المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفائدة الرابعة: بيان أن خلاف العلم والقدر ممكن مقدور غير محال - العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم - جـ ٦

[ابن الوزير]

الفصل: ‌الفائدة الرابعة: بيان أن خلاف العلم والقدر ممكن مقدور غير محال

عقيب الفائدة الرابعة في العمل مع القدرة (1)، وذلك لطول الكلام فيها، فتوسُّطُه مع طوله يقطع تمام الكلام في القدر، ويفرِّق اجتماع فوائده، والله أعلم.

‌الفائدة الرابعة: بيان أن خلاف العلم والقدر ممكنٌ مقدورٌ غيرُ محالٍ

في النظر إلى ذاته، وإن كان غير واقع قطعاً لعارضٍ آخر، وهو المسمى في الأصول: الممتنع لغيره، والذي يدل على ذلك وجوهٌ، ذكر الرازي كثيراً منها، وذكر أكثرها مختارٌ في " المجتبى " في الرد على الرازي بالمعنى.

الأول: لو كان ذلك محالاً، لانتقض بجميع أفعال الله تعالى، أو لزم تعجيزه سبحانه، لأن ما فعله، عَلِمَ فِعْلَه، وكان قادراً على تركه، وما تركه، علم عدمه، وكان قادراً على إيجاده، بل هو أولى في حقه، لأنه قد سبق علمه بأفعاله، وهو يعلم ما سبق في علمه مع قدرته على خلافه، بخلاف العبد، فإنه لا يعلم ما عَلِمَ الله في المستقبل، لكن المسلِمَ بعد الشيء (2) بعلم أن الله قد علمه، وأما الكافر، فلا يعلم ذلك أصلاً (3).

ولذلك كانت الحجة على العبد باقيةً، والابتلاء له صحيحاً، حيث لم يكن له أن يقول: إنما عصى الله، لأن الله علم ذلك، فإنَّ علم ذلك محجوبٌ عن العبد، فدلَّ على كذبه باعتذاره (4) بذلك إن اعتذر به.

على أنه لو صح أن يحتج العبد بذلك، لكان الله تعالى أولى من العبد بذلك في الاحتجاج على حسن تعذيبه بمجرد سبق العلم بذلك كما مضى تقريره.

(1) في (ف): القدر.

(2)

في (ف): بعد فعله الشيء.

(3)

في (أ) و (ف): " أهلاً " وكتب فوقها: " أصلاً ".

(4)

في (ش): باعتقاده.

ص: 367

الثاني: أن العلم بعدم الإيمان لا يمنع القدرة على الإيمان بالإجماع، أما عند المعتزلة، فظاهرٌ، وأمَّا عند أهل السنة، فلأنَّ الله تعالى يَقْدِرُ على فعل الإيمان فيمن عَلِمَ أنه لا يؤمنُ. وقد ذكر السهرستاني في " نهايته " إجماع الفريقين على أن العلم لا يُؤثِّر في المعلوم، وهو يعني بأمر الإيجاد، لا بأمر الدواعي في الترجيح، فثبوته إجماعٌ أيضاً.

الثالث: لو كان العلم يُؤثِّرُ في المعلوم، لما تعلَّق علم الحادث المخلوق بالخالق القديم، وبالإجماع أن علمنا بالله تعالى ربنا (1)، وبالإجماع أنا غيرُ مؤثِّرين فيه، وهذا الوجه ذكره إمام الحرمين الجوينيُّ في مقدمات " برهانه "(2).

الرابع: أجمع العقلاء على أن الأشياء ثلاثة أقسامٍ: واجبٌ، وممتنعٌ، وممكنٌ، ولو كان بين العلم والقدرة على خلافه تنافٍ، لامتنع قسمُ الممكنات بأسرها، لأن الممكن هو ما يصح وجوده وعدمُهُ على البدل.

وهذه الممكنات إما موجودةٌ، أو معدومةٌ، وما هو موجودٌ منها علم الله وجوده، فيلزم أن لا يكون عدمه ممكناً في ذاته، وما هو معدومٌ منها، علم الله عدمه، فيستحيل وجوده، وحينئذٍ لا يبقى في الخارج ممكنٌ.

الخامس: لو كان بينهما تنافٍ، لما حَسُنَ المدح والذم، والترغيبُ

(1) جاء في (ش) فوق كلمة " ربنا ": " حادث " على أنها خبر " أن "، أي: أن علمنا

حادث.

