بالإيمان الذي به سَعِدَ (1) المؤمنون.
وإذا تتبعت آيات المشيئة، اضطرَّك مجموعها إلى القطع بما ذكرناه، وأفادك رِكَّةَ تأويلات المعتزلة، بل بطلانها، فمن ذلك قوله تعالى:{ولو شِئْنا لرَفَعْناه بها} بعد قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف: 175]، فإن الآية الأولى دلَّت على أنه لما انسلخ من آيات الله باطراحها، والعمل بخلافها وقع في مَهْواةٍ من الهلكة، استولى عليه فيها الشيطان، ثم جاءت الآية الثانية مبينة أن الله عز وجل لو شاء، لعصمه عصمة أوليائه الصالحين، فقال عز وجل:{ولو شئنا} أي: أن نرفعه ونُنجيَه من الهلكة، ونَعْصِمَهُ من الوقوع في المعصية، لرفعناه بها، أي: بالآيات التي أوتيها، وهذه المشيئة التي دلَّت " لو " على انتفائها ليست هي مشيئة الإكراه، لأن تلك لا ترفعه ولا تنفعه، وعلَّلَ سبحانه عدم المشيئة بقوله:{ولكنَّه أخْلَدَ إلى الأرضِ واتَّبَعَ هَواهُ} [الأعراف: 176] أي: بسبب ركونه إلى الأرض، ونسيانه الآخرة، واتباع هواه، استحقَّ انتفاء مشيئة نجاته وعصمته، فجعل الامتناع من رفعه عقوبته على اتباع هواه وإخلاده، لا عدم انتفاعه بإكراهه، ولا عدم القدرة على إرشاده، وفيه تنبيهٌ على أنه عُوقِبَ على اتباع هواه بترك هدايته النافعة، وأما ترك إكراهه، فليس بعقوبةٍ كما أن إكراهه ليس بنعمةٍ ولا مثوبةٍ.
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111] فلو كانت هذه المشيئة المذكورة (2) هي مشيئة الإكراه، لكان المعنى على زعمهم أنه لا
(1) في (ش): يسعد.
(2)
في (ش) زيادة: في الآية.
يصح منهم الإيمان اختياراً، وإنما يصحُّ منهم مكرهين، وهذا غيرُ مُرادٍ بالاتفاق بينهم وبين أهل السنة.
والمعلوم أن الآية مسوقةٌ لنفي تأثير كل من يعتقد أنه يُؤَثِّر في الإيمان من دون مشيئة الله، وسواءٌ ذُكِرَ (1) ذلك المؤثِّر في هذه الآية أو لم يذكر، فليس لقائلٍ أن يقول: إنهم لو سمعوا النفخ في الصُّور، ورأَوُا السماوات تمور، وشاهدوا بعثرة القبور، آمنوا، وإن شاء الله أن لا يؤمنوا، وذلك لأن هذه الأمور المسكوت عنها في الآية هي في حكم الأمور المذكورة في الآية. وإنما نظير هذه الآية في استواء المنطوق والمفهوم {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] في إفادة تحريم جميع أنواع الأذى، وإن لم يكن تأفيفاً ولا نهراً.
وقد ألطف الزمخشري (2) العبارة، وأغرب (3) الحيلة في تأويلها، فحاول أن يجعل هذه الآيات في (4) الآيات التي اقترحها المشركون، فتأوَّل قوله فيها:{وحَشَرْنا عليهم كُلَّ شَيءٍ قُبُلاً} بقولهم: {أوْ تَأْتيَ بالله والملائكةِ قَبيلاً} [الإسراء: 92].
وكيف يصح له هذا وتنزيل الملائكة هو الذي صدر الله عز وجل به الآية، وخصَّصهم بذكر الإنزال، لكونهم في السماء، ثم عطف عليهم غيرهم بلفظ الحشر الذي هو بهم أليقُ من الإنزال، ثم جاء فيما عطفه عليهم بأدلِّ (5) الأشياء على المغايرة، وهو كل شيء الذي لا يصلح (6) أسماء للملائكة على جهة الحقيقة مطلقاً، ولا على جهة المجاز في هذا الموضع، والمجاز يحتاج إلى مساعدة القرينة، ولا نصَّ مع عدمها، فكيف مع دِلالة (7) القرينة على بُطلانه؟
(1) في (ش): ذكروا، وليس بشيء.
(2)
2/ 45.
(3)
في (ش): فأغرب.
(4)
في (ش): هي.
(5)
تحرفت في (ش) إلى: بأول.
(6)
في (ش): يصح.
(7)
من قوله: " الموضع " إلى هنا ساقط من (ش).
وبالجملة: فلو سُلِّمَ للزمخشري ما حاوله من تنزيل الآية على ما اقترحوه من الآيات، لم يسلم لهم أن ما اقترحوه من الآيات غير مسقطٍ للاختيار في العادة لولا مشيئة الله تعالى، ولا له على ذلك دليلٌ، ولا يمنع من (1) ذلك مع بقاء مفهوم الآية في تعظيم تأثير إرادة الله تعالى، فإنها أعظم أثراً من قيام الساعة، فإن قيام الساعة لو أراد الله ما أثَّرَ في إيمان أحد.
بل قد ورد النصُّ الذي لا يمكن تأويله بذلك حيث قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28] وحيث قالوا لأعضائهم حين أنطقها الله بالشهادة عليهم فيما جحدوا من الحق يومئذٍ: {لِمَ شَهِدْتُم علينا} [فصلت: 21] وتأويل هذه النصوص ممن تأوَّلها من أعظم الجنايات على الكتاب العزيز.
وقد صح الامتحان بنوع من التكليف يوم القيامة كما يأتي في مسألة الأطفال، ووقعت المخالفة من بعض المكلفين (2) يومئذ، وأجمع أهل السنة على صحة ذلك كما يأتي مقرَّراً إن شاء الله تعالى.
وليت شعري ما المانع أن يقترح الكفار ما يسقط معه الاختيار في العادة، بل لم يزل دأبُهم اقتراح مثل ذلك، وقد نص الله سبحانه على ذلك في قوله تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا} [الفرقان: 21 - 22].
فهذه آية واحدة مما ذكر الله سبحانه من تلك الآيات صارت ملجئة لهم إلى الإيمان بحيث لا ينفعهم عندها الإيمان، ولكنها لا تلجئهم إليه إلَاّ بإرادة الله سبحانه.
(1) في (ش): مع.
(2)
تحرف في (ش) إلى: المتكلفين.
وأوضح منها قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا} [الأنعام: 158] أي: لم تكن كسبته من قبل كقوله:
لَلْبْسُ عَباءَةٍ وتَقَرَّ عَيْني (1)
أي: وقرارها، وهذا ليس من مقصودنا، ولكنه قيدتُه هنا خوف ضياعه.
وبالجملة إما أن يُسَلِّمَ الزمخشري أن الآيات لا تؤثِّر في الاضطرار إلَاّ مع إرادة الله عز وجل للاضطرار أو لا، إن سلَّم ذلك، لزمه مذهب أهل السنة: أن التأثير لإرادة الله تعالى، فلو شاء ما آمن أحد ولو يوم القيامة، ولو شاء لآمن كل أحد اختياراً ولو بأدنى الآيات أو بغير آية، وإن لم يسلم ذلك، قام عليه الدليل من العقل والسمع.
(1) صدر بيت، عجزه: أحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشفوف.
وهو لميسون بنت بحدل زوج معاوية بن أبي سفيان. قال اللخمي: هي أم ابنه يزيد، وكانت بدوية فضاقت لما تسرَّى عليها، فعذلها على ذلك وقال لها: أنتِ في مُلكٍ عظيم وما تدرين قدره، وكنت قبل اليوم في العباءة، فقالت هذه الأبيات، فلما سمعها قال لها: ما رضيتِ يا ابنة بحْدل حتى جعلتِني علجاً عنيفاً، فالحقي بأهلك؟ فطلَّقها وألحقها بأهلها، وقال لها: كنتِ فبنتِ، فقالت: لا والله ما سُرِرنا إذ كُنَّا، ولا أسفنا إذْ بِنا، ويقال إنها كانت حاملاً بيزيد، فوضعته في البرية، فمن ثم كان فصيحاً. والبيت في " الكتاب " لسيبويه 1/ 426، و" المقتضب " 2/ 27، و" الجُمل " للزجاجي ص 199، و" المحتسب " 1/ 326، و" سر صناعة الإعراب " 1/ 275، و" درة الغواص " ص 24، و" أمالي ابن الشجري " 1/ 251، و" حماسة ابن الشجري " ص 166، و" الجنى الداني " ص 157، و" شرح الأشموني " 3/ 313، " ابن عقيل " 2/ 280، و" أوضح المسالك " 3/ 181، و" شذور الذهب " ص 314، و" التصريح " 2/ 244، و" شرح ابن يعيش " 7/ 25، و" شرح شواهد شروح الألفية " 4/ 397، و" همع الهوامع " 2/ 17، و" الأشباه والنظائر " 4/ 277، و" مغني اللبيب " 1/ 267، و" شرح المغني " للبغدادي 5/ 64، و" خزانة الأدب " 8/ 503.
أما العقل، فلأن وقوع الاضطرار إنما هو فعل الله تعالى في العبد، ولذلك كان اضطراراً، ولو كان فعل العبد، كان اختيارياً، فإذا كان فعل الله، توقف على مشيئته.
بيانه: أنه راجع إلى قوة الرعب، وهو من مقدورات الله وحده، قال الله تعالى:{وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الأحزاب: 26]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" نُصِرْتُ بالرُّعب "(1).
يُوَضِّحه: أن قوة القلب وشجاعته ورقته وجبنه من فعل الله تعالى إجماعاً، وكل ذلك ما لا يقف على حد، فلو شاء الله، لزاد في قوة بعض القلوب حتى لا تخضع لآية، ولو شاء لأضعفه حتى ينفلق لأدنى خيالٍ لا حقيقة له.
ومن الدليل على أن مذهب أهل السنة هو الفطرةُ التي فطر الناس عليها، أن (2) المخالفين يرجعون عند تحقق الحقائق إليها، وقد ختم الزمخشري كتابه " الكشاف "(3) بدعاء طويل جعل خلاصته أن يهب الله سبحانه له خاتمة الخير، بهذا اللفظ، فلو أنه حافظ على مذهبه في وجوب اللطف على الله، لكان ذلك التضرُّع الطويل لَعِباً وعبثاً لا فائدة فيه، لأن الله تعالى على زعمهم إن كان في علمه وقدرته لطفٌ لأحدٍ من جميع خلقه وجب عليه أن يفعله وجوباً يقبح منه تركه، ولا يُسَمَّى واهباً من قضى واجباً، وإن لم يكن ذلك في علم الله، فليس من مقدوراته حقٌّ يَهَبُه.
ولهذه النكتة احتج الإمام المؤيَّد بالله يحيى بن حمزة عليه السلام على قدرة الله تعالى على هداية جميع المكلفين بإجماع المسلمين على سؤال الهداية واللطف، وهم لا يسألون الله تعالى ما لا يقدر عليه، وهذا واضح ولله الحمد والمنة.
(1) في الأصول: " لأن "، والجادة ما أثبت.
(2)
4/ 303.
(3)
تقدم تخريجه في 1/ 174.
وأما الدليل على ذلك سمعاً، فقوله تعالى:{إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] مع قوله: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14 - 15].
فانظر كيف نصَّ سبحانه على خضوعهم لآية واحدة، وذلك لا يكون إلا مع مشيئته سبحانه أن يخضعوا، ونص على عدم خضوعهم بفتح باب من السماء وعروجهم فيه، وهي من أعظم الآيات لما لم يُرِدِ الله خضوعهم لذلك، ولو أراد الله سبحانه أن يخضعوا لذلك أو لدونه، لطارت أفئدتهم، ولانت شدتهم لأقل من ذلك، ولكن حكمة الله جارية بوقوع الأشياء بأسبابها مع قدرة الله تعالى على وقوعها من غير أسبابها (1)، ولذلك قال في إنزال الملائكة يوم بدر:{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران: 126].
وما أعظم اغترار الجُهَّال بالأسباب، ونسبة التأثير إليها دون ربِّ الأرباب، فهي على الحقيقة للغافلين أعظم حجاب، ومن أبياتٍ كنت قلتها في ذلك:
حَجَبْتَ مَنْ شئت بالأسباب عنك فما
…
يراكَ إلَاّ بصيرُ القلب ذو حَالِ
وأوضح من ذلك كله قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] فسبحان من هو بكل شيء بصيرٌ، وعلى كل شيءٍ قدير، وما كفرت الفلاسفة إلا لظنهم أن الأسباب مؤثرة لما رأوا من ملازمتها المسببات، كقولهم: إن إحياء الموتى من المحالات، وأمثال ذلك.
(1) من قوله: مع قدرة الله إلى هنا لم يرد في (أ) و (ف).
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13]. والدليلُ على أن الهداية في هذه الآية مما لا يصح تأويله بالإكراه أنها هداية مانعة من دخولهم النار، بدليل قوله:{وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي} فلو كانت هداية إكراه، لصحَّ أن يهديهم بها، ثم ملأ بهم جهنم، ولما كان لهذا (1) الاستدراك (2) معنى، وسياق الكلام من أول الآية يؤيد هذا ويدل عليه.
وذلك أن الكفار حين تحققوا صحة المعاد قالوا: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12] وهذا الكلام إنما يليق لو كان الله -تعالى عن ذلك- لم يقدر على هدايتهم فيما تقدم من حياتهم الأولى، ولم يدعها عمداً لحكمة راجحة استأثر بعلمها، فلذلك رد الله عليهم بما يدل على سَبْقِ قدرته على ذلك، وإنه لو أراد ذلك لم يعجز عنه في حياتهم الأولى حتى يستدركه بعد البعث، والله سبحانه أعلم.
ويوضحه قوله: {ولو رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28] ومن هنا قالت المعتزلة: إن الله بناهم على بنيةٍ لا تقبل اللطف، وقد بيَّنَّا أول مسألة الإرادة أن تغيير تلك البنية مقدور لله عز وجل عقلاً وسمعاً، وكفى دليلاً على ذلك قوله تعالى:{قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} الآية [الإسراء: 50 - 51]، وقد تقدم الكلام عليها. بل هو سبحانه قادر على هدايتهم من غير تغيير بنيتهم، وكفى في بيان ذلك قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111] وقد تقدم الكلام عليها قريباً.
فإن قيل: إنما أتى (3) الاستدراك مع الإكراه للتنبيه على أن الإكراه مانعٌ أن
(1) في (أ): هذا، والمثبت من (ش) وهامش (أ).
(2)
في (أ): الاستدلال.
(3)
في (ش) زيادة: في.
يملأ بهم جهنم، لأنهم لا يتمكنون معه من الكفر الموقع في ذلك.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن الإكراه وإن منعهم فعل القبيح، وما يترتب عليه من العذاب، فإنه لا يمنعهم استحقاق العذاب على ترك الواجب الذي منه التوحيد وشكر المنعم، لأن الإكراه على فعل الواجب لا يسقط وجوبه ممن لم يكن فاعلاً له لولا أُكْرِهَ عليه.
وإنما قلنا هذا، لأن الآيات نزلت في حق المكلفين الذين ثبت وجوب الواجبات عليهم، وأما إكراه من ليس بمكلَّفٍ، فلا يُسمى إكراهاً، وإنما يقال: إنهم لم يكلَّفُوا ألبتة.
ثانيهما: أن هذا إنما يتمشى لو سلم على مذهب أهل السنة، لا على طريقة المعتزلة، وذلك أنهم يقولون كلهم بوجوب الأصلح في الدين، فهذا التأويل يُبْطِلُ قولَهم، فإنَّ الأصلح في هذه الصورة أن يُكْرَهوا على الهدى ليَنْجُوا من العذاب، فإن (1) لم يُثابُوا، وقد دلت الآية على أنه ممكنٌ مقدور عليه، فتخلُّفه يرُدُّ عليهم قاعدتهم ردّاً صريحاً، وإن أحالوا حسن هذه الصورة على حكمةٍ لا نعلمها (2) فهذا بعينه عمدة أهل السنة في تقرير السمع على ما هو عليه.
وأي فرقٍ بين الصورتين مع السلامة من ارتكاب وجوهٍ من التأويل يغلب على الظن أو يتحقق بطلانها.
فإذا ثبت سقوط هذا التأويل، فإنه يقتضي نفي المشيئة في شمول الهدى لجميع الناس هدىً ينتفعون به، ويسمون به مهتدين، ويستحقون به النعيم
(1) في (ش): وإن.
(2)
في (ش): لا يعلمها إلَاّ الله تعالى.
الأبدي، ويقتضي أن هذا الهدى أُوتيه بعضٌ ومُنِعَهُ بعضٌ بمفهوم هذه الآية وبمنطوق كثير من الآيات كقوله:{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} [الأعراف: 30] وأمثال ذلك مما يكثر تعداده كقوله: {مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 39]، ومنه {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] فإنها لو كانت بمعنى الإكراه، لكان المعنى: وما تشاؤون الاستقامة إلَاّ أن يُكْرِهَكُم الله عليها، وهذا نقيض مذهب المعتزلة، بل مذهب الجميع أن الاستقامة لا تصح مع الإكراه.
وإن قالوا: هذه المشيئة المنسوبة إلى الله عز وجل هي مشيئة الطاعة التي تلازم الأمر عندهم، وقد شاءها الله تعالى فيما مضى، فالجواب من وجهين:
الأول: أن تلك عندهم غير مؤثرة في وقوع الاستقامة، وهذه مرتبٌ (1) حصول الاستقامة عليها، فافترقا.
الثاني: أن تلك حاصلة من قبل الأمر المقتضي للتكليف في الاستقامة أو معه، فلا يصح ترتيب حصول الاستقامة عليها، كما لا يصح ترتيبه على الأمر لأنهما عند المعتزلة في اللزوم سواءٌ، ولا يصح عندهم أن يقول الله تعالى: وما تشاؤون إلَاّ أن يأمركم الله، ولا جاء مثل هذا في آيةٍ ولا حديثٍ.
فكذلك لا يصح مثله في إرادة الطلب اللازمة للأمر، لأن التكليف بالاستقامة مشروطٌ بحصول المشيئة المقارنة للأمر عندهم، فأيُّ فائدة في أن يقال:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 28 - 29] وقد شاء أن (2) تستقيموا كلُّكم، فاستقام الأقل منكم، ولم يستقم الأكثر، فلم تُغْنِ مشيئته عن الأكثرين شيئاً، ولا أثَّرت في استقامة الأقلين، وهذا يناقض مقتضى الشرط في حق الكافرين، وهو باطل، أو عدم تأثيره فيه في حق
(1) في (ش): مترتب.
(2)
ساقطة من (أ).
المستقيمين (1)، وهو لغوٌ لا يصدر من الحكيم سبحانه، والمحتملات العقلية في الآية لا يتأتى على كل منها مصححٌ للتأويل في مذهب المعتزلة، لأن قوله عز وجل:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} إما أن يكون مُطلقاً أو مقيداً بالاستقامة. وعلى كلا (2) التقديرين، فإما أن يكون الاستثناء مُتَّصلاً أو منقطعاً.
الوجه الأول: وهو أن يكون مطلقاً غير مقيد بالاستقامة، فهو يقتضي نفي المشيئة إلَاّ لحصول مشيئة الله عز وجل، وهذا بعينه هو قول أهل السنة هذا إن كان الاستثناء متصلاً، وهو الأمر الذي لا شك فيه، وإن قدَّرناه مُنقطعاً، لم يصح لا على مذهب المعتزلة ولا على مذهب أهل السنة، لاقتضائه نفي المشيئة عنهم مطلقاً غير مُخْرَجٍ منه شيءٌ ولا قائلٌ بذلك، ثم يكون الاستثناء على تقدير انقطاعه جارياً مجرى الاستدراك، فيكون المعنى: لكن مشيئة الله هي الثابتة الحاصلة، وهي أشد بعداً من مذهب المعتزلة، ولا يوافق مذاهب أهل السنة، لأنهم لا ينفون المشيئة المضافة إلى العباد، بل يثبتونها.
وإن ادعى مُدَّع أن مفعول المشيئة المذكورة بعد إلَاّ على تقديرها (3) منقطعة هو الإكراهُ لم يصح ما ادَّعاه، إذ لا مُشْعِرَ بهذا المفعول، ولا مُرَجِّحَ له على تقدير الاختيار، ثم هو باطل، لأنه يكون تقديره: ولكن مشيئة الله إكراهكم (4).
وحينئذٍ فإما أن يقدر الثبوت تماماً للكلام أو لا، فإن قُدِّرَ، فهو باطلٌ باتفاق الجميع، لأنه يقتضي أن مشيئة الإكراه واقعة، وإن لم يُقَدَّر، فهو باطلٌ لعدم (5) تمام الكلام بعد " إلا " المنقطعة لا لفظاً ولا تقديراً، فإن الصحيح أن " إلا "
(1) في (أ) المستحقين، والمثبت من (ش) و (ف).
(2)
ساقطة من (أ).
(3)
" على تقديرها " ساقطة من (أ).
(4)
في (ش): إكراههم.
(5)
في (أ): بعدم.
المنقطعة بمعنى " لكن "، ولا بُدَّ لها من خبرٍ ظاهر أو مقدر، فالظاهر كقوله عز وجل:{إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا} [يونس: 98]، والمقدر كقولك: ما في الدار أحد إلَاّ حماراً، أي لكنَّ حماراً في الدار. ذكره نجم الدين (1).
وقول سيبويه (2): إلَاّ المنقطعة بمثابة " لكن " العاطفة، والمذكور بعدها مفرد، لا ينافي ما قلناه من لزوم تقدير الثبوت، لأنه الذي به حسن إيرادُها، لأنها تقتضي المخالفة اقتضاء " لكن " العاطفة.
وأما الوجه الثاني: وهو أن يكون مقيداً بالاستقامة، فإما أن يكون عامَّاً لكل أحد أو خاصاً بالمؤمنين، أو خاصاً بالكافرين، فأما الاحتمال الأول، فهو الأظهر، لأنه خطابٌ للمكلفين عموماً، وهو الذي تمسك به أهل السنة، فالمعنى: وما تشاؤون الاستقامة إلَاّ أن يشاء الله (3) التي تنجيكم من العذاب يقتضي الاختيار من المستقيم.
فدعوى المعتزلي أن التقدير: وما تشاؤون الاستقامة إلَاّ أن يشاء الله أن تستقيموا كرهاً، باطلٌ عند الجميع، لأن المؤمنين قد شاؤوا الاستقامة غير مُكْرَهين.
ومن أجل ذلك جاء الزمخشري بحيلةٍ لطيفةٍ في تنزيل هذه الآية على
(1) هو نجم الدين سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم الطوفي الحنبلي، المتوفى سنة (710) كان فقيهاً شاعراً أديباً فاضلاً قيماً بالنحو واللغة والتاريخ، مشاركاً في الأصول وغيره.
له من التصانيف " شرح مختصر الروضة " وعنه نقل المصنف هذا النص، وهو من منشورات " مؤسسة الرسالة " بتحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي. انظر ترجمته في " ذيل طبقات الحنابلة " لابن رجب 2/ 366 - 370 و" بغية الوعاة " 1/ 599 - 560.
(2)
انظر " حاشية الصبان على الأشموني " 2/ 146.
(3)
قوله: " إلَاّ أن يشاء الله " ليس في (ش).
مذهب المعتزلة، فقسَّم المخاطبين طائفتين، ووصف كُلَّ طائفةٍ بوصفٍ ينافي أختها، ثم قسم الاستثناء بينهم، فجعله (1) في حق قومٍ متصلاً وفي حق آخرين منفصلاً، ثم قيَّد المشيئة بعد " إلا " بقيدين مختلفين في حق الطائفتين، فقال: وما تشاؤون الاستقامة يا من يشاؤها إلَاّ أن يشاء الله أن تستقيموا بلطفه بكم، وما تشاؤون الاستقامة يا من لا يشاؤها إلَاّ أن يشاء الله أن يُكرهَكم عليها (2).
والدليل على فساد ما ذكره من وجوه:
أحدها: أن هذا التقدير الذي قدَّره، والتفريق الذي أبداه لا قرينة تُشْعِرُ به، وما كان كذلك، فهو باطل، ولو صَحَّ مثل ذلك، لكان لكل أحدٍ أن يقدر في مطلقات كتاب الله تعالى ما يطابق هواه مما لم يقم عليه دليلٌ، ولا أشْعَرَتْ به قرينة.
والعجبُ كل العجب من إنكاره تقدير مفعول أمرنا مُتْرَفيها بالطاعة، لعدم القرينة الدالة عليه عنده، وارتكابه أن التقدير فيها: أمرنا مترفيها بالفِسق، ففسقوا على معنى إسباغ النعم عليهم التي تقتضي غفلتهم (3) عن ذكر ربهم، وتماديهم في طُغيانهم، فأطلق على هذا الأمر بالفسق مجازاً، هذا على أنه لم يُجَوِّدِ (4) الاختيار في هذا الموضع، بل اختار خلاف المختار، وركب التعاسيف المؤدية إلى العثار، فإن السيد المرتضى الإمامي الحسيني (5) ذكر في كتابه " الغُرر "(6) أن
(1) في (أ) و (ش): فجعل، والمثبت من (ف).
(2)
" الكشاف 4/ 226.
(3)
في (ش) غفولهم.
(4)
في (ش): لم يجوز، وليس بشيء.
(5)
في (ش) الحسني، وهو خطأ، وهو العلامة الشريف المرتضى نقيب العلوية أبو طالب علي بن حسين بن موسى القرشي العلوي الحسيني الموسوي البغدادي، من ولد موسى الكاظم، المتوفى سنة 430 هـ ترجم له الذهبي في " السير " 17/ 579.
(6)
1/ 1 - 5، واسمه بتمامه " غرر الفوائد ودرر القلائد " طبع في مصر في مجلدين، بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.
التقدير في هذه الآية: أمرنا مترفيها بالطاعة، ففسقوا، وحذف المفعول اتِّكالاً على ما يقتضيه الأمر من الطاعة، وعلى مناقضة الفسوق للأمر، كما تقول: أمرتُه فعصاني، فإنه يعلم أن المراد: أمرته أن يطيعني فعصاني، وكلام المرتضى في هذا الموضع قويٌّ جداً، كما أن كلام الزمخشري فيه ساقطٌ جدّاً، فيقضي العجب من نسيان الزمخشري في آية المشيئة لفساد تقدير لم يقم عليه من الكلام قرينةٌ ولا دلَّ عليه دليل.
وثانيها: أن الآية تقتضي ترتُّبَ مشيئة المكلفين على مشيئة الله تعالى ترتُّبَ المشروط على الشرط، والمسبَّب على السبب ولا يستقيم ذلك على تقدير الزمخشري.
أما في حق من يشاء الاستقامة، فلأن اللطف لا يلزم من تخلفه عنده تخلُّف مشيئة الاستقامة ممن يشاؤوها، ولا يلزم أيضاً من وجوب وجوده وجودها منهم، ومثل هذا لا يصلح أن يرتَّب على حصوله (1) مشيئتهم.
وأما في حق من لا يشاء الاستقامة، فلأنَّ الإكراه نسبة مشيئة الاستقامة إليهم، لأنه يسلُبُهم صفة المدح بها والوصف بالاستقامة التي أمر بها في قوله تعالى:{فَاسْتَقِمْ كما أُمِرْتَ} [هود: 112] والتي مدح الله بها ورتب الجزاء عليها في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] فلا يصح نسبتها إلى المكره لا حقيقة ولا مجازاً.
أما الحقيقة: فظاهر.
وأما المجاز: فلعدم العلاقة الظاهرة ها هنا المقتضية لتشابه المجبور على الاستقامة والمختار لذلك، فإن هذه الأسماء التي في الاستقامة في هذا الموضع، والهدى والرِّفعة في غير هذا الموضع معدومةٌ عند القهر والعدم منقطعة التشبيه، ولو جاز وصف المجبورين بذلك لجاز وصف الممسوخين قردةً وخنازير
(1) في ش: حصول.
بطاعة الله، والاستقامة على امتثال أوامره، لأنهم كانوا قردة حين قال لهم:{كُونُوا قِرَدَةً خاسئينَ} [البقرة: 65] وهذا لا يجوز حقيقة (1) ولا مجازاً، فكيف يصح أن يُحمل عليه كلام الله تعالى الذي هو أبلغ الكلام وأفصحه وأفضله.
وثالثها: أن تقدير " إلا " في هذه الآية دليلاً على الاستثناء وعلى انقطاعه معاً يقتضي إطلاق المشترك على معنييه معاً، أو إطلاق اللفظ على حقيقته ومجازه، وهو باطلٌ، فهذا باطل (2).
بيان ذلك أن المشترك هو اللفظ المتناول لمعنيين فأكثر بوضعين مختلفين، فإطلاقه على معنييه معاً خلاف وضعه، حتى قال أبو هاشم: إنه محالٌ أن يُراد به معنياه معاً، والمسألة مبسوطة في أصول الفقه مشهورة، وإنما أردنا الإشارة إليها.
وأما الاحتمال الثاني، وهو اختصاصه لمن شاء الاستقامة، وهم المؤمنون، فلا يصح أيضاً، لأنهم إما أن يفسروا المشيئة باللطف أو يحملوها على ظاهرها.
وعلى الثاني فإما أن تكون المشيئة هي المقارنة للأمر المقتضي للطاعة، أو تكون مشيئةً خاصة بالمؤمنين، والثاني هو مذهب أهل السنة، -وهو أن يراد بها المقارنة للأمر- باطلٌ لما تقدم من ترتب الاستقامة عليها، وجعلها مؤثرة فيها، والمشيئة المقارنة للأمر غير مُؤثِّرةٍ في حصول الاستقامة.
وأما تفسيرُ المشيئة باللطف، فممنوع بعدم النقل الصحيح من اللغة في ذلك، ولا مُلجىء إلى التأويل كما تقدم. وعلى تقدير صحة المُلجىء للقاطع إلى ذلك، وصحة المطابقة لغةً ولو مجازاً، فذلك ركيكٌ جداً نازلٌ منزلة تحصيل الحاصل، وذلك لوجهين:
الوجه الأول: أن اللطف بالكافر والمسلم معاً واجب عندهم على الله عز
(1) في (ش): لا حقيقة.
(2)
" فهذا باطل " ساقط من (ش).
وجل، وهو لا يُخِلُّ بالواجب، فهو عندهم بمنزلة خلق القدرة، وما لا بد منه في التكليف لا يصلح إيراده على هذه الصفة، كما لا يصلُحُ أن يقال: لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلَاّ أن يخلقكم الله أو يقدركم عليها (1)، فهذا ما لا ثمرة في ذكره، لأنه معلوم، ومعلومٌ أنه معلوم، ولا يصح الإخبار بمثل هذا عند أهل العربية، ولا دخوله في كلام سائر العقلاء، فكيف بكلام أحكم الحاكمين؟! فإنه يُنَزَّلُ منزلة قول القائل: إن المعدوم أو الجماد: لا يستقيم حتى تخلق فيه القدرة.
الوجه الثاني: أن لطف الله تعالى عندهم غير موجبٍ للطاعة، ولا مانع للمعصية، لأنه من قبيل الدواعي، ولا تأثير لها عندكم في الأفعال، وكذلك مشيئته، فدلَّ على أنها عندهم لم تُؤَثِّر أثراً في طاعة المطيع، وإنما هما إزاحة (2) عذر لا غير. فعلى هذا كيف يصح اشتراط حصولهما في حصول أفعال المختارين الذين لا تقف أفعالهم عليها، بل الذي نفع (3) السعداء اختيارهم ومشيئتهم، وليس لله تعالى في عملهم إلَاّ مثل ماله في عمل الكفار من خلق القدرة والتمكين مع الامتحان بشدة الرغبة في القبيح.
فدلَّ على أنه لا بد من تأثير مشيئة الله تعالى، وإلا لكان الاستثناء لغواً، ولا تأثير لها عندهم في أفعال العباد الاختيارية، فتعين على هذا الاحتمال مذهب أهل السنة.
الاحتمال الثالث: وهو اختصاصه بمن (4) لا يشاء الاستقامة -وهم الكافرون- فإما أن يُجرى على ظاهره، فيكون المعنى: وما تشاؤون الاستقامة إلا أن يشاء الله أن تستقيموا، فتستقيمون، فهذا هو اختيار أهل السنة، وهو
(1) ساقطة من (أ).
(2)
في (ش): وإنما إزاحة.
(3)
في (ش): ينفع.
(4)
في (ش): لمن.
الحق، وأما أن تُحمل المشيئة المستثناة على مشيئة القَسْرِ والإلجاء، فهو باطلٌ بما تقدم.
ونزيد هنا وجهاً آخر وهو أنه يقتضي أن الله عز وجل أخبر المخاطبين من الكافرين أنهم لا يؤمنون خبراً مقطوعاً عن الاستثناء، وخبره سبحانه واجب الصدق، فلو آمنوا بعد ذلك، كان إيمانهم تكذيباً لخبره سبحانه، فيستحيل -والحال هذه- منهم الإيمان بصدق الله ورسوله، ويكون في تصديقه تكذيبه -تعالى عن ذلك- وهذا باطل، وما أدَّى إليه، فهو باطلٌ، فيلزم من ذلك بطلان التكليف أو تكليف ما لا يطاق، وليس هذا مثل قوله تعالى لنوح عليه السلام:{أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] لأنه خطابٌ لنوح، لا للمشركين، فكأنه بمنزلة علم السابق المحجوب عن المكلَّفين، والفرق بينهما واضح، فإنه يبقى الابتلاء مع جَهْلِهم بذلك، ولا يبقى مع علمهم به، وقد أشار إليه ابن الحاجب في " مختصر المنتهى ".
وأما قوله في أبي لهبٍ: {سَيَصْلَى نَاراً ذاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3] فجعله ابن الحاجب مثل خبر نوح، كأنه التزم عدم بلوغه أبا لهب، وهو ممكنٌ، وفيه بعد، ويمكن عندي في ذلك أنه خرج مخرج الوعيد لا مخرج الخبر المحض عن الكائن في الاستقبال، وكل ما خرج مخرج الوعيد، فإنه مشروط بعدم التوبة كوعيد جميع العصاة، فيبقى معه الابتلاء صحيحاً، ولو لم يكن ذلك ظاهراً، فلا أقل من الاحتمال، ومعه يزول الإشكال.
على أنه وإن قال قائل من أهل السنة بجواز انقطاع الابتلاء من بعض العُصاة قبل الموت والاضطرار إلى الإيمان، فإنه يَصِحُّ على قواعد أهل السنة من [أن] الله تعالى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] وله الحجة البالغة، والحكمة التامة فيما علمنا وجهلنا.
