الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وثانيهما: أن ذلك لم يصح، فقد بينا أن المختار أن تأويل المتشابه لا يعلمه إلَاّ الله، وإنما شرطنا أن نذكر العلل المنصوصة سمعاً، والجلية عقلاً.
فصل:
ومن ذلك تقديرُ الشر الدائم الذي لا ينقطع مثل عذاب النار
والخلود فيها -نعوذ بالله ورحمته التي وَسِعَتْ كل شيء من ذلك- وها هنا اشتد الاضطراب، وتفاقم الخَطْبُ على النُّظَّار، وتَبَلَّدَ الأذكياء منهم، وتفرقوا أيادي سَبَا (1)، ونقضوا قواعدهم، وخالفوا معارفهم، وكاد كثيرٌ منهم يلحق بأهل التجاهل إلَاّ من عصمه الله تعالى بحسن الإسلام، وقوة اليقين، وعدم التهمة لأرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأكرم الأكرمين.
فأما كلام الفلاسفة والزنادقة في ذلك، فهم فيه ممن قال الله فيه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ
= بعدم ثبوته نقلاً، لكن يقول: إنه ثابت كشفاً، وقد نص على ذلك الشيخ الأكبر في الباب المذكور، والتصحيح الكشفي شنشنة لهم.
(1)
هو مثلٌ يقال للقوم إذا تفرقوا في جهات مختلفة، أى: فرقتهم طرقهم التي سلكوها كما تفرق أهل سبأ في مذاهب شتى.
وسبأ: هو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، وقيل: اسم بلدة كانت تسكنها بلقيس.
قال في " تاج العروس " يكتب بالألف، لأن أصله الهمز، قاله أبو علي القالي في " الممدود والمقصور "، وقال الأزهري: العرب لا تهمز " سبأ " في هذا الموضع، لأنه كثر في كلامهم فاستثقلوا فيه الهمز، وإن كان أصله مهموزاً. ضرب المثل بهم، لأنه لما أشرف مكانهم على الغرق، وقرب ذهاب جناتهم قبل أن يدهمهم السيل، تبددوا في البلاد فلحق الأزد بعمان، وخزاعة ببطن مرّ، وهو مر الظهران المسمى الآن بوادي فاطمة قرب مكة، والأوس والخزرج بيثرب، وآل جفنة بأرض الشام، وآل جذيمة الأبرش بالعراق، وقوله: أيدي سبأ، أي: متفرقين، واليد: الطريق. وانظر " المستقصى " 1/ 88 - 90 و" مجمع الأمثال " 1/ 275 - 277، و" زهر الأكم " 3/ 16 - 18.
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [الحج: 8 - 10].
وإنما نورد هنا كلام من أقر بالتوحيد، وسعى في التصديق بكلام الحميد المجيد.
واعلم أن اضطرابهم في ذلك مبني على الغفلة عن قاعدتين عظيمتين.
إحداهما: أن الله تعالى يعلم من كل نوع من أنواع المعلومات ما لا نعلمه، ومن أعظم تلك الأنواع وأجلِّها قدراً، وأدقِّها سراً، وألطفها نوع المعلومات من الحكم والمصالح والغايات الحميدة، بل متى فتح الله على بعض عباده من ذلك مثل سمِّ الخياط، أو وهب له منه قطرةً من بحار لم يستطع أحدٌ من الخلق الاطلاع على مكنون حكمته، ولا وسعت الطباع البشرية الصبر على التسليم لفضل معرفته، وكفى في ذلك عبرةً بقصة الخَضِر والكليم عليهما أفضل الصلاة والتسليم، فإنها تكُفُّ كفَّ الاعتراض على الأعلم في باب المصالح والحكم. ومن لم يُسَلِّمْ هذه القاعدة، يلزمه مساواة الخالق والمخلوق في معرفة المصالح وجميع دقائق الحكمة، وكيف يستوي ربُّ الأرباب والمخلوق من التراب.