(2)

1/ 105 ونصه: فإن قيل: ما علم الله تعالى أنه لا يكون وأخبر على وفق علمه بأنه لا يكون، فلا يكون، والتكليف بخلاف المعلوم جائز. قلنا: إنما يسوغ ذلك، لأن خلاف المعلوم مقدور في نفسه، وليس امتناعه للعلم بأنه لا يقع، ولكن إذا كان لا يقع مع إمكانه في نفسه، فالعلم يتعلق به على ما هو عليه، وتعلُّق العلم بالمعلوم لا يُغيره ولا يوجبه، بل يتبعُه في النفي والإثبات، ولو كان العلم يؤثر في المعلوم لما تعلق العلم بالقديم سبحانه وتعالى.

ص: 368

والترهيب، والثواب والعقاب، فوجوب الفعل وامتناعه حينئذٍ، ولا مدح ولا ذم في الواجب، ولا في الممتنع.

السادس: وهو أدقها وألطفها، الطعن في قولهم: إن إيمان الكافر على خلاف المعلوم محالٌ فنقول (1): خلاف المعلوم مع ذلك المعلوم محالٌ أم بدلٌ عن (2) ذلك المعلوم؟ الأول مسلّم، والثاني ممتنعٌ (3) ولا يمكن دعواه، لأن الترك في الممكنات بدل عن وجودها، والإيجاد بدل عن الترك، صحيح، وإلَاّ فلا، لا نقلب الممكن ممتنعاً وإنه محالٌ، وإذا كان خلاف المعلوم بدلاً عن ذلك المعلوم ممكناً (4)، دخل في مقدور القادرين عليه.

فإن قيل: لو قدر عليه، لزم من فرض وقوع الإيمان محال، وهو تغير علم الله تعالى.

قلنا: لا نُسَلِّمُ ذلك، لا سمعاً ولا عقلاً.

أما السمع: فلقوله عز وجل: {لَوْ كَانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلَاّ الله لَفَسَدتا}

[الأنبياء: 22]، وعلى كلام الخصم، لاستحال أن يَفْسُدَ، لأن الله قد عَلِمَ عدم فسادهما.

وأما العقل: فلأنَّا إذا فرضنا وقوعه، يلزم أن يكون الله علم وقوعه، كما يلزم أنه لو كان فيهما آلهةٌ إلَاّ الله عَلِمَ فسادهما، وليس هذا بتغيير العلم، بل هذا وقوع علمٍ مكان علمٍ بسبب اختلاف التقدير، والسمع الحق قد دل على تجويز تقدير الممتنعات لبيان امتناعها، وأنه يُبنى على التقدير ما يُبنى على التحقيق

(1) في (أ) و (ف): فقول.

(2)

في (أ) و (ف): على.

(3)

في (أ) و (ف): ممنوع.

(4)

في (أ) و (ف): ممكن.

ص: 369

كما في هذه الآية، وأنه (1) معلومٌ أن معناها: لو كان فيهما آلهةٌ إلَاّ الله، لفسدتا، ولو كان ذلك كله لعلمه الله تعالى، لكنه لم يكن شيءٌ من ذلك، فلم يعلم الله وقوعه، ولذلك يقول الجميع في العلم: إن الله تعالى يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، ولا يلزم من ذلك التقدير تجهيل الله ولا محذور.

وأما التكليف بخلاف المعلوم (2)، وهو الممكن في ذاته الممتنع لغيره، فهو جائزٌ بإجماع المسلمين إذا لم يعلم الكافر بعلم الله في عاقبته.

وأما الفائدة فيه، فهي مذكورةٌ في الفائدة الخامسة المذكورة بعد هذه، وهذه الأجوبة مبنيَّةٌ على أن الله تعالى عالمٌ بأفعاله سبحانه كأفعال عباده، ومُقدِّرٌ لها كتقديره لأفعال عباده، فأمَّا علمه بأفعاله سبحانه، فواضحٌ، وأما تقديره لها، فلقوله تعالى:{كان على ربِّك حتماً مَقضيّاً} [مريم: 71] إلى سائر ما سبق في باب الأقدار وأحاديثها من عموم الأقدار لجميع الكائنات، والله أعلم.

الفائدة الخامسة من الكلام على القضاء والقدر: بيان وجوب العمل مع القدر، وفائدته، وذلك أن يُقال: لا فائدة في العمل، فإن المطلوب به إن كان قد قُدِّرَ، حصل، عمل العبد أو لم يعمل، فإن (3) لم يكن قد قدر، لم يحصل، عمل العبد أو لم يعمل.

والجواب من وجوه:

الأول: ذكره الله تعالى في كتابه الكريم في غير آية مثل قوله سبحانه: {لِيَبلُوَكُم أيُّكُم أحسَنُ عَملاً} [الملك: 2] وقوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179]،

(1) في (ش): " فإنه ".

(2)

في (ش): " وأما التكليف إذا لم يعلم بخلاف المعلوم

".

(3)

في (ف): " وإن ".

