المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لِقُدْرَتِهِ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ بِمَا شَاءَ، وَنُصْرَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ بِإِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ، - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن - ط الفكر - جـ ٥

[محمد الأمين الشنقيطي]

الفصل: لِقُدْرَتِهِ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ بِمَا شَاءَ، وَنُصْرَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ بِإِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ،

لِقُدْرَتِهِ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ بِمَا شَاءَ، وَنُصْرَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ بِإِهْلَاكِهِ إِيَّاهُمْ، وَلَكِنَّهُ شَرَعَ الْجِهَادَ لِحِكَمٍ مِنْهَا: اخْتِبَارُ الصَّادِقِ فِي إِيمَانِهِ، وَغَيْرِ الصَّادِقِ فِيهِ، وَمِنْهَا تَسْهِيلُ نَيْلِ فَضْلِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ لِشُهَدَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا حَصَّلَ أَحَدٌ فَضْلَ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، كَمَا أَشَارَ تَعَالَى إِلَى حِكْمَةِ اخْتِبَارِ الصَّادِقِ فِي إِيمَانِهِ وَغَيْرِهِ بِالْجِهَادِ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ [47 \ 4] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ الْآيَةَ [3 \ 179] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [9 \ 16] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [3 \ 142] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ [47 \ 31] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي حِكْمَةِ الِابْتِلَاءِ الْمَذْكُورِ، وَتَسْهِيلِ الشَّهَادَةِ فِي سَبِيلِهِ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ [3 \ 1‌

‌40

- 141] وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ نَافِعٌ، وَأَبُو عَمْرٍو وَعَاصِمٌ:«أُذِنَ» بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الذَّالِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ: بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ أَيْ: أَذِنَ اللَّهُ لِلَّذِينِ يُقَاتَلُونَ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ:«يُقَاتَلُونَ» بِفَتْحِ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِ التَّاءِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ، تَقَدَّمَ مَا يُوَضِّحُ هَذِهِ الْآيَةَ مِنَ الْآيَاتِ فِي سُورَةِ «بَرَاءَةٌ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [9 \ 74] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ، بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ أَقْسَمَ لَيَنْصُرَنَّ مَنْ يَنْصُرُهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ نَصْرَ اللَّهِ إِنَّمَا هُوَ بِاتِّبَاعِ مَا شَرَّعَهُ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ وَنُصْرَةِ رُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِمْ، وَنُصْرَةِ دِينِهِ وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ وَقَهْرِهِمْ حَتَّى تَكُونَ كَلِمَتُهُ - جَلَّ وَعَلَا - هِيَ الْعُلْيَا، وَكَلِمَةُ أَعْدَائِهِ هِيَ السُّفْلَى، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - بَيَّنَ صِفَاتِ الَّذِينَ وَعَدَهُمْ بِنَصْرِهِ لِتَمْيِيزِهِمْ عَنْ غَيْرِهِمْ فَقَالَ

ص: 265

مُبَيِّنًا مَنْ أَقْسَمَ أَنَّهُ يَنْصُرُهُ ; لِأَنَّهُ يَنْصُرُ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا -: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ الْآيَةَ [22 \ 41] وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: مِنْ أَنَّ مَنْ نَصَرَ اللَّهَ نَصَرَهُ اللَّهُ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ [47 \ 7 - 8] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [37 \ 171 - 173] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [58 \ 21] وَقَوْلِهِ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [24 \ 55]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [22 \ 41] ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا وَعْدَ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ، إِلَّا مَعَ إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، فَالَّذِينَ يُمَكِّنُ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَيَجْعَلُ الْكَلِمَةَ فِيهَا وَالسُّلْطَانَ لَهُمْ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَلَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ، وَلَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَلَيْسَ لَهُمْ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ بِالنَّصْرِ ; لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ حِزْبِهِ، وَلَا مِنْ أَوْلِيَائِهِ الَّذِينَ وَعَدَهُمْ بِالنَّصْرِ، بَلْ هُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ وَأَوْلِيَاؤُهُ، فَلَوْ طَلَبُوا النَّصْرَ مِنَ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ وَعَدَهُمْ إِيَّاهُ، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْأَجِيرِ الَّذِي يَمْتَنِعُ مِنْ عَمَلِ مَا أُجِرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَطْلُبُ الْأُجْرَةَ، وَمَنْ هَذَا شَأْنُهُ فَلَا عَقْلَ لَهُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [22 \ 40] الْعَزِيزُ الْغَالِبُ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا بِشَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ، وَهَذِهِ الْآيَاتُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ خِلَافَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ ; لِأَنَّ اللَّهَ نَصَرَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ، لِأَنَّهُمْ نَصَرُوهُ فَأَقَامُوا الصَّلَاةَ، وَآتَوُا الزَّكَاةَ، وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَقَدْ مَكَّنَ لَهُمْ، وَاسْتَخْلَفَهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا قَالَ: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ الْآيَةَ [24 \ 55] ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةَ تَشْمَلُ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُلَّ مَنْ قَامَ بِنُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِأَنَّ الَّذِي عَامَلَهُ بِهِ قَوْمُهُ مِنَ التَّكْذِيبِ عُومِلَ بِهِ غَيْرُهُ مِنَ الرُّسُلِ الْكِرَامِ، وَذَلِكَ يُسَلِّيهِ وَيُخَفِّفُ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى

ص: 266

وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ الْآيَةَ [11 \ 120]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [41 \ 43] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ الْآيَةَ [35 \ 4] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ سَبْعَ أُمَمٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ كَذَّبَتْ رَسُولَهَا.

الْأُولَى: قَوْمُ نُوحٍ فِي قَوْلِهِ: فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ [22 \ 42] وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى تَكْذِيبِ قَوْمِ نُوحٍ لَا تَكَادُ تُحْصَى فِي الْقُرْآنِ، لِكَثْرَتِهَا وَلْنَقْتَصِرْ عَلَى الْأَمْثِلَةِ لِكَثْرَةِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَكْذِيبِ هَذِهِ الْأُمَمِ رُسُلَهَا كَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [26 \ 105] وَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ [54 \ 9] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

الثَّانِيَةُ: عَادٌ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّهُمْ كَذَّبُوا رَسُولَهُمْ هُودًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ [26 \ 123] وَقَوْلِهِ: قَالُوا يَاهُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [11 \ 53] .

الثَّالِثَةُ: ثَمُودُ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ تَكْذِيبَهُمْ لِنَبِيِّهِمْ صَالِحٍ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ [26 \ 141] وَقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا [91 \ 14] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

الرَّابِعَةُ: قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ [29 \ 24] وَقَوْلِهِ: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ الْآيَةَ [21 \ 68]، وَكَقَوْلِهِ: أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [19 \ 46] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

الْخَامِسَةُ: قَوْمُ لُوطٍ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ كَذَّبُوهُ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ [26 \ 160] وَقَوْلِهِ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ الْآيَةَ [27 \ 56] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

السَّادِسَةُ: أَصْحَابُ مَدْيَنَ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ كَذَّبُوا نَبِيَّهُمْ شُعَيْبًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ: أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [11 \ 95] وَقَوْلِهِ: وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِلَى قَوْلِهِ:

ص: 267

قَالُوا يَاشُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [11 \ 84 - 87] وَقَوْلِهِ: قَالُوا يَاشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ الْآيَةَ [11 \ 91] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

السَّابِعَةُ: مَنْ كَذَّبُوا مُوسَى وَهُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ كَذَّبُوا مُوسَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [26 \ 29] وَقَوْلِهِ: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [26 \ 18 - 19] وَقَوْلِهِ: وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ [7 \ 132] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [22 \ 44] قَدْ بَيَّنَ تَعَالَى نَوْعَ الْعَذَابِ الَّذِي عَذَّبَ بِهِ كُلَّ أُمَّةٍ مِنْ تِلْكَ الْأُمَمِ، بَعْدَ الْإِمْلَاءِ لَهَا وَالْإِمْهَالِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ بِالْغَرَقِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ [29 \ 14] وَقَوْلِهِ: فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [54 \ 11 - 12] وَقَوْلِهِ: ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ [26 \ 120] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ بَعْدَ الْإِمْلَاءِ وَالْإِمْهَالِ لِعَادٍ أَهْلَكَهُمْ بِالرِّيحِ الْعَقِيمِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ الْآيَاتِ [69 \ 6] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ [54 \ 41 - 42] وَقَوْلِهِ: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [46 \ 24 - 25] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلَكَ ثَمُودَ بِصَيْحَةٍ أَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعًا ; كَقَوْلِهِ فِيهِمْ: وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ [11 \ 67] وَقَوْلِهِ: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ الْآيَةَ [41 \ 17] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ هُمْ نُمْرُوذُ، وَقَوْمُهُ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ الْعَذَابَ الدُّنْيَوِيَّ الَّذِي أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِهِ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّحْلِ: قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ [16 \ 26] وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَهْلَكَ قَوْمَ لُوطٍ بِجَعْلِ عَالِي أَرْضِهِمْ سَافِلَهَا، وَأَنَّهُ