وأقوى ما ورد في ذلك قوله تعالى للشيطان: {لأمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ ومِمَّنْ
تَبِعَكَ} [ص: 85] فقوله: " منك " نص فيه، والخبر فيه خاصة أظهر من الوعيد بقرينة إجماع المسلمين على أنه لا تُرجى له توبة.
فأمَّا مذهب المعتزلة، فلا يصحُّ شيءٌ من ذلك فيه، ولا يلزم منه تكليف ما لا يُطاق، لأنه إنما يلزم على تقدير أن يؤمن من أخبر الله أنه لا يؤمن، وذلك غيرُ واقعٍ قطعاً، ولا فرق بين التزام ذلك للمُحال، والتزام مخالفه علم الله تعالى لذلك، فكما أن علم الله لم يستلزم انقلاب الممكن لذاته مُحالاً، فكذلك خبره.
وهذه المسألة هي المعروفة بالممتنع لغيره، ولا خلاف بين الأشعرية والمعتزلة في جواز ورود التكليف، وإنما اختلفوا في جواز التكليف بالممتنع لذاته، كما سيأتي بيانه ولا حجة بالممتنع لغيره على الممتنع لذاته (1)، لأنه لو خرج بذلك عن كونه مقدوراً أوجب خروج الرب سبحانه عن صفة القدرة لِسَبْقِ علمه تعالى بما هو خالقٌ وبما ليس هو خالقاً (2)، وقد قال تعالى:{كَانَ عَلَى ربِّك حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم: 71] ولم يخرُج عن القدرة على خلاف ذلك. وهذا عارض، ولنرجع إلى المسألة المقصودة.
فعلى هذا يمتنع في مذهبهم إخبار الله للمكلفين بذلك لعدم الابتلاء، ولأنه عندهم مفسدة، والمفسدة قبيحةٌ، ولأنه يؤدي إلى إفحام الرسل بالإيمان لاستلزامه (3) حينئذٍ تكذيبهم، ويستلزم بطلان الترهيب والترغيب ومحو آثار الحكمة فيهما.
فإن قالوا: إنه عمومٌ يجوزُ تخصيصه فيبقى الابتلاء.
(1) قوله: " على الممتنع لذاته " ساقط من (أ).
(2)
في (أ) و (ش): " خالق "، وهو خطأ.
(3)
تحرفت في (ش) إلى: لا يستلزمه.
فالجواب: أن المعتزلة لا تجيز تخصيص العموم فيما يفيد الاعتقاد فقط بمخصصٍ غير مقارن للعموم، لأن ذلك عندهم يؤدي إلى اعتقاد الجهل في صحة العموم أول ما يسمع، أو التوقف في المراد إن لم يقطع بصحة العموم، ولا يجوز الخطاب عندهم بما لا يفهم المكلف المراد منه على التفصيل ولو قبل وقت الحاجة.
فإن قيل: هذا الذي قدمتم من تأدية ذلك إلى ما لا يجوز دليل عقلي إجمالي يدلُّ على أن العموم غير مراد، لأن إرادته تستلزم تلك المفاسد.
فالجواب: أن الدليل الإجمالي لا يصح عندهم إلَاّ عند أبي الحسين، وذلك لأنه عندهم (1) يؤدي إلى خطاب المكلفين بما لا يفهمون، وهو عندهم قبيحٌ، وليس الفهم الجملي عندهم كافياً، وإلا جاز خطاب العجمي بالعربية، لأنه يفهم أن له معنى في الجملة، والرد عليهم في هذه المذاهب مُبَيَّنٌ في كتب أصولِ الفقه، وإنما الغرض بيان بطلان تأويلهم في هذه الآية على قواعدهم.
فإن قيل: قوله تعالى: {وما تشاؤون إلَاّ أن يشاءَ الله} [التكوير: 29] على ظاهره يناقض قوله في الآية: {لِمَنْ شاءَ مِنْكُم أن يَستَقِيمَ} [التكوير: 28] لأن أولها يدل على التمكين، وآخرها يناقضه.
قلت: أما أنَّ أولها يدل على التمكين، فصحيحٌ، وأما أن آخرها يناقضه، فممنوع، بل هو يدُلُّ على أن عبد السوء إذا لم يُعْطَ من الهدى (2) إلَاّ ما تقوم به الحجة، ويصح معه الفعل والأمر والنهي والثواب والعقاب، لم يفعل إلَاّ ما وافق هواه حتى يتفضَّل الله عليه بالهدى الزائد على القدر الذي يصح معه الفعل، وتقوم به الحجة، كما قال تعالى:{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ} [النور: 21] وفي مثله يقول سبحانه: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِه مَنْ يَشاءُ} [البقرة: 105].
(1) ساقطة من (أ) و (ش).
(2)
" من الهدى " ساقط من (أ).
وسيأتي تعليل التخصيص بالعلم والحكمة، لقوله:{وأضَلَّهُ الله على عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، وقوله في إبراهيم عليه السلام:{وكُنَّا به عالمين} [الأنبياء: 51].
ومنه قوله عز وجل: {ولو شاءَ الله لَجَمَعَهُمْ على الهُدَى} [الأنعام: 35] لا يَصِحُّ تأويله بالإكراه، لأنه يؤدِّي إلى محو اسم الهدى عندهم، لأنه صفة مدح، وهو الاهتداء الذي من فِعْلِ العبد يمدُح عليه (1) ويُثاب، وهو الذي لا يذكر مفعولُهُ في آيات كثيرة، أعني مفعوله الثاني المذكور في قوله تعالى:{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقيم} .
ومثال الآيات التي لا يذكر فيها المفعول الثاني قوله عز وجل: {إنك لا تَهْدِي من أحببتَ ولكنَّ الله يَهْدي من يشاءُ} [القصص: 56]. وكقوله: {يهدي به من يشاءُ من عباده} [الأنعام: 88]، وقوله:{يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ويَهْدِي من يشاءُ} [النمل: 93]، وقوله:{من يَهْدِ الله فهو المُهْتَدي} [الأعراف: 178]، وقوله:{مَنْ يَهْدِ الله فما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} [الزمر: 37]، وقوله:{فلو شاءَ لَهَدَاكُم أجْمعينَ} [الأنعام: 149].
وحاصلُ الأمر: أن الهدى في كتاب الله على ثلاثة أقسامٍ، ثالثُها مجاز.
القسم الأول: هدىً هو فعل الله عز وجل لجميعِ المكلَّفين وهو نوعان:
النوع الأول: وهو نصبُه الدلالة والتعريف لا اختيار للعبد فيه، وهو من قبيل العلوم الضرورية كالعقل، والعلم الضروري يُسميان هدى، بل هما أساس الهدى، ومن ذلك قوله عز وجل:{وأمَّا ثمودُ فَهَدَينَاهُم} [فصلت: 17]، وقوله تعالى:{الذي قدَّر فَهَدَى} [الأعلى: 3]، وإنما حُذِفَ مفعول " قدَّر "، ومفعول " هدى " للتعميم بدليل سائر الآيات، وقوله عز وجل:{وهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ}
(1) في (ش): به.
[البلد: 10] أي: طريق الخير والشر، فسمى مطلق التعريف الذي لا يستحق عليه ثوابٌ هداية. وقوله تعالى:{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]، وقوله:{إنَّ علينا لَلْهُدَى} [الليل: 12]، وقوله:{فألهَمَهَا فُجورها وتقواها} [الشمس: 8] وقوله تعالى: {بلى قد جاءتك آياتي فكذَّبْتَ بها} [الزمر: 59]، جواباً على من قال: لو أن الله هداني، ولذلك ذكر الجواب عليهم بالهدى العام الذي هو بعثة الرسل، وإقامة الحجة، وهو قوله تعالى:{وإذ أخذ ربُّك من بني آدم} إلى قوله: {أنْ تقولوا يومَ القيامة إنَّا كُنَّا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172]، وقوله:{لِئَلَاّ يكون للناسِ على الله حجةٌ بعد الرُّسُل} [النساء: 165].
النوع الثاني من القسم الأول الهدى الخاص، وهو اللطف والتثبيت (1)، والعصمة والتأييد وما في معناها، وهو يختص بمن اقتضت حكمة الله تخصيصه به.
القسم الثاني: هدىً هو فعل العبد، وهو المتوقف على اختياره، وهو العمل بمقتضى الهدى، وهو المعبر عنه بالاهتداء في قوله عز وجل:{مَنْ يَهْدِ الله فهو المهتدي} [الأعراف: 178]، وقوله:{فعسى أولئك أن يكونوا من المُهْتَدينَ} [التوبة: 18]، وقوله:{وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 157]، وقوله:{فتاب عليه وهدى} [طه: 122]، وقوله عز وجل:{والذين اهتدوا زادهم هُدىً} [محمد: 17].
ففعل العبد هو (2) قبول الهدى كما ذكرنا، ثم إني وقفت على نحو هذا مما حكاه النواوي عن العلماء كافة، فقال في كتاب الجمعة من " شرح مسلم " (3) ما لفظه: قال العلماء: لفظ الهُدى له معنيان:
أحدهما: الدلالة والإرشاد، وهو الذي يضاف إلى الرسل والقرآن والعباد،
(1) في (ف): والتسييب.
(2)
ساقطة من (أ).
(3)
6/ 154.
قال الله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراطٍ مستقيمٍ} [الشورى: 52]، و {إنَّ هذا القرآن يهدي للتي هي أقومُ} [الإسراء: 9]، و {هُدىً للمتقين} [البقرة: 2]، ومنه قوله تعالى:{وأما ثمودُ فهديناهم} [فصلت: 17] أي: بينا لهم الطريق، ومنه قوله تعالى:{إنا هديناه السبيل} [الإنسان: 3]، {وهديناه النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].
والثاني بمعنى اللطف والتوفيق والعصمة والتأييد، وهو الذي تفرد الله تعالى به، ومنه قوله تعالى:{إنك لا تهدي من أحببتَ ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56].
الثالث: الهدى المجازي، ولا بد فيه من ظهور القرينة كقوله عز وجل:{فاهدوهم إلى صراط الجحيم} [الصافات: 23]، وقوله:{فأنه يُضِلُّهُ ويَهْديه إلى عذابِ السعير} [الحج: 4] ولا بُدَّ فيه من ذكر المفعول الثاني، لأنه قرينته الدالة على المراد منه.
إذا ثبت ذلك، فآيات الهدى المعلق على ثبوت المشيئة هنا لا يصلح جعلها من القسم الثالث لفقد القرينة، ولا من القسم الأول، وهو نصب الدلالة مطلقاً لثبوته للجميع في غير آيةٍ كما قدمناه، وهذه الآيات التي فيها المشيئة تقتضي أنه لم يكن، وكذلك الآيات المطلقة في قوله:{يهدي به الله من اتبع رضوانه سُبُلَ السلام} [المائدة: 16]، وقوله:{سَيَهْديهم ويُصْلحُ بالَهُم} [محمد: 5] يدلُّ على أنه هدىً خاص يستحق به العبد الثواب والثناء لا الهدى الذي لا اختيار معه.
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى: 8].
وقوله: {ولو شاءَ الله لجمعهم على الهُدَى} [الأنعام: 35].
وقوله: {ولَوْ شاءَ ربُّك لجَعَلَ الناس أُمَّةً واحدةً} [هود: 118].
وقوله: {فلو شاء لهداكم أجمعين} [النحل: 9].
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل: 93].
فهذه الآيات لا يصح تأويلها بمشيئة الإكراه في الكافرين ومشيئة الاختيار في المؤمنين، لأنهم حينئذٍ يكونون (1) أمتين مختلفتين لا أمةً واحدة كما تقدم في تقريره في قوله تعالى:{لمن شاء منكم أن يستقيم} [التكوير: 28].
وهو قد تمدح سبحانه وتعالى بأنه لو شاء، لجعلهم أمة واحدة، ولا بد لتأكيد الأمة بواحدةٍ من فائدة، وما هي إلَاّ عدم افتراقها وتشعبها، ولا يمكن تأويل ذلك بجمعهم على الكفر فقط، لقوله:{ولو شاء الله لجمعهم على الهدى} [الأنعام: 35] ونحوها.
وأصرح من هذه الآيات، وأبعد من التأويل قوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 176]، فهذه مصادمة لمذهب المعتزلة مُصادمة النصوص.
وكذلك قوله: {ولا تقولَنَّ لِشَيءٍ إنِّي فاعلٌ ذلك غداً إلَاّ أن يشاء الله} [الكهف: 24] لا (2) يصح حمله على مشيئة الإكراه، لأنها تناقض معنى الفاعلية، كما لا يصح الاحتجاج على الخبر، ونفي الاختيار بها لمثل ذلك، ومنه قوله:{إنَّ رَبِّي لطيفٌ لِما يشاءُ} [يوسف: 100]، فلا يصح تأويله بمشيئة الإكراه، لأنها تناقض معنى (3) اللطفِ.
(1) في (أ): " يكونوا "، وهو خطأ.
(2)
في (ش): ليس.
(3)
من قوله " الفاعلية " إلى هنا ساقط من (أ).
وكذلك قوله: {يُؤْتِي الحِكْمَةَ من يَشاءُ} [البقرة: 269] لأن المقهور غير حكيم.
و {مَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ} [المائدة: 41] لأن المقهور غير مفتون إلَاّ إذا كانت بمعنى العذاب.
وكذا قوله: {إنك لا تهدي من أحببتَ ولكن الله يهدي من يشاء} [القصص: 56] لأنه لا يصح أن يكون المعنى: لا تُكْرِهُ على الهدى من أحببت، ويلزم أن تكون الثانية مثلها، وإلا لم يحسن الاستدراك، وكان بمنزلة أن تقول: ولكن الله يرزق من يشاء.
ومن أوضح الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأنعام: 87 - 88]، وبيانه: أن ذلك في قوله تعالى: {ذلك هدى} إشارة إلى ما تقدم من هداية أنبيائه وأوليائه والضمير في قوله: {يهدي} ، راجعٌ إلى ذلك الهدى الذي هدى به أنبياءه وأولياءه (1)، هو الهدى الذي يهدي به من يشاء من عباده، والمعلوم أن هدى من تقدم ذكره ما كان إلَاّ اختياراً لا قسراً.
وإذا ثبت أن هدى من تقدم ما كان إلَاّ اختياراً وجب أن يكون هدى من شاء من عباده مثله، لأنه هو.
وأما الدليل على أن الضمير في " يشاء " راجع إلى الله تعالى لا إلى " من " فوجوه (2):
أحدها: أنه جاء كذلك في آيات كثيرة مصرحاً به، ولم يأتِ على العكس، والقرآن يُفَسِّرُ بعضه بعضاً، ولو سلمنا إجمال هذا كان في ذلك التصريح كفاية.
(1) من قوله: " والضمير في قوله يهدي " إلى هنا ساقط من (أ).
(2)
في (ش): بوجوه.
وثانيها: أن الهدى في أول الآية مضافٌ إلى الله تعالى كذلك آخرها.
وثالثها: أن هذا مجرد دعوى من غير دليلٍ، وتجويز هذا حرامٌ وِفاقاً خصوصاً في تفسير كتاب الله.
ورابعها: أنه يفسد مرادُهم على تسليم صحة تأويلهم، فإنه حينئذ يدُلُّ على قدرة الله على هداية الجميع، إذ لو كان لا يَقْدِرُ إلَاّ على هداية البعض لم يحسن منه التمدح بهداية من يشاء الهداية من جميع العباد، وتكرير التمدح بذلك من غير إشعار بتخصيص، وما يدعونه من المخصصات العقلية ممنوعٌ، بل معكوسٌ كما أوضحناه في هذا الكتاب.
وذكر الرازي أنه لا يحبُّ الجهل أحد، فإن الله قادر على تعريف جُهَّال الكفرة بما جَهِلُوه من علوم الإسلام، ونفيه لمحبة الجهل صحيحٌ على جميع القواعد كما سيأتي بيانه في مسألة الدواعي.
وخامسها: -وهو المعتمد- ما تقدم من أن نفوذ مشيئة الله معلوم من ضرورة الدين لمن لم يعتقد أنه من جملة المحالات، وقد تقدم بيانه.
وسادسها: أنه يلزم الاحتمال في قولنا: زيدٌ يكرم من يشاء، أو رجحان رجوع الضمير إلى " من " أو إلى " زيد "، وكلاهما عنادٌ واضح.
فإن سلموا رجحان رجوع الضمير إلى زيدٍ في هذه الصورة لزمهم رجوع الضمير إلى مثله وإلى مثله في أمثالها، وإن (1) خصُّوا بقلب المعنى كلام الله لأجل الدلالة العقلية، فقد سلَّموا أن ما قلناه هو ظاهرُ كتاب الله، وقد تقدم أن تأويل هذا المعنى بدعةٌ حادثة، وأن العقل موافقٌ للسمع في ذلك.
ومن ذلك تمدُّحه تعالى بأنه فعَّالٌ لما يريد، وأنه يفعل ما يريد، لأنه لا يجوز
(1) في (أ) و (ش): " وإنما "، والمثبث من هامش (أ).
أن يكون معناه بعض ما يريد، لأن جميع عباده الضعفاء كذلك يفعلون بعض ما يريدون ويفوتهم بعضه، فوجب أن يكون الربُّ هو المختص بفعل جميع ما يُريد لا يتعذَّر عليه شيءٌ، فوجب متى أراد أن يلطف بعبد أن يقدر على ذلك وإن كان العبد أكفر الكافرين، وأفجر الفاجرين.
وهذا كله زيادة بيان على جهة التفصيل، والعمدة ما قدمته من الوجه القطعي الجُملي من أن آيات المشيئة لو كان ظاهرها قبيحاً باطلاً، لقضت العادة بالتعريف بذلك في عصر النبوة والصحابة والتابعين، فثبت بمجموع هذه الآيات وأمثالها وما عضدها من الأحاديث الصِّحاح وآثار الصحابة والتابعين (1) مع الأدلة العقلية القاطعة أن إرادة الله سبحانه نافذةٌ، ومراداته كلها واقعة.
والعجب من مخالفي أهل السنة في تأويل جميع ذلك، واعتقاد أنه من المتشابه كما صنعوا مثل ذلك في آيات الصفات، وليس يصح أن يكون في القرآن متشابه إلَاّ وفيه محكمٌ يُرَدُّ إليه ذلك المتشابه كما قال تعالى، ولم يرد في آيةٍ واحدة، ولا في حديثٍ واحد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في أثرٍ واحد من آثار الصحابة رضي الله عنهم أن الله تعالى يريد ما لا يكون، بل ما يعلم أنه لا يكون أبداً، كما لم يَرِدْ في شيء من ذلك أن الله تعالى لا يهدي من يشاء، ولا يقدر على اللطف بمن يشاء كما هو الحق الواضح، والمحكم البين عند المعتزلة.
وما أفحشَ ما ادَّعوا أنه الحق، وأخبثه في الأسماع وأوحشه في الإسلام، وجميع آيات المشيئة تقتضي تنزُّه (2) الرب جل جلاله، وترفعه عن هذه النقيصة التي لا تليق بكمال ربوبيته وجبروته وقدرته وقوته وعِزَّتِه، وما قنعت المعتزلة بإنكار هذه الصفة الشريفة حتى كفَّرت من آمن بما ورد في كتاب الله تعالى من
(1) من قوله: " فثبت " إلى هنا ساقط من (أ).
(2)
في (ش): تنزيه.
ذلك، فزادت على الخوارج فإنهم كفَّروا المسلمين بأصغر الذنوب، وهؤلاء كفروهم بأعظم الحسنات، وهو الإيمان بكتاب الله تعالى.
ولنذكر الآن شبهة المعتزلة في إيجاب اللطف على الله تعالى حتى يظهر ضعف ما عارضوا به هذه الأدلة الباهرة المتظاهرة، فنورد كلام الإمام يحيى بن حمزة في كتاب " التمهيد " لأنه من المُبالغين في النظر في علومهم، والناصرين لكثيرٍ من مذاهبهم، وإنما يخالفهم فيما اتَّضحت ركَّتهُ، وظهر ضعفه مثل هذه المسألة.
فنقول (1): قال في " التمهيد " في أوائل الباب الأول في النبوات ما لفظه:
فلِمَ قلتم: إن اللطف واجبٌ؟
قالوا: لأمرين: أمَّا أولاً، فلأنَّ اللطف جارٍ مجرى التمكين.
قلنا: لا نُسَلِّمُ.
قالوا: إن من قدم الطعام إلى إنسان (2)، وأراد من ذلك الإنسان أن يتناول (2) من ذلك الطعام، فإنه لا يتناول منه (2) إلَاّ إذا تواضع له، فإنَّ تركه للتواضع يقدح في كونه مريداً من ذلك الإنسان أن يتناول طعامه.
قلنا: لا نُسَلِّمُ أن تركه للتواضع، والحال هذه مقدرة (3) يقدح في كونه مُريداً على الإطلاق.
وبيانه: أن الإرادات مختلفة بحسب العادة والأخلاق، فقد يكون الإنسان مُريداً من غيره أن يتناول طعامه إرادة بالغة في العادة مبلغاً عظيماً، حتى إنه يقدر
(1) ساقطة من (أ) و (ش).
(2)
قوله: " إلى إنسان " و" أن يتناول " و" فإنه لا يتناول منه " ساقط من (أ).
(3)
ساقطة من (أ).
في نفسه أن يفعل كل ما يعلم أن ذلك الضيف يتناول طعامه عند فعله، وقد يكون مُريداً من غيره أن يتناول طعامه، ولكن لا إلى هذا الحد.
فإذا عرفت هذا التفصيل، فنقول: الإرادة إذا كانت واقعة على الوجه الأول كان ترك التواضع قادحاً فيها، فأمَّا إذا كانت واقعة على الوجه الثاني، فلا نُسَلِّمُ أن ترك التواضع يقدح فيها، والعلم بذلك بعد الاختيار ضروري.
إذا ثبت ذلك قلنا: لِمَ قلتم: إن الله تعالى أراد من المكلفين فعل الطاعات والاجتناب عن المعاصي على الوجه الأول حتى يلزمه فعل اللطف.
بيانه: أن التكليف إنما هو تفضُّلُ وإحسانٌ، والمتفضِّلُ لا يجب عليه أن يأتي بأقصى مراتب الفضل.
فإذا كان الأمر كما ذكرنا حَسُنَ من الله تعالى أن يريد من المكلف فعل الطاعة، وترك المعصية على الوجه الثاني، وعلى هذا التقدير لا يلزم من ترك اللطف القدح في الإرادة.
وأما قولهم ثانياً: إن ترك اللطف كفعل المفسدة.
فنقول: ما عنيتم بقولكم: كفعل المفسدة، بمعنى أن حقيقة أحدهما كحقيقة الآخر، فهو باطلٌ قطعاً، لأن عَدَمَ فعلٍ لا يكون مثلاً لفعل آخر.
وإن عنيتم أن ترك اللطف يماثل فعل المفسدة في القبح، فهذا خطأ أيضاً، لأن (1) ترك اللطف إنما يماثل فعل المفسدة في القبح لو كان فعل اللطف واجباً، وهذا هو أول المسألة.
لا يقال: إنا نعني بهما تماثلهما في كونهما ضرراً بالغير، وذلك علة القبح، ويلزم من الاشتراك في العلة الاشتراك في الحكم، لأنا نقول: الفرق بينهما
(1) في (أ): إن.
ظاهر، لأنه لا معنى (1) لكون ترك اللطف لم يكن (2) ضرراً إلَاّ أنه ترك الانتفاع، ولا يلزم من قبح فعل الإضرار قبح ترك الانتفاع، ألا ترى أنه يقبح منا أن نَضُرَّ بالفقير، ولا يقبح منا أن لا ننفعه، فحصل الفرق. انتهى بحروفه.
وهو يقتضي بطلان قول المعتزلة: إنه ليس في معلوم الله ولا مقدوره لطفٌ لأحد من العصاة، والحمد لله على موافقة هذا الإمام في هذه المسألة الجليلة، فإنه من عيون أهل البيت عليهم السلام، وإن كان المختار في الاستدلال هو ما أشرت إليه من الوجوه العقلية والنقلية.
والذي ذكره الإمام زيادةٌ وإفادة، وقد أحال الإمام في " النهاية " و" الشامل " إلى كلامه في " التمهيد "، فدلَّ على بقائه عليه، وذكر الإمام يحيى بن حمزة في كتابه " النهاية " لمن لم يوجب اللطف من المعتزلة ثلاث حُجَجٍ.
الحجة الأولى: أنه لو وجب ذلك، لفعله الله، ولو فعله لم يوجد في العالم كافرٌ.
الحجة الثانية: حسن سؤال العافية من الألم، وعلى كلام المعتزلة لا يحسن ذلك لتجويز أنه لُطْفٌ واجب.
الحجة الثالثة: يلزم لو كان مكلَّفٌ يختار الإيمان عند فعل، ومكلَّفٌ آخر يختار الكفر عنده أن يكون واجباً قبيحاً بالنظر إلى الجهتين (3).
وأشار في الفصل الثاني من الأصل الخامس إلى حجةٍ أخرى، وهي الاجتماع (4) على حُسْنِ الرغبة من كل مكلَّفٍ إلى الله تعالى أن يلطف به، وذلك يدلُّ على قُدرته على ذلك وأنه غيرُ مُحال.
(1) قوله: " لأنه لا معنى " ساقط من (أ).
(2)
" لم يكن " ساقط من (ش).
(3)
في (ش): الوجهين.
(4)
في (ش): الإجماع.
وحكى في الفصل الثاني هذا عن قاضي القُضاة أنه حكى عن قومٍ أنهم منعوا من تكليف من لا لطف له، وأما من علم الله أن اللطف له في فعلٍ قبيحٍ من الله، فأربعة أقوال:
الأول: لأبي هاشمٍ، أنه يحسن تكليفه، ويكون بمنزلة من لا لطف له.
الثاني: لأبي عبد الله البصري، أنه لا يحسن.
الثالث: أنه لا يسمى لُطفاً لقبحه، فيجوز التكليف بدونه، وهو قول الشيوخ.
الرابع: لقاضي القضاة، أنه لا يحسن، لأنه غير مُزاحِ العلة.
وإنما ذكرت أقوالهم هذه ليعتبر السُّني من فضول الكلام إلى ما لا (1) ينتهي بأهله من الحكم (2) على الله تعالى، وتنزيل حكمته على قدر أفهامهم القاصرة في المواضع الخفية التي تختلف فيها أفهام العقلاء، وخوضهم (3) في ذلك مع عدم الضرورة إليه، وتكفيرهم لأهل السنة مع عفو بعضهم عن بعض.
ألا ترى أنه يلزم قاضي القضاة تكفير سائر الشيوخ لأنهم نسبوا إلى الله تعالى جواز تكليف من لا يجوز تكليفُه، وذلك قبيح، ومن جوَّز القبيح على الله، فهو كافرٌ لكن بشرط (4) أن يكون من أهل السنة.
وكذلك اختلافهم في الأعراض يوجب التكفير عندهم ولا يكفر بعضهم بعضاً، وسيأتي ذلك.
وقد تمَّ الكلام في نفوذ مشيئة الله تعالى وإرادته (5)، وهذه المسألة هي رأس
(1)" لا " ساقطة من (ش).
(2)
في (ش): التحكم.
(3)
في (ش): وخرصهم.
(4)
في (ش): يشترط.
(5)
ساقطة من (أ).
الخلاف بين أهل السنة والمعتزلة، ولم يتحقق من اختلافهم في سائر المراتب الثلاث الماضية ولا فيما يأتي الآن في المرتبة الخامسة ما يوجب التنافي الكثير، فإن المعتزلة تُقِرُّ بأن الله خيَّرَ (1) الخلق على التكليف الاختياري، وهي المرتبة الأولى.
وتُقِرُّ بالقضاء والقدر بمعنى العلم والكتابة، وأن ما علمه الله لم يقع سواه قطعاً، وهذه المرتبة الرابعة.
وتقر بأن ما دعا إليه الداعي الراجح، وقع قطعاً، وهذه المرتبة الثالثة.
ويأتي في المرتبة الخامسة إقرار أهل السنة أجمعين أن العبد مختارٌ في فعله حتى في قول غُلاتِهم في الجَبْرِ.
فوضح لك أن حقيقة اختلافهم إنما هو في مسألة الإرادة، وإنما بَيَّنْتُ لك هذا لِتَخُصَّها بفضل التأمل التام، والنظر الصحيح، وتضرع إلى الله أن يَهْدِيَك إلى المنهج القويم والصراط المستقيم، فإنه سبحانه كما قال في كتابه:{لَطيفٌ لِما يَشاءُ} [يوسف: 100]، و {يُؤْتي الحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ} [المدثر: 31]، و {يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ} [فاطر: 8]، و {بيدِهِ الملكُ وهو على كُلِّ شَيْءٍ قديرٌ} [الملك: 1]، و {بِكُلِّ شَيْءٍ بَصيرٌ} [الملك: 19].
وأما شُبَهُ المعتزلة السمعية في هذه المسألة، فهي ضعيفة جداً، وجوابُها يظهر بأدنى تأمُّلٍ بحمد الله تعالى، وهي أنواعٌ.
النوع الأول منها وهو أهمُّها: ما حكاه الله تعالى عن المشركين من تعرُّضِهم لإفحام الرسل كما تعرَّضت المعتزلة لإلزام أهل السنة ذلك بقولهم: إن مشيئة الله نافذةٌ، وقد سبقهم المشركون إلى الاحتجاج بذلك على الله
(1) تحرفت في (ش) إلى: أجبر.
تعالى، ثم على رُسُلِه الكرام عليهم السلام، وجاء سؤالهم وجوابه في كتاب الله تعالى، وأفحم الله تعالى المشركين وأسكتهم، فما فَهِمَتِ المعتزلة.
فالعجب منهم مع دعواهم للنظر الدقيق كيف حسبوا أن الله كرَّر شُبَهَ المشركين وقرَّرها وأجابها عليهم بجوابٍ غير مقنع، ولنذكر الآيات الواردة في ذلك، وهي ثلاثٌ.
وهذه أبين الآيات وأبعدها من الاشتباه، وقد بيَّن الله سبحانه أن شُبَهَهُم (1) هذه من قبيل قول الخوارج: لا حكم إلَاّ لله، وجوابهم من قبيل قول علي عليه السلام: إن هذه كلمة حقٍّ يُراد بها باطل (2).
(1) في (ش): شبهتهم.
(2)
أخرج مسلم (1066)(157)، والنسائي في " الخصائص "(177)، والفسوي 3/ 391 - 392، وابن حبان (6939)، والبيهقي 8/ 171 من طرق عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن بكير بن الأشج، عن بُسر بن سعيد، عن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الحرورية لما خرجت وهو مع علي، فقالوا: لا حكم إلَاّ لله، فقال علي رضي الله عنه: كلمة حق أُريد بها باطل، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف أناساً إني لأعرف وصفهم في هؤلاء، " يقولون الحق بألسنتهم لا يجوز هذا منهم -وأشار إلى حَلْقه- من أبغض خلق الله إليه، فيهم أسود إحدى يديه حلمة ثدي " فلما قتلهم علي رضي الله عنه قال: انظروا فنظروا فلم يجدوا، فقال: ارجعوا، فوالله ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، مرتين أو ثلاثاً، ثم وجدوه في خَرِبة، فأتوا به حتى وضعوه بين يديه، قال عبيد الله: وأنا حاضر ذلك من أمرهم وقول علي فيهم.
وذلك أنه سبحانه أجاب عليهم بقوله: {فَهَلْ على الرُّسُلِ إلَاّ البَلاغُ المُبينُ} ، وصدَّر الجواب بالمبالغة في الاستنكار حيث استعار للاستنكار حرف الاستفهام، فإن الاستنكار لا يورد على صيغة الاستفهام إلَاّ في المعلومات التي لا يتجاسَرُ الخصم على العناد في إنكارها كما يعرف ذلك أدنى من له ذوقٌ.
ولذلك نظائرُ، منها: قوله تعالى: {هَلْ جزاءُ الإحسانِ إلَاّ الإحسانُ} [الرحمن: 60]، وقوله:{وَهَلْ يُجازَى (1) إلَاّ الكَفورُ} [سبأ: 17].
وتقول لمن أساء إليك وأحسنت إليه: هل قدمت إليك ما يوجب الإساءة؟
وبيان ذلك من العقل: أن الله تعالى لمَّا نصَّ في كتبه الكرام، وعلى ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام أنه أراد ابتلاء الخلق وتمحيص المؤمنين، وتمييز الخبيث من الطيب بأنه حفَّ الجنة بالمكاره، وحفَّ النار بالشهوات (2)، حتى ابتلى خليله عليه السلام بالأمر (3) بذبح ولده، وقال:{إنَّ هذا لَهُوَ البَلَاءُ المُبينُ} [الصافات: 106]، وحتى أنكر ورود التكليف بغير هذه الصفة بعبارات كثيرة (4) مختلفة متنوعة، يطولُ ذكرُها، وسيأتي منها طرفٌ صالح عند ذكر الكلام في المرتبة الثالثة في الدواعي قريباً.
(1) بضم الياء وفتح الزاي، ورفع الكفور على أنه نائب فاعل، وهي قراءة عامة القراء غير حمزة والكسائي، وحفص، فإنهم قرؤوا:{وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} بالنون، والكفور بالنصب على أنه مفعول به. انظر " حجة القراءات " ص 587.
(2)
أخرجه من حديث أبي هريرة: أحمد 2/ 260 و380، والبخاري (6487)، ومسلم (2823)، وأبو داود (4744)، والترمذي (2560)، والنسائي 7/ 3، وابن حبان (719)، والقضاعي (567)، والبغوي في " شرح السنة "(4115).
وأخرجه من حديث أنس: أحمد 3/ 153 و254 و284، والدارمي 2/ 339، ومسلم (2822)، والترمذي (2559)، وا بن حبان (716) و (718)، والقضاعي (568)، والبغوي (4114).
(3)
ساقطة من (أ).
(4)
ساقطة من (أ).
ثم عند ذكر حكمة الله تعالى في التكليف، وفي المتشابه، وفي تقدير الشرور في مسألة الأقدار من ذلك قولُه تعالى:{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3]، كان من رعونة المشركين، وقلة تمييزهم المجادلة بما علموا أن الأنبياء جاؤوا به، وجَهِلَتْه (1) المعتزلة من نفوذ مشيئة الله من غير مَثْنَوِيَّةٍ (2)، ولولا علموا ذلك ضرورة من دين الأنبياء ما احتجوا به، ولو جوَّز المشركون أنه يوجد من يقول: إن الله لا يقدر على هداية عاصٍ، لعدلوا عن هذه الشبهة إلى قولهم: لو شاء الله ما خلقنا أو ما كَلَّفنا، فإنهم قوم خَصِمُون كما وصفهم الله تعالى، وهم أحذق من أن يحتجوا على الأنبياء بما لا يلتزمونه، وهم أهل اللسان العربي والفهم لدقائقه، والقرآن الكريم نزل على لُغتهم، و" لو" في لغتهم موضوعة لامتناع الشيء لامتناع غيره، فمعنى كلامهم أن إيمانهم امتنع لامتناع مشيئة الله، فلو كانت مشيئة (3) حاصلة من الله عند الأنبياء ما نَطَقَ بها (4) فرسان البلاغة، كما لا يحسن أن يقولوا: لو أمرنا الله ما أشركنا، ولا: لو أرسل الله إلينا ما أشركنا، وإنما يوردون ما هو ممتنع، مثل ما أوردوا مثل ذلك في إنزال الملائكة، قال الله تعالى:{إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 14].