ص: 370

وقوله تعالى: {أنْ تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172]، وقوله تعالى:{لِئلَاّ يكون لِلناسِ على الله حُجَّةٌ بعدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]، وقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134]، وقوله تعالى:{وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] أي: أمرناهم بالطاعة كما تقول: أمرته فعصاني، أي: أمرتُه أن يُطيعني.

فهذا وأمثاله مما ورد تعليل التكليف، وبعث الرسل به كثيراً في كتاب الله تعالى بأساليب متنوعةٍ، ومعناها ما علم بالضرورة من الدِّين من إقامة الحُجَّة، وقطع الأعذار، كما صرح به أعلم الخلق بالله عز وجل أنه قال:" لا أحد أحبُّ إليه العذر من الله عز وجل، من أجل ذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب "، وهذا الوجه قرآني ضروريٌّ سمعاً وعقلاً، وقد تقدم بيانه بياناً شافياً في أوائل مسألة المشيئة حيث أوضحتُ الفرق بين حِكمة الله الراجعة إلى علمه الحق، وهي تأويل المتشابه، وبين حجة الله الظاهرة المطابقة لِعُرف الخلق وعقولهم، وهو ما قدَّرَه من الأعمال أو الكسب (1)، والموازين، والشهود، وشهادات الأعضاء ونحو ذلك. وقد تقدم واضحاً مبسوطاً، ولا حاجة إلى التطويل بذكره هنا، فراجعه من موضعه.

ومن ذلك قوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام: {وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} إلى قوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف: 67 - 68].

فهذه الآية الشريفة صريحة في أنه لا يلزم من الأوامر بطلان الأقدار، ولا

(1) في (ف): " والكتب ".

ص: 371

يلزم من تمام الأقدار بطلان الأوامر (1) كما ظنت المعتزلة، ولا بطلان الفوائد (2) كما ظن بعض الأشعرية.

وقد اعترف الزمخشري (3) -على اعتزاله- أن علم يعقوب في هذه الآية هو عِلمُهُ أن الحذر لا يُغني من القدر. وهذا (4) يُصادِمُ قول القدرية، ومن ينفي الحكمة والتعليل والأعراض والأسباب والبواعث والدواعي كلها عن جميع (5) أفعال الله عز وجل مع ما يلزمهم مِن تسميتها كُلِّهَا عبثاً كما يأتي إن شاء الله تعالى.

وقد أحب جماعةٌ من الصحابة رضي الله عنهم أن يعرفوا غير هذا الوجه القرآنيِّ من وجوه الحكمة التي لا سبيل إلى القطع بحصرها كما مضى، فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يأتي في الوجه الثاني، وهو زيادةٌ، ولا معارضة بينهما، ويجوز أن ينفي من وجوه الحكمة ما لم يظهره الله تعالى لنا كما مضى تقريره.

الوجه الثاني: الجواب النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، فإن هذا السؤال قد وقع في زمانه عليه السلام، وتولَّى جوابه كما ثبت (6) في أحاديث القدر، وطرقها كثيرةٌ صحيحةٌ، وألفاظُها متنوعة، ومعناها متقارب.

وفي بعضها: أن الأعمال من قدر الله تعالى (7).

وفي بعضها: " أنه قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ

(1) من قوله: " ولا يلزم " إلى هنا، سقط من (ش).

(2)

في (ف): " العوائد ".

(3)

في " الكشاف " 2/ 333.

(4)

في (ف): " وهو أحد ما يصادم

".

(5)

" جميع " ساقطة من (ف).

(6)

في (ش): " سبق "، وفي (ف):" وقع ".

(7)

انظر ص 418 و419 من هذا الجزء.

ص: 372

لليُسرَى} [الليل: 5 - 7] الآية (1).

وفي بعضها: أنه قرأ: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} (2)[الشمس: 8].

وفي حديث أبي خُزَامة، عن أبيه أنه قال: قلت يا رسول الله، أرأيت رُقى نسترقي بها ودواءً نتداوى به، وتُقى نتَّقِيَها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ قال:" هي من قدر الله ". رواه الترمذي وابن ماجه من طرق عن سفيان بن عيينة، عن الزهري عنه به (3).

وقال المِزيُّ (4): وكذلك رواه مالكٌ ويونس بن يزيد، وعمرو بن الحارث، والأوزاعي عن الزهري.

ومعنى هذه الأحاديث وإن تنوعت ألفاظها واحدٌ، متواترٌ نقلاً، معلومٌ عقلاً.

ومنه: لباسهم الدروع في الحرب، وركوبهم الخيول، وحملُهم السلاح كما أُمِرُوا بحمله في صلاة الخوف، وجميع أعمال الدنيا والآخرة، وفيه كمال الجواب من جهة البرهان العقلي، ومن جهة الأسلوب الجدلي.

