الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفائدة الرابعة: فيما بَيَّنَهُ الله تعالى من حِكَمِهِ التي لا تُحصى في تقدير الشرور
، والاقتصار على ما جاء من ذلك عن الله تعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم دون التعدي إلى ما وراءه لقوله تعالى:{وما كان الله لِيُطلِعَكُم على الغَيْبِ} [آل عمران: 179]، وقوله تعالى:{فلا تَضرِبُوا لله الأمثالَ إنَّ الله يعلمُ وأنتم لا تعلمون} [النحل: 74] وما أنفعها لمن عقلها {وما يَعْقِلُها إلَاّ العَالِمون} [العنكبوت: 43] ولقوله تعالى: {ولا يُحِيطون بشيءٍ من عِلمِهِ إلا بما شاء} [البقرة: 255] مع قوله: {وما يَعْلَمُ تأويلَهُ إلَاّ الله} [آل عمران: 7].
وقد ذمَّ مبتغي تأويله في أُمِّ الآيات المحكمات حيث قال سبحانه: {ابتِغَاء الفِتنةِ وابْتِغاءَ تأويلِه} [آل عمران: 7] قالوا: المتشابه خطابٌ لنا من حكيم فيجب أن نفهمه.
قلت: المقدمة الأولى -وهي الصغرى- ممنوعة (1)، لأن كونه خطاباً لنا لا يُدْرَكُ بالعقل، ولا يثبُتُ بالنص، وأولى من ذلك أن نقول: المتشابه لا طريق لنا إلى فهمه كالفواتح، فوجب أن لا يكون خطاباً لنا من الحكيم، والصغرى ضروريةٌ وجدانية مع اعتبار الأدلة الصحيحة على دعوى التفسير، والكبرى اتفاقيةٌ بيننا وبين الخصوم، فوضح الحق ولله الحمد على أن ذم الله تعالى لمبتغي (2) التأويل يكفي حجةً.
وكذلك قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39] فرأسُ العلم والرسوخ فيه معرفة العجز عن تعدِّي ما بيَّنه الله تعالى في مثل هذه المتشابهات، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في صفة الراسخين: هم الذين أغناهم عن الاقتحام على السُّدَد المضروبة دون الغيوب الإقرار بجملة ما جهلوا
(1) تحرفت في (أ) و (ف) إلى: مصنوعة.
(2)
في (أ): لمتبعي، وفي (ف): لمتتبعي.
تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا:{آمَنَّا به كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنا} [آل عمران: 7].
فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تأويل (1) ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم التعمُّق فيما لم يُكلِّفهم منه رسوخاً، وتقدم إسناده.
اعلم: أنه قد اشتد حِرص الخلق على ذلك وخوضهم فيه، وذلك لدقته وغموضه كما قيل:
أحَبُّ شيءٍ إلى الإنسان ما مُنِعَا (2).
واعلم أن الله سبحانه لو أراد إطلاعهم عليه، لنصَّ على ذلك، أو ساق أفهامهم إليه من غير نصَّ إليه على أسهل أمرٍ كما قيل:
إذا الله سَنَّى حَلَّ عَقْدٍ تَيَسَّرا (3)
(1) في (أ) و (ف): تناول.
(2)
هو للأحوص، وصدره:
وزادَهُ كَلَفاً في الحُبِّ أنْ مَنَعَتْ
ويُروى في عجزه: " وحبَّ شيئاً "، و" حبُّ شيءٍ ". فالأولى أصلها:" حَبُبَ " بضم الباء فأسكنت وأدغمت في الثانية، وقوله:" ما مُنع " في موضع رفع، ارتفع بحب، يقال: حبَّ زيدٌ إلينا، وحبَّ بزيدٍ إلينا. والأخرى أوردها النحويون شاهداً على أن " حب " أفعل تفضيل، حذفت همزته مثل خير وشر، إلَاّ أن الحذف فيهما هو الكثير، والحذف في " أحب " قليل.
