الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالسَّاعَةُ: أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ، وَقَوْلِهِ: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا [79 \ 46] وَقَوْلِهِ: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ [10 \ 45] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ [46 \ 35] .
وَقَدْ بَيَّنَّا الْجَوَابَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ فِي كِتَابِنَا: دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ فِي الْكَلَامِ عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وَيَقُولُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْهُمْ: لَبِثْنَا سَاعَةً وَيَقُولُ بَعْضٌ آخَرُ مِنْهُمْ: لَبِثْنَا عَشْرًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ أَقْوَاهُمْ إِدْرَاكًا، وَأَرْجَحَهُمْ عَقْلًا، وَأَمْثَلَهُمْ طَرِيقَةً هُوَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّهُمْ مَا لَبِثُوا إِلَّا يَوْمًا وَاحِدًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا [20 \ 103 - 104] فَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي اخْتِلَافِ أَقْوَالِهِمْ، وَعَلَى ذَلِكَ فَلَا إِشْكَالَ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ، أَيِ: الْحَاسِبِينَ، الَّذِينَ يَضْبُطُونَ مُدَّةَ لُبْثِنَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْهَمْزَةِ إِلَى السِّينِ، وَحَذْفِ الْهَمْزَةِ، وَالْبَاقُونَ: فَاسْأَلْ بِغَيْرِ نَقْلٍ، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: قُلْ كَمْ لَبِثْتُمْ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ بِفَتْحِ الْقَافِ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَفَتْحِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا حَاصِلُهُ: إِنَّهُ عَلَى قِرَاءَةِ قَالَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي فَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ يَعُودُ إِلَى اللَّهِ، أَوْ إِلَى مَنْ أُمِرَ بِسُؤَالِهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَعَلَى قِرَاءَةِ قُلْ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، فَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى الْمَلَكِ الْمَأْمُورِ بِسُؤَالِهِمْ أَوْ بَعْضِ رُؤَسَاءِ أَهْلِ النَّارِ هَكَذَا قَالَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَدْ صَدَّقَهُمُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي قِلَّةِ لَبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِقَوْلِهِ: قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [23 \
114]
.
لِأَنَّ مُدَّةَ مُكْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا قَلِيلَةٌ جِدًّا، بِالنِّسْبَةِ إِلَى طُولِ مُدَّتِهِمْ خَالِدِينَ فِي النَّارِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: قُلْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَالْبَاقُونَ بِصِيغَةِ الْمَاضِي.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ، الِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَفَحَسِبْتُمْ لِلْإِنْكَارِ، وَالْحُسْبَانُ هُنَا مَعْنَاهُ: الظَّنُّ، يَعْنِي: أَظْنَنْتُمْ أَنَّا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا لَا لِحِكْمَةٍ، وَأَنَّكُمْ لَا تُرْجَعُونَ إِلَيْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنُجَازِيكُمْ عَلَى أَعْمَالِكُمْ، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ، ثُمَّ نَزَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - نَفْسَهُ، عَنْ أَنْ يَكُونَ خَلْقُهُمْ عَبَثًا، وَأَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ.
وَقَوْلُهُ: فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ أَيْ تَعَاظَمَ وَتَقَدَّسَ، وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ، وَمِنْهُ خَلْقُكُمْ عَبَثًا سبحانه وتعالى، عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ إِنْكَارِ الظَّنِّ الْمَذْكُورِ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [38 \ 27] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [44 \ 38 - 39] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [75 \ 36 - 39] وَقَوْلُهُ: سُدًى، أَيْ: مُهْمَلًا لَا يُحَاسَبُ وَلَا يُجَازَى، وَهُوَ مَحَلُّ إِنْكَارِ ظَنِّ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى وَقَوْلُهُ: عَبَثًا: يَجُوزُ إِعْرَابُهُ حَالًا، لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ مُنْكَرٌ، أَيْ: إِنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ فِي حَالِ كَوْنِنَا عَابِثِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْرَبَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، أَيْ: إِنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ ; لِأَجْلِ الْعَبَثِ لَا لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ خَلْقَنَا إِيَّاكُمْ، وَأَعْرَبَهُ بَعْضُهُمْ مَفْعُولًا مُطْلَقًا، وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَبَثًا: أَيْ مُهْمَلِينَ، وَالْعَبَثُ فِي اللُّغَةِ: اللَّعِبُ، وَيَدُلُّ عَلَى تَفْسِيرِهِ فِي الْآيَةِ بِاللَّعِبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ [44 \ 38] وَقَوْلُهُ: الْمَلِكُ الْحَقُّ [23 \ 161]، قَالَ بَعْضُهُمْ: أَيِ: الَّذِي يَحِقُّ لَهُ الْمُلْكُ ; لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمَلِكُ الْحَقُّ: الثَّابِتُ الَّذِي لَا يَزُولُ مُلْكُهُ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ فِي سُورَةِ النَّحْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا [16 \ 52] وَإِنَّمَا وُصِفَ عَرْشُهُ بِالْكَرَمِ لِعَظَمَتِهِ وَكِبَرِ شَأْنِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: عَبَثًا ; لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَظْهَرُ مِنْهُ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ.