أما البرهان العقلي: فقوله حين سألوا عن (5) ذلك: " اعملوا " فأمرهم بالعمل حين أظهروا الجهل بفائدته، وهو تنبيهٌ لهم على ما غفلوا عنه مما يقضي به العقل السليم من وجوب امتثال العبد الجاهل من ربه العليم الحكيم مع جهل (6) العبد الفوائد في ما أُمِر به شاهداً وغائباً، فإن أمر الرب العليم الحكيم (7)

(1) انظر ص 389 ت (1)، وهو صحيح.

(2)

حديث صحيح، تقدم تخريجه ص 390.

(3)

تقدم تخريجه ص/401.

(4)

في " تحفة الأشراف " 9/ 152 - 153.

(5)

" عن " ساقطة من (ف).

(6)

في (ف): " الجهل ".

(7)

من قوله: " العبد الفوائد " إلى هنا ساقط من (ف).

ص: 373

الغني الحميد يكفي داعياً إلى الفعل، وباعثاً عليه، ومصحِّحاً لوقوعه بالنظر إلى القدرة كما مضى في اعتبار الجهتين في تفسير القدر، فخذه من هنالك.

ولم تَجْرِ عاداتُ الساداتِ في الدنيا بإعلام عبيدهم بفوائد أوامرهم ومشاركتهم لهم في تفاصيل أسرارهم، وغايات مقاصدهم، ولا نُسِبَ من طوى ذلك عن عبيده إلى العبث واللعب في أوامره، فكيف يطرق ذلك عبيد السوء إلى ملك الملوك وأحكم الحاكمين، وعلام الغيوب، بسبب عدم مشاركته لهم (1) في سِرِّه المكنون في إبرازه، وغاياته الحميدة في أفعاله وأحكامه، وإلى هذا الإشارة بقوله (2) تعالى:{لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23]، وقوله:{ولا يُحِيطونَ بشيءٍ من عِلمِه إلَاّ بما شاء} [البقرة: 255]، وقوله:{إنِّي أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]، وقوله:{فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74] وأمثالها.

وفي قوله عليه الصلاة والسلام: " اعملوا " مع هذا الوجه فائدةٌ لطيفة، وهو أنه لم يأمر بالعمل، وصدر جوابه عليهم (3) بأن " كلاًّ مُيسَّرٌ لِمَا خُلِقَ له " لم يبعد أن يتوهَّم بعضهم سقوط الوجوب الشرعي، وبطلان الأوامر التى هي حجة الله على خلقه وثمرة إرساله رسله صلوات الله عليهم، كما تقدم في الآيات المذكورة في الوجه الأول.

وأمَّا الأسلوب الجدلي: فهو أن العمل مطلوبٌ مقدَّرٌ، كما أن المطلوب به -وهو الجزاء- مرادٌ مقدَّرٌ، والمقدَّرات كلها مقطوعٌ بوقوعها على وجوهها التي يقع عليها على التفصيل، سواء أكانت المقدرات مطلوبةً في البداية من العبيد بالأمر، كأفعالهم الاختيارية في الدنيا، أو مرادةً في النهاية للرب سبحانه جزاء

(1) في (ف): " مشاركتهم له ".

(2)

في (ف): " بنحو قوله ".

(3)

" عليهم " ساقطة من (ف).

ص: 374

لهم متوقفة على أفعال الرب الاختيارية في الآخرة، فكما قدر فعل الله في جزائهم، وفعله سبحانه اختياري لا ضرورة فيه ولا جبر، ولم يستلزم وقوع القضاء والقدر فيه نفي (1) الاختيار والفوائد، وأنه ينبغي أنه سبحانه لا يفعله لعدم الفائدة فيه (2)، أو لعدم القدرة عليه، فكذلك ما قدر من أفعال العباد الاختيارية المطلوبة بالأمر لا يلزم من سبق تقديرها عدم القدرة عليها، ولا عدم الفوائد بها.

ولذلك (3) ثبت في " صحيح مسلم " من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 48 - 49] إنما أنزلت في القدرية. ورواه الترمذي أيضاً، وقال: حديث حسن صحيح (4).

وروي نحوه من طريق ابن عباس، وعبد الله بن عمرو، وزرارة، وأبي أُمامة، كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم (5).

والظاهر أن معناه أنهم احتجوا على حُسْنِ معاصيهم بسبق القدر، فاحتج الله على حسن عذابهم بذلك بعينه (6) وهذا في غاية العدل والإفحام، كما ثبت في " الصحيح " أنه سبحانه يقول:" أليس عدلاً مني أن أُوَلِّي كُلاًّ ما تَولَّى " الحديث (7).