انظر " ديوان الأحوص " ص 153، و" نوادر أبي زيد " ص 198، و" الأغاني " 4/ 299 و12/ 125، و" الزهرة " 1/ 236، و" التمثيل والمحاضرة " ص 209، و" عيون الأخبار " 2/ 3، و" العقد الفريد " 3/ 228، و" جمهرة الأمثال " 1/ 257، و" نهاية الأرب " 2/ 147، و" الأمثال والحكم " ص 129، و، اللسان " (حبب)، و" همع الهوامع " 2/ 166، و" الدرر اللوامع " 2/ 224، و" زهر الآداب " 2/ 57.
(3)
عجز بيت صدره: =
وإذا أراد الله تعالى منع أسهل الأمور، تعذَّر على جميع القادرين كما صرف اليهود عن معارضة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمنّي الموت بعد قوله تعالى:{ولَنْ يَتَمَّنَوهُ أبداً} [البقرة: 95] وكما صرف الله المنافقين عن معارضته عليه الصلاة والسلام بالمتابعة بعد قوله: {قُلْ لَنْ تَتَّبِعونَا كَذلِكُم قال الله مِنْ قَبلُ} [الفتح: 15].
ولله تعالى حكمةٌ بالغةٌ في منع كثيرٍ من المعارف كما نصَّ على ذلك في منع معرفة الخلق لوقت يوم القيامة حتى قال سبحانه: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15].
وكما حجب الغيوب عن الخلق، قال سبحانه:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59].
وفي قوله تعالى للحواريِّين: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115] إشارةٌ إلى أن زيادة البيان قد تكون سبباً في زيادة العذاب، فيكون مصلحة في طيِّ كثير من العلوم وإليه الإشارة بقوله عز وجل:{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59].
وفي سبب نزولها في ذلك حديثان عن جابر وابن عباس، وإسناد كل منهما رجاله رجال الصحيح. ذكرهما الهيثمي في تفسير هود والإسراء (1).
= واعلم علماً ليس بالظن أنه
وهو غير منسوب في " عيون الأخبار " 1/ 102، و" التمثيل والمحاضرة " ص 9، و" أساس البلاغة " ص 311، و" الأمثال والحكم " ص 113، و" اللسان "(سنا).
وقوله: " سَنَّى " أي: فتح وسَهَّلَ.
(1)
تقدم تخريجهما ص 327.
ويُشْبِهُ هذا الباب من بعض الوجوه قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة: 101 - 102].
وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].
ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 8 - 9].
وأوضح من هذا المعنى قوله تعالى: {فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 74].
وقد بيَّن الله تعالى حُكْمَ من منعه من الإيمان بالحكمة جهلُه الذي توهمه علماً بعدم الحكمة، فقال سبحانه:{وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} [النمل: 83 - 85].
بل أخبر الله تعالى بامتناع موافقة الحق لأهوائهم حيث قال: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71].
وفي " الصحيحين " من طريق ابن عباس: "أن الخَضِرَ قال لموسى عليهما السلام: يا موسى إن لي علماً لا ينبغي لك أن تعلَمَهُ، وإن (1) لك علماً لا ينبغي
(1) ساقطة من (أ) و (ف).
أن أعْلَمَه" (1). وهي دليلٌ أن جهل بعض العلوم أنفعُ.
وقد خرج البخاري حديث عُبادة في ليلة القدر، وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إنِّي أردتُ أن أخبركم بها، فتلاحى رجلان، فرُفِعَتْ، وعسى أن يكون خيراً لكم "(2).
وأصرحُ من هذا قوله تعالى: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة: 102].
وبيانُ ما ذكره سبحانه في الآية الأولى ضروري، وذلك أن خلقه مختلفون أشدَّ الاختلاف في الاستحسان والاستقباح كما قال بعضهم:
والذي أنت له مُستَحْسِنٌ
…
ما على استقباحه عندي مَزيدُ
حتى قَضَتْ معتزلة بغداد بوجوب الأصلح على الله لأهل النار، وقضوا بوجوب تخليد العصاة في النار، وهم من المعجبين برأيهم، فكيف يمكن هذا مع موافقة الحق للخلق.