وأما قول من قال منهم: إن الله أمرهم بالفحشاء، فإنهم لم يريدوا أمر بها على يدي محمد صلى الله عليه وسلم، لأنهم غير مصدقين له فيما جاء به، وإنما ادَّعَوْا ذلك فيما
(1) في (ش): وجهلة.
(2)
أي: من غير استثناء، يقال: حلف فلان يميناً ليس فيها ثُنْيا ولا ثَنْوَى، ولا ثَنِيَّة ولا مثنوِيَّة ولا استثناء، كُلُّه واحد، وأصل هذا كله من الثني والكفِّ والرد، لأن الحالف إذا قال: والله لا أفعل كذا وكذا إلَاّ أن يشاء الله غيره، فقد ردَّ ما قاله بمشيئة الله غيره.
(3)
مشيئته.
(4)
في (أ) بهذا.
توارثوه عن آبائهم عن الشرائعِ المتقدمة التي يمكن الكاذبُ الكذب عليها.
والعجبُ أنهم مع طول مخالطتهم للأنبياء ومجادلتهم، لم يعرفوا ما عرفته المعتزلة من أن عقيدة الأنبياء أن الله أراد ما علم أنه لا يكون، ولا فهموا ما فهمته المعتزلة من لغتهم أن الأمر لازمٌ للإرادة، فلو كان لغتهم تقتضي (1) ذلك، لم يُطيلوا اللجاج بمثل هذا الإلزام الذي يعلمون ظهور فساده.
وأعجب من هذا أن هذا السؤال تكرَّر منهم، وذكره الله في كتابه الكريم مكرراً، فما أجاب عليهم في آيةٍ واحدة بالجواب الحقِّ على قول المعتزلة، فيقول مثلاً: وقد شاء الله أن يؤمنوا، وأراد ذلك كما أجاب على من افترى، وقد زعم أن الله أمر بالفحشاء، فقال تعالى:{إنَّ الله لا يأمُرُ بالفَحْشَاءِ} [الأعراف: 28]، بل عَدَلَ عن هذا بالمرة، وأعاد شبهتهم بنفسها مقرِّراً لكونهم نطقوا (2) بالحق متوصِّلين به إلى الباطل على نحو قوله تعالى:{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1]، وذلك ظاهر في الآية الثانية، وهي قوله تعالى:{سَيَقُولُ الذين أشركُوا لو شاءَ اللهُ ما أَشْركنا ولا آباؤُنا} إلى قوله: {كَذلك كَذَّبَ الَّذين مِنْ قَبْلِهِمْ
…
قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 148 - 149] بمنزلة قوله {والله يعلمُ إنك لرسولُه} ، إذ كل منهما تقريرٌ لصحة ما نطق به الخصم، وقوله:{قُلْ فَلله الحُجَّةُ البالغة} [الأنعام: 149] كقوله: {والله يَشْهَدُ إنَّ المُنافقينَ لكاذِبونَ} [المنافقون: 1]، إذ كل منهما مُناقضةٌ لمقصود الخصم، ودلالة على أن ما نطق به من الحق غير مستلزم ما قصد من الباطل والتمويه، بل ظاهر آية المنافقين بين الحاجة (3) إلى التأويل
(1) ساقطة من (أ).
(2)
تحرفت في الأصل إلى: يطلقوا.
(3)
في (ش): الحجة.
لتكذيبه لهم فيما قالوه من الحق، ولذلك تمَسَّك به الجاحظ في أن المطابقة لا تكفي في الصدق إلَاّ مع اعتقاد المتكلم لصحتها، وأما آيات المشركين فإنها مُصَرِّحةٌ بتقرير مذهب أهل السنة لنصوصه (1) عليه دون غيره.
والعجب أن المعتزلة احتجوا بها وهي بريئة من ذكر مذهبهم، وأرادوا إبطال مذهب أهل السنة إلى غيرها، ولو لم يرد في كتاب الله سواها، لما احتاج أهل السنة إلى (2) غيرها في تثبيت مذهبهم، ألا تراهُ يقولُ في هذه الآية:{فلو شاء لهداكم أجمعين} [الأنعام: 149]، وقال في الآية الأولى:{إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37] وقال فيها: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ} [النحل: 36] ولم يقل كما قالت المعتزلة: فمنهم من اهتدى ومنهم من لم يقدر الله على هدايته، وهذا موضع الحاجة إلى بيان الحقِّ ومحو (3) تمويه المشركين، فكيف يُقَرّرُ في نفس الجواب ما يقتضي عند المعتزلة إفحام الرسل؟ وهل يصح مثل هذا من حكيم؟
ولو قدرنا حسن ورود المتشابه، فليس في مثل هذا المقام، فهذا مقام الحجاج والبيان، وإيراد المتشابه هنا يوهم صحة الإشكال، والعجز عن الجواب، ويُغري بالقبيح ويحطُّ رتبة المجيب، فإلى متى يُؤَخَّرُ المحكم، ويأتي بيان الحق، ولا مخبأ بعد بؤسٍ، ولا عطر بعد عروسٍ (4).
(1) في (ش) لنصوصها.
(2)
من قوله: " إلى غيرها " إلى هنا ساقط من (أ).
(3)
في (ش): ومحق.
(4)
كذا جاء المثل في (ش)، وهو ساقط من (أ)، ونصه في كتب الأمثال " لا مخبأ لِعِطْرٍ بعد عروس "، ويروى:" لا عِطْر بعد عروس ".
وأصله أن رجلاً أهديت إليه امرأة، فوجدها تَفِلَة، فقال لها: أين الطيبُ؟ فقالت: خَبَأته، فقال:" لا مخبأ لعطر بعد عروس " يضرب لمن لا يؤخَّر عنه نفيس. وقال الزمخشري: يُضرب في ذم ادِّخار الشيء وقت الحاجة إليه. وقيل: عروس اسم رجل مات، فحملت امرأتُه أواني =
وهذه نكتةٌ نفيسةٌ فتأملها.
ويزيدها وضوحاً أن الحاكم على تَشَيُّعه روى في " المستدرك "(1) أن ابن عباس احتج بهذه الأولى على ثبوت القدر وصحته كما وفقنا الله لفهمه، وفهمه حجة، لأنه من أهل اللسان والفطرة الصحيحة.
= العطر، فكسرتها على قبره، وصبَّت العطر على قبره، فوبخها بعضُ معارفها، فقالت ذلك.
ويضرب في الاستغناء عن ادِّخار الشيء لعدم من يدَّخر له.
وقيل: أول من قال ذلك امرأة من عُذرة يقال لها: أسماء بنت عبد الله، وكان لها زوج من بني عمها يقال له: عروس، فمات عنها، فتزوجها رجل من غير قومها يقال له: نوفل، وكان أعسر أبخر بخيلاً دميماً، فلما أراد أن يَظْعَنَ بها، قالت له: لو أذنت لي، فرثيتُ ابن عمي وبكيتُ عند رَمْسه، فقال: افعلي، فقالت: أبكيك يا عروس الأعراس، يا ثعلباً في أهله وأسداً عند البأس، مع أشياء ليس يعلمها الناس. قال: وما تلك الأشياء؟ قالت: كان عن الهمة غير نعَّاس، ويعمل السيف صبيحات البأس. ثم قالت: يا عروس الأغرّ الأزهر، الطيب الخِيم، الكريم المخْبَر، مع أشياء لا تذكر. فقال: وما تلك الأشياء؟ قالت: كان عيوفاً للخنى والمنكر، طيب النكهة غير أبخر، أيسر غير أعسر، فعرف الزوج أنها تُعَرِّضُ به، فلما رحل بها قال: ضُمِّي إليك عِطْرَكِ، وقد نظر إلى قَشْوَة عطرها مطروحة، فقالت:" لا عِطرَ بعد عروس " فذهبت مثلاً.
انظر " فصل المقال " ص 426 - 427، و" المستقصى " 2/ 263 - 264، و" مجمع الأمثال " 2/ 211 - 212، و" لسان العرب " و" القاموس المحيط "(عرس).
(1)
2/ 317 من طريق عبد الرزاق (20073) عن معمر، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع رجلاً يقول: الشَّرُّ ليس بقدر، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: بيننا وبين أهل القدر {سَيَقولُ الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} حنى بلغ {فلو شاء لَهَداكُم أجمعين} قال ابن عباس: والعجز والكيس من القدر. وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
وأخرجه البيهقي في " الأسماء والصفات " ص 174 - 175 من طريق الحاكم.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 380 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
ومن العجب قول المعتزلة: إن هذا متشابهٌ، فأين المحكم؟ وأيُّ آيةٍ في كتاب الله جاءت على وفق مذهب المعتزلة في أن الله يشاء ما لا يكون، ويريد ما يعلم أنه لا يكون حتى يُرَدَّ المتشابه إليها، فإن الله لم يصف القرآن بأنه متشابه كله، وقد تقدم تقرير هذا، وهو نفيسٌ جداً لمن تأمله، وليس في هاتين الآيتين ما يحتاج أهل السنة إلى تأويله ألبتة.
أما قوله تعالى: {كَذَلِكَ كذَّب} [الأنعام: 148] فإن القراء السبعة اتفقوا على أن القراءة (كذَّبَ)(1) بتشديد الذال، يعني: كذبوا الأنبياء والحق الذي جاءهم، وهي كقوله تعالى في الآية الأخرى:{كَذلِكَ فَعَلَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهم} [النحل: 33] والقرآن يُفَسِّرُ بعضه بعضاً، وليس يحتاج إلى التأويل.
وأما من قرأ: {كَذَلِكَ كَذَبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} على تقدير صحة القراءة بتخفيف الذال (2) من (كذب) فهو كقوله تعالى في هذه الآية {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} [الأنعام: 148] وذلك كله راجع إلى ما سبقت الآيات لإبطاله من قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا} إلى آخر قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151]، وهي قدر سِتَّ عشرة آية مشتملة على تكذيبهم، وتجهيلهم في تحريم بعض الأنعام، واستحلال قتل أولادهم، يعني: وَأْدَ البنات.
وقد كرر الله هذا المعنى في كتابه، لأنه يدلُّ على تجزئهم على الله، وعدمِ تأويلهم، وعدم نظرهم في الجليَّات، لأن كل عاقل يعلم مع أدنى تأمل أنه لا يدلُّ على ما افتروه في هذه الأشياء شبهةٌ عقلية، ولا أثارةُ علمٍ شرعية، ولذلك قال:{هَلْ عِنْدَكُم مِنْ عِلْمٍ فتُخرجوه لَنا} [الأنعام: 148] ثم بيَّنه بقوله: {قُلْ
(1) من قوله: " فإن القراء " إلى هنا ساقط من (أ).
(2)
هي قراءة شاذة لا تَثْبُتُ، ولا يُعْرَفُ من قرأ بها، فقد ذكرها أبو حيان في " البحر المحيط " 4/ 247 دون نسبة إلى معين، وإنما قال: بعض الشواذ.
هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} [الأنعام: 150].
وليس هذا الجواب من التأويل المخالف للظاهر، بل فيه بيان ما رجع إليه اسم الإشارة بالحجة كفعل الخصم بغير حجة.
وغاية الأمر أن هذه الآية الكريمة كآية المنافقين سواء، حيث احتجوا بالحق على الباطل، وسيأتي تمام الكلام على هذا مستوفى في جواب الآية الثالثة، فتأمَّلْهُ هنالك، فإنه مفيدٌ جداً، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وليس مع المعتزلة شُبهةٌ إلَاّ كون المشركين احتجوا بذلك، وليس يلزم في كل ما نطق به المشركون أنه باطل، وإن ظنوا أنه حجةٌ لهم، فما زالوا يحتجون بالحق على الباطل، وذلك كثيرٌ في كتاب الله ولا فرق بين قولهم:{لو شاءَ الله ما أَشْركْنا} [الأنعام: 148] وبين قولهم: {لو شَاءَ رَبُّنا لأنْزَلَ مَلائِكَةً} [فصلت: 14]، وقولهم:{أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ الله أطْعَمَه} [يس: 47] من قبيل قول الخوارج (1): لا حكم إلَاّ لله، والجواب عليهم من قبيل قول علي رضي الله عنه: كلمة حق يراد بها باطل.
وقد جمع الله سبحانه تمسُّكهم بهذه الشبهة وتمسكهم بنظيرها من مقدورات الله الممتنعة بالحكمة في آيةٍ واحدة يساوي فيها بين الشبهتين، ولله الحمد، وذلك قوله تعالى في الزمر:{أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 57 - 58].
ألا تراه قد أجاب عن كل واحدة من هاتين الشبهتين في كتابه الكريم، فقال في جواب الأولى:{قُلْ فلِلهِ الحُجَّةُ البالغةُ فلَوْ شاءَ لَهَدَاكُم أجْمَعينَ}
(1) في (ش): في أن الجميع قول الخوارج.
[الأنعام: 149]، وقال في جواب الثانية:{وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا} [الأنعام: 28]، وساوى في آية (الزمر) في الجواب بينهما، فجاء بأمرٍ يَعُمُّهُما لما كان معناهما الأخص مفترقاً، فقال تعالى:{بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 59].
وهذا مثل قوله: {فَهَلْ على الرُّسُلِ إلَاّ البَلاغُ المُبينُ} [النحل: 35]، وبلاغ الرسل ومجيءُ الكتب مع خلق العقول والقدرة هو المُعَبَّرُ عنه بالهدى في قوله:{وأمَّا ثَمودُ فهَدَيناهُم} [فصلت: 17] وهو الهدى العام، وفيه إبلاغ العذر كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا أحد أحبُّ إليه العُذْرُ مِنَ الله، من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب "(1)، وما زاد على ذلك من الهدى، فإنه فضلُ الله يؤتيه من يشاء بمنةٍ وفضلٍ، ويصرِفُه عمن يشاء بحكمةٍ وعدلٍ (2).
ألا ترى إلى قوله تعالى في آخر هذه السورة: {وقال لَهُمْ خَزَنَتُها} [الزمر: 71] الآية. وأما كذبهم على الله، فسوف يأتي بيانه قريباً في الآية الثالثة.
فبان بهذا أن الله عز وجل ما ذمَّهم على الإقرار بما لم يزل يتمدح به من نفوذ (3) مشيئته، وكمال قدرته، وعظيم عِزَّتِه، وإنما ذمهم على ظنهم ما ظنت المعتزلة من لزوم بطلان حجة الله على عباده بذلك، ومن استنتاجِ الباطل من الحق، والكذب من الصدق.
وقد تقدم في مسألة الإرادة أن نفوذ مشيئة الله من ضرورة الدين، فكيف يكذب به لاحتجاج المشركين به؟ ولو كان أهل الباطل كلما احتجو بحقٍّ كذَّبناه لتَيَسَّرَ لأعداء الإسلام تَعفية رسومِه بأيسرِ شُبهةٍ، وبلغوا أقصى مرامهم فيه من غير كُلفةٍ.
(1) تقدم تخريجه في 5/ 58 من حديث المغيرة بن شعبة وبعض روايات عبد الله بن مسعود.
(2)
ساقطة من (أ).
(3)
في (ش): تفرد.
وقد جمع الله تعالى مذهب أهل السنة في بعض الآيات الكريمة، كقوله تعالى:{فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 29 - 31].
فقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} يقتضي تمكينهم بالنظر إلى القدرة والبيان وكمال الحجة.
وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} إثباتٌ لتوقف مشيئة العباد على سبق مشيئة الله تعالى، وهذا لا تناقض فيه، كما أن المعتزلة توقف أفعال العباد على ما سبق في (1) علم الله، ولا يلزم الجبر من شيءٍ من ذلك.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} إثباتٌ لتعليل أفعال الله تعالى بالحكم والغايات الحميدة وإن لم تدرك العقول شيئاً من ذلك ألبتة، كيف، وقد بيَّن الله تعالى منه الكثير الطيب كما نذكره في مسألة الأقدار.
وقوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} إشارة إلى تعيين بعض ما منَّ علينا بتعريفه من حكمته في ذلك، فله الحمد حمداً كثيراً، وذلك أنه إنما عامل عباده في الهداية والإضلال على حسب علمه بما يستحقونه من ذلك من غير عجز منه عز وجل عن هداية ضال ولا إضلال (2) مهتدٍ، وهي كقوله سبحانه وتعالى في إبراهيم عليه السلام:{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51]، وفي ضدِّه من أعدائه:{وأضَلَّه الله على عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، ويجمع معناهما مثل قوله تعالى:{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125]، وقوله في
(1) من قوله: " مشيئة الله تعالى " إلى هنا ساقط من (أ)، و (ف).
(2)
قوله: " ولا إضلال " ساقط من (ش).
الحكاية عن موسى عليه السلام: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [طه: 52].
وقد ظهر بهذا أن المعتزلة أرادت أن تحتجَّ بهاتين الآيتين على أهل السنة، فانقلبت الحجة عليهم، وظهر أنه ليس فيهما ما يُتأول عند أهل السنة، وإنما (1) يجب على أصول المعتزلة تأويل كل واحدة منهما، لأن في إحداهما {فلَوْ شَاءَ لَهَداكُم أجْمَعينَ} [الأنعام: 149] وفي الأخرى: {فإنَّ الله لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ} [النحل: 37].
فهذه الآية الكريمة مثل الآيتين المتقدمتين. والجواب فيهما واحد وإنما سُقْتُ الآيات من أولها ليتدبرها المحب للحق الطالب للبصيرة، فإن المعتزلة تورد آخرها مقطوعاً من أولها لما في ذلك من تعمية الجواب عليهم، فإنهم احتجوا بقوله تعالى في هذه الآية. {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} ، وأوهموا أنه يرجع إلى قولهم:{لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} وحَسِبوا أن هذا يمضي على أهل السنة، وكيف يمضي عليهم وهم أحفط الناس لكتاب الله وأعرفهم به؟ وهل يلزم رجوع التكذيب إلى ما ذكروه من نفوذ مشيئة الله الذي لم يزل سبحانه يتمدح به، والذي عُلِمَ صحته ضرورةً (2) من الدين؟
(1) في (ش): فإنه.
(2)
في (ش): ضرورة صحته.
فهل يجب صرف التكذيب إلى ذلك، ويحرم صرفه إلى ما سيقت الآيات من أولها في رده على المشركين من جعلهم الملائكة بنات الله، تعالى الله عما يقولون عُلُوّاً كبيراً.
وأيُّ منصفٍ يمنع رد التكذيب إلى ذلك، ويقطع على أن الله ما أراده، وهو الأولى برد التكذيب إليه لوجوه:
منها: أن كونه كذباً وكفراً وجهلاً فاحشاً معلومٌ بالضرورة من الدين، وبالضرورة من العقل، وبالضرورة من إجماع المسلمين.
ومنها: أن سياق الآيات من أولها يقتضي شدة العناية في تضليلهم في ذلك، وتبكيتهم والتنويه (1) بتجهيلهم وتقريعهم حيث جعلوا لله ولداً، وهو يَعِزُّ ويَجِلُّ عن ذلك، وقد عظَّم ذلك في غير آية كقوله تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88 - 93].
ثم ما قنعوا أن يجعلوه ولداً حتى جعلوهم أولاداً كثيرين غير مُنْحَصرين، ثم ما قنعوا حتى جعلوهُنَّ إناثاً، وهُنَّ أبغض الأولاد وأجهلهم وأضعفهم، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى:{أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18]، وقوله:{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 153 - 154].
ثم ما قنعوا بذلك حتى آثروا عبادتهن على عبادةِ الله تعالى، فكيف يمنع ويحرم رجوع تكذيبهم إلى هذا الكفر، والكذب الفاحش، ويوجب رجوع تكذيبهم إلى القول بنفوذ مشيئة الله وإرادته الذي هو ترجمة عن كمال قدرته
(1) في (ش): وثبوته، وهو خطأ.
وعزته وربوبيته، وهل بَقِيَ في من فعل مثل ذلك حياءٌ، فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلى به أهل الزَّيْغ والبدع، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
ومنها: أنه قد أتى تكذيبهم في مثل ذلك صريحاً في نحو هذه الآية الكريمة، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وذلك في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 27 - 28].
فمن كابر عقله بعد هذا أو اعتقد أنه يجبُ صرفُ تكذيبهم إلى ما قالوه من نفوذ (1) مشيئة الله، لزمه أن يحتج على بطلان نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله عز وجل:{واللهُ يَشْهَدُ إنَّ المنافقين لكاذبون} بعد قولهم: {نَشْهَدُ إنَّك لَرسولُ الله} [المنافقون: 1] وكما أن المراد هناك معلومٌ بالضرورة فكذلك ها هنا، والحمد لله رب العالمين.
وقد بيَّن الله الكاذبين في غير هذه الآية من كتابه، فما أمكن أهل الزيغ أن يردُّوا مجمل كتاب الله إلى شيء من بَيِّنِهِ ونظائره.
فمن ذلك قوله في سورة هود: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود: 18 - 19].
(1) في (ش): تفرد.
فبيَّن في هذه الآية الشريفة أنهم الجاحدون للمعاد الذين كذبوا الله ورسله في هذا الوعد الحق الذي تطابقت به الكتب والرسل، فنزَّلَت المبتدعة تفسيرهم بذلك كأنه مُحالٌ، وجعلوهم الذين آمنوا بالله ورسله واليوم الآخر بسبب إيمانهم بكمال قدرته، ونفوذ مشيئته تعظيماً لربوبيته وعزته، وتصديقاً لنصوص آياته، وحرَّموا تفسير كتاب الله ومراده بذلك زَارِين على من خالفهم، فنعوذ بالله من الخِذلان، وهو حسبنا وكفى، ونعم المستعان.
النوع الثاني من شُبَهِهم السمعية: قوله تعالى: {وَمَا الله يُريدُ ظُلْماً للعِبادِ} [غافر: 31] وفي آية: {للعالمين} [آل عمران: 108] والجواب عليهم من وجهين:
الوجه الأول: أن أهل السنة أحق منهم بظاهرها وتصديقها، وكذلك في كل ما جاء عن الله تعالى، فإنهم يقولون: إن الله تعالى لا يريد الظلم إرادة فعلٍ، ولا إرادة محبةٍ، ورضاً، بل يقولون: إن إرادته سبحانه لا تعلق بأفعال العباد مطلقاً، فكيف بالقبيح منها؟
ويقولون: إنه سبحانه على أكمل ما يمكن أن يتمدح الرب عز وجل به، فقالوا: إنه يكرهه كراهة حكمةٍ بالنظر إلى الوجه الذي قَبُحَ لأجله، لا كراهة عجزٍ بالنظر إلى الوجه الذي لو شاء لمَنَعَه أو أصلحه منه، ولذلك يقع من ذلك ما لم يُرِدِ الله المنع منه، ولا (1) صلاح فاعله بالتوفيق والهداية عقوبةً له على عظيم ذنوبه كما سيأتي.
وأرادتِ المعتزلة أن تحمل الآيات على أن الله تعالى كَرِهَ ذلك من جميع الوجوه التي تستلزم عدم قدرته عز وجل على إصلاحه باللطف والهداية والتوفيق.
وأهل السنة آمنوا بالآية على وجهٍ يستلزم الإيمان بسائر الآيات، ويستلزم
(1)" لا " لم ترد في (ش).
غاية التعظيم لجلال الربوبية، والمعتزلة آمنوا به على وجه يستلزم ما ذم الله به أهل الكتاب من الإيمان ببعض الكتاب، والكفر ببعض، وأروا أهل السنة أن الآية حجة لهم، فأمَّا منطوق الآية ومفهومها السابق إلى الأفهام، فقد آمن به أهل السنة، وأما استنباط عدم قدرة الرب منها، فأبَوْا ذلك إباء المؤمنين، والحمد لله رب العالمين.
وقد قدَّمنا في مسألة الإرادة أن الإرادة تنقسم إلى أقسام، وأنها (1) لا تعلق حين تكون حقيقةً (2) إلَاّ بفعل الله تعالى، وأنها حين تعدَّى إلى مفعولٍ ثانٍ تُعَدَّى بحروف الجر، وتختلف حينئذ معانيها، وأنها حين تُعلق بفعل الغير تكون بمعنى المحبة والرضا، وتُعَدَّى حينئذ كثيراً باللام مثل هذه الآية، كما تقول: أُحبُّ لزيد كذا، ولا أرضاه له، وذكرنا أن المحبة تلازم الأمر والطلب والثناء والثواب وأنها لا تعلق بقبيح، وأن الإرادة قد ترد بمعناها، فيكون حكمها واحداً.
فينبغي للسُّني معرفة هذا ومراعاته، ولا يمكن أهل البدع من التشويش والتشنيع بما لا يحتاجه، ولا ورد به سمعٌ من العبارات المبتدعة التي لَهِجَ بها كثير من المتكلمين والمتكلفين، فإن الآية نصٌّ على مذهب أهل السنة في أن إرادة الله لا تعلق بأفعال المكلفين، لا خيرها ولا شرها، بل تعلق بأفعاله سبحانه، ولكنه سبحانه -لبالغ حكمته- قد يريد عقوبة الظالمين بتسليط بعضهم على بعض، أو عقوبة بعض العصاة من المسلمين بتسليط بعض الكافرين، ولو شاء لأصلح بينهم وكانوا بنعمته إخواناً.
والمعتزلة ظنت أن الإيمان بالآية يستلزم عدم قدرة الرب تعالى عن هذا، والنصوص كافيةٌ في الرد عليهم، قال الله تعالى:{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 166 - 167].
(1) في (أ): فإنها.
(2)
في (ش): حين حقيقة.
فبيَّن الإذن وذكر الحكمة فيه بعلم تأويل الإذن بالعلم، لأن العلم لا يُعَلَّل، ولأن الإذن حين يكون بمعنى العلم يكون مفتوح الذال، ذكره في " الضياء "(1)، وهي عادتهم في التفريق بين المصادر دلالة على اختلاف المعاني.
وقال تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء: 4 - 5] فالآية ظاهرة في إرادة الله تعالى لتسليط الكفار على بني إسرائيل في تفاسير المسلمين، ويؤيد ذلك قوله عز وجل:{ولو شاء الله لَسَلَّطَهُم عليكم} [النساء: 90] فكيف تُمَوِّهُ المعتزلة بأن من آمن بهذا فقد نسب إلى الله محبة الظلم والرضا به. وقد يكون لله تعالى في ذلك حكمٌ كثيرة غير ذلك.
من ذلك ما صح وتواتر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى أن يرفع الاختلاف والسيف عن أُمته فمنعه ذلك (2).
(1) ذكره نشوان بن سعيد الحميري في " شمس العلوم " 1/ 74، و" الضياء المذكور " هو " ضياء الحلوم المختصر من شمس العلوم " لولده محمد.
(2)
أخرج ابن أبي شيبة 10/ 320، وأحمد 1/ 175، و181 - 182، ومسلم (2890)، والدورقي في " مسند سعد بن أبي وقاص "(39)، وعمر بن شبة في " تاريخ المدينة " 1/ 68، وأبو يعلى (734)، وابن حبان (7237)، والبيهقي في " دلائل النبوة " 6/ 526، والبغوي (4014) من طرق عن عثمان بن حكيم، عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه. وفيه:" سألت ربي ثلاثا فأعطاني ثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها ".
وأخرجه من حديث خباب بن الأرت: أحمد 5/ 108 - 109 و109، والترمذي (2175)، والنسائي 3/ 216 - 217، وفي " الكبرى " كما في " التحفة " 3/ 115 - 116، وابن حبان (7236)، والطبراني (3621) و (3623) و (3624) و (3625) و (3626)، والمزي في =
وجاءت أحاديث قوية في بيان وجه الحكمة في ذلك، وهو أنها أمة مرحومة (1)، عذابها
= ترجمة عبد الله بن خباب من " تهذيب الكمال " 14/ 447 - 448، وفيه:" وسألته أن لا يلبسنا شيعاً فمنعنيها ".
وأخرجه باللفظ السابق من حديث أنس: الحاكم 1/ 314 وأبو نعيم في " الحلية " 8/ 326.
وأخرجه من حديث ثوبان: أحمد 5/ 278 و384، ومسلم (2889)، وأبو داود (4252)، والترمذي (2176)، وابن ماجه (3952)، وابن حبان (6714) و (7238)، والبيهقي في " الدلائل " 6/ 526 - 527 وفي " السنن " 9/ 181، والبغوي (4015). وفيه:" فإن ربي قال: يا محمد إني إذا قضيت قضاءً فإنه لا يُرد، وإني أعطيك لأمتك أن لا أهلكلهم بسنة عامة، ولا أسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من أقطارها حتى يكون بعضُهم يهلك بعضاً، ويَسبي بعضُهم بعضاً " قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة
…
".
وأخرجه من حديث شداد بن أوس: أحمد 4/ 123، والبزار (3291) مثل حديث ثوبان.
وأخرجه من حديث معاذ بن جبل: ابن ماجه (3951)، وأحمد 5/ 240، وابن خزيمة (1218)، وفيه:" وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فردّها علي ".
وأخرجه من حديث جابر بن عتيك: أحمد 5/ 445.
(1)
أخرجه أحمد 4/ 410 و418، وأبو داود (4278)، والحاكم 4/ 444 من طريق المسعودي عن سعيد بن أبي بردة، وأحمد 4/ 408 من طريق معاوية بن إسحاق، والطبراني في " المعجم الصغير " ص 10 من طريق سالم بن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي وعبد الله بن عثمان بن خثيم، وفي " المعجم الأوسط "(1) من طريق عبد الملك بن عمير وأبو حنيفة في " مسنده " ص 280 ستتهم عن أبي بردة، عن أبيه أبي موسى الأشعرى، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
ولفظ سعيد بن أبي بردة: "أمتي هذه أمة مرحومة ليس عليها عذابٌ في الآخرة عذابُها =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= في الدنيا الفتن والزلازل والقتل".
ولفظ أبي حنيفة: " إن أمتي أمة مرحومة وإنما عذابها بأيديها في الدنيا ". ولفظ الآخرين: " إن هذه الأمة مرحومة جعل الله عز وجل عذابها بينها، فإذا كان يوم القيامة، دفع إلى كل امرىء منهم رجلٌ من أهل الأديان، فقال: هذا يكونُ فدِاءَك من النار ".
وأخرجه مسلم (2767)(51) دون قوله: " إن هذه الأمة مرحومة جعل الله عز وجل عذابها بينها " من طريق غيلان بن جرير، عن أبي بردة، عن أبيه. ولفظه:" يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى ".
وأخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " 1/ 37 - 39 من طريق محمد، ويحيى بن زياد، وقتادة، وعمارة القرشي، وعمرو بن قيس السكوني، وعبد الملك بن عمير، وطلحة بن يحيى، والوليد بن عيسى، وليث، ومعاوية بن إسحاق، جميعهم عن أبي بردة، عن أبيه.
وأخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " 1/ 38 - 39، والطحاوي (268)، والحاكم 1/ 49 - 50 و4/ 254، والقضاعي (1000)، والخطيب في " تاريخه " 4/ 205، من طريق أبي بكر بن عياش عن أبي حصين، عن أبي بردة قال: كنت جالساً عند أمير قد سماه (هو عبيد الله بن زياد)، فجعل يتردَّد عليه برؤوس الخوارج، قال: فجعلت كلما رأيت رأساً منها، قلت: إلى النار، فقال عبد الله بن يزيد: يا بن أخي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يكون عذاب هذه الأمة في دنياها ". لفظ الطحاوي. وفي " التهذيب " 6/ 79: قال الأثرم قيل: لأبي عبد الله: لعبد الله بن يزيد صحبة صحيحة، فقال: أما صحيحة فلا، ثم قال: شيء يرويه أبو بكر بن عياش عن أبي حصين، عن أبي بردة، عن عبد الله بن يزيد قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قال: وما أرى ذاك بشيء. وصححه الحاكم وقال: ولا علة له، وله شاهد صحيح!! أخرجه 1/ 50 من طريق عثمان بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن زكريا، عن إبراهيم بن سويد النخعي -وكان ثقة- عن الحسن بن الحكم النخعي، عن أبي بردة قال: سمعت عبد الله بن يزيد
…
فذكره.
وأخرجه البخاري في " التاريخ الكبير " 1/ 39، والحاكم 4/ 253 - 254 من طريق محمد بن فضيل بن غزوان، حدثنا صدقة بن المثنى، حدثنا رياح بن الحارث النخعي، عن أبي بردة قال: بينا أنا واقف في السوق في إمارة زياد إذ ضربت بإحدى يدي على الأخرى =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= تعجباً، فقال رجل من الأنصار قد كانت لوالده صحبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، مم تتعجب يا أبا بردة؟ قلت: أعجب من قومٍ دينهم واحد، ونبيهم واحد، ودعوتهم واحدة، وحجهم واحد، وغزوهم واحد، يستحل بعضهم قتل بعض، قال: فلا تعجب، فإني سمعت والدي أخبرني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن أمتي أمة مرحومة ليس عليها في الآخرة حسابٌ ولا عذاب، إنما عذابها في القتل والزلازل والفتن ". وصححه الحاكم ووافقه الذهبي!! مع أن فيه الرجل الأنصاري الذي لم يُسمَّ.
وأخرجه البخاري في " تاريخه " 1/ 39 عن سعيد بن يحيى، حدثنا أبي، حدثنا بريد، عن أبي بردة، عن رجل من الأنصار، عن أبيه مرفوعاً.
وأخرجه 1/ 39 - 40 عن علي، حدثنا محمد بن بشر، حدثنا مسعر، حدثني علي بن مدرك، عن أبي بردة، حدثني رجل من الأنصار، عن بعض أهله يرفعه: " هذه أمة مرحومة
…
".
قال البخاري بعد أن ذكر طرق الحديث السالفة: ألفاظهم مختلفة إلَاّ أن المعنى قريب، والخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة وأن قوماً يعذبون ثم يخرجون أكثر وأبين وأشهر.
قلت: وهذا التعليل من الإمام البخاري رحمه الله دال على نكارة متنه لمخالفته للأحاديث الصحيحة الكثيرة التي مفادها أن عدداً غيرُ قليل من هذه الأمة يدخل النار يوم القيامة، ويعذب فيها، ثم يخرجون منها بالشفاعة.