(1)" نفي " ساقطة من (ف).

(2)

" فيه " سقطت من (ف).

(3)

في (ف): والذي.

(4)

تقدم تخريجه ص 402.

(5)

انظر ص 465.

(6)

" بعينه " ساقطة من (ف).

(7)

هذا وهم من المؤلف رحمه الله فالحديث ليس في أحد الصحيحين، وربما قصد بهذا اللفظ أنه في " المستدرك " للحاكم، فإنه فيه 4/ 589 - 592 مطولاً من حديث ابن مسعود، وهو يطلق الصحة عليه في غير موضع من كتابه هذا، وهو تساهل غير مرضي عند =

ص: 375

فمن احتج بسبق علم الله بذنبه، احتج الله عليه بسبق علمه بعذابه، ونحو ذلك.

وسِرُّ المسألة أن الكُلَّ مقدورٌ، والمقدور واجب الوقوع عقلاً وسمعاً، ولا يُسأل عن واجب الوقوع: لم وقع، ولا ما الفائدة في فعله، وإنما محارات العقول، بل المحال فيها عدم وقوعه لو صح فرض ذلك وتقديره.

يُوضِّحُه أنا لو فرضنا وقوع الأمور على خلاف علم الرب عز وجل، وخلاف قدره السابق، وقضائه الماضي، لكان هذا محالاً فيه باعتبار إبطال المعلوم، فيجب أن لا يكون نقيضه محارةً ولا مُحالاً، ولا موضع دِقَّة وغموض، وإشكال وحَيرة، إذ يمتنع أن يتصف النقيضان معاً بذلك.

وتحقيق الجواب النبوي على صاحبه أفضل الصلاة والسلام، أن الأفعال إن كانت فيها فائدة، بطل السؤال، وإن لم يكن فيها فائدةٌ، تعيَّن وقوعها بالقدر (1)، فإن جميع المسلمين يعلمون أن عِلْمَ الله تعالى قد سبق، وتعلَّق بجميع الكائنات مما كلفهم ومما لم يُكلِّفْهُم، وعلموا أنه يستحيل تغيُّر علم الله تعالى، ثم هم لا ينفكُّون عن العمل في أمور دنياهم ودينهم، فكما أنهم يأكلون ويشربون ويزرعون ويَسعَوْنَ في طلب المنافع ودفع المضارِّ مع علمهم بسبق العلم بذلك وأنه لا يتغيَّر، فكذلك مع علمهم بذلك (2) يسعون في أعمال الآخرة على حسب المقادير، فلذلك ترى كثيراً ممن يؤمن بالقدر أحسن عملاً من كثيرٍ ممن ينفي القدر وعكس ذلك.

وخلاصة الجواب أن العمل مُقَدَّرٌ، فكيف يستأذنون في تركه، ولا سبيل

= أهل العلم بالحديث، ففيه عدد غير قليل من الأحاديث الضعيفة والموضوعة. والحديث بطوله تقدم عند المؤلف 5/ 91 - 94 من رواية الطبراني، وهو مخرج هناك.

(1)

في (ش): " بالقدرة ".

(2)

من قوله: " وأنه لا يتغير " إلى هنا سقط من (ف).

ص: 376

إلى ترك ما قُدِّر فعله منه، ولا إلى فعل ما قدر تركه منه، ولعل الإشارة إلى ذلك بقوله (1):{وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68].

قال الزمخشري على اعتزاله: هو علمه أن الحذر لا يُغني عن القدر (2).

فإن قيل: إنه يلزم من تفسير الجواب النبوي بهذا بطلان الاختيار، وبطلان الجزاء.

قلنا: هو ممنوعٌ بالضرورة شرعاً، فإن الله تعالى مختارٌ في أفعاله مع سبق القدر بها، وممنوعٌ بضرورة العقل بما (3) علم ضرورة من استحسان العقلاء (4) للأمر والنهي، والمدح والذم، والعمل مع القدر، والفرق الضروري بين حركة المختار وحركة المسحوب والمفلوج.

وتلخيص الكلام في ذلك قد مر في تفسير القدر، وأن وجوب الأقدار، وإمكان الأفعال غير متَّحِد المتعلق، بل هو مفترق باعتبار الجهتين، والله أعلم.

الوجه الثالث: أن وقوع الفعل تبعٌ للقدرة والداعي، سواء حَكَمَ العقل بأنه مُفيدٌ أو ضارٌّ، كوقوع المعصية من المسلم المعترف بأنها ضارة، فإذاً لا معنى للسؤال عن الفوائد، وإنما يسأل عنها من لا يعمل إلَاّ بما (5) هو مفيدٌ في معقوله، وأما من يرتكب ما يعلم أنه يضُرُّ، ويستيقن أنه يُوبِقُه في الدنيا والآخرة، تارةً

(1) في (ف): " في قوله تعالى ".