فثبت أن الحِكمة كما تقتضي بيان بعض العلوم، فقد تقتضي لَبْسَ بعضها، فكيف يطمع الذي لا يَمْلِكُ من العلم إلَاّ ما وهبه الله تعالى له في معرفة ما أراد الله تعالى لَبْسَه عليه، ولا سيما في معرفة تأويل المتشابه الذي ذمَّ الله تعالى من ابتغاه، وجعل طلبه من علامات الذين في قلوبهم زَيغٌ، وقرنه بابتغاء الفتنة، وقَصَرَ معرفته على الله تعالى، ولو كان الراسخون يعلمون، ما ذُمَّ من ابتغاهُ منهم، ولكان ذلك من جُملة طلب العلم، ووردت (3) النصوص بالحث عليه.
(1) أخرجه البخاري (4726) و (4727)، ومسلم (2380)، وابن حبان (102) و (6220). وانظر تمام تخريجه فيه.
(2)
أخرجه البخاري (2023)، وابن حبان (3671). وانظر تمام تخريجه فيه.
(3)
في (ش): الذي وردت.
وإنما ذمَّ من ابتغى تأويل المتشابه لِتعاطيه علم ما لم يُعْلَم، وما أنصف من تأوَّل هذه الآية، وجعلها من المتشابهات وهي أُمُّ المحكمات، وخالف قول أمير المؤمنين، وإمام الراسخين فهذه سنة الله عز وجل في لَبْسِ بعض العلوم على خلقه لحكمةٍ بالغة، فاصبر لها {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر: 43] كما قال عز وجل.
ومما قلتُ في ذلك:
وسارَ كليمُ الله والخضر والرِّضا
…
يُبَيِّنُ أن المُحْكَمات السرائرُ
وأن جميع الراسخين مُقَصِّرٌ
…
عن السِّرِّ حَدُّ الراسخين الظواهِرُ
ومن قولي في ذلك أيضاً:
وسار ابن عمرانٍ مع الخَضْر إذْ جَنى
…
له مَنْعُهُ عِلمَ الغرائب جُوعُ
دليلٌ لِصَون السِّرِّ عن مِثلِهِ فما
…
عليه لعلم الراسخين وقوعُ
ومَنْ مِثلُه فَليَخْسَأِ الحكماء عن
…
حِمَىً هو عن مثل الكليم مَنيعُ
ومن قولي فيه أيضاً في آخر الإجادة (1) في الإرادة:
وذا كُلُّه عِلم الظواهر غير ما
…
طَوَى سِرَّ غيب الحكمة المتكاتِم
فذلك مِنْ سِرِّ الإله وسِرُّهُ
…
تَرَفَّعَ قَدْراً عن وِصالِ المكالِمِ
فَعَزَّ جميع الراسخين عن الشّفا
…
عزاء جميلاً للنفوس الهوائم
فهذا مرامٌ شطَّ مَرْمَى العقول في
…
مَداهُ فما في سُبْلِه غيرُ نادِمِ
ومن قولي في ذلك أيضاً:
رجائي له أضعافُ خَوْفي لأنَّهُ
…
يُبَيِّنُ لي والحق حقٌّ دليله
يبين (2) لي أحكامه وخصوصهُ
…
ولم يشتبه معقوله ومقوله
(1) في (ش): الوجادة.
(2)
في (أ) و (ف): فبين.
ولولا يكون العفو والجود محكماً
…
ونعتُ الكمال مستحيلٌ بديله
ودلَّ عليه نعتُه (1) وصفاتُه
…
وأسماؤه الحسنى ودلَّتْ عدوله
ودلَّ (2) عليه حكمة وتواترت
…
شرائعه فينا به ونُقُولُه
وهذا إلى ما ليس يُحصى إشارةً
…
يُبَيِّنُها تفصيله وفصوله
ولكنَّ منه ما أُسِرَّ حديثهُ
…
فَدَقَّ على من لم يسر جليله
وألطف منهم ما طوى الغيب علمهُ
…
فعزَّ على أهل الخُصوص حُصُولُه
وفي كَتْمِهِ تأويله من كليمه
…
دواءٌ لمن أعْيَى الأُساة سبيله
فبُشراي بعد اليأس وهو حظيةٌ
…
بوجدان ما كان العَذُول يُحيله
وهذه مقدمةٌ تخضع لها النفوس المدعية للذكاء إن بقي فيها (3) التفاتٌ إلى شيء من الأدب والحياء، وبعدها نسرد ما بيَّنه الله تعالى من ذلك، وأنزله سبحانه على قدر علمنا لا على قدر علمه الذي لا يمكن تصوُّر البشر له إلَاّ بالإيمان بمثل قوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ} [لقمان: 27].