فمن التهور البالغ أن تجد بعض من ينتحل صناعة الحديث في عصرنا يُصحح مثل هذا المتن الظاهر النكارة بالاعتماد على طرقٍ مضطربة في " صحيحته "(959) غير مبال بما يستلزم ذلك من رد أحاديث كثيرة في " الصحيحين " وغيرهما شبه متواترة وكان الأولى به -وهو الذي يُصِرُّ على أن يُؤْخَذَ كل علم عن أهله- أن يأخذ بقول الإمام البخاري المُسَلَّم له في هذه الصنعة، ولا أريد أن أصفه بما يصف به غيره
…
، فإن البواعث والنيات لا يطلع عليها إلا رب العالمين العالم بالخفيات، ولكن أحب أن أنصح طلبة العلم بأن يتوقفوا في الأخذ بما ينفرد بتصحيحه أو تضعيفه من الأحاديث، وأن يدرسوها دراسة وافية متأنية، ويستعينوا بمقالات أهل العلم قديماً وحديثاً، فإنهم سينتهون حتماً إلى مخالفته في كثير مما قاله، وعند ذلك سيعلمون حق العلم موقعَهُ من هذا الفن، وأن تلك الألقاب التي خلعها عليه بعضُ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= المنقادين له انقياداً أعمى ممن لا معرفة لهم بهذا العلم الشريف لا تنطبق عليه.
وأخرج الطبراني في " الأوسط "(2278) عن أحمد بن يزيد السجستاني، حدثنا يحيى بن يحيى النيسابوري، حدثنا إسماعيل بن عياش، عن جعفر بن الحارث، عن عروة بن عبد الله بن قُشير عن أبي موسى مرفوعاً: " أمتي أمة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة، إذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل
…
". وهذا إسناد ضعيف، فجعفر بن الحارث -وهو الواسطي- كثير الخطأ، وإسماعيل بن عياش -وهو الحمصي- روايته عن غير أهل بلده فيها ضعف.
وفي الباب عند ابن ماجه (4292) عن جُبارة بن المُغَلِّس، حدثنا كثير بن سُليم، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذه الأمة مرحومة، عذابها بأيديها، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجلٍ من المسلمين رجلٌ من المشركين فيقال: هذا فداؤك من النار ".
وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " 3/ 318: هذا إسناد ضعيف لضعف كثير وجبارة، وقد أعله البخاري.
وعند الطبراني في " الأوسط "(1900) عن أحمد بن طاهر بن حرملة، حدثنا جدي حرملة بن يحيى، حدثنا حماد بن زياد، حدثنا حميد الطويل وكان جاراً لنا قال: سمعت أنس بن مالك يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " أمتي أمة مرحومة، متابٌ عليها تدخل قبورها بذنوبها، وتخرج من قبورها لا ذنوب عليها، تُمحَّص عنها ذنوبها باستغفار المؤمنين لها ".
وذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 69 وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " عن شيخه أحمد بن طاهر بن حرملة، وهو كذاب. وقال المناوي في " فيض القدير " 2/ 185: قال ابن الجوزي: قال النسائي: هذا حديث منكر.
وفي الباب أيضاً عن ابن عباس عند الخطيب في " المتفق والمفترق " وابن النجار -كما في " الجامع الكبير " للسيوطي ص 151 - بلفظ: " أمتي أمة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة، إذا كان يوم القيامة أعطى الله كل رجلٍ من أمتي رجلاً من أهل الأديان فكان فداءة من النار ". وقال السيوطي: وفيه عبد الله بن ضرار عن أبيه ". قال ابن معين: لا يكتب حديثه.
وعن أبي هريرة عند الطبراني في " الأوسط " -كما في " مجمع الزوائد 7/ 224 - بلفظ: " أمتي أمة مرحومة قد رفع عنهم العذاب إلَاّ عذابهم أنفسهم بأيديهم، قال الهيثمي: وفيه =
بالسيف (1)، وعند المعتزلي أن القادر على ما يشاء، اللطيف لما يشاء ما قَدَرَ أن يُصلِحَ بين اثنين، ويُؤَلِّف بين قلوبهما من جميع المختلفين، وأن هذا هو القول العدل، وأن أهل السنة كفروا لعدم مشاركتهم في هذه الضلالة، فالله المستعان.
الوجه الثاني: أن معنى الآيتين: أن الله تعالى لا يريد لهم ظلماً منه عز وجل عن ذلك- لوجهين.
أحدهما: أنه عدى الظلم باللام إلى جميع العباد، ونفي إرادة إيقاعه على هذه الصفة لا يصح إلَاّ من الله ليميز الفاعل من المفعول، ولو أراد ما فهمت المعتزلة لقال: إن الله لا يريد الظلم فقط، سلمنا أنه يصح تعدية الإرادة إلى مفعول ثانٍ، لكن بغير اللام، فكان يقول: لا يريد ظلماً بين العباد أو منهم.
الثاني: أن هذه الجملة معطوفة بالواو، وذلك يوجب التناسب، والمتقدمُ في الآيتين معاً ذكر عقاب الله لعباده، وذلك ما يناسبه التنزُّه عن ظلمه لهم، ولم يتقدم ما يناسب ما ذكروه، وقد اعترف الخصم في تفسيره بأن هذا المعنى محتمل في الآية، فثبت أنه ليس في الآية ما ظاهره مذهب المعتزلة ولا ما يجب
= سعيد بن مسلمة الأموي وهو ضعيف، ووثقه ابن حبان وقال: يخطىء، وبقية رجاله ثقات.
(1)
أخرج الخطيب في " تاريخه " 1/ 317 من طريق محمد بن أحمد بن عيسى بن عبدك، أنبانا محمد بن أيوب -وهو ابن الضريس الرازي- عن محمود بن غيلان، حدثنا المؤمل، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا يونس بن عبيد، عن حميد بن هلال، عن نصر بن عاصم، عن عقبة بن مالك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" عقوبة هذه الأمة بالسيف ". والمؤمل -وهو ابن إسماعيل البصري- سيىء الحفظ. وباقي رجاله ثقات.
وأخرج الطبراني في " الكبير " -كما في " مجمع الزوائد "- من طريق أبي بردة قال: خرجت من عند عُبيد الله بن زياد، فرأيته يُعاقب عقوبة شديدة، فجلست إلى رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " عقوبة هذه الأمة بالسيف ". وقال الهيثمي 7/ 224 - 225: ورجاله رجال الصحيح!
تأويله عند أهل السنة.
النوع الثالث من شُبَهِهم: دخولُ " لعل " على كل ما طلبه الله تعالى بالأمر مما يحبه ويرضاه كقوله: {لَعَلَّهُم يَذَّكَّرونَ} [الأعراف: 130] والجواب من وجهين:
الأول: أنه لا بد من تأويل الظاهر منها على مذهب المعتزلة، فلم يكن لهم فيها إلَاّ مثل ما لأهل السنة على الجهد.
بيانه: أن " لعلَّ " في أصل وضعها (1) للترجي، وهو معنىً يُنافي علم الغيب، فالمعتزلة تقدِّر معها إرادة ما لا يقع، وهي أيضاً تُنافي علم الغيب كما مر تقريره، وأهل السنة يقدِّرون معها الطلب بالأمر، ولهم أن يُقَدِّروا المحبة والرضا، بل لهم أن يُقَدِّروا الإرادة التي بمعنى أحد هذه الأمور، أعني: الطلب، أو المحبة، أو الرضا، أو مجموعها، ويكون إطلاق الإرادة على ذلك حقيقة عرفية أو مجازاً قريباً، وتأويلهم أولى، لأنه لا ينافي علم الغيب.
وقد تَرِدُ " لَعَلَّ " لغير الترجِّي كما في قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12] فيجوز حمل ذلك على مثل هذا.
ومن هذا النوع دخول لام " كي " كذلك.
والجواب أن أهل السنة يقدرون معه ما لا ينافي علم الغيب من الطلب والمحبة والرضا والإرادة التي تَعَلَّقُ (2) بمعنى هذه المعاني كما تقدم دون إرادة الوقوع التي تختصُّ بفعل المريد، ولا تتعلق إلَاّ بالمتجدد الواقع من الممكنات، فتخصِّصه بوجهٍ دون وجهٍ، ووقتٍ دون وقت، وقدرٍ دون قدر كما قدمناه.
(1) من قوله: " فلم يكن " إلى هنا ساقط من (ش).
(2)
ساقطة من (أ).
ومذهب المعتزلة غير منصوص، ولا هو الظاهر في جميع ما يتعلقون به في هذه المسألة من الشُّبَه السمعية، ومتى قدرنا أنه يُقَدَّرعلى أهل السنة تأويل شيء من ذلك بما ذكرناه، فلهم أن يَعْدِلُوا إلى تأويل الآيات بأنها وإن وردت عامة، فإنها في المعنى خاصة بأهل الإيمان، وتخصيص العموم كثيرٌ قريب غير متعسّف، ويجور بالدليل الظني من الحديث إجماعاً، وأجازته الأئمة الأربعة، والجماهير بالقياس الظني في العمليات، والتخصيص لكتاب الله بخبرٍ واحد كلمة إجماع بين المسلمين، فكيف بالأمور العقلية الجلية، والنصوص الصحاح، والأخبار المتواترة " أن كُلاًّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له "(1)، وأن إرادة الله تعالى
(1) أخرجه من حديث عمران بن حصين: الطيالسي (742)، وأحمد 4/ 431، والبخاري في " صحيحه "(6596) و (7551) وفي " خلق أفعال العباد " ص 53، ومسلم (2649) وأبو داود (4709)، وعبد الله بن أحمد في " السنة "(691)، وابن حبان (333)، والآجري في " الشريعة " ص 174، والطبراني 18/ (266) و (267) و (269) و (270) و (272) و (273) و (274)، وأبو نعيم في " الحلية " 6/ 294، والبيهقي في " الاعتقاد " ص 94 و95. ولفظه: قيل: يا رسول الله، أَعُلِمَ أهل الجنة من أهل النار؟ قال:" نعم ". قيل: ففيم يعمل العاملون؟ قال: " كُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ له ".
وأخرجه من حديث علي: البخاري (1362) و (4945) و (4946) و (4947) و (4948) و (4949) و (6217) و (6605) و (7552)، ومسلم (2647)(7)، وأبو داود (4694)، والترمذي (2136) و (3344)، وابن ماجه (78)، والنسائي في " التفسير " من " الكبري " كما في " التحفة " 7/ 399، وأحمد 1/ 82 و129 و132 و140 وعبد الرزاق في " المصنف "(20074)، والآجري في " الشريعة " ص 171 - 172، وابن حبان (34) و (35)، وأبو يعلى (375) و (582)، والطبري 30/ 223 والبغوي في " شرح السنة " (72). ولفظه عند مسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالساً وفي يده عودٌ يَنْكُتُ به، فرفع رأسه، فقال: ما منكم من نفسٍ إلَاّ وقد عُلِمَ منزلها من الجنة والنار، قالوا: يا رسول الله فَلِمَ نعمل؟ أفلا نتَّكِلُ؟ قال: " لا، اعملوا، فكلٌّ ميسَّر لما خلق له "، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى
…
} إلى قوله: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} . =
نافذةٌ ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن {وما تَشاؤُون إلَاّ أنْ يَشاءَ الله} [الإنسان: 30].
النوع الرابع: من شُبههم ما يوردونه على جهة التشنيع من أنه يلزم أن توافق (1) إرادة الله وإرادة الشيطان، وتختلف إرادته تعالى وإرادةُ الأنبياء والأولياء، فيكون الشيطان مختصاً دونهم بموافقة الله تعالى في مراده.
والجواب: أن هذا تمويهٌ لا يمضي لوجوه:
= وأخرجه من حديث جابر: الطيالسيُّ (1737)، وأحمد 3/ 292 و293 و304، ومسلم (2648)، وابنُ حبان (336) و (337)، والآجري في " الشريعة " 174، وعبد الله بن أحمد في " السنة "(690)، والطبراني (6562) و (6565) و (6566) و (6567) و (6568)، والبغوي (74).
وأخرجه من حديث عبد الرحمن بن قتادة السلمي: أحمد 4/ 186، والحاكم 1/ 31، وابن حبان (338): وفيه: " قال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر ".
وأخرجه من حديث عمر: مالك 2/ 898، وأحمد 1/ 44 - 45، وأبو داود (4703)، والترمذي (3077)، والآجري ص 170، وفيه:" إن الله إذا خلق العبد للجنة، استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عملٍ من أعمال أهل الجنة فيُدخِلَه به الجنة، وإذا خلق العبد للنار، استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار ".
وأخرجه البزار ص 171 ولفظه: " فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة
…
".
وأخرجه من حديث هشام بن حكيم بن حزام: البزار (2140)، والآجري ص 172 وفيه:" فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار ".
وأخرجه من حديث أبي هريرة: البزار (2137)، والآجري ص 170.
وأخرجه من حديث أبي بكر: البزار (2136)، ومن حديث أبي الدرداء (2138)، ومن حديث ابن عباس: البزار (2139)، والطبراني (10899).
(1)
في (ش): توافقت.
الأول: أن الموافقة اليسيرة في بعض الألفاظ مع المخالفة والمباينة الكثيرة في المعاني مما لا يلتفت إليها إلَاّ أهل التعطيل، وبمثل هذه الحيلة عَطَّلوا الربَّ عز وجل، فنُفاة الإرادة بالجملة من المعتزلة -وهم البغدادية- لهم أن يقولوا لسائر المعتزلة: لا يجوز وصف الله بالإرادة، لأنه يوصف بها أهل الحاجة من المخلوقين، فإنها في الشاهد لا تعلق إلَاّ بما يحتاج إليه المريد، بل نفاةُ الصفات كلها قد عطَّلُوا بمثل هذه الشبهة، فقالت الإسماعيليةُ: لا يقال: إن الله حيٌّ، وهذه الصفة تطلق على الكلاب والخنازير، بل لا يقال: إنه موجود ولا شيء، لأنها صفة تطلق على كثير من المستقذرات، وأمثال ذلك مما يصح ذكره، وقد مرَّ تحقيقه في الصفات، وأنَّ مَنْ فرَّ من ذلك وصفه تعالى بصفاتِ المعدومات والمُحالات.
ونحو هذه الموافقة موافقة اليهود بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لموسى عليه السلام في ظاهر شريعته، فإنها موافقةٌ من بعض الوجوه لكنها مُخالفةٌ في المعنى، لأن موسى بشَّر بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، وأمر باتِّباعه، وكذلك نكاح التسع، مع موافقة النبي صلى الله عليه وسلم (1)، وكذا موافقة النساء له في أحكام الرجال، وأمثال هذا لا يحوج إلى ذكره مميز.
الوجه الثاني: -وهو التحقيق- أنا قد بيَّنا أن الله تعالى يكرهُ القبائح لقُبْحِها، ولا يُريدها إرادة محبَّةٍ، ولا رضا، ولا إرادة طلب وأمر، وإنما يريد عقوبة بعض أعدائه بتيسيره للعسرى كما يُريد عقوبته بالنار الكبرى كما صَدَعَتْ بذلك النصوص، وجاء به العموم والخصوص، فأين هذا من موافقة الشيطان اللعين الذي يريد وقوع (2) القبائح، لأن قُبْحَ وجوهها من معصية الله عز وجل، ومحبة الفساد والرضا بالفواحش والخبائث بحيث إن الله تعالى يكره القبائح من
(1) من قوله: " وأمر باتباعه " إلى هنا ساقط من (أ).
(2)
سقط من (أ).
الوجه الذي أحبَّها منه الشيطان، ونهى عنها من حيث أمر بها الشيطان، وأحبَّ العقوبة بها على الوجه الذي يكرهه الشيطان من الانتقام للمؤمنين، والنصر للمظلومين، والاعتبار للمتقين، والتمحيص للصالحين، والرضا لربِّ العالمين. فأين الاتفاق؟ وهل بعد هذا تضادٌّ أكبرُ منه.
وأما أنبياء الله تعالى وأولياؤه وأحبَّاؤُه، فلا يخفى على من له أدنى مُسْكةٍ من عقل رضاهم بما رضي الله، وتسليمهم لأمر الله، والرضا بالقضاء في غير المعاصي من كل وجه، وفيها من الوجه الذي قُدِّرَتْ لأجله، لا من الوجه الذي قبحت لأجله.
مثال ذلك: اليمين الواجبة شرعاً مع فجور الحالف فيها، فإنها إحدى الكبائر إجماعاً، وقد حَسُنَت، بل وجبت ورضيت شرعاً، لكن وجه القُبح فيها مكروهٌ حرام منفصل من وجه الحسن المرضي.
وكذلك سائر القبائح المقدرة، وعلى قدر تفاوتهم في الرضا بالقضاء تفاوت مراتِبُهُم في القرب منه، ولذلك اتخذ الله إبراهيم خليلاً حين عزم على ذبح ولده وقُرَّة عينه إيثاراً لرضا ربه، وألقي في النار راضياً بحيث إن جبريل قال له وهو في الهواء يَخْوِي إليها: ألك حاجةٌ؟ قال: أما إليك فلا (1).
أفمثل هؤلاء يقال لهم: إنهم يخالفون الله في مراده، ولا يدخل في ذلك ما خرج عن القدرة مما يُبتلى به الصالحون من محبة العافية لعظم ألمٍ مع منعهم لأنفسهم مما يقدرون عليه من ذلك وإن عظُمَت المشقة كالصبر في الحرب،
(1) أخرجه ابن جرير الطبري في " تفسيره " 17/ 45 من طريق معتمر بن سليمان التيمي، عن بعض أصحابه من قوله.
والثابت في هذا ما أخرجه البخاري (4563) و (4564) عن ابن عباس: (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا:{إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} .
وعدم الفرار، وما لا يحصى، مع أنه يلزم المعتزلة مثل ذلك فيما لا يخالفون فيه، فإن إرادة الشيطان قد توافق إرادة الله في اللفظ دون المعاني في مواضع كثيرةٍ.
فإن الشيطان يريد كثيراً من أفعال الله تعالى من موتِ الأنبياء صلوات الله عليهم، أو إنزالَ المتشابه، وابتلاء المؤمنين بالمصائب والفقر، وعقابِ عُصاة بني آدم، وعدم العفو عنهم، ولكن الله تعالى أراد ذلك على أحسن الوجوه، وأبلغها حكمةً، وأحمدها عاقبة، وأبعدها من المذمَّة، والشيطان على العكس في جميع ذلك.
ولو كان الشيطانُ وافق الرب عز وجل الموافقة المرضية لوافقه في إرادة الخيرات والطاعات، وكراهة المعاصي.
وقد بيَّنَّا في غير هذا الكتاب، وسيأتي مبسوطاً في مرتبة الدواعي أن الخيراتِ والطاعات هي الغالبة في جميع المخلوقات غير الجن والإنس لما ثبت من كثرة الملائكة، ومن طاعة جميع الحيوانات وغيرها، فكيف سُمي الشيطان موافقاً لله وقد خالفه في أكثر الأشياء من كل وجه، ولم يُوافقه في المعاصي النادرة التي قَذِرَها منه، بل كرهها من ذلك الوجه الحسن (1)، وأحبها من الوجه المسخوط الذي كرهها الله تعالى منه؟
والعجبُ من المعتزلة في التشنيع على أهل السنة في هذا الموضع، ونسيان ما يلزمهم فيه من الشناعة، وفي المثل:" رَمَتْني بدائِها وانْسَلَّتْ "، فإن المعتزلة هم الذين ردُّوا ملك الملك العزيز الجبار الذي هو على كل شيءٍ قدير إلى أدنى من مرتبة شيخ قرية عاجز ضعيف، فإن أدنى مشايخ القرى لا يرضون أن يُوصفوا بالعجز عن إصلاح قُراهم، وأن ما يُنفذ في قُراهم من مراد أعدائهم أكثرُ من مراداتهم.
(1) ساقطة من (أ).
وعند المعتزلة أنَّ النافذ في مملكة الله في الثقلين في الدنيا والآخرة هو مراد الشيطان دون مُراد الله إلَاّ ما لا خطر له.
بيانه: أن مراد الله بالجنة والناس في الدنيا أن يُطيعوه، وفي الآخرة أن يدخلوا الجنة، لكن الذي وافق مراد الله هم أهل الطاعة، وفي الآخرة هم أهل الجنة، وقد جاء في الحديث الصحيح " أنهم واحدٌ من الألف "(1) وهذا كلا شيء إلى الألف.
وقد تقدم تحقيق التشنيع على المعتزلة في هذا في أوائل مسألة الإرادة حيث ظنوا أنه انعكس على الله مراده في خلقه، وبيَّنَّا هناك العلم الضروري عقلاً وسمعاً أن علم الغيب يمنع من مثل ذلك مع عدم القدرة، كيف مع أتم القُدرة! وذكرنا هناك الاحتجاج بقول الله سبحانه:{وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف: 188]، وأنها تستلزم أيضاً أن من أراد به عالم الغيب الخير لم يقع في (2) السوء قطعاً، ومن تشنيعاتهم هنا
(1) أخرجه البخاري (3348) و (4741) و (6530) و (7483)، ومسلم (222)، وأحمد 3/ 32 - 33، وابن جرير الطبري 17/ 112، والبيهقي " الأسماء والصفات " ص 219 من طرق عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري ولفظه: " يقول الله عز وجل: يا آدم، فيقول: لبيك وسعديك والخيرُ في يديك، قال: أخرج بعث النار، قال: وما بعث النار؟ قال: من كل ألفٍ تسع مئة وتسعة وتسعين
…
".
وأخرجه أحمد 4/ 432، والترمذي (3168) و (3169)، والطبري 17/ 111، والحاكم 4/ 567 من حديث عِمران بن حصين، وفيه:" تسع مئة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة ".
وأخرجه أبو يعلى (3122)، وابن حبان (7354)، والطبري 17/ 112، وابن أبي حاتم في " تفسيره " فيما ذكر الحافظ ابن كثير في " تفسيره " 3/ 214، والحاكم 1/ 29 و4/ 566 - 567 من حديث أنس.
(2)
ساقطة من (أ).
على أهلِ السنة أنه يلزمهم أن يتركوا الاستعاذة من الشيطان، ويتعوذوا من الله حيث كان يجوز عليه الإضلال.
وقد تقدم الفرقُ في ذلك وأزيد هنا ذكر أبيات أجبت بها في هذا المعنى، وهي:
إن تستعذْ منه به وبفضله
…
. . . إذْ ما له مِن ثاني
فهو المجيرُ ولا يُجارُ عليه في الـ
…
ـأخُبار والقرآن والبرهان
فإن استعاذ المُستعيذُ بغيره
…
منه فذلك أكفرُ الكفران
والإستعاذة منه تعظيم وخو
…
فُ العدل إن جازى على العصيان
ومن اللعين مخافةً من خُبْثِه
…
في أمره بالكفر والطغيان
شتَّان ما بين الإله الحقِّ في
…
خِذْلانِه الفُسَّاق والشيطان
أوَ لَمْ يَقُلْ فيهم وليس يُضِلُّ إلـ
…
ـا الفاسقين بمُحْكَم القرآن
ومن اللعين تمرُّدٌ مستقبحٌ
…
لذوي التُّقى والخير والإيمان
يا جامعاً للنور والظلمات في الـ
…
ـأحكام لم تُلبِسْ على الأعيان
لم نلقَ فيما جاء منك إفادةً
…
إلَاّ بأنك أبلهُ العُميان (1)
لم تَدْرِ ما معنى التعوُّذ أوَّلاً
…
فيما فَرِحَتْ به من الهَذَيَانِ
وحَسِبْتَه لما جَهِلْتَ لذاته
…
مُستقبحاً (2) من غيرِ أمرٍ ثاني
يا قاطعين بعجزه سبحانه
…
عن لطفه طوعاً بذي العصيان
خلُّوا تعوُّذَكُم به وتعوَّذُوا
…
بنفوسِكْم من فتنة الشيطان
هذا هو الفاروق فيما بيننا
…
والجَبْرُ والتعجيز مُنتفيانِ
فدع التخبُّطَ في الضلالِ ورميَ أهْـ
…
ـلِ الحَقِّ في الأخبار بالبُهْتانِ
وتمام الكلام في هذا المعنى مستوفىً أول هذا الوهم فخذه من موضعه،
(1) في (ش): العصيان.
(2)
في (ش): " مستقبح " وهو خطأ.
ورُدَّ الشناعة على المعتزلة، وما يجب التشنيع، ولكن المبتدع يُغَيِّرُ الخُلُقَ المعتدل، وقد قال الخليل لقومه:{أفٍّ لَكُمْ ولِما تَعْبُدونَ} [الأنبياء: 67] وهو الذي وصفه الله بأنه حليمٌ أوَّاهٌ مُنيبٌ، وقال موسى عليه السلام لصاحبه:{إنَّك لَغَويٌّ مُبينٌ} [القصص: 18]، وقال يوسف لإخوته:{أنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً} [يوسف: 77] وهو الكريمُ ابنُ الكريمِ ابنِ الكريمِ ابنِ الكريم (1) كما صح في الحديث (2).
وقد قدمت في أول هذا الكتاب ما يجري من نحو هذا من الأنبياء وأهل المراتب العَلِيَّة، وقد يُحمد حيث يحتاج إليه ويكون فيه إيقاظٌ للعاقل وتنبيهٌ للغافل.
وقد تم الكلام بعون الله في الإرادة وطال، ومضمونه أن الخلاف فيها في مواضع، فتأملها، فإن الخلاف في بعضها أفحش من بعض.
الأول: القول بأن الله غير قادر على هداية العصاة مطلقاً، ولا بأن يُغيِّر بِنْيَتَهم وخِلْقَتَهم، وهذا خلاف في قدرة الله تعالى على هداية العصاة بأن
(1)" ابن الكريم " ساقط من (ش).
(2)
أخرجه أحمد 2/ 332 و416، والبخاري في " الأدب المفرد "(605)، والترمذي (3116)، وابن حبان (5776)، والحاكم 2/ 346 - 347 و570 - 571 من طرق عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.
وأخرجه أحمد 2/ 431، والبخاري (3353) و (3374) و (3383) و (3490) و (4689)، ومسلم (2378) من طريق سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه (وبعضها ليس فيه " عن أبيه ")، عن أبي هريرة قال: سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الناس أكرم؟ قال: " أكرمهم عند الله أتقاهم " قالوا: ليس عن هذا نسألُك، قال:" فأكرم الناس يوسُف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله ".
وأخرجه أحمد 2/ 96، والبخاري (3390) و (4688)، والخطيب في " تاريخه " 3/ 426، والبغوي (3547).
يخلُقَهم على غير البنية التي بناهم عليها، مثل أن يخلقهم على بنية الملائكة، والمعصومين والمؤمنين، وقد صرَّح أبو الحسين (1) وأصحابه من المعتزلة على قدرة الله تعالى على هداية العصاة بهذا المعنى، وقد قاربوا أهل السنة في هذا المعنى.
فالعجب منهم ما ألجاهم إلى تأويل آيات المشيئة بالإكراه، وأعجب من هذا أن الظاهر إجماع المعتزلة عليه، فإن إمكانه بَيِّنٌ، وقدرة الله متعلقة بجميع الممكنات عند المعتزلة.
وإنما ذكرت الخلاف فيه، لأن بعض أهل العصر من (2) المشتغلين بمذاهبهم زعم أن قواعدهم تقتضي خلاف ذلك، وهو بعيد جداً، ومن منعه منهم قهره الدليل البين، ومن جوَّزه منهم حرُم عليه تأويل آيات المشيئة بالإكراه، ووافق أهل السنة في المعنى بغير شك، وهذا كله بناء على قول المعتزلة: إن الله بنى من لا يلتطف على بِنيةٍ لا تقبل اللطف زيادة في الابتلاء، وكان قياس مذهبهم منع هذا، لأنه يكون مفسدةً، ومن أوجب اللطف كيف يحسن فعل المفسدة، ومن منعه منهم، فقد وافق أهل السنة بذلك أيضاً على قدرة الله على اللطف بالعُصاة، فتأمل ذلك.
الخلاف الثاني: نفي كثير منهم لقدرة الله على هداية العصاة باللطف مع بقائهم على البِنية التي خلقهم عليها من القساوة والعتاوة والشهوة ونحو ذلك.
وهو قول أبي الحسين وأصحابه كما بيناه في الخلاف الأول وهذا دون الذي قبله، وهو أفحش مما بعده، ولذلك خالفهم فيه أبو الحسين كما تقدم، وخالفهم فيه جميع قدماء أهل البيت كما مرَّ. ونص الإمام يحيى بن حمزة من متأخري
(1) هو أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري صاحب " المعتمد " في أصول الفقه.
(2)
" العصر من " ساقط من (أ).
أهل البيت على خلافهم كما تقدم، ولم أعلم لأكابر العترة المتأخرين موافقةً في ذلك بالنصوص.
الخلاف الثالث: خلاف من يمنعُ عقوبة العاصي بالخِذلان، وخلاصته: هل يحسن إرادة وقوع الذنب عقوبةً مع كراهة الذنب في نفسه فرقاً بين الوقوع والواقع، وكما يحسن إرادة اليمين الفاجرة من القاضي وصاحب الحق لاستيفاء الحق من الجاحد مع كراهة اليمين الفاجرة وقبحها.
وتلخيصه: حسن الشيء وقبحه باعتبار الجهتين، والحجة على من خالف فيه فِطَرُ العقول، ونصوص المنقول، كقول موسى عليه السلام:{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [يونس: 88] وكذلك ورد ذلك كثيراً في كلام الإمام المنصور بالله عليه السلام وغيره، وقد تقدم مستوفى في الإرادة.
الخلاف الرابع: خلاف من يخالف في تجويز وقوع (1) إرادة الذنب من جهة محبة غُفرانه مع كراهة الواقع الذي هو الذنب لقبحه، وهو كالأول في اعتبار الجهتين بالفرق بين الواقع والوقوع على ما تقدم تمثيله باليمين الغموس، والحجة على ذلك ما تقدم بيانه من الآيات القرآنية، والنصوص النبوية الصحيحة الشهيرة، والمعقول وقد مرَّ تقريره في الإرادة والذي يرُدُّه لا يتمسَّك بقاطعٍ، فالحجة مُنتهضةٌ لمعارضيه ولو بتلك الأحاديث وحدها.
الخلاف الخامس: خلاف من يخالف في تجويز إرادة وقوع الذنب على جهة الابتلاء بالتكليف من غير تقدُّم ذنب، ومعنى ذلك: هل يحسن إرادة الله بتقدير وقوع الذنب من العبد ليبلوه كيف عمله (2) في حسن رجوعه إليه وإنابته وذلته وخُضوعه أو عكس ذلك من إصراره وعتوه.
(1) ساقطة من (أ).
(2)
تحرفت في (ش) إلى: علمه.
والمعنى: ليظهر من العبد ما علمه الله، فيحسن مجازاته عليه، وهو تفسير قوله تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
فهل يمكن مجرد إمكان -ولو في غاية البعد- تجويز ذلك حتى يمكن تصديق السمع إن ورد بذلك؟ فالمعتزلة تمنع إرادة ذلك ووقوعه تعريضاً للثواب، ولهم هنا مُتَمسَّكٌ من السمع خاص، وهو (1) قوله تعالى:{وما يُضِلُّ به إلا الفاسقين} [البقرة: 26] وقوله: {فَلَمَّا زَاغُوا أزاغَ الله قلوبَهُم} [الصف: 5]، وقوله:{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30]، وقوله:{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] ونحو ذلك.
وبنحو الحديث الصحيح المتفق على صحته من حديث أبي هريرة " وإنما أبواه يُهوِّدانه ويُنصِّرانه ويُمجِّسانها "(2) وأمثالها، بخلاف ما تقدم فإنه ليس لهم فيه مُتَمسَّكٌ من السمع خاصٌّ، وإنما يتمسكون فيه بالعمومات، وبدعوى قطع العقول بالقبح.
ألا ترى أن الإزاغة من الله لو تقدمت الزيغ، كان يجب أن يقال فيها: فلما أزاغ الله قلوبهم، زاغوا، وذلك نقيض القرآن، ونقيضه باطلٌ وفاقاً، لكن يلزمهم خصومهم المناقضة في قولهم بخلق الخلق على الفطرة مع قولهم: بأن الله تعالى بنى العصاة على بِنيةٍ لا تقبل اللطف حتى لم يبق في علم الله وقدرته لهم لطفٌ البتة، هذه بِنيةٌ غير بِنية الأنبياء والأولياء، فكيف يقولون: قد استووا في خلقهم على الفطرة؟
وأما أهل السنة، فلا يلزمهم هذا، لأنهم لا يقولون: بُني العصاة على هذه البنية أصلاً، بل يُقِرُّون بالآية والحديث، ولا تمنع أصولهم منهما، فإن قواعدهم إنما تقتضي نفوذ مراد الله، والمنع من تعجيزه عن هداية العصاة، فيمنعون أن
(1) في (ش): وهم. وهو خطأ.
(2)
تقدم تخريجه في 3/ 387.
يكون خلقُ الله للأشقياء على الفطرة خلقاً مانعاً من وقوع ما سبق في علمه الحق من شقاوتهم، بل يكون على قواعدهم خلقهم على الفطرة خلقاً مؤكداً للحجة عليهم حيث جحدوا ما فُطِرُوا عليه من معرفة معبودهم وسيدهم بعد أن خلقوا حنفاء (1) لم يَبْنَوْا على بِنيةٍ تمنع قدرة الله على اللطف بهم كما زعمت المعتزلة، فما زالوا على الفطرة التي فطرهم الله عليها حتى غيَّروها حين كَمُلَت الحجة عليهم، وخلى الله بحكمته بين من سَبَقَ في علمه شقاوته، وبين اختبارهم (2) حتى غيَّروا الفطرة كما قال الله تعالى:{فلَمَّا زاغُوا أزَاغَ الله قلوبَهُم} [الصف: 5]، وكما قال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115]، قال الله تعالى:{وأمَّا ثَمودُ فهديناهُم} [فصلت: 17] الآية فهي كقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه " وحينئذٍ استحقَّا العقوبة بالإضلال والإزاغة.
وأما الذين سبقت لهم من الله الحسنى، فلم يُخَلِّ بينهم وبين أنفسهم، بل أمدَّهم بألطافِه فَضْلاً منه ورحمةً {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105].