ص: 268

أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ مَطَرًا مِنْ حِجَارَةِ السِّجِّيلِ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ كَقَوْلِهِ ; تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [11 \ 82] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ أَهْلَكَ أَصْحَابَ مَدْيَنَ بِالصَّيْحَةِ فِي مَوَاضِعَ ; كَقَوْلِهِ فِيهِمْ: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ [11 \ 94 - 95] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ وَقَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ أَهْلَكَ الَّذِينَ كَذَّبُوا مُوسَى، وَهُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ بِالْغَرَقِ كَقَوْلِهِ: وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ [44 \ 24] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ الْآيَةَ [20 \ 78] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [10 \ 90] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَاتِ كَثِيرَةٌ فِي بَيَانِ مَا أُهْلِكَتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَمُ السَّبْعُ الْمَذْكُورَةُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا قَلِيلًا مِنْهَا كَالْمِثَالِ لِغَيْرِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوَضِّحُ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ تَكْذِيبَ الْأُمَمِ السَّبْعِ لِأَنْبِيَائِهِمْ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ [22 \ 44] أَيْ: بِالْعَذَابِ، وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا بَعْضَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَفَاصِيلِهِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ النَّكِيرُ: اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ أَيْ: كَيْفَ كَانَ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ مُنْكَرَهُمْ، الَّذِي هُوَ كُفْرُهُمْ بِي، وَتَكْذِيبُهُمْ رُسُلِي، وَهُوَ ذَلِكَ الْعَذَابُ الْمُسْتَأْصِلُ الَّذِي بَيَّنَّا وَبَعْدَهُ عَذَابُ الْآخِرَةِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ نَرْجُو اللَّهَ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِينَ الْعَافِيَةَ مِنْ كُلِّ مَا يُسْخِطُ خَالِقَنَا، وَيَسْتَوْجِبُ عُقُوبَتَهُ، وَالْجَوَابُ إِنْكَارُكَ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ الْعَذَابِ وَاقِعٌ مَوْقِعَهُ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ ; لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، فَجَزَاءُ الْعَمَلِ الْبَالِغِ غَايَةَ الْقُبْحِ بِالنَّكَالِ الْعَظِيمِ جَزَاءَ وِفَاقٍ وَاقِعٍ مَوْقِعَهُ، فَسُبْحَانَ الْحَكِيمِ الْخَبِيرِ الَّذِي لَا يَضَعُ الْأَمْرَ إِلَّا فِي مَوْضِعِهِ وَلَا يُوقِعُهُ إِلَّا فِي مَوْقِعِهِ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ وَرْشٌ وَحْدَهُ عَنْ نَافِعٍ: فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ بِيَاءِ الْمُتَكَلِّمِ بَعْدَ الرَّاءِ وَصْلًا فَقَطْ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِحَذْفِهَا اكْتِفَاءً بِالْكَسْرَةِ عَنِ الْيَاءِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ، بَيَّنَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَهْلَكَ كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى فِي حَالِ كَوْنِهَا ظَالِمَةً أَيْ: بِسَبَبِ ذَلِكَ الظُّلْمِ، وَهُوَ الْكُفْرُ بِاللَّهِ وَتَكْذِيبُ رُسُلِهِ، فَصَارَتْ بِسَبَبِ الْإِهْلَاكِ وَالتَّدْمِيرِ دِيَارُهَا مُتَهَدِّمَةٌ وَآبَارُهَا مُعَطَّلَةٌ، لَا يَسْقِي مِنْهَا شَيْءٌ لِإِهْلَاكِ أَهْلِهَا الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَقُونَ مِنْهَا.

ص: 269

وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ: جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [65 \ 8 - 10] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [11 \ 102] وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ ثُمَّ قَرَأَ صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [11 \ 102] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [22 \ 45] الْعُرُوشُ السُّقُوفُ وَالْخَاوِيَةُ السَّاقِطَةُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْخَنْسَاءِ:

كَانَ أَبُو حَسَّانَ عَرْشًا خَوَى

مِمَّا بَنَاهُ الدَّهْرُ دَانٍ ظَلِيلُ

وَالْمَعْنَى: أَنَّ السُّقُوفَ سَقَطَتْ ثُمَّ سَقَطَتْ عَلَيْهَا حِيطَانُهَا عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَاتِ، وَالْقَصْرُ الْمَشِيدُ الْمَطْلِيُّ بِالشِّيدِ بِكَسْرِ الشِّينِ، وَهُوَ الْجِصُّ، وَقِيلَ الْمَشِيدُ: الرَّفِيعُ الْحَصِينُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [4 \ 78] أَيْ: حُصُونٍ رَفِيعَةٍ مَنِيعَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَيْ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا، وَكَمْ مِنْ بِئْرٍ عَطَّلْنَاهَا بِإِهْلَاكِ أَهْلِهَا، وَكَمْ مِنْ قَصْرٍ مَشِيدٍ أَخْلَيْنَاهُ مِنْ سَاكِنِيهِ، وَأَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الرُّسُلَ. وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَأَمْثَالِهَا: تَهْدِيدٌ لِكُفَّارِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ صلى الله عليه وسلم، وَتَحْذِيرٌ لَهُمْ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمْ مَا نَزَلَ بِتِلْكَ الْقُرَى مِنَ الْعَذَابِ لَمَّا كَذَّبَتْ رُسُلَهَا.

تَنْبِيهٌ

يَظْهَرُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالٌ: وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يَدُلُّ عَلَى تَهَدُّمِ أَبْنِيَةِ أَهْلِهَا، وَسُقُوطِهَا وَقَوْلُهُ: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ يَدُلُّ عَلَى بَقَاءِ أَبْنِيَتِهَا قَائِمَةً مُشَيَّدَةً.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الظَّاهِرُ لِي فِي جَوَابِ هَذَا السُّؤَالِ: أَنَّ قُصُورَ الْقُرَى الَّتِي أَهْلَكَهَا اللَّهُ، وَقْتَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهَا مَا هُوَ مُتَهَدِّمٌ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَمِنْهَا مَا هُوَ قَائِمُ بَاقٍ عَلَى بِنَائِهِ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَصْرٍ مَشِيدٍ وَإِنَّمَا اسْتَظْهَرْنَا هَذَا الْجَمْعَ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَيْهِ، وَخَيْرُ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ

ص: 270

الْقُرْآنُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي سُورَةِ هُودٍ: ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ [11 \ 100] فَصَرَّحَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِأَنَّ مِنْهَا قَائِمًا، وَمِنْهَا حَصِيدًا.

وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَجْرَاهَا عَلَى ظَاهِرِ الْقُرْآنِ: أَنَّ الْقَائِمَ هُوَ الَّذِي لَمْ يَتَهَدَّمْ، وَالْحَصِيدَ هُوَ الَّذِي تَهَدَّمَ وَتَفَرَّقَتْ أَنْقَاضُهُ، وَنَظِيرُهُ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُهُ:

وَالنَّاسُ فِي قِسْمِ الْمَنِيَّةِ بَيْنَهُمْ

كَالزَّرْعِ مِنْهُ قَائِمٌ وَحَصِيدُ

وَفِي مَعْنَى الْقَائِمِ وَالْحَصِيدِ، أَقْوَالٌ أُخَرُ غَيْرُ مَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنْ مَا ذَكَرْنَا هُوَ أَظْهَرُهَا، وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ وَجْهٌ آخَرُ لِلْجَمْعِ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ:«خَاوِيَةٌ» : خَالِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا مِنْ قَوْلِهِ: خَوَى الْمَكَانُ إِذَا خَلَا مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنَّ مَعْنَى:«عَلَى عُرُوشِهَا» : أَنَّ الْأَبْنِيَةَ بَاقِيَةٌ أَيْ: هِيَ خَالِيَةٌ مِنْ أَهْلِهَا مَعَ بَقَاءِ عُرُوشِهَا قَائِمَةً عَلَى حِيطَانِهَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا هُوَ الصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَأَمْثَالُهَا فِي الْقُرْآنِ: أَنَّ لَفْظَ الْقَرْيَةِ يُطْلَقُ تَارَةً عَلَى نَفْسِ الْأَبْنِيَةِ، وَتَارَةً عَلَى أَهْلِهَا السَّاكِنِينَ بِهَا، فَالْإِهْلَاكُ فِي قَوْلِهِ: أَهْلَكْنَاهَا، وَالظُّلْمُ فِي قَوْلِهِ: وَهِيَ ظَالِمَةٌ: يُرَادُ بِهِ أَهْلُهَا السَّاكِنُونَ بِهَا وَقَوْلُهُ: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا يُرَادُ بِهِ الْأَبْنِيَةُ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ: وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا [12 \ 82] وَقَالَ فِي أُخْرَى: حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا [18 \ 77] .

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي رِسَالَتِنَا الْمُسَمَّاةِ مَنْعَ جَوَازِ الْمَجَازِ فِي الْمَنْزِلِ لِلتَّعَبُّدِ وَالْإِعْجَازِ: أَنَّ مَا يُسَمِّيهِ الْبَلَاغِيُّونَ مَجَازَ النَّقْصِ، وَمَجَازَ الزِّيَادَةِ، لَيْسَ بِمَجَازٍ حَتَّى عِنْدَ جُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِالْمَجَازِ مِنَ الْأُصُولِيِّينَ، وَأَقَمْنَا الدَّلِيلَ عَلَى ذَلِكَ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَكَائِنٌ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْكَافِ، وَبَعْدَ الْأَلْفِ هَمْزَةٌ مَكْسُورَةٌ، فَنُونٌ سَاكِنَةٌ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ: وَكَأَيِّنْ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْكَافِ بَعْدَهَا يَاءٌ مَكْسُورَةٌ مُشَدَّدَةٌ فَنُونٌ سَاكِنَةٌ، وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ، فَهُمَا لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ، وَقِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ صَحِيحَتَانِ.

وَأَبُو عَمْرٍو يَقِفُ عَلَى الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ يَقِفُونَ عَلَى النُّونِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو:«أَهْلَكْتُهَا» بِتَاءِ الْمُتَكَلِّمِ الْمَضْمُومَةِ بَعْدَ الْكَافِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَالْبَاقُونَ بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَ الْكَافِ، وَبَعْدَ النُّونِ أَلِفٌ، وَالْمُرَادُ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ، عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ التَّعْظِيمُ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ، وَقَرَأَ وَرْشٌ وَالسُّوسِيُّ وَ (بِيرٍ) بِإِبْدَالِ الْهَمْزَةِ يَاءً وَالْبَاقُونَ بِالْهَمْزَةِ السَّاكِنَةِ.

