المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وَالْأَظْهَرُ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْبَغِي لَهُ - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٥

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: وَالْأَظْهَرُ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْبَغِي لَهُ

وَالْأَظْهَرُ لَنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إِلَّا عَفِيفَةً صَيِّنَةً، لِلْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَالْأَحَادِيثِ وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ «: فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ» ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى،

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَرْمُونَ مَعْنَاهُ: يَقْذِفُونَ الْمُحْصَنَاتِ بِالزِّنَا صَرِيحًا أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُ الزِّنَا كَنَفْيِ نَسَبِ وَلَدِ الْمُحْصَنَةِ عَنْ أَبِيهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ أَبِيهِ كَانَ مِنْ زِنًى، وَهَذَا الْقَذْفُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ ثَلَاثَةَ أَحْكَامٍ:

الْأَوَّلُ: جَلْدُ الْقَاذِفِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً.

وَالثَّانِي: عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَتِهِ.

وَالثَّالِثُ: الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْفِسْقِ.

فَإِنْ قِيلَ: أَيْنَ الدَّلِيلُ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّ مَعْنَى يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، هُوَ الْقَذْفُ بِصَرِيحِ الزِّنَى، أَوْ بِمَا يَسْتَلْزِمُهُ كَنَفْيِ النَّسَبِ؟

فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَتَانِ مِنَ الْقُرْآنِ:

الْأُولَى: قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ: يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْقَذْفِ يَتَوَقَّفُ إِثْبَاتُهُ عَلَى أَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إِلَّا الزِّنَى، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ اللِّوَاطَ حُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَى أَجْرَى أَحْكَامَ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى اللَّائِطِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَحْكَامَ اللَّائِطِ مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، كَمَا أَشَرْنَا لَهُ غَيْرَ بَعِيدٍ.

الْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ ذِكْرُ الْمُحْصَنَاتِ بَعْدَ ذِكْرِ الزَّوَانِي، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ فَذِكْرُ الْمُحْصَنَاتِ بَعْدَ ذِكْرِ الزَّوَانِي، يَدُلُّ عَلَى إِحْصَانِهِنَّ، أَيْ: عِفَّتِهِنَّ عَنِ الزِّنَى، وَأَنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَهُنَّ إِنَّمَا يَرْمُونَهُنَّ بِالزِّنَى، وَقَدْ قَدَّمْنَا جَمِيعَ الْمَعَانِي الَّتِي تُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ فِي الْقُرْآنِ، وَمَثَّلْنَا لَهَا كُلِّهَا مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ‌

‌[4

\ 24] ، فَذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ الْمَعَانِي الَّتِي

ص: 428

تُرَادُ بِالْمُحْصَنَاتِ كَوْنُهُنَّ عَفَائِفَ غَيْرَ زَانِيَاتٍ ; كَقَوْلِهِ: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ [4 \ 24]، أَيْ: عَفَائِفَ غَيْرَ زَانِيَاتٍ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ أَيِ: الْعَفَائِفَ، وَإِطْلَاقُ الْمُحْصَنَاتِ عَلَى الْعَفَائِفِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:

فَلَا تَأْمَنَنَّ الْحَيَّ قَيْسًا فَإِنَّهُمْ

بَنُو مُحْصَنَاتٍ لَمْ تُدَنَّسْ حُجُورُهَا

وَإِطْلَاقُ الرَّمْيِ عَلَى رَمْيِ الشَّخْصِ لِآخَرَ بِلِسَانِهِ بِالْكَلَامِ الْقَبِيحِ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ أَحْمَرَ الْبَاهِلِيِّ:

رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي

بَرِيئًا وَمِنْ أَجْلِ الطَّوِيِّ رَمَانِي

فَقَوْلُهُ: رَمَانِي بِأَمْرٍ يَعْنِي: أَنَّهُ رَمَاهُ بِالْكَلَامِ الْقَبِيحِ، وَفِي شِعْرِ امْرِئِ الْقَيْسِ أَوْ غَيْرِهِ: وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مُبَيَّنَةٌ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ ثَلَاثِ جِهَاتٍ:

الْجِهَةُ الْأُولَى: هِيَ الْقَرِينَتَانِ الْقُرْآنِيَّتَانِ الدَّالَّتَانِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّمْيِ فِي قَوْلِهِ: يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ هُوَ الرَّمْيُ بِالزِّنَى، أَوْ مَا يَسْتَلْزِمُهُ كَنَفْيِ النَّسَبِ ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ قَرِيبًا.

الْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ أَنَّ عُمُومَ هَذِهِ الْآيَةِ ظَاهِرٌ فِي شُمُولِهِ لِزَوْجِ الْمَرْأَةِ إِذَا رَمَاهَا بِالزِّنَى، وَلَكِنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - بَيَّنَ أَنَّ زَوْجَ الْمَرْأَةِ إِذَا قَذَفَهَا بِالزِّنَى خَارِجٌ مِنْ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُ إِنْ لَمْ يَأْتِ الشُّهَدَاءُ تَلَاعَنَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ الْآيَةَ [24 \ 6] .

وَمَضْمُونُهَا: أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَى وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَاهِدٌ غَيْرَ نَفْسِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِتْيَانِ بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ عَلَى الزِّنَى الَّذِي رَمَاهَا بِهِ، فَإِنَّهُ يَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ يَقُولُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنِّي لَصَادِقٌ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ مِنَ الزِّنَى، ثُمَّ يَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: عَلَيَّ لَعْنَةُ اللَّهِ إِنْ كُنْتُ كَاذِبًا عَلَيْهَا فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ، وَيَرْتَفِعُ عَنْهُ الْجَلْدُ وَعَدَمُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْفِسْقُ بِهَذِهِ الشَّهَادَاتِ، وَتَشْهَدُ هِيَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ، تَقُولُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا: أَشْهَدُ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَكَاذِبٌ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَى، ثُمَّ تَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ: غَضَبُ اللَّهِ

ص: 429

عَلَيَّ إِنْ كَانَ صَادِقًا فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَى ; كَمَا هُوَ وَاضِحٌ مِنْ نَصِّ الْآيَةِ.

الْجِهَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ هَنَا حُكْمَ عُقُوبَةِ مَنْ رَمَى الْمُحْصَنَاتِ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا أُعِدَّ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ مَا أُعِدَّ لَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [24 \ 23 - 25] ، وَقَدْ زَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ كَوْنَهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ غَافِلَاتٍ لِإِيضَاحِ صِفَاتِهِنَّ الْكَرِيمَةَ.

وَوَصْفُهُ تَعَالَى لِلْمُحْصَنَاتِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِكَوْنِهِنَّ غَافِلَاتٍ ثَنَاءٌ عَلَيْهِنَّ بِأَنَّهُنَّ سَلِيمَاتُ الصُّدُورِ نَقِيَّاتُ الْقُلُوبِ لَا تَخْطُرُ الرِّيبَةُ فِي قُلُوبِهِنَّ لِحُسْنِ سَرَائِرِهِنَّ، لَيْسَ فِيهِنَّ دَهَاءٌ وَلَا مَكْرٌ ; لِأَنَّهُنَّ لَمْ يُجَرِّبْنَ الْأَمْرَ فَلَا يَفْطُنَّ لِمَا تَفْطُنُ لَهُ الْمُجَرِّبَاتُ ذَوَاتُ الْمَكْرِ وَالدَّهَاءِ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ سَلَامَةِ الصُّدُورِ وَصَفَائِهَا مِنَ الرِّيبَةِ مِنْ أَحْسَنِ الثَّنَاءِ، وَتُطْلِقُ الْعَرَبُ عَلَى الْمُتَّصِفَاتِ بِهِ اسْمَ الْبُلْهِ مَدْحًا لَهَا لَا ذَمًّا، وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانٍ رضي الله عنه:

نُفُجُ الْحَقِيبَةِ بُوصُهَا مُتَنَضِّدٌ

بَلْهَاءُ غَيْرُ وَشِيكَةِ الْأَقْسَامِ

وَقَوْلُ الْآخَرِ:

وَلَقَدْ لَهَوْتُ بِطِفْلَةٍ مَيَّالَةٍ

بِلْهَاءَ تُطْلِعُنِي عَلَى أَسْرَارِهَا

وَقَوْلُ الْآخَرِ:

عَهِدْتُ بِهَا هِنْدًا وَهِنْدٌ غَرِيرَةٌ

عَنِ الْفُحْشِ بَلْهَاءُ الْعِشَاءِ نَئُومُ

رَدَاحُ الضُّحَى مَيَّالَةٌ بَخْتَرِيَّةٌ

لَهَا مَنْطِقٌ يُصْبِي الْحَلِيمَ رَخِيمُ

وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [24 \ 23 - 24] ، مَحَلُّهُ فِيمَا إِذَا لَمْ يَتُوبُوا وَيُصْلِحُوا، فَإِنْ تَابُوا وَأَصْلَحُوا، لَمْ يَنَلْهُمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْوَعِيدِ، وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ إِلَى قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا الْآيَةَ.

وَعُمُومَاتُ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ تَابَ إِلَى اللَّهِ مِنْ ذَنْبِهِ تَوْبَةً نَصُوحًا

ص: 430

تَقَبَّلَهَا مِنْهُ، وَكَفَّرَ عَنْهُ ذَنْبَهُ وَلَوْ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَجِلَّاءِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ آيَةَ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ فِيهَا التَّوْبَةَ بِقَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا عَامَّةٌ، وَأَنَّ آيَةَ: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْآيَةَ [24 \ 23] ، خَاصَّةً بِالَّذِينِ رَمَوْا عَائِشَةَ رضي الله عنها أَوْ غَيْرَهَا مِنْ خُصُوصِ أَزْوَاجِهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ مَنْ رَمَاهُنَّ لَا تَوْبَةَ لَهُ خِلَافَ التَّحْقِيقِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: لَا يَخْفَى أَنَّ الْآيَةَ إِنَّمَا نَصَّتْ عَلَى قَذْفِ الذُّكُورِ لِلْإِنَاثِ خَاصَّةً ; لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ وَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ قَذْفَ الذُّكُورِ لِلذُّكُورِ، أَوِ الْإِنَاثِ لِلْإِنَاثِ، أَوِ الْإِنَاثِ لِلذُّكُورِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا نَصَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ، مِنْ قَذْفِ الذُّكُورِ لِلْإِنَاثِ ; لِلْجَزْمِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْجَمِيعِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ هَذَا وَإِبْطَالَ قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ فِيهِ، مَعَ إِيضَاحِ كَثِيرٍ مِنْ نَظَائِرِهِ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» ، فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى آيَةِ: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ الْآيَةَ [21 \ 78] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي أُصُولِ الْمَالِكِيَّةِ، وَالشَّافِعِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إِذَا جَاءَ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَاتٍ، أَوْ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَاتٍ، أَنَّهُ يَرْجِعُ لِجَمِيعِهَا إِلَّا لِدَلِيلٍ مِنْ نَقْلٍ أَوْ عَقْلٍ يُخَصِّصُهُ بِبَعْضِهَا، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِلْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ فِي «مَرَاقِي السُّعُودِ» ، بِقَوْلِهِ:

وَكُلُّ مَا يَكُونُ فِيهِ الْعَطْفُ

مِنْ قَبْلِ الِاسْتِثْنَا فَكُلًّا يَقْفُو

دُونَ دَلِيلِ الْعَقْلِ أَوْ ذِي السَّمْعِ

وَالْحَقُّ الِافْتِرَاقُ دُونَ الْجَمْعِ

وَلِذَا لَوْ قَالَ إِنْسَانٌ: هَذِهِ الدَّارُ وَقْفٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَبَنِي زُهْرَةَ، وَبَنِي تَمِيمٍ إِلَّا الْفَاسِقَ مِنْهُمْ، فَإِنَّهُ يُخْرِجُ مِنَ الْوَقْفِ الْفَاسِقَ مِنَ الْجَمِيعِ لِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ لِلْجَمِيعِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِرُجُوعِهِ لِلْأَخِيرَةِ، فَلَا يَخْرُجُ عِنْدَهُ إِلَّا فَاسِقُ الْأَخِيرَةِ فَقَطْ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ عِنْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، إِلَّا لِجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي هِيَ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا فَقَدْ زَالَ عَنْهُمُ الْفِسْقُ، وَلَا يَقُولُ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً

ص: 431

أَبَدًا إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا فَاقْبَلُوا شَهَادَتَهُمْ، بَلْ يَقُولُ: إِنَّ شَهَادَةَ الْقَاذِفِ لَا تُقْبَلُ أَبَدًا، وَلَوْ تَابَ وَأَصْلَحَ، وَصَارَ أَعْدَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ لِرُجُوعِ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَهُ لِلْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ.

وَمِمَّنْ قَالَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْقَاضِي شُرَيْحٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمَكْحُولٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ جَابِرٍ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إِلَّا إِذَا اعْتَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْكَذِبِ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ.

وَقَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ: إِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْآيَةِ رَاجِعٌ أَيْضًا لِقَوْلِهِ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأَنَّ الْقَاذِفَ إِذَا تَابَ وَأَصْلَحَ، قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ، أَمَّا قَوْلُهُ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً فَلَا يَرْجِعُ لَهُ الِاسْتِثْنَاءُ ; لِأَنَّ الْقَاذِفَ إِذَا تَابَ وَأَصْلَحَ، لَا يَسْقُطُ عَنْهُ حَدُّ الْقَذْفِ بِالتَّوْبَةِ.

فَتَحَصَّلَ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْأَخِيرَةَ الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ: وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ يَرْجِعُ لَهَا الِاسْتِثْنَاءُ بِلَا خِلَافٍ، وَأَنَّ الْجُمْلَةَ الْأُولَى الَّتِي هِيَ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً لَا يَرْجِعُ لَهَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يُخَالِفْ إِلَّا مَنْ شَذَّ، وَأَنَّ الْجُمْلَةَ الْوُسْطَى، وَهِيَ قَوْلُهُ: وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا يَرْجِعُ لَهَا الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا: دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ، أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ جُمَلٍ مُتَعَاطِفَاتٍ أَوْ مُفْرَدَاتٍ مُتَعَاطِفَاتٍ هُوَ مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ، كَابْنِ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَالْغَزَالِيِّ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ، وَالْآمِدِيِّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْآتِي بَعْدَ مُتَعَاطِفَاتٍ هُوَ الْوَقْفُ، وَلَا يُحْكَمُ بِرُجُوعِهِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَلَا إِلَى الْأَخِيرَةِ إِلَّا بِدَلِيلٍ.

وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ الْآيَةَ [4 \ 59] .

وَإِذَا رَدَدْنَا النِّزَاعَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى اللَّهِ وَجَدْنَا الْقُرْآنَ دَالًّا عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا، وَهُوَ الْوَقْفُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَعْضَ الْآيَاتِ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا الِاسْتِثْنَاءُ لِلْأُولَى، وَبَعْضَهَا لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ الِاسْتِثْنَاءُ لِلْأَخِيرَةِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ رُجُوعَهُ لِمَا قَبْلَهُ لَيْسَ شَيْئًا مُطَّرِدًا.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا [4 \ 92] ، فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ رَاجِعٌ لِلدِّيَةِ فَقَطْ ; لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا تَسْقُطُ

ص: 432

بِتَصَدُّقِ مُسْتَحِقِّهَا بِهَا، وَلَا يَرْجِعُ لِتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ إِجْمَاعًا، لِأَنَّ تَصَدُّقَ مُسْتَحَقِّي الدِّيَةِ بِهَا لَا يُسْقِطُ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ خَطَأً.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ آيَةُ «النُّورِ» هَذِهِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا لَا يَرْجِعُ لِقَوْلِهِ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [4 \ 89 - 90]، فَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ لَا يَرْجِعُ إِلَى الْجُمْلَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي هِيَ أَقْرَبُ الْجُمَلِ الْمَذْكُورَةِ إِلَيْهِ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [4 \ 89] ، إِذْ لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ مِنَ الْكُفَّارِ، وَلَوْ وَصَلُوا إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَلِ الِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ، أَعْنِي قَوْلَهُ تَعَالَى: فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ [4 \ 89]، أَيْ: فَخُذُوهُمْ بِالْأَسْرِ، وَاقْتُلُوهُمْ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ، فَلَيْسَ لَكُمْ أَخْذُهُمْ بِأَسْرٍ، وَلَا قَتْلُهُمْ ; لِأَنَّ الْمِيثَاقَ الْكَائِنَ لِمَنْ وَصَلُوا إِلَيْهِمْ يَمْنَعُ مِنْ أَسْرِهِمْ، وَقَتْلِهِمْ كَمَا اشْتَرَطَهُ هِلَالُ بْنُ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيُّ فِي صُلْحِهِ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ; لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ، وَفِي سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكٍ الْمُدْلِجِيُّ، وَفِي بَنِي جُذَيْمَةَ بْنِ عَامِرٍ، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ رُبَّمَا لَمْ يَرْجِعْ إِلَى أَقْرَبِ الْجُمَلِ إِلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُوَ فِي الطَّرَفِ الْأَعْلَى مِنَ الْإِعْجَازِ، تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْ رُجُوعُهُ لِلْجَمِيعِ، وَلَا إِلَى الْأَخِيرَةِ، وَأَنَّ الْأَظْهَرَ الْوَقْفُ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ قَبْلَهُ بِدَلِيلٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّهُ إِنْ تَجَرَّدَ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالْأَدِلَّةِ، كَانَ ظَاهِرًا فِي رُجُوعِهِ لِلْجَمِيعِ.

وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِنَا «دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، وَلِذَلِكَ اخْتَصَرْنَاهُ هُنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَذَفَ إِنْسَانًا بِغَيْرِ الزِّنَى أَوْ نَفْيِ النَّسَبِ، كَأَنْ يَقُولَ لَهُ: يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا آكِلَ الرِّبَا، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ السَّبِّ يَلْزَمُهُ التَّعْزِيرُ، وَذَلِكَ بِمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ رَادِعًا لَهُ وَلِأَمْثَالِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدِ شَيْءٍ فِي ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ قَدْرَ الْحَدِّ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّ التَّعْزِيرَ بِحَسَبِ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ فِيمَا يَرَاهُ رَادِعًا مُطْلَقًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 433

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ جُمْهُورَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَذَفَ حُرًّا يُجْلَدُ أَرْبَعِينَ; لِأَنَّهُ حَدٌّ يَتَشَطَّرُ بِالرِّقِّ كَحَدِّ الزِّنَى، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَقَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ: يُجْلَدُ ثَمَانِينَ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَبْدًا قَذَفَ حُرًّا ثَمَانِينَ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [4 \ 25]، وَقَالَ الْآخَرُونَ: فَهِمْنَا هُنَاكَ أَنَّ حَدَّ الزِّنَا لِلَّهِ، وَأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ أَخَفَّ فِيمَنْ قَلَّتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ، وَأَفْحَشَ فِيمَنْ عَظُمَتْ نِعَمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.

وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ، فَهُوَ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ وَجَبَ لِلْجِنَايَةِ عَلَى عَرْضِ الْمَقْذُوفِ، وَالْجِنَايَةُ لَا تَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَرُبَّمَا قَالُوا: لَوْ كَانَ يَخْتَلِفُ لَذُكِرَ، كَمَا فِي الزِّنَى.

قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَالَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْأَمْصَارِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ وَبِهِ أَقُولُ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي دَلِيلًا: أَنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَذَفَ حُرًّا جُلِدَ ثَمَانِينَ لَا أَرْبَعِينَ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا جَلْدَهُ ثَمَانِينَ ; لِأَنَّ الْعَبْدَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا يُمْكِنُ إِخْرَاجُهُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ يُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، لَا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا مِنْ سُنَّةٍ، وَلَا مِنْ قِيَاسٍ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ عَلَى تَشْطِيرِ الْحَدِّ عَنِ الْأَمَةِ فِي حَدِّ الزِّنَى وَأَلْحَقَ الْعُلَمَاءُ بِهَا الْعَبْدَ بِجَامِعِ الرِّقِّ، وَالزِّنَى غَيْرُ الْقَذْفِ.

أَمَّا الْقَذْفُ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ وَلَا قِيَاسٌ فِي خُصُوصِهِ.

وَأَمَّا قِيَاسُ الْقَذْفِ عَلَى الزِّنَى فَهُوَ قِيَاسٌ مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ ; لِأَنَّ الْقَذْفَ جِنَايَةٌ عَلَى عِرْضِ إِنْسَانٍ مُعَيَّنٍ، وَالرَّدْعُ عَنِ الْأَعْرَاضِ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ فَيُرْدَعُ الْعَبْدُ كَمَا يُرْدَعُ الْحُرُّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

تَنْبِيهٌ.

قَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي الْآيَةَ [5 \ 32] ، أَنَّ الْحُرَّ إِذَا قَذَفَ عَبْدًا لَا يُحَدُّ لَهُ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي

ص: 434

الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ «: مَنْ قَذَفَ عَبْدَهُ بِالزِّنَى أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ كَمَا قَالَ» اهـ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «: أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ لِارْتِفَاعِ الْمِلْكِ وَاسْتِوَاءِ الشَّرِيفِ وَالْوَضِيعِ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فَضْلٌ إِلَّا بِالتَّقْوَى، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ تَكَافَأَ النَّاسُ فِي الْحُدُودِ وَالْحُرْمَةِ، وَاقْتُصَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ الْمَظْلُومُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ إِذَا صَرَّحَ فِي قَذْفِهِ لَهُ بِالزِّنَى، كَانَ قَذْفًا وَرَمْيًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ، وَأَمَّا إِنْ عَرَّضَ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالْقَذْفِ، وَكَانَ تَعْرِيضُهُ يُفْهَمُ مِنْهُ بِالْقَرَائِنِ أَنَّهُ يَقْصِدُ قَذْفَهُ ; كَقَوْلِهِ: أَمَّا أَنَا فَلَسْتُ بِزَانٍ، وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، أَوْ مَا أَنْتَ بِزَانٍ مَا يَعْرِفُكَ النَّاسُ بِالزِّنَى، أَوْ يَا حَلَالُ ابْنَ الْحَلَالِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَلْ يَلْزَمُ الْقَذْفُ بِالتَّعْرِيضِ الْمُفْهِمِ لِلْقَذْفِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ، أَوْ لَا يُحَدُّ حَتَّى يُصَرِّحَ بِالْقَذْفِ تَصْرِيحًا وَاضِحًا لَا احْتِمَالَ فِيهِ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَلَوْ فُهِمَ مِنْهُ إِرَادَةُ الْقَذْفِ، إِلَّا أَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَذْفَ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ رِوَايَةُ حَنْبَلٍ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَاخْتِيَارُ أَبِي بَكْرٍ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ، وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، وَقَتَادَةُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِكِتَابٍ وَسُنَّةٍ.

أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ [2 \ 235] ، فَفَرَّقَ تَعَالَى بَيْنَ التَّصْرِيحِ لِلْمُعْتَدَّةِ وَالتَّعْرِيضِ، قَالُوا: وَلَمْ يُفَرِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ، إِلَّا لِأَنَّ بَيْنَهُمَا فَرْقًا، وَلَوْ كَانَا سَوَاءً لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا فِي كِتَابِهِ.

وَأَمَّا السُّنَّةُ: فَالْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا فِي الرَّجُلِ الَّذِي جَاءَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ لَهُ: إِنَّ امْرَأَتِي وَلَدَتْ غُلَامًا أَسْوَدَ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِنَفْيِهِ، وَلَمْ يَجْعَلِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هَذَا قَذْفًا، وَلَمْ يَدْعُهُمَا لِلِعَانٍ بَلْ قَالَ لِلرَّجُلِ «: أَلَكَ إِبِلٌ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ «: فَمَا أَلْوَانُهَا» ؟

ص: 435

قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ «: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ» ؟ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ «: وَمِنْ أَيْنَ جَاءَهَا ذَلِكَ» ؟ قَالَ: لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ، قَالَ «: وَهَذَا الْغُلَامُ الْأَسْوَدُ لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ» ، قَالُوا: وَلِأَنَّ التَّعْرِيضَ مُحْتَمِلٌ لِمَعْنًى آخَرَ غَيْرِ الْقَذْفِ، وَكُلُّ كَلَامٍ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ لَمْ يَكُنْ قَذْفًا، هَذَا هُوَ حَاصِلُ حُجَّةِ مَنْ قَالُوا بِأَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ، لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ بِالتَّصْرِيحِ بِالْقَذْفِ.

وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَرَوَى الْأَثْرَمُ وَغَيْرُهُ، عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ، يَعْنِي الْمُعَرِّضَ بِالْقَذْفِ، قَالَ: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ مَعْمَرٌ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ يَجْلِدُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ، اهـ.

وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَدِلَّةٍ مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ لِمَا قَالَهُ مَالِكٌ: هُوَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْحَدِّ فِي الْقَذْفِ، إِنَّمَا هُوَ لِإِزَالَةِ الْمَعَرَّةِ الَّتِي أَوْقَعَهَا الْقَاذِفُ بِالْمَقْذُوفِ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْمَعَرَّةُ بِالتَّعْرِيضِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا كَالتَّصْرِيحِ وَالْمُعَوَّلُ عَلَى الْفَهْمِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ قَوْمِ شُعَيْبٍ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهُ: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [11 \ 87]، أَيِ: السَّفِيهُ الضَّالُّ، فَعَرَضُوا لَهُ بِالسَّبِّ بِكَلَامٍ ظَاهِرُهُ الْمَدْحُ فِي أَحَدِ التَّأْوِيلَاتِ حَسَبَ مَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، وَقَالَ تَعَالَى فِي أَبِي جَهْلٍ: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [44 \ 49]، وَقَالَ تَعَالَى فِي الَّذِينَ قَذَفُوا مَرْيَمَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا [19 \ 28] ، فَمَدَحُوا أَبَاهَا، وَنَفَوْا عَنْ أُمِّهَا الْبِغَاءَ، أَيِ: الزِّنَى وَعَرَّضُوا لِمَرْيَمَ بِذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا [4 \ 156] ، وَكُفْرُهُمْ مَعْرُوفٌ وَالْبُهْتَانُ الْعَظِيمُ هُوَ التَّعْرِيضُ لَهَا، أَيْ: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا أَيْ: أَنْتِ بِخِلَافِهِمَا وَقَدْ أَتَيْتِ بِهَذَا الْوَلَدِ، وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [34 \ 24] ، فَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ فُهِمَ مِنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ عَلَى غَيْرِ هُدًى، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْهُدَى، فَفُهِمَ مِنْ هَذَا التَّعْرِيضِ مَا يُفْهَمُ مِنْ صَرِيحِهِ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ مَعَ تَصَرُّفٍ قَلِيلٍ لِإِيضَاحِ الْمُرَادِ.

وَحَاصِلُ كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ الْمَذْكُورِ: أَنَّ مِنْ أَدِلَّةِ الْقَائِلِينَ بِوُجُوبِ الْحَدِّ بِالتَّعْرِيضِ آيَاتٍ قُرْآنِيَّةً، وَبَيَّنَ وَجْهَ دَلَالَتِهَا عَلَى ذَلِكَ كَمَا رَأَيْتَهُ، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّ الْمَعَرَّةَ اللَّاحِقَةَ

ص: 436

لِلْمَقْذُوفِ صَرِيحًا تَلْحَقُهُ بِالتَّعْرِيضِ لَهُ بِالْقَذْفِ، وَلِذَلِكَ يَلْزَمُ اسْتِوَاؤُهُمَا، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ أَنَّ الْمُعَوَّلَ عَلَى الْفَهْمِ، وَالتَّعْرِيضُ يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَذْفُ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كَالصَّرِيحِ.

وَمِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ بَعْضُ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ بَعْضِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه حِينَ شَاوَرَهُمْ فِي الَّذِي قَالَ لِصَاحِبِهِ: مَا أَنَا بِزَانٍ، وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، فَقَالُوا: قَدْ مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَقَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَّضَ بِصَاحِبِهِ وَجَلَدَهُ الْحَدَّ، وَقَالَ مَعْمَرٌ: إِنَّ عُمَرَ كَانَ يَجْلِدُ الْحَدَّ فِي التَّعْرِيضِ، وَرَوَى الْأَثْرَمُ: أَنَّ عُثْمَانَ رضي الله عنه جَلَدَ رَجُلًا قَالَ لِآخَرَ: يَا ابْنَ شَامَّةِ الْوَذْرِ، يُعَرِّضُ لَهُ بِزِنَى أُمِّهِ، وَالْوَذْرُ: غُدَرُ اللَّحْمِ يُعَرِّضُ لَهُ بِكَمَرِ الرِّجَالِ، وَانْظُرْ أَسَانِيدَ هَذِهِ الْآثَارِ.

وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْكِنَايَةَ مَعَ الْقَرِينَةِ الصَّارِفَةِ إِلَى أَحَدِ مُحْتَمِلَاتِهَا، كَالصَّرِيحِ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلِذَلِكَ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِالْكِنَايَةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي حَالِ الْخُصُومَةِ، وَلَا وُجِدَتْ قَرِينَةٌ تَصْرِفُ إِلَى الْقَذْفِ، فَلَا شَكَّ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَذْفًا، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» .

ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ رَجَعَ عَنِ الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ فِي التَّعْرِيضِ، يَعْنِي بِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رحمه الله وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَقَدْ حَبَسَ عُمَرُ رضي الله عنه الْحُطَيْئَةَ، لَمَّا قَالَ:

دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا

وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي

لِأَنَّهُ شَبَّهَهُ بِالنِّسَاءِ فِي أَنَّهُنَّ يُطْعَمْنَ وَيُسْقَيْنَ وَيُكْسَوْنَ وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ أَوِ النَّجَاشِيِّ:

قُبَيِّلَةٌ لَا يَخْفِرُونَ بِذِمَّةٍ

وَلَا يَظْلِمُونَ النَّاسَ حَبَّةَ خَرْدَلِ

فَإِنَّهُ يُرْوَى أَنَّ عُمَرَ لَمَّا سَمِعَ هَذَا الْهِجَاءَ حَمَلَهُ عَلَى الْمَدْحِ، وَقَالَ: لَيْتَ آلَ الْخَطَّابِ كَانُوا كَذَلِكَ، وَلَمَّا قَالَ الشَّاعِرُ بَعْدَ ذَلِكَ:

وَلَا يَرِدُونَ الْمَاءَ إِلَّا عَشِيَّةً

إِذَا صَدَرَ الْوُرَّادُ عَنْ كُلِّ مَنْهَلِ

قَالَ عُمَرُ أَيْضًا: لَيْتَ آلَ الْخَطَّابِ كَانُوا كَذَلِكَ، فَظَاهِرُ هَذَا الشِّعْرِ يُشْبِهُ الْمَدْحَ، وَلِذَا ذَكَرُوا أَنَّ عُمَرَ تَمَنَّى مَا فِيهِ مِنَ الْهِجَاءِ لِأَهْلِ بَيْتِهِ ; لِأَنَّهُ عِنْدَهُ مَدْحٌ وَصَاحِبُهُ يُرِيدُ الذَّمَّ بِلَا

ص: 437

نِزَاعٍ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَوَّلُ شِعْرِهِ وَآخِرُهُ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْأَبْيَاتِ قَوْلُهُ:

إِذَا اللَّهُ عَادَى أَهْلَ لُؤْمٍ وَذِلَّةٍ

فَعَادَى بَنِي الْعَجْلَانِ رَهْطَ ابْنِ مُقْبِلِ

قُبَيِّلَةٌ لَا يُخْفَرُونَ

. . . . . . الْبَيْتَ

وَفِي آخِرِ شِعْرِهِ:

وَمَا سُمِّيَ الْعَجْلَانُ إِلَّا لِقَوْلِهِ

خُذِ الْقَعْبَ وَاحْلِبْ أَيُّهَا الْعَبْدُ وَاعْجَلِ

وَكَوْنُ مِثْلِ هَذَا مِنَ التَّعْرِيضِ بِالذَّمِّ لَا شَكَّ فِيهِ، وَقَوْلُ الْحُطَيْئَةِ:

دَعِ الْمَكَارِمَ لَا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا

يَهْجُو بِهِ الزِّبْرِقَانَ بْنَ بَدْرٍ التَّمِيمِيَّ، كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُؤَرِّخِينَ، وَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله فِي الْكَلَامِ الَّذِي نَقَلْنَا عَنْهُ مِنْ أَنَّ الْبُهْتَانَ الْعَظِيمَ الَّذِي قَالُوهُ عَلَى مَرْيَمَ: هُوَ تَعْرِيضُهُمْ لَهَا بِقَوْلِهِمْ: مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ الْآيَةَ [19 \ 28] ، لَا يَتَعَيَّنُ بِانْفِرَادِهِ ; لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - ذَكَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَهَا غَيْرَ ذَلِكَ وَهُوَ أَقْرَبُ لِلتَّصْرِيحِ بِالْفَاحِشَةِ مِمَّا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَامَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا [19 \ 27]، فَقَوْلُهُمْ لَهَا: لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا فِي وَقْتِ مَجِيئِهَا بِالْوَلَدِ تَحْمِلُهُ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي إِرَادَتِهِمْ قَذْفَهَا، كَمَا تَرَى، وَالْكَلَامُ الَّذِي ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ: أَنَّ عُثْمَانَ جَلَدَ الْحَدَّ فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِصَاحِبِهِ: يَا ابْنَ شَامَّةِ الْوَذْرِ، قَالَ فِيهِ الْجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ: الْوَذْرَةُ بِالتَّسْكِينِ الْغَدْرَةُ، وَهِيَ الْقِطْعَةُ مِنَ اللَّحْمِ إِذَا كَانَتْ مُجْتَمِعَةً، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: يَا ابْنَ شَامَّةِ الْوَذْرَةِ، وَهِيَ كَلِمَةُ قَذْفٍ، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَسَابُّ بِهَا، كَمَا كَانَتْ تَتَسَابُّ بِقَوْلِهِمْ: يَا ابْنَ مُلْقِي أَرْحُلِ الرُّكْبَانِ، أَوْ يَا ابْنَ ذَاتِ الرَّايَاتِ وَنَحْوِهَا، وَالْجَمْعُ وَذْرٌ مِثْلُ: تَمْرَةٍ وَتَمْرٍ، اهـ مِنْ صِحَاحِ الْجَوْهَرِيِّ.

وَالشَّامَّةُ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ اسْمُ فَاعِلِ شَمَّهُ، وَقَالَ صَاحِبُ «اللِّسَانِ» : وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ رضي الله عنه أَنَّهُ رُفِعَ إِلَيْهِ رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ شَامَّةِ الْوَذْرِ، فَحَدَّهُ، وَهُوَ مِنْ سِبَابِ الْعَرَبِ وَذَمِّهِمْ، وَإِنَّمَا أَرَادَ يَا ابْنَ شَامَّةِ الْمَذَاكِيرِ يَعْنُونَ الزِّنَا، كَأَنَّهَا كَانَتْ تَشُمُّ كَمَرًا مُخْتَلِفَةً فَكَنَّى عَنْهُ، وَالذَّكَرُ قِطْعَةٌ مِنْ بَدَنِ صَاحِبِهِ، وَقِيلَ: أَرَادُوا بِهَا الْقُلُفَ جَمْعَ قُلْفَةِ الذَّكَرِ ; لِأَنَّهَا تُقْطَعُ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ «لِسَانِ الْعَرَبِ» ، وَهَذَا لَا يَتَّضِحُ مِنْهُ قَصْدُ الزِّنَا وَلَمْ أَرَ مَنْ

ص: 438

أَوْضَحَ مَعْنَى شَامَّةِ الْوَذْرِ إِيضَاحًا شَافِيًا ; لِأَنَّ شَمَّ كَمَرِ الرِّجَالِ لَيْسَ مِنَ الْأَمْرِ الْمَعْهُودِ الْوَاضِحِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ قَائِلَ الْكَلَامِ الْمَذْكُورِ يُشَبِّهُ مَنْ عَرَّضَ لَهَا بِالزِّنَا بِسِفَادِ الْحَيَوَانَاتِ ; لِأَنَّ الذَّكَرَ مِنْ غَالِبِ الْحَيَوَانَاتِ إِذَا أَرَادَ سِفَادَ الْأُنْثَى شَمَّ فَرْجَهَا، وَاسْتَنْشَقَ رِيحَهُ اسْتِنْشَاقًا شَدِيدًا، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْزُو عَلَيْهَا فَيُسَافِدُهَا فَكَأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَشُمُّ ذَكَرَ الرَّجُلِ كَمَا يَشُمُّ الْفَحْلُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ فَرْجَ أُنْثَاهُ، وَشَمُّهَا لِمَذَاكِيرِ الرِّجَالِ كَأَنَّهُ مُقَدِّمَةٌ لِلْمُوَاقَعَةِ، فَكَنَّوْا عَنِ الْمُوَاقَعَةِ بِشَمِّ الْمَذَاكِيرِ، وَعَبَّرُوا عَنْ ذَكَرِ الرَّجُلِ بِالْوَذْرَةِ ; لِأَنَّهُ قِطْعَةٌ مِنْ بَدَنِ صَاحِبِهِ كَقِطْعَةِ اللَّحْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا كَثْرَةَ مُلَابَسَتِهَا لِذَلِكَ الْأَمْرِ، حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا تَشُمُّ رِيحَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: قَدْ عَلِمْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُجَجَهُمْ فِي التَّعْرِيضِ بِالْقَذْفِ، هَلْ يَلْزَمُ بِهِ الْحَدُّ أَوْ لَا يَلْزَمُ بِهِ.

وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّ التَّعْرِيضَ إِذَا كَانَ يُفْهَمُ مِنْهُ مَعْنَى الْقَذْفِ فَهْمًا وَاضِحًا مِنَ الْقَرَائِنِ أَنَّ صَاحِبَهُ يُحَدُّ ; لِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى عِرْضِ الْمُسْلِمِ تَتَحَقَّقُ بِكُلِّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ ذَلِكَ فَهْمًا وَاضِحًا، وَلِئَلَّا يَتَذَرَّعَ بَعْضُ النَّاسِ لِقَذْفِ بَعْضِهِمْ بِأَلْفَاظِ التَّعْرِيضِ الَّتِي يُفْهَمُ مِنْهَا الْقَذْفُ بِالزِّنَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ التَّعْرِيضَ بِالْقَذْفِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْزِيرِ الْمُعَرِّضِ بِالْقَذْفِ لِلْأَذَى الَّذِي صَدَرَ مِنْهُ لِصَاحِبِهِ بِالتَّعْرِيضِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى مَنْ قَذَفَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوِ امْرَأَةً مِنْهُمْ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى: عَلَيْهِ الْحَدُّ إِذَا كَانَ لَهَا وَلَدٌ مِنْ مُسْلِمٍ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَالِثٌ: وَهُوَ أَنَّهُ إِذَا قَذَفَ النَّصْرَانِيَّةَ تَحْتَ الْمُسْلِمِ جُلِدَ الْحَدَّ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَجُلُّ الْعُلَمَاءِ مُجْمِعُونَ وَقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ أُدْرِكْ أَحَدًا، وَلَا لَقِيتُهُ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ، وَإِذَا قَذَفَ النَّصْرَانِيُّ الْمُسْلِمَ الْحُرَّ فَعَلَيْهِ مَا عَلَى الْمُسْلِمِ ثَمَانُونَ جَلْدَةً، لَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، انْتَهَى مِنْهُ.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِي مَسْأَلَةِ مَا لَوْ قَذَفَ رَجُلٌ رَجُلًا، فَقَالَ آخَرُ: صَدَقْتَ، أَنَّ الْمُصَدِّقَ قَاذِفٌ فَتَجِبُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ تَصْدِيقَهُ لِلْقَاذِفِ قَذْفٌ خِلَافًا لِزُفَرَ وَمَنْ وَافَقَهُ.

ص: 439

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَلَوْ قَالَ: أَخْبَرَنِي فَلَانٌ أَنَّكَ زَنَيْتَ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا سَوَاءٌ كَذَّبَهُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ أَوْ صَدَّقَهُ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ أَبُو الْخَطَّابِ: فِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ يَكُونُ قَاذِفًا إِذَا كَذَّبَهُ الْآخَرُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَعَطَاءٌ، وَنَحْوُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ ; لِأَنَّهُ أَخْبَرُ بِزِنَاهُ، اهـ مِنْهُ.

وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي: أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَاذِفًا وَلَا يُحَدُّ، لِأَنَّهُ حَكَى عَنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا، وَأَنَّ الَّذِي أَخْبَرَهُ أَنْكَرَ بَعْدَ إِخْبَارِهِ إِيَّاهُ كَمَا لَوْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَ رَجُلًا وَأَنْكَرَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ، فَلَا يَكُونُ الشَّاهِدُ قَاذِفًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: أَظْهَرُ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِيمَنْ قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَى، وَلَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ حَتَّى زَنَا الْمَقْذُوفُ أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنْ قَاذِفِهِ; لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ بِزِنَاهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْصَنٍ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَظْهَرْ إِلَّا بَعْدَ لُزُومِ الْحَدِّ لِلْقَاذِفِ; لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ غَيْرُ عَفِيفٍ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى مَنْ قَذَفَهُ، فَلَا يُحَدُّ لِغَيْرِ عَفِيفٍ؛ اعْتِبَارًا بِالْحَالَةِ الَّتِي يُرَادُ أَنْ يُقَامَ فِيهَا الْحَدُّ، فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثَبَتَ عَلَيْهِ أَنَّهُ غَيْرُ عَفِيفٍ.

وَهَذَا الَّذِي اسْتَظْهَرْنَا عَزَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ: لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُحَدُّ هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.

قَالَ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» : وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَالْمُزَنِيُّ، وَدَاوُدُ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ الْحَدَّ قَدْ وَجَبَ وَتَمَّ بِشُرُوطِهِ فَلَا يَسْقُطُ بِزَوَالِ شَرْطِ الْوُجُوبِ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا هُوَ مَا قَدَّمْنَا ; لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ أَنَّهُ غَيْرُ عَفِيفٍ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى قَاذِفِهِ، فَلَا يُحَدُّ لِمَنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ غَيْرُ عَفِيفٍ.

وَإِنَّمَا وَجَبَ الْحَدُّ قَبْلَ هَذَا، لِأَنَّ عَدَمَ عِفَّتِهِ كَانَ مَسْتُورًا، ثُمَّ ظَهَرَ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنْ أَظْهَرَ قَوْلَيْ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَنَا فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا مَنْ وطِئَ بَيْنَ الْفَخْذَيْنِ، أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ، وَلَا يُحَدُّ قَائِلُهُ ; لِأَنَّهُ رَمَاهُ بِفِعْلٍ لَا يُعَدَّ زِنًا إِجْمَاعًا، خِلَافًا لِابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ الْقَائِلِ بِوُجُوبِ الْحَدِّ زَاعِمًا أَنَّهُ تَعْرِيضٌ بِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 440

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: اعْلَمْ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُقَامُ عَلَى الْقَاذِفِ إِلَّا إِذَا طَلَبَ الْمَقْذُوفُ إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاذِفِ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ زِنَا الْمَقْذُوفِ ; لِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ وَمَفْهُومُ الْآيَةِ: أَنَّ الْقَاذِفَ لَوْ جَاءَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَقْبُولِ شَرْعًا أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ بِذَلِكَ حَدَّ الزِّنَا عَلَى الْمَقْذُوفِ، لِشَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ، وَيُشْتَرَطُ لِذَلِكَ أَيْضًا عَدَمُ إِقْرَارِ الْمَقْذُوفِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِالزِّنَا، فَلَا حَدَّ عَلَى الْقَاذِفِ، وَإِنْ كَانَ الْقَاذِفُ زَوْجًا اعْتُبِرَ فِي حَدِّهِ حَدَّ الْقَذْفِ امْتِنَاعُهُ مِنَ اللِّعَانِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ: وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا فِي هَذَا كُلِّهِ، ثُمَّ قَالَ: وَتُعْتَبَرُ اسْتِدَامَةُ الطَّلَبِ إِلَى إِقَامَةِ الْحَدِّ، فَلَوْ طَلَبَ ثُمَّ عَفَا عَنِ الْحَدِّ سَقَطَ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا يَسْقُطُ بِعَفْوِهِ ; لِأَنَّهُ حَدٌّ فَلَمْ يَسْقُطْ بِالْعَفْوِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ، وَلَنَا أَنَّهُ حَدٌّ لَا يُسْتَوْفَى إِلَّا بَعْدَ مُطَالَبَةِ الْآدَمِيِّ بِاسْتِيفَائِهِ فَسَقَطَ بِعَفْوِهِ كَالْقِصَاصِ، وَفَارَقَ سَائِرَ الْحُدُودِ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي إِقَامَتِهَا الطَّلَبُ بِاسْتِيفَائِهَا، وَحَدُّ السَّرِقَةِ إِنَّمَا تُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَسْرُوقِ لَا بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ، وَلِأَنَّهُمْ قَالُوا تَصِحُّ دَعْوَاهُ، وَيُسْتَحْلَفُ فِيهِ، وَيَحْكُمُ الْحَاكِمُ فِيهِ بِعِلْمِهِ، وَلَا يُقْبَلُ رُجُوعُهُ عَنْهُ بَعْدَ الِاعْتِرَافِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي» ، وَكَوْنُهُ حَقًّا لِآدَمِيٍّ هُوَ أَحَدُ أَقْوَالٍ فِيهِ.

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ، هَلْ هُوَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ أَوْ فِيهِ شَائِبَةٌ مِنْهُمَا؟

الْأَوَّلُ: قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ.

وَالثَّانِي: قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ.

وَالثَّالِثُ: قَالَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ.

وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَبَلَغَ الْإِمَامَ أَقَامَهُ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ الْمَقْذُوفُ، وَنَفَعَتِ الْقَاذِفَ التَّوْبَةُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَتَشَطَّرُ فِيهِ الْحَدُّ بِالرِّقِّ كَالزِّنَا، وَإِنْ كَانَ حَقًّا لِلْآدَمِيِّ، فَلَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ إِلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْذُوفِ، وَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِ وَلَمْ تَنْفَعِ الْقَاذِفَ التَّوْبَةُ حَتَّى يُحَلِّلَهُ الْمَقْذُوفُ، اهـ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ.

وَمَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ كَأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ بِعَفْوِ

ص: 441

الْمَقْذُوفِ قَبْلَ بُلُوغِ الْإِمَامِ، فَإِنْ بَلَغَ الْإِمَامَ، فَلَا يُسْقِطُهُ عَفْوُهُ إِلَّا إِذَا ادَّعَى أَنَّهُ يُرِيدُ بِالْعَفْوِ السَّتْرَ عَلَى نَفْسِهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَذْفَ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ وَكُلُّ حَقٍّ لِآدَمِيٍّ فِيهِ حَقٌّ لِلَّهِ.

وَإِيضَاحُهُ: أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِلْآدَمِيِّ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ شُرِعَ لِلزَّجْرِ عَنْ فِعْلِهِ، وَلِدَفْعِ مَعَرَّةِ الْقَذْفِ عَنْهُ، فَإِذَا تَجَرَّأَ عَلَيْهِ الْقَاذِفُ انْتَهَكَ حُرْمَةَ عِرْضِ الْمُسْلِمِ، وَأَنَّ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهِ حَقًّا بِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ عِرْضِهِ، وَانْتَهَكَ أَيْضًا حُرْمَةَ نَهْيِ اللَّهِ عَنْ فِعْلِهِ فِي عِرْضِ مُسْلِمٍ، فَكَانَ لِلَّهِ حَقٌّ عَلَى الْقَاذِفِ بِانْتِهَاكِهِ حُرْمَةَ نَهْيِهِ، وَعَدَمِ امْتِثَالِهِ، فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ مُسْتَحِقٌّ لِعُقُوبَتِهِ، فَحَقُّ اللَّهِ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ، وَحَقُّ الْمُسْلِمِ يَسْقُطُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ، أَوْ بِالتَّحَلُّلِ مِنْهُ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ أَنَّ الْمَقْذُوفَ إِذَا عَفَا وَسَقَطَ الْحَدُّ بِعَفْوِهِ أَنَّ لِلْإِمَامِ تَعْزِيرَ الْقَاذِفِ لِحَقِّ اللَّهِ، وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: إِنْ تَمَّتِ الشَّهَادَةُ عَلَى الزَّانِي بِالزِّنَا وَلَكِنَّ الشُّهُودَ لَمْ يُعَدَّلُوا، فَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ يَرَيَانِ أَلَّا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ، وَلَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَالنُّعْمَانُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ.

وَقَالَ مَالِكٌ: وَإِذَا شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا وَكَانَ أَحَدُهُمْ مَسْخُوطًا عَلَيْهِ أَوْ عَبْدًا يُجْلَدُونَ جَمِيعًا، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ فِي أَرْبَعَةِ عِمْيَانٍ يَشْهَدُونَ عَلَى امْرَأَةٍ بِالزِّنَى: يُضْرَبُونَ، فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُ الشُّهُودِ، وَقَدْ رُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي الزِّنَى، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يُغَرَّمُ رُبْعَ الدِّيَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآخَرِينَ، وَكَذَلِكَ قَالَ قَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَأَبُو هَاشِمٍ، وَمَالِكٌ، وَأَحْمَدُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ قَالَ عَمَدْتُ لِيُقْتَلَ، فَالْأَوْلِيَاءُ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا، وَأَخَذُوا رُبْعَ الدِّيَةِ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُقْتَلُ وَعَلَى الْآخَرِينَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ، وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِذَا قَالَ أَخْطَأْتُ وَأَرَدْتُ غَيْرَهُ، فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً، وَإِنْ قَالَ تَعَمَّدْتُ قُتِلَ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، اهـ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَهُ.

وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي: أَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَعْدِلُوا حُدُّوا كُلُّهُمْ ; لِأَنَّ مَنْ أَتَى بِمَجْهُولٍ غَيْرِ مَعْرُوفِ الْعَدَالَةِ، كَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ، وَأَنَّهُ إِنْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ تَعَمَّدَ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ ; لِأَجْلِ أَنْ يُقْتَلَ

ص: 442

يُقْتَصُّ مِنْهُ، وَإِنِ ادَّعَى شُبْهَةً فِي رُجُوعِهِ يُغَرَّمُ قِسْطَهُ مِنَ الدِّيَةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُغَرَّمُ الدِّيَةَ كَامِلَةً لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَالْعِلْمِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ مَنْ قَذَفَ مَنْ يَحْسَبُهُ عَبْدًا فَإِذَا هُوَ حُرٌّ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَقَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَمَنْ قَذَفَ أُمَّ الْوَلَدِ حُدَّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، انْتَهَى مِنْهُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَمَّا حَدُّهُ فِي قَذْفِ أُمِّ الْوَلَدِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا، وَعِتْقِهَا مِنْ رَأْسِ مَالِ مَسْتَوْلِدِهَا، أَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَمْ تَتَحَقَّقْ حُرِّيَّتُهَا بِالْفِعْلِ، وَلَا سِيَّمَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ بَيْعَهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَالْقَاذِفُ لَا يُحَدُّ بِقَذْفِ مَنْ لَمْ يَكُنْ حُرًّا حُرِّيَّةً كَامِلَةً فِيمَا يَظْهَرُ، وَكَذَلِكَ لَوْ قِيلَ: إِنَّ مَنْ قَذَفَ مَنْ يَظُنُّهُ عَبْدًا، فَإِذَا هُوَ حُرٌّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ قَذْفَ حُرٍّ، وَإِنَّمَا نَوَى قَذْفَ عَبْدٍ لَكَانَ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ; لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَلِأَنَّ الْمَعَرَّةَ تَزُولُ عَنِ الْمَقْذُوفِ بِقَوْلِ الْقَاذِفِ: مَا قَصَدْتُ قَذْفَكَ وَلَا أَقُولُ: إِنَّكَ زَانٍ، وَإِنَّمَا قَصَدْتُ بِذَلِكَ مَنْ كُنْتُ أَعْتَقِدُهُ عَبْدًا فَأَنْتَ عَفِيفٌ فِي نَظَرِي، وَلَا أَقُولُ فِيكَ إِلَّا خَيْرًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، أَوْ قَذَفَ وَاحِدًا، مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةً. وَقَدْ قَدَّمْنَا خِلَافَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِيمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الْكَلَامِ عَلَى آيَاتِ «الْحَجِّ» 0

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» ، فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ: وَإِذَا قَذَفَ الْجَمَاعَةَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ إِذَا طَالَبُوا أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، مَا نَصُّهُ: وَبِهَذَا قَالَ: طَاوُسٌ وَالشَّعْبِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَحَمَّادٌ، وَمَالِكٌ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ الْحَسَنُ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ كَامِلٌ، وَعَنْ أَحْمَدَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ كَالرِّوَايَتَيْنِ، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّهُ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَلَزِمَهُ لَهُ حَدٌّ كَامِلٌ ; كَمَا لَوْ قَذَفَهُمْ بِكَلِمَاتٍ، وَلَنَا قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ قَذْفِ وَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ ; وَلِأَنَّ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمُغِيرَةِ قَذَفُوا امْرَأَةً، فَلَمْ يَحُدَّهُمْ عُمَرُ إِلَّا حَدًّا وَاحِدًا، وَلِأَنَّهُ قَذْفٌ وَاحِدٌ فَلَمْ يَجِبْ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ قَذَفَ وَاحِدًا، وَلِأَنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا وَجَبَ بِإِدْخَالِ الْمَعَرَّةِ عَلَى

ص: 443

الْمَقْذُوفِ بِقَذْفِهِ وَبِحَدٍّ وَاحِدٍ يَظْهَرُ كَذِبُ هَذَا الْقَاذِفِ.

وَتَزُولُ الْمَعَرَّةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ قَذْفًا مُنْفَرِدًا، فَإِنْ كَذَّبَهُ فِي قَذْفِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ كَذِبُهُ فِي آخَرَ، وَلَا تَزُولُ الْمَعَرَّةُ عَنْ أَحَدِ الْمَقْذُوفِينَ بِحَدِّهِ لِلْآخَرِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَإِنَّهُمْ إِنْ طَلَبُوهُ جُمْلَةً حُدَّ لَهُمْ، وَإِنْ طَلَبَهُ وَاحِدٌ أُقِيمَ الْحَدُّ ; لِأَنَّ الْحَقَّ ثَابِتٌ لَهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، فَأَيُّهُمْ طَالَبَ بِهِ اسْتَوْفَى، وَسَقَطَ فَلَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ الطَّلَبُ بِهِ كَحَقِّ الْمَرْأَةِ عَلَى أَوْلِيَائِهَا فِي تَزْوِيجِهَا، إِذَا قَامَ بِهِ وَاحِدٌ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ، وَإِنْ أَسْقَطَهُ أَحَدُهُمْ فَلِغَيْرِهِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَاسْتِيفَاؤُهُ ; لِأَنَّ الْمَعَرَّةَ لَمْ تَزُلْ عَنْهُ بِعَفْوِ صَاحِبِهِ، وَلَيْسَ لِلْعَافِي الطَّلَبُ بِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ.

وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ رحمه الله رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُمْ إِنْ طَلَبُوهُ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَحَدٌّ وَاحِدٌ، وَكَذَلِكَ إِنْ طَلَبُوهُ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يُقَمْ حَتَّى طَلَبَهُ الْكُلُّ فَحَدٌّ وَاحِدٌ، وَإِنْ طَلَبَهُ وَاحِدٌ فَأُقِيمَ لَهُ، ثُمَّ طَلَبَهُ آخَرُ أُقِيمَ لَهُ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُهُمْ وَهَذَا قَوْلُ عُرْوَةَ ; لِأَنَّهُمْ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَى طَلَبِهِ، وَقَعَ اسْتِيفَاؤُهُ لِجَمِيعِهِمْ، وَإِذَا طَلَبَهُ وَاحِدٌ مُنْفَرِدًا كَانَ اسْتِيفَاؤُهُ لَهُ وَحْدَهُ، فَلَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْبَاقِينَ بِغَيْرِ اسْتِيفَائِهِمْ (فِي) إِسْقَاطِهِمْ، وَإِنْ قَذَفَ الْجَمَاعَةَ بِكَلِمَاتٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ، وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ حَمَّادٌ وَمَالِكٌ: لَا يَجِبُ إِلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ، لِأَنَّهَا جِنَايَةٌ تُوجِبُ حَدًّا، فَإِذَا تَكَرَّرَتْ كَفَى حَدٌّ وَاحِدٌ، كَمَا لَوْ سَرَقَ مِنْ جَمَاعَةٍ أَوْ زَنَى بِنِسَاءٍ، أَوْ شَرِبَ أَنْوَاعًا مِنَ الْمُسْكِرِ، وَلَنَا أَنَّهَا حُقُوقٌ لِآدَمِيِّينَ فَلَمْ تَتَدَاخَلْ كَالدُّيُونِ وَالْقِصَاصِ، وَفَارَقَ مَا قَاسُوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، إِلَى أَنْ قَالَا: وَإِنْ قَذَفَ رَجُلًا مَرَّاتٍ فَلَمْ يُحَدَّ، فَحَدٌّ وَاحِدٌ رِوَايَةً وَاحِدَةً، سَوَاءٌ قَذَفَهُ بِزِنًا وَاحِدٍ أَوْ بِزَنَيْاتٍ، وَإِنْ قَذَفَهُ فَحُدَّ ثُمَّ أَعَادَ قَذْفَهُ نَظَرْتَ، فَإِنْ قَذَفَهُ بِذَلِكَ الزِّنَا الَّذِي حُدَّ مِنْ أَجْلِهِ لَمْ يُعَدْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِي قَوْلِ عَامَّةِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: أَنَّهُ أَوْجَبَ حَدًّا ثَانِيًا، وَهَذَا يُخَالِفُ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرَةَ لَمَّا حُدَّ بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ أَعَادَ قَذْفَهُ فَلَمْ يَرَوْا عَلَيْهِ حَدًّا ثَانِيًا، فَرَوَى الْأَثْرَمُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ظَبْيَانَ بْنِ عُمَارَةَ، قَالَ: شَهِدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ أَنَّهُ زَانٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَكَبُرَ عَلَيْهِ، وَقَالَ: شَاطَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَجَاءَ زِيَادٌ، فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ؟ فَلَمْ يُثْبِتْ فَأَمَرَ بِجِلْدِهِمْ فَجُلِدُوا، وَقَالَ: شُهُودُ زُورٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: أَلَيْسَ تَرْضَى إِنْ أَتَاكَ رَجُلٌ عِنْدَكَ يَشْهَدُ رَجْمَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: وَأَنَا أَشْهَدُ أَنَّهُ زَانٍ، فَأَرَادَ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّكَ إِنْ أَعَدْتَ عَلَيْهِ الْحَدَّ، أَوْجَبْتَ عَلَيْهِ الرَّجْمَ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: فَلَا يُعَادُ فِيهِ فِرْيَةُ جَلْدٍ مَرَّتَيْنِ. قَالَ الْأَثْرَمُ: قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ، قَوْلُ عَلِيٍّ: إِنْ جَلَدْتَهُ فَارْجُمْ صَاحِبَكَ، قَالَ: كَأَنَّهُ جَعَلَ

ص: 444

شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَكُنْتُ أَنَا أُفَسِّرُهُ عَلَى هَذَا حَتَّى رَأَيْتُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَأَعْجَبَنِي، ثُمَّ قَالَ يَقُولُ: إِذَا جَلَدْتَهُ ثَانِيَةً فَكَأَنَّكَ جَعَلْتَهُ شَاهِدًا آخَرَ، فَأَمَّا إِنْ حُدَّ لَهُ وَقَذَفَهُ بِزِنًا ثَانٍ نَظَرْتَ، فَإِنْ قَذَفَهُ بَعْدَ طُولِ الْفَصْلِ فَحَدٌّ ثَانٍ ; لِأَنَّهُ لَا يُسْقِطُ حُرْمَةَ الْمَقْذُوفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْقَاذِفِ أَبَدًا بِحَيْثُ يُمَكَّنُ مِنْ قَذْفِهِ بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ قَذَفَهُ عُقَيْبَ حَدِّهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: يُحَدُّ أَيْضًا ; لِأَنَّهُ قَذْفٌ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُهُ فِيهِ بِحَدٍّ، فَيَلْزَمُ فِيهِ حَدٌّ كَمَا لَوْ طَالَ الْفَصْلُ، وَلِأَنَّ سَائِرَ أَسْبَابِ الْحَدِّ إِذَا تَكَرَّرَتْ بَعْدَ أَنْ حُدَّ لِلْأَوَّلِ ثَبَتَ لِلثَّانِي حُكْمُهُ، كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِهِمَا مِنَ الْأَسْبَابِ.

وَالثَّانِيَةُ: لَا يُحَدُّ ; لِأَنَّهُ قَدْ حُدَّ لَهُ لِمَرَّةٍ فَلَمْ يُحَدَّ لَهُ بِالْقَذْفِ عَقِبَهُ، كَمَا لَوْ قَذَفَهُ بِالزِّنَا الْأَوَّلِ، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» ، وَقَدْ رَأَيْتُ نَقْلَهُ لِأَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ، فِيمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ بِكَلِمَاتٍ أَوْ قَذَفَ وَاحِدًا مَرَّاتٍ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذِهِ الْمَسَائِلُ لَمْ نَعْلَمْ فِيهَا نَصًّا مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِيهِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ: أَنَّ مَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، لِأَنَّهُ يَظْهَرُ بِهِ كَذِبُهُ عَلَى الْجَمِيعِ وَتَزُولُ بِهِ الْمَعَرَّةُ عَنِ الْجَمِيعِ، وَيَحْصُلُ شِفَاءُ الْغَيْظِ بِحَدِّهِ لِلْجَمِيعِ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا فِيمَنْ رَمَى جَمَاعَةً بِكَلِمَاتٍ أَنَّهُ يَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، بِعَدَدِ الْكَلِمَاتِ الَّتِي قَذَفَ بِهَا ; لِأَنَّهُ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ قَذْفًا مُسْتَقِلًّا لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَحَدُّهُ لِبَعْضِهِمْ لَا يَظْهَرُ بِهِ كَذِبُهُ عَلَى الثَّانِي الَّذِي قَذَفَهُ بِلَفْظٍ آخَرَ، وَلَا تَزُولُ بِهِ عَنْهُ الْمَعَرَّةُ. وَهَذَا إِنْ كَانَ قَذْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَذْفًا مُفْرَدًا لَمْ يُجْمَعْ مَعَهُ غَيْرُهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ قَذَفَهُمْ بِعِبَارَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ تَكَرَّرُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بِعَدَدِهِمْ، كَمَا اخْتَارَهُ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» .

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إِنْ كَرَّرَ الْقَذْفَ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ قَبْلَ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ يَكْفِي فِيهِ حَدٌّ وَاحِدٌ، وَأَنَّهُ إِنْ رَمَاهُ بَعْدَ حَدِّهِ لِلْقَذْفِ الْأَوَّلِ بَعْدَ طُولِ حَدٍّ أَيْضًا، وَإِنْ رَمَاهُ قُرْبَ زَمَنِ حَدِّهِ بِعَيْنِ الزِّنَا الَّذِي حُدَّ لَهُ لَا يُعَادُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ; كَمَا حَكَاهُ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي قِصَّةِ أَبِي بَكْرَةَ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَإِنْ كَانَ الْقَذْفُ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ، كَأَنْ قَالَ فِي الْأَوَّلِ: زَنَيْتَ بِامْرَأَةٍ

ص: 445

بَيْضَاءَ، وَفِي الثَّانِي قَالَ: بِامْرَأَةٍ سَوْدَاءَ، فَالظَّاهِرُ تَكَرُّرُهُ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَعَنْ مَالِكٍ رحمه الله فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : إِنْ قَذَفَ رَجُلًا فَلَمَّا ضُرِبَ أَسْوَاطًا قَذَفَهُ ثَانِيًا أَوْ آخَرَ ابْتُدِئَ الْحَدُّ عَلَيْهِ ثَمَانِينَ مِنْ حِينِ يَقْذِفُهُ، وَلَا يُعْتَدُّ بِمَا مَضَى مِنَ السِّيَاطِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: الظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ: أَحَدُكُمْ زَانٍ أَوِ ابْنُ زَانِيَةٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ وَاحِدًا فَلَمْ تَلْحَقِ الْمَعَرَّةُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَإِنْ طَلَبُوا إِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ جَمِيعًا لَا يُحَدُّ، لِأَنَّهُ لَمْ يَرْمِ وَاحِدًا مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ، وَلَمْ يُعَرِّفْ مَنْ أَرَادَ بِكَلَامِهِ، نَقَلَهُ الْمَوَّاقُ عَنِ الْبَاجِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمَوَّازِ، وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ فِي قَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا لَا حَدَّ فِيهِ، أَوْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ: أَحَدُكُمْ زَانٍ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِذَا قَالَ مَنْ رَمَانِي فَهُوَ ابْنُ الزَّانِيَةِ فَرَمَاهُ رَجُلٌ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَكَذَلِكَ إِنِ اخْتَلَفَ رَجُلَانِ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: الْكَاذِبُ هُوَ ابْنُ الزَّانِيَةِ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ أَحَدًا بِالْقَذْفِ، وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذَا، وَلَوْ قَذَفَ جَمَاعَةً لَا يُتَصَوَّرُ صِدْقُهُ فِي قَذْفِهِمْ مِثْلَ أَنْ يَقْذِفَ أَهْلَ بَلْدَةٍ كَثِيرَةٍ بِالزِّنَى كُلَّهُمْ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يُلْحِقِ الْعَارَ بِأَحَدٍ غَيْرِ نَفْسِهِ لِلْعِلْمِ بِكَذِبِهِ، انْتَهَى مِنْهُ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدَنَا فِيمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ، فَهُوَ قَاذِفٌ لَهُمَا، وَعَلَيْهِ حَدَّانِ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ أَزَنَى صِيغَةُ تَفْضِيلٍ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاكِ الْمُفَضَّلِ، وَالْمُفَضَّلِ عَلَيْهِ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ، إِلَّا أَنَّ الْمُفَضَّلَ أَفْضَلُ فِيهِ مِنْ صَاحِبِهِ الْمُشَارِكِ لَهُ فِيهِ، فَمَعْنَى كَلَامِهِ بِدَلَالَةِ الْمُطَابَقَةِ فِي صِيغَةِ التَّفْضِيلِ: أَنْتَ وَفُلَانٌ زَانِيَانِ، وَلَكِنَّكَ تَفُوقُهُ فِي الزِّنَى، وَكَوْنُ هَذَا قَذْفًا لَهُمَا وَاضِحٌ، كَمَا تَرَى. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَ الْوَجْهَيْنِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ لِلْمُخَاطَبِ فَقَطْ، دُونَ فُلَانٍ الْمَذْكُورِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ مَا عَزَاهُ ابْنُ قُدَامَةَ لِلشَّافِعِيِّ، وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ مِنْ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ لِلْأَوَّلِ، وَلَا لِلثَّانِي إِلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْقَذْفَ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ وَلَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ صِيغَةَ: أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ قَذْفٌ صَرِيحٌ لَهُمَا بِعِبَارَةٍ وَاضِحَةٍ، لَا إِشْكَالَ فِيهَا.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» مُحْتَجًّا لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا عَنِ الْحَنَابِلَةِ: أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الثَّانِي، مَا نَصُّهُ: وَالثَّانِي يَكُونُ قَذْفًا لِلْمُخَاطَبِ خَاصَّةً ; لِأَنَّ لَفْظَةَ أَفْعَلَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْمُنْفَرِدِ بِالْفِعْلِ ; كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى

ص: 446

أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا الْآيَةَ [10 \ 35]، وَقَالَ تَعَالَى: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ [6 \ 81]، وَقَالَ لُوطٌ: بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ [11 \ 78] ، أَيْ مِنْ أَدْبَارِ الرِّجَالِ، وَلَا طَهَارَةَ فِيهَا لَا يَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّهُ هُوَ سَاقَهُ، وَلَمْ يُعَوِّلْ عَلَيْهِ.

وَحَاصِلُ الِاحْتِجَاجِ الْمَذْكُورِ: أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ قَدْ تَرِدُ مُرَادًا بِهَا مُطْلَقُ الْوَصْفِ لَا حُصُولُ التَّفْضِيلِ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَمَثَّلَ لَهُ هُوَ بِكَلِمَةِ: أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ وَكَلِمَةِ: أَحَقُّ بِالْأَمْنِ وَكَلِمَةِ: أَطْهَرُ لَكُمْ ; لِأَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ لِمُطْلَقِ الْوَصْفِ لَا لِلتَّفْضِيلِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: لَا يَخْفَى أَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ قَدْ تَرِدُ لِمُطْلَقِ الْوَصْفِ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ، وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرَهَا صَاحِبُ «الْمُغْنِي» ، وَلَكِنَّهَا لَا تُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ التَّفْضِيلِ، إِلَّا بِدَلِيلٍ خَارِجٍ يَقْتَضِي ذَلِكَ، وَالْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرَ مَعْلُومٌ أَنَّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ لِلتَّفْضِيلِ ; لِأَنَّ الْأَصْنَامَ لَا نَصِيبَ لَهَا مِنْ أَحَقِّيَّةِ الِاتِّبَاعَ أَصْلًا فِي قَوْلِهِ: أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي وَلِأَنَّ الْكَفَّارَ لَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْأَحَقِّيَّةِ بِالْأَمْنِ، وَلِأَنَّ أَدْبَارَ الرِّجَالِ لَا نَصِيبَ لَهَا فِي الطَّهَارَةِ.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ وُرُودِ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ لِمُطْلَقِ الْوَصْفِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [30 \ 27]، أَيْ: هَيِّنٌ سَهْلٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ الشَّنْفَرَى:

وَإِنْ مُدَّتِ الْأَيْدِيِ إِلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ

بِأَعْجَلِهِمْ إِذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ

أَيْ: لَمْ أَكُنْ بِالْعَجِلِ مِنْهُمْ، وَقَوْلُ الْفَرَزْدَقِ:

إِنَّ الَّذِي سَمَكَ السَّمَاءَ بَنَى لَنَا

بَيْتًا دَعَائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطْوَلُ

أَيْ: عَزِيزَةٌ طَوِيلَةٌ، وَقَوْلُ مَعْنِ بْنِ أَوْسٍ:

لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَأَوْجَلُ

عَلَى أَيِّنَا تَعْدُو الْمَنِيَّةُ أَوَّلُ

أَيْ: لَوَجِلٌ، وَقَوْلُ الْأَحْوَصِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيِّ:

إِنِّي لِأَمْنَحُكَ الصُّدُودَ وَإِنَّنِي

قَسَمًا إِلَيْكَ مَعَ الصُّدُودِ لَأَمْيَلُ

أَيْ: لَمَائِلٌ، وَقَوْلُ الْآخَرِ:

ص: 447

تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ.

أَيْ: بِوَاحِدٍ، وَقَالَ الْآخَرُ:

لَعَمْرُكَ إِنَّ الزِّبْرِقَانَ لَبَاذِلٌ

لِمَعْرُوفِهِ عِنْدَ السِّنِينَ وَأَفْضَلُ

أَيْ: وَفَاضِلٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّوَاهِدِ، وَلَكِنْ قَدَّمْنَا أَنَّهَا لَا تُحْمَلُ عَلَى مُطْلَقِ الْوَصْفِ، إِلَّا لِدَلِيلٍ خَارِجٍ، أَوْ قَرِينَةٍ وَاضِحَةٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ.

وَقَوْلُهُ لَهُ: أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ، لَيْسَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ، وَلَا دَلِيلٌ صَارِفٌ لِصِيغَةِ التَّفْضِيلِ عَنْ أَصْلِهَا، فَوَجَبَ إِبْقَاؤُهَا عَلَى أَصْلِهَا، وَحَدُّ الْقَاذِفِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَالْإِتْيَانُ بِلَفْظَةِ مِنْ فِي قَوْلِهِ: أَنْتَ أَزَنَى مِنْ فُلَانٍ، يُوَضِّحُ صَرَاحَةً الصِّيغَةَ فِي التَّفْضِيلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَمْيُ الْمُلَاعَنَةِ بِالزِّنَى، وَلَا رَمْيُ وَلَدِهَا بِأَنَّهُ ابْنُ زِنًى، وَمَنْ رَمَى أَحَدَهُمَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهَا زِنًى، وَلَا عَلَى وَلَدِهَا أَنَّهُ ابْنُ زِنًى، وَإِنَّمَا انْتَفَى نَسَبُهُ عَنِ الزَّوْجِ بِلِعَانِهِ.

وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، ثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، ثَنَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَ مِنْ أَرْضِهِ عَشِيًّا فَوَجَدَ عِنْدَ أَهْلِهِ رَجُلًا فَرَأَى بِعَيْنِهِ وَسَمِعَ بِأُذُنِهِ. .، الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، وَقَضَى أَلَّا يُدْعَى وَلَدُهَا لِأَبٍّ، وَلَا تُرْمَى وَلَا يُرْمَى وَلَدُهَا وَمَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. . إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَنْ رَمَاهَا أَوْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ.

وَاعْلَمْ: أَنَّ مَا نَقَلَهُ الشَّيْخُ الْحَطَّابُ عَنْ بَعْضِ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ مِنْ أَنَّ مَنْ قَالَ لِابْنِ مُلَاعَنَةٍ: لَسْتَ لِأَبِيكَ الَّذِي لَاعَنَ أُمَّكَ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ خِلَافُ التَّحْقِيقِ ; لِأَنَّ الزَّوْجَ الْمُلَاعِنَ يَنْتَفِي عَنْهُ نَسَبُ الْوَلَدِ بِاللِّعَانِ، فَنَفْيُهُ عَنْهُ حَقٌّ مُطَابِقٌ لِلْوَاقِعِ، وَلِذَا لَا يَتَوَارَثَانِ، وَمَنْ قَالَ كَلَامًا حَقًّا، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ بِذَلِكَ ; كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: يَا مَنْ نَفَاهُ زَوْجُ أُمِّهِ، أَوْ يَا ابْنَ مُلَاعَنَةٍ، أَوْ يَا ابْنَ مَنْ لُوعِنَتْ ; وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهِ، فِيمَا لَوْ قَالَ: أَنْتَ ابْنُ زِنًى وَنَحْوَهَا مِنْ صَرِيحِ الْقَذْفِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 448

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِي حُكْمِ مَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا زَانِيَةُ بِتَاءِ الْفَرْقِ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِي، بِلَا تَاءٍ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : هُوَ قَذْفٌ صَرِيحٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، قَالَ: وَاخْتَارَ هَذَا أَبُو بَكْرٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ، وَاخْتَارَ ابْنُ حَامِدٍ أَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ إِلَّا أَنْ يُفَسِّرَهُ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ: يَا زَانِيَةُ، أَيْ: يَا عَلَّامَةُ فِي الزِّنَا ; كَمَا يُقَالُ لِلْعَالِمِ: عَلَّامَةٌ، وَلِكَثِيرِ الرِّوَايَةِ: رَاوِيَةٌ، وَلِكَثِيرِ الْحِفْظِ: حَفِظَةٌ، وَلَنَا أَنَّ مَا كَانَ قَذْفًا لِأَحَدِ الْجِنْسَيْنِ كَانَ قَذْفًا لِلْآخَرِ ; كَقَوْلِهِ: زَنَيْتَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا لَهُمَا جَمِيعًا، وَلِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ خِطَابٌ لَهُمَا وَإِشَارَةٌ إِلَيْهِمَا بِلَفْظِ الزِّنَا، وَذَلِكَ يُغْنِي عَنِ التَّمْيِيزِ بِتَاءِ التَّأْنِيثِ وَحَذْفِهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ لِلْمَرْأَةِ: يَا شَخْصًا زَانِيًا، وَلِلرَّجُلِ: يَا نَسَمَةً زَانِيَةً، كَانَ قَاذِفًا، وَقَوْلُهُمْ: إِنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنَّهُ عَلَّامَةٌ فِي الزِّنَا لَا يَصِحُّ فَإِنَّمَا كَانَ اسْمًا لِلْفِعْلِ، إِذَا دَخَلَتْهُ الْهَاءُ كَانَتْ لِلْمُبَالَغَةِ ; كَقَوْلِهِمْ: حَفِظَةٌ لِلْمُبَالِغِ فِي الْحِفْظِ، وَرَاوِيَةٌ لِلْمُبَالِغِ فِي الرِّوَايَةِ، وَكَذَلِكَ هُمَزَةٌ لُمَزَةٌ وَصُرَعَةٌ ; وَلِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُذَكِّرُ الْمُؤَنَّثَ وَيُؤَنِّثُ الْمُذَكَّرَ، وَلَا يَخْرُجُ بِذَلِكَ عَنْ كَوْنِ الْمُخَاطَبِ بِهِ مُرَادًا بِمَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ الصَّحِيحِ، انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي فِيمَنْ قَالَ لِذَكَرٍ: يَا زَانِيَةُ بِصِيغَةِ التَّأْنِيثِ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا زَانِي بِصِيغَةِ التَّذْكِيرِ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ.

وَإِيضَاحُهُ أَنَّ الْقَاذِفَ بِالْعِبَارَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَامِّيًّا لَا يَعْرِفُ الْعَرَبِيَّةَ، أَوْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، فَإِنْ كَانَ عَامِّيًّا فَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ عَالِمٍ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْعِبَارَتَيْنِ، وَنِدَاؤُهُ لِلشَّخْصِ بِلَفْظِ الزِّنَى ظَاهِرٌ فِي قَصْدِهِ قَذْفَهُ.

وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِاللُّغَةِ، فَاللَّهُ يَكْثُرُ فِيهَا إِطْلَاقُ وَصْفِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا شَخْصًا.

وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا [16 \ 14]، وَمِمَّا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّوَاهِدِ هُنَاكَ قَوْلُ حَسَّانٍ رضي الله عنه:

مَنَعَ النَّوْمَ بِالْعِشَاءِ الْهُمُومُ

وَخَيَالٌ إِذَا تَغَارُ النُّجُومُ

مِنْ حَبِيبٍ أَصَابَ قَلْبَكَ مِنْهُ

سَقَمٌ فَهُوَ دَاخِلٌ مَكْتُومُ

وَمُرَادُهُ بِالْحَبِيبِ أُنْثَى، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ:

لَمْ تَفُتْهَا شَمْسُ النَّهَارِ بِشَيْءٍ

غَيْرَ أَنَّ الشَّبَابَ لَيْسَ يَدُومُ

ص: 449

وَقَوْلُ كُثَيِّرٍ:

لَئِنْ كَانَ يَرِدُ الْمَاءَ هَيْمَانَ صَادِيًا

إِلَيَّ حَبِيبًا إِنَّهَا لَحَبِيبُ

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ قَوْلُ مَلِيحِ بْنِ الْحَكَمِ الْهُذَلِيِّ:

وَلَكِنَّ لَيْلَى أَهْلَكَتْنِي بِقَوْلِهَا

نَعَمْ ثُمَّ لَيْلَى الْمَاطِلُ الْمُتَبَلِّحُ

يَعْنِي لَيْلَى الشَّخْصُ الْمَاطِلُ الْمُتَبَلِّحُ.

وَقَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ حِزَامٍ الْعُذْرِيِّ:

وَعَفْرَاءُ أَرْجَى النَّاسِ عِنْدِي مَوَدَّةً

وَعَفْرَاءُ عَنِّي الْمُعْرِضُ الْمُتَوَانِي

أَيِ: الشَّخْصُ الْمُعْرِضُ.

وَإِذَا كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَذْكِيرُ وَصْفِ الْأُنْثَى بِاعْتِبَارِ الشَّخْصِ كَمَا رَأَيْتَ أَمْثِلَتَهُ، فَكَذَلِكَ لَا مَانِعَ مِنْ تَأْنِيثِهِمْ صِفَةَ الذَّكَرِ بِاعْتِبَارِ النَّسَمَةِ أَوِ النَّفْسِ، وَوُرُودُ ذَلِكَ لِتَأْنِيثِ اللَّفْظِ مَعَ تَذْكِيرِ الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ ; كَقَوْلِهِ:

أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى

وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ رَمَى رَجُلًا قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الزِّنَى سَابِقًا أَوِ امْرَأَةً، قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهَا الزِّنَى سَابِقًا بِبَيِّنَةٍ، أَوْ إِقْرَارٍ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ صَادِقٌ، وَلِأَنَّ إِحْصَانَ الْمَقْذُوفِ قَدْ زَالَ بِالزِّنَى، وَيَدُلُّ لِهَذَا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْآيَةَ، فَهُوَ يَدُلُّ بِمَفْهُومِهِ أَنَّ مَنْ رَمَى غَيْرَ مُحْصَنَةٍ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ يَلْزَمُ تَعْزِيرُهُ ; لِأَنَّهُ رَمَاهُ بِفَاحِشَةٍ وَلَمْ يُثْبِتْهَا، وَلَا يُتْرَكُ عِرْضُ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الزِّنَى سَابِقًا مُبَاحًا لِكُلِّ مَنْ شَاءَ أَنْ يَرْمِيَهُ بِالزِّنَى دُونَ عُقُوبَةٍ رَادِعَةٍ، كَمَا تَرَى.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُشْرِكًا وَزَنَى فِي شِرْكِهِ، أَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا وَنَكَحَ أُمَّهُ أَوِ ابْنَتَهُ مَثَلًا فِي حَالِ كَوْنِهِ مَجُوسِيًّا، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَمَاهُ أَحَدٌ بِالزِّنَى بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَلَهُ ثَلَاثُ حَالَاتٍ:

الْأُولَى: أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَا مَنْ زَنَى فِي أَيَّامِ شِرْكِهِ أَوْ يَا مَنْ نَكَحَ أُمَّهُ مَثَلًا فِي أَيَّامِهِ مَجُوسِيًّا، وَهَذِهِ الصُّورَةُ لَا حَدَّ فِيهَا ; لِأَنَّ صَاحِبَهَا أَخْبَرَ بِحَقٍّ وَالْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ.

ص: 450

الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَا مَنْ زَنَى بَعْدَ إِسْلَامِهِ أَوْ نَكَحَ أُمَّهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ; كَمَا لَا يَخْفَى.

الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَا زَانِي، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِكَوْنِ ذَلِكَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ أَوْ بَعْدَهُ، فَإِنْ فَسَّرَهُ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ زَنَى بَعْدَ إِسْلَامِهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ: أَرَدْتُ بِذَلِكَ زِنَاهُ فِي زَمَنِ شِرْكِهِ، فَهَلْ يُقْبَلُ مِنْهُ هَذَا التَّفْسِيرُ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، أَوْ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ، وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، اهـ، اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّهُ يُحَدُّ وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى تَفْسِيرِهِ ذَلِكَ: مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَصَرَّحَ بِهِ الْخِرَقِيُّ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ الْخِرَقِيَّ فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِ الْخِرَقِيِّ: وَمَنْ قَذَفَ مَنْ كَانَ مُشْرِكًا، وَقَالَ: أَرَدْتُ أَنَّهُ زَنَى وَهُوَ مُشْرِكٌ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ، وَحَدُّ الْقَاذِفِ إِذَا طَالَبَ الْمَقْذُوفَ، وَكَذَلِكَ مَنْ كَانَ عَبْدًا، انْتَهَى.

الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ قَذَفَ بِنْتًا غَيْرَ بَالِغَةٍ بِالزِّنَى، أَوْ قَذَفَ بِهِ ذَكَرًا غَيْرَ بَالِغٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ: هَلْ يَجِبُ عَلَى الْقَاذِفِ الْحَدُّ أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ؟ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا: إِذَا رَمَى صَبِيَّةً يُمْكِنُ وَطْؤُهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ بِالزِّنَى كَانَ قَذْفًا عِنْدَ مَالِكٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَيْسَ بِقَذْفٍ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًى إِذْ لَا حَدَّ عَلَيْهَا وَيُعَزَّرُ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَالْمَسْأَلَةُ مُحْتَمِلَةٌ مُشْكِلَةٌ لَكِنَّ مَالِكًا غَلَّبَ حِمَايَةَ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ، وَغَيْرَهُ رَاعَى حِمَايَةَ ظَهْرِ الْقَاذِفِ، وَحِمَايَةُ عِرْضِ الْمَقْذُوفِ أَوْلَى ; لِأَنَّ الْقَاذِفَ كَشَفَ سِتْرَهُ بِطَرَفِ لِسَانِهِ فَلَزِمَهُ الْحَدُّ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الْجَارِيَةِ بِنْتِ تِسْعٍ، يُحَدُّ قَاذِفُهَا، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ إِذَا بَلَغَ عَشْرًا ضُرِبَ قَاذِفُهُ، قَالَ إِسْحَاقُ: إِذَا قَذَفَ غُلَامًا يَطَأُ مِثْلُهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَالْجَارِيَةُ إِذَا جَاوَزَتْ تِسْعًا مِثْلُ ذَلِكَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يُحَدُّ مَنْ قَذَفَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ ; لِأَنَّ ذَلِكَ كَذِبٌ، وَيُعَزَّرُ عَلَى الْأَذَى، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ.