ولهذا انتهت المعتزلة في اختصاص الله تعالى من يشاءُ بالبنية المخصوصة، وبالمُعافاة من الزيادة في الشَّهوات التي يعلمُ وقوع المعاصي عندها، وقد نصَّ أصحاب أبي الحسين على الأول، وأبو هاشم وجمهور المعتزلة على الثاني، ثم ينازِعُهم أهل السنة في دعوى قطع العقول هناك، وقد وافقوا في المعنى حيث جوَّزوا أن الله يبتلي المكلَّف بزيادة في الشهوة يعلم الله أنه يعصي بسببها، وإنما خالفوا في تسميته إضلالاً -وهو الصواب كما يأتي بيانه- وفي إرادة وقوع الذنب لحكمةٍ مع كراهته لقُبحه، بل زعموا أن الله تعالى إنما زاد في شهوةٍ المكَلَّفِ تلك الزيادة المُضِلَّة له في علم الله تعريضاً للثواب
(1) في (ش): خلقاً.
(2)
في (ش): اختيارهم.
العظيم، وهذا بناءً منهم على جواز تعارض العلم والإرادة، وقد تقدم منعه وضعف كلامهم فيه عقلاً وسمعاً، ولكنا لا نختار إطلاق إرادة الله لذلك، لعدم ورود النص المعلوم به (1)، بل نجوِّزه عقلاً ولا نجوِّزُهُ عقلاً (2)، ولا نرُدُّ ما ورد به من نصوص الآحاد، ونقتصر على أن الله لو شاء لهدى الناس جميعاً.
على أنه قد تقدم أن الأشعريَّة تمنع من تعلق إرادة الله بأفعال العباد كلها إلا بنوع تأويلٍ كما يأتي الآن، ثم تُعارِضُ عمومات المعتزلة هنا بمثلها، وبما هو أخصُّ منها.
وجواب أهل السنة في هذا عن الآيات أنها وردت في الإضلال لا في الابتلاء والامتحان، وبينهما فرقٌ واضح، لأنه قال:{وما يُضِلُّ به إلَاّ الفاسقين} [البقرة: 26] ولم يقل: إنه لا يبتلي إلَاّ الفاسقين، فإن الإضلال والإزاغة والمكر لا يُسمى بذلك حتى يكون عقوبةً مستحقَّةً، والابتلاء والامتحان يحسُنان من غير تقدُّم ذنب.
وأما قوله تعالى: {فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها} [الروم: 30] وحديث أبي هريرة " كل مولودٍ يولد على الفطرة " فالحق أنهما على ظاهرهما، وأن ذلك صحيح على قواعد أهل السنة كما صرَّح به ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية في الكلام على دوام النار في " حادي الأرواح "(3).
وتقرير ذلك: أن قواعد أهل السنة -كما صرح به ابن تيمية (4) - إنما تقتضي وقوع مراد الله كما أراد، وعدم تعجيزه عن شيءٍ من الأشياء كما أوضحته، وإنما أوهم المخالفة قول بعض أهل السنة: إن حديث أبي هريرة ظاهر في أحكام
(1) ساقطة من (أ).
(2)
" ولا يجوز عقلاً " لم ترد في (ش).
(3)
ص 258 - 259.
(4)
قوله: " كما صرح به ابن تيمية " ساقط من (أ).
الدنيا (1) لأن الأبوين لا يؤثِّران في أحكام أولادهما إلَاّ فيها. وقد دل الدليل القاطع عندهم على تجويز الابتلاء واللطف الذي أوجبته المعتزلة مع كثرة الظواهر المتناولة لذلك، وتحريم تأويلها لإمكان بقائها (2) من غير تأويل، بل لقيام القاطع على عدم تأويلها، أما القاطع الأول، فهو عقلي، وأما امتناع أن يكون الله تعالى خلق من عَلِمَ أنه يعصي عبثاً وليس فيه إرادةٌ لله تعالى، وهذا إجماع.
وإذا ثبت أن له فيه إرادةً، استحال عندهم عقلاً أن تكون تلك الإرادة متعلقةً بتحصيل ما ثبت في العلم أنه لا يحصل، فثبت أنها متعلقةٌ بما يوافق العلم من أفعال الله تعالى، وبعدم المنع باللطف (3) من المعاصي التي تعلق العلم بوقوعها، وهو التخلية في عبارة المعتزلة، وهذه أصح العبارات كما سيظهر بحمد الله تعالى، ومع ذلك فلا يثبُتُ تعلُّقُها بالذنب نفسه لما تقرَّر أن مذهب أهل السنة أنه يستحيل تعلُّقُ الإرادة بفعل الغير، وإنما تُعلَّق بأفعال تكون سبباً
لفعل، وأما ما يتعلق بفعل الغير (4)، فلا يكون إلَاّ المحبة للطاعات والكراهة للمعاصي، لكن المحبة تُسمى إرادةً مجازاً كما تقدم تقريره.
وأما الظواهر الواردة في ذلك، فمثل قوله تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الأعراف: 179]، وقوله:{وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] وأمثال ذلك مما يطول ذكره، وقد تقدم أو أكثره.
وبعض أهل السنة يورد فيه قوله تعالى: {وما تشاؤُون إلَاّ أنْ يَشاءَ الله}
(1) في (ش): الدين.
(2)
في (ش): بقائهما، وهو خطأ.
(3)
ساقطة من (أ).
(4)
من قوله: " وإنما تعلق " إلى هنا ساقط من (أ) و (ف).
[التكوير: 29] وليست منه، لأنَّ أوَّلها {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أنْ يَستقيم} [التكوير: 28] فهي في الإرادة المتعلقة بالطاعات، وهذه وأمثالها لا حجة فيها لما ذكرته، ولأن النصوص فيها وفي أمثالها أنه تعالى لم يُرِدْ هدايتهم، لا أنه أراد ضلالهم، ولا أراد ابتلاءهم بالمعاصي، وبينهما فرق بيِّنٌ، وهذا لطيفٌ قَلَّ من يَتنبَّهُ له، ولكن سيأتي الآن أن هذه حال التخلية بين العبد وبين نفسه، وأنها تَؤُول بالعبد إلى الضلال، والحجة لهم فيها ما تقدم من دليل العقل القاطع عندهم ومن الظواهر.
وأما القطع بتحريم تأويلها، بل بأنها على ظاهرها، فذلك لتواتر اشتهارها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، والعلم بتقريرهم لها على ظاهرها، والعادة الضرورية تمنع من عدم ذكر التأويل الحق من جميعهم في جميع تلك الأعصار لو كان هناك تأويلٌ كما مرَّ بيانه.
ثم يتقوَّى أهل السنة بعد ذلك كله بالأحاديث الواردة في ذلك لأهل البحث، وذلك في مرتبة الكلام في القدر، لكنها عامةٌ لا نصوص، لكن عمومها يَعتضِدُ بعدم تأويله كما قلنا في الظواهر سواء.
ويمكنُ توجيهُ ذلك على نظر أهل المعقول بأنه كخلق الخلق على الفطرة أولاً نعمةً (1) ورحمةً لأوليائه، ونعمةً وحُجة على من غيَّرها من أعدائه كما خلقهم لذلك في الخلق الأول في عالم الذَّرِّ كما يأتي في الوهم الثلاثين في تفسير قوله تعالى:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] ثم قدَّر الذنب في الابتداء ليغفر، ولو بتأخير العقوبة فيما لا يغفرُ، وللمِنَّة في إمهال راكبه، ثم لإقامة الحجة عليه، وعلى حلم الله وصفحه عنه حتى يستحق العقوبة بالإصرار، ثم يُقَدِّر الذنب بعد ذلك عقوبةً، ثم يُسَمَّى (2) إضلالاً ومكراً وإزاغةً لأقلِّ ذلك.
(1) في (ش): بأنه خلق الخلق على الفطرة ونعمة.
(2)
" ثم يسمى " ساقط من (ش).
وقد دلَّ القرآن على أن الله تعالى يبدأ باللطف، ثم بالخِذْلان، قال الله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [الأعراف: 94 - 95] وربما عبَّر عن عدم اللطف بالعبد حيث لا يعاقب بالإضلال، وحيث لا يستحق ثواباً على شيءٍ من طاعاته بالتخلية بين العبد وبين نفسه، كما رواه الحاكم في سبب ذنب داود عليه السلام وصحَّحه من حديث كُرَيْبٍ، عن ابن عباس -في تفسير سورة ص- (1) [قال: ما أصاب داود ما أصابه بعد القدر إلَاّ من عُجْب عجب به من نفسه، وذلك] (2) أنه قال: يا رب ما من ساعةٍ من ليلٍ ولا نهارٍ إلَاّ وعابدٌ من آل داود يعبدك، ويُصلِّي لك، أو يُسَبِّحُ أو يُكبِّرُ، فكره الله ذلك، فقال له: يا داودُ إن ذلك لم يكن إلَاّ بي، ولولا عَوْني لك ما قَوِيتَ عليه، وعِزَّتي وجلالي، لأكِلنَّك إلى نفسك يوماً، قال: فأخبرني [به] يا رب، فأصابته السيئة ذلك اليوم (3).
وكذا رُوِيَ نحو ذلك في سبب ذنب آدم عليه السلام (4).
(1) في (أ) و (ش) زيادة: " عن ابن عباس "، وليس لها موضع.
(2)
زيادة من " المستدرك " لا بد منها.
(3)
أخرجه الحاكم 2/ 433 عن إسماعيل بن محمد الفقيه بالريّ، حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس، أنبأنا سليمان بن داود الهاشمي البغدادي، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن كُريب، عن ابن عباس موقوفاً، وصححه ووافقه الذهبي مع أن رواية البغداديين عن عبد الرحمن بن أبي الزناد فيها ضعف.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 7/ 156 وزاد نسبته إلى البيهقي في " الشعب ".
(4)
أخرج الترمذي (3368)، وابن حبان (6167)، وابن سعد في " الطبقات " 1/ 27 - 28، والحاكم 1/ 64 و2/ 585 - 586 من حديث أبي هريرة، ولفظه: " لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح، عطس، فقال: الحمد لله، فحَمِدَ الله بإذن الله، فقال له ربُّه: يرحمك
وروى أحمدُ والحاكم أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث زيد بن ثابت (1) أنه قال: " وإن تَكِلْني إلى نفسي تَكِلْني إلى ضَيْعَةٍ وضعفٍ وذنبٍ وخَطيئةٍ " وصححه الحاكم (2).
= ربُّك يا آدم، اذهب إلى أولئك الملائكة -إلى ملإ منهم جلوس- فسلم عليهم، ققال: السلام عليكم، فقالوا: وعليكم السلام ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه، فقال: هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم، وقال الله جل وعلا -ويداه مقبوضتان- اختر أيهما شئت، فقال: اخترت يمين ربي، وكلتا يدي ربي يمين مباركة، ثم بسطهما، فإذا فيهما آدم وذريته، فقال: أي ربِّي، ما هؤلاء؟ فقال: هؤلاء ذريتك، فإذا كل انسان منهم، مكتوب عمره بين عينيه فإذا فيهم رجل أضْوَؤُهم -أو من أضوئهم- لم يكتب له إلَاّ أربعين سنة، قال: يا رب ما هذا؟ قال: هذا ابنك داود، وقد كتب الله عمره أربعين سنة، قال: أي ربِّ، زِدْه في عمره، قال: ذاك الذي كتبت له. قال: فإني قد جعلتُ له من عمري ستين سنة. قال: أنت وذاك. اسكن الجنة فسكن الجنة ما شاء الله، ثم أَهْبِطَ منها، وكان آدم يعُدَّ لنفسه، فأتاه ملك الموت، فقال له آدم: قد عَجِلْت، قد كُتب لي ألف سنة. قال: بلى، ولكنك جعلت لابنك داود منها ستين سنة فجحد، فجحدت ذريته، ونسي فنسيت ذريته، فيومئذ أمر بالكتاب والشهود ".
(1)
تحرف في (أ) و (ش) إلى: ابن أرقم.
(2)
أخرجه أحمد 5/ 191، والطبراني (4803)، والحاكم 1/ 516 - 517 من طريقين عن أبي بكر بن أبي مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن أبي الدرداء، عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمه هذا الدعاء، وأمره أن يتعلمه ويتعاهد به أهله في كل يوم يقول حين يصبح: لبيك اللهم لبيك وسعديك والخير في يديك
…
فذكروه مطولاً وفي آخره هذه القطعة.
وتصحيح الحاكم له مردود، لأن فيه أبا بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف.
وأخرجه الطبراني (4932) عن بكر بن سهل الدمياطي، حدثنا عبد الله بن صالح -وهو كاتب الليث- حدثني معاوية بن صالح، عن ضمرة بن حبيب، عن زيد بن ثابت.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 10/ 113 وقال: رواه أحمد والطبراني، وأحد إسنادي الطبراني رجاله وثقوا وفي بقية الأسانيد أبو بكر بن أبي مريم، وهو ضعيف.
وفي الباب عند أحمد 1/ 412 عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن سهيل بن أبي صالح =
ويعضُدُ هذه الأحاديث قوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 21]، وقوله تعالى:{فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64]، وقوله:{بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} [الحجرات: 17]، وقال يوسف عليه السلام -مع عصمة النبوة- {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف: 33] وأمثالها.
فثبت أن ابتداء التكليف في الأشقياء هو حال الفطرة، ثُمَّ التخلية بينه وبين نفسه بعد التمكين وإقامة الحجة ببلوغ الدعوة النبوية، وظهور المعجز مع الفطرة التي خُلِقَ عليها، وهذا القَدْرُ وحده هو الذي سمَّاه الله هُدىً في قوله:{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] وهو الذي سماه الله حجة في قوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165].
ولكن دلَّ ما قدمنا الآن على أن الله إذا وَكَلَ العبد إلى نفسه حينئذٍ لم يكن منه إلَاّ اختيار الضلال ما لم يتفضل الرب بما لا يجب في حكمة الله المساواة فيه بين جميع خلقه من الألطاف الزائدة على التمكين، وعلى الفطرة، وإقامة الحجة، وسبق الإرادة عند أهل السنة غير مانع من الاختيار، مثل سبق العلم عند الجميع، بل مثل سبق العلم والإرادة معاً عند الجميع في أفعال الله تعالى.
= وعبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عون بن عبد الله بن عُتبة بن مسعود، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من قال: اللهم فاطر السماوات والأرض
…
فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير
…
" قال سهيل: فأخبرت القاسم بن عبد الرحمن أن عوناً أخبر بكذا وكذا، قال: ما في أهلنا جارية إلَاّ وهي تقول هذا في خدرها.
وذكره الهيثمي في " المجمع 10/ 174 وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح إلَاّ أن عون بن عبد الله لم يسمع من ابن مسعود.
فإن قيل: فلِمَ خصَّ الله تعالى بعض عباده في أول أحوال التكليف بالتخلية مع التمكين مع علمه أن ذلك وسيلة إلى الهلاك دون من لطف به؟
قلنا: لا يجب العلم بتفصيل (1) حكمة الله في ذلك على جميع المذاهب.
وقد جوَّز أبو هاشم وجمهور المعتزلة الزيادة في الامتحان للمُكَلَّفين، مثل الزيادة في شهوات المكلف بحيث يُوقِعُهُ في المحظور، ومثلُ خلق الشيطان مع العلم بأنه يُغْوي به من ثم يكن يَغْوِي لو لم يُخْلقْ، واحتجوا بنحو قوله:{فأخْرَجَهُما مِمَّا كانا فيه} [البقرة: 36] وظواهر كثيرة نحوها، ولم يخالف منهم في ذلك إلَاّ أبو علي، وألزموه أن لا يُكلِّف الله من عَلِمَ أنه يعصي لأنهما سواء.
فقول أبي هاشم والجمهور منهم، كقولِ أهل السنة في تجويز الإضلال لحكمةٍ سواء، لم يختلفوا إلَاّ في العبارة عند التحقيق.
ومن العجب أن السيد المجاب عليه اختار ذلك وصحَّحه، ونسبه إلى الجمهور، وختم بذلك تفسيره " تجريد الكشاف المزيد فيه النكت اللطاف " فهي آخرُ مسألةٍ فيه.
وأما قول المعتزلة بخلق العُصاة على بِنيةٍ لا تقبل اللطف في قدرة الله وعلمه لحكمة لا نعلمها فغُلُوٌّ في الإضلال، وتجويزه على حدٍّ لا يُجَوِّزُ عليه أحد من أهل السنة مع تشنيعهم على من جوَّز عقوبة العصاة بالإضلال الواردِ سمعاً الجائز عقلاً، فالله المستعان.
ثم يطلبون في تفسير الإضلال التأويلاتِ البعيدة كالإضلال عن طريق الجنة في الآخرة، وتأويله بهذا الذي ذهبوا إليه أوضحُ فافْهَمْ ذلك، ولكن عند المعتزلة خلق الشياطين، وزيادة الشهوات، والدواعي الموقعة في العذاب الدائم من قبيل الإحسان بالتعريض للأجر من الله تعالى لمن عَلِمَ أنَّ ذلك
(1) في (ش): بتفضيل، وهو تصحيف.
يكونُ سبب هلاكه من قبيل إرادة هلاكهم عقوبةً لهم على عُتُوهِّم وإصرارهم. وقد تلخص أن هذا موضع الخلاف فانظر بإنصاف، ولو كان ذلك من الزيادة في الإحسان بالتعريض للأجر، لوجب أن يرغب كل عاقل إلى الله أن يجعله من أهله، فلمَّا علمنا ضرورةً من جميع العقلاء أنهم يستعيذون بالله من ذلك، علمنا أنه من قبيل العقوبة المستحقة بعظيم الذنوب، نعوذ بالله منها.
وقد تقدم هذا المعنى مبسوطاً غير أنه يختص ها هنا أنه سبب الخلاف، ولا شكَّ أن صيانة المكلَّف منه لينجو من العذاب إحسانٌ يوجب الشكر، وأن قصد الإحسان به مع العلم كالعمل بغير العلم، بل هو على خلاف المعقول بغير شكٍّ.
وقد انتهت المعتزلة هنا إلى أن الله خصَّ بعض المكلفين بأن خلقه على بِنيةٍ تقبل اللطف، ولم يزِدْ في شهوتِه زيادةً توقعه في المحظور، وهذا هو التيسيرُ لليُسرى، أو هو منه، وبعضهم بأن خلقه على بِنيةٍ لا تقبله، وبعضهم بأن خلق له شهوةً زائدة تُوقعه في المحظور زيادةً في الابتلاء، وهو التيسير للعسرى في كتاب الله، أو هو منه، وكل ذلك لحكمةٍ جلية أو خفيةٍ استأثر الله بعلمها. ذكر بعض ذلك السيد في آخر تفسيره المذكور، وبعضه ابن الملاحمي في " الفائق " كما تقدم.
فرجعوا بعد السفر الطويل، والتعسُّف الكثير في التأويل إلى ما بدأ به أهلُ السنة من تقرير النصوص على أن الله يضل من يشاء، ويهدي من يشاء، وهو الحكيم العليم، بل إلى أبعد (1) من قول أهل السنة عن مقاصد أهل السنة، فإنهم قصدوا في الابتداء المبالغة في تمكين العبد، وإزاحة أعذاره، ثم رجعوا إلى أن الله تعالى قد بنى العصاة على بِنيةٍ قاسية يمتنع قبولهم منها لجميع ألطاف الله تعالى مع أنه اللطيف لما يشاء.
(1) في (ش): بل بدا، وهو خطأ.
ولا شك أن هذا عذرٌ للعبد، وأن بِنيته عليه تنافي قولهم بوجوب إزاحة الأعذار، وتُنافي قولهم: إنهم خُلِقُوا على الفطرة.
وأما أهل السنة، فإن الله بناهم على بِنيةٍ تقبل اللطف، بل بناهم على الفِطرة، ولكنه ترك هداية من أراد لما له في الابتلاء بذلك من الحكمة. وقد بَسَطْتُ القول (1) في هذا الوجه في مرتبة الدواعي، وهي المرتبة الثالثة في الوجه الثالث من الجواب، فانظره هناك.
فهذا ما حضرني في هذا الوجه الخامس من أدلة الجميع على الإنصاف، فمن وضح له فيه بُرهان صحيح، فذاك، ومن لم يتَّضِحْ له فيه البرهان، وكل العلم فيه إلى الله سبحانه مع القطع، وعدم الشك في القواعد الثلاث:
أحدها: القطع بعموم قدرة الله تعالى.
وثانيها: القطعُ بنفوذ مشيئة الله سبحانه.
وثالثها: القطع بتمام حجة الله على عباده بالتمكين، ونفي الجَبْرِ، والله سبحانه أعلم.
المرتبة الثالثة: إطلاقهم الوجوب مع بقاء الاختيار بالنظر إلى شرط تأثير القدرة، وهو الداعي، وهو المُسمَّى بالتيسير في كتاب الله، وفي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يأتي عند أحاديث القدر في المرتبة الرابعة في قوله تعالى:{فَسَنُيَسِّرُه لِلعُسْرَى} [الليل 7]، وقوله:" كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِما خُلِقَ لهُ "(2)، وهو المعبر عنه بالهُدى والإضلال في قوله تعالى:{يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ويَهدي مَنْ يشاء} في أكثر آيات كتاب الله تعالى، وليس الإضلال يقتضي نفي أفعال العباد، ولا نفي اختيارهم فيها، كما أنَّ الهُدى لا يقتضي ذلك عند المعتزلة.
(1) في (ش): الكلام.
(2)
تقدم تخريجه ص 281.
ومن أدلةِ أهل السنة في هذا بعد تواتر نصوص السمع فيه أن من المعلوم لكل عاقل أن مجرد القدرة لا تُؤَثِّر في الفعل من غير أمرٍ ينضم إليها، فإنا قادرون على كثير من المضارِّ (1) العظيمة لأنفسنا وأولادنا من القتل وغيره، وأنواع القبائح التي لا داعي إليها مثل المشي عُراة في المجامع، وسائر أفعال المجانين وما شاكَلَها، ولا نفعل شيئاً من ذلك بمجرد قدرتنا عليه، وما ذلك إلَاّ لعدم الداعي.
ومن المعلوم ضرورة أن أهل الجنة لا يطرحون أنفسهم في النار، ولا يضرون أنفسهم بشيءٍ من المضار، وإن لم يُسلبوا التمكن والاقتدار.
وسيأتي في المرتبة الخامسة في الفرقة الرابعة الكلام على أنه في جُملته دون تفاصيله قرآني بُرهاني، وأن المعتزلة توافِق عليه، وننقلُ هناك إجماع المعتزلة على ذلك في أربع مسائل، وبإحكام النظر في هذه المسألة يتبينُ في العقل ما ورد في السمع من قدرة الله تعالى على هداية من يشاء من جميع عباده اختياراً بالدواعي والصوارف.
وبيان ذلك: أن المرجع في الترجيح الذي هو ضميمة القدرة، وشرط تأثيرها إلى الدواعي والصوارف، ولا شكَّ أن موادَّها من فعلِ الله سبحانه إجماعاً، بل الدواعي والصوارف أنفسها كلها من فعل الله سبحانه على الصحيح كما يظهر لك إن شاء الله تعالى.
والدليلُ على ذلك أن المرجع بها إلى الشهوة والنُّفرة والمحبة والكراهة، والعلم بالمنافع والمضارِّ والظن بها، والخوف والرجاء المتعلقين بها، وإنما ذكرتُ المحبة والكراهة مع الشهوة والنفرة للاختلاف في أنها مُترادفة أو لا كما مرَّ في الكلام على الصفات.
(1) في (ش): المصائب.
ولا خفاء في أن كل هذه الأمور ضرورية لا اختيار للعبد فيها إلَاّ ما يخالف فيه بعض المعتزلة في العلوم النظرية، وفي الظنون، فأمَّا العلوم (1) النظرية، فإنها متولِّدة عن العلوم الضرورية بالإجماع، لكن من النُّظار من يقول: إن النظريات عند استحضار مقدماتها ضروريات، وهو الصحيح، لأنه لا يمكن الناظر اختيار الجهل حينئذٍ، فدلَّ على أن اختياره إنما هو في النظر.
والتحقيق أن المخالف إنما يُسمِّيها اختيارية لتوقفها على الاختيار في النظر، ولا مُشاحَّة في العبارة، فالظاهر أن الخلاف لفظي، وأما الظن، فالصحيح أنه ضروريٌّ من فعل الله تعالى، أما الظن القبيح عقلاً وشرعاً الذي ليس براجح، ولا يُسمى ظنّاً إلَاّ مجازاً باشتراك، فإنه من فعل العبد، وفيه يقول الله تعالى (2):{إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثمٌ} وذلك في صورتين.
أحدهما: ما خالف الأدلة القاطعة كظن المشركين ربوبية غير الله.
وثانيهما: ما خالف القرائن الصحيحة، أو كان عن قرينة باطلة، كظنِّ الفُجَّار في الأبرار أنهم مثلهم في الاجتراء في (3) الفواحش والخبائث.
وأما سائر الظنون الراجحة الصادرة عن القرائن الصحيحة الضرورية، فإنها فعل الله كما هو اختيار شيخ الاعتزال أبي الحسين البصري وأصحابه.
والدليل على ذلك، عدم القدرة على دفعه، وهي الحجة في كل ما تنسِبُه إلى الله تعالى، وخصوصاً حين تكون القرينة ضروريةً كمشاهدة الغَيْمِ الرَّطْبِ الثقيل والبرق فجأةً، وسماع دَوِيِّ الرَّعْدِ والرياح التي يُرْسِلُها الله بُشرى بين يدي رحمته في أوقات المطر.
(1) قوله: " الضرورية وفي الظنون فأما العلوم " ساقط من (أ).
(2)
من قوله: " فإنه " إلى هنا ساقط من (أ) و (ف).
(3)
في (أ): عن.
وإنما خالف بعض المعتزلة في ذلك، لكونه قد يكون غير مُطابِقٍ، ويلزمهم في المطابقة تجويز أنه من الله، وسيأتي في مسألة الأقدار إنه قد يجوز أن يريد الله تعالى وقوع مثل ذلك لمصلحةٍ غير مستلزمةٍ لقبيح، كما جاء في قوله تعالى:{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44].
ومثلُ ذلك قوله تعالى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ} [الأنفال: 43].
ومثلُ تخويفه لأوليائه من سخطه وعذابه، وأيضاً فالبلادة والغَباوة والنِّسيان بعد العلم، والجهل والجنون المبتدأ، وضعف الحواس المتولِّد عنها الغلط في الإدراك خصوصاً ضعف البصر والحول، وظنُّ النائم واعتقادُه، كلها فعل الله بالإجماع، والظن الذي لم يطابق أهون من ذلك، بل هو بعض ما يتولد عنها مع ما لا يخُصُّه من الاعتقادات الباطلة المتولدة، وعندهم فاعل السبب والمُسَبِّب واحدٌ غالباً، ولا قُبحَ فيه عقلاً لوجهين:
أحدهما: أنه لو كان قبيحاً، لقَبُحَ من المكلف، وهو خلاف الإجماع، وكيف يقال: إنه قبيح؟! وهو مراد الله تعالى من كل مكلَّفٍ (1)، والثواب مترتب عليه عند الخصوم.
وثانيهما: أن القبح إن كان في العمل، فليس (2) بقبيح إجماعاً، وإن كان في عدم مطابقته، فلم يدل على المظنون على جهة القطع، فيقبح بانكشاف المخالفة، بل عدم المطابقة مطابقٌ لِجَنَبَةِ (3) التجوبز التي هي من لوازم الظن،
(1) في (ش): مجتهد.
(2)
من قوله: " عند الخصوم " إلى هنا ساقط من (أ).
(3)
في " اللسان ": الجانب: الناحية، وكذلك الجنبة.
وإنما دلَّت القرينة على أن أحد الجائزين (1) أقرب بالنظر إلى القرينة وحدها ما لم يعارضها ما هو أرجحُ منها، وبالنظر إلى الشخص والوقت، وما لم ينكشف خلاف ما دلَّت عليه، فمتعلّقُه الرجحان المقيَّد بهذه القيود كقول الخصم في ظن المجتهد إذا تغير، ولا بُدَّ من مراعاتها.
بل لقائلٍ أن يقول: وإن سلَّمنا أنه خطأ، فإنه من الخطأ الذي هو نقيض الإصابة، كخطأ المجاهد في الرمي، والمريض في ظنه أن الماء مُرٌّ لنفسه، لا من الخطأ الذي هو نقيض الصواب، ولا يُنسبٌ الخطأ إلى الله اسماً كسائر النقائص المخلوقة، لأنه لم يُنْسَبْ إلى العبد إلَاّ بالنسبة إلى انكشاف خلاف ما ظنه.
فثبت أن القدرة والداعي فعل الله عز وجل، ولكن حصول الفعل بهما اختياريٌّ بالضرورة، كما قال أبو الحسين وكثيرٌ من الأشعرية: إنا نُفَرِّقُ بالضرورة بين حركة المختار، وحركة المَسْحُوبِ والمَفْلُوج، ونعلم بالضرورتين العقلية والسمعية حسن الأمر والنهي، والمدح والذم فيما يتعلَّق بأفعالنا دون صُوَرِنا وألواننا، وذلك يأتي متكرراً بزيادات لا تخلو من فائدة إن شاء الله تعالى، وخلاف المعتزلة في ذلك لفظيٌّ لما يأتي في المرتبة الخامسة في الفرقة (2) الرابعة.
فإن قيل: أليس قد نصَّ الله في كتابه على أن له الحجة البالغة، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا أحد أحبُّ إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب "(3)، وتصديق ذلك في كتاب الله في قوله تعالى:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، وقوله:{لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وقوله تعالى: {أنْ تَقُولوا يومَ القيامة إنَّا
(1) في (ش): أحد المجوزين الجائزين.
(2)
في (أ): المرتبة.
(3)
تقدم تخريجه في 1/ 170.
كُنَّا عَنْ هذا غافلينَ} [الأعراف: 172]، وقوله تعالى:{أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام: 156]، وقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، وقوله:{بَلَى قَدْ جاءَتْكَ آياتي فكَذَّبْتَ بها} [الزمر: 59] جواباً على من قال: {لَوْ أنَّ الله هداني} [الزمر: 57] وأمثال ذلك كثير جداً.
ولا شكَّ أن المعلوم من السمع قرآناً وسُنةً أن مراد الله تعالى بهذا وأمثاله قَطْعُ أعذار المُكلَّفين، فإذا كانت الدواعي إلى المعاصي من فعله، والمعاصي عند حصول الدواعي واجبة الوقوع بالنظر إلى الواقع، وإن كانت ممكنة بالنظر إلى القدرة والمقدور، كان ذلك عُذراً للعبد غير مقطوع بشيءٍ، مع أنَّ الشرع ورد بقطع الأعذار التي هي دُون هذا، والجواب من وجوه:
الأول: أن من يقول بإيجاب الداعي، وتوقُّف الفعل عليه يقول: إن الشرع إنما ورد بقطع ما يُمْكِنُ في عقول العباد وعوائدهم قطعه من الأعذار دون ما يستحيل في عقولهم وعوائدهم، وهذا مما يستحيل عندهم لما سيأتي عند الكلام على تحقيق مذاهبهم من استحالة نفس الاختيار بغير ذلك فإنهم قالوا: القادر: هو الذي يتمكن من الفعل أو الترك (1) مع المرجِّح، ويستحيل وجودُ قادر يتمكن من الإتيان بكل واحد منهما بدلاً عن الآخر من غير مرجِّح، ولا يمكن دخول هذه الحقيقة في الوجود عندهم، وهو قول حُذَّاق أهل الكلام من جميع الطوائف كما يأتي تقريره.
وحاصلُ الأمر أن نذكر أمرين: جُملي وتفصيلي.
أما الجملي: فهو أن العقل إنما يوجب قطع أعذار الخلق في إنكار
(1) في (ش): والترك.
الربوبية، وتقديسها عن كل عيبٍ ونقص وظُلم، فمن أنكر أحدها، قامت عليه البراهينُ، ومن اعترف بهما، فقد اعترف بأن الله حكيم نافذ المشيئة، غنيٌّ كريم لا يجوز عليه الظلم ولا العبث، فلا يصح منه أن يُنازع ربه سبحانه وتعالى في حكمةٍ خفية لوجهين:
أحدهما: أن علمه الجُملي بحكمته كافٍ.
وثانيهما: أن علمه بكمالِ ربه سبحانه في أسمائه الحسنى ها هنا ونقص العبد في كل معنى، وكثرة جهالاته، وخُبثِ كثيرٍ من طبائعه، وغَلَبَتِها عليه يكفيه وازعاً عن سنة الشيطان -لعنَه الله- حين نازع ربه سبحانه في سجوده لآدم، وهي سنة السفهاء الذين قالوا:{مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142].
ولو كان العقل والشرع يوجبان إزاحة كُلِّ عذرٍ باطلٍ، لوجب إزاحة كل عذر لهم من قولهم:{أبْصَرْنا وسَمِعْنَا فارجِعْنا نعملْ صالحاً} [السجدة: 12]، واقتراحهم على الرسول أن يكون ملكاً، وأن يفجر الأنهار (1) لهم تفجيراً، وأن يأتيهم بآبائهم بعد موتهم، واعتذارهم بعدم رؤيتهم لربِّهم عز وجل وغير ذلك.
وإذ قد قامت الحجة على ثبوت الرب وعدله، وحكمته فلا يجب إزاحة شيءٍ بعد ذلك من لَجاجِهم بالأعذار الباطلة، وما أزاحه الله من سائر الأمور فعلى سبيل التفضل كشهادة الجوارح يوم القيامة، ولا تدل على وجوب إزاحة سائرِ الأعذار الباطلة، والله سبحانه أعلم.
وأما التفصيلي: فنقول: إما أن يُريد السائل أن يَسْلُبَ الله المكلفين الدواعي والصوارف كلها، سواءٌ كانت إلى الخير أو إلى الشر، ولا يزيد على تمكينهم بالقدرة، أو يريد أن يخلق دواعي الخير وحدها لجميع الخلق من غير
(1) في (ش): الأرض.
معارضةٍ لها بشيءٍ من دواعي الشر.
أما الأول: فظاهر السقوط، لأنه يؤدي إلى ألَاّ يقع منهم فعلٌ ألبتة، لا خير ولا شر، ولأنهم يعتذرون في عدم وقوع الخير بعدم الداعي إليه مع أن القصد بهذا قطع عذرهم هذا خُلْفٌ، ولأن سلب الدواعي يستلزم سلبَ العلوم والظنون، وذلك يستلزم سلب العقول، وحصول الجنون، وذلك أعظم الأعذار، والقصد قطعها، هذا خُلف أيضاً.
وأما الثاني: وهو خلق دواعي الخير محضةً من غير معارضة، فالكلام فيه في وجوه:
أحدها: أنه مقدورٌ لله تعالى، وهذا إجماع المسلمين.
وثانيها: أن المكلفين معه يبقون مختارين مستحقين للثناء، وهذا كذلك.