ص: 271

مَسْأَلَةٌ

اعْلَمْ أَنَّ كَأَيِّنْ فِيهَا لُغَاتٌ عَدِيدَةٌ أَفْصَحُهَا الِاثْنَتَانِ اللَّتَانِ ذَكَرْنَاهُمَا، وَكَأَيِّنْ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْيَاءِ الْمَكْسُورَةِ الْمُشَدَّدَةِ أَكْثَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ كَمَا بَيَّنَّا، وَكَائِنٌ بِالْأَلِفِ وَالْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ أَكْثَرُ فِي شِعْرِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِهَا مِنَ السَّبْعَةِ غَيْرُ ابْنِ كَثِيرٍ كَمَا بَيَّنَّا، وَمَعْنَى كَأَيِّنْ: كَمَعْنَى كَمِ الْخَبَرِيَّةِ، فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْإِخْبَارِ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ وَمُمَيِّزُهَا لَهُ حَالَتَانِ:

الْأُولَى: أَنْ يُجَرَّ بِمِنْ وَهِيَ لُغَةُ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ [65 \ 8] وَقَوْلِهِ وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ الْآيَةَ [3 \ 146] وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [12 \ 105]، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي جَرِّ مُمَيَّزِ كَأَيِّنْ بِمِنْ قَوْلُهُ:

وَكَائِنٌ بِالْأَبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ

يَرَانِي لَوْ أُصِيبُ هُوَ الْمُصَابَا

الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُنْصَبَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ:

وَكَائِنٌ لَنَا فَضْلًا عَلَيْكُمْ وَمِنَّةً

قَدِيمًا وَلَا تَدْرُونَ مَا مِنْ مُنْعِمِ

وَقَوْلُ الْآخَرِ:

اطْرُدِ الْيَأْسَ بِالرَّجَاءِ فَكَائِنٌ

آلِمًا حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ

قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:

كَكَمْ كَأَيِّنْ وَكَذَا وَيَنْتَصِبْ

تَمْيِيزُ ذَيْنِ أَوْ بِهِ صِلْ مَنْ تُصِبْ

أَمَّا الِاسْتِفْهَامُ بِكَأَيِّنْ فَهُوَ نَادِرٌ وَلَمْ يُثْبِتْهُ إِلَّا ابْنُ مَالِكٍ، وَابْنُ قُتَيْبَةَ، وَابْنُ عُصْفُورٍ، وَاسْتَدَلَّ لَهُ ابْنُ مَالِكٍ بِمَا رُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: كَأَيِّنْ تَقْرَأُ سُورَةَ الْأَحْزَابِ آيَةً فَقَالَ: ثَلَاثًا وَسَبْعِينَ اهـ.

وَاخْتُلِفَ فِي كَأَيِّنْ هَلْ هِيَ بَسِيطَةٌ أَوْ مُرَكَّبَةٌ وَعَلَى أَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ فَهِيَ مُرَكَّبَةٌ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ، وَأَيِّ الْمُنَوَّنَةِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَلِأَجْلِ تَرْكِيبِهَا جَازَ الْوَقْفُ عَلَيْهَا بِالنُّونِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ ; لِأَنَّ التَّنْوِينَ لَمَّا دَخَلَ فِي التَّرْكِيبِ أَشْبَهَ النُّونَ الْأَصْلِيَّةَ، وَلِهَذَا رُسِمَ فِي الْمُصْحَفِ نُونًا وَقِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو بِالْوَقْفِ عَلَى الْيَاءِ لِأَجْلِ اعْتِبَارِ حُكْمِ التَّنْوِينِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ حَذْفُهُ فِي الْوَقْفِ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّ كَأَيِّنْ بَسِيطَةٌ، وَأَنَّهَا كَلِمَةٌ

ص: 272

وَضَعَتْهَا الْعَرَبُ لِلْإِخْبَارِ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ نَحْوَ: كَمْ، إِذْ لَا دَلِيلَ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا مُرَكَّبَةٌ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهَا بَسِيطَةٌ: إِثْبَاتُ نُونِهَا فِي الْخَطِّ ; لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي نُونِ التَّنْوِينِ عَدَمُ إِثْبَاتِهَا فِي الْخَطِّ، وَدَعْوَى أَنَّ التَّرْكِيبَ جَعَلَهَا كَالنُّونِ الْأَصْلِيَّةِ دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ عَنِ الدَّلِيلِ، وَاخْتَارَ أَبُو حَيَّانَ أَنَّهَا غَيْرُ مُرَكَّبَةٍ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِتَلَاعُبِ الْعَرَبِ بِهَا فِي تَعَدُّدِ اللُّغَاتِ، فَإِنَّ فِيهَا خَمْسَ لُغَاتٍ اثْنَتَانِ مِنْهَا قَدْ قَدَّمْنَاهُمَا، وَبَيَّنَّا أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ سَبْعِيَّتَانِ ; لِأَنَّ إِحْدَاهُمَا قَرَأَ بِهَا ابْنُ كَثِيرٍ وَالْأُخْرَى قَرَأَ بِهَا الْجُمْهُورُ، وَاللُّغَةُ الثَّالِثَةُ فِيهَا: كَأْيِنْ بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ فَيَاءٌ مَكْسُورَةٌ، وَالرَّابِعَةُ كَيْئِنْ بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ وَهَمْزَةٍ مَكْسُورَةٍ، الْخَامِسَةُ: كَأَنْ بِهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ اهـ، وَلَقَدْ صَدَقَ أَبُو حَيَّانَ فِي أَنَّ التَّلَاعُبَ بِلَفْظِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ إِلَى هَذِهِ اللُّغَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَصْلَهَا بَسِيطَةٌ لَا مُرَكَّبَةٌ.

وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

وَاعْلَمْ: أَنَّ مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْبِئْرَ الْمُعَطَّلَةَ، وَالْقَصْرَ الْمَشِيدَ مَعْرُوفَانِ، وَأَنَّهُمَا بِحَضْرَمَوْتَ، وَأَنَّ الْقَصْرَ مُشْرِفٌ عَلَى قُلَّةِ جَبَلٍ لَا يُرْتَقَى إِلَيْهِ بِحَالٍ، وَأَنَّ الْبِئْرَ فِي سَفْحِهِ لَا تُقِرُّ الرِّيَاحُ شَيْئًا سَقَطَ فِيهَا إِلَّا أَخْرَجَتْهُ، وَمَا يَذْكُرُونَهُ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْبِئْرَ هِيَ: الرَّسُّ، وَأَنَّهَا كَانَتْ بِعَدَنَ بِالْيَمَنِ بِحَضْرَمَوْتَ فِي بَلَدٍ يُقَالُ لَهُ: حَضُورُ، وَأَنَّهَا نَزَلَ بِهَا أَرْبَعَةُ آلَافٍ مِمَّنْ آمَنُوا بِصَالِحٍ، وَنَجَوْا مِنَ الْعَذَابِ وَمَعَهُمْ صَالِحٌ، فَمَاتَ صَالِحٌ، فَسُمِّيَ الْمَكَانُ حَضْرَمَوْتَ ; لِأَنَّ صَالِحًا لَمَّا حَضَرَهُ مَاتَ فَبَنَوْا حَضُورَ وَقَعَدُوا عَلَى هَذِهِ الْبِئْرِ، وَأَمَّرُوا عَلَيْهِمْ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: الْعَلَسُ بْنُ جُلَاسِ بْنِ سُوَيْدٍ أَوْ جَلْهَسُ بْنُ جُلَاسٍ وَكَانَ حَسَنَ السِّيرَةِ فِيهِمْ عَامِلًا عَلَيْهِمْ، وَجَعَلُوا وَزِيرَهُ سَنْجَارِيبَ بْنَ سَوَادَةَ، فَأَقَامُوا دَهْرًا، وَتَنَاسَلُوا حَتَّى كَثُرُوا، وَكَانَتِ الْبِئْرُ تَسْقِي الْمَدِينَةَ كُلَّهَا وَبَادِيَتَهَا، وَجَمِيعُ مَا فِيهَا مِنَ الدَّوَابِّ وَالْغَنَمِ وَالْبَقَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ; لِأَنَّهَا كَانَتْ لَهَا بَكَرَاتٌ كَثِيرَةٌ مَنْصُوبَةً عَلَيْهَا، وَرِجَالٌ كَثِيرُونَ مُوَكَّلُونَ بِهَا، وَحِيَاضٌ كَثِيرَةٌ حَوْلَهَا تُمْلَأُ لِلنَّاسِ وَحِيَاضٌ لِلدَّوَابِّ وَحِيَاضٌ لِلْغَنَمِ، وَحِيَاضٌ لِلْبَقَرِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَاءٌ غَيْرُهَا، وَآلَ بِهِمُ الْأَمْرُ إِلَى أَنْ مَاتَ مَلِكُهُمْ وَطَلَوْا جُثَّتَهُ بِدُهْنٍ يَمْنَعُهَا مِنَ التَّغْيِيرِ، وَأَنَّ الشَّيْطَانَ دَخَلَ فِي جُثَّتِهِ، وَزَعَمَ لَهُمْ أَنَّهُ هُوَ الْمَلِكُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَمُتْ وَلَكِنَّهُ تَغَيَّبَ عَنْهُمْ لِيَرَى صَنِيعَهُمْ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجُثَّةِ حِجَابًا، وَكَانَ الشَّيْطَانُ يُكَلِّمُهُمْ مِنْ جُثَّةِ الْمَلِكِ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ لِئَلَّا يَطَّلِعُوا عَلَى الْحَقِيقَةِ أَنَّهُ مَيِّتٌ، وَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى كَفَرُوا بِاللَّهِ تَعَالَى فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ نَبِيًّا اسْمُهُ: حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ يُوحَى إِلَيْهِ فِي النَّوْمِ دُونَ الْيَقَظَةِ، فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَضَلَّهُمْ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ مَلِكَهُمْ قَدْ مَاتَ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الشِّرْكِ بِاللَّهِ وَوَعَظَهُمْ وَنَصَحَ لَهُمْ، وَحَذَّرَهُمْ عِقَابَ رَبِّهِمْ، فَقَتَلُوا نَبِيَّهُمُ الْمَذْكُورَ فِي

ص: 273

السُّوقِ، وَطَرَحُوهُ فِي بِئْرٍ فَعِنْدَ ذَلِكَ نَزَلَ بِهِمْ عِقَابُ اللَّهِ، فَأَصْبَحُوا وَالْبِئْرُ غَارَ مَاؤُهَا، وَتَعَطَّلَ رِشَاؤُهَا فَصَاحُوا بِأَجْمَعِهِمْ، وَضَجَّ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ حَتَّى مَاتَ الْجَمِيعُ مِنَ الْعَطَشِ، وَأَنَّ تِلْكَ الْبِئْرَ هِيَ الْبِئْرُ الْمُعَطَّلَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، كُلُّهُ لَا مُعَوِّلَ عَلَيْهِ ; لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ، وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ [22 \ 48] مَعْنَاهُ: الْإِخْبَارُ بِأَنَّ عَدَدًا كَبِيرًا مِنَ الْقُرَى أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِظُلْمِهِمْ، وَأَنَّ كَثِيرًا مِنْ آبَارِهِمْ بَقِيَتْ مُعَطَّلَةً بِهَلَاكِ أَهْلِهَا، وَأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْقُصُورِ الْمُشَيَّدَةِ بَقِيَتْ بَعْدَ هَلَاكِ أَهْلِهَا بِدُونِهِمْ ; لِأَنَّ مُمَيَّزَ كَأَيِّنْ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ مُفْرَدًا فَمَعْنَاهُ يَشْمَلُ عَدَدًا كَثِيرًا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي مَحَلِّهِ.

وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي «الْبَحْرِ الْمُحِيطِ» وَعَنِ الْإِمَامِ أَبِي الْقَاسِمِ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: رَأَيْتُ قَبْرَ صَالِحٍ بِالشَّامِ فِي بَلْدَةٍ يُقَالُ لَهَا: عَكَّا فَكَيْفَ يَكُونُ بِحَضْرَمَوْتَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ دِيَارَ قَوْمِ صَالِحٍ الَّتِي أُهْلِكُوا فِيهَا مَعْرُوفَةٌ يَمُرُّ بِهَا الذَّاهِبُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ الْحِجْرِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِهَا فِي طَرِيقِهِ إِلَى تَبُوكَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَمِنَ الْمُسْتَبْعَدِ أَنْ يَقْطَعَ صَالِحٌ، وَمَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِهِ هَذِهِ الْمَسَافَةَ الطَّوِيلَةَ الْبَعِيدَةَ مِنْ أَرْضِ الْحِجْرِ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مِنْ غَيْرِ دَاعٍ يَدْعُوهُ وَيَضْطَرُّهُ إِلَى ذَلِكَ، كَمَا تَرَى، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا بَيَّنَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ الَّذِينَ كَذَّبُوا نَبِيَّنَا - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -، يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا، أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ; لِأَنَّهُمْ إِذَا سَافَرُوا مَرُّوا بِأَمَاكِنِ قَوْمِ صَالِحٍ، وَأَمَاكِنِ قَوْمِ لُوطٍ، وَأَمَاكِنِ قَوْمِ هُودٍ، فَوَجَدُوا بِلَادَهُمْ خَالِيَةً وَآثَارَهُمْ مُنْطَمِسَةً لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ، لِتَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، وَكُفْرِهِمْ بِرَبِّهِمْ، فَيُدْرِكُونَ بِعُقُولِهِمْ: أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ نَبِيَّهُمْ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يُسَبِّبَ لَهُمْ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مِثْلَ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ الَّذِينَ مَرُّوا بِمَسَاكِنِهِمْ خَالِيَةً، قَدْ عَمَّ أَهْلَهَا الْهَلَاكُ، وَتَكُونُ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا مَا قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى نَبِيِّهِ مِنْ أَخْبَارِ تِلْكَ الْأُمَمِ، وَمَا أَصَابَهَا مِنَ الْإِهْلَاكِ الْمُسْتَأْصِلِ وَالتَّدْمِيرِ، فَيَحْذَرُوا أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مِثْلُ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ.

وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ [47 \ 10] ثُمَّ بَيَّنَ تَهْدِيدَهُ لِكُفَّارِ مَكَّةَ بِمَا فَعَلَ بِالْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [47 \ 10] وَكَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ لُوطٍ: وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [37 \ 137 - 138]

ص: 274

وَكَقَوْلِهِ فِيهِمْ: وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ الْآيَةَ [15 \ 76]، وَكَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ شُعَيْبٍ: أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ [50 \ 14] وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ [15 \ 79] ; لِأَنَّ مَعْنَى الْآيَتَيْنِ: أَنَّ دِيَارَهُمْ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ الَّذِي يَمُرُّونَ فِيهِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالسَّبِيلِ وَالْإِمَامِ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ هَذَا كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْهَا جُمَلًا كَافِيَةً فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ وَغَيْرِهَا.

وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ: فِي الْقَلْبِ، وَمَحَلَّ السَّمْعِ: فِي الْأُذُنِ، فَمَا يَزْعُمُهُ الْفَلَاسِفَةُ مِنْ أَنَّ مَحَلَّ الْعَقْلِ الدِّمَاغُ بَاطِلٌ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعَقْلَ لَا مَرْكَزَ لَهُ أَصْلًا فِي الْإِنْسَانِ ; لِأَنَّهُ زَمَانِيٌّ فَقَطْ لَا مْكَانِيٌّ فَهُوَ فِي غَايَةِ السُّقُوطِ وَالْبُطْلَانِ كَمَا تَرَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى الْآيَةَ [17 \ 72] ، مَعَ بَعْضِ الشَّوَاهِدِ الْعَرَبِيَّةِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ، ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ يَطْلُبُونَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَعْجِيلَ الْعَذَابِ الَّذِي يَعِدُهُمْ بِهِ طُغْيَانًا وَعِنَادًا.

وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [38 \ 16] وَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [29 \ 54] وَقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ الْآيَةَ [29 \ 53] .

وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ، مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ [6 \ 57] وَفِي يُونُسَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ [10 \ 15] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَعْدِ هُنَا: هُوَ مَا أَوْعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَ نُزُولَهُ.

ص: 275

وَالْمَعْنَى: هُوَ مُنْجِزٌ مَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، وَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمُحَدَّدُ لِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [29 \ 53] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [11 \ 8] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [10 \ 51] وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْوَعْدَ يُطْلَقُ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْوَعْدِ بِالشَّرِّ.

وَمِنَ الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [22 \ 72] فَإِنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي النَّارِ: وَعَدَهَا اللَّهُ بِصِيغَةِ الثُّلَاثِيِّ الَّذِي مَصْدَرُهُ الْوَعْدُ، وَلَمْ يَقُلْ أَوْعَدَهَا وَمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ الْكُفَّارَ مِنَ الْعَذَابِ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَأَنَّهُ لَا يُخْلِفُ وَعْدَهُ بِذَلِكَ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «ق» قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ الْآيَةَ [50 \ 28] وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ أَنَّ مَا أَوْعَدَ الْكُفَّارَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، لَا يُبَدَّلُ لَدَيْهِ، بَلْ هُوَ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [50 \ 14] أَيْ: وَجَبَ وَثَبُتَ فَلَا يُمْكِنُ عَدَمُ وُقُوعِهِ بِحَالٍ وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ [38 \ 14] كَمَا أَوْضَحْنَاهُ فِي كِتَابِنَا: «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ الْآيَةَ [6 \ 128] ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ مَا أُوعِدُ بِهِ الْكُفَّارُ لَا يُخْلَفُ بِحَالٍ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ الْمَذْكُورَةُ، أَمَّا مَا أُوعِدَ بِهِ عُصَاةُ الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ الَّذِي يَجُوزُ أَلَّا يُنَفِّذَهُ وَأَنْ يَعْفُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [4 \ 48] .

وَبِالتَّحْقِيقِ الَّذِي ذَكَرْنَا: تَعْلَمُ أَنَّ الْوَعْدَ يُطْلَقُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنَّمَا شَاعَ عَلَى أَلْسِنَةِ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، مِنْ أَنَّ الْوَعْدَ لَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْوَعْدِ بِخَيْرٍ وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي لَا يُخْلِفُهُ اللَّهُ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُتَوَعَّدُ بِهِ شَرًّا، فَإِنَّهُ وَعِيدٌ وَإِيعَادٌ، قَالُوا: إِنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَعْدِ لُؤْمًا، وَعَنِ الْإِيعَادِ كَرَمًا، وَذَكَرُوا عَنِ الْأَصْمَعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، فَجَاءَهُ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو، هَلْ يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ؟ فَقَالَ: لَا، فَذَكَرَ آيَةَ وَعِيدٍ، فَقَالَ لَهُ: أَمِنَ الْعَجَمِ أَنْتَ؟ إِنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الرُّجُوعَ عَنِ الْوَعْدِ لُؤْمًا وَعَنِ الْإِيعَادِ كَرَمًا، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ الشَّاعِرِ:

ص: 276

وَلَا يَرْهَبُ ابْنُ الْعَمِّ وَالْجَارُ سَطْوَتِي

وَلَا انْثَنَى عَنْ سَطْوَةِ الْمُتَهَدِّدِ

فَإِنِّي وَإِنْ أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ

لَمُخْلِفٌ إِيعَادِي وَمُنْجِزٌ مَوْعِدِي

فِيهِ نَظَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ.

الْأَوَّلُ: هُوَ مَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا مِنْ إِطْلَاقِ الْوَعْدِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى التَّوَعُّدِ بِالنَّارِ، وَالْعَذَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [22 \ 72] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ [22 \ 47] ; لِأَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ فِي حُلُولِ الْعَذَابِ الَّذِي يَسْتَعْجِلُونَكَ بِهِ لَهُمْ، لِأَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِقَوْلِهِ: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ [22 \ 47] فَتَعَلُّقُهُ بِهِ هُوَ الظَّاهِرُ.

الثَّانِي: هُوَ مَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا أَوْعَدَ اللَّهُ بِهِ الْكُفَّارَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُخْلِفَهُ بِحَالٍ ; لِأَنَّ ادِّعَاءَ جَوَازِ إِخْلَافِهِ، لِأَنَّهُ إِيعَادٌ وَأَنَّ الْعَرَبَ تَعُدُّ الرُّجُوعَ عَنِ الْإِيعَادِ كَرَمًا يُبْطِلُهُ أَمْرَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ جَوَازُ أَلَّا يَدْخُلَ النَّارَ كَافِرٌ أَصْلًا، لِأَنَّ إِيعَادَهُمْ بِإِدْخَالِهِمُ النَّارَ مِمَّا زَعَمُوا أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْهُ كَرَمٌ، وَهَذَا لَا شَكَّ فِي بُطْلَانِهِ.

الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ: عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ مَا أَوْعَدَ بِهِ الْكُفَّارَ مِنَ الْعَذَابِ، كَقَوْلِهِ: قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ الْآيَةَ [50 \ 28 - 29] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهِمْ: فَحَقَّ وَعِيدِ [50 \ 14] وَقَوْلِهِ فِيهِمْ: فَحَقَّ عِقَابِ [38 \ 14] وَمَعْنَى حَقَّ: وَجَبَ وَثَبَتَ، فَلَا وَجْهَ لِانْتِفَائِهِ بِحَالٍ، كَمَا أَوْضَحْنَاهُ هُنَا وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ، بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْيَوْمَ عِنْدَهُ - جَلَّ وَعَلَا - كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا يَعُدُّهُ خَلْقُهُ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ كَوْنِ الْيَوْمِ عِنْدَهُ كَأَلْفِ سَنَةٍ، أَشَارَ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ بِقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [32 \ 5] وَذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ أَنَّ مِقْدَارَ الْيَوْمِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ الْآيَةَ [70 \ 4] ، فَآيَةُ الْحَجِّ، وَآيَةُ السَّجْدَةِ مُتَوَافِقَتَانِ تُصَدِّقُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْأُخْرَى، وَتُمَاثِلُهَا فِي الْمَعْنَى، وَآيَةُ الْمَعَارِجِ تُخَالِفُ ظَاهِرَهُمَا لِزِيَادَتِهَا عَلَيْهِمَا بِخَمْسِينَ ضِعْفًا، وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي كِتَابِنَا:«دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» ، وَسَنَذْكُرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ

ص: 277

هُنَا مُلَخَّصًا مُخْتَصَرًا، وَنَزِيدُ عَلَيْهِ بَعْضَ مَا تَدْعُو الْحَاجَةُ إِلَيْهِ.