وقد أجاد البوني حيث قال: إن نسبة علم الخلق إلى علم الحق مثل نسبة لا شيء إلى ما لا نهاية له.
واعلم أن القدر السابق أقسام:
فمنه: ما لا يصح أن يُعَلَّل، وهو علم الله السابق، لأنه من صفات الله الواجبة، وعَدَمُهُ محالٌ على الله تعالى، فلا يقال: لِمَ سبق في علمه.
ومنه: ما هو تَبَعٌ للعلم، ولا أثر لمجرده في العمل كالكتابة والإعلام
(1) في (ش): فعله.
(2)
في (ش): ودلَّت.
(3)
في الأصول: " فيه "، والجادة ما أثبت.
بذلك، وإيجاب الإيمان به، والحثِّ على استحضاره في القلب، وقد نص الله على الحكمة في ذلك في أمورٍ نذكرها ولا نحتم حكمة الله فيها ونقصرها، لجواز تعدُّد الحكم، وورود السمع بتعدده في غير آيةٍ، كقوله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الروم: 46].
وكقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46].
فأولها التَّسَلِّي بذلك في المصائب، قال الله تعالى:{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 22 - 23].
وردَّ الله على المنافقين في قولهم في إخوانهم: {لَوْ كانُوا عندنا ما ماتوا وما قُتِلوا} [آل عمران: 156] بقوله: {لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [آل عمران: 156].
وقال تعالى في ذم من لم يؤمن بذلك: {الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 168].
فدلت الآيات على تعليل هذا التقدير بتسلي المؤمنين بتسليم الأمر لله.
وخرَّج أحمد حديث عبادة " أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أيُّ الأعمالِ أفضل؟ قال: " الإيمان بالله، وتصديقٌ به، وجهادٌ في سبيله " قال: أريد أهون من ذلك، قال:" السماحة والصبر " قال: أريد أهون من ذلك، قال:" لا تَتَّهِم الله تبارك وتعالى في شيءٍ قضى لك "(1).
وتقدم له شواهد في مرتبة الدواعي، ومرتبة الأقدار وأحاديث الرضا بالقضاء، خصوصاً بما قضاه الله تعالى للمؤمن.
وثانيها: التوكل على الله تعالى، والاستعانة به كما علمنا سبحانه أن يقول:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، وقال:{وإليهِ يُرْجَعُ الأمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] وقال: {إنَّ الأمْرَ كُلَّه لله} [آل عمران: 154].
ولا شك أن التوكل على الله مع اعتقاد نفوذ الأقدار وجُفوف الأقلام إنما (2) يكون أقوى، ولذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول:" لو" وقال: " إنها تفتح عمل الشيطان " وأمر أن يقال: " قدر الله وما شاء الله فعل "(3).
ولذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم تقدير ثبوته وصحته واعتقاده مُصاحباً للوصية بالتوكُّل كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: " إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلَاّ بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضُرُّوك بشيء لم يضُرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفِعَت الأقلام وجَفَّتِ الصحف "(4).
وثالثها: عدم العجب بالعمل لجهل الخواتم، وذلك هو السِّرُّ في حديث
(1) تقدم تخريجه ص 330.
(2)
في (أ) و (ف): بما.
(3)
تقدم تخريجه ص 211.
(4)
تقدم تخريجه ص 404.
ابن مسعود: حدثني الصادق المصدوق وقد تقدم (1). وليس السر فيه التزهيد في العمل كما يظنه المُخَذلون (2) أمر الله بالعمل مع القدر كما تقدم في الفائدة في العدل.
وأما سر التزهيد في الثقة بالعمل، والعجب به، والتيه على الخلق ونحو ذلك من المفاسد، وما طواه الله عنا أكثر، ولذلك أطلق التجهيل لنا في كثير من الآيات من غير استثناء، كقوله تعالى:{والله يعلم وأنتم لا تعلمون} [البقرة: 216].