وثالثها: أنه يحسُنُ إثابتُهم مع ذلك لبقاء الاختيار، كما يحسن الثناء عليهم لذلك، وهذا مذهب أهل السنة خلافاً للمعتزلة، وقد مرَّ تقريره في الإرادة.
ورابعها: -وهو المقصود هنا- أن الله تعالى إنما ترك ذلك لِحِكَمٍ لا يعلم جميعها وتفاصيلها إلَاّ هو، وهو تأويل المتشابه، وسرُّ القدر.
وقد تقدم كلام الزمخشري في ذلك في تفسير قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُم فمِنْكُم كافرٌ ومنكم مؤمنٌ} [التغابن: 2]، وفي قوله تعالى للملائكة:{إنِّي أعْلَمُ ما لا تَعْلَمونَ} [البقرة: 30]، وسيأتي أن جهل موسى عليه السلام بتأويل فعل الخَضِر يدل على جهل الراسخين بتأويل فعل الله تعالى. وتقدم قول أبي الحسين وأصحابه من المعتزلة: إن الله قادرٌ على خلق الكفار على بِنْيِة المعصومين، وإنما لم يخلقهم كذلك لحكمة استأثر بعلمها، فرجع أهل البدعة إلى ما بدأ به أهل السنة بعد السفر البعيد كما قال شيخُ الاعتزال ابن أبي الحديد:
فيك يا أُغلوطة الفِكَرِ
…
تاه عَقْلي وانْقَضَى عُمُري
سافَرَتْ فيك العُقُولُ فما
…
رَبِحْتَ إلَاّ عَنَا السَّفَرِ (1)
وقد أشار الله سبحانه إلى الجمع بين صحة الأوامر والحكمة فيها مع العلم بنفوذ القدر فيما حكاه من قول يعقوب عليه السلام لبنيه: {لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحدٍ} [يوسف: 67] إلى آخر الآية، وسيأتي شرح ذلك في الفائدة الرابعة في وجوب العمل مع القدر، والفائدة فيه في الحكمة.
وأما التفصيل، فلا سبيل إليه، ولا مُوجب لمعرفته، ولكن في كتاب الله إشارة إلى بعض حكم الله تعالى في ذلك، وهو فيما ذكر الله من محبته الابتلاء، وتمحيص المؤمنين، وتمييز الخبيث من الطيب حيث ورد على أعظم صيغ المبالغة، والإقناط من الطمع في خلافه، حيث قال سبحانه:{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2].
وخرج الحاكم في كتاب الإيمان من " المستدرك "(2) حديث كُرْز بن علقمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئِل: هل للإسلام من منتهى؟ فقال: " نعم، أيُّما أهل بيت من العرب والعجم أراد الله بهم خيراً أدخل عليهم الإسلام، ثم تقع بهم الفتن كأنها الظُّلَلُ ". وقال: حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم، وهو كما
(1) ذكرهما في " شرح النهج " 13/ 51 في أبيات خمسة صدَّرها بقوله: ولي في هذا المعنى، ثم أنشدها، وهي:
فيك يا أُغلُوطة الفِكَرِ
…
تاه عقلي وانقضى عمري
سافرتْ فيك العقول فما
…
ربحت إلَاّ أذى السفرِ
رَجَعَتْ حَسرَى وما وَقَفَتْ
…
لا على عينٍ ولا أثرِ
فلحى الله الألى زعموا
…
أنك المعلوم بالنظرِ
كَذَبُوا إن الذي طلبوا
…
خارج عن قُوَّة البشرِ
(2)
1/ 34 وقد تقدم تخريجه في 5/ 306.
قال، فإنه رواه جماعة قالوا -واللفظ للحميدي-: حدثنا سفيان، حدثنا الزهري، حدثني عروة بن الزبير، قال: سمعت: كرز بن علقمة. وتابع سفيان معمر بن راشد (1)، ويونس بن يزيد عن الزهري، وساق حديث معمر بمتنه وحروفه سواء، ثم قال: صحيح، وليس له علةٌ، ولم يخرجاه لتفرُّد عروة بالرواية عن كُرْز، وهو صحابي خُرِّجَ حديثه في مسانيد الأئمة.
قال الحاكم: سمعتُ الحافظ علي بن عمر -يعني الدارقطني- يقول: ما يُلْزِمُ البخاريَّ ومسلماً إخراج حديث كرز " هل للاسلام من منتهى " فقد رواه عروة بن الزبير، ورواه الزهري وعبد الواحد بن قيس كلاهما عنه (2). قال الحاكم: والدليل الواضح على ما ذكره أبو الحسن أنهما جميعاً اتفقا على حديث عتْبان بن مالك، وليس له راوٍ غيرُ محمود بن الربيع.
قلت: ومن أحسن الشواهد لمعناه قوله تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16] فالفتنة في هذه الآية خاصة بأهل الاستقامة، وهي لهم خيرٌ، لقوله تعالى:{وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} [الأنفال: 17].
ومن أحسن الأدلة على إرادة الابتلاء قوله تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15]، والحجة بيِّنةٌ في قوله:{أَكَادُ أُخْفِيهَا} .
وقال ابن الأثير في " نهايته "(3): " ذكر فتناً كأنها الظُّلَلُ ": هي السحابُ أو الجبال. قلت: السحاب أنسبُ لتطبيقها.
(1) في (أ)" سفيان بن معمر "، وفي (ش):" سفيان يعمر "، وفي " المستدرك ":" تابعه محمد بن راشد "، وكله خطأ، والصواب ما أثبت.
(2)
" الإلزامات والتتبع " ص 123 للدارقطني.
(3)
3/ 160.
وفي " الصحيح في ذكر مواقع الفتن كأنها مواقع القَطْرِ "(1).
وفي حرف الفاء من " النهاية "(2): المؤمن خُلق مُفَتَّناً (3)، أي: مُمْتَحناً بالذنب. وفي " المسانيد " لهذا المعنى شواهدُ كثيرة.
ولا شك أن الله تعالى لو لم يخلق دواعي الشر، بَطَلَ الابتلاء المعلوم أنه مقصود.
وفي " نوابغ الزمخشري "(4): العزيز يبتلى من الخطوب بالأعز حتى كأن العُزَّى أخت الأعزِّ، ألا ترى كيف يبتلي الله أحبَّ خلقه إليه بأعظم البلاء، كما ابتلى خليله بالأمر بذبح ولده عليهما السلام، وقال سبحانه:{إنَّ هذا لهو البلاءُ المُبينُ} [الصافات: 106].
وقد قيل في وجه ذلك: إنه أراد ظهور ما عَلِمَ في الغيب من صحة محبة إبراهيم لربه واستحقاقه مرتبة الخُلَّة حيثُ آثر رضاه في هذا المقام العزيز.
ولذلك ثبت في " صحيح مسلم " و" الترمذي " عن ابن مسعود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لو كنتُ مُتَّخذاً خليلاً لاتخذتُ أبا بكرٍ خليلاً، لكنَّ صاحبكم خليل الله ". وزاد
(1) أخرجه أحمد 5/ 200، والبخاري (1878) و (2467) و (3597) و (7060)، ومسلم (2885) من حديث أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم أشرف على أطُمٍ من آطامِ المدينة، ثم قال:" هل ترون ما أرى؟ إني لأرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر ".
(2)
4/ 410.
(3)
أخرج أبو يعلى (483)، وعبد الله بن أحمد في زوائد " المسند " 1/ 80 و103 من طريق أبي عبد الله مسلمة الرازي، عن أبي عمرو البجلي، عن عبد الملك بن سفيان الثقفي، عن أبي جعفر محمد بن علي، عن محمد بن الحنفية، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب العبد المؤمن المُفَتَّنَ التوَّاب ". وإسناده ضعيف جداً، وذكره الهيثمي في " المجمع " 1/ 200 وقال: رواه عبد الله وأبو يعلى وفيه من لم أعرفه، ونقل الدولابي في " الأسماء والكنى " 2/ 62 عن أحمد أنه قال: هذا حديث منكر.
(4)
ص 112.
بعضُهم في أوله: " ألا إنِّي أبرأ إلى كُلِّ خليلٍ من خُلَّتِه "(1).
وروي عن جندب بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس: " ألا إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليلٌ " الحديث (2).
وهو دليل عزة مقام القرب والحب عن الشرك فيه بخلاف مقام العفو كما يأتي في شرح العزيز الغفور.
والصوفية في هذا المقام أربابُ الذوق والأحوال الرفيعة، لهم فيه كل معنى مليح، من ذلك ما أنشده الشيخ أبو بكر بن محمد (3) الشهير بداية في كتاب " المنارات ":
ولما ادَّعيتُ الحبَّ قالت كَذَبْتَني
…
فما لي أرى الأعضاء منك كواسِيا
فما الحُبُّ حتى يَلْصَقَ البطنُ بالحَشَا
…
وتذبُلَ حتى لا تُجيب المناديا
وتنحُلَ حتى ليس (4) يُبقي لك الهوى
…
سِوى مُقْلَةٍ تبكي بها وتُناجيا
ومنه دُوبَيْت (5)
(1) تقدم تخريجه في 1/ 176.
(2)
أخرجه مسلم (532)، والنسائي في " الكبرى " كما في " تحفة الأشراف " 2/ 442 - 443، وأبو عوانة 1/ 401، والطبراني (1686).
(3)
هو نجم الدين أبو بكر عبد الله بن محمد بن شاهاور الرازي المتوفى سنة 654 هـ كان حافظاً فاضلاً، غزير العلم، صاحب مقامات وكرامات وآثار. وكتابه اسمه " منارات السائرين ومقامات الطائرين ". وقد صنف قبله بنيف وثلاثين سنة مثله بالعجمية سماه " مرصاد العباد ". انظر:" الوافي بالوفيات " 17/ 579، و" شذرات الذهب " 5/ 265، و" كشف الظنون " 1/ 1823.
(4)
في الأصلين: " لا "، والمثبت من هامش (أ).
(5)
دو بيت: كلمة مركبة من كلمتين، معنى الأولى منهما: اثنان، والثانية هي بمعناها العربي، وهو فن من فنون الشعر المعربة الخارجة عن وزن البحور الستة عشر المعروفة، =
قدْ مِلْتُ إليهم (1) ومِنِّي مالُوا
…
قلبي نهبوا ومِنْ حياتي نالوا
إذ قلت بما أعيشُ قولوا قالوا
…
بالحبِّ فعِشْ وحُبُّهُم قتالُ
ومن أحسن ما قيل في هذا قصيدة المرتضى الشهرزوري ذكرها ابن خَلِّكان بطولها في ترجمته من " تاريخه "(2) لحسنها، ومن أولها:
لَمَعَتْ نارُهم وقد عَسْعَسَ اللَّيـ
…
ـلُ وملَّ الحادي وحار الدليلُ
فتأملتُها وقلبي (3) من البَيْـ
…
ـن عليلٌ ولَحْظُ عيني كليلُ
وفؤادي ذاك الفؤاد المُعَنَّى
…
وغرامي ذاك الغرامُ الدخيلُ
ومن آخرها:
نارُنا هذه تُضيء لِمَن يَسْرِ
…
ي بليلٍ لكنها لا تُنيلُ
مُنتهى الحظِّ ما تزوَّدَ مِنها اللحـ
…
ـظُ والمدركونَ ذاك قليلُ
جاءها من عرفت يبغي اقتباساً
…
وله البَسْطُ والمُنى والسُّولُ
فتعالت عن المنال وعزَّتْ
…
عن دُنُوٍّ إليه وهو رسولُ
فبقينا كما عَهِدْتَ حَيارَى
…
كُلُّ حدٍّ من دونها مغلولُ (4)
نقطع (5) الوقت بالرَّجاء وناهيـ
…
ـك بقلبٍ غِذاؤُه التعليلُ
كلما ذَاقَ كَأسَ يأسٍ مَريرٍ
…
جاء كأسٌ من الرجا مَعسُولُ
هذه حالُنا وما بلغ (6) العِلْـ
…
ـمُ إليه وكلُّ حالٍ يحولُ
= ويُشترط في الدوبيت أن لا يقال منه إلَاّ بيتان بيتان في أي معنى يريده الناظم، ولا يجوز فيه اللحن.
(1)
في (أ) و (ف): منهم.
(2)
3/ 49
(3)
في " وفيات الأعيان " وفكري.
(4)
في " الوفيات ": كل عزم من دونها مخذول.
(5)
في " الوفيات ": ندفع.
(6)
في " الوفيات ": وصل.
وإلى هذا المعنى أشار الله عز وجل حيث قال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110]، وقال عز وجل:{حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214].
ومما يُلوِّحون به إلى هذا المعنى:
وبَدا له من بَعْدِ ما اندمل الهوى
…
برقٌ تألَّق مَوْهِناً لَمَعَانُهُ
يبدو كحاشية الرداء ودونه
…
صعب الذَّرَى مُتمنِّعٌ أركانهُ
فمضى لينظر كيف لاح فلم يُطِقْ
…
نظراً إليه وصده سجَّانهُ
فالنارُ ما اشتملت عليه ضُلُوعُه
…
والماءُ ما سَمَحَتْ به أجفانُهُ (1)
وأنشد في " العوارف "(2) كانياً عن النفس والشيطان:
أيا جَبلي نَعْمَان بالله خلِّيا
…
رياح الصَّبا يَسْرِي إلي نسيمها
أجد بردها أو تشفِ مني حرارةً
…
على كَبِدٍ لم يبق إلَاّ صميمها
فإن الصبا ريحٌ إذا ما تنسَّمَتْ
…
على نفس محزونٍ تجلَّت همومُها
ورقائق ابن الفارض في هذا المعنى في السماء علوّاً، ولو أوردتها لطالت، ولا حاجة إلى التكثير بذكرها، لأنها معروفةٌ في ديوانه.
فإن قيل: هذا صحيح، ولكن الابتلاء في نفسه من المتشابه، فهل أشارَ
(1) أورد هذه الأبيات الأربعة صاحب الأغاني 16/ 283 للشريف أبي عبد الله محمد بن صالح الحسني، ولها حكاية مستطرفة ذكرها الحميدي في " جذوة المقتبس " ص 71 - 73، فانظرها فيه.
(2)
ص 112 وهي منسوبة مع بيتين آخرين لمجنون ليلى قيس بن الملوح العامري عند ابن الشجري في " حماسته " 2/ 579، وكذا في " الأغاني " 2/ 24 وأنشدها القالي في أواخر أماليه 2/ 177 لامرأة من أهل نجد.
الله عز وجل في كتابه إلى شيء من الحكم المطوية في ذلك؟
قلنا: نعم، أشار إلى ذلك بإشاراتٍ متنوعة، وأعطى كل أحدٍ من الفهم في ذلك ما شاء، ولا يحيطون بشيء من علمه إلَاّ بما شاء، فمن ذلك قوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] ونحوها في هود [7] وفي الكهف [7] فإن البلاء مضمَّنٌ معنى العلم، وهو يتعدى إلى مفعولين كما ذكره الزمخشري (1) في تفسيرها، والله لم يذكر مفعول الابتلاء الثاني في كثير من آيات الابتلاء، وذكره في هذه الآية الكريمة، فكان زيادة بيانٍ يقضي على الآيات التي لم يبين ذلك فيها. وفي معنى هذه الآيات {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] وأمثالها كثير.
وذلك يدل على أن المقصود بالابتلاء وجودُ أحسنِ العمل وأفضله، وأحسن الجزاء وأكمله، وإن وُجِد القبيح بسبب الابتلاء وتوابعه، فهو غيرُ مقصود لنفسه قصد الغايات، وإنما هو مقصودٌ لغيره قصد الوسائل والمقدمات، وذلك لما ثبت من القطع على أن الحكيم لا يريد الشر لنفسه، وهو من القواعد الفطرية القطعية. ألا ترى أن أحب الأعمال إلى الله تعالى بعد الإيمان بالله تعالى هو الجهاد، كما ثبت في " الصحيح "(2) ولذلك خلق الله الأضداد، والملائكة،
(1) 4/ 134.
(2)
أخرج أحمد 5/ 150 و163، والبخاري (2518)، ومسلم (84)، والنسائي 6/ 19، وابن حبان (4596)، والبيهقي 6/ 81 و283 و9/ 272 و10/ 273، والبغوي (2418) من حديث أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أيُّ العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله وجهادٌ في سبيله
…
وأخرجه من حديث أبي هريرة: الطيالسي (2518)، وأحمد 2/ 258 و264 و268 و287 و442 و521، والبخاري (26) و (1519)، ومسلم (83)، والترمذي (1658)، والنسائي 5/ 113 و6/ 19، و8/ 93، والبيهقي 5/ 262 و9/ 157، والبغوي (1840)، وابن حبان (4597) و (4598). =
والشياطين، والمسلمين، والكافرين، والعقول، والأهواء، والقلوب، والنفوس ليقوم سوق الجهاد، وإليه الإشارة بقوله:{والذين جَاهَدُوا فينا لَنَهْدِيَنَّهم سُبُلَنا} [العنكبوت: 69].
وروي في الحديث " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر "(1) وهو معنى صحيح، والمراد من الجهاد ما يحصل به من تمحيص المؤمنين وخلوصهم، واتخاذ الشهداء منهم، ونصرهم، وشفاء صدورهم، وتمييزهم ممن يدعي مرتبتهم الشريفة ممن ليس منهم، وكل هذا منصوص، فلا نُطَوِّلُ بذكر الآيات فيه. وإنما الذي وهب الله سبحانه لي من الفهم هنا أمران:
أحدهما: أن مقام القرب والحبِّ والخُلَّة محفوفٌ بأعظم ما حُفَّت به الجنة
= وأخرجه من حديث عبد الله بن سلام: سعيد بن منصور في " سننه "(2338)، وأحمد 5/ 451، وابن حبان (4595).
وأخرجه من حديث عبد الله بن حُبشي: أحمد 3/ 411 - 412، والنسائي 5/ 58، 8/ 94، والدارمي 2/ 331.
وأخرجه من حديث ماعز التميمي: أحمد 4/ 322، والطبراني في " الكبير " 20/ (809) و (810) و (811).
وأخرجه من حديث الشفاء بنت عبد الله: الطبراني 24/ (791).
(1)
أخرجه البيهقي صلى الله عليه وسلم في " الزهد "، والخطيب في " تاريخه " 13/ 493 من حديث جابر قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم غزاة، فقال صلى الله عليه وسلم:" قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر "، قالوا: وما الجهاد الأكبر؟ قال: " مجاهده العبد هواه ". وضعَّف البيهقي إسناده.
قال النسائي فيما ذكره الحافظ المزِّي في " تهذيب الكمال " 2/ 144.
أخبرني صفوان بن عمرو قال: حدثنا محمد بن زياد أبو مسعود من أهل بيت المقدس، قال: سمعت إبراهيم بن أبي عبلة وهو يقول لمن جاء من الغزو: قدمتم من الجهاد الأصغر فما فعلتم في الجهاد الأكبر؟ قالوا: يا أبا إسماعيل، وما الجهاد الأكبر؟ قال: جهاد القلب.
من المكاره، لأن وصف العزة يستحيلُ أن تتخلفَ عنه آثاره، وفيه أن مقام الحب غير مبتذلٍ ولا رخيص، وقد تقدم ما وقع لأهله، مثل عزم الخليل على ذبح ولده، وبراءة محمد صلى الله عليه وسلم إلى كل خليل من خُلَّتِه. وفي البخاري من حديث أبي هريرة:" ولا يزال عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنوافل حتى أُحبه، فإذا أحببتُهُ، كنت سمعه الذي يسمع به، ويصره الذي يبصر به " الحديث (1).
وقد آنس الله وحشة القاصرين حيثُ قَرَنَ العزيز بالغفور، والغفار بالرحيم، والوهاب في آيات كثيرة، وهذه نكتة نفيسة جداً.
وثانيهما: أن المقصود الأول من تمييز الخبيث من الطيب في تمحيص المؤمنين هو الخيرُ الحاصل للطيب لا الشر الحاصل للخبيث لقوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُم أيُّكُمْ أحسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2] ولم يقل: أيكم أقبح (2) عملاً.
ومن أحسن ما يحتج به على هذا بعد ما ذكرناه من كتاب الله تعالى قولُه في سورة النحل: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} [النحل: 30] إلى آخر الآيات في الوعد والوعيد والمشيئة.
وأصرح من ذلك كلِّه قصة الخَضِر وموسى لتأويل الشرِّ فيها بأنه المقصود به الخير نصاً صريحاً، وبيان أن ذلك هو تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلَاّ الله.
ومن أحسن ما يُستدلُّ (3) به على ذلك قوله تعالى: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} [الفرقان: 32 - 33].
(1) أخرجه البخاري (6502)، وأبو نعيم 1/ 4، والبيهقي في " الزهد الكبير "(690)، والبغوي (1248).
(2)
في (أ): " أحسن "، وكتب فوقها:" أخبث ".
(3)
في (ش): احتج.
قال الزمخشري (1): ولا يأتونك بمثالٍ (2) عجيبٍ من سؤالاتهم الباطلة كأنه مثلٌ في البطلان إلَاّ أتيناك نحن (3) بالجواب الحق الذي لا محيد عنه، وبما هو أحسن معنىً ومُؤَدَّى من سؤالاتهم (4).
ويُوضِّح ذلك ما اتفقوا على صحته من حديث " سبقت رحمتي غضبي "، وأن الله تعالى كتب هذا في كتابٍ ووضعه على العرش (5).
ويعضده ما انفرد به مسلم، وهو على شرط الجماعة كلهم من حديثِ علي عليه السلام، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث التوجُّه في الصلاه المعروف، وفيه " الخيرُ في يديك، والشر ليس إليك "(6).
ذكر النواوي في شرح " مسلم "(7) أن معناه ليس بشر بالنظر إلى حكمتك فيه، وهذا هو الذي أُريده، ولله الحمدُ والمنة.
وإنما قلت: إنه على شرط الجماعة لأنه من حديث عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن عبيد الله بن أبي رافع كاتب علي، عن علي عليه السلام، ولم يتخلف أحدٌ من أهل دواوين الإسلام عن تخريج حديثهما، ولا ذكر أحدٌ فيهما شيئاً مما يقع فيه كثيرٌ من الثقات من غلطٍ ولا تدليس، فلعلهم ما تركوا تخريجه إلا لظنِّهم أن هذه اللفظة تخالف القواعد، وليس كذلك، فلله الحمد.
وقد خرَّج الحاكم في تفسير سورة بني إسرائيل من " المستدرك " من حديث
(1) 3/ 91.
(2)
في (ش): " بمثل "، وفي " تفسير الزمخشري ": بسؤال.
(3)
في (أ) و (ش): بحق وهو تحريف.
(4)
في (أ): سؤالهم.
(5)
تقدم تخريجه في 5/ 275.
(6)
تقدم تخريجه في 5/ 296.
(7)
6/ 59.
صِلَةَ بن زُفَرَ، عن حذيفة بن اليمان أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:" يُجمع الناس في صعيدٍ واحد يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر، حُفاةً عُراةً كما خُلقوا سكوتاً، لا تكلم نفس إلَاّ بإذنه، فيُنادى: محمد، فيقول: لبَّيك وسعديك والخير في يديك، والشر ليس إليك "(1) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين (2).
قلت: وفيه شهادةٌ على صحة ما خرجه مسلم في " الصحيح "، وفي اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك في خطاب الرب في الصلاة في المقام المحمود ما يدل على أنه من أنفس المحامد الربانية، والحمد لله الذي هدانا لمعناه وما كنا لِنَهْتدي لولا أن هدانا الله.
ولا شك أن اسمه العزيز أحد الأسماء الحسنى يقتضي في أحد معنييه عن مرتبة القرب من الله تعالى والحبِّ له والأنس به يختص بذلك من يشاء، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة: 253].
وفي الإجادة في هذا المعنى:
وبعض معاني العِزِّ تقضي بذاك إنْ
…
تُساعِدْ عليه واسِعَاتُ المراحم
ففي عزة الخيرات رفعٌ لِقَدْرِها
…
فعَزَّ مقامُ العِزِّ عن كُلِّ لائمِ
(1) في (أ): بيديك.
(2)
أخرجه النسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 3/ 43، وابن جرير الطبري 15/ 144، والبزار (3462) من طريق شعبة، والطبري 15/ 144 و145 من طريق معمر والثوري، والحاكم 2/ 363 من طريق إسرائيل، أربعتهم عن أبي إسحاق السبيعي، عن صلة بن زفر، عن حذيفة، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
لذلك ما نال الوسيلة والثَّنا
…
بخير مقامٍ غير سَبْطِ (1) البراجمِ
كذلك عزَّ القُطْبُ فينا ودون عِز
…
زه عِزَّة الأبدال ثم الأكارمِ
وفي الشُّعرا (2) تكريرُ خير إشارة
…
بذلك في وَصفَيْ عزيزٍ وراحمِ
كذلك في صادٍ (3) تمدَّح ربُّنا
…
بِعِزَّةِ وهَّابٍ وسيع المَراحمِ
عزيزٌ على الأعدا رحيمٌ بغيرهم
…
كما جاء وصفُ المؤمنين الأكارمِ (4)
وعلى معنى قوله تعالى في تبارك [2]: {لِيَبْلُوَكُم أيُّكُم أحسَنُ عَمَلاً} وفي الكهف [7]: {لِنَبْلُوهُم أيُّهم أحسَنُ عَمَلاً} وفي الأنفال [17]: {ولِيُبْلِيَ المؤمنين منه بلاءً حسناً} .
يدل ظاهر لفظه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] على ما قدمته على أحد الوجوه الذي تحتملها الآية على قول أهل السنة، وذلك أنه يحتمل أن المعنى أنه سبحانه خلق الجميع من الكُفار والمسلمين لحصول عبادة العابدين، ووقوعها على أكمل الوجوه وأتمِّها وأفضلها وأحبها إلى الله تعالى وأجملها، وأن الكفار لو لم يخلقوا وعلم العابدون أن الله تعالى لم (5) يخلُقْ من يبغضه (6) ويعذبه، بطل الخوف والرجاء اللذان هما جناحا عملِ العاملين، وخير ما شَرُفَتْ به قلوبُ المخلصين.
وقد سبق في حكمة الله تعالى أن وقوع الأعمال على هذه الصفة وهذه
(1) في (أ): بسط.
(2)
سورة الشعراء: آية (9) و (68) و (104) و (122) و (159) و (175) و (191): {وإنَّ رَبَّكَ لَهُو العَزيرُ الرَّحيمُ} و (217): {وتَوكَّلْ على العزيز الرَّحيمِ} .
(3)
سورة ص: آية (9).
(4)
سورة المائدة: آية (54)، وسورة الفتح: آية (29).
(5)
في (ش): لا.
(6)
في (ش): يعصيه.
الأسباب أولى، وإن كان قادراً على هداية الخلق بغير سبب من هذه الأسباب، ومن غير خلق هذه الشرور.
ويوضِّح ذلك أن الشرور مقتضياتٌ لخيرات، مثل حديث الحسن بن علي عليهما السلام المشهور في القُنوت، وفيه:" وقِني شر ما قضيت "(1)، فإنه يدل على أن القضاء ليس هو الشر بنفسه، وأنَّ الشر هو المقضي، وأنه يصح القضاء بالشر مع وقاية الشر.
ويعضده حديث " إنَّ الدُّعاء يرُدُّ القضاء، وإنهما يتعالجان إلى يوم القيامة "(2)، أي: يرد المقضي كما يُرَدُّ السهم بالترس، وأما القضاء نفسه، فإنه
(1) تقدم تخريجه في 5/ 78.
(2)
حديث حسن. أخرجه ابن عدي 3/ 1068، والحاكم 1/ 492، والخطيب في " تاريخه " 8/ 453، والبزار (2165)، والطبراني في " الأوسط "(2519) من طريق زكريا بن منظور شيخ من الأنصار، عن عطاف بن خالد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يغني حذر من قدرٍ، والدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، وإن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء، فيعتلجانِ إلى يوم القيامة ". ولفظ البزار: "
…
والدعاء ينفع ما لم ينزل القدر وإن الدعاء ليلقى البلاء
…
" وصححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: زكريا مجمع على ضعفه.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 209 و10/ 146 وقال: رواه الطبراني في " الأوسط "، والبزار، وفيه زكريا بن منظور وثقه أحمد بن صالح المصري، وضعَّفه الجمهور، وبقية رجاله ثقات.
وأخرج البزار (2164) من طريق إبراهيم بن خثيم بن عراك بن مالك عن أبيه، عن جده، عن أبي هريرة مرفوعاً، وإبراهيم بن خثيم هذا قال الجوزجاني: اختُلِطَ بِأخَرَة، وقال النسائي: متروك.
وأخرج ابن ماجه (90) و (4022) والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 2/ 133، وابن أبي شيبة 10/ 441 - 442 وأحمد 5/ 277 و280 و282 والطحاوي في " المشكل " 4/ 169، والطبراني في " الكبير "(1442)، وأبو نعيم في " أخبار أصبهان " 2/ 60، =
قديم سابق للدعاء.
وقد ذكرت في " الإجادة " وفي هذا الكتاب طرفاً صالحاً في الحكمة في خلق الشرور وتقديرها على قَدْرِ ما تحتمله عقول البشر من ذلك (1)، بل على قدر ما يحتمله عقلي وحدي، وأنا من أجهل البشر.
من ذلك: أن المحاسن لا تُعرف إلَاّ بأضدادها، فلا يعرف قدر العافية إلا بالألم، ولا قدر الراحة إلَاّ بالنصب، ولا قدر الغنى إلَاّ بالفقر، ولا قدرُ الآخرة إلَاّ بما تقدمها من الدنيا والبرزخ والموقف، ولا قدر نعمة الهداية إلَاّ بوجود أهل الضلالة، حتى قال بعض المعتزلة: إن حقيقة اللذة هي الخروج من مؤلمٍ،
= والقضاعي في " مسند الشهاب "(831)، والبغوي (3418)، وابن حبان (872)، والحاكم 1/ 493 من طرق عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن عيسى، عن عبد الله بن أبي الجعد، عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يرد القدر إلَاّ الدعاء، ولا يزيد في العمر إلَاّ البِرُّ، وإن الرجل ليُحْرَمُ الرزق بالذنب يصيبه ".
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي. وقال البوصيري في " مصباح الزجاجة " 1/ 61: سألت شيخنا أبا الفضل العراقي رحمه الله عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن.
وأخرجه الترمذي (3548) والحاكم 1/ 493 من طريق يزيد بن هارون عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلَاّ من حديث عبد الرحمن وهو ضعيف في الحديث ضعفه بعض أهل العلم من قبل حفظه.
وقال الذهبي: وعبد الرحمن واهٍ، وهو كما قال.
وأخرجه أحمد 5/ 234، والطبراني 20/ (201) من طريق إسماعيل بن عياش عن عبيد الله بن عبيد الرحمن بن أبي حسين، عن شهر بن حوشب، عن معاذ. قال الهيثمي في " المجمع " 10/ 146: رواه أحمد والطبراني وشهر بن حوشب لم يسمع من معاذ، ورواية إسماعيل عن أهل الحجاز ضعيفة. وسيأتي من حديث علي وسلمان الفارسي ص 402.
(1)
" من ذلك " ساقط من (أ).
ولذلك استحالت اللذة على الرب سبحانه، وإلى ذلك الإشارة بنحو قوله تعالى:{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257].
ومن هنا كان الرب سبحانه وتعالى غياث المستغيثين، وقد ورد نحو هذا المعنى في الحديث حيث ورد أن الله تعالى لما أخرج ذريه آدم على صورة الذر وأراهم آدم رأى فيهم المُعافى والمبتلى، فقال: يا ربِّ لو سَوَّيْتَ (1) بين ذريتي، فقال تعالى: إني أردت أن تُشكَرَ (2) نعمتي (3).
(1) في (ش): لم لا سويت.
(2)
في (ش): أردت شكر نعمتي.
(3)
أخرج ابن أبي حاتم في " تفسيره " فيما نقل عنه ابن كثير في " تفسيره " 2/ 274 وفي " البداية والنهاية " 1/ 81 من طريق عبد الرحمن بن زيد أسلم، عن أبيه أنه حدث عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله لما خلق آدم مسح ظهره، فخرَّت منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة، ونزع ضلعاً من أضلاعه فخلق منه حواء، ثم أخذ عليهم العهد:(ألست بربكم، قالوا: بلى) ثم اختلس كل نسمة من بني آدم بنوره في وجهه، وجعل فيه البلوى الذي كتب أنه يبتليه بها في الدنيا من الأسقام، ثم عرضهم على آدم فقال: يا آدم هؤلاء ذريتك، وإذا فيهم الأجذم والأبرص والأعمى وأنواع الأسقام فقال آدم: يا رب لم فعلت هذا بذريتى؟ قال: كي تشكر نعمتي
…
".
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 3/ 601 وزاد نسبته إلى ابن منده وأبي الشيخ في العظمة، وابن عساكر.
وأخرجه الطبري (15363)، وعبد الله بن أحمد في زوائد " المسند " 5/ 135 واللالكائي في " أصول الاعتقاد "(991)، والحاكم 2/ 323 - 324 وصححه! من طريق الربيع بن أنس عن أبي العالية، عن أبي بن كعب من قوله. وفيه: " ورفع عليهم آدم ينظر إليهم فرأى الغني والفقير، وحسن الصورة ودون ذلك، فقال: ربِّ لولا سوَّيت بينهم؟ قال: فإني أحب أن أُشكَر
…
". =
وقالوا في هذا المعنى:
ولولا البُعْدُ ما حُمِدَ التَّلاقي
…
ولولا الهَجْرُ ما طَابَ الوِصَالُ
وقد رأينا جميع العُقلاء في الدنيا يسعون في تكميل الملاذِّ في الدنيا وتمامها بشرورٍ عظيمة على غيرهم بغير ذنبٍ من ذبح الحيوانات في الأفراح وركوبها، واستعمالها (1) في حرثِ الأرض، وحرب العدو، ونزع الماء من الآبار، وحمل الأثقال، ومنعها من شهواتها المُخِلَّة بمنافعهم مثل منع ذكور الخيل من غشيان الإناث مع الشَّبق الشديد، بل منعِ الإماء من ذلك والعبيد، وشغلهم عِوَضاً عن ذلك بالاستخدام والكدِّ.
وقد ذكر ابن عبد السلام في " قواعده "(2) الردَّ على من استقبح ذلك عقلاً من البراهمة، بأنهم غَفَلُوا عن أن بعض الحيوانات أشرف من بعض، وأن العقل يقضي بحسن انتفاع الأشرف بهلاك الأدنى أو كما قال.
ويشهد لما ذكره أن أهل الفِطَر السليمة من العرب حكموا بأن أنصف بيتٍ
= وذكره السيوطي في " الدر " 3/ 60 وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن منده في " الرد على الجهمية " واللالكائي، وابن مردويه وابن عساكر في " تاريخه ".