(2)

" الكشاف " 2/ 333، والعبارة فيه: هو علمه بأن القدر لا يغني عنه الحذر.

(3)

في (ف): " لما ".

(4)

في (ف): " العقل ".

(5)

" بما " ساقطة من (ف).

ص: 377

لشهوته، وتارة لغضبه (1)، ولا يتوقف على حكمة حكيمٍ (2)، فما اعتذاره عن العمل بعدم معرفة فائدته إلَاّ من جملة جدله وعناده ومكره وفساده {وكَانَ الإنسانُ أكثَرَ شيءٍ جَدلاً} [الكهف: 54]، {ويَمكُرُون ويَمكُرُ الله والله خَيرُ الماكرين} [الأنفال: 30]، {ولا يَحِيقُ المَكرُ السَّيِّء إلَاّ بأهلِه} [فاطر: 43].

الوجه الرابع: ذكره ابن العربي الفقيه المالكي في " عارضة الأحوذي في شرح الترمذي "(3)، فقال ما لفظه: قلنا: لا تطلب الفوائد في أمر الله وحكمه على مقتضى أغراض البشر، وإنما فوائد أمر الله وجودها على مقتضى المشيئة، ولم يطلعنا على ما يناسب (4) مفهومنا في أنفسنا، لأنه ليس كمثله شيءٌ في ذاتٍ ولا صفاتٍ ولا فعلٍ.

الوجه الخامس: أشار إليه الفخر الرازي وغيره، فقال: إن الفائدة فيها تعجيل بشرى المؤمن وإنذار الكافر. قلت: لقوله عز وجل: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} [الكهف: 56] ونحو ذلك.

وكذلك ظهور الأمارات على المقدَّر من الخير والشر، وما يتبع تلك الأمارات (5) من معرفة أولياء الله تعالى وموالاتهم وإكرامهم ونصرهم في الدنيا، ومعرفة أعداء الله تعالى وعداوتهم ونصر المؤمنين عليهم (6)، وسائر الأحكام الشرعية المرتبة على الأعمال. قال الله تعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].

(1) في (ش): " لمعصيته ".

(2)

" حكيم " ساقطة من (ش).

(3)

8/ 300.

(4)

في (ف): " يناسبه ".

(5)

من قوله: " على المقدر " إلى هنا سقط من (ف).

(6)

قوله: " ونصر المؤمنين عليهم " سقط من (ف).

ص: 378

وذِكْرُ الرازي لهذا الوجه غفلةٌ منه عن مذهبه في نفي تعليل أفعال الرب عز وجل، وفي ذلك دليلٌ على الفطرة على خلاف مذهبه، فإذا غفل عنه، تكلم بالفطرة، فلله الحمد.

الوجه السادس: ما ذكره ابن قيم الجوزية في " الجواب الشافي "(1) وهو ما لفظه: والصواب (2) أن ها هنا قسماً ثالثاً غير ما ذكره السائل، وهو أن هذا المقدر قُدّرَ بأسبابٍ، ولم يُقَدَّرْ مجرداً عن سببه، ولكن قُدِّرَ سببه، فمتى أتى العبد بالسبب، وقع المُقدَّر، ومتى لم يأت بالسبب، انتفى المقدَّر، وهذا كما قُدِّرَ الشِّبَعُ والرِّيُّ بالأكل والشرب، وقُدِّر الولد بالوطء، وقُدِّرَ حصول الزرع بالبذر، وقُدِّرَ خروج نفس الحيوان بذبحه، وكذلك قُدِّرَ دخول الجنة بالأعمال، ودخول النار بالأعمال.

وهذا القسم هو الحق، وهو الذي حُرِمَه السائل ولم يُوفَّقْ له.

إلى أن قال (3): وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونِحَلِها أن التقرب إلى رب العالمين وطلب مرضاته (4) والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير، وأضدادها من أعظم الأسباب الجالبة لكل شرٍّ، فما استُجلِبَتْ نِعَمُ الله واستُدفِعَتْ نِقَمُهُ بمثل طاعته، والتقرب إليه، والإحسان إلى خلقه.

وقد رتَّب الله حصول الخيرات في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ترتيب الجزاء على الشرط، والمعلول على العِلَّة، والمسبب على السبب، وهذا

(1) ص 15.

(2)

قوله: " والصواب " ساقط من (ف).

(3)

ص 16 - 17.

(4)

في (أ) و (ش): " رضاه ".