وما أحسن ما قاله الفخر الرازي:
العلمُ للرحمن جل جلاله
…
وسِواه في جَهَلاتهِ يَتَغمْغَمُ
ما للتراب وللعلوم وإنما
…
يَسْعَى لِيَعْلَمَ أنَّه لا يعلمُ
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد:
تجاوزتُ حدَّ الأكثرين إلى العُلى
…
وسافَرْتُ واستبقيتُهم في المفاوزِ
وخُضْتُ بِحاراً ليس يُدْرَكُ قَعْرُها
…
وسيَّرْتُ نفسي في فَسيح المَفاوِزِ
ولَجَّجْتُ في الأفكار ثم تراجع اخـ
…
ـتياري إلى استحسان دين العجائزِ (1)
وقال ابن أبي الحديد المعتزلي (2):
طلبتك جاهداً خمسين عاماً
…
فلم أحصل على برد اليقينِ
نوى قَذَفٍ وكمْ قد مات قَبْلِي
…
بِحَسْرَتِهِ عليك من القرونِ
فهل بعد المماتِ بك اتِّصالٌ
…
فأعلَمَ غامِضَ السِّرِّ المَصونِ
وأنشد الشهرستاني:
وقد طُفْتُ في تِلك المعاهد كُلِّها
…
وسَيَّرْتُ طَرْفي بين تلك المعالمِ
فلم أر إلَاّ واضِعاً كفَّ حائِرٍ
…
على ذَقَنٍ أو قارِعاً سِنَّ نادِمِ (3)
وكل هؤلاء من أمراء المعقول وفرسان المشكلات (4)، وقبلهم سألت عن ذلك ملائكة السماوات، كما جاء ذلك في محكم الآيات، وذلك من أعظم الحجج البينات.
ومما قلت في ذلك:
أقِلُّوا (5) الجدال فما عندكم
…
جميعاً من العلم إلَاّ القليلْ
وفي قصة الخَضِر المُرتَضى
…
وموسى اعتبارٌ عَرِيضٌ طويلْ
وفيها لأهل النُّهى والرُّسوخ
…
من العارفين عَزاءٌ جَميلْ
(1) الأبيات في " الوافي بالوفيات " 4/ 208.
(2)
في " شرح نهح البلاغة " 13/ 51 - 52.
(3)
وقد رد عليه ببيتين محمد بن إسماعيل الأمير:
لعَلَّك أهملت الطواف بمعهد الـ
…
ـرسول ومن لاقاه من كل عالم
فما حارَ مَنْ يُهدى بهدي محمد
…
ولستَ تراه قارعاً سن نادمِ
(4)
في (ش): المعقولات.
(5)
في (ش): فكفوا.
وإنَّ سؤال الخليل العِيانْ
…
لِكَيْ يَطمَئِنَّ على ذا دَليلْ
فمن يعلم السِّرَّ بعد الكَليم
…
ومَنْ لا يُوسوِسُ بعد الخليلْ
وقد أورد بعضُ المتأخرين من أتباع المعتزلة هنا إشكالاً وتقدم في الدليل الأول في المرتبة الثانية في مسألة المشيئة، وتقدم جوابه من ثمانية أوجه، فليُطالَعْ مِنْ هُنالك.
القاعدة الثانية: وهي المعتمدة أن هذه المسألة من المتشابه الذي أخبر الله جل جلاله أنه لا يعلم تأويله إلَاّ هو، وذم المبتغين لتأويله وقرنهم بمبتغي (1) الفتنة كما تقدم تقريره، وأنه قول علي بن أبي طالبٍ رضوان الله عليه.
وقد أوردت الكلام على تفسير هذه الآية بالأدلة في مؤلَّفٍ لطيف مُجَوَّدٍ، فليطالَع، والحمد لله.
وهذه المسألة هي أمُّ المتشابهات، وأغمض الخفيات، ومحارة علماء المعقولات والمنقولات، فكيف يتعرض جميع المكلفين والمتكلفين لمعرفة سِرِّه المكنون في تأويلها، وغيبه المحجوب في تفاصيلها، فلا يتعرض لمعرفتها حكيمٌ بعد قوله تعالى:{ولا تُسأَلُ عَنْ أصحابِ الجَحيمِ} [البقرة: 119].
وما هو إلَاّ كما قال ابن الجوزي (2) رحمه الله: بحر لا يتمكن منه غائص، ليل لا يَبِصُّ للعين فيه كوكبٌ.