وأخرجه ابن أبي الدنيا في " الشكر "(165) عن خلف بن هشام، حدثنا الحكم بن سنان، عن حوشب، عن الحسن من قوله. والحكم بن سنان ضعيف.
وذكره السيوطي وزاد نسبته إلى أبي الشيخ، والبيهقي في " الشعب ".
وأخرجه أحمد في " الزهد " ص 47 من قول بكر بن عبد الله المزني.
وذكره السيوطي عن قتادة والحسن، ونسبة إلى عبد الرزاق، وابن أبي شيبة، والبيهقي في " الشعب ".
(1)
في (أ): وركوبه واستعماله.
(2)
انظر: " قواعد الأحكام " له ص 5 (فصل فيما تعرف به المصالح والمفاسد وفي تفاوتها).
قالته العرب قول حسان (1):
أتَهْجُوهُ ولَسْتَ لهُ بكُفْءٍ
…
فشَرُّكُما لٍخَيْرِكُما الفِداءُ
ومن ذلك فداء الذبيح عليه السلام بالكبش، وفداء عبد الله بن عبد المطلب بمئةٍ من الإبل، واستحسانُ أهل الفطر السليمة لذلك غير مستند إلى ورود الشرائع وإجماع العقلاء على استحسان ذلك قبل نُبوغ البراهمة وبعض المعتزلة.
ويلزمهم قبح التداوي لإخراجِ دود البطن لما فيه من دفع ضررٍ خفيف بقتل أُلوفٍ من الحيوانات التي لم يصدر من أحد منها قبيح ألبتة، فموتُ المتداوي المذنب على قولهم أهون من قتل واحدٍ من الدود.
ويلزمهم أن يقبُحُ سقي الزرع والحرث ونحو ذلك إذا أدى إلى موت ذرةٍ بسبب الماء والحرث.
ويلزمهم قبح شرب الماء من المناهل إذا كان يؤدي إلى فراغه، وفراغه يؤدي إلى موت كثيرٍ من حيواناته.
(1) ديوانه ص 64 من قصيدة يهجو بها أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه، والاستفهام في قوله: أتهجوه: استفهام إنكاري: يقول: ما كان ينبغي أن تهجوه ولست من أكفائه ونظرائه، وقوله: فشركما لخيركما الفداء جار كذلك على أسلوب الكلام المنصف، قال الزمخشري في " الكشاف " 3/ 289 في تفسير قوله تعالى:{وإنَّا أَوْ إيَّاكُم لَعَلى هُدىً} الآية: وهذا من الكلام المنصف الذي كُلُّ من سمعه من موالٍ أو مناف قال لمن خُوطِبَ به: قد أنصفك صاحبك. وفي درجة بعد تقدمه ما قدم من التقرير البليغ دلالة غيرُ خفية على من هو من الفريقين على الهدى ومن هو في الضلال المبين. ولكن التعريض والتورية أفضل بالمجادل إلى الغرض، وأهجم به على الغلبة مع قِلَّةِ شَغَبِ الخصم، وفلَّ شوكته بالهوينى، ونحوه قول الرجل لصاحبه: علم الله الصادق مني ومنك وإن أحدنا لكاذب، ثم استشهد ببيتِ حسان هذا.
وكذلك يلزمهم قبح إخراج الذِّبَّانِ من المنازل ونحو ذلك مما لو فعله أحد عُدَّ من المجانين بإجماع العقلاء.
وشبهة المُقبِّحين لذلك النظرُ إلى مَضَرَّة الحيوان فقط، من غير موازنةٍ بينها وبين ما يحصل بترك ذلك من مضارِّ أشرف الحيوان وتضررهم بفوات لذاتهم، بل قد اشتهر بين أهل المكارم ذمُّ من أشفق على ما يملكه من الأنعام ولم يُهِنْها في نيل محامد الكرام، كقول القائل في الحث على السفر لطلب الفضائل:
أثِرْها تطلُبِ القُصْوى ودَعْها
…
سُدىً يَرْمي الغروبُ بها الشُّروقا
فلم يُشفِقْ على حَسَبٍ غلامٌ
…
يكونُ على ركائبه شفيقا
ومن ذلك قوله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم} [البقرة: 216]، وقول بعض الصحابة: جاء الشرع بالكُره والرضا، فوجدنا خير الخير في الكُره أو كما قال، وسيأتي من ذلك طرفٌ صالح في مرتبة القضاء والقدر.
قال أبو حيَّان (1):
عُداتي لهم فضلٌ عليّ ومِنَّةٌ
…
فلا أذهَبَ الرحمنُ عَنِّي الأعاديا
هُمُ بحثوا عن زَلَّتي فاجتَنَبتُها
…
وهُمْ نافَسوني فاجتَنيتُ (2) المعاليا
وفي هذا ظهور اشتمال الشر على الخيرات، وشُهِرَ ذلك بين العقلاء، وأجمع العقلاء من المسلمين والفلاسفة أن الموجود في الدنيا، إما خيرٌ مَحْضٌ كالملائكة والأفلاك، أو الخير فيه غالبٌ كالنار فيها خير كثير، والمقتضى بالذات خير، والشر واقع بالتَّبَع، فإن ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شرٌّ كثير،
(1) هو محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الغرناطي الإمام الحافظ، شيخُ النحاة وإمامهم صاحب " البحر المحيط " في التفسير المتوفى سنة 745 هـ بالقاهرة، والبيتان في " الوافي " 5/ 274، و" نفح الطيب " 2/ 536، و" فوات الوفيات " 4/ 74.
(2)
في (ش): فاجتلبت، وفي " الوافي "، و" النفخ " و" الفوات ": فاكتسبت.
وجاءت النصوص بأن الآخرة هي دار الحمد والخلود، فكيف يُظنُّ في أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين أنه يريد الشرور فيها لأنفسها بمجرد صدورها عنه، وتقديره لها؟ أو كيف يُظن أن هذه عقيدة سوء في الكريمِ الرحيم، وفي فضله العظيم العميم؟!
ألا ترى أن الله تعالى إنما ذم من كذَّب بيوم القيامة، وما يكونُ فيه من الفضل، والعدل، والانتصاف، والانتقام، وذلك ما لا يحصى.
وكذلك ذمَّ مُنْكِرَ مطلق عذاب الكفار الواقع قطعاً، لأنه يستلزم إنكار يوم الدين، كقوله حكايةً عن الكفار:{وما نَحْنُ بمعذَّبين} [الشعراء: 138] وإن لم يكن نصاً صريحاً في ذلك، لجواز تعلق قبحه بالتكذيب وعدم التقييد لذلك بمشيئة الله تعالى، أو كذَّب بالحسنى لقوله تعالى:{وأمَّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغْنى وكَذَّبَ بالحُسنى} [الليل: 8 - 10] وأظهر تأويلاتها أنها المثوبة بالحسنى من الله تعالى، وهي الجنة والرحمة الدائمة في الدار الآخرة كقوله:{لِلَّذين أحْسَنُوا الحُسْنى وزيادةٌ} [يونس: 26]، وقوله:{وكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى} [النساء: 95] مع القرينة الدالة على ذلك، وهي ما ظَهَرَ نزاعهم فيه من الحياة بعد الموت، وتكرَّر الردُّ عليهم فيه.
ولذلك كان وصف الرب تعالى بنقيض أسمائه الحسنى كفراً بالإجماع، وإليه الإشارة بقول بعضهم في أنها المحكمة التي لا تأويل لها.
لِمَ لا يكونُ الجودُ والعَفْوُ مُحكماً
…
ونعتُ الكَمال مستحيلٌ بَدِيلُه
وقد قطع الغزالي وابنُ تيمية وأصحابهما من أهل السنة بهذا، وهو قول البغدادية من المعتزلة، وإنما يُنسب إليهم البدعة بنفي قدرة الله تعالى على غير هذا، ويُخالفون ابن تيمية (1) وأصحابه في القطع بدوام النار والعذاب الذي لم
(1) انظر لزاماً في الرد على من يقول بفناء النار: " الاعتبار ببقاء الجنة والنار " لتقي الدين =
يَرِدْ نَصٌّ يكفر مُنكِرَ دوامِه كما وردت النصوص بكفر منكر القيامة والجنة.
وأما مسألة دوام العذاب -نعوذ بالله ورحمته السابقة الواسعة الغالبة منه- فليس مما أجمع عليه أهلُ الإسلام، ولا عُلِمَ بالضرورة من الدين لما يأتي من اختلاف المسلمين فيه لورود الاستثناء من الخلود في غير آيةٍ من كتاب الله تعالى، ولما في ذلك من الآثار عن جماعه جِلَّةٍ من الصحابة ومُفَسِّري كتاب الله تعالى من أئمة الأثر وحُفَّاظ السنن.
ومما يدلُّ على أن المراد الأول هو الخير، وأن جميع ما يوجد من الشرور غير مقصودة لكونها شُروراً، وجوهٌ غير ما تقدم.
منها: الأحاديثُ الصحيحة الشهيرة التي فيها " لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنبون فيستغفرون الله فيُغفرُ لهم " لفظ حديث أبي هريرة.
ولفظ حديث أبي أيوب الأنصاري " لو أنكم لم يكن لكم ذنوبٌ يغفرُها الله، لجاء بقومٍ لهم ذنوب يَغْفِرُها لهم " خرَّجهما مسلمٌ وغيره. ولهما طرقٌ وشواهد تقدم ذكرها مجوّداً في الإرادة (1).
ومنها: ما ورد في كتاب الله تعالى من ترك أمور نافعة لكونها مفاسدَ مثل بسط الرزق، قال الله تعالى:{وَلَوْ بَسَطَ الله الرِّزْقَ لعبادِه لَبَغَوْا في الأرض} [الشورى: 27]، وقال سبحانه:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} الآية [الزخرف: 33].
وعكس ذلك نص القرآن الكريم على الأمرِ بأمور ضارة لكونها منافع، مثل
= السبكي المتوفى سنة (756) هـ، و" رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار " لمحمد بن إسماعيل الصنعاني المتوفى سنة (1182) هـ وكلاهما مطبوع.
(1)
تقدم تخريجه في 4/ 161.
أمر الخَضِرِ بقتل الغلام لمصلحة أبويه، كما قال تعالى:{وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا} [الكهف: 80].
ومن الأول -وهو منع بعض الخيرات لكونها مفاسد- قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59].
قال الزمخشري (1): المراد بالآيات التي اقترحتها قريش [من قلب الصفا ذهباً، ومن إحياء الموتى وغير ذلك](2) وعادةُ الله في الأمم (3) أنَّ من اقترح منهم آية، فأُجيب ثم لم يؤمن أن يُعَاجَلَ بعذاب الاستئصال. والمعنى أنها لو أُرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك. واستوجبوا العذاب المستأصل، وقد عزمنا أن نؤخر أمر من بعثت إليهم إلى يوم القيامة. انتهى بحروفه.
وهو تفسيرٌ صحيح مأثور، خرج الهيثمي في معناه ثلاثة أحاديث:
أحدها: عن جابر في تفسير سورة هود (4).
(1) 2/ 454.
(2)
ما بين حاصرتين زيادة من " الكشاف ".
(3)
في (أ) و (ش): " أمم "، والمثبت من " الكشاف ".
(4)
أخرجه أحمد 3/ 296، والبزار (1844)، والحاكم 2/ 320 و340 - 341، والطبري في " جامع البيان "(14817)، وابن حبان (6197) من طريقين عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن أبي الزبير، عن جابر قال: لما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر قال: " لا تسألوا نبيكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم آية، فكانت الناقة تَرِدُ عليهم من هذا الفجِّ، وتصدر من هذا الفجِّ، فيشربون من لبنها يوم ورودها مثل ما غبَّهم من مائهم فعقروها، فوُعدوا ثلاثة أيام، وكان وعد الله غير مكذوب، فأخذتهم الصيحة، فلم يبق تحت أديم السماء رجلٌ إلَاّ أهلكته، إلَاّ رجلٌ في الحرم منعه الحرم من عذاب الله " قالوا: يا رسول الله من هو؟ قال: " أبو رغال " أبو ثقيف. لفظ ابن حبان. وأبو الزبير لم يصرح بالتحديث.
والثاني: عن ابن عباس، ذكره في تفسير سورة الإسراء (1)
الثالث: عن الزبير (2)، ذكره في تفسير سورة الشعراء (3).
(1) أخرجه أحمد 1/ 258 وابنه عبد الله في زوائده 1/ 258، والطبري 15/ 108، والنسائي في " الكبرى " كما في " التحفة " 4/ 402، والبزار (2225)، والحكم 2/ 362، والبيهقي في " الدلائل " 2/ 271 - 272 من طرق عن جرير، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جُبير، عن ابن عباس. وقال البزار: لا نعلمه يُروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجه صحيح إلَاّ من هذا الوجه. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وهو كما قالا.
وأخرجه البزار (2226)، والبيهقي في " الدلائل " 2/ 272 من طريقين عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وأخرجه أحمد 1/ 242، والبزار (2224)، والحاكم 2/ 314، والبيهقي 2/ 272 - 273 من طريق سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن عمران -وفي بعضها: ابن الحكم- عن ابن عباس.
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 50 وقال بعد أن أورد روايتي ابن عباس: ورجال الروايتين رجال الصحيح إلَاّ أنه وقع في أحد طرقه عمران بن الحكم وهو وهم، وفي بعضها عمران أبو الحكم وهو ابن الحارث، وهو الصحيح. ورواه البزار بنحوه.
وذكره السيوطي في " الدر المنثور " 5/ 307 وزاد نسبته إلى ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والضياء في " المختارة ".
(2)
في (أ) و (ش): " ابن الزبير " وهو خطأ.
(3)
أخرجه أبو يعلى (679) عن محمد بن إسماعيل بن علي الأنصاري، حدثنا خلف بن تميم المصيصي، عن عبد الجبار بن عمر الأيلي، عن عبد الله بن عطاء بن إبراهيم، عن جدته أم عطاء مولاة الزبير بن العوام قالت: سمعت الزبير بن العوام يقول: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي قُبيس: " يا آل عبد مناف، إني نذير ". فجاءته قريش فحذَّرهم وأنذرهم. فقالوا: تزعُمُ أنَّك نبيٌّ يوحى إليك، وأن سُليمان سُخِّر له الريح والجبال، وأن موسى سُخِّر له البحر، وأن عيسى كان يُحيي الموتى؟ فادعُ الله =
وينبغي أن نذكر أحدها، وهو حديثُ ابن عباس، قال: سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، ويُنَحِّيَ الجبال عنهم، فيزدرعوا، فقيل له: إن شئت أن نستأني بهم، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوا، فإن كفروا، أُهلِكُوا كما أهلكتُ مَنْ قبلهم، قال:" بل أستاني بهم "، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وفي رواية: فدعا فأتاه جبريل، فقال: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً، فمن كفر بعد ذلك عذَّبته عذاباً لا أُعذِّبه أحداً من العالمين، وإن شئت، فتحتُ لهم باب التوبة والرحمة، قال:" بل (1) باب (2) التوبة والرحمة ". قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
قلت: ويشهدُ لصحة معناه أنه تعالى قال للحواريين لما اقترحوا نزولَ
= أن يُسَيِّرَ عنا هذه الجبال، ويفجِّر لنا الأرض أنهاراً فنتخذها محارثَ فنزرعَ ونأكلَ، وإلَاّ فادعُ الله أن يُحيي لنا موتانا فنكلمهم ويكلمونا، وإلا فادع الله أن يُصَيِّر هذه الصخرة التي تحتك ذهباً فننحت منها ويغنينا عن رحلة الشتاء والصيف، فإنك تزعم أنك كهيئتهم! فبينما نحن حوله إذ نزل عليه الوحي، فلما سُرِّي عنه قال:" والذي نفسي بيده لقد أعطاني ما سألتم، ولو شئت لكان، ولكنه خيرني بين أن تدخلوا من باب الرحمة، فيؤمن مؤمنكم، وبين أن يكِلَكُم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة، ولا يؤمن مؤمنكم، فاخترت باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم، وأخبرني إن أعطاكم ذلك، ثم كفرتم أنه معذبُكم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين " فنزلت: {وما مَنَعَنا أن نُرسِلَ بالآياتِ إلَاّ أنْ كَذَّب بها الأوَّلون} [الإسراء: 59] حتى قرأ ثلاث آيات، ونزلت:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} الآية [الرعد: 31].
وذكره الهيثمي في " المجمع " 7/ 85 وقال: رواه أبو يعلى من طريق عبد الجبار بن عمر الأيلي عن عبد الله بن عطاء بن إبراهيم وكلاهما وثق وقد ضعفهما الجمهور.
وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 652 وزاد نسبته إلى أبي نعيم في " دلائل النبوة " وابن مردويه.
(1)
ساقطة من (أ).
(2)
ساقطة من (ش).
المائدة: {فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115].
وقد ذكرت في الأقدار في الحكمة في الشرور أنَّ هذه الآية من أبين الدِّلالات على أن كثيراً مما نحسبه خيراً شر عظيم، ألا ترى أن كل أحد يجتهد في وضوح معرفة الآيات الدالة على الله، ويَوَدُّ أن يكاشف بالخوارق ليطمئن قلبه كما سأل ذلك الخليل الذي علم الله سبحانه أنه يستحقه وينتفع به ولا يتضرر كما قال فيه {وكُنَّا به عالمينَ} [الأنبياء: 51]، وأحدنا لو أُعطيَ ذلك مع ما علم الله من ركوبه الذنوب بعد ذلك كان وسيلةً إلى التنكيل به لما علم الله في عقوبات عبيد السوء من المصالح والغايات الحميدة.
ومنه: حديثُ عُبادة بن الصامت: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يريد أن يُخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رَجُلان، فقال:" خرجت وأنا أريد أن أخبركم بليلةِ القدر فتلاحى رجلان، فرُفِعَتْ، وعسى أن يكون خيراً لكم " رواه البخاري في " الصحيح "، ورواه أحمد من طريق محمد بن أبي عدي، عن حُميد، عن أنس، عن عُبادة، وهو سندٌ صحيح على شرط الجماعة (1).
ومما يعضد ذلك مع ما تقدم حديث جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لما عُرِجَ بإبراهيم صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يفجُرُ بامرأة، فدعا عليه، فأُهِلك، ثم رأى رجلاً على معصيةٍ، فدعا عليه، فأوحى الله تعالى إليه: إنه عبدي، وإنَّ قَصْرَهُ مني
(1) أخرجه الطيالسي (576)، وأحمد 5/ 313 و319 و324، وأبن أبي شيبة 3/ 73، والدارمي 2/ 27 - 28، والبخاري (49) و (2023) و (6049)، وابن خزيمة (2198)، وابن حبان (3679)، والبيهقي 4/ 311، والبغوي (1821).
وأخرجه مالك 1/ 320 عن حميد، عن أنس. لم يذكر فيه عبادة.
قال الحافظ في " الفتح " 4/ 268: وقال ابن عبد البر: والصواب: إثبات عبادة وأن الحديث من مسنده.
ثلاث: إما أن يتوب فأتوب عليه، وإما أن يستغفرني فأغفر له، وإما أن أُخْرِجَ من صلبه من يعبدني، يا إبراهيم أما علمتَ أن من أسمائي أنِّي أنا الصبور" رواه الطبراني (1)، وسيأتي.
وقد أذكرني هذا قول يحيى بن معاذ رضي الله عنه في قوله تعالى: {فقُولا له قَوْلاً ليناً} [طه: 44]: هذا لطفك بمن قال: أنا الله، فكيف لطفك بمن قال: أنت الله؟ (2).
وفي " الصحيح " أن الله كتب الإحسان على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتم فأحْسِنُوا القِتْلَة " (3)، وهذا في قتل الكافر المعاقب بالقتل.
وخرج أحمد (4) من حديث عُبادة بن الصامت أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:
(1) ذكره الهيثمي في " المجمع " 8/ 201 وقال: رواه الطبراني في " الأوسط " وفيه علي بن أبي علي اللهبي، وهو متروك.
(2)
ذكره ابن الجوزي في " زاد المسير " 5/ 288.
وأخرج ابن أبي حاتم فيما ذكر السيوطي في " الدر المنثور " 5/ 580 عن الفضل بن عيسى الرقاشي أنه تلا هذه الآية: {فقُولا له قَولاً لَيِّناً} فقال: يا من يتحبب إلى من يُعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه.
(3)
أخرجه من حديث شداد بن أوس: أحمد 4/ 123 و124 و125، وعبد الرزاق (8603) و (8604)، والطيالسي (1119)، والدارمي 2/ 82، ومسلم (1955)، وأبو داود (2815)، والترمذي (1409)، والنسائي 7/ 227، وابن ماجه (3170)، وابن الجارود (899)، وابن حبان (5883) و (5884)، والطبراني (7114) - (7123)، والبيهقي 8/ 60 و9/ 68 و280، والبغوي في " شرح السنة "(2783).
(4)
أخرجه أحمد 5/ 318 - 319 عن حسن، عن ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن جنادة بن أبي أمية، عن عبادة بن الصامت. وابن لهيعة ضعيف.
وفي الباب عن عمرو بن العاص عند أحمد 4/ 204، وذكره الهيثمي في " المجمع " 1/ 59 - 60 وقال: وفي إسناده رشدين وهو ضعيف. =
يا رسول الله، أيُّ الأعمال أفضل؟ قال:" الإيمان بالله، وتصديقٌ به، وجهادٌ في سبيله "، قال: أريد أهون من ذلك، قال:" السماحة والصبر " قال: أريدُ أهون من ذلك، قال:" أن لا تَتَّهِم الله تبارك وتعالى في شيءٍ قَضَى لك ". وله شاهدٌ وطُرُقٌ في " مجمع الزوائد ".
ويأتي في أحاديث الأقدار والرِّضا بها ما يُقوي هذا خصوصاً فيما قضاه الله تعالى للمؤمن، وأنه خيرٌ له، كما شهد لذلك قوله تعالى:{وَعَسى أنْ تَكرَهُوا شَيْئاً وهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] الآية.
فبمجموع هذه الأمور مع صحة قبح إرادة الشر لكونه شَراً يقتضي قيام الحجة على حكمة الله تعالى في كل ما قدَّره، وأنه تعالى مُنَزَّهٌ عن الظلم، بل عن العَبَثِ واللعب الذي لا يضُرُّ أحداً.
فيجب القطع بأنَّ جميع ما تكرَهُ العقول من أفعاله وأقداره غيرُ خالٍ عن الحِكَمِ، والمصالح، والغايات والحميدة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى للملائكة:{إنِّي أعْلَمُ ما لا تعلَمُون} [البقرة: 30] فلو لم تكن المصالحُ مراعاة في أفعاله ما سألت عن ذلك الملائكة، ولا كان الجواب عليهم بسعة العلم.
= وعن عمرو بن عَبَسَةَ عند أحمد 4/ 385 ولفظه: قلت: يا رسول الله من تبعك على هذا الأمر؟ قال: " حر وعبد "، قلت: ما الإسلام؟ قال: " طيب الكلام، وإطعامُ الطعام " قلت: ما الإيمان؟ قال: " الصبر والسماحة " قال: قلت: أيُّ الإسلام أفضل؟ قال: " من سلم المسلمون من لسانه ويده "، قال: قلت: أي الإيمان أفضل؟ قال: " خلق حسن " .... وفي إسناده شهر بن حوشب، وهو ضعيف، وبعضهم يحسن حديثه.
وقد تقدم تخريج قوله صلى الله عليه وسلم: " أُرسلت بالحنيفية السمحة " في 1/ 175، وقوله في بداية الحديث:" أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، وتصديق به، وجهاد في سبيله " له شواهد كثيرة صحيحة منها حديث أبي ذر وأبي هريرة، وهما عند ابن حبان (152) و (153).
وقصةُ موسى والخضر صريحةً في ذلك كافية لمن كان له أدنى حظ من عقل أو إيمان، ولا يقال: هلَاّ ترك الله خلق الغلام الذي أمر الخَضِر بقتله، لأنه سبحانه لو ترك ذلك وأمثاله لم يكن شيءٌ من الشرور والابتلاء، وإنما كلامنا في أن الحكمة الخفية اقتضت ذلك لما يُعلَمُ ولما لا يُعْلَمُ.
ألا ترى أن الله تعالى لو لم يخلُقِ الغلام، ويأمر الخضر بقتله، لم تكن قصة الخضر وموسى، ولا علمنا هذا الدليل القاطع على أن أفعال الله المتشابهة لها تأويلاتٌ حسنة في العقول، فإنا لم نَجِدْ في السمع دليلاً على ذلك أوضح من قصتهما، فقد حصل بوقوع هذا الشر، وظهوره حجةٌ قاطعة على أن الله لا يريد الشر لنفسه، وإلا لما احتاج الخَضِر إلى تأويل ذلك لموسى، ونحو ذلك من الحكم.
وأما قولهم: إن طلب الإيمان من المؤمن مع رُجحانه نظيرُ طلب تحصيل الحاصل، وطلبه من الكافر مع مرجوحيته مثل طلب تحصيل الممتنع، فمردود.
أما الأول: فلأنَّ الطلب من المؤمن هو الداعي الحامل على الإيمان، فلم يكن طلباً لتحصيل الحاصل، وكيف يقال ذلك ولولا توجُّهُ الطلب إليه لم يُفْعَلْ، ولا كان المطلوب طاعةً، ولا كان مؤمناً أصلاً؟!
وأما الثاني: فقد تقدم في الإرادة أنه يستحيل تعلقها بما عَلِمَ المريد أنه لا يكون، فكيف يتوجه حقيقة الطلب الذي تصحبه الإرادة إلى ما عَلِمَ أنه ليس بحاصل؟ وإنما يتوجه إلى الكفار لفظُ الأمر لقيام الحجة، وغير ذلك مما استأثر الله تعالى بعلمه، لا ما توهمه السائل من إرادته سبحانه أن يبطلوا أقداره الماضية ويعارضوا مشيئته النافذة، وعلمه الحق، والمعتزلي يَفِرُّ من سبق الإرادة، ولا فرق بين سبقها وسبق العلم في وجوب الكائنات مع بقاء الاختيار باعتبار الجهتين.
ولنختم ذلك بنكتة نفيسة، هي سر هذا الكلام كله ولبابه، وذلك أن التعذيب بمجرد الاستحقاق بمنزلة المباح، وهو حقيقة العبث في حقه تعالى،
لأنه لا يترجَّح إلَاّ بالشهوات والأهواء، ويستحيل وقوعه من الله من غير مرجِّحٍ بالنظر إلى الحكمة، فوجب القول بأن عذاب الكفار المقطوع بوقوعه راجحٌ لحكمةٍ غير الذنوب، وهو قول البغدادية كالمرجِّح لآلام الأطفال والبهائم سواء، لكن الرب سبحانه وتعالى أحبَّ أن يضُمَّ إلى تلك الحكمة وقوع العذاب الراجح في نفسه قبل الذنوب بسبب الذنوب على جهة العقوبة عليها، لما في ذلك من صلاح المؤمنين، ومن الغايات الحميدة المجهولة مع ما ذكرته أو علم أن ذلك لا يحسن أو لا يكون أحسن إلَاّ بذلك.
ونظير ذلك إخراجُ آدم من الجنة، فإنه راجحٌ من غير ذنب، لأنه خلق في علم الله خليفةً في الأرض كما نصَّ عليه القرآن، ثم جعل الله ذلك الخروج من الجنة مقدَّراً بسبب الذنب، وعقوبةً عليه لمصالح استأثر الله بعلمها، منها (1): المنُّ على آدم بالتوية وجعله أُسوةً لأولاده، وغير ذلك من امتحان الملائكة وسؤالهم وجوابهم وحكايته في الكتاب، وانتفاع أهل الإيمان بذلك.
ولهذا جاء الحديث الصحيح بأن الرسل والكتب قطعُ عُذْرٍ لا قطع حجة (2)، والله سبحانه أعلم.
وقد تقدم في الإرادة مجوّداً مبسوطاً فليراجع، وفي الكلام على الأطفال، وإقامة الحجة عليهم ما يُقوِّي ذلك كما سيأتي.
فإن قيل: لو كان الخير هو مقصود الرب الأول مع أنه تعالى على كل شيءٍ قدير، وبكل شيءٍ عليم، وجب أن يكون هو الغالب، ويكون الشرُّ هو النادر، وقد قال الله تعالى:{وقليلٌ مِنْ عِباديَ الشكورُ} [سبأ: 13]، وجاء في الحديث:" أن السَّالِمَ يوم القيامة واحدٌ من ألفٍ "(3).
(1) في (ش): مثل.
(2)
تقدم تخريجه من حديث المغيرة بن شعبة وعبد الله بن مسعود في 5/ 58.
(3)
تقدم تخريجه.
فالجواب: أن السائل غفل عن النظر إلى جميع المخلوقات، ولم يذكر الا الجن والإنس، وقد قال الله تعالى:{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38]، بل قال تعالى في الحجارة:{وإنَّ مِنْها لما يَهْبِطُ من خَشيةِ الله} [البقرة: 74]، ودخول حرف التأكيد، وتخصيص بعضها ينافي التأويل مع بطلان موجبه كما هو مقرَّرٌ في موضعه.
وإنما تأوَّلوا ذلك بأنه مجاز بمعناه (1) الحقيقي أن الله تعالى يُهْبِطُها بقدرته، ويُصَرِّفُها بمشيئته، وذلك يستلزم أنها تهبِطُ من خشية الحَجَّارين، بل من خشية المعاول والفُؤوس مجازاً، وهذا يُبطل ما سِيقَتْ له الآية من كون هذه الحجارة المخصوصة أرقَّ من قلوب أولئك، لأن قلوبهم مثل هذه الحجارة في هذا المعنى المجازي، فإخبار أحكم الحاكمين بما يرجع حاصله إلى مثل هذا المعنى المعلوم قبل الخبر بذلك بعيدٌ.
وقد صحَّ حنين الجذع لفقد الذكر، وضمُّ رسول الله صلى الله عليه وسلم له حتى سكن، وتعليل رسول الله صلى الله عليه وسلم له بالضَّمِّ دليل وَجْده حقيقةً (2).
(1) في (ش): فمعناه.
(2)
أخرجه الشافعي 1/ 142 - 143، وعبد الرزاق (5254)، وابن أبي شيبة 11/ 485 - 486، وأحمد 3/ 293 و295 و300 و306 و324، والدارمي 1/ 16 - 17 و17 و366، والبخاري (918) و (3584) و (3585)، والنسائي 3/ 120، وابن ماجه (1417)، وابن حبان (6508)، وأبو نعيم في " دلائل النبوة "(303)، والبيهقي في " السنن " 3/ 195، وفي " الدلائل " 2/ 556 و560 و561 و562 و563، والبغوي (3724) من طرق عن جابر.
وأخرجه الدارمي 1/ 15، والبخاري (3583)، والترمذي (505)، وابن حبان (6506)، والبيهقي في " السنن " 3/ 196، وفي " الدلائل " 2/ 556 و557 و557 - 558 من حديث ابن عمر.
وأخرجه أحمد 3/ 226، والدارمي 1/ 19 و367، وابن ماجه (1415)، والترمذي =
وكذا صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أحد: " إنه جَبَلٌ يُحبُّنا ونُحِبُّه "(1).
وقال موسى عليه السلام: " ثوبي حَجَرُ، ثوبي حجر، ثوبي حجر "، وضرب الحجر حين فرَّ ثوبه (2).
= (3631)، وأبو يعلى (2756) و (3384)، وابن خزيمة (1776)، وابن حبان (6507)، وأبو القاسم البغوي في " الجعديات "(3341)، والبيهقي في " دلائل النبوة " 2/ 559 من حديث أنس.
وأخرجه الدارمي 1/ 17، وابن ماجه (1414) من حديث أُبي بن كعب.
وأخرجه الدارمي 1/ 18، والبيهقي في " الدلائل " 2/ 558 من حديث ابن عباس.
وأخرجه ابن سعد 2/ 10، والبيهقي 2/ 559 - 560 من حديث سهل بن سعد.
(1)
أخرجه مالك 2/ 889، وعبد الرزاق (17170)، وأحمد 3/ 140 و149 و240 و242 - 243، وابن شبة في " تاريخ المدينة " 1/ 81، والبخاري (2889) و (2893) و (3367) و (4083) و (4084) و (5425) و (6363) و (7333)، ومسلم (1393)، والترمذي (3922)، وابن ماجه (3115)، وأبو يعلى (3139)، وابن حبان (3725) من حديث أنس.
وأخرجه البخاري (1481)، ومسلم (1392)، وابن شبة 1/ 82 من حديث أبي حميد الساعدي.
وأخرجه أحمد 2/ 337، وابن شبة 1/ 82 من حديث أبي هريرة.
وأخرجه أحمد 3/ 443 من حديث عقبة بن سويد الأنصاري.
(2)
أخرجه همام بن منبه في " صحيفته "(61)، وأحمد 2/ 315 و515، والبخاري (278) و (3404)، ومسلم (339) و (1841)، والترمذي (3221)، وأبو عوانة 1/ 281، والطبري في " جامع البيان " 22/ 52، وابن حبان (6211)، والبغوي في " معالم التنزيل " 3/ 545 من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كانت بنو إسرائيل يغتسلون عُراةً، ينظر بعضهم إلى سَوأةِ بعضٍ وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده، فقالوا: والله ما يمنَعُ موسى أن يغتسل معنا إلَاّ أنه آدَرُ، قال: فذهب مرةً يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، ففَرَّ الحجر بثوبه، قال: فجَمَحَ موسى بإثره يقول: ثوبي حجرُ، ثوبي حجرُ، حتى نظرت بنو إسرائيل إلى =
وسبَّحت الجبال مع داود بالنص (1).
وقال الله تعالى في الأرض: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 4 - 5] وجوَّد الرازي تفسيرها في " مفاتح الغيب "(2)، ورد على المبتدعة تأويلها. وقد بسطت هذا في " الإجادة "(3).
ومنه: {قالَتا أَتَيْنا طائِعينَ} [فصلت: 11]، وأبعد من ذلك كله عن التأويل {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] وفي " النهج "(4) تقريرها عن علي عليه السلام.
ففي هذه الآية تفضيل هذه المخلوقات في اختيارها على الإنسانِ، وتأويلُها
= سوأةِ موسى، قالوا: والله ما بموسى من بأسٍ، فقام الحجرُ حتى نظر إليه، قال: فأخذ ثوبه، فطَفِقَ بالحجر ضرباً ". قال أبو هريرة: والله إنه بالحجر نَدَبٌ ستة أو سبعة، ضَرْبُ موسى بالحجر.