ص: 379

في القرآن يزيد على ألفِ موضع، فتارةً ترتب الحكم (1) الخبري الكوني، والأمر (2) الشرعي على الوصف المناسب له، كقوله تعالى:{فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166]، وقوله تعالى:{فَلمَّا آسَفُونَا انْتَقَمنا مِنهُم} [الزخرف: 55]، وقوله تعالى:{والسَّارِقُ والسَّارقَةُ فاقطَعُوا أيديَهما} [المائدة: 38]، وقوله:{إنَّ المُسلمين والمُسلِماتِ} إلى قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 35] وهذا كثير جداً.

قلت: وفيه أوضح دليلٍ على بطلان قول من قال: إن أفعال الله تعالى كلها لا يجوز أن يكون شيءٌ منها معلَّلاً بالحكم والمصالح. وكذلك أكثر ما يورده الشيخ في هذا الجواب، وسيأتي ذكر ذلك مع أضعافه في موضعه إن شاء الله تعالى.

قال الشيخ (3) وتارةً يُرتِّبه عليه بصيغة الشرط والجزاء، كقوله تعالى:{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الأنفال: 29]، وقوله تعالى:{فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة: 11]، وقوله:{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16] ونظائره ..

وتارةً يأتي بآلة التعليل (4)، كقوله تعالى:{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7](5).

وتارةً يأتي بباء السببية، كقوله:{ذلِكَ بما قَدَّمت أيدِيكم} [آل عمران:

(1) في (ف): " الأمر ".

(2)

في (أ) و (ش): والأمري.

(3)

ص 17 - 19.

(4)

في " الجواب الكافي ": " وتارة يأتي بأداة "كي" التي للتعليل ".

(5)

من قوله: " وتارة يأتي بألة " إلى هنا ساقط من (ف).

ص: 380

182]، وقوله:{بما كنتم تعملون} [المائدة: 105]، و {بما كُنتُم تَكسِبونَ} [الأعراف: 39]، وقوله:{أَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف: 136].

وتارةً يأتي بالمفعول لأجله ظاهراً أو محذوفاً (1)، كقوله تعالى:{فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282]، وقوله تعالى:{أنْ تقولُوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف: 172]، وقوله:{أنْ تقولوا إنما أُنزِلَ الكتابُ على طائفتَينِ مِنْ قَبْلِنا} [الأنعام: 156] أي: كراهة أن تقولوا.

وتارة يأتي بفاء السببية، كقوله:{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14]، وقوله تعالى:{فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10]، وقوله:{فكذَّبُوهُما فكانوا مِنَ المُهلَكِينَ} [المؤمنون: 48] ونظائره.

وتارةً يأتي بأداة " لما " الدالة على الجزاء، كقوله تعالى:{فلمَّا آسفونا انتقمنا منهم} [الزخرف: 55] ونظائره.

وتارة يأتي بإنَّ وما عملت (2) فيه، كقوله:{إنَّهُم كانوا يُسارِعُون في الخيرات} [الأنبياء: 90]، وقوله في ضد هؤلاء:{إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: 77].

وتارة يأتي بأداة " لولا " الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها كقوله: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144].

(1) في (أ) و (ش): " ومحذوفاً ".

(2)

في (أ): " علمت "، وهو تحريف.

ص: 381

وتارة يأتي "بلو" الدالة على الشرط، كقوله:{وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [النساء: 66].

وبالجملة: فالقرآن من أوله إلى آخره صريحٌ (1) في ترتب (2) الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب، بل ترتب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال.

ومن فَقِهَ (3) هذه (4) المسألة وتأملها حق التأمل، انتفع بها غاية النفع، ولم يتَّكِل على القدر جهلاً منه وعجزاً وتفريطاً وإضاعةً، فيكون توكُّله عجزاً، وعجزه توكلاً، بل الفقيه، كل الفقيه الذي يَرُدُّ القدر بالقدر، ويدفع القدر بالقدر، ويُعارضُ القدر بالقدر، بل لا يمكن لإنسان أن يعيش إلَاّ بذلك، فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر، والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر بالقدر.

وهكذا من وفقه الله وألهمه رشده، يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة.

فهذا وِزان (5) القدر المخوف في الدنيا وما يُضاده سواء، فَرَبُّ الدارين واحدٌ، وحكمته واحدةٌ، لا يناقض بعضها بعضاً، ولا يُبطِلُ بعضها بعضاً.

فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها، ورعاها حق رعايتها، والله المستعان. انتهى بحروفه.

وللغزالي في " الإحياء "(6) معنى هذا بأخصر منه، وهو كلام مشهورٌ ذكره في فائدة الدعاء مع القدر، فقال ما لفظه: فإن قلت: فما فائدة الدعاء والقضاء لا

(1) في (أ) و (ش). " مصرح ".