الْبُرْهَانُ: الدَّلِيلُ الَّذِي لَا يَتْرُكُ فِي الْحَقِّ لَبْسًا، وَقَوْلُهُ: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ كَقَوْلِهِ وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا الْآيَةَ [22 \ 71]، وَالسُّلْطَانُ: هُوَ الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ وَهُوَ بِمَعْنَى: الْبُرْهَانُ، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ قَدْ بَيَّنَ أَنَّ حِسَابَهُ الَّذِي عِنْدَ رَبِّهِ، لَا فَلَاحَ لَهُ فِيهِ بِقَوْلِهِ بَعْدَهُ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ وَأَعْظَمُ الْكَافِرِينَ كُفْرًا هُوَ مَنْ يَدْعُو مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ، وَنَفْيُ الْفَلَاحِ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَى هَلَاكِهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَقَدْ حَذَّرَ اللَّهُ مِنْ دُعَاءِ إِلَهٍ مَعَهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ [51 \ 51] وَقَوْلِهِ: وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [28 \ 88] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا [17 \ 22] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَا خِلَافَ بَيْنِ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لَهُ، فَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: أَمَّا مَنْ عَبَدَ مَعَهُ إِلَهًا آخَرَ لَهُ بُرْهَانٌ بِهِ فَلَا مَانِعَ مِنْ ذَلِكَ ; لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ بُرْهَانٍ عَلَى عِبَادَةِ إِلَهٍ آخَرَ مَعَهُ، بَلِ الْبَرَاهِينُ الْقَطْعِيَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ، دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا - وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ دَلِيلٌ عَلَى عِبَادَةِ غَيْرِهِ أَلْبَتَّةَ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْأُصُولِ أَنَّ مِنْ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، كَوْنَ تَخْصِيصِ الْوَصْفِ بِالذِّكْرِ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ فَيَرِدُ النَّصُّ ذَاكِرًا لِوَصْفِ الْمُوَافِقِ لِلْوَاقِعِ لِيُطَبَّقَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ، فَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ إِذًا لَيْسَ لِإِخْرَاجِ الْمَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ، بَلْ لِتَخْصِيصِ الْوَصْفِ بِالذِّكْرِ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ وَصْفٌ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ ; لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ بِلَا بُرْهَانٍ، فَذَكَرَ الْوَصْفَ لِمُوَافَقَتِهِ الْوَاقِعَ، لَا لِإِخْرَاجِ الْمَفْهُومِ عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ.
وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [3 \ 28] ; لِأَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ وَالُوا الْيَهُودَ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَوْلُهُ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ذِكْرٌ لِمُوَافَقَتِهِ لِلْوَاقِعِ لَا لِإِخْرَاجِ الْمَفْهُومِ، عَنْ حُكْمِ الْمَنْطُوقِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ اتِّخَاذَ
الْمُؤْمِنِينَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ، مَمْنُوعٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ فِي ذِكْرِهِ مَوَانِعَ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ بِقَوْلِهِ:
أَوِ امْتِنَانٌ أَوْ وِفَاقُ الْوَاقِعِ
…
وَالْجَهْلُ وَالتَّأْكِيدُ عِنْدَ السَّامِعِ
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي خَاتِمَةِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فِيهِ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَرِيقَ، الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ:(رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) . مُوَفَّقُونَ فِي دُعَائِهِمْ ذَلِكَ وَلِذَا أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَأَمَرَ بِهِ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم لِتَقْتَدِيَ بِهِ أُمَّتُهُ فِي ذَلِكَ، وَمَعْمُولُ اغْفِرْ وَارْحَمْ حُذِفَ هُنَا، لِدَلَالَةِ مَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا [7 \ 155] وَالْمَغْفِرَةُ: سَتْرُ الذُّنُوبِ بِعَفْوِ اللَّهِ وَحِلْمِهِ حَتَّى لَا يَظْهَرَ لَهَا أَثَرٌ يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُهَا، وَالرَّحْمَةُ صِفَةُ اللَّهِ الَّتِي اشْتَقَّ لِنَفْسِهِ مِنْهَا اسْمَهُ الرَّحْمَنَ، وَاسْمَهُ الرَّحِيمَ، وَهِيَ صِفَةٌ تَظْهَرُ آثَارُهَا فِي خَلْقِهِ الَّذِينَ يَرْحَمُهُمْ، وَصِيغَةُ التَّفْضِيلِ فِي قَوْلِهِ: وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ; لِأَنَّ الْمَخْلُوقِينَ قَدْ يَرْحَمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ تُخَالِفُ رَحْمَةَ خَلْقِهِ، كَمُخَالَفَةِ ذَاتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ لِذَوَاتِهِمْ، وَصِفَاتِهِمْ كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [7 \ 54] وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.