مَرَامٌ شَطَّ مَرْمَى العقل فيه
…
فدُونَ مَداهُ بِيدٌ لا تَبِيدُ
خَرِسَتْ في حظيرة القدس مَقولة لِم، وعَشِيَتْ لجلال العِزِّ عين الفكر، فأقدام الطلب واقفةٌ على جمر التسليم.
(1) في (ش): وقرينة يبتغي.
(2)
في " المدهش " و" اللطف ". وقد تقدم هذا النص بتمامه في 3/ 322 - 324.
وقد تقدم القولُ في أن كل ما أراد الله طيَّه من الحكم والأسرار لم يتم لأحد الاطلاع عليه، وكان الجهل به من جملة قيد الله السابق، وأمره النافذ على رغم الخلائق، وكان أمر الله قَدَراً مقدوراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ومن الناس من يسعى فيما لا ينفعه، بل فيما يضره من العلوم والأعمال كما قال تعالى:{ويتعلمون ما يَضُرُّهم ولا يَنفَعُهُم} [البقرة: 102].
وهذه المسألة هي التي ألجأت غلاة الأشعرية إلى القول بنفي الحكمة، وسيأتي في الكلام على مسألة الأطفال إيضاح بطلان قولهم بالضرورتين العقلية والشرعية، والمبالغة في إبطال قوله، وهي التي ألجأت ابن تيمية وأسلافه وأتباعه إلى القول بفناء النار (1) والتأليف في ذلك. وأشار الغزالي إلى نُصرة قولهم في " المقصد الأسنى في شرح الأسماء الحسنى " في شرح الرحمن الرحيم، وجوّد الاحتجاج لهم في ذلك، وفي بعض مباحثه في ذلك نظر ليس هذا موضع ذكره.
والأولى بالسني الوقوف على ما وقف الله عليه ملائكته الكرام حيث أجاب علبهم أنه يعلم ما لا يعلمون، وترك التكلف فيما لم يؤمر به، والتأدب بمثل قوله تعالى:{ولا تَقْفُ ما لَيْسَ لكَ بِهِ عِلمٌ} [الإسراء: 36]، والحذر من الشذوذ عن الجماعة، والنفرة من كل بدعة وشناعة، فإن نازعته النفس، فليتنبه على
(1) وهذا مما عُدَّ في جملة اجتهاداته التي أخطأ فيها خطأ مبيناً، وتابعه عليها تلميذه ابن القيم -رحمهما الله- وقد تولَّى الرد عليهما غير واحد من الأئمة، منهم العلامة تقي الدين علي بن عبد الكافي السبكي المتوفى سنة (756 هـ) في رسالته " الاعتبار ببقاء الجنة والنار "، وعلامة اليمن محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني المتوفى سنة (1182) هـ في كتابه " رفع الأستار لإبطال أدلة القائلين بفناء النار " وكلاهما مطبوع، فارجع إليهما، فإنهما غاية في النفاسة، وسيرد عند المؤلف التنبيه بأن الإمام الذهبي له رد على شيخ الإسلام في هذه المسألة، ولكنني لم أقف عليه إلى الآن، وهو رحمه الله وإن كان يُحب ابن تيمية ويظهر محاسنه، وينشر فضائله، ويُشنع على خصومه، ويدافع عنه- مخالف له في مسائل أصلية وفرعية كما صرح بذلك في ترجمته في " السير ".
فائدة عظمى تُشَدُّ إلى معرفتها الرِّحَال ولا يعرف قدرها إلَاّ أذكياء الرجال من فُرسان هذا المجال، وهي أن من طبع النفس إنكار ما لا تعرفه، والنُّبوَّ عما لا تألفه، ولا يَفطِمُها عن هذه الضرورية الطبيعية إلَاّ معارضتها بمثلها في الضرورة، لأن القوي لا يُعارَضُ بما هو دونه في القوة فلذلك لا يُعارَضُ الضروري بالاستدلالي القطعي، والقطعي بالظني، فمن أراد كسر قوة هذه الطبيعة، فذلك بالإكثار من أمرين:
أحدهما: أن يستحضر على الإنصاف الفكر إنه قد وقع ما لا تَعْرِفُه نفسه، ولا تألَفُهُ بالضرورة العقلية، والوقوع فرع الصحة، فكيف تشُكُّ لأجل ذلك فيما جاء به الشرع مما لا تعرفه ولا تألفه، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{أم خُلِقُوا مِنْ غَيرِ شَيءٍ أمْ هُمُ الخالقونَ} [الطور: 35] وأمثالها في كتاب الله تعالى.