فَقَدْ ذَكَرْنَا مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ رَوَى عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّهُ حَضَرَ كُلًّا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ: فَلَمْ يَدْرِ مَا يَقُولُهُ فِيهَا، وَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، ثُمَّ ذَكَرْنَا أَنَّ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: هُوَ مَا أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ أَنَّ يَوْمَ الْأَلْفِ فِي سُورَةِ الْحَجِّ: هُوَ أَحَدُ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَيَوْمُ الْأَلْفِ فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ، هُوَ مِقْدَارُ سَيْرِ الْأَمْرِ وَعُرُوجِهِ إِلَيْهِ تَعَالَى وَيَوْمُ الْخَمْسِينَ أَلْفًا، هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِجَمِيعِهَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ اخْتِلَافَ زَمَنِ الْيَوْمِ إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْمُؤْمِنِ، وَحَالِ الْكَافِرِ ; لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَخَفُّ عَلَى الْمُؤْمِنِ مِنْهُ عَلَى الْكَافِرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [74 \ 9 - 10] اهـ، ذَكَرَ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ صَاحِبُ الْإِتْقَانِ.

وَذَكَرْنَا أَيْضًا فِي كِتَابِنَا: «دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ، عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» ، فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [25 \ 24] مَا مُلَخَّصُهُ: أَنَّ آيَةَ الْفُرْقَانِ هَذِهِ تَدُلُّ عَلَى انْقِضَاءِ الْحِسَابِ فِي نِصْفِ نَهَارٍ ; لِأَنَّ الْمَقِيلَ الْقَيْلُولَةُ أَوْ مَكَانُهَا وَهِيَ الِاسْتِرَاحَةُ نِصْفُ النَّهَارِ فِي الْحَرِّ، وَمِمَّنْ قَالَ بِانْقِضَاءِ الْحِسَابِ فِي نِصْفِ نَهَارٍ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعِكْرِمَةُ وَابْنُ جُبَيْرٍ لِدَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ، عَلَى ذَلِكَ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ ابْنُ كَثِيرٍ وَغَيْرُهُ.

وَفِي تَفْسِيرِ الْجَلَالَيْنِ مَا نَصُّهُ: وَأُخِذَ مِنْ ذَلِكَ انْقِضَاءُ الْحِسَابِ فِي نِصْفِ نَهَارٍ، كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثٍ انْتَهَى مِنْهُ، مَعَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَنَّ مِقْدَارَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [70 \ 4] وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بِلَا خِلَافٍ فِي ذَلِكَ.

وَالظَّاهِرُ فِي الْجَوَابِ: أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَطُولُ عَلَى الْكُفَّارِ وَيَقْصُرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَيُشِيرُ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا بِقَلِيلٍ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا [25 \ 26] فَتَخْصِيصُهُ عُسْرَ ذَلِكَ الْيَوْمَ بِالْكَافِرِينَ: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ

ص: 278

لَيْسُوا كَذَلِكَ وَقَوْلُهُ تَعَالَى:

فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [74 \ 9 - 10] يَدُلُّ بِمَفْهُومِ مُخَالَفَتِهِ عَلَى أَنَّهُ يَسِيرٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ عَسِيرٍ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ.

وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ: أَنَّ سَعِيدًا الصَّوَّافَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ: أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقْصُرُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى يَكُونَ كَمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَنَّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يُفْرَغَ مِنَ النَّاسِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [25 \ 24] وَنَقَلَهُ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَ الْمَقِيلَ فِي الْآيَةِ بِأَنَّهُ الْمَأْوَى وَالْمَنْزِلُ كَقَتَادَةَ رحمه الله، فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ لِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي سُرُورٍ وَنِعْمَةٍ، أَنَّهُ يَقْصُرُ عَلَيْهِ الزَّمَنُ الطَّوِيلُ قَصْرًا شَدِيدًا، بِخِلَافِ مَنْ كَانَ فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ وَالْبَلَايَا وَالْكُرُوبِ، فَإِنَّ الزَّمَنَ الْقَصِيرَ يَطُولُ عَلَيْهِ جِدًّا، وَهَذَا أَمْرٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا الْمَذْكُورِ بَعْضَ الشَّوَاهِدِ الدَّالَّةِ عَلَيْهِ، كَقَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ رضي الله عنه يَرْثِي رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

أَرِقْتُ فَبَاتَ لَيْلِي لَا يَزُولُ

وَلَيْلُ أَخِي الْمُصِيبَةِ فِيهِ طُولُ

وَقَوْلِ الْآخَرِ:

فَقِصَارُهُنَّ مَعَ الْهُمُومِ طَوِيلَةٌ

وَطِوَالُهُنَّ مَعَ السُّرُورِ قِصَارُ

وَقَوْلِ الْآخَرِ:

لَيْلَى وَلَيْلِي نَفَى نَوْمِي اخْتِلَافَهُمَا

فِي الطُّولِ وَالطُّولُ طُوبَى لِي لَوِ اعْتَدَلَا

يَجُودُ بِالطُّولِ لَيْلِي كُلَّمَا بَخِلَتْ

بِالطُّولِ لَيْلَى وَإِنْ جَادَتْ بِهِ بَخِلَا

وَنَحْوُ هَذَا كَثِيرٌ جِدًّا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْ أَظْرَفِ مَا قِيلَ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ:

لَا أَسْأَلُ اللَّهَ تَغْيِيرًا لِمَا فَعَلَتْ

نَامَتْ وَقَدْ أَسَهَرَتْ عَيْنَيَّ عَيْنَاهَا

فَاللَّيْلُ أَطْوَلُ شَيْءٍ حِينَ أَفْقِدُهَا

وَاللَّيْلُ أَقْصَرُ شَيْءٍ حِينَ أَلْقَاهَا

وَقَدْ وَرَدَ بَعْضُ الْأَحَادِيثِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى ظَاهِرِ آيَةِ «الْحَجِّ» ، وَآيَةِ «السَّجْدَةِ» .

وَسَنَذْكُرُ هُنَا طَرَفًا مِنْهُ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ سُورَةِ «الْحَجِّ» ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، حَدَّثَنِي عَبَدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ

ص: 279

مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِنِصْفِ يَوْمٍ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ» وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْقُوفًا فَقَالَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، ثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ سُمَيْرِ بْنِ نَهَارٍ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: يَدْخُلُ فُقَرَاءُ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ، بِمِقْدَارِ نِصْفِ يَوْمٍ، قُلْتُ: وَمَا مِقْدَارُ نِصْفِ يَوْمٍ؟ قَالَ: أَوَ مَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى قَالَ: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [22 \ 47] وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي آخِرِ كِتَابِ الْمَلَاحِمِ مِنْ سُنَنِهِ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ عَنْ شُرَيْحِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«إِنِّي لَأَرْجُو أَلَّا تَعْجِزَ أُمَّتِي عِنْدَ رَبِّهَا أَنْ يُؤَخِّرَهُمْ نِصْفَ يَوْمٍ» قِيلَ لِسَعْدٍ: وَكَمْ نِصْفُ يَوْمٍ؟ قَالَ: خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ.

وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [22 \ 47] قَالَ: مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي خَلَقَ اللَّهُ فِيهَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ بَشَّارٍ، عَنِ ابْنِ الْمَهْدِيِّ وَبِهِ قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي كِتَابِ الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [32 \ 5] اهـ. مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنَ ابْنِ كَثِيرٍ، وَظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الَّتِي سَاقَ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ أَصْلَ الْيَوْمِ كَأَلْفِ سَنَةٍ، وَلَكِنَّهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ يَقْصُرُ وَيَخِفُّ، حَتَّى يَكُونَ كَنِصْفِ نَهَارٍ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ، وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ:(كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا يَعُدُّونَ) بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ تَعُدُّونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاضِحٌ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ، تَقَدَّمَتْ قَرِيبًا الْآيَاتُ الْمُوَضِّحَةُ لِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَإِلَى قَوْلِهِ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [22 \ 44 - 45] .

قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ.

ص: 280

أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبِيَّهُ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَيْ: إِنِّي لَسْتُ بِرَبِّكُمْ، وَلَا بِيَدِي هِدَايَتُكُمْ وَلَا عَلَيَّ عِقَابُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَكِنِّي مُخَوِّفٌ لَكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَسُخْطِهِ.

