الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وذكر الشيخ محمد الأمين رحمه الله: "أن الأشد يتناول البلوغ ويتناول ما ذكر آنفاً وغيره ومن إطلاقه على الخمسين قول الشاعر:
أخو خمسين مجتمع أشدي
…
ونجذنى1 مداورة2 الشئون
وقال الألوسي رحمه الله: "وأياً ما كان فهو من الشدة أي القوة أو الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع، ومنه قول عنترة:
عهدي به شد النهاركأنما
…
خضب الليان ورأسه بالعظلم3
وقول الآخر:
تطيف به شد النهار ضعينة4
…
طويلة أنقاء اليدين سحوق5
والذي يظهر لي والله أعلم أن المراد بالأشد في شأن اليتيم بلوغ الحلم مع حسن التصرف وهو المبين في قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} 6.وبلوغ الحلم هو بلوغ النكاح، لكنه مشروط بإيناس الرشد. فكم من كبير غير رشيد ولا يحسن التصرف وهذا ما رجحه الشوكاني رحمه الله قال: "والأولى في تحقيق بلوغ الأشد، أنه البلوغ إلى سن التكليف مع إيناس الرشد، وهو أن يكون في تصرفاته بماله سالكاً مسلك العقلاء، لا مسلك أهل السفه والتبذير"7.واستدل رحمه الله بالآية السابقة.
الإضاح
…
الإيضاح
يقول تعالى في هذه الوصية: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} (الأنعام: من الآية152) إن مما حرم الله عزوجل على عباده مقاربة مال اليتيم، والدنو منه باتخاذ الأسباب الموصولة إليه بمعنى أنه لا يجوز لمسلم أن يدنو من سبب يؤدي به التصرف في مال اليتيم ومقارفته والمنع موجه لكل من ولي أمر يتيم
1 رجل منجذّ: مجرب أحكمته الأمور. والبيت لسحيم بن وثيل. وفي أضواء البيان: أثيل (الصحاح 2/542)(أضواء البيان: 2/279) .
2 كالمعالجة: أي معالجة الأمور وتصريفها، أكسبني ذلك حكمة ونباهة. (انظر الصحاح 1/423) .
3 بكسر العين واللام، وسكون الظاء المعجمة؛ صبغ أحمر، وقيل: هو الوسمة، شجر له ورق يختضب به.
4 أي مضعونة وهي الناقة. ومعنى سحوق: طويلة. (الصحاح 1/571)(وانظر الروح 8/49) .
5 أي مضعونة وهي الناقة. ومعنى سحوق: طويلة. (الصحاح 1/571)(وانظر الروح 8/49) .
6 الآية (6) من النساء.
7 فتح القدير 2/79.
مباشرة، أو بواسطة وليه أو وصيه القائم على شئونه. وهذا نهي عن جميع التصرفات التي لا تعود بنفع ولا تدفع ضررا.
{إِلَاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَن} (الأنعام: من الآية152) :
إلا بالصفة الحسنة وهي العمل الذي يقوم به صلاح ماله وتنميته وحفظه من الضياع، فإن الله عز وجل أباح لكل من يقوم على أمر يتيم أن يتصرف بهذا الشرط في أمواله فيصرفه فيما يعود عليه بالنفع يجتهد في رجحان مصلحته من استثماره، والإنفاق منه على تربيته وتعليمه، وما يصلح به معاشه ومعاده، وهذا باب عظيم من أَبواب الشريعة الإسلامية. ألا ترى أن الرب عز وجل من بالغ حكمته ولطفه بعباده الكافل والمكفول. نهى عن قرب مال اليتيم، لأن النهي عن قرب الشيء أبلغ من النهي عنه؛ لأنه يتضمن النهي عن الأسباب والوسائل المؤدية إليه، والتصرفات التي توقع فيه، والنهي عن قرب الشيء يتضمن أيضاً النهي عن الشبهات التي تحتمل التأويل فيه، فيجد المسلم المتقي إذ يعدها هضماً لحق اليتيم، ولا يقع فيها إلا طامع يرى أنها بالتأويل مما يحل، وهذا باب من الشر يغلق بفهم النهي عن قرب الشيء. فليحذر المسلم مواطن الانزلاق فإن فيها مكامن خطر لا ينجو منها إلا من حفظه الله. والأخذ بالأحوط من أسباب الحفظ والسلامة.
{حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} (الأنعام: من الآية152) :
هذا القيد غاية لإباحة التصرف في مال اليتيم بما يصلحه، ومن إصلاحه منع اليتيم نفسه منه حتى يكون راشداً في تصريف ماله كغيره من العقلاء. فإن الولي أو الوصي ممكّن شرعاً من منع اليتيم من تبديد ماله وإضاعته، أو الإسراف فيه. فالقيد المذكور غاية لما يفهم من الاستثناء، لا للنهي كأنه قيل:"احفظوا مال اليتيم حتى يبلغ، فإذا بلغ فادفعوا إليه ماله"، كما في قوله عز وجل:{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} (النساء: من الآية6) وإن مما يجدر التنبيه إليه أن النهي عن قرب مال اليتيم عام فلا يجوز التصرف في ماله بما يفسده من قبل أي أحد ومن وقع في شيء من ذلك فإنه مؤاخذ مهما بعد وإذا كان النهي يتناول الولي والوصي بالدرجة الأولى فهو لغيرهما من باب الأولى، ثم إن على المسلم أن يحذر هذا الأمر أشد الحذر وأن يتعامل مع المسلمين وفق ما شرع الله لاسيما في هذا الزمان الذي عبدت فيه المادة وكثر أتباع الدرهم والدينار ومن تأمل هذه الوصية وما جاء في أمر اليتيم من الآيات يعلم علم اليقين ما في نظام الإسلام من سعادة وحماية لكل فرد؛ إن حماية الأموال تقوم على أساسين هامين في حياة كل فرد:
1-
القوة المادية؛ قوة اليد.
2-
القوة الفكرية؛ قوة الرشد والعقل، وتدبير الأمور.
ومن ألقى نظرة على ما كان عليه المجتمع الجاهلي يجد أن أصحاب الأفكار المادية لا يحترمون إلا القوة ولا يخضعون إلا للأقوياء. ومن هنا نعلم الشرع حينما بالغ في الوصية باليتيم إنما يعطيه الحصانة والحفظ من أي اعتداء. وإذا كانت معاناة اليتيم في ذلك المجتمع بالغة الصعوبة فإنه في هذا العصر عصر الماديات، والأساليب الماكرة الخادعة أحوج ما يكون إلى أن يعيش في ظل الإسلام الذي وفر له الحماية الكافية. لأن اليتيم في غير المجتمع الإسلامي لا يقدر على حماية نفسه وماله إلا إذا بلغ قوة الساعد وحصافة العقل، وكان رشيدا في عقله وأخلاقه وتجاربه ولن يحصل مع هذا على الحماية الكافية لكثرة الغش وأساليب الحيل الماكرة. أما الإسلام فإنه يوفر له الحماية الكاملة من خلال نظامه العام. طالما هو في حاجة إليها، ولا غنى لأحد عنها لكنه عند إيناس الرشد، وبلوغ الحلم، جاز له أن يستقل بنفسه والنظر لها، لمعرفته بما يصلح شأنه، وبصره بوجوه الأخذ والعطاء، لأنه في هذه الحال يزول عنه اسم اليتم ومعناه، من الحجر وغيره، أما إذا بلغ الحلم وهو مستمر في غرارته وسفهه، متماد في جهالته فإنه في هذه الحال يزول عنه اسم اليتم حقيقة، ويبقى عليه حكم الحجر، لقصور فكره عن إدارة شئونه. وعلى أي حال فكم للإسلام من ميزة في هذا الباب وغيره، إن الجاهليين كانوا لا يتحرجون من التصرف في أموال اليتامى، بحق وباطل، فيأخذون أموال اليتامى، ويبدلونها بأموالهم، فيقول الرجل منهم: مائة بمائة، فنهى الله عباده عن ذلك فقال:{وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} 1. وكانوا يتسلطون على أموال اليتامى؛ بالأكل والانتفاع فنهى الله عباده عن ذلك فقال: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} 2أي لا تضموا أموالهم إلى أموالكم لتنتفعوا بها في الأكل وغيره. وقد توعد الله عز وجل أكلة أموال اليتامى، قال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} 3 وقد خرج النهي عن الأكل مخرج الغالب؛ وإلا فالإحراق والإغراق وكل إتلاف له محرم شرعاً ولا يدخل في هذا ما أباح الله للولي الفقير أن يأكل بالمعروف4؛ لأن الإباحة مشروطة بأن يكون فقيراً، وأن يأكل بالمعروف.
1 الآية 2 من النساء.
2 الآية 2 من النساء.
3 الآية 10 من النساء.
4 لمزيد العلم انظر: الروح 8/45، المنار 8/190، الأحكام 308.