ومن ذلك: إثبات القِدَم، ولا بُدَّ منه، فمن لم يثبت القِدَمَ للرب سبحانه من الفلاسفة أثبت القِدَم للعالم، ولو قدرنا وجود من ينفي القدم، ويساعد النفس إلى استنكاره أمران:
أحدهما: القول بثبوت معنى القدم وما لا نهاية له للأمور المعقولة مما لا وجود له مثل الجهات الست، فإنه لا نهاية له ضرورة، لأن تصور طرف لا جهة بعده ولا فراغ محال.
وكذلك يلزم ثبوت صفة (1) القدم للعدم لا يقال: يصح ذلك، لأنها أمورٌ غيرُ حقيقية، لأن العقل إنما امتنع من تصور قِدَمِ الأمر الحقيقي، لكون القدمِ لا نهاية له، لا لكونه صفة أمر حقيقي.
وثانيهما: القول بحدوث هذا العالم، وخروجه من العدم لغير موجب، وهذا محالٌ في ضرورة العقل، فثبت أنه يلزم ما هو محالٌ أو محارة، فالمحال
(1) في (أ): " وصفه "، وفي (ش):" وصفية ".
لازم من تقدير الكفر، والمحارة لازمةٌ لبعض من قصَّر علمه من أهل الإسلام، فمن لم يقل بالإسلام لوقوعه منه في محارةٍ، قال بالمحال لا محالة، ومن قال بالإسلام، صَحَتْ نفسُهُ من الوقوع في المحارة، فإن المحارة: عبارةٌ عما لا يمكن العقل تصوُّرَه مع تجويزه بالنظر إليه في نفس الأمر، وإنما هو ممتنعٌ بالنظر إلى تصوُّر العقل له، والمُحال ممتنع بالنظر إلى تصور العقل وإلى نفس الأمر، فإنما مع الإصغاء إلى التشكيك غاية الإصغاء يَجِدُ العقل يجزم حينئذٍ بإمكان المحارة، وامتناع المحال.
ومن لم يميز بينهما، كابن عربيٍّ الصُّوفي، جوَّز المُحالاتِ كلها، وإلى ذلك أشار بقوله (1):
صورة الكونِ مُحالٌ
…
وهي حَقٌّ في الحقيقةِ
وهي سَفسَطَةٌ محضةٌ ومعها لا يصح له قوله: وهي حق في الحقيقة، فتأمل.
ولا يندفع مثل هذا إلَاّ بوجدان بطلانه بالضرورة التي لا اختيار في كسبها، فالمريب في الإسلام وما جاء به بسبب ذلك كالمستجير من الرَّمضاء بالنار، لا بل كالمستبدل الظُّلَمَات بالنور، وبالظِّلِّ الحرور.
وإذا كان لا بد من وقوع الكفار في المُحالات، وبعض المسلمين في المحارات في باب مدارك العقول التي لا خلاف أن العقول تعرفها، فكيف باب التحسين والتقبيح الذي يَقِفُ على الوجوه والاعتبارات والأمور الإضافيات، ويتقدم الجزم فيه بالنفي والإثبات على الإحاطة بمعرفة جميع الحِكَمِ والغايات والتأويلات، وخوض العقل في هذا الباب قد أنكره جماعة جِلَّةٌ من أهل
(1) في " فصوص الحكم " ص 159 وبعده:
والذي يفهم هذا
…
حاز أسرار الطريقة
المعارف والعقليات، والخوض في اللطائف الخفيات، فهو أولى بتجويز المحارات العقلية، والتسليم للنصوص الشرعيات.
وثانيهما: تخويف النفس بالوقوع في المَخُوفات الهائلة، بل عذاب الآخرة، نعوذ بالله منه، ولو أمكن إيقاعها في المخوف، كان أنفع لها، قال الله عز وجل:{وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 46] ولكن تخويفها يكفي عند عدم التمكن من أكثر منه، فإنها لا تؤمن بالغيب والمحارات والمستبعدات، فإنها لا تأمَنُ منها، لأنها كفارةٌ مطبوعةٌ على عدم الإيمان بشيءٍ من ذلك نفياً وإثباتاً.