وَالْآيَاتُ بِهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا ; قَوْلُهُ تَعَالَى فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [13 \ 40] وَقَوْلُهُ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ [13 \ 7] وَقَوْلُهُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [26 \ 115] وَقَوْلُهُ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ [42 \ 48] وَقَوْلُهُ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ [34 \ 46] وَقَوْلُهُ تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [25 \ 1] وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مُبِينٌ الظَّاهِرُ أَنَّهُ الْوَصْفُ مِنْ أَبَانَ الرُّبَاعِيَّةِ اللَّازِمَةِ الَّتِي بِمَعْنَى بَانَ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَبَانَ فَهُوَ مَعْنَى بَانَ، فَهُوَ بَيِّنٌ مِنَ اللَّازِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُتَعَدٍّ إِلَى الْمَفْعُولِ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:

قَنْوَاءُ فِي حَرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بِهَا

عِتْقٌ مُبِينٌ وَفِي الْخَدَّيْنِ تَسْهِيلُ

فَقَوْلُهُ: عِتْقٌ مُبِينٌ أَيْ: كَرَمٌ ظَاهِرٌ وَمِنْ أَبَانَ اللَّازِمَةِ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ:

لَوْ دَبَّ ذَرٌّ فَوْقَ ضَاحِي جِلْدِهَا

لَأَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ حُدُورُ

يَعْنِي: لَظَهَرَ وَبَانَ مِنْ آثَارِهِنَّ وَرَمٌ وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ:

إِذَا آبَاؤُنَا وَأَبُوكَ عَدَوْا

أَبَانَ الْمُقْرِفَاتُ مِنَ الْعِرَابِ

أَيْ ظَهَرَ: وَبَانَ الْمُقْرِفَاتُ مِنَ الْعِرَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مُبِينٌ: اسْمُ أَبَانَ الْمُتَعَدِّيَةِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ لِلتَّعْمِيمِ

أَيْ: مُبِينٌ لَكُمْ فِي إِنْذَارِي كُلَّ مَا يَنْفَعُكُمْ، وَمَا يَضُرُّكُمْ لِتَجْتَلِبُوا النَّفْعَ، وَتَجْتَنِبُوا الضُّرَّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ، بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَبِرُسُلِهِ، وَكُلِّ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَعَمِلُوا الْفِعْلَاتِ الصَّالِحَاتِ مِنَ امْتِثَالِ الْأَوَامِرِ، وَاجْتِنَابِ النَّوَاهِي لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَغْفِرَةٌ لِذُنُوبِهِمْ، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أَيْ: حَسَنٌ، هُوَ مَا يَرْزُقُهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ النَّعِيمِ فِي جَنَّاتِهِ، وَأَنَّ

ص: 281

الَّذِينَ عَمِلُوا بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ أَيِ: النَّارِ الشَّدِيدِ حَرُّهَا، وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ وَعْدٌ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَوَعِيدٌ لِمَنْ عَصَاهُ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [15 \ 49 - 50] وَقَوْلِهِ غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ الْآيَةَ [40 \ 3] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ [22 \ 51] قَالَ مُجَاهِدٌ: مُعَاجِزِينَ يُثَبِّطُونَ النَّاسَ عَنْ مُتَابَعَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: مُثَبِّطِينَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُعَاجِزِينَ أَيْ مُغَالِبِينَ وَمُشَاقِّينَ، وَعَنِ الْفَرَّاءِ مُعَاجِزِينَ: مُعَانِدِينَ، وَعَنِ الْأَخْفَشِ مُعَاجِزِينَ: مُعَانِدَةً مُسَابِقِينَ، وَعَنِ الزَّجَّاجِ مُعَاجِزِينَ أَيْ: ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَنَا ; لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَلَّا بَعْثَ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ.

وَاعْلَمْ: أَنَّ فِي هَذَا الْحَرْفِ قِرَاءَتَيْنِ سَبْعِيَّتَيْنِ قَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: مُعَاجِزِينَ بِأَلِفٍ بَيْنِ الْعَيْنِ وَالْجِيمِ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ اسْمُ فَاعِلِ عَاجَزَهُ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو عَمْرٍو: مُعَجِّزِينَ بِلَا أَلِفٍ مَعَ تَشْدِيدِ الْجِيمِ الْمَكْسُورَةِ عَلَى صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مِنْ عَجَّزَهُ.

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: الظَّاهِرُ بِحَسَبِ الْوَضْعِ الْعَرَبِيِّ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ مُعَاجِزِينَ: هُوَ اقْتِضَاءُ طَرَفَيْنِ، لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يُعَدَّلُ عَنْهُ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَالْمُفَاعَلَةُ تَقْتَضِي الطَّرَفَيْنِ إِلَّا لِدَلِيلٍ يَصْرِفُ عَنْ ذَلِكَ، وَاقْتِضَاءُ الْفَاعِلَةِ الطَّرَفَيْنِ فِي الْآيَةِ مِنْ طَرِيقَيْنِ.

الْأُولَى: هِيَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ مِنْ أَنَّ مَعْنَى مُعَاجِزِينَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُمْ يُعَاجِزُونَ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ، فَيُحَاوِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِعْجَازَ الْآخَرِ فَالْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ، يُحَاوِلُونَ إِعْجَازَ الْكُفَّارِ وَإِخْضَاعَهُمْ لِقَبُولِ مَا جَاءَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْكُفَّارُ يُقَاتِلُونَ الْأَنْبِيَاءَ، وَأَتْبَاعَهُمْ، وَيُمَانِعُونَهُمْ، لِيُصَيِّرُوهُمْ إِلَى الْعَجْزِ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ، وَهَذَا الْوَجْهُ ظَاهِرٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [2 \ 217] وَعَلَيْهِ فَمَفْعُولُ مُعَاجِزِينَ مَحْذُوفٌ: أَيْ مُعَاجِزِينَ الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ، أَيْ مُغَالِبِينَ لَهُمْ، لِيُعْجِزُوهُمْ عَنْ إِقَامَةِ الْحَقِّ.

الطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا عَنِ الزَّجَّاجِ أَنَّ مَعْنَى مُعَاجِزِينَ: ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَ رَبَّهُمْ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِمْ لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى بَعْثِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى

ص: 282

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [64 \ 7] وَكَمَا قَالَ تَعَالَى وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [36 \ 78] وَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ إِنَّهُمْ قَالُوا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [6 \ 29] وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ [44 \ 35] وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْكُفَّارُ مُعَاجِزِينَ اللَّهَ فِي زَعْمِهِمُ الْبَاطِلِ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ أَنَّ زَعْمَهُمْ هَذَا كَاذِبٌ، وَأَنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ رَبَّهُمْ بِحَالٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [9 \ 2] وَقَوْلِهِ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [9 \ 3] وَقَوْلِهِ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ الْآيَةَ [29 \ 22] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْجِنِّ» وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا [72 \ 12] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا الْوَجْهَ الْأَخِيرَ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه:

زَعَمَتْ سَخِينَةُ أَنْ سَتَغْلِبُ رَبَّهَا

وَلَيَغْلِبَنَّ مَغَالِبَ الْغُلَّابِ

وَمُرَادُهُ بِسَخِينَةَ قُرَيْشٌ يَعْنِي: أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ غَلَبَةَ رَبِّهِمْ، وَاللَّهُ غَالِبُهُمْ بِلَا شَكٍّ وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَظْهَرُ، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو: مُعْجِزِينَ بِكَسْرِ الْجِيمِ الْمُشَدَّدَةِ، بِلَا أَلِفٍ، فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى مُعْجِزِينَ أَيْ: مُثَبِّطِينَ مَنْ أَرَادَ الدُّخُولَ فِي الْإِيمَانِ عَنِ الدُّخُولِ فِيهِ، وَقِيلَ مُعْجِزِينَ مَنِ اتَّبَعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّهُمْ يَنْسُبُونَهُمْ إِلَى الْعَجْزِ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَجَّزَهُ بِالتَّضْعِيفِ إِذَا نَسَبَهُ إِلَى الْعَجْزِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْحَزْمِ، يَعْنُونَ: أَنَّهُ يَحْسَبُونَ الْمُسْلِمِينَ سُفَهَاءَ لَا عُقُولَ لَهُمْ، حَيْثُ ارْتَكَبُوا أَمْرًا غَيْرَ الْحَزْمِ وَالصَّوَابِ، وَهُوَ اتِّبَاعُ دِينِ الْإِسْلَامِ فِي زَعْمِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ إِخْوَانِهِمُ الْمُنَافِقِينَ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ الْآيَةَ [2 \ 13] وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا [22 \ 51] .

اعْلَمْ أَوَّلًا: أَنَّ السَّعْيَ يُطْلَقُ عَلَى الْعَمَلِ فِي الْأَمْرِ لِإِفْسَادِهِ وَإِصْلَاحِهِ، وَمِنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْإِفْسَادِ قَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا أَيْ: سَعَوْا فِي إِبْطَالِهَا وَتَكْذِيبِهَا بِقَوْلِهِمْ: إِنَّهَا سِحْرٌ وَشِعْرٌ وَكَهَانَةٌ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ. وَمِنْ إِطْلَاقِ السَّعْيِ فِي الْفَسَادِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا الْآيَةَ [2 \ 205] وَمِنْ إِطْلَاقِ السَّعْيِ فِي الْعَمَلِ لِلْإِصْلَاحِ قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [76 \ 22]

ص: 283

وَقَوْلُهُ وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى الْآيَةَ [80 \ 8 - 9] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.

وَمِنْ إِطْلَاقِ السَّعْيِ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَعًا قَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إِلَى قَوْلِهِ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [92 \ 4 - 11] وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا هُنَا فِي سُورَةِ «الْحَجِّ» الَّتِي هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [22

- 51] جَاءَ مَعْنَاهَا وَاضِحًا فِي سُورَةِ سَبَأٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ [38 \ 4 - 5] فَالْعَذَابُ مِنَ الرِّجْزِ الْأَلِيمِ الْمَذْكُورِ فِي «سَبَأٍ» هُوَ عَذَابُ الْجَحِيمِ الْمَذْكُورُ فِي الْحَجِّ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ، مَعْنَى قَوْلِهِ تَمَنَّى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ مَعْرُوفَانِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ تَمَنَّى بِمَعْنَى: قَرَأَ وَتَلَا وَمِنْهُ قَوْلُ حَسَّانَ فِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه:

تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ

وَآخِرَهَا لَاقَى حِمَامَ الْمَقَادِرِ

وَقَوْلُ الْآخَرِ:

تَمَنَّى كِتَابَ اللَّهِ آخِرَ لَيْلِهِ

تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رُسُلِ

فَمَعْنَى تَمَنَّى فِي الْبَيْتَيْنِ قَرَأَ وَتَلَا.

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ: إِذَا حَدَّثَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي حَدِيثِهِ، وَكَوْنُ تَمَنَّى بِمَعْنَى: قَرَأَ وَتَلَا، هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ تَمَنَّى فِي الْآيَةِ مِنَ التَّمَنِّي الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ تَمَنِّيهِ إِسْلَامَ أُمَّتِهِ وَطَاعَتَهُمْ لِلَّهِ وَلِرُسُلِهِ، وَمَفْعُولُ أَلْقَى مَحْذُوفٌ فَعَلَى أَنْ تَمَنَّى بِمَعْنَى: أَحَبَّ إِيمَانَ أُمَّتِهِ

ص: 284

وَعَلَّقَ أَمَلَهُ بِذَلِكَ، فَمَفْعُولُ أَلْقَى يَظْهَرُ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْوَسَاوِسِ، وَالصَّدِّ عَنْ دِينِ اللَّهِ حَتَّى لَا يَتِمَّ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَوِ الرَّسُولِ مَا تَمَنَّى.