وَإِذَا عَرَفْتَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَهَا عِنْدَنَا قَوْلُ ابْنِ الْمُنْذِرِ: إِنَّهُ لَا يُحَدُّ وَلَكِنْ يُعَزَّرُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ مَرْفُوعٌ عَنْهُ الْقَلَمُ، وَلَا مَعَرَّةَ تَلْحَقُهُ بِذَنْبٍ ; لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ، وَلَوْ جَاءَ قَاذِفُ الصَّبِيِّ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى الصَّبِيِّ بِالزِّنَى فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ إِجْمَاعًا، وَلَوْ كَانَ قَذَفَهُ قَذْفًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَلَزِمَهُ الْحَدُّ بِإِقَامَةِ الْقَاذِفِ الْبَيِّنَةَ عَلَى زِنَاهُ، وَإِنْ خَالَفَ فِي هَذَا جَمْعٌ مِنْ أَجِلَّاءِ الْعُلَمَاءِ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ التَّعْزِيرَ الْبَالِغَ الرَّادِعَ لَهُ، وَلِغَيْرِهِ عَنْ قَذْفِ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 451

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: اعْلَمْ أَنَّ الظَّاهِرَ فِيمَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ زَنَأْتَ بِالْهَمْزَةِ، أَنَّ الْقَاذِفَ إِنَّ كَانَ عَامِّيًّا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُعْتَلِّ وَالْمَهْمُوزِ أَنَّهُ يُحَدُّ لِظُهُورِ قَصْدِهِ لِقَذْفِهِ بِالزِّنَى، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ، وَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ بِقَوْلِي: زَنَأْتَ بِالْهَمْزَةِ مَعْنَاهُ اللُّغَوِيَّ، وَمَعْنَى زَنَأْتَ بِالْهَمْزَةِ: لَجَأْتَ إِلَى شَيْءٍ، أَوْ صَعِدْتَ فِي جَبَلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمِنْقَرِيِّ يُرَقِّصُ ابْنَهُ حَكِيمًا وَهُوَ صَغِيرٌ:

أَشْبِهْ أَبَا أُمِّكَ أَوْ أَشْبِهْ حَمَلْ

وَلَا تَكُونَنَّ كَهِلَّوْفٍ وَكَلْ

يُصْبِحُ فِي مَضْجَعِهِ قَدِ انْجَدَلْ

وَارْقَ إِلَى الْخَيْرَاتِ زَنَأً فِي الْجَبَلْ

وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ: زَنَأً فِي الْجَبَلِ أَيْ صُعُودًا فِيهِ، وَالْهِلَّوْفُ الثَّقِيلُ الْجَافِي الْعَظِيمُ اللِّحْيَةِ، وَالْوَكَلُ الَّذِي يَكِلُ أَمْرَهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَزَعَمَ الْجَوْهَرِيُّ أَنَّ هَذَا الرَّجَزَ لِأُمِّ الصَّبِيِّ الْمَذْكُورِ تُرَقِّصُهُ بِهِ وَهِيَ مَنْفُوسَةُ ابْنَةُ زَيْدِ الْفَوَارِسِ، وَرَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْجَوْهَرِيِّ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ بَرِّيٍّ، وَرَوَاهُ هُوَ وَغَيْرُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، قَالَ: وَقَالَتْ أُمُّهُ تَرُدُّ عَلَى أَبِيهِ:

أَشْبِهْ أَخِي أَوْ أَشْبِهَنَّ أَبَاكَا

أَمَّا أَبِي فَلَنْ تَنَالَ ذَاكَا

تَقْصُرُ أَنْ تَنَالَهُ يَدَاكَا

قَالَهُ فِي اللِّسَانِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: فَمَنْ نَفَى رَجُلًا عَنْ جَدِّهِ أَوْ عَنْ أُمِّهِ أَوْ نَسَبَهُ إِلَى شِعْبٍ غَيْرِ شِعْبِهِ، أَوْ قَبِيلَةٍ غَيْرِ قَبِيلَتِهِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ: أَنَّهُ إِنْ نَفَاهُ عَنْ أُمِّهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَدَّعِ عَلَيْهَا الزِّنَا، وَلَمْ يَنْفِ نَسَبَهُ عَنْ أَبِيهِ، وَإِنْ نَفَاهُ عَنْ جَدِّهِ لَزِمَهُ الْحَدُّ، وَلَا حَدَّ عِنْدَهُ فِي نِسْبَةِ جِنْسٍ لِغَيْرِهِ، وَلَوْ أَبْيَضَ لِأَسْوَدَ، قَالَ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : إِنْ قَالَ لِفَارِسِيٍّ: يَا رُومِيُّ أَوْ يَا حَبَشِيُّ، أَوْ نَحْوَ هَذَا لَمْ يُحَدَّ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: اخْتُلِفَ عَنْ مَالِكٍ فِي هَذَا، وَإِنِّي أَرَى أَلَّا حَدَّ عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَقُولَ: يَا ابْنَ الْأَسْوَدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي آبَائِهِ أَسْوَدُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَأَمَّا إِنْ نَسَبَهُ إِلَى حَبَشِيٍّ ; كَأَنْ قَالَ: يَا ابْنَ الْحَبَشِيِّ وَهُوَ بَرْبَرِيٌّ، فَالْحَبَشِيُّ وَالرُّومِيُّ فِي هَذَا سَوَاءٌ، إِذَا كَانَ بَرْبَرِيًّا.

وَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: وَسَوَاءٌ قَالَ: يَا حَبَشِيُّ أَوْ يَا ابْنَ الْحَبَشِيِّ وَالرُّومِيِّ، أَوْ يَا ابْنَ الرُّومِيِّ، فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ، وَكَذَلِكَ عَنْهُ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، قَالَ الشَّيْخُ الْمَوَّاقُ: هَذَا مَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ بِهِ الْفَتْوَى عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ يُونُسَ، فَانْظُرْهُ أَنْتَ، اهـ.

وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ عَدَمِ حَدِّ مَنْ نَسَبَ جِنْسًا إِلَى غَيْرِهِ هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَدْ

ص: 452

نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَمَحَلُّ هَذَا عِنْدَهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْعَرَبِ.

قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : مَنْ قَالَ لِعَرَبِيٍّ: يَا حَبَشِيُّ، أَوْ يَا فَارِسِيُّ، أَوْ يَا رُومِيُّ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ; لِأَنَّ الْعَرَبَ تُنْسَبُ إِلَى آبَائِهَا وَهَذَا نَفْيٌ لَهَا عَنْ آبَائِهَا.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِهِ الْمَذْكُورِ عَنْ مَالِكٍ لَا يَتَّجِهُ كُلَّ الِاتِّجَاهِ، وَوَجْهُ كَوْنِ مَنْ قَالَ لِرُومِيٍّ: يَا حَبَشِيُّ مَثَلًا لَا يُحَدُّ، أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ يُشْبِهُ الْحَبَشِيَّ فِي بَعْضِ أَخْلَاقِهِ أَوْ أَفْعَالِهِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَعْرُوفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، اهـ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إِنْ نَفَاهُ عَنْ جَدِّهِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، بِأَنْ قَالَ لَهُ: لَسْتَ ابْنَ جَدِّكَ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ صَادِقٌ إِذْ هُوَ ابْنُ أَبِيهِ لَا جَدِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَسَبَ جِنْسًا إِلَى غَيْرِهِ ; كَقَوْلِهِ لِعَرَبِيٍّ: يَا نَبَطِيُّ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُ إِذَا نَسَبَهُ لِقَبِيلَةٍ أُخْرَى غَيْرِ قَبِيلَتِهِ أَوْ نَفَاهُ عَنْ قَبِيلَتِهِ ; لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ بِتِلْكَ الْقَبِيلَةِ الَّتِي نَسَبُهُ لَهَا فِي الْأَخْلَاقِ أَوِ الْأَفْعَالِ، أَوْ عَدَمِ الْفَصَاحَةِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا يَتَعَيَّنُ قَصْدُ الْقَذْفِ.

وَقَالَ صَاحِبُ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ» : وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ: يَا نَبَطِيُّ، فَقَالَ: لَا حَدَّ عَلَيْهِ، اهـ، وَكَذَلِكَ لَا يُحَدُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ، أَوْ نَسَبَهُ إِلَى عَمِّهِ أَوْ خَالِهِ خِلَافًا لِلْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمُ الْقَائِلِينَ بِحَدِّ مَنْ نَسَبَهُ لِعَمِّهِ وَنَحْوِهِ، أَوْ زَوْجِ أُمِّهِ الَّذِي هُوَ رَبِيبُهُ ; لِأَنَّ الْعَمَّ وَالْخَالَ كِلَاهُمَا كَالْأَبِّ فِي الشَّفَقَةِ، وَقَدْ يُرِيدُ التَّشْبِيهَ بِالْأَبِّ فِي الْمَحَبَّةِ وَالشَّفَقَةِ، وَقَوْلُهُ: ابْنُ مَاءِ السَّمَاءِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُرَادُ بِهِ التَّشْبِيهُ فِي الْجُودِ وَالسَّمَاحَةِ وَالصَّفَاءِ، قَالُوا: وَكَانَ عَامِرُ بْنُ حَارِثَةَ: يُلَقَّبُ بِمَاءِ السَّمَاءِ لِكَرَمِهِ، وَأَنَّهُ يُقِيمُ مَالَهُ فِي الْقَحْطِ مَقَامَ الْمَطَرِ، قَالُوا: وَسُمِّيَتْ أُمُّ الْمُنْذِرِ بْنِ امْرِئِ الْقَيْسِ بِمَاءِ السَّمَاءِ، لِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا، وَقِيلَ لِأَوْلَادِهَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ وَهُمْ مُلُوكُ الْعِرَاقِ، اهـ، وَإِنْ نَسَبَهُ لِجَدِّهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ لِصِحَّةِ نِسْبَتِهِ إِلَى جَدِّهِ ; كَمَا هُوَ وَاقِعٌ بِكَثْرَةٍ عَلَى مَرِّ الْأَزْمِنَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، اهـ، وَمَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ: أَنَّهُ إِنْ نَفَاهُ عَنْ أُمِّهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ.

وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِيمَنْ نَفَى رَجُلًا عَنْ قَبِيلَتِهِ أَوْ نَسَبَ جِنْسًا لِغَيْرِهِ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِذَا نَفَى رَجُلًا عَنْ أَبِيهِ، فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ، وَكَذَلِكَ إِذَا نَفَاهُ عَنْ قَبِيلَتِهِ، وَبِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّوْرِيُّ، وَحَمَّادٌ، اهـ.

وَقَدْ عَلِمْتَ الْخِلَافَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمَشْهُورَ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا، ثُمَّ قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ

ص: 453

فِي «الْمُغْنِي» : وَالْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَلَّا يَجِبَ الْحَدُّ بِنَفْيِ الرَّجُلِ عَنْ قَبِيلَتِهِ ; وَلِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الرَّمْيُ بِالزِّنَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَالَ لِأَعْجَمِيٍّ: إِنَّكَ عَرَبِيٌّ، وَلَوْ قَالَ لِلْعَرَبِيِّ: أَنْتَ نَبَطِيٌّ أَوْ فَارِسِيٌّ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، نَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّكَ نَبَطِيُّ اللِّسَانِ أَوِ الطَّبْعِ، وَحُكِيَ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ كَمَا لَوْ نَفَاهُ عَنْ أَبِيهِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ ; لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ غَيْرَ الْقَذْفِ احْتِمَالًا كَثِيرًا فَلَا يَتَعَيَّنُ صَرْفُهُ إِلَيْهِ، وَمَتَى فَسَّرَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِالْقَذْفِ فَهُوَ قَاذِفٌ، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي» .

وَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَيْسَتْ فِيهَا نُصُوصٌ مِنَ الْوَحْيِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا احْتَمَلَ غَيْرَ الْقَذْفِ مِنْ ذَلِكَ لَا يُحَدُّ صَاحِبُهُ ; لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وَاحْتِمَالُ الْكَلَامِ غَيْرَ الْقَذْفِ لَا يَقِلُّ عَنْ شُبْهَةٍ قَوِيَّةٍ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : أَنَّ الْأَشْعَثَ بْنَ قَيْسٍ رَوَى عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ «: لَا أُوتَى بِرَجُلٍ يَقُولُ: إِنَّ قُرَيْشًا لَيْسَتْ مِنْ كِنَانَةَ إِلَّا جَلَدْتُهُ» ، اهـ، وَانْظُرْ إِسْنَادَهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي أَحْكَامِ كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا قَرْنَانُ، أَوْ يَا دَيُّوثُ، أَوْ يَا كَشْخَانُ، أَوْ يَا قَرْطَبَانُ، أَوْ يَا مَعْفُوجُ، أَوْ يَا قَوَّادُ، أَوْ يَا ابْنَ مُنْزِلَةِ الرُّكْبَانِ، أَوْ يَا ابْنَ ذَاتِ الرَّايَاتِ، أَوْ يَا مُخَنَّثُ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا قَحْبَةُ.

اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْعِبَارَاتِ الْمَذْكُورَةِ، فَمَذْهَبُ مَالِكٍ: هُوَ أَنْ مَنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا قَرْنَانُ، لَزِمَهُ حَدُّ الْقَذْفِ لِزَوْجَتِهِ إِنْ طَلَبَتْهُ ; لِأَنَّ الْقَرْنَانَ عِنْدَ النَّاسِ زَوْجُ الْفَاعِلَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ: يَا قَحْبَةُ، لَزِمَهُ الْحَدُّ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ قَالَ: يَا ابْنَ مُنْزِلَةِ الرُّكْبَانِ، أَوْ يَا ابْنَ ذَاتِ الرَّايَاتِ، كُلُّ ذَلِكَ فِيهِ حَدُّ الْقَذْفِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ، قَالُوا: لِأَنَّ الزَّانِيَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ تُنْزِلُ الرُّكْبَانَ، وَتَجْعَلُ عَلَى بَابِهَا رَايَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ: يَا مُخَنَّثُ، لَزِمَهُ الْحَدُّ إِنْ لَمْ يَحْلِفْ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَذْفًا، فَإِنْ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ أُدِّبَ، وَلَمْ يُحَدَّ. قَالَهُ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» ، وَإِنْ قَالَ لَهُ: يَا ابْنَ الْفَاسِقَةِ، أَوْ يَا ابْنَ الْفَاجِرَةِ، أَوْ يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا فَاجِرُ أَوْ يَا حِمَارُ ابْنَ الْحِمَارِ، أَوْ يَا كَلْبُ، أَوْ يَا ثَوْرُ، أَوْ يَا خِنْزِيرُ، وَنَحْوَ ذَلِكَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَلَكِنَّهُ يُعَزَّرُ تَعْزِيرًا رَادِعًا حَسْبَمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ: يَا فَاسِقُ، يَا كَافِرُ، يَا خَبِيثُ، يَا لِصُّ، يَا فَاجِرُ، يَا مُنَافِقُ، يَا لُوطِيُّ، يَا مَنْ يَلْعَبُ بِالصِّبْيَانِ، يَا آكِلَ الرِّبَا، يَا شَارِبَ الْخَمْرِ، يَا دَيُّوثُ، يَا مُخَنَّثُ، يَا خَائِنُ، يَا ابْنَ الْقَحْبَةِ، يَا زِنْدِيقُ، يَا قَرْطَبَانُ، يَا مَأْوَى الزَّوَانِي أَوِ اللُّصُوصِ، يَا حَرَامُ،

ص: 454

أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ، وَآكَدُ التَّعْزِيرِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا، وَأَمَّا لَوْ قَالَ لَهُ: يَا كَلْبُ، يَا تَيْسُ، يَا حِمَارُ، يَا خِنْزِيرُ، يَا بَقَرُ، يَا حَيَّةُ، يَا حَجَّامُ، يَا بَبْغَاءُ، يَا مُؤَاجِرُ، يَا وَلَدَ الْحَرَامِ، يَا عَيَّارُ، يَا نَاكِسُ، يَا مَنْكُوسُ، يَا سُخْرَةُ، يَا ضُحَكَةُ، يَا كَشْخَانُ، يَا أَبْلَهُ، يَا مَسُوسُ ; فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ، وَلَا يُعَزَّرُ بِهَا، قَالَ صَاحِبُ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ» : لَا يُعَزَّرُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ كُلِّهَا ; لِأَنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ إِطْلَاقَ الْحِمَارِ وَنَحْوِهِ بِمَعْنَى الْبَلَادَةِ وَالْحِرْصِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، وَلَا يُرِيدُونَ بِهِ الشَّتِيمَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ بِهِ وَيَقُولُونَ: عِيَاضُ بْنُ حِمَارٍ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَلٌ ; وَلِأَنَّ الْمَقْذُوفَ لَا يَلْحَقُهُ شَيْنٌ بِهَذَا الْكَلَامِ، وَإِنَّمَا يَلْحَقُ بِالْقَاذِفِ، وَكُلُّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ آدَمِيٌّ، وَلَيْسَ بِكَلْبٍ وَلَا حِمَارٍ وَأَنَّ الْقَاذِفَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ، وَحَكَى الْهِنْدُوَانِيُّ أَنَّهُ يُعَزَّرُ فِي زَمَانِنَا فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: يَا كَلْبُ، يَا خِنْزِيرُ ; لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الشَّتْمُ فِي عُرْفِنَا.

وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ: الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يُعَزَّرُ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ الْمَنْسُوبُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَشْرَافِ كَالْفُقَهَاءِ وَالْعَلَوِيَّةِ يُعَزَّرُ ; لِأَنَّهُ يُعَدُّ شَيْنًا فِي حَقِّهِ، وَتَلْحَقُهُ الْوَحْشَةُ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْعَامَّةِ لَا يُعَزَّرُ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِيهِ، وَمِنَ الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَا تُوجِبُ التَّعْزِيرَ قَوْلُهُ: يَا رُسْتَاقِيُّ، وَيَا ابْنَ الْأَسْوَدِ، وَيَا ابْنَ الْحَجَّامِ، وَهُوَ لَيْسَ كَذَلِكَ، اهـ مِنْ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ شَرْحِ كَنْزِ الدَّقَائِقِ فِي الْفِقْهِ الْحَنَفِيِّ» .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْهُمْ أَنَّهَا تُوجِبُ التَّعْزِيرَ فَوُجُوبُ التَّعْزِيرِ بِهَا كَمَا ذَكَرُوا وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنْهُمْ أَنَّهَا لَا تَعْزِيرَ فِيهَا، فَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهَا يَجِبُ فِيهَا التَّعْزِيرُ ; لِأَنَّهَا كُلُّهَا شَتْمٌ وَعَيْبٌ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِإِنْسَانٍ: يَا كَلْبُ، يَا خِنْزِيرُ، يَا حِمَارُ، يَا تَيْسُ، يَا بَقَرُ، إِلَى آخِرِهِ، أَنَّ هَذَا شَتْمٌ وَاضِحٌ لَا خَفَاءَ بِهِ وَلَيْسَ مُرَادُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ كَلْبٌ أَوْ خِنْزِيرٌ، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ تَشْبِيهُ الْإِنْسَانِ بِالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ فِي الْخِسَّةِ وَالصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ كَمَا لَا يَخْفَى، فَهُوَ مِنْ نَوْعِ التَّشْبِيهِ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْبَلَاغِيُّونَ تَشْبِيهًا بَلِيغًا وَلَا شَكَّ أَنَّ عَاقِلًا قِيلَ لَهُ: يَا كَلْبُ، أَوْ يَا خِنْزِيرُ مَثَلًا أَنَّ ذَلِكَ يُؤْذِيهِ، وَلَا يُشَكُّ أَنَّهُ شَتْمٌ، فَهُوَ أَذًى ظَاهِرٌ، وَعَلَيْهِ فَالظَّاهِرُ التَّعْزِيرُ فِي الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ، وَكَوْنُهُمْ يُسَمُّونَ الرَّجُلَ حِمَارًا أَوْ كَلْبًا لَا يُنَافِي ذَلِكَ ; لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُسَمِّي ابْنَهُ بَاسِمٍ قَبِيحٍ لَا يَرْضَى غَيْرُهُ أَنْ يُعَابَ بِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا ابْنَ الْأَسْوَدِ، وَلَيْسَ أَبُوهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَجْدَادِهِ بِأَسْوَدَ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِنَسَبِهِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: يَا ابْنَ الْحَجَّامِ إِنْ لَمْ يَكُنْ أَبُوهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَجْدَادِهِ حَجَّامًا فَهُوَ قَذْفٌ ; لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِنَسَبِهِ وَإِلْصَاقٌ لَهُ بِأَسْوَدَ أَوْ حَجَّامٍ لَيْسَ

ص: 455

بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ نَسَبٌ ; كَمَا هُوَ قَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ.

وَقَالَ صَاحِبُ «تَبْيِينِ الْحَقَائِقِ» : وَتَفْسِيرُ الْقَرْطَبَانِ هُوَ الَّذِي يَرَى مَعَ امْرَأَتِهِ أَوْ مَحْرَمِهِ رَجُلًا، فَيَدَعُهُ خَالِيًا بِهَا، وَقِيلَ: هُوَ السَّبَبُ لِلْجَمْعِ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِمَعْنًى غَيْرِ مَمْدُوحٍ، وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَبْعَثُ امْرَأَتَهُ مَعَ غُلَامٍ بَالِغٍ أَوْ مَعَ مُزَارِعِهِ إِلَى الضَّيْعَةِ، أَوْ يَأْذَنُ لَهُمَا بِالدُّخُولِ عَلَيْهَا فِي غَيْبَتِهِ، اهـ مِنْهُ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِنْ قَالَ لِرَجُلٍ: يَا دَيُّوثُ، أَوْ يَا كَشْخَانُ، فَقَالَ أَحْمَدُ: يُعَزَّرُ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: الدَّيُّوثُ الَّذِي يُدْخِلُ الرِّجَالَ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَقَالَ ثَعْلَبٌ: الْقَرْطَبَانُ الَّذِي يَرْضَى أَنْ يَدْخُلَ الرِّجَالُ عَلَى امْرَأَتِهِ، وَقَالَ: الْقَرْنَانُ وَالْكَشْخَانُ لَمْ أَرَهُمَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمَعْنَاهُ عِنْدَ الْعَامَّةِ مِثْلُ مَعْنَى الدَّيُّوثِ، أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ، فَعَلَى الْقَاذِفِ بِهِ التَّعْزِيرُ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ فِي الدَّيُّوثِ ; لِأَنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لَا حَدَّ فِيهِ، وَقَالَ خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِيهِ فِي الرَّجُلِ يَقُولُ لِلرَّجُلِ: يَا قَرْنَانُ إِذَا كَانَ لَهُ أَخَوَاتٌ، أَوْ بَنَاتٌ فِي الْإِسْلَامِ ضُرِبَ الْحَدَّ، يَعْنِي أَنَّهُ قَاذِفٌ لَهُنَّ، وَقَالَ خَالِدٌ عَنْ أَبِيهِ: الْقَرْنَانُ عِنْدَ الْعَامَّةِ مَنْ لَهُ بَنَاتٌ، وَالْكَشْخَانُ: مَنْ لَهُ أَخَوَاتٌ، يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ إِذَا كَانَ يُدْخِلُ الرِّجَالَ عَلَيْهِنَّ، وَالْقَوَّادُ عِنْدَ الْعَامَّةِ: السِّمْسَارُ فِي الزِّنَى، وَالْقَذْفُ بِذَلِكَ كُلِّهِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ ; لِأَنَّهُ قَذْفٌ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي» ، وَقَالَ فِي «الْمُغْنِي» أَيْضًا الْمَنْصُوصُ عَنْ أَحْمَدَ فِيمَنْ قَالَ: يَا مَعْفُوجُ أَنَّ عَلَيْهِ الْحَدَّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ يَقْتَضِي أَنْ يُرْجَعَ إِلَى تَفْسِيرِهِ، فَإِنْ فُسِّرَ بِغَيْرِ الْفَاحِشَةِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: أَرَدْتُ يَا مَفْلُوجُ، أَوْ يَا مُصَابًا دُونَ الْفَرْجِ وَنَحْوَ هَذَا، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ فَسَّرَهُ بِمَا لَا حَدَّ فِيهِ، وَإِنْ فَسَّرَهُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ; كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ «الْقَامُوسِ» : الْقَرْنَانُ: الدَّيُّوثُ الْمُشَارِكُ فِي قَرِينَتِهِ لِزَوْجَتِهِ، اهـ مِنْهُ، وَقَالَ فِي «الْقَامُوسِ» أَيْضًا: الْقَرْطَبَانُ بِالْفَتْحِ الدَّيُّوثُ، وَالَّذِي لَا غَيْرَةَ لَهُ أَوِ الْقُوَّادُ، اهـ مِنْهُ، وَقَالَ فِي «الْقَامُوسِ» : وَالتَّدَيُّثُ الْقِيَادَةُ، وَفِي «الْقَامُوسِ» تَحْتَ الْخَطِّ لَا بَيْنَ قَوْسَيْنِ الْكَشْخَانُ وَيُكْسَرُ: الدَّيُّوثُ، وَكَشَّخَهُ تَكْشِيخًا، وَكَشْخَنَهُ، قَالَ لَهُ: يَا كَشْخَانُ، اهـ مِنْهُ، وَهُوَ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ فِي «صِحَاحِهِ» : وَالدَّيُّوثُ الْقُنْذُعُ وَهُوَ الَّذِي لَا غَيْرَةَ لَهُ، اهـ مِنْهُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ التَّحْقِيقَ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا أَنَّهَا تَتْبَعُ الْعُرْفَ الْجَارِيَ فِي الْبَلَدِ الَّذِي قِيلَتْ فِيهِ،

ص: 456

فَإِنْ كَانَ مِنْ عُرْفِهِمْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الشَّتْمُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَجَبَ التَّعْزِيرُ ; لِأَجْلِ الْأَذَى وَلَا حَدَّ، وَإِنْ كَانَ عُرْفُهُمْ أَنَّهَا يُرَادُ بِهَا الشَّتْمُ بِالزِّنَى، أَوْ نَفْيِ النَّسَبِ، وَكَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ عُرْفًا، وَجَبَ الْحَدُّ ; لِأَنَّ الْعُرْفَ مُتَّبَعٌ فِي نَحْوِ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ قَذَفَ مُحْصَنًا بَعْدَ مَوْتِهِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا فَلِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفُلَ وَأَبِيهِ وَإِنْ عَلَا الْقِيَامُ بِذَلِكَ، وَمَنْ قَامَ مِنْهُمْ أَخَذَهُ بِحَدِّهِ، وَإِنْ كَانَ ثَمَّ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ ; لِأَنَّهُ عَيْبٌ، وَلَيْسَ لِلْإِخْوَةِ، وَسَائِرِ الْعَصَبَةِ مَعَ هَؤُلَاءِ قِيَامٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَؤُلَاءِ وَاحِدٌ فَلِلْعَصَبَةِ الْقِيَامُ، اهـ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَوَّاقِ.

وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْمَيِّتَ الْمَقْذُوفَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ بِطَلَبِ مَنْ وُجِدَ مِنْ فُرُوعِهِ، وَإِنْ سَفُلُوا أَوْ وَاحِدٍ مِنْ أُصُولِهِ، وَإِنْ عَلَوْا، وَلَا كَلَامَ فِي حَالِ وُجُودِ الْأُصُولِ أَوِ الْفُرُوعِ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الْإِخْوَةِ وَالْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنَ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ أَحَدٌ، فَلِلْإِخْوَةِ وَالْعَصَبَةِ الْقِيَامُ، وَيُحَدُّ لِلْمَقْذُوفِ بِطَلَبِهِمْ، هَذَا حَاصِلُ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَظَاهِرُهُ عَدَمُ الْفَرْقِ بَيْنَ كَوْنِ الْمَقْذُوفِ الْمَيِّتِ أَبًا أَوْ أُمًّا، وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يُفَرِّقُ بَيْنَ قَذْفِ الْأَبِ وَالْأُمِّ ; لِأَنَّ قَذْفَ الْأُمِّ بِالزِّنَى فِيهِ قَدْحٌ فِي نَسَبِ وَلَدِهَا ; لِأَنَّ ابْنَ الزَّانِيَةِ قَدْ يَكُونُ لِغَيْرِ أَبِيهِ مِنْ أَجْلِ زِنَا أُمِّهِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِنْ قَذَفَ أُمَّهُ وَهِيَ مَيِّتَةٌ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كَافِرَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً، حُدَّ الْقَاذِفُ إِذَا طَلَبَ الِابْنُ وَكَانَ حُرًّا مُسَلِمًا، أَمَّا إِذَا قُذِفَتْ وَهِيَ فِي الْحَيَاةِ، فَلَيْسَ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةُ ; لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا، فَلَا يُطَالِبُ بِهِ غَيْرُهَا، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهَا مَقَامَهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْجُورًا عَلَيْهَا أَوْ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهَا، لِأَنَّهُ حَقٌّ يَثْبُتُ لِلتَّشَفِّي فَلَا يَقُومُ فِيهِ غَيْرُ الْمُسْتَحِقِّ مَقَامَهُ كَالْقِصَاصِ، وَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا ; لِأَنَّ الْحَقَّ لَهَا فَتُعْتَبَرُ حَصَانَتُهَا كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ، وَأَمَّا إِنْ قُذِفَتْ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، فَإِنَّ لِوَلَدِهَا الْمُطَالَبَةَ ; لِأَنَّهُ قَدْحٌ فِي نَسَبِهِ، وَلِأَنَّهُ يَقْذِفُ أُمَّهُ بِنِسْبَتِهِ إِلَى أَنَّهُ ابْنُ زِنًى، وَلَا يُسْتَحَقُّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ، وَلِذَلِكَ تُعْتَبَرُ الْحَصَانَةُ فِيهِ، وَلَا تُعْتَبَرُ الْحَصَانَةُ فِي أُمِّهِ ; لِأَنَّ الْقَذْفَ لَهُ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِ مَيِّتَةٍ بِحَالٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ ; لِأَنَّهُ قَذْفٌ لِمَنْ لَا تَصِحُّ مِنْهُ الْمُطَالَبَةُ، فَأَشْبَهَ قَذْفَ الْمَجْنُونِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ كَانَ الْمَيِّتُ مُحْصَنًا فَلِوَلِيِّهِ الْمُطَالَبَةُ، وَيَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ الْمِيرَاثِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْصَنًا فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ ; لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُحْصَنٍ، فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ كَمَا لَوْ كَانَ حَيًّا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ الْحَدَّ عَلَى مَنْ يَقْذِفُ مَنْ لَيْسَ مُحْصَنًا حَيًّا وَلَا مَيِّتًا ; لِأَنَّهُ إِذَا لَمْ

ص: 457

يُحَدَّ بِقَذْفِ غَيْرِ الْمُحْصَنِ إِذَا كَانَ حَيًّا فَلِأَنْ لَا يُحَدَّ بِقَذْفِهِ مَيِّتًا أَوْلَى، وَلَنَا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي الْمُلَاعَنَةِ «: وَمَنْ رَمَى وَلَدَهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ» ، يَعْنِي: مَنْ رَمَاهُ بِأَنَّهُ وَلَدُ زِنًى، وَإِذَا وَجَبَ بِقَذْفِ وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ بِذَلِكَ، فَبِقَذْفِ غَيْرِهِ أَوْلَى ; وَلِأَنَّ أَصْحَابَ الرَّأْيِ أَوْجَبُوا الْحَدَّ عَلَى مَنْ نَفَى رَجُلًا عَنْ أَبِيهِ إِذَا كَانَ أَبَوَاهُ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ، وَلَوْ كَانَا مَيِّتَيْنِ، وَالْحَدُّ إِنَّمَا وَجَبَ لِلْوَلَدِ ; لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يُورَثُ عِنْدَهُمْ، فَأَمَّا إِنْ قُذِفَتْ أُمُّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَهُوَ مُشْرِكٌ أَوْ عَبْدٌ، فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، سَوَاءٌ كَانَتِ الْأُمُّ حُرَّةً مُسْلِمَةً أَوْ لَمْ تَكُنْ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: إِذَا قَالَ لِكَافِرٍ أَوْ عَبْدٍ: لَسْتَ لِأَبِيكَ، وَأَبَوَاهُ حُرَّانِ مُسْلِمَانِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ قَالَ لِعَبْدٍ أُمُّهُ حُرَّةٌ وَأَبُوهُ عَبْدٌ: لَسْتَ لِأَبِيكَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لِلْقَاذِفِ عِنْدَ أَبِي ثَوْرٍ، وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ: يَصِحُّ أَنْ يَحُدَّ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ، وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ هَذَا قَذْفٌ لِأُمِّهِ فَيُعْتَبَرُ إِحْصَانُهَا دُونَ إِحْصَانِهِ ; لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَيَّةً كَانَ الْقَذْفُ لَهَا فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ مَيِّتَةً، وَلِأَنَّ مَعْنَى هَذَا: أَنَّ أُمَّكَ زَنَتْ فَأَتَتْ بِكَ مِنَ الزِّنَى، فَإِذَا كَانَ مِنَ الزِّنَى مَنْسُوبًا إِلَيْهَا كَانَتْ هِيَ الْمَقْذُوفَةَ دُونَ وَلَدِهَا، وَلَنَا مَا ذَكَرْنَاهُ ; وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَذْفُ لَهَا لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ، لَأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ، وَالْعَبْدَ لَا يَرِثُ الْحُرَّ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يُوجِبُونَ الْحَدَّ لِقَذْفِ مَيِّتَةٍ بِحَالٍ، فَيَثْبُتُ أَنَّ الْقَذْفَ لَهُ فَيُعْتَبَرُ إِحْصَانُهُ دُونَ إِحْصَانِهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، اهـ بُطُولِهِ مِنَ «الْمُغْنِي» .

وَقَدْ رَأَيْتَ فِي كَلَامِهِ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي رَمْيِ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ، إِنْ كَانَ لَهَا أَوْلَادٌ، وَرَمْيِ الْمَرْأَةِ الْحَيَّةِ الَّتِي لَهَا أَوْلَادٌ، وَبِهِ نَعْلَمُ أَنَّ الْحَدَّ يُوَرَّثُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ، إِلَّا أَنَّهُ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَطْلُبُهُ إِلَّا الْفُرُوعُ وَالْأُصُولُ، وَيُحَدُّ بِطَلَبِ كُلٍّ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ طَالِبِ الْحَدِّ، وَأَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ الْفُرُوعِ وَالْأُصُولِ يُطَالِبُ بِهِ الْإِخْوَةُ وَالْعَصَبَةُ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ وَرِثُوا ذَلِكَ الْحَقَّ فِي الْجُمْلَةِ عَنِ الْمَقْذُوفِ الْمَيِّتِ، وَأَنَّ الشَّافِعِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَنْقَسِمُ بِانْقِسَامِ الْمِيرَاثِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ الْمُغْنِي فِي كَلَامِهِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّ الْحَنَفِيَّةَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَدَّ لَا يُورَثُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ الْحَنْبَلِيِّ، وَأَنَّ بَعْضَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: لَا يُحَدُّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتَةً بِحَالٍ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: أَنَّ قَذْفَ الْأُمِّ إِنْ كَانَ يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ نَسَبِ وَلَدِهَا فَلَهَا الْقِيَامُ حَيَّةً، وَلِوَلَدِهَا الْقِيَامُ إِذَا لَمْ تُطَالِبْ هِيَ ; لِأَنَّهُ مَقْذُوفٌ بِقَذْفِهَا، خِلَافًا لِمَا فِي كَلَامِ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً فَلَهُ الْقِيَامُ، وَيُحَدُّ لَهُ الْقَاذِفُ، وَقَوْلُ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» : تُعْتَبَرُ حَصَانَتُهُ هُوَ دُونَ حَصَانَتِهَا هِيَ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَعْنًى; لِأَنَّ نَفْيَ نَسَبِ إِنْسَانٍ لَا تُشْتَرَطُ فِيهِ حَصَانَةُ الْمَنْفِيِّ نَسَبُهُ،

ص: 458

لِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ مِنْ زِنًى، فَإِنَّهُ هُوَ لَا ذَنْبَ لَهُ، وَلَا يُعْتَبَرُ زَانِيًا، كَمَا تَرَى.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَذْفَ الْأُمِّ إِنْ كَانَ يَسْتَلْزِمُ قَذْفَ وَلَدِهَا، فَالْأَظْهَرُ إِقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ بِطَلَبِ الْأُمِّ، وَبِطَلَبِ الْوَلَدِ، وَإِنْ كَانَتْ حَيَّةً ; لِأَنَّهُ مَقْذُوفٌ وَأَحْرَى إِنْ كَانَتْ مَيِّتَةً، وَإِنْ كَانَتِ الْأُمُّ لَا وَلَدَ لَهَا، أَوْ لَهَا وَلَدٌ لَا يَسْتَلْزِمُ قَذْفُهَا قَذْفَهُ فَهِيَ مَسْأَلَةٌ: هَلْ يُحَدُّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتًا أَوْ لَا؟ وَقَدْ رَأَيْتَ خِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ ; لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ حُرْمَةَ عِرْضِ الْإِنْسَانِ لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ، وَهَذَا يَقْتَضِي حَدَّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتَةً، وَوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَيِّتَةَ لَا يَصِحُّ مِنْهَا الطَّلَبُ، فَلَا يُحَدُّ بِدُونِ طَلَبٍ ; وَلِأَنَّ مَنْ مَاتَ لَا يَتَأَذَّى بِكَلَامِ الْقَاذِفِ، وَإِنْ كَانَ كَذِبًا بَلْ يَفْرَحُ بِهِ ; لِأَنَّهُ يَكُونُ لَهُ فِيهِ حَسَنَاتٌ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا مَا رَمَاهُ بِهِ، فَلَا حَاجَةَ لَهُ بِحَدِّهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ إِلَّا الْحَقَّ وَحْدَهُ وَهُوَ صَادِقٌ لَا حَاجَةَ لِلْمَيِّتِ فِيهِ، اهـ.

وَأَقْرَبُهُمَا عِنْدِي أَنَّهُ يُعَزَّرُ تَعْزِيرًا رَادِعًا وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَيَّ إِذَا قَذَفَهُ آخَرُ بِالزِّنَا، وَهُوَ يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ أَنَّ الْقَاذِفَ صَادِقٌ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ لَهُ الْمُطَالَبَةَ بِحَدِّهِ مَعَ عِلْمِهِ بِصِدْقِهِ فِيمَا رَمَاهُ بِهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّمَا قَذَفَهُ بِهِ حَقٌّ أَنَّهُ لَا تَنْبَغِي لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِحَدِّهِ ; لِأَنَّهُ يَتَسَبَّبُ فِي إِيذَائِهِ بِضَرْبِ الْحَدِّ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِيمَا قَالَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ مَنْ قَذَفَ أُمَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَذَفَهُ هُوَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ ذَلِكَ رِدَّةٌ، وَخُرُوجٌ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَأَنَّ حُكْمَهُ الْقَتْلُ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا إِذَا تَابَ هَلْ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ؟ فَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَيُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ إِنْ تَابَ، وَهَذَا الْأَخِيرُ أَقْرَبُ لِكَثْرَةِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى قَبُولِ تَوْبَةِ مَنْ تَابَ، وَلَوْ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ قَذَفَ وَلَدَهُ.

وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِذَا قَذَفَ وَلَدَهُ وَإِنْ نَزَلَ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَاذِفُ رَجُلًا أَوِ امْرَأَةً وَبِهَذَا قَالَ عَطَاءٌ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَقَالَ مَالِكٌ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ: عَلَيْهِ الْحَدُّ لِعُمُومِ الْآيَةِ ; وَلِأَنَّهُ حَدٌّ فَلَا تَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِهِ قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ كَالزِّنَى.

ص: 459

وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ دَلِيلًا: أَنَّهُ لَا يُحَدُّ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ ; لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [2 \ 83]، وَقَوْلِهِ: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [7 \ 23] ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْوَلَدِ أَنْ يَطْلُبَ حَدَّ وَالِدِهِ لِلتَّشَفِّي مِنْهُ، وَقَوْلُ الْمَالِكِيَّةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ، لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّ الْوَلَدَ يُمَكَّنُ مِنْ حَدِّ وَالِدِهِ الْقَاذِفِ لَهُ وَأَنَّهُ يُعَدُّ بِحَدِّهِ لَهُ فَاسِقًا بِالْعُقُوقِ ; كَمَا قَالَ خَلِيلٌ فِي «مُخْتَصَرِهِ» : وَلَهُ حَدُّ أَبِيهِ وَفُسِّقَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفِسْقَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ، وَالشَّرْعُ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا مِنَ ارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ ; كَمَا تَرَى مَعَ أَنَّ الرِّوَايَاتِ عَنْ مَالِكٍ نَفْسِهِ ظَاهِرُهَا عَدَمُ الْحَدِّ وَقَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ مَذْهَبِهِ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ قَتَلَ أَوْ أَصَابَ حَدًّا خَارِجَ الْحَرَمِ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ هَلْ يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَقُّ فِي الْحَرَمِ، أَوْ لَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنَ الْحَرَمِ؟

اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْهُ الْحَقُّ قِصَاصًا كَانَ أَوْ حَدًّا قَتْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ.

الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ حَدٌّ وَلَا قِصَاصٌ مَا دَامَ فِي الْحَرَمِ، سَوَاءٌ كَانَ قَتْلًا أَوْ غَيْرَهُ.

الثَّالِثُ: أَنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْحُدُودِ إِلَّا الْقَتْلَ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ فِي حَدٍّ كَالرَّجْمِ، وَلَا فِي قِصَاصٍ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي " الْمُغْنِي ": وَجُمْلَتُهُ أَنَّ مَنْ جَنَى جِنَايَةً تُوجِبُ قَتْلًا خَارِجَ الْحَرَمِ، ثُمَّ لَجَأَ إِلَيْهِ لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْهُ فِيهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٍ، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَالزُّهْرِيِّ، وَإِسْحَاقَ، وَمُجَاهِدٍ، وَالشَّعْبِيِّ، وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ.

وَأَمَّا غَيْرُ الْقَتْلِ مِنَ الْحُدُودِ كُلِّهَا وَالْقَصَّاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ، فَعَنْ أَحْمَدَ فِيهِ رِوَايَتَانِ:

إِحْدَاهُمَا: لَا يُسْتَوْفَى مِنَ الْمُلْتَجِئِ إِلَى الْحَرَمِ فِيهِ.

وَالثَّانِيَةُ: يُسْتَوْفَى وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم النَّهْيُ عَنِ الْقَتْلِ لِقَوْلِهِ عليه الصلاة والسلام ": فَلَا يُسْفَكُ فِيهَا دَمٌ "، وَحُرْمَةُ النَّفْسِ أَعْظَمُ فَلَا يُقَاسُ غَيْرُهَا عَلَيْهَا، وَلِأَنَّ الْحَدَّ بِالْجَلْدِ جَرَى مَجْرَى التَّأْدِيبِ، فَلَمْ يُمْنَعْ كَتَأْدِيبِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ وَالْأَوْلَى ظَاهِرُ كَلَامِ الْخِرَقِيِّ، وَهِيَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ وَجَدْتُهَا مُفْرَدَةً لِحَنْبَلٍ عَنْ عَمِّهِ: أَنَّ الْحُدُودَ كُلَّهَا تُقَامُ فِي

ص: 460

الْحَرَمِ إِلَّا الْقَتْلَ وَالْعَمَلَ عَلَى أَنَّ كُلَّ جَانٍ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ حَدُّ جِنَايَتِهِ، حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: يُسْتَوْفَى مِنْهُ فِيهِ لِعُمُومِ الْأَمْرِ بِجَلْدِ الزَّانِي، وَقَطْعِ السَّارِقِ، وَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " فَتْحِ الْبَارِي ": وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُقْتَلُ فِي الْحَرَمِ، حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى الْحِلِّ بِاخْتِيَارِهِ وَلَكِنْ لَا يُجَالَسُ وَلَا يُكَلَّمُ، وَيُوعَظُ، وَيُذَكَّرُ حَتَّى يَخْرُجَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُخْرَجُ مُضْطَرًّا إِلَى الْحِلِّ، وَفَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ.

وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مِنْ طَرِيقِ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَنْ أَصَابَ حَدًّا ثُمَّ دَخَلَ الْحَرَمَ لَمْ يُجَالَسْ وَلَمْ يُبَايَعْ، وَعَنْ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ: يَجُوزُ إِقَامَةُ الْحَدِّ مُطْلَقًا فِيهَا ; لِأَنَّ الْعَاصِيَ هَتَكَ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فَأَبْطَلَ مَا جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْأَمْنِ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " مُشِيرًا إِلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي الْحَرَمِ، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ الْمُنْذِرِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ عُمُومُ الْأَدِلَّةِ الْقَاضِيَةِ بِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَالْحَنَفِيَّةِ، وَسَائِرِ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَأَحْمَدَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَالْعِتْرَةِ: إِلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْفِكَ بِالْحَرَمِ دَمًا، وَلَا يُقِيمَ بِهِ حَدًّا حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ مَنْ لَجَأَ إِلَيْهِ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَإِذَا عَرَفْتَ مِنْ هَذِهِ النُّقُولِ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، فَهَذِهِ أَدِلَّتُهُمْ وَمُنَاقَشَتُهَا، أَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: يُسْتَوْفَى مِنْهُ كُلُّ حَدٍّ فِي الْحَرَمِ إِنْ لَجَأَ إِلَيْهِ كَمَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ، فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِأَدِلَّةٍ:

مِنْهَا أَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الدَّالَّةَ عَلَى إِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ، لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا تَخْصِيصُ مَكَانٍ دُونَ مَكَانٍ، وَلَا زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَظَاهِرُهَا شُمُولُ الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ، قَالُوا: وَالْعَمَلُ بِظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَاجِبٌ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَثُرَتْ.

وَمِنْهَا أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ حَقٌّ وَاجِبٌ بِتَشْرِيعِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِعْلُ الْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ طَاعَةِ اللَّهِ فِي الْحَرَمِ لَيْسَ فِيهِ أَيُّ انْتِهَاكٍ لِحُرْمَةِ

ص: 461

الْحَرَمِ ; لِأَنَّ أَحَقَّ الْبِلَادِ بِأَنْ يُطَاعَ فِيهَا اللَّهُ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ هِيَ حَرَمُهُ، وَطَاعَةُ اللَّهِ فِي حَرَمِهِ لَيْسَ فِيهَا انْتِهَاكٌ لَهُ كَمَا تَرَى.

أَمَّا اسْتِدْلَالُ هَؤُلَاءِ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِلَفْظِ " إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بِخِزْيَةٍ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ; لِأَنَّ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَطْ غَلِطَ غَلَطًا فَاحِشًا ; لِأَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْمَعْرُوفِ بِالْأَشْدَقِ كَمَا هُوَ صَرِيحٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، قَالَ الْبُخَارِيُّ رحمه الله فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أُحَدِّثْكَ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَدِ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، فَسَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي، وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ ": إِنَّ مَكَّةَ حَرَّمَهَا اللَّهُ، وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدَ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ، وَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ "، فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَا قَالُ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا إِلَى آخِرِهِ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الْأَشْدَقِ يُعَارِضُ بِهِ أَبَا شُرَيْحٍ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ كَلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حُجَّةَ الْبَتَّةَ فِي كَلَامِ الْأَشْدَقِ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ مُعَارَضَتِهِ بِهِ لِحَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنْ كَانَ كَلَامُهُ لَا يُطَابِقُ الْجَوَابَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو شُرَيْحٍ رضي الله عنه وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ رحمه الله مِثْلُ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي شُرَيْحٍ إِسْنَادًا وَمَتْنًا.

وَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْقَائِلَ: إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا إِلَى آخِرِهِ، هُوَ الْأَشْدَقُ عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ وَكَذَلِكَ احْتِجَاجُهُمْ بِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ; لِأَنَّ أَمْرَهُ بِقَتْلِهِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فِي نَفْسِ الْوَقْتِ الَّذِي أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ فِيهِ الْحَرَمَ، وَقَدْ صَرَّحَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ حُرْمَتَهَا عَادَتْ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلَهُ صلى الله عليه وسلم فِي وَقْتِ إِحْلَالِ الْحَرَمِ لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَا دَلِيلَ فِيهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ وَقْتِ الْإِحْلَالِ وَرُجُوعِ الْحُرْمَةِ، كَمَا تَرَى.

وَأَمَّا الَّذِينَ مَنَعُوا الْقَتْلَ فِي الْحَرَمِ دُونَ مَا سِوَاهُ مِنَ الْحُدُودِ الَّتِي لَا قَتْلَ فِيهَا وَالْقِصَاصَ

ص: 462

فِي غَيْرِ النَّفْسِ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِأَنَّ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ الَّذِي هُوَ حَدِيثُ أَبِي شُرَيْحٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ فِيهِ ": فَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا " الْحَدِيثَ، قَالُوا: تَصْرِيحُهُ صلى الله عليه وسلم بِالنَّهْيِ عَنْ سَفْكِ الدَّمِ دُونَ غَيْرِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كَغَيْرِهِ، وَلَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ ; لِأَنَّ النَّفْسَ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِمَّا لَا يَسْتَوْجِبُ الْقَتْلَ مِنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ فِي غَيْرِ النَّفْسِ، فَيَبْقَى غَيْرُ الْقَتْلِ دَاخِلًا فِي عُمُومِ النُّصُوصِ الْمُقْتَضِيَةِ لَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ وَزَمَانٍ، وَيَخْرُجُ خُصُوصُ الْقَتْلِ مِنْ تِلْكَ الْعُمُومَاتِ بِهَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ قَوْلَهُ ": دَمًا " نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَهِيَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، فَيَشْمَلُ الْعُمُومُ الْمَذْكُورُ إِرَاقَةَ الدَّمِ فِي قِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.

وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: لَوْ وَجَدْتُ قَاتِلَ عُمَرَ فِي الْحَرَمِ مَا هِجْتُهُ، قَالَ الْمَجْدُ فِي الْمُنْتَقَى: حَكَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ.

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ الْحَرَمَ لَا يُسْتَوْفَى فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْحُدُودِ، وَلَا مِنَ الْقِصَاصِ قَتْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا [3 \ 97]، قَالُوا: وَجُمْلَةُ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا خَبَرٌ أُرِيدَ بِهِ الْإِنْشَاءُ فَهُوَ أَمْرٌ عَامٌّ، يَسْتَوْجِبُ أَمْنَ مَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ، وَعَدَمَ التَّعَرُّضِ لَهُ بِسُوءٍ، وَبِعُمُومِ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَرَمِ.

وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِآثَارٍ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ، كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قَالَ فِي الَّذِي يُصِيبُ حَدًّا، ثُمَّ يَلْجَأُ إِلَى الْحَرَمِ: يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، إِذَا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ، قَالَ الْمَجْدُ فِي " الْمُنْتَقَى ": حَكَاهُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْأَثْرَمِ، وَهَذَا مُلَخَّصُ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ أَجْرَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ عَلَى الْقِيَاسِ قَوْلُ مَنْ قَالَ: يُسْتَوْفَى مِنَ اللَّاجِئِ إِلَى الْحَرَمِ كُلُّ حَقٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ شَرْعًا، قَتْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ; لِأَنَّ إِقَامَةَ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ مِمَّا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، وَفِعْلُ ذَلِكَ طَاعَةٌ، وَتَقَرُّبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ انْتِهَاكٌ لِحُرْمَةِ حَرَمِهِ، وَأَجْرَاهَا عَلَى الْأُصُولِ، وَهُوَ أَوْلَاهَا، هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ، وَذَلِكَ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ: يُضَيَّقُ عَلَى الْجَانِي اللَّاجِئِ إِلَى الْحَرَمِ، فَلَا يُبَاعُ لَهُ، وَلَا يُشْتَرَى مِنْهُ، وَلَا يُجَالَسُ، وَلَا يُكَلَّمُ حَتَّى يُضْطَرَّ إِلَى الْخُرُوجِ، فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ حَقُّ اللَّهِ إِذَا خَرَجَ مِنَ الْحَرَمِ ; لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ جَامِعٌ بَيْنَ النُّصُوصِ، فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ، وَكَوْنِ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الْحَرَمِ، وَفِي هَذَا خُرُوجٌ مِنَ الْخِلَافِ،

ص: 463

وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَحْكَامِ هَذِهِ الْآيَةِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ الْآيَةَ، مَعْنَى: وَيَدْرَأُ: يَدْفَعُ، وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ هُنَا: الْحَدُّ، وَالْمَصْدَرُ الْمُنْسَبِكُ مِنْ أَنْ وَصِلَتِهَا فِي قَوْلِهِ: الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ فَاعِلُ يَدْرَأُ، أَيْ: يَدْفَعُ عَنْهَا الْحَدَّ شَهَادَتُهَا أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ فِي قَوْلِهِ: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ الْحَدُّ مِنْ أَوْجُهٍ:

الْأَوَّلُ: مِنْهَا سِيَاقُ الْآيَةِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي تَدْرَؤُهُ عَنْهَا شَهَادَاتُهَا هُوَ الْحَدُّ.

وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْعَذَابِ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ، عَلَى الْحَدِّ مَعَ دَلَالَةِ السِّيَاقِ فِيهَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَذَابِ فِيهَا الْحَدُّ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [24 \ 2]، فَقَوْلُهُ: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا أَيْ: حَدَّهُمَا بِلَا نِزَاعٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْإِمَاءِ: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [4 \ 25]، أَيْ: نِصْفُ مَا عَلَى الْحَرَائِرِ مِنَ الْجَلْدِ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا رَمَى زَوْجَتَهُ وَشَهِدَ شَهَادَاتِهِ الْخَمْسَ الْمُبَيَّنَةَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِشَهَادَاتِهِ، وَأَنَّ ذَلِكَ الْحَدَّ الْمُتَوَجِّهَ إِلَيْهَا بِشَهَادَاتِ الزَّوْجِ تَدْفَعُهُ عَنْهَا شَهَادَاتُهَا هِيَ الْمُوَضَّحَةُ فِي الْآيَةِ.

وَمَفْهُومُ مُخَالَفَةِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ نَكَلَتْ عَنْ شَهَادَاتِهَا، لَزِمَهَا الْحَدُّ بِسَبَبِ نُكُولِهَا مَعَ شَهَادَاتِ الزَّوْجِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ، فَشَهَادَاتُ الزَّوْجِ الْقَاذِفِ تَدْرَأُ عَنْهُ هُوَ حَدَّ الْقَذْفِ، وَتُوَجِّهُ إِلَيْهَا هِيَ حَدَّ الزِّنَى، وَتَدْفَعُهُ عَنْهَا شَهَادَاتُهَا.

وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ، وَامْتَنَعَ مِنَ اللِّعَانِ أَنَّهُ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ، فَكُلُّ مَنِ امْتَنَعَ مِنَ الزَّوْجَيْنِ مِنَ الشَّهَادَاتِ الْخَمْسِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَاتِ

ص: 464

الْقُرْآنِيَّةِ; لِأَنَّ الزَّوْجَ الْقَاذِفَ دَاخِلٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً [24 \ 4] ; وَلَكِنَّ اللَّهَ بَيَّنَ خُرُوجَ الزَّوْجِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ بِشَهَادَاتِهِ، حَيْثُ قَالَ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [24 \ 6 - 7] ، فَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا مِنْ جَلْدِ ثَمَانِينَ، وَعَدَمِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَالْحُكْمِ بِالْفِسْقِ إِلَّا بِشَهَادَاتِهِ الَّتِي قَامَتْ لَهُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ الْمُبَرِّئَةِ لَهُ مِنَ الْحَدِّ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ شَهَادَاتِهِ فَالظَّاهِرُ وُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ تَدْرَأْ عَنْهُ أَرْبَعَةٌ عُدُولٌ يَشْهَدُونَ بِصِدْقِهِ، وَلَا شَهَادَاتٌ تَنُوبُ عَنِ الشُّهُودِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّهُ يُحَدُّ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ، وَلَمْ يَأْتِ بِمَا يَدْفَعُ عَنْهُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ إِذَا نَكَلَتْ عَنْ أَيْمَانِهَا فَعَلَيْهَا الْحَدُّ ; لِأَنَّ اللَّهَ نَصَّ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَدْرَأُ عَنْهَا الْحَدَّ هُوَ شَهَادَاتُهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ الْآيَةَ، وَمِمَّنْ قَالَ إِنَّ الزَّوْجَ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ إِنْ نَكَلَ عَنِ الشَّهَادَاتِ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ، أَوْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ، فَيُقَامَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ، ومَنْ قَالَ بِأَنَّهَا إِنْ شَهِدَ هُوَ، وَنَكَلَتْ هِيَ أَنَّهَا تُحَدُّ بِشَهَادَاتِهِ وَنُكُولِهَا: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمَكْحُولٌ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ ; كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمْ صَاحِبُ «الْمُغْنِي» .

وَهَذَا الْقَوْلُ أَصْوَبُ عِنْدَنَا ; لِأَنَّهُ ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ الْآيَةَ، وَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَحْمَدُ: لَا حَدَّ عَلَيْهَا بِنُكُولِهَا عَنِ الشَّهَادَاتِ، وَتُحْبَسُ أَيْضًا حَتَّى تُلَاعِنَ أَوْ تُقِرَّ فَيُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ.

قَالَ فِي «الْمُغْنِي» : وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَارِثِ الْعُكْلِيِّ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِحُجَجٍ يَرْجِعُ جَمِيعُهَا إِلَى أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ حَدِّهَا أَنَّ زِنَاهَا لَمْ يَتَحَقَّقْ ثُبُوتُهُ ; لِأَنَّ شَهَادَاتِ الزَّوْجِ وَنُكُولَهَا هِيَ لَا يَتَحَقَّقُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا بِهِمَا مُجْتَمِعِينَ ثُبُوتُ الزِّنَى عَلَيْهَا.

وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَظْهَرُ عِنْدَنَا ; لِأَنَّ مَسْأَلَةَ اللِّعَانِ أَصْلٌ مُسْتَقِلٌّ لَا يَدْخُلُهُ الْقِيَاسُ عَلَى غَيْرِهِ، فَلَا يُعْدَلُ فِيهِ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ إِلَى الْقِيَاسِ عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

ص: 465

مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ اللِّعَانَ لَا يَلْزَمُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، إِلَّا بِقَذْفِ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ قَذْفًا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ لَوْ قَالَهُ لِغَيْرِ زَوْجَةٍ كَرَمْيِهَا بِالزِّنَى، وَنَفْيِ وَلَدِهَا عَنْهُ، وَقَوْلُ الْجُمْهُورِ هُنَا: إِنَّهُ يَكْفِي فِي وُجُوبِ اللِّعَانِ قَذْفُهَا بِالزِّنَى مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ أَنْ يَقُولَ: رَأَيْتُ بِعَيْنِي، أَظْهَرُ عِنْدِي مِمَّا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ اللِّعَانُ، حَتَّى يُصَرِّحَ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ ; لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَى كَافٍ دُونَ التَّصْرِيحِ بِرُؤْيَةِ الْعَيْنِ.

وَقَوْلُ الْمَلَاعِنِ فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم: رَأَتْ عَيْنِي وَسَمِعَتْ أُذُنِي، لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنَّهَا زَنَتْ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكْفِي، دُونَ اشْتِرَاطِ رُؤْيَةِ الْعَيْنِ، وَسَمَاعِ الْأُذُنِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي شَهَادَاتِ اللِّعَانِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ [24 \ 6] إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ، هَلْ هِيَ شَهَادَاتٌ أَوْ أَيْمَانٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهَا شَهَادَاتٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهَا فِي الْآيَةِ شَهَادَاتٍ.

وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَيْمَانٌ.

وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ.

وَالرَّابِعُ: عَكْسُهُ، وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا شَهَادَاتٌ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ اللِّعَانُ، إِلَّا مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ، فَيُشْتَرَطُ فِي الْمُلَاعِنِ وَالْمُلَاعِنَةِ الْعَدَالَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ شُرُوطِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهَا أَيْمَانٌ صَحَّ عِنْدَهُ اللِّعَانُ مِنْ كُلِّ زَوْجَيْنِ، وَلَوْ كَانَا لَا تَصِحُّ شَهَادَتُهُمَا لِفِسْقٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مُسْقِطَاتِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ مَا لَوْ شَهِدَ مَعَ الزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ عُدُولٌ، فَعَلَى أَنَّهَا شَهَادَةٌ يَكُونُ الزَّوْجُ رَابِعَ الشُّهُودِ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا حَدُّ الزِّنَى، وَعَلَى أَنَّهَا أَيْمَانٌ يُحَدُّ الثَّلَاثَةُ وَيُلَاعِنُ الزَّوْجُ، وَقِيلَ: لَا يُحَدُّونَ، وَمِمَّنْ قَالَ: بِأَنَّهَا شَهَادَاتٌ وَأَنَّ اللِّعَّانَ لَا يَصِحُّ إِلَّا مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَأَنَّهَا تُحَدُّ بِشَهَادَةِ الثَّلَاثَةِ مَعَ الزَّوْجِ أَبُو حَنِيفَةَ رحمه الله وَمَنْ تَبِعَهُ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهَا أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي: أَنَّهَا أَيْمَانٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالشَّهَادَةِ، وَأَنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ رُبَّمَا أُطْلِقُ فِي الْقُرْآنِ، مُرَادًا بِهَا الْيَمِينُ، مَعَ دَلَالَةِ الْقَرَائِنِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا أَنَّهَا أَيْمَانٌ لِأُمُورٍ:

الْأَوَّلُ: التَّصْرِيحُ فِي الْآيَةِ بِصِيغَةِ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ

ص: 466

لِأَنَّ لَفْظَةَ بِاللَّهِ يَمِينٌ فَدَلَّ قَوْلُهُ: بِاللَّهِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالشَّهَادَةِ الْيَمِينُ لِلتَّصْرِيحِ بِنَصِّ الْيَمِينِ، فَقَوْلُهُ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ فِي مَعْنَى: أُقْسِمُ بِاللَّهِ.

الثَّانِي: أَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ فِيهِ إِطْلَاقُ الشَّهَادَةِ وَإِرَادَةُ الْيَمِينِ فِي قَوْلِهِ: فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا [5 \ 107]، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ الْيَمِينُ فِي قَوْلِهِ: ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ [5 \ 108]، فَقَوْلُهُ: أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي الْآيَةِ الْيَمِينُ، وَهُوَ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ الْآيَةَ [63 \ 1] ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً [63 \ 2] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِشَهَادَتِهِمُ الْأَيْمَانُ، هَكَذَا قَالَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ عِنْدِي مَا ذَكَرَهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الثَّالِثُ: مَا قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، قَالَ: وَالْفَيْصَلُ أَنَّهَا يَمِينٌ لَا شَهَادَةٌ أَنَّ الزَّوْجَ يَحْلِفُ لِنَفْسِهِ فِي إِثْبَاتِ دَعْوَاهُ وَتَخْلِيصِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَكَيْفَ يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنَّ يَدَّعِيَ فِي الشَّرِيعَةِ أَنَّ شَاهِدًا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ حُكْمًا عَلَى غَيْرِهِ هَذَا بَعِيدٌ فِي الْأَصْلِ، مَعْدُومٌ فِي النَّظَرِ، اهـ مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْقُرْطُبِيِّ.

وَحَاصِلُ اسْتِدْلَالِهِ هَذَا: أَنَّ اسْتِقْرَاءَ الشَّرِيعَةِ اسْتِقْرَاءً تَامًّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا شَهَادَةُ إِنْسَانٍ لِنَفْسِهِ بِمَا يُوجِبُ حُكْمًا عَلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ ; لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الِاسْتِقْرَاءَ التَّامَّ حُجَّةٌ ; كَمَا أَوْضَحْنَاهُ مِرَارًا، وَدَعْوَى الْحَنَفِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ أَنَّ الزَّوْجَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ لَا يُسَوِّغُ شَهَادَتَهُ لِنَفْسِهِ ; لِإِطْلَاقِ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ فِي عَدَمِ قَبُولِ شَهَادَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ مُطْلَقًا.

الرَّابِعُ: مَا جَاءَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ اللِّعَّانِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَمَّا جَاءَتِ الْمُلَاعَنَةُ بِالْوَلَدِ شَبِيهًا بِالَّذِي رُمِيَتْ بِهِ «: لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» ، عِنْدَ أَحْمَدَ وَأَبِي دَاوُدَ، وَقَدْ سَمَّى صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ شَهَادَاتِ اللِّعَانِ أَيْمَانًا، وَفِي إِسْنَادِ الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ، تَكَلَّمَ فِيهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ كَانَ قَدَرِيًّا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَدِلَّتِهِمْ.

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّهَا شَهَادَاتٌ لَا أَيْمَانٌ، فَاحْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ سَمَّاهَا شَهَادَاتٍ فِي قَوْلِهِ:

ص: 467

وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ وَفِي قَوْلِهِ: فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ الْآيَةَ، وَقَوْلِهِ: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ الْآيَةَ، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ «: أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِمُ: الْيَهُودِيَّةُ وَالنَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ» ، اهـ، قَالُوا: إِنَّمَا مُنِعَ لِعَانُ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ وَالْعَبْدِ وَالْأَمَةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ، وَلَوْ كَانَتْ شَهَادَاتُ اللِّعَانِ أَيْمَانًا لَصَحَّ لِعَانُهُمْ ; لِأَنَّهُمْ مِمَّنْ تُقْبَلُ يَمِينُهُ، وَقَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي «نَصْبِ الرَّايَةِ» ، فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: قُلْتُ: أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «: أَرْبَعٌ مِنَ النِّسَاءِ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ: النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْيَهُودِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ، وَالْمَمْلُوكَةُ تَحْتَ الْحُرِّ، وَالْحُرَّةُ تَحْتَ الْمَمْلُوكِ» ، انْتَهَى.

وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ، وَقَالَ: عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَرْفُوعًا «: أَرْبَعَةٌ لَيْسَ بَيْنَهُمْ لِعَانٌ: لَيْسَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْأَمَةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرَّةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْيَهُودِيَّةِ لِعَانٌ، وَلَيْسَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ لِعَانٌ» ، انْتَهَى، وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: وَالْوَقَّاصِيُّ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ، قَالَ: وَعُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ ضَعِيفُ الْحَدِيثِ جِدًّا، وَتَابَعَهُ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَرُوِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ وَهُمَا إِمَامَانِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَوْلُهُ، وَلَمْ يَرْفَعَاهُ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ كَذَلِكَ مَوْقُوفًا، ثُمَّ أَخْرَجَهُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ مَطَرٍ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ «: أَلَّا لِعَانَ بَيْنَ أَرْبَعٍ» فَذَكَرَ نَحْوَهُ، قَالَ: وَعَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ، وَحَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو، وَزَيْدُ بْنُ رُفَيْعٍ ضُعَفَاءُ، انْتَهَى، وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «الْمَعْرِفَةِ» : هَذَا حَدِيثٌ رَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ، وَيَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ الرَّمْلِيُّ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «: أَرْبَعَةٌ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَهُمُ: النَّصْرَانِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ» إِلَى آخِرِهِ، قَالَ: وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ مَعْرُوفٌ بِكَثْرَةِ الْغَلَطِ، وَابْنُهُ عُثْمَانُ وَابْنُ زَرَيْعٍ ضَعِيفَانِ، وَرَوَاهُ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ، وَهُوَ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَرَوَاهُ عَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَعَمَّارُ بْنُ مَطَرٍ، وَحَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو، وَزَيْدُ بْنُ رُفَيْعٍ ضُعَفَاءُ.

ص: 468

وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَهُمَا إِمَامَانِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ مَوْقُوفًا، وَفِي ثُبُوتِهِ مَوْقُوفًا أَيْضًا نَظَرٌ، فَإِنَّ رَاوِيَهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ عَمْرُو بْنُ هَارُونَ، وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَرَوَاهُ يَحْيَى بْنُ أَبِي أُنَيْسَةَ أَيْضًا، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ بِهِ مَوْقُوفًا، وَهُوَ مَتْرُوكٌ، وَنَحْنُ إِنَّمَا نَحْتَجُّ بِرِوَايَاتِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ، إِذَا كَانَ الرَّاوِي عَنْهُ ثِقَةً وَانْضَمَّ إِلَيْهِ مَا يُؤَكِّدُهُ، وَلَمْ نَجِدْ لِهَذَا الْحَدِيثِ طَرِيقًا صَحِيحًا إِلَى عَمْرٍو، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، انْتَهَى كَلَامُهُ، انْتَهَى كَلَامُ صَاحِبِ «نَصْبِ الرَّايَةِ» .

وَقَالَ صَاحِبُ «الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ» : إِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ، وَلَوْ فَرَضْنَا جَوْدَةَ إِسْنَادِهِ كَمَا ذَكَرَهُ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ شَهَادَاتِ اللِّعَانِ شَهَادَاتٌ لَا أَيْمَانٌ ; لِاحْتِمَالِ كَوْنِ عَدَمِ الْمُلَاعَنَةِ مِنْ بَيْنِ مَنْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ.

وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهَا أَيْمَانٌ أُكِّدَتْ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ، لِلْأَدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي اللِّعَانِ، الِاعْتِمَادُ عَلَى إِتْيَانِ الْمَرْأَةِ بِالْوَلَدِ أَسْوَدَ، وَإِنْ كَانَتْ بَيْضَاءَ وَزَوْجُهَا أَبْيَضَ ; لِقِصَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا أَسْوَدَ، وَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَأَنَّهُ يُعَرِّضُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ الْأَسْوَدِ بِاللِّعَانِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «: هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ» ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ «: مَا أَلْوَانُهَا» ؟ قَالَ: حُمْرٌ، قَالَ «: هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ» ؟ قَالَ: إِنَّ فِيهَا لَوُرْقًا، قَالَ «: وَمِنْ أَيْنَ جَاءَتْهَا الْوُرْقَةُ» ؟ قَالَ: لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهَا، قَالَ «: وَهَذَا الْغُلَامُ الْأَسْوَدُ لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَهُ» ، وَالْقِصَّةُ مَشْهُورَةٌ ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا مِرَارًا، وَفِيهَا الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ سَوَادَ الْوَلَدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنَدًا لِلرَّجُلِ فِي اللِّعَانِ، كَمَا تَرَى.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَنْ قَذَفَ امْرَأَةً بِالزِّنَى قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى زِنَاهَا أَنَّهُ يُجْلَدُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ اللِّعَانُ ; لِأَنَّهَا وَقْتَ الْقَذْفِ أَجْنَبِيَّةٌ مُحْصَنَةٌ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً الْآيَةَ [24 \ 4] ، وَالزَّوَاجُ الْوَاقِعُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ الثَّابِتَ قَبْلَهُ، فَمَا يُرْوَى عَنِ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله مِنْ أَنَّهُ إِنْ قَذَفَهَا قَبْلَ الزَّوَاجِ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ أَنَّهُمَا يَلْتَعِنَانِ، خِلَافُ الظَّاهِرِ عِنْدَنَا مِنْ نَصِّ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ الزَّوْجَ إِنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ وَأُمَّهَا بِالزِّنَا، وَلَمْ يَأْتِ

ص: 469

بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ يُحَدُّ لِلْأُمِّ حَدَّ الْقَذْفِ ; لِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَى وَهِيَ مُحْصَنَةٌ غَيْرُ زَوْجَةٍ، فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْآيَةَ، وَأَمَّا الْبِنْتُ فَإِنَّهُ يُلَاعِنُهَا ; لِأَنَّهُ قَذَفَهَا، وَهِيَ زَوْجَةٌ لَهُ، فَتَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ إِلَى آخِرِ آيَاتِ اللِّعَانِ.

وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ: إِنَّهُ إِنْ حُدَّ لِلْأُمِّ سَقَطَ حَدُّ الْبِنْتِ، وَإِنْ لَاعَنَ الْبِنْتَ لَمْ يَسْقُطْ حَدُّ الْأُمِّ، أَنَّهُ خِلَافُ التَّحْقِيقِ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ: وَهَذَا بَاطِلٌ جِدًّا، فَإِنَّهُ خَصَّصَ عُمُومَ الْآيَةِ فِي الْبِنْتِ وَهِيَ زَوْجَةٌ بِحَدِّ الْأُمِّ مِنْ غَيْرِ أَثَرٍ وَلَا أَصْلٍ قَاسَهُ عَلَيْهِ، اهـ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ: أَنَّ مَنْ قَذَفَ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَى، ثُمَّ زَنَتْ قَبْلَ لِعَانِهِ لَهَا أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ ; لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِزِنَاهَا قَبْلَ اللِّعَانِ أَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ، وَلَا لِعَانَ فِي قَذْفِ غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّهُ إِنْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً بِالزِّنَى، ثُمَّ زَنَتْ قَبْلَ أَنْ يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَنَّ الظَّاهِرَ لَنَا سُقُوطُ الْحَدِّ ; لِأَنَّهُ قَدْ تَبَيَّنَ بِزِنَاهَا أَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ، فَلَا يُحَدُّ بِقَذْفِ مَنْ ظَهَرَ أَنَّهَا غَيْرُ مُحْصَنَةٍ، وَذَكَرْنَا الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ.

وَحُجَّةُ مَنْ قَالَ: يُحَدُّ إِنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً وَيُلَاعِنُ إِنْ كَانَتْ زَوْجَةً أَنَّ الْحَدَّ وَاللِّعَانَ قَدْ وَجَبَا وَقْتَ الْقَذْفِ فَلَا يَسْقُطَانِ بِالزِّنَى الطَّارِئِ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ سُقُوطُ الْحَدِّ وَاللِّعَانِ، لِتَبَيُّنِ عَدَمِ الْإِحْصَانِ قَبْلَ الْحَدِّ وَقَبْلَ اللِّعَانِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ رَمَى زَوْجَتَهُ الْكَبِيرَةَ الَّتِي لَا تَحْمِلُ لِكِبَرِ سِنِّهَا أَنَّهُمَا يَلْتَعِنَانِ هُوَ لِدَفْعِ الْحَدِّ، وَهِيَ لِدَرْءِ الْعَذَابِ، وَأَمَّا إِنْ رَمَى زَوْجَتَهُ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَا تَحْمِلُ لِصِغَرِهَا، فَقَدْ قَدَّمْنَا خِلَافَ الْعُلَمَاءِ: هَلْ يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ إِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً تُطِيقُ الْوَطْءَ، وَلَمْ تَبْلُغْ؟ فَعَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَعِنَ لِدَفْعِ الْحَدِّ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ: بِأَنَّهُ لَا حَدَّ فِي قَذْفِ الصَّغِيرَةِ مُطْلَقًا فَلَا لِعَانَ عَلَيْهِ فِي قَذْفِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَظْهَرَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ نَفَى حَمْلَ زَوْجَتِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ، هَلْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا، وَهِيَ حَامِلٌ لِنَفْيِ مَا فِي بَطْنِهَا، أَوْ لَا يَجُوزُ لَهُ اللِّعَانُ حَتَّى تَضَعَ الْوَلَدَ؟ فَذَهَبَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِلَى أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا وَهِيَ حَامِلٌ وَيَنْتَفِي عَنْهُ حَمْلُهَا بِاللِّعَانِ، وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ

ص: 470

فِي «الْفَتْحِ» ، بَعْدَ أَنْ سَاقَ أَحَادِيثَ اللِّعَانِ، وَفِيهِ أَنَّ الْحَامِلَ تُلَاعَنَ قَبْلَ الْوَضْعِ ; لِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «: انْظُرُوا فَإِنْ جَاءَتْ» إِلَخْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ سَهْلٍ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَجَاءَ، يَعْنِي الرَّجُلَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ فَتَلَاعَنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «: لَعَلَّهَا أَنْ تَجِيءَ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا» ، فَجَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا، وَبِهِ قَالَ الْجُمْهُورُ، خِلَافًا لِمَنْ أَبَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الرَّأْيِ مُعْتَلًّا بِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يُعْلَمُ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ نَفْخَةً.

وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ: أَنَّ اللِّعَانَ شُرِعَ لِدَفْعِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنِ الرَّجُلِ، وَدَفْعِ حَدِّ الرَّجْمِ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا أَوْ حَائِلًا، وَلِذَلِكَ شُرِعَ اللِّعَانُ مَعَ الْآيِسَةِ.

وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي الصَّغِيرَةِ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا قَذَفَهَا فَلَهُ أَنْ يَلْتَعِنَ لِدَفْعِ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ دُونَهَا، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْتِعَانَ قَاذِفِ الصَّغِيرَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يُحَدُّ لِقَذْفِهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاخْتِلَافَهُمْ فِي حَدِّ قَاذِفِ الصَّغِيرَةِ الْمُطِيقَةِ لِلْوَطْءِ، وَذَكَرْنَا مَا يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ مِنْ ذَلِكَ.

وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: لَا تُلَاعَنُ الْحَامِلُ حَتَّى تَضَعَ وَلَدَهَا، فَقَدِ اسْتَدَلُّوا بِأَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَتَيَقَّنُ وُجُودُهُ قَبْلَ الْوَضْعِ ; لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ انْتِفَاخًا وَقَدْ يَكُونُ رِيحًا.

وَالثَّانِي: هُوَ مَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي أَحَادِيثِ اللِّعَانِ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ لِعَانَ الْحَامِلِ حَتَّى وَضَعَتْ. فَفِي الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، مَا نَصُّهُ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «: اللَّهُمَّ بَيِّنْ» ، فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ الَّذِي ذَكَرَ زَوْجُهَا أَنَّهُ وَجَدَهُ عِنْدَهَا فَلَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، الْحَدِيثَ. قَالُوا: فَتَرْتِيبُهُ فَلَاعَنَ بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: فَوَضَعَتْ شَبِيهًا بِالرَّجُلِ، إِلَخْ. دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللِّعَانَ كَانَ بَعْدَ الْوَضْعِ كَمَا هُوَ مَدْلُولُ الْفَاءِ، وَأُجِيبَ مِنْ قِبَلِ الْجُمْهُورِ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَةِ بِمَا ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كَلَامِهِ عَلَى الرِّوَايَةِ الْمَذْكُورَةِ: ظَاهِرُهُ أَنَّ الْمُلَاعَنَةَ تَأَخَّرَتْ إِلَى وَضْعِ الْمَرْأَةِ لَكِنْ أَوْضَحَتْ أَنَّ رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ هِيَ فِي الْقِصَّةِ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَتَقَدَّمَ قَبْلُ مِنْ حَدِيثِ سَهْلٍ أَنَّ اللِّعَانَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ أَنْ تَضَعَ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَلَاعَنَ مُعَقِّبَةً لِقَوْلِهِ فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي وَجَدَ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الَّتِي ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّ جُمْلَةَ «فَلَاعَنَ» مَعْطُوفَةٌ عَلَيْهَا مَذْكُورَةٌ

ص: 471

فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرْنَا مَحَلَّ الْغَرَضِ مِنْهُ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ الْحَامِلَ تُلَاعِنُ قَبْلَ الْوَضْعِ لِتَصْرِيحِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِذَلِكَ، وَلِمَا ذَكَرَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي كَلَامِهِ الَّذِي نَقَلْنَاهُ آنِفًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: اعْلَمْ أَنْ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِيمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ، أَنَّهُ إِنْ كَانَ قَذْفُهُ لَهَا بِنَفْيِ حَمْلٍ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ إِلَّا بَعْدَ الطَّلَاقِ، أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا لِنَفْيِ ذَلِكَ الْحَمْلِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَتْ بَائِنًا، وَأَنَّهُ إِنْ قَذَفَهَا بِالزِّنَى بَعْدَ الطَّلَاقِ حُدَّ، وَلَمْ يُلَاعَنْ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ الْقَذْفَ وَاللِّعَانَ إِلَى زَمَنٍ بَعْدَ الطَّلَاقِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَاذِفٌ، وَالْأَظْهَرُ وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا، وَلَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ، وَإِنْ كَانَتِ الرَّجْعِيَّةُ فِي حُكْمِ الزَّوْجَةِ ; لِأَنَّ طَلَاقَهُ إِيَّاهَا قَبْلَ الْقَذْفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُرِيدُ اللِّعَانَ وَيُجْلَدُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ: يُلَاعِنُ الرَّجْعِيَّةَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الزَّوْجَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ الْمَشْهُورُ، وَرِوَايَةُ أَبِي طَالِبٍ عَنْهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ، وَجَابِرٌ، وَزَيْدٌ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالزُّهْرِيُّ، وَالشَّافِعِيُّ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إِلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ غَائِبًا فَتَأْتِيَ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ فِي مَغِيبِهِ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ فَيُطَلِّقَهَا فَتَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ثُمَّ يَقْدَمُ فَيَنْفِيَهُ، فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا هُنَا بَعْدَ الْعِدَّةِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَدِمَ بَعْدَ وَفَاتِهَا وَنَفَى الْوَلَدَ لَاعَنَ لِنَفْسِهِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ بَعْدَ مُدَّةٍ مِنَ الْعِدَّةِ وَيَرِثُهَا ; لِأَنَّهَا مَاتَتْ قَبْلَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا، اهـ مِنْهُ، وَلَا نَصَّ فِيهِ، وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا: إِذَا قَذَفَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ نَظَرَتْ، فَإِنْ كَانَ هُنَاكَ نَسَبٌ يُرِيدُ أَنْ يَنْفِيَهُ، أَوْ حَمْلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَبَرَّأَ مِنْهُ لَاعَنَ، وَإِلَّا لَمْ يُلَاعِنْ، وَقَالَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ: لَا يُلَاعِنُ بِحَالٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُلَاعِنُ فِي الْوَجْهَيْنِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، وَهَذَا يَنْتَقِضُ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ قَبْلَ الزَّوْجِيَّةِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا بَلْ هَذَا أَوْلَى ; لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ تَقَدَّمَ، وَهُوَ يُرِيدُ الِانْتِفَاءَ مِنَ النَّسَبِ، وَتَبْرِئَتَهُ مِنْ وَلَدٍ يَلْحَقُ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنَ اللِّعَانِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَمْلٌ يُرْجَى، وَلَا نَسَبٌ يُخَافُ تَعَلُّقُهُ لَمْ يَكُنْ لِلِّعَانِ فَائِدَةٌ فَلَمْ يُحْكَمْ بِهِ، وَكَانَ قَذْفًا مُطْلَقًا دَاخِلًا تَحْتَ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْآيَةَ، فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَبَطَلَ مَا قَالَهُ الْبَتِّيُّ لِظُهُورِ فَسَادِهِ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِلَعَانِ الرَّجْعِيَّةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ; لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ

ص: 472

الزَّوْجَةِ، وَذَكَرْنَا مَا يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ، وَأَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ، وَفَائِدَةُ لَعَانِهِ أَنْ يَدْفَعَ عَنْهُ حَدَّ الْقَذْفِ، وَكَوْنُ الرَّجْعِيَّةِ كَالزَّوْجَةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَتَوَارَثَانِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تُزَوُّجُ أُخْتِهَا، قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَلَا تَزْوِيجُ رَابِعَةٍ غَيْرِهَا ; لِأَنَّهَا تَكُونُ كَالْخَامِسَةِ نَظَرًا إِلَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ كَالزَّوْجَةِ، يَقْتَضِي أَنْ يَقُولَ بِلِعَانِ الرَّجْعِيَّةِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ كَثْرَةَ مَنْ قَالَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ بِعَدَمِهِ أَنَّهُ لَمَّا طَلَّقَهَا عَالِمًا بِزِنَاهَا فِي زَعْمِهِ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ تَارِكٌ لِلِّعَانِ، وَيَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ الْمَذْكُورِ، مَا لَوِ ادَّعَى أَنَّهَا زَنَتْ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ، وَقَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، هَلْ يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَاذِفٌ ; لِأَنَّهُ رَمَاهَا بِزِنًى وَاقِعٍ بَعْدَ الْفِرَاقِ أَوْ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَهَا لِنَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرَّجْعِيَّةَ فِي حُكْمِ الزَّوْجَةِ.