وهذا أوضح دليلٍ على أنها لم تستند في نفي ما لا تعرفه من المحارات إلى علم يقين، لأنه لو كان كذلك لما وجدت الخوف والتخويف، فإن المتيقن لانتفاء العذاب لا يَجِدُ عند التخويف خوفاً ولا يتشكك بالتشكيك (1)، فإنه لو قال لنا قائلٌ: إن العشرة أقل من الخمسة، والبعض أكثر من الكل، وشَكَّك علينا في ذلك، لم نَشُكَّ أبداً. فوجدان الشك والخوف عند التخويف مستلزمٌ للجهل ضرورةً، وإلى هذا الوجه الإشارة بقوله تعالى:{قُلْ أرأيتُم إنْ كان مِنْ عِندِ الله وكَفَرتُم بِه} إلى قوله: {إنَّ الله لا يَهدي القوم الظالمين} [الأحقاف: 10].
وقوله: {أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 47].
وقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر: 83 - 84].
وأمرٌ ثالث يلحق بهذين الأمرين مما يُعلَمُ به ظلم ابن آدم وكَذِبُه في دعاويه
(1)" بالتشكيك " سقطت من (أ) و (ش).
أنه يُؤثِرُ هواه على ما يعلم أنه حق، كما يُؤثِرُ الإقبال على دار الفناء مع العلم الضروري الذي لا ينجي منه عملٌ، ولا تُرجى فيه شفاعةٌ، ولا تشكك فيه شبهةٌ، وما أحسن قول بعضهم:
حسبي من الجهل علمي أن آخرتي
…
هي المعاد (1) وأنِّي لا أُراعيها
وأن دُنياي دارٌ لا قَرارَ بها
…
ولا أزَالُ مُعَنَّى في مساعيها
وهكذا النفس ما زالتْ مُعَلَّلةً
…
بباطلِ العَيْشِ حتى قام ناعيها
وكم من أمرٍ راجحٍ بالضرورة لا تساعد إلى المسارعة (2) إليه، فقِسْ على ذلك اعتذارها بالشكِّ في الاستدلاليات، فما هو إلَاّ من الخُبثِ والخداع والمَكْرِ والفساد، فنسأل الله العظيم الإعانة على هذه النفس الأمَّارة بالسُّوء إلا ما رحم الله.
فهذه مذاهب السنة، وهي سبيل السلامة، وقد كنت دوَّنْتُ هنا أقاويل المتكلمين من المبتدعة وأهل السُّنَّة، وكلام ابن تيمية وأصحابه في المنع من دوام العذاب وادعاءهم أن السمع ما ورد بذلك قطعاً وأن العقل يمنع منه، وما رووا في ذلك من اختلاف السلف، وسيأتي تلويح الغزالي إلى هذا في " المقصد الأسنى "(3) في شرح " الرحمن الرحيم " من الأسماء الحسنى، وإنشاده ذلك:
لَقَدْ أسْمَعْتَ لو (4) نَاديتَ حَيَّاً
…
ولكن لا حَياةَ لِمن تُنادي
ولكنه سمَّاه سراً، وادَّعى منع الشرع من إفشائه، وأنه يَفسُدُ بسببه كثيرٌ من الناس، وذكر ذلك في مقدمات كتابه " إحياء علوم الدين "، وفي بعض كلامه استدراكٌ عليه قد ذكرته فيما تقدم.
(1) في الأصول: " الممات " وكتب فوقها في (أ) و (ف): " المعاد "، وهو الصواب.
(2)
في (ش): المساعدة.
(3)
ص 63.
(4)
في (ش): إذ.
ومنتهى إقدام الخائضين في هذه الغمرة، وأقوى ما تمسَّكوا به هو نقل كلام بعض الصحابة والتابعين وأئمة السنة في تفسير قوله عز وجل:{قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام: 128]، وفي آيةٍ أخرى:{خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ونحوهما. بل خصَّ بهذا الحديث جميع عموم القرآن كما يخصُّ بآيات التوبة جميع عمومات الوعيد، وكما هو القاعدة في تخصيص العُمومات، وإن كَثُرَتْ بالخصوص على جهة القطع دون التوقف، أو يجعل هذا من المتشابه، ويجب الوقف، ويرد تأويله إلى الله تعالى.