وَمَعْنَى كَوْنِ الْإِلْقَاءِ فِي أُمْنِيَّتِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِي وَسَاوِسَهُ وَشُبَهَهُ لِيَصُدَّ بِهَا عَمَّا تَمَنَّاهُ الرَّسُولُ أَوِ النَّبِيُّ، فَصَارَ الْإِلْقَاءُ كَأَنَّهُ وَاقِعٌ فِيهَا بِالصَّدِّ عَنْ تَمَامِهَا وَالْحَيْلُولَةِ دُونَ ذَلِكَ.

وَعَلَى أَنَّ تَمَنَّى بِمَعْنَى: قَرَأَ، فَفِي مَفْعُولِ أَلْقَى تَقْدِيرَانِ:

أَحَدُهُمَا: مِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ أَيْ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قِرَاءَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم أَوِ النَّبِيِّ الشُّبَهَ وَالْوَسَاوِسَ لِيَصُدَّ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ مَا يَقْرَؤُهُ، وَيَتْلُوهُ الرَّسُولُ أَوِ النَّبِيُّ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَلَا إِشْكَالَ.

وَأَمَّا التَّقْدِيرُ الثَّانِي: فَهُوَ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ أَيْ قِرَاءَتِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا لِيَظُنَّ الْكُفَّارُ أَنَّهُ مِنْهَا.

وَقَوْلُهُ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِهَذَا التَّقْدِيرِ.

وَقَدْ ذَكَرَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ قَالُوا: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ سُورَةَ النَّجْمِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا بَلَغَ: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [53 \ 19 - 20] أَلْقَى الشَّيْطَانُ عَلَى لِسَانِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى، فَلَمَّا بَلَغَ آخِرَ السُّورَةِ سَجَدَ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُشْرِكُونَ وَالْمُسْلِمُونَ. وَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: مَا ذَكَرَ آلِهَتَنَا بِخَيْرٍ قَبْلَ الْيَوْمِ، وَشَاعَ فِي النَّاسِ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ أَسْلَمُوا بِسَبَبِ سُجُودِهِمْ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى رَجَعَ الْمُهَاجِرُونَ مِنَ الْحَبَشَةِ ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ قَوْمَهُمْ أَسْلَمُوا، فَوَجَدُوهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ.

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونُ فِي الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْقَوْلِ، وَمَثَّلْنَا لِذَلِكَ: بِأَمْثِلَةٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي زَعَمَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: وَهُوَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، هَذَا الشِّرْكَ الْأَكْبَرَ وَالْكُفْرَ الْبَوَاحَ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُمْ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَا وَإِنَّ شَفَاعَتَهُنَّ لَتُرْتَجَى، يَعْنُونَ: اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، الَّذِي لَا شَكَّ فِي بُطْلَانِهِ فِي نَفْسِ سِيَاقِ آيَاتِ «النَّجْمِ» الَّتِي تَخَلَّلَهَا إِلْقَاءُ الشَّيْطَانِ الْمَزْعُومِ قَرِينَةً قُرْآنِيَّةً وَاضِحَةً عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ ; لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ بَعْدَ مَوْضِعِ الْإِلْقَاءِ الْمَزْعُومِ بِقَلِيلٍ قَوْلَهُ تَعَالَى، فِي اللَّاتِ

ص: 285

وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةِ الْأُخْرَى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [53 \ 23] وَلَيْسَ مِنَ الْمَعْقُولِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسُبُّ آلِهَتَهُمْ هَذَا السَّبَّ الْعَظِيمَ فِي سُورَةِ النَّجْمِ مُتَأَخِّرًا عَنْ ذِكْرِهِ لَهَا بِخَيْرٍ الْمَزْعُومِ، إِلَّا وَغَضِبُوا، وَلَمْ يَسْجُدُوا ; لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِالْكَلَامِ الْأَخِيرِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ دَلَّتْ آيَاتٌ قُرْآنِيَّةٌ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا الْقَوْلِ، وَهِيَ الْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِلشَّيْطَانِ سُلْطَانًا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَإِخْوَانِهِ مِنَ الرُّسُلِ، وَأَتْبَاعِهِمُ الْمُخْلِصِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [16 \ 99 - 100] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:

إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [15 \ 42] وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ الْآيَةَ [34 \ 21] وَقَوْلِهِ: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ الْآيَةَ [14 \ 22] ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْمَزْعُومِ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَلْقَى عَلَى لِسَانِهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ الْكُفْرَ الْبَوَاحَ، فَأَيُّ سُلْطَانٍ لَهُ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ.

وَمِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى بُطْلَانِ ذَلِكَ الْقَوْلِ الْمَزْعُومِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [53 \ 3 - 4] وَقَوْلُهُ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ [26 \ 221 - 222]، وَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [15 \ 9] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [41 \ 41 - 42] فَهَذِهِ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ الْقَوْلِ الْمَزْعُومِ.

مَسْأَلَةٌ.

اعْلَمْ: أَنَّ مَسْأَلَةَ الْغَرَانِيقِ مَعَ اسْتِحَالَتِهَا شَرْعًا، وَدَلَالَةِ الْقُرْآنِ عَلَى بُطْلَانِهَا لَمْ تَثْبُتْ مِنْ طَرِيقٍ صَالِحٍ لِلِاحْتِجَاجِ، وَصَرَّحَ بِعَدَمِ ثُبُوتِهَا خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ كَمَا هُوَ الصَّوَابُ، وَالْمُفَسِّرُونَ يَرْوُونَ هَذِهِ الْقِصَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلْبِيَّ مَتْرُوكٌ، وَقَدْ بَيَّنَ الْبَزَّارُ رحمه الله: أَنَّهَا لَا تُعْرَفُ مِنْ طَرِيقٍ يَجُوزُ ذِكْرُهُ إِلَّا طَرِيقَ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مَعَ الشَّكِّ الَّذِي وَقَعَ فِي وَصْلِهِ، وَقَدِ اعْتَرَفَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ مَعَ انْتِصَارِهِ، لِثُبُوتِ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِأَنَّ طُرُقَهَا كُلَّهَا إِمَّا مُنْقَطِعَةٌ أَوْ ضَعِيفَةٌ إِلَّا طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.

وَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ طَرِيقَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، لَمْ يَرْوِهَا بِهَا أَحَدٌ مُتَّصِلَةً إِلَّا

ص: 286

أُمَيَّةَ بْنَ خَالِدٍ، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَقَدْ شَكَّ فِي وَصْلِهَا.

فَقَدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ أُمَيَّةَ بْنِ خَالِدٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيمَا أَحْسَبُ، ثُمَّ سَاقَ حَدِيثَ الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: لَا يُرَى مُتَّصِلًا إِلَّا بِهَذَا الْإِسْنَادِ، تَفَرَّدَ بِوَصْلِهِ أُمَيَّةُ بْنُ خَالِدٍ، وَهُوَ ثِقَةٌ مَشْهُورٌ، وَقَالَ الْبَزَّارُ: وَإِنَّمَا يُرْوَى مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْكَلْبِيُّ مَتْرُوكٌ.

فَتَحَصَّلَ أَنَّ قِصَّةَ الْغَرَانِيقِ، لَمْ تَرِدْ مُتَّصِلَةً إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ الَّذِي شَكَّ رَاوِيهِ فِي الْوَصْلِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِظُهُورِ ضَعْفِهِ، وَلِذَا قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ: إِنَّهُ لَمْ يَرَهَا مُسْنَدَةً مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ.

وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: وَلَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْ هَذَا، وَلَا يَثْبُتُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَمَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ، بَلْ بُطْلَانِهِ فَقَدْ دَفَعَهُ الْمُحَقِّقُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ ; كَقَوْلِهِ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ الْآيَةَ [69 \ 44] وَقَوْلِهِ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى الْآيَةَ [53 \ 3] ، وَقَوْلِهِ وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا [17 \ 74] فَنَفَى الْمُقَارَبَةَ لِلرُّكُونِ فَضْلًا عَنِ الرُّكُونِ، ثُمَّ ذَكَرَ الشَّوْكَانِيُّ عَنِ الْبَزَّارِ أَنَّهَا لَا تُرْوَى بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ، وَعَنِ الْبَيْهَقِيِّ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، وَذَكَرَ عَنْ إِمَامِ الْأَئِمَّةِ ابْنِ خُزَيْمَةَ: أَنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ مِنْ وَضْعِ الزَّنَادِقَةِ وَأَبْطَلَهَا ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ، وَالْفَخْرُ الرَّازِيُّ وَجَمَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَقِرَاءَتُهُ صلى الله عليه وسلم سُورَةَ النَّجْمِ وَسُجُودُ الْمُشْرِكِينَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ قِصَّةِ الْغَرَانِيقِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الصَّحِيحِ وَهُوَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ فَلَا إِشْكَالَ.

وَأَمَّا عَلَى ثُبُوتِ الْقِصَّةِ كَمَا هُوَ رَأْيُ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي فَتْحِ الْبَارِي:

إِنَّ هَذِهِ الْقِصَّةَ ثَابِتَةٌ بِثَلَاثَةِ أَسَانِيدَ كُلُّهَا عَلَى شَرْطِ الصَّحِيحِ، وَهِيَ مَرَاسِيلُ يَحْتَجُّ بِمِثْلِهَا مَنْ يَحْتَجُّ بِالْمُرْسَلِ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَحْتَجُّ بِهِ لِاعْتِضَادِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ ; لِأَنَّ الطُّرُقَ إِذَا كَثُرَتْ وَتَبَايَنَتْ مَخَارِجُهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَهَا أَصْلًا، فَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ ذَلِكَ أَجْوِبَةٌ كَثِيرَةٌ أَحْسَنُهَا، وَأَقْرَبُهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُرَتِّلُ السُّورَةَ تَرْتِيلًا تَتَخَلَّلُهُ سَكَتَاتٌ، فَلَمَّا قَرَأَ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [53 \ 20] قَالَ الشَّيْطَانُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - مُحَاكِيًا لِصَوْتِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى. . . الْخَ فَظَنَّ الْمُشْرِكُونَ أَنَّ الصَّوْتَ صَوْتُهُ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ بَرِئٌ مِنْ ذَلِكَ بَرَاءَةَ الشَّمْسِ مِنَ اللَّمْسِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي رِحْلَتِنَا إِيضَاحًا وَافِيًا، وَاخْتَصَرْنَاهَا هُنَا، وَفِي كِتَابِنَا:«دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ» .