واستثنى القليل في بعضها، فقال:{وما أُوتيتُم من العِلمِ إلَاّ قليلاً} [الإسراء: 85].
وقد تقدم في المرتبة الثالثة في ذكر الدواعي كلامٌ نفيسٌ جداً في بعض ما أشار الله تعالى إليه من الحِكَم والمصالح في خلق العُصاة، وأسباب المعاصي، وكذلك في مسألة الإرادة، فخُذْهُ من هنالك.
ومن ذلك تقديرُ الأمراض والهموم وسائر الشرور المنقطعة، والأحاديث طافحةٌ بتعليل ذلك وذكر ما فيه من الأعواض والخيرات والاعتبار والتذكير، وقد نبَّه الله سبحانه على ذلك بقوله:{وعَسَى أن تَكرَهوا شيئاً وهو خَيرٌ لكم} [البقرة: 216].
وفي الآية إشارةٌ إلى قول أهل العقليات: إنه ليس في مخلوقات الله تعالى ما هو شر من كل وجه، وبالنسبة إلى كل أمر، وما من شر من وجه أو وجوه الا وهو خيرٌ من وجهٍ أو وجوه وإن جَهِلَها الخلق، وهو معنى قوله: إن الحكيم لا يريد الشر للشر، وإنما يريده لخيرٍ هو تأويله كما دلَّ ذلك تأويل الخَضِر لما فعله.
(1) ص 391.
(2)
في (ف): المخذولون.
ولذلك سوَّى الله تعالى بين الشرِّ والخير في قوله سبحانه: {ونَبلُوكُم بالشَّرِّ والخَيْرِ فِتنةً وإلينا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] وقوله تعالى: {وبَلَونَاهُم بالحَسَناتِ والسَّيِّئاتِ لَعلَّهُم يَرجِعُون} [الأعراف: 168].
واعتقادُ هذا يكفي المسلم، وقد تعرَّض أهل الكلام لتبيين وجه الحكمة في كل ذلك، وتلخيص وجه التحسين على حسب اختلاف فِطَنِهِمْ وعقولهم، وضربوا فيه أمثالاً مختلفةً، ونقض بعضهم على بعض، ولا حاجة إلى ذكر ذلك لما فيه من مخالفة (1) ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح، وقال الله تعالى:{فلا تَضْربوا لله الأمثال إن الله يَعْلَمُ وأنتُم لا تعلمون} [النحل: 74] وإنما نتكلَّم بجليات المعقول، وصحيحات المنقول دون المواقف والمحارات.
ومما ورد التعليل به في الأمراض ونحوها الابتلاء مثل ما تقدم من قوله تعالى: {ونَبْلُوكُم بالشَّرِّ والخَيرِ فِتنةً} [الأنبياء: 35]، وقوله تعالى:{الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: 1 - 3].
والأحاديث متواترةٌ وثبوت الأجر بالآلام، وفي تكفير الذنوب بها أيضاً، والقرآن مصرِّحٌ بتعليلها للاعتبار، وقد جاء في ذلك الحديث المشهور في خلق ذُرِّيَّةِ آدم إخراجهم من ظهره، وفيه أن آدم لما رأى فيهم الغني والفقير، والصحيح والأليم، قال: يا ربّ هلَاّ (2) سوَّيْتَ بين ذُريتي، قال تعالى:" فعلتُ ذلك لتشكر نعمتي " أو كما قال (3).
ذكره ابن كثير من طُرُقٍ في خلق آدم، أول الجزء الأول من " البداية والنهاية "(4).
(1) في (أ) و (ف): ذلك إلى مخالفة.
(2)
في (أ): ما.
(3)
تقدم تخريجه ص 322.
(4)
1/ 81.
وذكر صاحب " شرح جمع الجوامع " للسبكي، عن الجنيد أنه قال: كلمت يوماً رجلاً من القدرية، فلما كان الليل رأيت في النوم كأن قائلاً يقول: ما ينكر هؤلاء القوم أن يكون الله قبل خلقه للخلق، علم أنه لو خلق الخلق، ثم مَكَّنَهم من أمورهم، ثم رد الاختيار إليهم، للَزِمَ كل امرىءٍ منهم بعد أن خلقهم ما عَلِمَ أنهم له مُختارون (1).