فهذه ثلاثة أقوالٍ، والتقصي لتفاصيل أدلتهم ومعارضتهم تخرج عن المقصود، وتحتاج إلى تأليفٍ مستقلِّ، وذِكرُ طرفٍ منه يُثير الشكَّ، ويُمْرِضُ القلب.
والحق أنه إن حصل في هذه المشكلة علمٌ ضروريٌّ من الدِّين أو إجماع المسلمين، انقطع الاضطراب، وحمل عليه مختلف السنة والكتاب، وإلا وُكلَ تفسير المتشابه إلى رب الأرباب من غير شك ولا ارتياب، والله أعلم بالصواب.
وقد صنَّف ابن تيمية في نصرة مذهبه، وصنف الذهبي في الرد عليه، ولي في ذلك مباحثٌ وزياداتٌ، وانتقاد على كل منهما، ولي في ذلك قصيدةٌ مُطوَّلةٌ سميتها " الإجادة في الإرادة " وهي أكثر من ألف بيتٍ " من أولها:
تَحَيَّرَ أربابُ النُّهى مالمُرادُ بالـ
…
ـعُصاة من الجن وأولاد آدمِ
أخيراً أراد الله بالخلق أوَّلاً
…
أم الشَّرُّ مقصودٌ لأحكم حاكِمِ؟
فإن كان خيراً هل يجوز فواته (1)
…
على قادِرٍ للذات بالغيب عالمِ
وإن كان شراً هل أُريد لنفسه
…
أم الخير مقصودٌ به في اللوازمِ
(1) في (أ) و (ف): فوته.
وهل سبقُ قصد الخير بالشر يقتضي الـ
…
ـتطابق بين الابتدا والخواتمِ
وهل جائِزٌ كِتمانُ بعض المُراد إذْ
…
تساوى الورى والربُّ ليس بلازمِ
أو الرب مُبدٍ للبَواطِن كُلِّها
…
مُبينٌ لإخفا سِرّه غير كاتِمِ
وأكثر أصحاب الكلام تكلَّفُوا
…
وجَاؤوا بآراءٍ ضِعاف الدَّعائمِ
فلا وقفوا في المشكلات ولا أتَوا
…
لديها بآراءٍ صِلاب المعاجمِ
فَمِنْ قاصِدٍ تنزيهه لو رَعَى له
…
مِن الجَبَروت الحَقِّ غير التَّعاظُمِ
ومن قاصدٍ تعظيمه لو رعى له
…
مَحامِد ممدوحٍ بأحكم حاكمِ
وحافظَ كُل العارفين عليهما
…
وهذا الصراط المستقيم لقائم
ولعلها من أحسن ما قيل في هذا المعنى لا سيما إن يسَّر الله لها شرحاً شافياً.
وقد تكلَّم ابن قيم الجوزية في ذلك في كتابه " حادي الأرواح إلى دار الأفراح "(1) وجوَّد، ولكنه مائلٌ إلى نُصرة شيخه ابن تيمية بالكُلِّيَّة، غيرُ (2) متعرض لنصرة غيره، والله سبحانه عند لسان كل قائلٍ وقلبه ونيته.
ولما كانت أحوال الخاصة تخالف أحوال العامة في التَّطلُّع إلى معرفة الأدلة والانتقاد، خصوصاً في مسائل الاعتقاد، وأحوال العامة لا تصلح بالخوض في الدقائق والتولج في المضايق، جعلت بسط الكلام في هذه المسألة الكبرى فُسحةً (3) في هذا الموضع من " العواصم "، من شاء من الخاصة أثبتها لانتفاعه بذلك، ومن شاء من العامة تركها لعدم صلاحيته لسلوك (4) هذه المسالك، والحمد لله الذي وفق لذلك. ومن أثبتها، فليجعلها مُؤَخَّرَةً من هذا الموضع إلى
(1) ص 249 - 254.
(2)
" غير " ساقطة من ش.
(3)
في (ف): فسيحة.
(4)
في (ش): لشكوك.