ص: 287

وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْقُرْآنَ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِهَا، وَلَمْ تَثْبُتْ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ، مَعَ اسْتِحَالَةِ الْإِلْقَاءِ عَلَى لِسَانِهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا ذُكِرَ شَرْعًا، وَمَنْ أَثْبَتَهَا نَسَبَ التَّلَفُّظَ بِذَلِكَ الْكُفْرِ لِلشَّيْطَانِ. فَتَبَيَّنَ أَنَّ نُطْقَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ الْكُفْرِ، وَلَوْ سَهْوًا مُسْتَحِيلٌ شَرْعًا، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَهُوَ بَاطِلٌ قَطْعًا عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَالْغَرَانِيقُ: الطَّيْرُ الْبِيضُ الْمَعْرُوفَةُ وَاحِدُهَا: غُرْنُوقٌ كَزُنْبُورٍ وَفِرْدَوْسٍ، وَفِيهِ لُغَاتٌ غَيْرُ ذَلِكَ، يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَرْتَفِعُ إِلَى اللَّهِ كَالطَّيْرِ الْبِيضِ، فَتَشْفَعُ عِنْدَهُ لِعَابِدِيهَا قَبَّحَهُمُ اللَّهُ مَا أَكْفَرَهُمْ! وَنَحْنُ وَإِنْ ذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ يُسْتَأْنَسُ بِهِ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَفْعُولَ الْإِلْقَاءِ الْمَحْذُوفِ تَقْدِيرُهُ:

أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قِرَاءَتِهِ مَا لَيْسَ مِنْهَا ; لِأَنَّ النَّسْخَ هُنَا هُوَ النَّسْخُ اللُّغَوِيُّ، وَمَعْنَاهُ الْإِبْطَالُ وَالْإِزَالَةُ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَنَسَخَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ، وَهَذَا كَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَنْسَخُ شَيْئًا أَلْقَاهُ الشَّيْطَانُ، لَيْسَ مِمَّا يَقْرَؤُهُ الرَّسُولُ أَوِ النَّبِيُّ، فَالَّذِي يَظْهَرُ لَنَا أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَيْهِ دَلَالَةً وَاضِحَةً، وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ لَهُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَى الْآيَةِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ أَنَّ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي قِرَاءَةِ النَّبِيِّ: الشُّكُوكُ وَالْوَسَاوِسُ الْمَانِعَةُ مِنْ تَصْدِيقِهَا وَقَبُولِهَا، كَإِلْقَائِهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهَا سِحْرٌ أَوْ شِعْرٌ، أَوْ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَأَنَّهَا مُفْتَرَاةٌ عَلَى اللَّهِ لَيْسَتْ مُنَزَّلَةً مِنْ عِنْدِهِ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ أَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الْإِلْقَاءِ الْمَذْكُورِ امْتِحَانُ الْخَلْقِ، لِأَنَّهُ قَالَ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ 2 \ 53] ثُمَّ قَالَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ [22 \ 54] فَقَوْلُهُ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ الْآيَةَ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ يُلْقِي عَلَيْهِمْ، أَنَّ الَّذِي يَقْرَؤُهُ النَّبِيُّ لَيْسَ بِحَقٍّ فَيُصَدِّقُهُ الْأَشْقِيَاءُ، وَيَكُونُ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ، وَيُكَذِّبُهُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ لَا الْكَذِبُ ; كَمَا يَزْعُمُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ فِي إِلْقَائِهِ: فَهَذَا الِامْتِحَانُ لَا يُنَاسِبُ شَيْئًا زَادَهُ الشَّيْطَانُ مِنْ نَفْسِهِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.

وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ، فَمَعْنَى نَسْخِ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ: إِزَالَتُهُ وَإِبْطَالُهُ، وَعَدَمُ تَأْثِيرِهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ.

وَمَعْنَى يُحْكِمُ آيَاتِهِ: يُتْقِنُهَا بِالْإِحْكَامِ، فَيُظْهِرُ أَنَّهَا وَحْيٌ مُنَزَّلٌ مِنْهُ بِحَقٍّ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي ذَلِكَ مُحَاوَلَةُ الشَّيْطَانِ صَدَّ النَّاسِ عَنْهَا بِإِلْقَائِهِ الْمَذْكُورِ، وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّهُ يُسَلِّطُ الشَّيْطَانَ فَيَلْقَى فِي قِرَاءَةِ الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ، فِتْنَةً لِلنَّاسِ لِيَظْهَرَ مُؤْمِنُهُمْ مِنْ كَافِرِهِمْ.

ص: 288

بِذَلِكَ الِامْتِحَانِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ قَدَّمْنَاهَا مِرَارًا كَقَوْلِهِ وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ الْآيَةَ [74 \ 31] وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ الْآيَةَ [2 \ 143] وَقَوْلِهِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ أَيْ: لِأَنَّهَا فِتْنَةٌ، كَمَا قَالَ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ الْآيَةَ [37 \ 62 - 64] ; لِأَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالُوا: ظَهَرَ كَذِبُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِأَنَّ الشَّجَرَ لَا يَنْبُتُ فِي الْمَوْضِعِ الْيَابِسِ، فَكَيْفَ تَنْبُتُ شَجَرَةٌ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ مِرَارًا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ الْآيَةَ الْأَظْهَرُ أَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ، بِأَلْقَى أَيْ: أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّةِ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ، لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ الْإِلْقَاءَ فِتْنَةً لِلَّذِينِ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، خِلَافًا لِلْحَوْفِيِّ الْقَائِلِ: إِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِـ «يُحْكِمُ» ، وَابْنِ عَطِيَّةَ الْقَائِلِ: إِنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِـ «يَنْسَخُ» . وَمَعْنَى كَوْنِهِ: فِتْنَةً لَهُمْ أَنَّهُ سَبَبٌ لِتَمَادِيهِمْ فِي الضَّلَالِ وَالْكُفْرِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا مَعَانِيَ الْفِتْنَةِ فِي الْقُرْآنِ سَابِقًا، وَبَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ الْفِتْنَةِ فِي اللُّغَةِ وَضْعُ الذَّهَبِ فِي النَّارِ، لِيَظْهَرَ بِسَبْكِهِ فِيهَا أَخَالِصٌ هُوَ أَمْ زَائِفٌ، وَأَنَّهَا فِي الْقُرْآنِ تُطْلَقُ عَلَى مَعَانٍ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْهَا: الْوَضْعُ فِي النَّارِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [51 \ 13] أَيْ: يُحْرَقُونَ بِهَا، وَقَوْلُهُ تَعَالَى إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْآيَةَ [85 \ 10] أَيْ: أَحْرَقُوهُمْ بِنَارِ الْأُخْدُودِ عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَيْنِ، وَمِنْهَا: الِاخْتِبَارُ وَهُوَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالَاتِهَا فِي الْقُرْآنِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ [64 \ 15] وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [21 \ 35] وَقَوْلِهِ تَعَالَى وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ [72 \ 16 - 17] وَمِنْهَا: نَتِيجَةُ الِابْتِلَاءِ إِنْ كَانَتْ سَيِّئَةً كَالْكُفْرِ وَالضَّلَالِ ; كَقَوْلِهِ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [2 \ 193] أَيْ: شِرْكٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [2 \ 193] وَقَوْلِهِ فِي الْأَنْفَالِ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [8 \ 39] وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» الْحَدِيثَ، فَالْغَايَةُ فِي الْحَدِيثِ مُبَيِّنَةٌ لِلْغَايَةِ فِي الْآيَةِ

ص: 289

لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ الْقُرْآنُ بَعْدَ الْقُرْآنِ السُّنَّةُ، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ هُنَا لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَقَدْ جَاءَتِ الْفِتْنَةُ فِي مَوْضِعٍ بِمَعْنَى الْحُجَّةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْأَنْعَامِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [6 \ 23] أَيْ حُجَّتُهُمْ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ مَرَضَ الْقَلْبِ فِي الْقُرْآنِ يُطْلَقُ عَلَى نَوْعَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: مَرَضٌ بِالنِّفَاقِ وَالشَّكِّ وَالْكُفْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا الْآيَةَ [2 \ 10] وَقَوْلُهُ هُنَا لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [22 \ 53] أَيْ: كُفْرٌ وَشَكٌّ.

وَالثَّانِي: مِنْهُمَا إِطْلَاقُ مَرَضِ الْقَلْبِ عَلَى مَيْلِهِ لِلْفَاحِشَةِ وَالزِّنَى، وَمِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ [33 \ 32] أَيْ: مَيْلٌ إِلَى الزِّنَى وَنَحْوِهِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي انْطِوَاءَ الْقَلْبِ عَلَى الْأُمُورِ الْخَبِيثَةِ: مَرَضًا وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي لُغَتِهِمْ وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:

حَافِظٌ لِلْفَرْجِ رَاضٍ بِالتُّقَى

لَيْسَ مِمَّنْ قَلْبُهُ فِيهِ مَرَضُ

وَقَوْلُهُ هُنَا وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ [22 \ 53] قَدْ بَيَّنَّا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الدَّالَّةَ عَلَى سَبَبِ قَسْوَةِ الْقُلُوبِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً [2 \ 74] وَآيَةُ الْحَجِّ هَذِهِ تُبَيِّنُ أَنَّ مَا اشْتُهِرَ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ.

مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ هُوَ مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَحْيٌ، وَلَمْ يُؤْمَرْ بِتَبْلِيغِهِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ هُوَ النَّبِيُّ الَّذِي أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ الْآيَةَ [22 \ 52] ، يَدُلُّ عَلَى أَنْ كُلًّا مِنْهُمَا مُرْسَلٌ، وَأَنَّهُمَا مَعَ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا تَغَايُرٌ وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ الَّذِي هُوَ رَسُولٌ أُنْزِلَ إِلَيْهِ كِتَابٌ وَشَرْعٌ مُسْتَقِلٌّ مَعَ الْمُعْجِزَةِ الَّتِي ثَبَتَتْ بِهَا نُبُوَّتُهُ، وَأَنَّ النَّبِيَّ الْمُرْسَلَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الرَّسُولِ، هُوَ مَنْ لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ كِتَابٌ وَإِنَّمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إِلَى شَرِيعَةِ رَسُولٍ قَبْلَهُ، كَأَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا يُرْسَلُونَ وَيُؤْمَرُونَ بِالْعَمَلِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ ; كَمَا بَيَّنَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا الْآيَةَ [5 \ 44] وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ أَيْ: تَخْشَعَ وَتَخْضَعَ وَتَطْمَئِنَّ.

ص: 290