(2)

في (أ) و (ش): " ترتيب ".

(3)

في " الجواب الكافي ": " تفقه ".

(4)

في (ف): " في هذه ".

(5)

في (ش): دون، وهو خطأ.

(6)

1/ 328 - 329.

ص: 382

مردَّ له؟ فاعلم أن من القضاء ردَّ البلاء بالدعاء، والدعاء سببٌ لردِّ البلاء واستجلاب الرحمة، كما أن الترس سببٌ لرد السهم، والماء سبب لخروج النبات من الأرض، فكما أن الترس يدفع السهم، فيتدافعان، وكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان، وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله عز وجل أن لا يُحمل السلاح، وقد قال الله عز وجل:{خُذُوا حِذْرَكُم} [النساء: 71]، وأن لا تُسقى الأرض بعد بثِّ البذر، فيقال: إن سَبَقَ القضاء بالنبات، نبت، بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمح البصر، وترتيب تفصيل المسبِّبات على تفصيل (1) الأسباب على التدريج، والتقدير هو القدر، والذي قدَّر الخير قدَّره بسببٍ، وكذلك الشر (2) قدر لدفعه (3) سبباً، فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته انتهى.

وقد ألم بهذا المعنى الإمام العلامة شرف الدين إسماعيل بن المقرىء الشافعي الزبيدي (4)، فقال وأجاد:

(1) في (ف): " بتفاصيل "، وفي " الإحياء ":" على تفاصيل ".

(2)

في " الإحياء ": " والذي قدر الشر ".

(3)

في (أ) و (ش): " لرفعه ".

(4)

هو إسماعيل بن أبي بكر بن عبد الله شرف الدين المقرىء الزبيدي، عالم البلاد اليمنية، وكان غاية في الذكاء، مهر في الفقه والعربية والأدب، وولي إمرة بعض البلاد في دولة الأشرف، له كتاب مختصر " الروضة " للنووي سماه " الروض "، و" مختصر الحاوي الصغير " سماه " الإرشاد "، وكتاب " عنوان الشرف " في الفقه، ويشتمل على أربعة فنون غيره هي: النحو والتاريخ والعروض والقوافي. توفي سنة 837 هـ.

مترجم في " طبقات الشافعية " لابن قاضي شهبة 4/ 109 - 110، و" إنباء الغمر " 8/ 309، و" الضوء اللامع " 2/ 292 - 295، و" بغية الوعاة " 1/ 444، و" شذرات الذهب " 7/ 220 - 221، و" البدر الطالع " 1/ 142.

ص: 383

تقول مع العِصيانِ: ربِّي غَافِرٌ

صَدَقْتَ ولكِنْ غَافِرٌ بالمشيئةِ

وربُّك رزَّاقٌ كما هو غافرٌ

فَلِمْ لَمْ (1) تُصدِّقْ فيهما بالسَّويَّةِ

فإنك ترجو العفو من غير توبةٍ

ولستَ بِراجي الرِّزقِ إلَاّ بِحيلةِ

على أنه بالرزق كَفَّل نفسُهُ

لِكُلٍّ ولم يَكْفَلْ لكل بِجَنَّةِ

فأما ما يُجيب (2) به بعض غلاة متكلمي الأشعرية من نفي رعاية الحِكَمِ والمصالح والأسباب والأغراض والدواعي والبواعث والغايات الحميدة عن جميع أفعال الله سبحانه وتعالى قاصدين بذلك الفرار من بدعة الاعتزال، فمن أبطل المُحال، وأشنع الضلال، وهو يستلزم نسبة العبث إلى الله تعالى، ويعارض ما عُلِمَ من ضرورة الدين من تعليل عذاب أعداء الله تعالى بذنوبهم، كقوله تعالى:{ذلكَ بما قدَّمَتْ أيدِيكُم} [آل عمران: 182]، وقوله:{بِما كُنتُم تَعْمَلون} [المائدة: 105]، وقوله:{بِما كُنتُم تَكسِبُونَ} [الأعراف: 39] كما تقدم مختصراً في كلام الشيخ ابن قيم الجوزية، وكما يأتي مستوفى إن شاء الله تعالى في الكلام على مسألة الأطفال.

وبتمام هذا يتم الكلام على المرتبة الرابعة، وهي إطلاق أهل السنة للوجوب، بمعنى القضاء والقدر، دون نفي الاختيار في أفعال العباد.

تم بعونه تعالى الجزء السادس

من العواصم والقواصم ويليه

الجزء السابع وأوله المرتبة الخامسة الكلام في أفعال العباد

(1) في (ف): " لا ".

(2)

في (ف): " يجسر".

ص: 384