(1)
في قوله تعالى: {وسَخَّرنا مع داودَ الجبالَ يُسَبِّحْنَ والطيرَ} [الأنبياء: 79]، وقوله تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ: 10]، وقوله تعالى:{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 18 - 19].
(2)
32/ 59 - 60.
(3)
قلت: ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في هذا الباب، وهي مدرجة في مجموعة الرسائل التي صدرت بتحقيق الدكتور رشاد سالم رحمه الله.
(4)
ص 458، ونصه: ثم أداء الأمانة فقد خاب من ليس من أهلها، إنها عُرِضت على السماوات المبْنِيَّة، والأرَضين المدحوة، والجبال ذاتِ الطُّول المنصوبة، فلا أطول، ولا أعرض، ولا أعلى، ولا أعظم منها، ولو امتنع شيءٌ بطولٍ أو عَرْضٍ أو قوَّةٍ أو عِزٍّ لامتنعن، ولكن أشفقن من العقوبة، وعَقَلْنَ ما جَهِلَ من هو أضعفُ منهن، وهو الإنسان {إنَّه كانَ ظلوماً جهولاً} .
بمجرد التخيل، والجزم بذلك ينافي بلاغة الكتاب العزيز، وجزالته، وبُعده عن الهزل، ورفعته، والذي جرَّأ من تأوَّل هذه الأشياء ظَنُّ العلم ودعواه {وَمَا أُوتِيتُم مِنَ العِلْمِ إلَاّ قليلاً} [الإسراء: 85] وقد بسطتُ الكلام في هذه المسألة في غير هذا الموضع، ولله الحمد.
وقال تعالى: {ويَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8]، والأحاديثُ طافحة في ذلك، وقصة (1) النملة وكلامها مع سليمان عليه السلام، وقصةُ الهُدهُد تُغني عن التطويل بذكر الأخبار في ذلك.
وقد جاء في كثرة الملائكة من الآثار ما لا يتَّسِعُ له هذا الموضع، ممن ذكره ابن كثير في أول " البداية والنهاية "(2).
قال ابنُ قيم الجوزية في " الجواب الكافي "(3): ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما من حركات (4) الأفلاك، والشمس والقمر والنجوم والرياح والسحاب والمطر والنباتِ، وحركات الأجنَّة في بُطون أمهاتها، فإنها بواسطة الملائكة المدبِّرات أمراً، والمُقَسِّمات أمراً، كما دلَّ على ذلك نصوص القرآن والسنة في غير موضعٍ، والإيمان بذلك من تمام الإيمان بالملائكة (5)، فإن الله وَكَّلَ بالرحم ملائكةً، وبالقَطْر ملائكةً، وبالنَّبات ملائكة، وبالروح والأفلاك والشمس والقمر والنجوم، ووكَّل بكل عبدٍ أربعةً: كاتِبَيْنِ عن يمينه وشماله، وحافِظَيْنِ من بين يديه ومن خلفه، وملائكةً تَوَلَّى قبض روحه وتجهيزها إلى مُستقرِّها من جنةٍ أو نار، وملائكةً موكَّلةً بمساءلته وامتحانه في قبره وعذابه أو
(1) في (أ) و (ش): وفي قصة.
(2)
1/ 35 - 49.
(3)
ص 239.
(4)
في (أ): حركة.
(5)
من قوله: " والمدبرات أمراً " إلى هنا ساقط من (ش).
نعيمه، ووكَّل بالجبال ملائكة، وبالسحاب ملائكة، ووكَّل بغرس الجنة ملائكة إلى آخر ما ذكره في ذلك، وأحال به إلى كتابه الذي صنفه في أقسامِ القرآن العظيم (1).
وخرَّج الهيثمي (2) من حديث أبي أُمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وُكِّلَ بالمؤمن تسعون ومئة مَلَكٍ يَذُبُّون عنه ما لم يُقَدَّرْ عليه، [من ذلك: البصر تسعة أملاك] يذُبُّون عنه كما تذُبُّون عن قصعة العسل الذباب في اليوم الصائف، وما لو بدا لكم لرأيتموه على كل جبلٍ وسهلٍ، كلُّهم باسط يديه فاغِرٌ فاه، وما لو وُكِلَ العبد إلى نفسه طَرْفَةَ عينٍ خَطِفَتْهُ الشياطين " انتهى من حديث عُفير بن معدان.
وفي الحديث: " أنه يدخل البيت المعمور في السماء من الملائكة كل يوم سبعون ألف ملكٍ لا يعودون إليه أبداً "(3).
(1) المسمى " التبيان في أقسام القرآن " ص 174 - 176.
(2)
7/ 209، ونسبه إلى الطبراني، وهو في " معجمه الكبير "(7704) من طريق عفير بن معدان، عن سليم بن عامر، عن أبي أمامة وهذا سند ضعيف جداً عفير بن معدان -وهو الحمصي المؤذن- قال أبو داود: شيخ صالح ضعيف الحديث، وقال أبو حاتم: يكثر عن سليم، عن أبي أمامة بما لا أصل له، وقال يحيى: ليس بشيء، وقال مرة: ليس بثقة، وقال أحمد: منكر الحديث ضعيف.
وأورده السيوطي في " الدر المنثور " 4/ 615، و" الجامع الكبير " 1/ 871 بلفظ: " وكل بالمؤمن ستون وثلاث مئة ملك يدفعون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك، للبصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب قصعة العسل
…
" وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في " مكايد الشيطان "، والصابوني في " المئتين "، وابن قانع.
(3)
أخرجه البخاري (3207)، وأبو عوانة 1/ 122، وابن حبان (48)، وابن منده (717) من طريق همام، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي هريرة.
وأخرجه أحمد 4/ 207، والبخاري (3207)، ومسلم (164)، والطبري 27/ 16، =
وفيه: " أنه ليس في السماء موضع أربع أصابع إلَاّ عليه ملكٌ ساجدٌ " رواه الترمذي وأحمد (1).
فالسائل غَفل عنهم، وعن سائر المخلوقات الكثيرة المعلومة كالجراد والحِيتان والذَّرِّ وما لا يُحصى والمجهولة المشار إليها بقوله:{وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8].
وقد نسب الله تعالى السجود إلى الشمس والقمر والنجوم والشجر والدوابِّ، وهو السجود الحقيقي كما يذهب إليه أهل السنة بدليل عطفه عليه كثيراً من الناس، ولو أراد المجازي لعطف الناس جميعاً.
= وابن منده (716) من طريق قتادة عن أنس بن مالك، عن مالك بن صعصعة. وأخرجه مسلم (162)، والطبري 27/ 17 و18، والحاكم (3753)، والبغوي (3753) من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس.
(1)
أخرجه أحمد 5/ 173، والترمذي (2312)، وابن ماجه (4190)، والطحاوي في " مشكل الآثار "(1135)، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة "(251)، والحاكم 2/ 510 - 511 و4/ 544 و579، والبغوي (4172) من طريق إسرائيل بن يونس، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن مُورِّق العجلي، عن أبي ذر. وإبراهيم بن مهاجر فيه ضعف. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وصححه الحاكم على شرط الشيخين ووافقه الذهبي!
ويشهد له حديث حكيم بن حزام عند الطحاوي في " شرح مشكل الآثار "(1134)، والطبراني (3122)، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة "(250) من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، عن حكيم. وإسناده قوي على شرط مسلم. ولفظه:" وما فيها قدمٌ إلَاّ وعليه مَلَكٌ إما ساجد وإمَّا قائم ".
وحديث أنس بن مالك عند أبي نعيم في " الحلية " 6/ 269. بإسناد ضعيف.
وحديث عائشة عند الطبري 23/ 111 و112، والمروزي في " تعظيم قدر الصلاة "(253) وفيه الفضل بن خالد النحوي، ترجمه ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً.
فإذا نظرتَ إلى ذلك عرفت أنَّ الشر الذي هو معصية الله بالنظر إلى طاعته كالقَطْرةِ من البحر، وأن الخير في مملكة الرب تعالى هو المقصودُ بأنه قد وقع كما أراد العزيز القدير الذي إذا أراد شيئاً، فإنما يقول له: كُنْ فيكونُ، هذا مع ما في نجاة الواحدِ من ألفٍ من عظيم المَسَرَّة عنده، والنعمة عليه في ذلك والسرور به معلومة، وكَمْ بين ذلك وبين فرحته بالسلامة، ولا هالك ألبتة، بل لعله لا يجد للسلامة موقعاً خصوصاً.
وقد جاء في الحديث المُتَّفق على صحته " أن الهلاك من يأجوجَ ومأجوج، ومن لا حَظَّ له في الإسلام "(1) فلا يُنكر تمام نعيم الأولياء وتكميله بعذابٍ عدد التراب من أعدائهم المستحقِّين للانتقام منهم بما ظلموا المؤمنين، وكفروا بربِّ العالمين.
ولا فرق بين نفع ألف ولي بعذاب عدوٍّ لهم ظالم متعدٍّ عليهم مستحقٍّ
(1) أخرجه أبو يعلى (3122)، والطبري في " جامع البيان " 17/ 112، وابن حبان (7354)، والحاكم 1/ 29 و566 - 567، وابن أبي حاتم فيما ذكر ابن كثير في " تفسيره " 3/ 214 من طرق عن معمر، عن قتادة، عن أنس بن مالك. وإسناده صحيح. ولفظه:" يقول الله جل وعلا لآدم: يا آدم قُم فابعث بعث النار من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعون، فكَبُرَ ذلك على المسلمين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سدِّدوا وقاربوا وأبشروا، فوالذي نفسي بيده ما أنتم في الناس إلَاّ كالشامة في جنب البعير، أو كالرِّقمة في ذراع الدابة، وإن معكم لخليقتين ما كانتا مع شيء قط إلَاّ كثَّرتاه يأجوح ومأجوج، ومن هلك من كفرة الجن ".
وأخرجه من حديث عمران بن حصين: الترمذي (3169)، والطبري في " جامع البيان " 17/ 111، والحاكم 4/ 567. ولفظه: "
…
فوالذي نفس محمد بيده، إنكم لمع خليقتين ما كانتا مع شيء إلَاّ كثرتاه يأجوج ومأجوج، ومن مات من بني إبليس ".
وأخرجه البخاري (3348) و (4741) و (6530) و (7483)، ومسلم (222)، وأحمد 3/ 32 - 33، والطبري 17/ 112، والبيهقي في " الأسماء والصفات " ص 219 من حديث أبي سعيد الخدري، ولفظه:" أبشروا، فإن من يأجوج ومأجوج ألفاً ومنكم رجل ".
للعذاب، وبين نفع وليٍّ واحد بعذاب ألف ظالم من أعدائه المستحقين عظيمَ الانتقام منهم، بل تظاهُرُ الكثير من المُبطلين على الأقلين من المُحقين أدْعَى إلى التنكيل بهم، وأشفى لقلب المؤمن المتألم منهم، حيث لم يشكروا نعمة القوة والكثرة والتمكين، وبدَّلوا ما يجب من شكرها بنصر المظلوم بِشَرٍّ بَدَلٍ من انتهاك (1) حُرمةِ المستضعفين من أولياء رب العالمين.
وقد نصَّ الله تعالى على أنه يُريد بعذابهم في الدنيا بالعذاب الأدنى، وهو الحربُ والقتل نصر المؤمنين وإذهاب غيظهم، وشفاء صدورهم، وربُّ الدارين واحد، وحكمته فيهما واحدة بل قد نصَّ على ذلك حيث قال تعالى:{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
وسيأتي ما ورد في كتاب الله تعالى من ذلك حيث ذكرنا الوجه في ترجيح عذاب الكفار على العفو عنهم مع أن العفو أحبُّ إلى الله تعالى في كتبه وشرائعه، وأنه عز وجل لا يتركُ العفو حيث يكون راجحاً، إلَاّ أن يكون في الانتقام مصلحةٌ راجحة من إنصاف مظلوم، أو سرور محبوب، أو نحو ذلك.
قالت البصريةُ من المعتزلة: إرادةُ الإضرار بهم لمصلحة غيرهم ظلمٌ قبيح.
قلنا: ممنوعٌ لصدوره من المالك العدل الحكيم، فيجبُ الجزمُ بالحسن، وإن خَفِيَ وجهُه على أنه غيرُ خافٍ.
فقد قدمنا إطباق العقلاء على فعله واستحسانه في التلذُّذ بما ليس له ذنب من الحيوان لخساسته بالنظر إلى المنتفع به، فكيف تلذُّذ المؤمن أو كمال لذته بعذابٍ مُستحَقٍّ على عدوِّه مع مصالح في ذلك، وغاياتٍ حميدة لا يعلمها إلا الله تعالى.
والمعترض قد أجاز الإضرار بالعذاب الدائم بمجرد إباحته من غير نظرٍ إلى
(1) تحرفت في (ش) إلى: انتهاء.
مصلحة، فأجاز العبث واللَّعِب، ومَنَعَ الراجح الواجب، وقد قال الله تعالى:{لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة: 66].
ففي هذه الآية إشارةٌ إلى أنه لا يجوزُ العفوُ عن جميعهم مع جواز العفو عن بعضهم مع أن ذنبَهُم واحدٌ، وذلك مشعِرٌ بأنه سبحانه علم أن [في] تعذيب بعضهم بذنبه صلاحاً، وفي العفو عن جميعهم فساداً، وهو العليمُ الحكيمُ سبحانه وتعالى.
ومع معرفة السر في عذاب الكافرين يعُظُم الرجاء للمسلمين حيث لم يكن في عذابهم نصرٌ للأنبياء والمرسلين والصالحين، بل هم شفعاؤهم وأحبَّاؤهم، ولذلك يقول الله تعالى:" شَفَعَتِ الملائكةُ، وشفع النبيُّون، وشفع المؤمنون ولم يبق إلَاّ أرحم الراحمين، فيخرجُ من النار مَنْ ليس في قلبه خيرٌ قَطٌّ ممن قال: لا إله إلَاّ الله "(1) كما ثبت في " الصحيح ".
وكذلك ورد في "صحيح مسلم"" أن الله يُعطي كُلَّ مسلمٍ يهودياً أو نصرانياً، فيقول هذا فداؤُك من النار "(2)، وهو ينظر إلى قوله تعالى: {وَفَدَيْناهُ
(1) تقدم تخريجه بطوله من حديث أبي سعيد الخدري. وانظره في " صحيح ابن حبان "(7377).
(2)
أخرجه مسلم (2767)، وأحمد 4/ 398 و402 و407 و408 و409 - 410 من حديث أبي موسى الأشعري.
ولفظ مسلم: " إذا كان يوم القيامة، دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً، فيقول: هذا فِكاكُكَ من النار ".
وفي رواية: " لا يموتُ رجل مسلم إلَاّ أدخل الله مكانه النارَ يهودياً أو نصرانياً ".
وفي رواية: " يجيء يوم القيامة ناسٌ من المسلمين بذنوبٍ أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى ".
بِذِبْحٍ عَظيمٍ} [الصافات: 107] في الخروج بذلك من الخُلْفِ في الوعيد مع أن الخلف في الوعيد يسمى عفواً لا خُلْفاً، ويحسُنُ عقلاً وسمعاً كما ورد الأمرُ به في اليمين على ما غيره خيرٌ منه، وأجمعت الأمة على استحباب الحِنْثِ فيه، وإنما ينقُصُ صاحبه متى عجز عن تنفيذ الوعيد. ومع حُسنِه عقلاً لا سمعاً (1)، فإنَّ الله تعالى لا يفعله إلَاّ بتأويلٍ، كما ورد في الفِداء بالكافر، لأنه تعالى يفعلُ من كُلِّ حَسَنٍ أحسنه.
وهذا وجهٌ منصوص في الحكمة في خلق الكفار ليكونوا فِداءً لعُصاة المسلمين من النار، وهو حديثٌ صحيح على شرط الجماعة، فإنه خرجه مسلم من طرقٍ عن قتادة أنه قال: إن عوناً -يعني: ابن أبي جحيفة- وسعيد بن أبي بُردَةَ كلاهما حدَّثاه: أنهما شَهِدَا أبا بُردةَ يُحَدِّثُ عمر بن عبد العزيز، عن أبيه أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
وكل رجاله مُجمعٌ عليهم في كتب الجماعة، وقتادة صرَّح بالسماع، فلا يُخاف من تدليسه.
على أن أحمد بن حنبل رواه (2) في " المسند " من غير هذه (3) الطريق. قال أحمد: حدثنا أبو المُغيرة النضر بن إسماعيل القاصُّ، حدثنا بُرَيدُ بن عبد الله بن أبي بُردة، عن جدِّه أبي بردة به.
وخرجه أحمدُ أيضاً من طريقٍ ثالثةٍ عن محمد بن سابق، عن الربيع النصري، عن مُعاوية بن إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه.
وخرجه أيضاً من طريق مسلم لكن: عن المَسْعودي، عن سعيد بن أبي بردة.
وخرجه الحاكم في كتاب الإيمان من " المستدرك " بلفظ مُفَسَّرٍ أحسن من
(1) في (ش): وسمعاً.
(2)
ساقطة من (أ).
(3)
في (أ): هذا.
لفظ مسلم -وفي بعض إسنادٍ آخر يُقوي إسناد (1) مسلم (ح) -: وأخبرني أبو بكرٍ الفقية، هو ابن إسحاق، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا عُبيد (2) الله بن عمر القواريري، حدثنا حَرَمي (3) بن عمارة، حدثنا شدَّاد بنُ سعيد أبو طلحة.
فقال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن عثمان (4) الآدمي، حدثنا أبو قلابة، حدثنا حَجَّاج بن نصير، حدثنا شدَّاد (5) بن سعيد أبو طلحة الراسبي (6) عن غَيْلان بن جَريرٍ، عن أبي بُردة، عن أبي موسى، قال: قال (7) رسول الله صلى الله عليه وسلم: " تُحْشَرُ هذه الأمة على ثلاثة أصناف: صنفٍ يدخُلُون الجنة بغير حسابٍ، وصنفٍ يُحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وصنف يجيئون على ظهورهم أمثال الجبال الراسيات (8) ذُنوباً، [فيسأل الله عنهم -وهو أعلم بهم- فيقول: ما هؤلاء؟ فيقولون: هؤلاء عبيد من عبادك] فيقول الله: [حطوها عنهم و] (9) اجعلوها على اليهود والنصارى، وأدخلوهم برحمتي ".
(1) في (أ): إسناده.
(2)
تحرفت في " المستدرك " إلى: عبد الله.
(3)
تحرفت في (أ) إلى " جد "، وفي (ش): حدير.
(4)
تحرف في الأصلين إلى: " عمر "، والتصويب من " المستدرك "، وهو مترجم في " تاريخ بغداد " 4/ 299.
(5)
في الأصلين: " حدثنا حجاج بن نصير، حدثنا حرمي بن عمارة، حدثنا حجاج "، والتصويب من " المستدرك ".
(6)
تحرفت في (أ) إلى: " الرائسي "، وسقطت من (ش).
(7)
سقطت من (أ).
(8)
ساقطة من (أ).
(9)
ما بين حاصرتين سقط من الأصول، واستدرك من " المستدرك ".
قال الحاكم: صحيحٌ من حديث حرمي (1) على شرطهما (2)، فأمَّا حجَّاج، فإني قَرَنْتُه إلى حرمي (3) لأني عَلَوْتُ فيه (4). انتهى.
وشواهده في تقسيم أهل الجنة إلى ثلاثة أقسام كثيرةٌ في القرآن والتفسير والحديث، وهذا موضع ذكرها، فصحَّ الحديث صِحَّةً لا ريب فيها.
ويدل على صحة هذا الاعتبار ما ذكره الزمخشري في تفسير قوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] قال: أي لا يُؤْخَذُ منها فِديةٌ، لأنها معادلة للمفدى، ومنه الحديث:" لا يُقْبَلُ منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ "(5) أي: توبة ولا فِدية. انتهى كلامه.
والمقصود منه الحجة على أن الفدية في اللغة تقومُ مقام المَفْدي، وقد قدمنا إطباق العقلاء عليه بالفطرة، وهذه الآية عند أهل السنة في الكفار بالأدلة الواضحة، والنصوص البيِّنة، ولله الحمد والمنة.
ومن ذلك ما ورد من أن الله تعالى لا يُبالي بالكافرين في قوله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]، وكذا جاء في الحديث " ذكر حُثالة لا يَعْبَأُ الله بهم "(6)، وكذا قوله:" إلى النارِ ولا أُبالي " كما سيأتي بطرقه
(1) تحرفت في الأصول إلى: " جرء ".
(2)
كذا قال مع أن شداد بن سعيد خرج له مسلم متابعة فقط، وهو صدوق حسن الحديث.
(3)
ساقطة من (أ).
(4)
" المستدرك " 1/ 58. وأورده الهيثمي في " المجمع " 10/ 343 وقال: رواه الطبراني، وفيه عثمان بن مطر، وهو مجمع على ضعفه.
(5)
تقدم تخريجه في 3/ 380.
(6)
أخرجه أحمد 4/ 193، والبخاري (6434)، وابن حبان (6852)، والطبراني 20/ (709) و (710)، والبيهقي 10/ 122، والبغوي (4197) من حديث مرداس الأسلمي =
ومعناه في أحاديث الأقدار.
وقد ذكر ابن تيمية وأصحابه أن الانتصار للمؤمنين بعذاب الكافرين لا ينافي قوله تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7] وستأتي الإشارة إلى كلامهم في ذكر الحكمة في تقدير الشرور.
والذي نراه التسليم لقوله عز وجل: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] مع الطمأنينة والجزم بحكمته عز وجل في جميع أفعاله، ورجحان جميع ما فعله، ووجوب الحمد والثناء على كل ما فعله، والجزم بأنه لا يصح منه تعالى وقوع العبث، ولا اللعب، ولا المباح، لأنه منه عز وجل بمنزلة العبث منا، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
الوجه الثاني: من الجواب على أصل السؤال: أن الداعي إما أن يكون غيرَ موجب، كما يقوله بعض المعتزلة فلم (1) يرد السؤال، وإن كان موجباً على معنى وجوب الاستمرار مع بقاء الاختيار، فإمَّا أن يدلُّ الدليل على أن ذلك مسقط للتحسين والتقبيح كان أولى من كان حجة له هو سبحانه الذي لا يُسألُ عما يفعل وهم يُسألون، والذي لا تطرَّق إليه التُّهم بفعل القبيح لغناه عنه، وعلمه الذاتي بكلِّ شيءٍ، فإنه سبحانه هو الذي لا تهتدي العقول إلى التحسين في حقه لعلمه ما لا نعلم من وجوه (2) الحكمة.
فإذا دلَّ العقل على سقوط التقبيح والتحسين في حقِّنا لأجل أمرٍ هو بعينه قائمٌ في حقه تعالى، كان على سقوط ذلك في حقه عز وجل أدل، وذلك لأنه
= مرفوعاً: " يُقبضُ الصالحون أسلافاً، ويَفنى الصالحون الأولُ فالأولُ حتى لا يَبْقى إلَاّ مِثْلُ حُثالةِ التمر والشعير لا يبالي الله بهم ". لفظ ابن حبان.
وأخرجه عن مرداس موقوفاً: أحمد 4/ 193، والبخاري (4156).
(1)
في (أ): لم.
(2)
في (أ): وجود.
سبحانه لا يفعل إلَاّ بالداعي الراجح قطعاً كما يأتي في مسألة الأطفال.
وإن كان الداعي الموجب غير مُسقطٍ للتحسين والتقبيح واللوم، لم يَرِدِ السؤال، وهذه قسمةٌ دائرة معلومة الصحة، وهو جوابٌ صحيح.
الثاني: وعوَّل الفخر الرازي في وجوب أفعال الله سبحانه مع بقاء الاختيار، ذكره في مسألة الإرادة، وجعل وجوبها بالإرادة لا بالدواعي، لأنه لا يقول بها في حق الله تعالى، ولا محيص له عنها.
الوجه الثالث: أن السمع قد دلَّ دلالةً قاطعة، بل ضرورية على أن الله تعالى أقام الحجة على خلقه، ورجَّح لهم الطاعة على العصيان، وأيُّ ترجيحٍ أبلغ مما وعد به على طاعته من عظيم ثوابه، وتوعَّد به على عصيانه من أليم عقابه، والعلم بصحة السمع لا يتوقَّف على كون الداعي مُسقطاً للذَّمِّ والعقاب، مُبطلاً للتحسين والتقبيح، فيصح الاحتجاج بالسمع على أنه غير مبطلٍ لذلك، والعلم الضروري بورود السمع بذلك حاصلٌ جُملةً وتفصيلاً.
أما الجملة: فوروده بالذم والمدح، والأمر بالنهي، وكفى في هذا المقام بقوله عز وجل:{بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 14 - 15].
وأما التفصيلُ، فدلالتُه على أنه كُلِّف باليسير، وأُمِرَ بالتيسير، والعلم الضروري حاصلٌ بذلك أيضاً، ولكن نتبركُ بذكر شيءٍ من النصوص على ذلك.
قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30].
وقال: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، وفي آية {إلَاّ ما آتاها} [الطلاق: 7].
وقال: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [القلم: 46] وكرَّرها في غير سورةٍ بالتأكيد لهذا المعنى.
بل صرَّح القرآن الكريم بأنه سبحانه سمح من الممكنات ما يشُقُّ كقوله: {ما جَعَلَ عليكُم في الدِّين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {يُريدُ الله بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُريدُ بكُمُ العُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله:{الله لَطيفٌ بعبادِه} [الشورى: 19].
وقد ذكرت جملةً شافيةً مما ورد في هذا المعنى من السنة النبوية والآثارِ الصحابية في تأليفٍ مفردٍ، ولله الحمد.
وسمع تلك الأخبار والآثار جميعُ العقلاء والنُّظَّار من المسلمين والكفار في خير الأعصار، فلم يعترضوها، ولا اعترضوا ما وافقها من السنن المستفيضة، مثل حديث أبي هريرة الصحيح المرفوع في خلق الخلق على الفطرة حُنفاء، " وأنَّ كل مولودٍ يُولَدُ على الفِطْرةِ، وإنما أبواه يُهوِّدانه ويُنَصِّرانه ويُمَجِّسانه "(1).
بل القرآن الكريم ناطقٌ بذلك، قال تعالى:{فِطْرَةَ الله الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} [الروم: 30].
وسمع العقلاء هذه الآية الكريمة فما أنكرتها عقولهم، ولا ادَّعوا فيها أنها من المتشابه. ثمَّ ما جاء من وصف هذه الشريعة بأنها الحنيفية السهلة السمحة (2)، ومطابقة هذه النصوص لِفِطَر العقول كلها غير من مَرِضَ قلبه بداء الكلام، وخاض فيما يستحيل دَرْكُه بالأفهام، وعارض الفِطَرَ العقلية والنصوص الشرعية الجليَّة الضرورية بمجرد الافتراء على المعقول أنه يجزم (3) حيث تساوي
(1) تقدم تخريجه في 3/ 387.
(2)
تقدم تخريجه في 1/ 175.
(3)
في (ش): أنها تجزم.
الدواعي على استحالة ترجيح القادر لأحد مقدوريه بالاختيار، وهذه الدقيقة هي التي أعيت أذكياء النُّظار، كما يأتي في كلام الفرقة الرابعة من أهل المرتبة الخامسة.
وما أحسن قول الرازي في وصيته (1) في مثل ذلك: وأما ما انتهى الأمر فيه (2) إلى الدقة والغموض، فعلى ما ورد في القرآن والأخبار الصحيحة المتفق عليها، إلى آخر ما ذكره.
وذكر ابن عبد السلام في " قواعده ": إن البصيرة مثل البصر وإن ما خَفِيَ فيها لم يَزِدِ النظرُ فيه إلَاّ حيرةً، كما أن ما خَفِيَ على البصر لم يزد التحديقُ إليه إلا كلالاً، على أن أدنى تأمُّل يَهْجُمُ باليقين في ذلك على المنصف، فإن الداعي إلى طاعة الله أرجح في العقل الذي إليه الترجيح عند التعارض من الدواعي إلى العصيان، وكذلك الصوارف.
فلا أعظم داعياً إلى الطاعة من طيب العَيْشِ في الدَّارَيْن، وقرة العين بالرضا بالقضاء، والخلود في الجنة، وحلول رضوان الله، والإيمانِ من سخط الله ومن جميع المكاره، وقد رأينا حرص الحيوان على هذه الحياة العاجلة المكدرة كما قيل:
فما رَضِيَتْ بالموتِ كُدُرٌ مَسِيرُها
…
إلى الماء خمسٌ ثم يَشْرَبْنَ مِنْ أجْنِ (3)
(1) تقدمت في 4/ 131.
(2)
في (ش): إليه.
(3)
البيت لأبي العلاء المعري من قصيدة في " سقط الزند " ص 13 - 18 يرثي بها أباه، مطلعها:
نقمت الرضا حتى على ضاحِكِ المُزْنِ
…
فلا جادني إلَاّ عبوسٌ من الدجنِ
وقبل البيت المستشهد به:
وجدنا أذى الدُّنيا لذيذاً كأنَّما
…
جَنى النَّحل أصنافُ الشقاء الذي نجني =
فكيفَ بالنعيمِ المُقيم في جوار الرحمن الرحيم، العليِّ العظيم، الجواد الكريم، مع النبيين والشهداء والصالحين وحسُنَ أولئك رفيقاً.
ولا أعظم صارفاً من المعصية من غضب الله وعذابه، وخوف حلول جميع أنواع البلاء عاجلاً وآجلاً إلى ما لا يمكن تقصِّي القول فيه.
فمن أراد التنبيه على شيءٍ من ذلك فعليه بتأمُّل كتاب الله، وصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن أحسن مَنْ جَمَعَ في ذلك ابن قيم الجوزية تلميذُ شيخ الإسلام ابن تيمية، ومنه استمدَّ، وذلك في كتاب له سماه " الجواب الكافي " فرحمه الله، لقد جوّد في الزجر عن المعاصي، وأجاد وأبدع، وأفاد وأمتع، وجاء بما لم يُسبق إلى مثله.
وبالجملة، فلا خلاف بين العُقلاء من المسلمين وغيرهم في هوان قدر الدنيا وشهواتها، وعظم مقدار الآخرة عند المسلمين، وهذا مما لا نِزاع فيه بالنسبة إلى الحقيقة والأمر الخارج.
وأما خطورُ هذه الأشياء بالبال، واستحضارها في الخاطر، وما يترتب على ذلك من آثارها على اختيار العبد خصوصاً في أول أحوال التكليف، ولا يلزم من هذا أن لا يسبق ذلك المشيئة والقَدَرُ عند أهل السنة كما لا يلزم أن يسبق ذلك العلم عند الجميع.
وكذلك لا يلزم من سبق هذه الأمور نفي الاختيار في أفعال العباد عند أهل السنة، كما لا يلزم من سبقها نفي اختيار الرب تعالى مع تعلق العلم والإرادة والقدر بأفعال الله تعالى إجماعاً، والاختيار وسبق القدر مثل البناء والأساس،
= وبعده:
يُصادِفْنَ صقراً كلَّ يومٍ وليلةٍ
…
ويَلقَيْنَ شَرّاً من مخالبه الحُجْنِ
والكُدر: القطا، والأجن: الماء المتغير.
لا بد من إثباتهما معاً كما قال الخطابي، وكما يأتي واضحاً في مسألة الأقدار قريباً إن شاء تعالى.
فإن فكر العبد، وتذكر، واستعان بربه سبحانه، واختار طاعته، اهتدى وزاده هدى، كما قال تعالى:{والذين اهتَدَوْا زَادَهُم هُدىً وآتاهُمْ تَقْوَاهُم} [محمد: 17]، وقال:{والذين جاهَدُوا فِينا لَنَهدِينَّهمْ سُبُلَنا} [العنكبوت: 69]، وهذه الآيات الكريمة تفرق بين الهُدى الاختياري وهو الأول، وبين الهدى الاضطراري وهو الثاني الذي وقع جزاءً على الأول.
وإن ترك العبد الفكر والنظر في ترجيح دواعي الطاعة واستحضارها، وترك الاستعانة بربه سبحانه لم يُعَجِّل عليه سبحانه وتعالى في أول ذنب بالعُقوبة إن شاء الله تعالى حتى يظهر فيه آثار أسمائه الحسنى، لما ورد في القرآن والسنن الصحاح المستفيضة من إرادته السابقة سُبحانه في المذنبين أن يغفر لهم، ويُقيم حجته عليهم كما مر تقريره في مسألة الإرادة.
فإن شكر العبدُ نعمة ربه في عفوه عنه بإمهاله بعد ذنبه حتى مكَّنه من التوبة، وذكَّره ذلك، قَبِلَه ربه عز وجل، وإن تمادى في عصيانه ولم يشكر نعمة ربه في إمهاله وغفرانه، فإن (1) وَكَلَه إلى نفسه وعامله بعدله، وعاقبه على سوء اختياره، خَذَلَه، وسَلَبَه ألطافه كما قال تعالى:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110]، وقال:{وما يُضِلُّ به إلَاّ الفاسقين} [البقرة: 26] وأمثالها.
وإن أراد أن يمُنَّ عليه ويرحمه، عطف عليه باللطف والهدى من بعد كما بدأه بذلك من قبل، وكما في حديث " لو لم تُذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ يذنبون، فيغفرُ لهم "(2)، واختص من شاء بعطفه كما اختص بالخلق من يشاء،
(1) ساقطة من (ش).
(2)
تقدم تخريجه في 4/ 161.
وبالتكليف من يشاء، وبالملك من يشاء، وبالعلم من يشاء، وذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء، قال الله تعالى في عطفه بعد أعظم العصيان، وأفحش الكفران:{ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 51 - 52]، وقال تعالى:{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [البقرة: 64]، وقال تعالى:{وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:26 - 27]، وقال:{وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 24]، وقال:{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 106]، وقال:{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]، وقال تعالى:{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 268].
ثم إن الله تعالى بعد ترجيح العاصي للعصيان باختياره الموافق لعلم الله وقدره ومشيئته لا يزال سبحانه يفعل من مُرَجِّحات الطاعة والموقظات عن الغفلة ما يُؤكِّد الحجة البالغة، ويُجَدِّدها تفضُّلاً منه سبحانه تارةً بما يفعله من الأمراض كما قال تعالى:{أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126]، وتارة بما يُريهم من مصارع آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وجيرانهم، قال تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2].
وتارة بما يقرع أسماعهم من مواعظ الله وحججه على ألسنة أنبيائه وأوليائه، فلا يزال سبحانه وتعالى يقابل الدواعي إلى معصيته بالدواعي إلى طاعته، والعاصي لا يزداد إلَاّ تمادياً على سوء اختياره، وطول غفلته كما شكاه نوحٌ عليه السلام من قوله، ولذلك عظَّم الله شأن التذكر والموجب (1) للترجيح، وقال في
(1) في (ش): الذكر الموجب.