أَمَّا إِنْ قَذَفَهَا قَبْلَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ الْقَذْفِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَهُ لِعَانَهَا مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا ; لِأَنَّ الْقَذْفَ وَقَعَ وَهِيَ زَوْجَةٌ غَيْرُ مُطَلَّقَةٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمَكْحُولٌ، وَمَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ الْحَارِثُ الْعُكْلِيُّ، وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ، وَقَتَادَةُ وَالْحَكَمُ: يُجْلَدُ، وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ ; لِأَنَّ اللِّعَانَ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَيْسَ هَذَانَ بِزَوْجَيْنِ، وَلَا يُحَدُّ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَقْذِفْ أَجْنَبِيَّةً.

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِيمَنْ ظَهَرَ بِامْرَأَتِهِ حَمْلٌ، وَهُوَ قَائِلٌ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ إِذَا سَكَتَ عَنْ نَفْيِ ذَلِكَ الْحَمْلِ حَتَّى وَضَعَتْهُ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُ إِنَّمَا سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ مُدَّةَ الْحَمْلِ رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ رِيحًا أَوِ انْتِفَاخًا فَيَنْفَشُّ أَوْ يَسْقُطَ مَيِّتًا، فَيَسْتَرِيحَ بِذَلِكَ مِنَ اللِّعَانِ أَنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ نَفْيِهِ بِلِعَانٍ بَعْدَ الْوَضْعِ ; لِأَنَّ الْعُذْرَ الَّذِي أَبْدَى وَجِيهٌ جَدِيرٌ بِالْقَبُولِ، فَإِنْ بَادَرَ بِنَفْيهِ فَوْرًا عِنْدَ وَضْعِهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بِلِعَانٍ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ بَعْدَ الْوَضْعِ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ السُّكُوتِ، فَهَلْ لَهُ ذَلِكَ أَوْ لَيْسَ لَهُ؟ لِأَنَّ سُكُوتَهُ بَعْدَ الْوَضْعِ يُعَدُّ رِضًى مِنْهُ بِالْوَلَدِ، فَلَا يُمَكَّنُ مِنَ اللِّعَانِ بَعْدَهُ.

لَمْ أَعْلَمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَصًّا مِنْ كِتَابٍ، وَلَا سُنَّةٍ، وَالْعُلَمَاءُ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَدِ اخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ وَنَحْنُ نَقُولُ: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ فِي سُكُوتِهِ حَتَّى مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَهُوَ رَاضٍ بِهِ وَلَيْسَ لَهُ نَفْيُهُ، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَيْضًا: مَتَى أَمْكَنَهُ نَفْيُهُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ تَمَكُّنِهِ مِنَ الْحَاكِمِ، فَلَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَعْتَبِرُ مُدَّةً، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ، وَمُحَمَّدٌ: يُعْتَبَرُ فِيهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا مُدَّةَ النِّفَاسِ، قَالَ

ص: 473

ابْنُ الْقَصَّارِ: وَالدَّلِيلُ لِقَوْلِنَا هُوَ أَنَّ نَفْيَ وَلَدِهِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ وَاسْتِلْحَاقُ وَلَدٍ لَيْسَ مِنْهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُوَسَّعَ عَلَيْهِ لِكَيْ يَنْظُرَ فِيهِ، وَيُفَكِّرَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ نَفْيُهُ أَوْ لَا؟ وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْحَدَّ ثَلَاثَةً ; لِأَنَّهُ أَوَّلُ حَدِّ الْكَثْرَةِ، وَآخِرُ حَدِّ الْقِلَّةِ، وَقَدْ جُعِلَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يُخْتَبَرُ فِيهَا حَالُ الْمُصَرَّاةِ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُنَا.

وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فَلَيْسَ اعْتِبَارُهُمَا بِأَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِ مُدَّةِ الْوِلَادَةِ وَالرِّضَاعِ، إِذْ لَا شَاهِدَ لَهُمَا فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا نَحْنُ شَاهِدًا فِي الشَّرِيعَةِ مِنْ مُدَّةِ الْمُصَرَّاةِ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَلَا يَخْفَى ضَعْفُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ الْقَصَّارِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ لِلتَّحْدِيدِ بِثَلَاثَةٍ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي قَاعِدَةٍ أُصُولِيَّةٍ، وَهِيَ: هَلْ يُنَزَّلُ السُّكُوتُ مَنْزِلَةَ الْإِقْرَارِ أَوْ لَا؟ وَقَدْ أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» ، بِقَوْلِهِ:

وَجَعْلُ مَنْ سَكَتَ مِثْلَ مَنْ أَقَرْ

فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَهُمْ قَدِ اشْتُهِرَ

فَالِاحْتِجَاجُ بِالسُّكُوتِيِّ نَمَى

تَفْرِيعُهُ عَلَيْهِ مَنْ تَقَدَّمَا

وَهُوَ بِفَقْدِ السُّخْطِ وَالضِّدِّ حَرِي

مَعَ مُضِيِّ مُهْلَةٍ لِلنَّظَرِ

فَمَنْ قَالَ: إِنَّ السُّكُوتَ لَا يُعَدُّ رِضًى، قَالَ: لِأَنَّ السَّاكِتَ قَدْ يَسْكُتُ عَنِ الْإِنْكَارِ مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُعَدُّ رِضًى، قَالَ: لِأَنَّ سُكُوتَهُ قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى رِضَاهُ وَاسْتَأْنَسُوا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبِكْرِ «: إِذْنُهَا صِمَاتُهَا» ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: تَخْصِيصُ الْبِكْرِ بِذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَهَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْخِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَعْرُوفٌ فِي فُرُوعِ الْأَئِمَّةِ وَأُصُولِهِمْ، وَمَنْ تَتَبَّعَ فُرُوعَهُمْ وَجَدَهُمْ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ يَجْعَلُونَ السُّكُوتَ كَالرِّضَى، كَالسُّكُوتِ عَنِ اللِّعَانِ زَمَنًا بَعْدَ الْعِلْمِ بِمُوجِبِهِ، وَكَالسُّكُوتِ عَنِ الْقِيَامِ بِالشُّفْعَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَيَكْثُرُ فِي فُرُوعِ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَعْلُ السُّكُوتِ كَالرِّضَى.

وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَاصِمٍ فِي رَجَزِهِ فِي أَحْكَامِ الْقَضَاءِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ:

وَحَاضِرٌ لِوَاهِبٍ مِنْ مَالِهِ

وَلَمْ يُغَيِّرْ مَا رَأَى مِنْ حَالِهِ

الْحُكْمُ مَنْعُهُ الْقِيَامَ بِانْقِضَا

مَجْلِسِهِ إِذْ صَمْتُهُ عَيْنُ الرِّضَى

وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقَوْلَيْنِ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ.

وَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا فِي مَسْأَلَةِ السُّكُوتِ عَنِ اللِّعَانِ أَنَّهُ إِنْ سَكَتَ زَمَنًا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ فِيهِ

ص: 474

عَادَةً أَنَّهُ لَا يَسْكُتُ فِيهِ إِلَّا رَاضٍ عُدَّ رِضًى، وَإِلَّا فَلَا ; لِأَنَّ الْعُرْفَ مُحَكَّمٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا، وَقَذَفَهَا زَوْجُهَا بِالزِّنَى إِنْ كَانَ لِنَفْيِ نَسَبٍ يَلْحَقُ بِهِ فِي ذَلِكَ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّهُ يُلَاعَنُ لِنَفْيِ النَّسَبِ عَنْهُ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ يُلْحَقُ فِيهِ الْوَلَدُ وَلَكِنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَى، وَأَرَادَ اللِّعَانَ لِنَفْيِ الْحَدِّ عَنْهُ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ ; لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ يُلْحَقُ بِهِ وَلَدُهَا صَارَتْ فِي حُكْمِ الْفِرَاشِ، قَالَهُ مَالِكٌ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» .

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُلَاعِنُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ زَوْجَتَهُ، لِأَنَّهَا صَارَتْ فِرَاشًا وَيَلْحَقُ النَّسَبُ فِيهِ مَجْرَى اللِّعَانِ فِيهِ، اهـ مِنْهُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ إِنْ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى فَسَادِهِ وَلَا يُلْحَقُ الْوَلَدُ فِيهِ أَنَّ الزَّوْجَ الْقَاذِفَ فِيهِ لَا يُمَكَّنُ مِنَ اللِّعَانِ، بَلْ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ أَقْوَالِ أَهْلِ الْعِلْمِ عِنْدِي فِي الَّذِي يَقْذِفُ زَوْجَتَهُ الْحَامِلَ بِالزِّنَى، ثُمَّ يَأْتِي بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ عَلَى زِنَاهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ الْحَمْلِ مَعَ الشُّهُودِ ; لِأَنَّ شَهَادَةَ الْبَيِّنَةِ لَا تُفِيدُ الزَّوْجَ إِلَّا دَرْأَ الْحَدِّ عَنْهُ، أَمَّا رَفْعُ الْفِرَاشِ وَنَفْيُ الْوَلَدِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ اللِّعَانِ.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رحمه الله: اخْتَلَفُوا أَيْضًا هَلْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُلَاعِنَ مَعَ شُهُودِهِ؟ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: يُلَاعِنُ كَانَ لَهُ شُهُودٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ; لِأَنَّ الشُّهُودَ لَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ فِي غَيْرِ دَرْءِ الْحَدِّ، وَأَمَّا رَفْعُ الْفِرَاشِ وَنَفْيُ الْوَلَدِ، فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنَ اللِّعَانِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ: إِنَّمَا جُعِلَ اللِّعَانُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شُهُودٌ غَيْرَ نَفْسِهِ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ اهـ مِنْهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِهِ: يَفْتَقِرُ اللِّعَانُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: عَدَدُ الْأَلْفَاظِ، وَهُوَ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَالْمَكَانُ: وَهُوَ أَنْ يُقْصَدَ بِهِ أَشْرَفُ الْبِقَاعِ بِالْبُلْدَانِ، إِنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَبَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ، وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَعِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَإِنْ كَانَتْ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ فَعِنْدَ الصَّخْرَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ فَفِي مَسَاجِدِهَا، وَإِنْ كَانَا كَافِرَيْنِ بُعِثَ بِهِمَا إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَعْتَقِدَانِ تَعْظِيمَهُ، إِنْ كَانَا يَهُودِيَّيْنِ فَالْكَنِيسَةُ، وَإِنْ كَانَا مَجُوسِيَّيْنِ فَفِي

ص: 475

بَيْتِ النَّارِ، وَإِنْ كَانَا لَا دِينَ لَهُمَا مِثْلَ الْوَثَنِيِّينَ، فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسِ حُكْمِهِ، وَالْوَقْتُ: وَذَلِكَ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَجَمْعُ النَّاسِ: وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ فَصَاعِدًا، فَاللَّفْظُ وَجَمْعُ النَّاسِ مَشْرُوطَانِ، وَالزَّمَانُ وَالْمَكَانُ مُسْتَحَبَّانِ، اهـ مِنْهُ، مَعَ أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْقُرْطُبِيِّ أَنَّهُ لَا مُلَاعَنَةَ بَيْنَ كَافِرِينَ وَبَعْضُ مَا ذَكَرَهُ لَا يَخْلُو مِنْ خِلَافٍ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَجُوزُ لَهُ نَفْيُ الْوَلَدِ بِلِعَانٍ، إِلَّا بِمُوجِبٍ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ كَأَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ زَنَتْ، قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا الزَّوْجُ أَصْلًا، أَوْ زَنَتْ بَعْدَ أَنْ وَضَعَتْ، وَلَمْ يَمَسَّهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الْوَضْعِ حَتَّى زَنَتْ، أَوْ زَنَتْ فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ ; لِأَنَّ الْحَيْضَةَ قَبْلَ الزِّنَى تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحَمْلَ مِنَ الزِّنَى الْوَاقِعِ بَعْدَ الْحَيْضِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاعْتِمَادُ فِي نَفْيِ الْحَمْلِ بِاللِّعَانِ عَلَى شَبَهِ الْوَلَدِ بِغَيْرِهِ وَلَا بِسَوَادِ الْوَلَدِ ; كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَا بِعَزْلٍ لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ يَسْبِقُ نَزْعَهُ فَتَحْبَلُ مِنْهُ، وَلَا بِوَطْءٍ فِي فَخِذَيْنِ ; لِأَنَّ الْمَاءَ يَسِيلُ إِلَى الْفَرَجِ فَتَحْمِلُ مِنْهُ، كَمَا قَدَّمْنَا.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ وَلَدَيْنِ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُمَا تَوْأَمَانِ، فَلَا يَجُوزُ نَفْيُ أَحَدِهِمَا، دُونَ الْآخَرِ، فَإِنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِأَحَدِهِمَا لَزِمَهُ قَبُولُ الْآخَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا مَعَ اعْتِرَافِهِ بِالثَّانِي حُدَّ لِقَذْفِهِ ; كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ.

وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [13 \ 8] ، أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَذَكَرْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ وَلَدَيْنِ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَهُمَا تَوْأَمَانِ.

وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ تَوْأَمَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا دُونَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَاسْتَحْلَقَ أَحَدَهُمَا، وَنَفَى الْآخَرَ لَحِقَا بِهِ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ الْوَاحِدَ، لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُ مِنْهُ، وَبَعْضُهُ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ نَسَبُ أَحَدِهِمَا مِنْهُ ثَبَتَ نَسَبُ الْآخَرِ ضَرُورَةً، فَجَعَلْنَا مَا نَفَاهُ تَابِعًا لِمَا اسْتَلْحَقَهُ، وَلَمْ نَجْعَلْ مَا أَقَرَّ بِهِ تَابِعًا لِمَا نَفَاهُ ; لِأَنَّ النَّسَبَ يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِهِ لَا لِنَفْيِهِ، وَلِهَذَا لَوْ أَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِهِ أَلْحَقْنَاهُ بِهِ احْتِيَاطًا، وَلَمْ نَقْطَعْهُ عَنْهُ احْتِيَاطًا لِنَفْيِهِ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَإِنِ اسْتَلْحَقَ أَحَدَ التَّوْأَمَيْنِ، وَسَكَتَ عَنِ الْآخَرِ لَحِقَهُ ; لِأَنَّهُ لَوْ نَفَاهُ لَلَحِقَهُ، فَإِذَا سَكَتَ عَنْهُ كَانَ أَوْلَى، وَلِأَنَّ امْرَأَتَهُ مَتَى

ص: 476

أَتَتْ بِوَلَدٍ لَحِقَهُ مَا لَمْ يَنْفِهِ عَنْهُ بِلِعَانٍ، وَإِنْ نَفَى أَحَدَهُمَا وَسَكَتَ عَنِ الْآخَرِ، لَحِقَاهُ جَمِيعًا.

فَإِنْ قِيلَ: أَلَا نَفَيْتُمُ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ ; لِأَنَّهُ قَدْ نَفَى أَخَاهُ، وَهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ.

قُلْنَا: لُحُوقُ النَّسَبِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّغْلِيبِ، وَهُوَ يَثْبُتُ لِمُجَرَّدِ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَثْبُتِ الْوَطْءُ وَلَا يَنْتَفِي الْإِمْكَانُ لِلنَّفْيِ فَافْتَرَقَا، فَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ وَلَاعَنَ لِنَفْيِهِ، ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَنْتَفِ الثَّانِي بِاللِّعَانِ الْأَوَّلِ ; لِأَنَّ اللِّعَانَ تَنَاوَلَ الْأَوَّلَ وَحْدَهُ، وَيُحْتَاجُ فِي نَفْيِ الثَّانِي إِلَى لِعَانٍ ثَانٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَنْتَفِيَ بِنَفْيِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إِلَى لِعَانٍ ثَانٍ ; لِأَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ وَقَدْ لَاعَنْ لِنَفْيِهِ مَرَّةً، فَلَا يُحْتَاجُ إِلَى لِعَانٍ ثَانٍ، ذَكَرَهُ الْقَاضِي، اهـ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْأَظْهَرُ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ الْوَاحِدَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى لِعَانَيْنِ، ثُمَّ قَالَ فِي «الْمُغْنِي» مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ الْأَوَّلِ: فَإِنْ أَقَرَّ بِالثَّانِي لَحِقَهُ هُوَ وَالْأَوَّلُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ سَكَتَ عَنْ نَفْيِهِ لَحِقَاهُ أَيْضًا، فَأَمَّا إِنْ نَفَى الْوَلَدَ بِاللِّعَانِ ثُمَّ أَتَتْ بِوَلَدٍ آخَرَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَذَا مِنْ حَمْلٍ آخَرَ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ وَلَدَيْنِ مِنْ حَمْلٍ وَاحِدٍ مُدَّةُ الْحَمْلِ، وَلَوْ أَمْكَنَ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ مُدَّةَ حَمْلٍ كَامِلٍ، فَإِنْ نَفَى هَذَا الْوَلَدَ بِاللِّعَانِ انْتَفَى، وَلَا يَنْتَفِي بِغَيْرِ اللِّعَانِ ; لِأَنَّهُ حَمْلٌ مُنْفَرِدٌ، وَإِنِ اسْتَلْحَقَهُ أَوْ تَرَكَ نَفْيَهُ لَحِقَهُ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَانَتْ بِاللِّعَانِ ; لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا بَعْدَ وَضْعِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَاعَنَهَا قَبْلَ وَضْعِ الْأَوَّلِ، فَأَتَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْحَقْهُ الثَّانِي ; لِأَنَّهَا بَانَتْ بِاللِّعَانِ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْأَوَّلِ، وَكَانَ حَمْلُهَا الثَّانِي بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي غَيْرِ نِكَاحٍ فَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى نَفْيِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي «الْمُغْنِي» أَيْضًا: وَإِنْ مَاتَ أَحَدُ التَّوْأَمَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ نَسَبِهِمَا، وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ نَسَبُ الْحَيِّ، وَلَا يُلَاعِنُ إِلَّا لِنَفْيِ الْحَدِّ ; لِأَنَّ الْمَيِّتَ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، فَإِنَّ نَسَبَهُ قَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ، كَمَا لَوْ مَاتَتِ امْرَأَتُهُ فَإِنَّهُ لَا يُلَاعِنُهَا بَعْدَ مَوْتِهَا لِكَوْنِ النِّكَاحِ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِذَا لَمْ يَنْتَفِ الْمَيِّتُ لَمْ يَنْتَفِ الْحَيُّ ; لِأَنَّهُمَا حَمْلٌ وَاحِدٌ وَلَنَا أَنَّ الْمَيِّتَ يُنْسَبُ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ ابْنُ فُلَانٍ وَيَلْزَمُهُ تَجْهِيزُهُ وَتَكْفِينُهُ، فَكَانَ لَهُ نَفْيُ نَسَبِهِ وَإِسْقَاطُ مُؤْنَتِهِ كَالْحَيِّ، وَكَمَا لَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ، اهـ كَلَامُ صَاحِبِ «الْمُغْنِي» .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ لِلْوَلَدِ الْمَيِّتِ الَّذِي يُرَادُ نَفْيُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَدٌ كَانَ حُكْمُهُ فِي اللِّعَانِ كَحُكْمِ الْحَيِّ ; لِأَنَّ وَلَدَهُ الْحَيَّ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِنَفْيِ أَبِيهِ، فَلَهُ اللِّعَانُ لِنَفْيِ نَسَبِ الْمَيِّتِ لِيَنْتَفِيَ عَنْهُ وَلَدُهُ، وَهَذَا إِنْ قُلْنَا إِنَّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ بَعْدَ هَذِهِ

ص: 477

الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفِ الْوَلَدَ الْمَيِّتَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ عَاشَ عُمْرًا يُولَدُ لَهُ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعْذُورًا بِالْغَيْبَةِ زَمَنًا طَوِيلًا، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ السُّكُوتَ لَا يُسْقِطُ اللِّعَانَ مُطْلَقًا كَمَا تَقَدَّمَ، وَكَذَلِكَ إِنْ أُرِيدَ إِلْزَامُهُ بِتَكْفِينِ الْوَلَدِ الْمَيِّتِ وَتَجْهِيزِهِ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ عَنْهُ بِلِعَانٍ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ مَئُونَةِ تَجْهِيزِهِ وَتَكْفِينِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنْ نَفَى وَلَدًا بَعْدَ مَوْتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ حَيَّةً فَلَا بُدَّ مِنَ اللِّعَانِ ; لِأَنَّهُ قَاذِفُ أُمِّهِ، وَإِنْ كَانَتِ الْأُمُّ مَيِّتَةً جَرَى عَلَى الْخِلَافِ فِي حَدِّ مَنْ قَذَفَ مَيِّتَةً، فَعَلَى الْقَوْلِ بِالْحَدِّ فَلَهُ اللِّعَانُ، وَعَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِهِ فَلَا لِعَانَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ، وَيُعْتَضَدُ مَا ذَكَرْنَا بِمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا مِنْ أَنَّ لَهُ اللِّعَانَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ ; لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ بِهِ مُوجِبَانِ لِلَعَّانِ، وَهُمَا إِسْقَاطُ الْحَدِّ وَنَفْيُ الْوَلَدِ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْأَظْهَرَ عَدَمُ النَّظَرِ إِلَى الْوَلَدِ الْمَيِّتِ هَلْ تَرَكَ مَالًا أَوْ لَا؟ وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

تَنْبِيهٌ.

اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِي تَوْأَمَيِ الْمُلَاعَنَةِ الْمَنْفِيَّيْنِ بِاللِّعَانِ، هَلْ يَتَوَارَثَانِ تَوَارُثَ الشَّقِيقَيْنِ أَوِ الْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ؟ وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: هُمَا شَقِيقَانِ، وَقَالَ خَلِيلٌ فِي «التَّوْضِيحِ» ، وَهُوَ شَرْحُهُ لِمُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ فِي الْفِقْهِ الْمَالِكِيِّ: إِنَّ كَوْنَهُمَا شَقِيقَيْنِ هُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: يَتَوَارَثَانِ تَوَارُثَ الْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ، كَالْمَشْهُورِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ فِي تَوْأَمَيِ الزَّانِيَةِ وَالْمُغْتَصَبَةِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّ تَوْأَمَيِ الْمُلَاعَنَةِ يَتَوَارَثَانِ تَوَارُثَ الْأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ، وَأَنَّهُمَا لَا يُحْكَمُ لَهُمَا بِحُكْمِ الشَّقِيقَيْنِ ; لِأَنَّهُمَا لَا يُلْحَقَانِ بِأَبٍّ مَعْرُوفٍ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا أَبٌّ مَعْرُوفٌ فَلَا وَجْهَ لِكَوْنِهِمَا شَقِيقَيْنِ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا إِنَّمَا يُنْسَبَانِ لِأُمِّهِمَا، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَشْهُورَ مَذْهَبِ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خِلَافُ الْأَظْهَرِ. وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ نَافِعٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ: إِنَّ تَوْأَمَيِ الزَّانِيَةِ شَقِيقَانِ، فَهُوَ خِلَافُ التَّحْقِيقِ ; لِأَنَّ الزَّانِيَ لَا يُلْحَقُ بِهِ نَسَبٌ حَتَّى يَكُونَ أَبًا لِابْنِهِ مِنَ الزِّنَى، وَالرِّوَايَةُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ بِنَحْوِ قَوْلِ ابْنِ نَافِعٍ ظَاهِرُهَا السُّقُوطُ، كَمَا تَرَى. وَأَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ» مِنْ أَنَّ تَوْأَمَيِ الْمَسْبِيَّةِ، وَالْمُسْتَأْمَنَةِ شَقِيقَانِ، فَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَذَفَهَا بَعْدَ النِّكَاحِ قَائِلًا: إِنَّهَا زَنَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا هَلْ لَهُ لِعَانُهَا نَظَرًا إِلَى أَنَّ الْقَذْفَ وَقَعَ وَهِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ

ص: 478

يُحَدُّ لِقَذْفِهَا وَلَا يُمَكَّنُ مِنَ اللِّعَانِ نَظَرًا إِلَى أَنَّهَا وَقْتَ الزِّنَى الَّذِي قَذَفَهَا بِهِ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ، وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَإِنْ قَذَفَهَا بَعْدَ تَزَوُّجِهَا بِزِنًى أَضَافَهُ إِلَى مَا قَبْلَ النِّكَاحِ حُدَّ وَلَمْ يُلَاعَنْ، سَوَاءٌ كَانَ ثَمَّ وَلَدٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي ثَوْرٍ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيِّ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ ; لِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ الْآيَةَ، وَلِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهَا وَلَمْ يُضِفْهُ إِلَى مَا قَبْلَ النِّكَاحِ، وَحَكَى الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَةً أُخْرَى كَذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّ وَلَدٌ لَمْ يُلَاعِنْ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَفِيهِ وَجْهَانِ، وَلَنَا أَنَّهُ قَذَفَهَا قَذْفًا مُضَافًا إِلَى حَالِ الْبَيْنُونَةِ فَأَشْبَهَ مَا لَوْ قَذَفَهَا وَهِيَ بَائِنٌ وَفَارَقَ قَذْفَ الزَّوْجَةِ ; لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، لِأَنَّهَا غَاظَتْهُ وَخَانَتْهُ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَى نَفْيِهِ، وَهَاهُنَا إِذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ زِنَاهَا فَهُوَ الْمُفَرِّطُ فِي نِكَاحِ حَامِلٍ مِنَ الزِّنَى، فَلَا يُشْرَعُ لَهُ طَرِيقٌ إِلَى نَفْيِهِ، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي» .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ، فَلَا يُمَكَّنِ الزَّوْجُ مِنَ اللِّعَانِ، وَيُحَدُّ لِقَذْفِهَا إِنْ لَمْ يَأْتِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ; لِأَنَّهُ قَذَفَهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ، فَيَدْخُلُ فِي عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ الْآيَةَ، لِأَنَّهُ قَاذِفُ مُحْصَنَةٍ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، وَالنِّكَاحُ الطَّارِئُ لَا يُغَيِّرُ الْحُكْمَ الَّذِي تَقَرَّرَ قَبْلَهُ كَمَا تَرَى، وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ وَلَدٌ يَلْحَقُ بِهِ لَوْ سَكَتَ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ اسْتِنَادًا إِلَى بَعْضِ الْأُمُورِ الْمُسَوِّغَةِ لِنَفْيِ الْوَلَدِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُلَاعِنَ لِنَفْيِ الْوَلَدِ.

وَالْحَاصِلُ: أَنَّهُ لَهُ اللِّعَانُ لِنَفْيِ الْوَلَدِ لَا لِدَفْعِ الْحَدِّ فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: فِيمَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةُ، فَقِيلَ: يُلَاعِنُ، وَقِيلَ: لَا يُلَاعِنُ ; لِأَنَّ الْقَذْفَ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِالثَّلَاثِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْبَيْنُونَةِ بِهَا، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَأَصْحَابُهُمْ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : نَقَلَ مُهَنَّأٌ قَالَ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ يَا زَانِيَةُ ثَلَاثًا، فَقَالَ: يُلَاعِنُ، قُلْتُ: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ يُحَدُّ، وَلَا يَلْزَمُهَا إِلَّا وَاحِدَةٌ، قَالَ: بِئْسَ مَا يَقُولُونَ فَهَذَا يُلَاعِنُ ; لِأَنَّهُ قَذَفَهَا قَبْلَ الْحُكْمِ بِبَيْنُونَتِهَا، فَأَشْبَهَ قَذْفَ الرَّجْعِيَّةِ، اهـ مِنْهُ

ص: 479

وَلَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: فِيمَا لَوْ جَاءَتْ زَوْجَتُهُ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ فَصَدَّقَتْهُ الزَّوْجَةُ فِي أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ غَيْرِهِ، فَعَلَى الزَّوْجَةِ حَدُّ الزِّنَى.

وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ هَلْ يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ بِتَصَادُقِهِمَا بِدُونِ لِعَانٍ، أَوْ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِلِعَانٍ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ، وَأَكْثَرُ الرُّوَاةِ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِلِعَانٍ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَنْتَفِي عَنِ الزَّوْجِ إِلَّا بِلِعَانِهِ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ لُحُوقِ نَسَبِهِ بِتَصْدِيقِ أُمِّهِ لِلزَّوْجِ ; لِأَنَّ لِلْوَلَدِ حَقًّا فِي لُحُوقِ نَسَبِهِ فَلَا يَسْقُطُ إِلَّا بِلِعَانِ الزَّوْجِ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَا يَصِحُّ مِنْهَا اللِّعَانُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ; لِأَنَّهَا مُقِرَّةٌ بِصِدْقِ الزَّوْجِ فِي دَعْوَاهُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ عِنْدَنَا فِيمَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَطَالَبَتْ بِحَدِّهِ لِقَذْفِهَا فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى إِقْرَارِهَا بِالزِّنَى الَّذِي قَذَفَهَا بِهِ أَنَّ حُكْمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَى، هَلْ يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ كَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَقَارِيرِ أَوْ لَا يَثْبُتُ إِلَّا بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ، فَمَنْ قَالَ: يَثْبُتُ بِشَاهِدَيْنِ يَلْزَمُ قَوْلَهُ: أَنَّ الرَّجُلَ لَا يُحَدُّ لِقَذْفِهَا ; لِأَنَّ إِقْرَارَهَا بِالزِّنَى ثَبَتَ بِالشَّاهِدَيْنِ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يُحَدُّ ; لِأَنَّ إِقْرَارَهَا لَمْ يَثْبُتْ، هَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَنَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُمَا إِنْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَقَذَفَهُمَا أَعْنِي الشَّاهِدَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا بِقَذْفِ الْمَرْأَةِ ; لِأَنَّهُمَا لَمَّا ادَّعَيَا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا صَارَا لَهُ عَدُوَّيْنِ ; لِأَنَّ الْقَذْفَ يَسْتَوْجِبُ الْعَدَاوَةَ. قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَذَفَ فُلَانَةَ، وَقَذَفَنَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا لِاعْتِرَافِهِمَا بِعَدَاوَتِهِ لَهُمَا، وَشَهَادَةُ الْعَدُوِّ لَا تُقْبَلُ عَلَى عَدُوِّهِ، فَإِنْ أَبْرَآهُ وَزَالَتِ الْعَدَاوَةُ ثُمَّ شَهِدَا عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْقَذْفِ لَمْ تُقْبَلْ لِأَنَّهَا رُدَّتْ لِلتُّهْمَةِ، فَلَمْ تُقْبَلْ بَعْدُ كَالْفَاسِقِ إِذَا شَهِدَ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِفِسْقِهِ، ثُمَّ تَابَ وَأَعَادَهَا، وَلَوْ أَنَّهُمَا ادَّعَيَا عَلَيْهِ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا، ثُمَّ أَبْرَآهُ وَزَالَتِ الْعَدَاوَةُ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَيْهِ بِقَذْفِ زَوْجَتِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ; لِأَنَّهُمَا لَمْ يُرَدَّا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ، ثُمَّ ادَّعَيَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ قَذَفَهُمَا فَإِنْ أَضَافَا دَعَوَاهُمَا إِلَى مَا قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا، بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِاعْتِرَافِهِمَا أَنَّهُ كَانَ عَدُوًّا لَهُمَا حِينَ شَهِدَا عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُضِيفَاهَا إِلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِمَا لَمْ يُحْكَمْ بِهَا ; لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ عَدُوَّيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الْحُكْمِ لَمْ يَبْطُلْ ; لِأَنَّ الْحُكْمَ تَمَّ قَبْلَ

ص: 480

وُجُودِ الْمَانِعِ كَظُهُورِ الْفِسْقِ، وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَأُمَّنَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا، لِأَنَّهَا رُدَّتْ فِي الْبَعْضِ لِلتُّهْمَةِ، فَوَجَبَ أَنْ تُرَدَّ لِلْكُلِّ، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى أَبِيهِمَا أَنَّهُ قَذَفَ ضَرَّةَ أُمِّهِمَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْجَدِيدِ، وَقَالَ فِي الْقَدِيمِ: لَا تُقْبَلُ ; لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إِلَى أُمِّهِمَا نَفْعًا، وَهُوَ أَنَّهُ يُلَاعِنُهَا فَتَبِينُ وَيَتَوَفَّرُ عَلَى أُمِّهِمَا وَلَيْسَ بِشَيْءٍ ; لِأَنَّ لِعَانَهُ لَهَا يَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَتِهِ بِزِنَاهَا لَا عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَرِفُ بِهِ، وَإِنْ شَهِدَا بِطَلَاقِ الضَّرَّةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إِلَى أُمِّهِمَا نَفْعًا وَهُوَ تَوْفِيرُهُ عَلَى أُمِّهِمَا.

وَالثَّانِي: تُقْبَلُ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ إِلَى نَفْسِهِمَا نَفْعًا، اهـ مِنَ «الْمُغْنِي» ، وَكُلُّهُ لَا نَصَّ فِيهِ وَلَا يَخْلُو بَعْضُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَالْأَظْهَرُ عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَتِهِمَا بِطَلَاقِ ضَرَّةِ أُمِّهِمَا ; لِأَنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ بِجَرِّ النَّفْعِ لِأُمِّهِمَا، لِأَنَّ طَلَاقَ الضَّرَّةِ فِيهِ نَفْعٌ لِضَرَّتِهَا كَمَا لَا يَخْفَى وَشَهَادَةُ الْإِنْسَانِ بِمَا يَنْفَعُ أُمَّهُ لَا تَخْلُو مِنْ تُهْمَةٍ كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ: فِي اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ أَوِ الْأَزْمِنَةِ فِي الْقَذْفِ أَوِ الْإِقْرَارِ بِهِ.

قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْعَرَبِيَّةِ أَنَّهُ قَذَفَهَا وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ بِالْعَجَمِيَّةِ، تَمَّتِ الشَّهَادَةُ; لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي الْعَرَبِيَّةِ وَالْعَجَمِيَّةِ عَائِدٌ إِلَى الْإِقْرَارِ دُونَ الْقَذْفِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ وَاحِدًا وَالْإِقْرَارُ بِهِ فِي مَرَّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ يَوْمَ الْخَمِيسَ بِقَذْفِهَا، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَمَّتِ الشَّهَادَةُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَجَمِيَّةِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْخَمِيسَ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ بِالْعَجَمِيَّةِ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ، أَوْ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَجَمِيَّةِ أَوْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:

أَحَدُهُمَا: تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ ; لِأَنَّ الْوَقْتَ لَيْسَ ذِكْرُهُ شَرْطًا فِي الشَّهَادَةِ، وَكَذَلِكَ اللِّسَانُ فَلَمْ يُؤَثِّرِ الِاخْتِلَافُ ; كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَالْآخَرُ: لَا تَكْمُلُ الشَّهَادَةُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ; لِأَنَّهُمَا قَذْفَانِ لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَثْبُتْ، كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ

ص: 481

وَفَارَقَ الْإِقْرَارُ بِالْقَذْفِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ بِهِ وَاحِدًا أَقَرَّ بِهِ فِي وَقْتَيْنِ بِلِسَانَيْنِ، انْتَهَى مِنَ «الْمُغْنِي» .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ بِالشَّهَادَةِ هَلْ تُلَفَّقُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، أَوْ لَا تُلَفَّقُ؟ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ تُلَفَّقُ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: تُلَفَّقُ فِيهِمَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَقَوْلُهُمْ: هُمَا قَذْفَانِ لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ يُقَالُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ الْمُخْتَلِفُ وَقْتُهُ أَوْ لِسَانُهُ هُمَا إِقْرَارَانِ لَمْ تَتِمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا نَصَّ فِيهَا وَكُلٌّ مِنَ الْأَقْوَالِ فِيهَا لَهُ وَجْهٌ مِنَ النَّظَرِ، وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ وَعَدَمُ النَّصِّ لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ شُبْهَةً تَدْرَأُ الْحَدَّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الْوَاحِدَةُ وَالْعِشْرُونَ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ أَنَّ مَنْ نَفَى حَمْلَ امْرَأَتِهِ بِلِعَانٍ أَنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ، وَلَا يَلْزَمُهُ لِعَانٌ آخَرُ بَعْدَ وَضْعِهِ، وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رحمه الله وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَقَوْلَ الْخِرَقِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ بِاللِّعَانِ، فَلَا بُدَّ مِنَ اللِّعَانِ بَعْدَ الْوَضْعِ ; لِأَنَّ الْحَمْلَ قَبْلَ الْوَضْعِ غَيْرُ مُحَقَّقٍ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ رِيحًا خِلَافَ التَّحْقِيقِ فِيمَا يَظْهَرُ لَنَا مِنَ انْتِفَاءِ الْحَمْلِ بِاللِّعَانِ، كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحِجَازِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» ، وَقِصَّةُ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَفَى عَنْهُ حَمْلَ امْرَأَتِهِ بِاللِّعَانِ، وَلَمْ يُلْزِمْهُ بِإِعَادَةِ اللِّعَانِ بَعْدَ الْوَضْعِ، وَالرِّوَايَةُ الَّتِي تُوهِمُ أَنَّ لِعَانَهُ كَانَ بَعْدَ الْوَضْعِ أَوْضَحْنَا الْجَوَابَ عَنْهَا فِيمَا تَقَدَّمَ بِمَا أَجَابَ بِهِ عَنْهَا ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِاللِّوَاطِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «هُودٍ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قِصَّةِ قَوْمِ لُوطٍ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي عُقُوبَةِ اللَّائِطِ وَبَيَّنَّا أَنَّ أَقْوَاهَا دَلِيلًا قَتْلُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ بِهِ، وَعَلَيْهِ فَلَا حَدَّ بِالْقَذْفِ بِاللِّوَاطِ وَإِنَّمَا فِيهِ التَّعْزِيرُ، وَذَكَرْنَا قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللِّوَاطَ حُكْمُهُ حُكْمُ الزِّنَى وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُلَاعِنُ الْقَاذِفُ بِاللِّوَاطِ، وَإِنِ امْتَنَعَ مِنَ اللِّعَانِ حُدَّ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ: فِي حُكْمِ مَنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ وَلَدًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ، فَإِنَّ الْوَلَدَ لَا يَلْحَقُهُ وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى نَفْيِهِ بِلِعَانٍ ; لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً

ص: 482

فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ كَامِلٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ; لِأَنَّ أَقَلَّ أَمَدِ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي سُورَةِ «الرَّعْدِ» ، وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَكَوْنِ الزَّوْجِ صَبِيًّا لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ عَادَةً لِصِغَرِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ جَاءَتْ بِهِ امْرَأَةُ الصَّغِيرِ قَبْلَ بُلُوغِهِ أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ، وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى لِعَانٍ، وَبِهِ تَعْل مُ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنَ الْحَنَابِلَةِ، وَمَنْ وَافَقَهُمْ: إِنَّ الزَّوْجَ إِنْ كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ لَحِقَهُ الْوَلَدُ وَكَذَلِكَ تِسْعِ سِنِينَ وَنِصْفٍ، كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي مِنَ الْحَنَابِلَةِ أَنَّهُ خِلَافُ التَّحْقِيقِ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ عَلَى لُحُوقِ الْوَلَدِ بِالزَّوْجِ الَّذِي هُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ بِحَدِيثِ «: وَاضْرِبُوهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ لِعَشَرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» ظَاهِرُ السُّقُوطِ، وَإِنِ اعْتَمَدَهُ ابْنُ قُدَامَةَ مَعَ عِلْمِهِ، وَغَيْرُهُ مِنَ الْحَنَابِلَةِ.

فَالتَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مَا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ مِنَ الْحَنَابِلَةِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ حَتَّى يَبْلُغَ وَهُوَ ظَاهِرٌ لَا يَخْفَى، وَكَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي مَجْلِسٍ، ثُمَّ طَلَّقَهَا فِيهِ قَبْلَ غَيْبَتِهِ عَنْهُمْ، ثُمَّ أَتَتِ امْرَأَتُهُ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْعَقْدِ، أَوْ تَزَوَّجَ مَشْرِقِيٌّ مَغْرِبِيَّةً، أَوْ عَكْسُهُ، ثُمَّ مَضَتْ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْهُ، قَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي «الْمُغْنِي» : وَبِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ ; لِأَنَّ الْوَلَدَ إِنَّمَا يَلْحَقُهُ بِالْعَقْدِ وَمُدَّةِ الْحَمْلِ أَلَا تَرَى أَنَّكُمْ قُلْتُمْ إِذَا مَضَى زَمَانُ الْإِمْكَانِ لَحِقَ الْوَلَدُ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ الْوَطْءُ، انْتَهَى مِنْهُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: التَّحْقِيقُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَدَمُ لُحُوقِ الْوَلَدِ فِيمَا ذُكِرَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ وَلَا حَاجَةَ لِنَفْيِهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: اعْلَمْ أَنَّ أَظْهَرَ الْأَقْوَالِ وَأَقْوَاهَا دَلِيلًا، أَنَّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ يَتَأَبَّدُ التَّحْرِيمُ بَيْنَهُمَا، فَلَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، وَقَدْ جَاءَتْ بِذَلِكَ أَحَادِيثُ مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، وَفِيهِ: فَمَضَتِ السُّنَّةُ بَعْدُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا، انْتَهَى.

وَقَالَ فِي «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» فِي هَذَا الْحَدِيثِ: سَكَتَ عَنْهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالْمُنْذِرِيُّ، وَرِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ، وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ سَهْلٍ أَيْضًا، وَفِيهِ: فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَهُمَا، وَقَالَ «: لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» ، انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَجْدِ فِي «الْمُنْتَقَى» ، وَقَالَ فِيهِ

ص: 483

صَاحِبُ «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» : وَفِي إِسْنَادِهِ عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ فِي «التَّقْرِيبِ» : فِيهِ لِينٌ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَخْرَجَ لَهُ مُسْلِمٌ، اهـ.

وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «: الْمُتَلَاعِنَانِ إِذَا تَفَرَّقَا لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا» ، انْتَهَى مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْمَجْدِ أَيْضًا.

وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الدَّرَاقُطْنِيُّ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: مَضَتِ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ لَا يَجْتَمِعَا أَبَدًا، وَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا، عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَا: مَضَتِ السُّنَّةُ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ الْمُتَلَاعِنَانِ، وَقَالَ صَاحِبُ «نَيْلِ الْأَوْطَارِ» فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَخْرَجَ نَحْوَهُ أَبُو دَاوُدَ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ، وَفِي إِسْنَادِهَا عَبَّادُ بْنُ مَنْصُورٍ وَفِيهِ مَقَالٌ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ: أَخْرَجَهُمَا أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، انْتَهَى مِنْهُ.

وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ أَصْوَبُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ حُدَّ، وَلَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ، وَيَكُونُ خَاطِبًا مِنَ الْخُطَّابِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَمُحَمَّدٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ إِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ لَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَحُدَّ خِلَافًا لِعَطَاءٍ الْقَائِلِ: إِنَّهُ لَا يُحَدُّ.

تَنْبِيهٌ.

اعْلَمْ أَنَّ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي فُرْقَةِ اللِّعَانِ قَدَّمْنَاهَا مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» .

فِي كَلَامِنَا الطَّوِيلِ عَلَى آيَةِ: الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ الْآيَةَ [2 \ 229] ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ وَاخْتِلَافَهُمْ فِي لِعَانِ الْأَخْرَسِ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» ، وَلْنَكْتَفِ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمَنْ أَرَادَ اسْتِقْصَاءَ مَسَائِلِ اللِّعَانِ فَلْيَنْظُرْ كُتُبَ فُرُوعِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ،

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

بَيِّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّهُ لَوْلَا فَضْلُهُ وَرَحْمَتُهُ، مَا زَكَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِهِ وَلَكِنَّهُ بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ تَزْكِيَتَهُ مِنْ خَلَقَهُ.

وَيُفْهَمُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يُزَكِّيَ نَفْسَهُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:

ص: 484

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [4 \ 49]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [53 \ 32] .

وَالزَّكَاةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هِيَ الطَّهَارَةُ مِنْ أَنْجَاسِ الشِّرْكِ، وَالْمَعَاصِي.

وَقَوْلِهِ: وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ [4 \ 21] أَيْ يُطَهِّرُهُ مِنْ أَدْنَاسِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي بِتَوْفِيقِهِ وَهِدَايَتِهِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.

وَهَذَا الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ لَا يُعَارِضُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا [91 \ 9] وَلَا قَوْلُهُ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [87 \ 14] عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مَعْنَى تَزَكَّى تَطَهَّرَ مِنْ أَدْنَاسِ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، لَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا خُصُوصُ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَوَجْهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: مَنْ زَكَّاهَا أَنَّهُ لَا يُزَكِّيهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَهِدَايَتِهِ إِيَّاهُ لِلْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقَبُولِهِ مِنْهُ.

وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى كَمَا لَا يَخْفَى.

وَالْأَظْهَرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ الْآيَةَ [24 \ 21] : جَوَابُ لَوْلَا الَّتِي تَلِيهِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ جَوَابُ لَوْلَا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ الْآيَةَ [24 \ 20] وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ حَذْفُ جَوَابِ لَوْلَا، لِدَلَالَةِ الْقَرَائِنِ عَلَيْهِ،

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فِي أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ مِسْطَحٌ الْمَذْكُورُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَهُوَ فَقِيرٌ، وَكَانَتْ أُمُّهُ ابْنَةَ خَالَةِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِ لِفَقْرِهِ وَقَرَابَتِهِ وَهِجْرَتِهِ، وَكَانَ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رضي الله عنها بِالْإِفْكِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ الْآيَةَ [24 \ 11] ، وَهُوَ مَا رَمَوْهَا بِهِ مِنْ أَنَّهَا فَجَرَتْ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيِّ رضي الله عنه.

ص: 485

وَقِصَّةُ الْإِفْكِ مَعْرُوفَةٌ مَشْهُورَةٌ ثَابِتَةٌ فِي عَشْرِ آيَاتٍ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَفِي الْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ بَرَاءَةُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ، حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ، وَلَا يَنْفَعَهُ بِنَافِعَةٍ بَعْدَ مَا رَمَى عَائِشَةَ بِالْإِفْكِ ظُلْمًا وَافْتِرَاءً، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَيْ: لَا يَحْلِفْ، فَقَوْلُهُ:«يَأْتَلِ» وَزْنُهُ يَفْتَعِلُ مِنَ الْأَلِيَّةِ وَهِيَ الْيَمِينُ، تَقُولُ الْعَرَبُ آلَى يُؤْلِي وَائْتَلَى يَأْتَلِي إِذَا حَلَفَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ [2 \ 226]، أَيْ: يَحْلِفُونَ مُضَارِعُ آلَى يُؤْلِي إِذَا حَلَفَ، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:

وَيَوْمًا عَلَى ظَهْرِ الْكَثِيبِ تَعَذَّرَتْ

عَلَيَّ وَآلَتْ حَلْفَةً لَمْ تَحَلَّلْ

أَيْ حَلَفَتْ حَلْفَةً، وَقَوْلُ عَاتِكَةَ بِنْتِ زَيْدٍ الْعَدَوِيَّةِ تَرْثِي زَوْجَهَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهم:

فَآلَيْتُ لَا تَنْفَكُّ عَيْنِي حَزِينَةً

عَلَيْكَ وَلَا يَنْفَكُّ جِلْدِيَ أَغْبَرَا

وَالْأَلِيَّةُ الْيَمِينُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ يَمْدَحُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ:

قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ

وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتِ

أَيْ: لَا يَحْلِفُ أَصْحَابُ الْفَضْلِ وَالسِّعَةِ، أَيِ: الْغِنَى كَأَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، وَقَوْلُهُ: أَنْ يُؤْتُوا، أَيْ: لَا يَحْلِفُوا عَنْ أَنْ يُؤْتُوا، أَوْ لَا يَحْلِفُوا أَلَّا يُؤْتُوا وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ قَبْلَ الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْ أَنْ وَصْلَتِهِمَا مُطَّرِدٌ. وَكَذَلِكَ حَذْفُ لَا النَّافِيَةِ قَبْلَ الْمُضَارِعِ بَعْدَ الْقَسَمِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ هُنَا كَوْنُ الْقَسَمِ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَمَفْعُولُ يُؤْتُوا الثَّانِي مَحْذُوفٌ، أَيْ: أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى النَّفَقَةَ وَالْإِحْسَانَ، كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: قَوْلُهُ: وَلَا يَأْتِلِ، أَيْ: لَا يُقَصِّرُ أَصْحَابُ الْفَضْلِ، وَالسِّعَةِ كَأَبِي بَكْرٍ فِي إِيتَاءِ أُولَى الْقُرْبَى كَمِسْطَحٍ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ يَأْتَلِ يَفْتَعِلُ مِنْ أَلَا يَأْلُو فِي الْأَمْرِ إِذَا قَصَّرَ فِيهِ وَأَبْطَأَ.

وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا

ص: 486

[3 \ 118]، أَيْ لَا: يُقَصِّرُونَ فِي مَضَرَّتِكُمْ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْجَعْدِيِّ:

وَأَشْمَطَ عُرْيَانًا يَشُدُّ كِتَافَهُ

يُلَامُ عَلَى جَهْدِ الْقِتَالِ وَمَا ائْتَلَا

وَقَوْلُ الْآخَرِ:

وَإِنَّ كَنَائِنِي لَنِسَاءُ صِدْقٍ

فَمَا آلَى بَنِيَّ وَلَا أَسَاءُوا

فَقَوْلُهُ: فَمَا آلَى بَنِيَّ: يَعْنِي مَا قَصَّرُوا، وَلَا أَبَطئُوا وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّ حَلِفَ أَبِي بَكْرٍ أَلَّا يَنْفَعَ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ، وَنُزُولَ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِي ذَلِكَ الْحَلِفِ مَعْرُوفٌ. وَهَذَا الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ النَّهْيِ عَنِ الْحَلِفِ عَنْ فِعْلِ الْبِرِّ مِنْ إِيتَاءِ أُولَى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمُهَاجِرِينَ، جَاءَ أَيْضًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [2 \ 224]، أَيْ: لَا تَحْلِفُوا بِاللَّهِ عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، فَإِذَا قِيلَ لَكُمُ: اتَّقُوا وَبَرُّوا، وَأَصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ قُلْتُمْ: حَلَفْنَا بِاللَّهِ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ، فَتَجْعَلُوا الْحَلِفَ بِاللَّهِ سَبَبًا لِلِامْتِنَاعِ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرِ عَلَى الْأَصَحِّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا دَلَالَةَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ عَلَى الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ، وَذَكَرْنَا مَا يُوَضِّحُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ [6 \ 89] .

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا فِيهِ الْأَمْرُ مِنَ اللَّهِ لِلْمُؤْمِنِينَ إِذَا أَسَاءَ إِلَيْهِمْ بَعْضُ إِخْوَانِهِمُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْفُوا عَنْ إِسَاءَتِهِمْ وَيَصْفَحُوا وَأَصْلُ الْعَفْوِ: مِنْ عَفَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ إِذَا طَمَسَتْهُ.

وَالْمَعْنَى: فَلْيَطْمِسُوا آثَارَ الْإِسَاءَةِ بِحِلْمِهِمْ وَتَجَاوُزِهِمْ، وَالصَّفْحُ: قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مُشْتَقٌّ مِنْ صَفْحَةِ الْعُنُقِ، أَيْ: أَعْرِضُوا عَنْ مُكَافَأَةِ إِسَاءَتِهِمْ حَتَّى كَأَنَّكُمْ تَوَلَّوْنَهَا بِصَفْحَةِ الْعُنُقِ، مُعْرِضِينَ عَنْهَا. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ الْعَفْوِ وَالصَّفْحِ جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [3 \ 133 - 134] وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ كَظْمَ الْغَيْطِ وَالْعَفْوَ عَنِ النَّاسِ مِنْ صِفَاتِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَكَفَى بِذَلِكَ حَثًّا عَلَى ذَلِكَ، وَدَلَّتْ أَيْضًا: عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهُ الْمُتَّصِفِينَ بِهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى

ص: 487

إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا [4 \ 149] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذَا الْآيَةِ أَنَّ الْعَفْوَ مَعَ الْقُدْرَةِ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى، وَكَفَى بِذَلِكَ حَثًّا عَلَيْهِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [15 \ 85] وَكَقَوْلِهِ: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [42 \ 43] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَفْوَ وَالصَّفْحَ عَلَى الْمُسِيءِ الْمُسْلِمِ مِنْ مُوجِبَاتِ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلِذَا لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ نُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا، وَرَجَعَ لِلْإِنْفَاقِ فِي مِسْطَحٍ، وَمَفْعُولُ «أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ» مَحْذُوفٌ لِلْعِلْمِ بِهِ: أَيْ يَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أُولِي الْقُرْبَى أَيْ: أَصْحَابُ الْقَرَابَةِ، وَلَفْظَةُ أُولَى اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ يُعْرَبُ إِعْرَابَ الْجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ.

فَائِدَةٌ

فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَبَائِرَ الذُّنُوبِ لَا تُحْبِطُ الْعَمَلَ الصَّالِحَ ; لِأَنَّ هِجْرَةَ مِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ، وَقَذْفَهُ لِعَائِشَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَلَمْ يُبْطِلْ هِجْرَتَهُ ; لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ فِيهِ بَعْدَ قَذْفِهِ لَهَا وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هِجْرَتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، لَمْ يُحْبِطْهَا قَذْفُهُ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَذْفَ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ مِسْطَحًا بَعْدَ قَوْلِهِ بِالْهِجْرَةِ وَالْإِيمَانِ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْكَبَائِرِ، وَلَا يُحْبِطُ الْأَعْمَالَ غَيْرُ الشِّرْكِ بِاللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [39 \ 65] اهـ.

وَمَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ فِي الْآيَةِ وَصْفَ مِسْطَحٍ بِالْإِيمَانِ لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الْآيَةِ، وَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا.

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ أَيْضًا: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، هَذِهِ أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حَيْثُ لُطْفِ اللَّهِ بِالْقَذَفَةِ الْعُصَاةِ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَقِيلَ: أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل قَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا [33 \ 47] وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ

ص: 488

[42 \ 22] فَشَرَحَ الْفَضْلَ الْكَبِيرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَبَشَّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فِي تِلْكَ.

وَمِنْ آيَاتِ الرَّجَاءِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا الْآيَةَ [39 \ 53]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ [42 \ 19] . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [93 \ 5] وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَرْضَى بِبَقَاءِ أَحَدٍ مِنْ أُمَّتِهِ فِي النَّارِ، انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ.

وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَرْجَى آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عز وجل آيَةُ الدَّيْنِ: وَهِيَ أَطْوَلُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ تبارك وتعالى فِيهَا الطُّرُقَ الْكَفِيلَةَ بِصِيَانَةِ الدَّيْنِ مِنَ الضَّيَاعِ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ حَقِيرًا كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيهَا: وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ الْآيَةَ [2 \ 282]، قَالُوا: هَذَا مِنَ الْمُحَافَظَةِ فِي آيَةِ الدَّيْنِ عَلَى صِيَانَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ، وَعَدَمِ ضَيَاعِهِ، وَلَوْ قَلِيلًا يَدُلُّ عَلَى الْعِنَايَةِ التَّامَّةِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّطِيفَ الْخَبِيرَ لَا يُضَيِّعُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الْهَوْلِ، وَشِدَّةِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ وَغَفَرَ لَهُ: مِنْ أَرْجَى آيَاتِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [35 \ 32 - 35] .

فَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ إِيرَاثَ هَذِهِ الْأُمَّةِ لِهَذَا الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهَا فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا وَبَيَّنَ أَنَّهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:

الْأَوَّلُ: الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَهُوَ الَّذِي يُطِيعُ اللَّهَ، وَلَكِنَّهُ يَعْصِيهِ أَيْضًا فَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [9 \ 102] .

ص: 489