وأما قول بعض المتكلمين: إن الجزاء لا يُسمَّى ثواباً، ولا يُكَفِّر ذنباً، فخلافٌ للسمع من غير قاطع عقلي، وليس هذا موضع التطويل ببَسْطِ ذلك.
قالوا: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18].
قلنا: عمومٌ مخصوصٌ بالنصوص وبنحو {وأثقالاً مَعَ أثقالِهم} [العنكبوت: 13]، والوجه أن سياق العموم لنفي الظلم، وسياق الخصوص لذلك بعينه، فكان له عاضداً لا ناقضاً، وكان كالحكم في الدنيا بحقن الدماء وتحريم الأموال إلَاّ بحقها.
قالوا: {وأنْ لَيْس لِلإنسانِ إلَاّ ما سَعى} [النجم: 39].
قلنا: عمومٌ مخصوص بالأجر على الألم المتفق عليه عند الخصوم، ووجهه أنه المراد ليس له ما تمنى وتحكم إلَاّ ما استحق إلَاّ ما شاء الله أن يتفضل عليه به لقوله تعالى:{ويَزيدُهُم مِنْ فَضلِهِ} [النساء: 173].
قالوا: لا يصح استحقاق تعظيم الغير.
قلنا: هو كالصفة للمنافع ولا يستحق منفرداً، سلمنا ولا مانع من استحقاق المنافع دون هذه الصفة، وتسميتها ثواباً، لأنها جزاء، والتعظيم جزاءٌ، وكُلُّ واحد منهما ثواب.
(1) في (ش): أنهم لا يختارون غيره.
قالوا: الثواب دائم.
قلنا: الدوام صفةٌ كالتعظيم، فإذا استحقَّت المنافع، بطل دوامها كالثواب المحبط، ويستحيل بقاء الصفة مع بطلان الموصوف، ويجوز أن يتفضل الرب بدوام العوض، ألا ترى أن المجاهد إذا استحق شيئاً من الغنائم على جهة التعظيم مجازاة، ووجب أن يقضي منه ديونه.
وأيضاً: فكل أمرهم مبنيٌّ على وجوب الثواب عقلاً، وقد مر إبطاله، ولكنه يجب في حكمة الله لوجوب (1) صدقه، وما يتعلق بغير المكلفين يكون القِصاص فيه بالأعواض أو بما يُهيئه لشكره (2) وجب الحق عليه.
ويلزم المعتزلة الأمان من العذاب بسبب ظلم العباد، وقتلهم، لأنهم أوجبوا على الله أن لا يُميت الظالم إلَاّ بعد أن يكون له من الأجر ما يوفي جميع المظلومين، وهذا خلاف المعلوم.
ومن ذلك قوله تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41].
وقوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21].
وقوله تعالى: {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة: 126].
وقوله سبحانه: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].
(1) في (ش): بوجوب.
(2)
في " (أ) و (ف): سكن!.
فهذا تعليلٌ انتظم حكمتين: العقوبة والتذكير، كما صح في الحدود أنها تنتظم حكمتين: العقوبة والتكفير (1)، فقد سمَّاها الله عذاباً ونَكالاً، وصح أنها مكفراتٌ، وذلك من فضل الله تعالى.
ومن ذلك ما يكون عقوبة نص على انتظام التذكير والتكفير إليه بالنظر إلى فاعله إن كان في عقوبته تذكيرٌ لغيره، كقوله:{فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 66].
وكقوله تعالى: {وَوَقَع القولُ عليهم بما ظلموا} [النمل: 85].
وقوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 8 - 10].
وقوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110].
وقال: {وَلَوْلَا دِفاعُ (2) اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 251].
وقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام: 165].
وقال: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ
(1) قوله: " العقوبة والتكفير " ساقط من (ش).
(2)
هي قراءة نافع ويعقوب وأبان، وقرأ عامة القُراء {ولولا دفعُ} قال أبو علي: المعنيان متقاربان، قال أبو ذؤيب الهذلي:
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم
…
فإذا المنية أقبلت لا تُدفع
انظر " زاد المسير " 1/ 300، و" حجة القراءات " ص 140.
النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 140 - 142].
ومن ذلك: الحكمة في المتشابه، وقال الله سبحانه في جواب من سأل عنها:{يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} [البقرة: 26].
ونحوها قوله تعالى: {وما جَعَلْنا أصحابَ النَّارِ إلَاّ ملائكَةً} الآية [المدثر: 31].
وقال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143].
وقال في بعض حكمته في التكليف: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 72 - 73].
وقد دل السمع على أن إرادة الله وقوع بعض الاعتقادات غير المطابقة لحكمة ومصلحة، كقوله تعالى:{إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال: 44].
وقال تعالى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} [الأنفال: 43].
فيجوزُ في بعض المتشابه مثله، وقد يرد بما ظاهره في أفهام الجاهلين باطلٌ، والدليل على تأويله عند العلماء قائمٌ، ومتى ورد عليهم لم يشُكُّوا فيه، وذلك، كقوله لعيسى عليه السلام:{أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]، فإنه لما ورد على عالم أن الله يعلم الغيب {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] وهذا شرط حسن للمجاز عند علماء البيان أن يرد على عالمٍ بامتناعِ ظاهره كما مرَّ في موضعه.
ومن ذلك خلقٌ من المعلوم إنه يعصي، فيُعفى عنه بتوبةٍ أو شفاعةٍ أو رحمةٍ، وإن ناله بعض ما يستحقه من العقوبة، ففي " صحيح مسلم " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لو لم تُذْنِبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيَغْفِرُ لهُم ".
وفي حديثٍ فيه أيضاً: "يُذنِبُون كَيْ يَغفِرَ لَهُمْ".
وفي " مسند أحمد ": "يذنبون فيَغفرُ لهم".
رواه مسلم في " الصحيح " من حديث أبي هُريرة، وأبي أيوب.
وفي الباب عن أنسٍ، وابن عباس، وأبي سعيد، وعبد الله بن عمرو بن العاص (1)، ولذلك طُرقٌ كثيرة، وشواهد قويةٌ، تقدم ما عرفت منها في مسألة المشيئة.
(1) تقدم تخريجه 4/ 161.
وعن جابرٍ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لَمَّا عُرِجَ بإبراهيمَ صلى الله عليه وسلم، رأى رَجُلاً يَفْجُرُ بامرأةٍ فدعا عليه، فأُهْلِكَ، ثم رأى رَجُلاً على معصيةٍ، فدعا عليه، فأوحى الله إليه: إنه عبدي وإنَّ قَصْرَه مني، إما أن يتوب فأتوب عليه، وإما أن يستغفرني فأغفر له، وإما أن يخرُجَ من صُلبِهِ من يعبُدُني، يا إبراهيم أما علمت أن من أسمائي أني أنا الصبور ". رواه الطبراني في " الأوسط "، وفيه عليٌّ بن أبي علي اللَّهَبي، قال أحمد: له مناكير (1)، قلت: لكنه صحيح المعنى بشواهده.
وقال شيخ الإسلام في كتابه " منازل السائرين "(2): إنما يُخَلِّي الله تعالى بين العبد وبين الذنب لأمرين:
أحدهما: أن يعرف عزَّته في قضائه، وبرَّه في ستره عليه، وحلمه في إمهال راكبه وفضله في مغفرته له، وكرمه في قبول العذر عنه.
وثانيهما: ليِعلَمَ طالبُ البصيرة الصادقة أن سيئته لم تُبْقِ له حسنةً بحالٍ، فيصير بين مشاهدة الحكم والمِنَّة، فيُقيم عليه حجة عدله، ويعاقبه بذنبه.
وإنما ذكرت كلام شيخ الإسلام هنا، وليس من شرط ما أنا فيه أن أُورد إلا ما هو حُجةٌ من كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأنه رحمه الله أحسن العبارة والترجمة عن كتاب الله تعالى وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبعد ما فيها.
ومن ذلك خلقٌ من المعلوم أنه يصير إلى النار من الكفار، وقد تباينت (3) مذاهب المتكلمين في ذلك، وفي ذكر مقالاتهم وحججهم ومناقضاتهم شناعاتٌ يفرح بذكرها أعداء الإسلام، فلنتقصر على ذكر ما يناسب السمع قرآناً وسنة.
ولا شك أن هذه المسألة أمُّ (4) المتشابهات، وأنه لا يعلم تأويل المتشابه
(1) تقدم ص 329.
(2)
في " مدارج السالكين " 1/ 204.
(3)
في (أ): تقابلت.
(4)
في (ش): من.
إلا الله تعالى، وهذا يستلزمُ بالقطع امتناع الخوض في ذلك حتى يعلم التأويل، وهذا أصح ما يجاب به في هذه المسألة العظمى ولله الحمدُ.
وقد نص الله سبحانه على أنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه سواه، فقال سبحانه للملائكة حين قالوا:{أتَجْعَلُ فيها مَنْ يُفسِدُ فيها ويَسفِكُ الدِّماءَ} [البقرة: 30]: {إنِّي أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30].
وهذا كافٍ لمن كان له قلب أو القى السمع وهو شهيدٌ، فلا أعلم من الملائكة ولا أقرب إلى الله سبحانه.
على أنه سبحانه قد ذكر في كتابه الكريم بعض حكمته في ذلك.
فمن ذلك: التعليل بالابتلاء، لقوله تعالى:{وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} إلى قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة:47 - 48].
وقال تعالى: {لِيَبلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَملاً} [الملك: 2].
ومعنى الابتلاء: هو فعل سببٍ لظهور المعلوم عند الله لتعلق الأحكام بظهوره، لا فعل سببٍ ليحصل معه العلم به.
فإن قيل: هذا واضح، ولكن الابتلاء من المتشابه المحتاج إلى التعليل أيضاً.
فالجوابُ من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى -وإن حذف المفعول الثاني من مفعولي الابتلاء المضمَّن معنى العلم- فإنه لم يبينه في قوله تعالى: {لِيَبلُوكُم أيُّكُم أحْسَنُ
عملاً} [الملك: 2] وذلك يقتضي أن المقصود الأول من خلق جميع المكلفين العصاة والمطيعين لو علموا أنه لا يخلق من يستحق العقاب كانت مفسدةً عظيمةً لبطلان الخوف والرجاء كما أن الله لو بسط الرزق لكانت مفسدة، ولو جعل الأنبياء ملائكة، لكانت مفسدةً. وقد مر تحقيق ذلك في الدواعي، وبعضه في الإرادة في أحد الوجوه في تفسير قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وهو مذهب البغدادية.
ويعضده الوجه الآخر الذي مر في تفسيره أيضاً، وهو إنه يوجد من مكلَّفٍ حتى الكفار نوعٌ من العبادة ولو كَرْهاً في النشأة الأولى والمعرفة لله ولو في الآخرة على ما جاء في تفسير قوله تعالى:{وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} [آل عمران: 83] وفي قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12].
ولذلك فسَّر ابن عباسٍ {إلَاّ لِيَعْبُدونِ} : ليعرفوني (1).
وروي عن داود أنه قال: يا رب لِمَ خلقت الخلق؟ " قال: " كنتُ كنزاً مخفيّاً فخَلَقْتُ الخلقَ لأُعرَفَ " (2).
(1) في (أ) و (ف): " يعرفون ". وقد تقدم ص
…
(2)
ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في " أحاديث القصاص " ص 69 - 70، وقال: ليس هذا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يعرف له إسناد صحيح ولا ضعيف، وقال السخاوي في " المقاصد " ص 327: وتبعه الزركشي وشيخُنا، يعني ابن حجر، وقال السيوطي في " الدرر المنتثرة " ص 147: لا أصل له.
وقال الآلوسي في " روح المعاني " 27/ 21 - 22: ذكره سعد الدين سعيد الفرغاني في " منتهى المدارك "، وذكره غيره كالشيخ الأكبر في الباب المئة والثمانية والتسعين من " الفتوحات ". بلفظ آخر، وتعقبه الحفاظ فقال ابن تيمية
…
ومن يرويه من الصوفية معترف =