المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سورة الحديد   [مدنية] ، وهي تسع وعشرون آية. عن العرباض بن سارية - اللباب في علوم الكتاب - جـ ١٨

[ابن عادل]

الفصل: سورة الحديد   [مدنية] ، وهي تسع وعشرون آية. عن العرباض بن سارية

سورة الحديد

[مدنية] ، وهي تسع وعشرون آية.

عن العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ ب " المسبحات " قبل أن يرقد، ويقول:" إن فيهن آية أفضل من ألف آية ".

ص: 452

يعني ب " المسبحات ":‌

‌ الحديد

والحشر والصف والجمعة والتغابن. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} .

ص: 452

أي: مجّد الله ونزّهه عن السوء.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: صلى لله ما في السموات من خلق من الملائكة والأرض من شيء فيه روح، أو لا روح فيه.

وقيل: هو تسبيح الدلالة.

وأنكر الزجَّاج هذا وقال: لو كان هذا تسبيح الدلالة، وظهور آثار الصنعة لكانت مفهومة، فلم قال:{ولكن لَاّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] .

وإنما التسبيح مقال، واستدل بقوله تعالى:{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء: 79] ، ولو كان هذا التسبيح تسبيح دلالة، فأي تخصيص لداود؟ .

وقال القرطبي: هذا هو الصحيح.

فصل في الكلام على الفعل سبح

هذا الفعل عدي باللام تارة كهذه السورة، وأخرى بنفسه كقوله تعالى:{وَسَبِّحُوهُ} [الأحزاب: 42] ، وأصله التعدي بنفسه، لأن معنى «سبحته» : بعدته عن السوء، فاللام إما أن تكون مزيدة كهي في نصحت لزيد، ونصحته، وشكرته، وشكرت له؛ إذ يقال: سبحت الله تعالى، قال:{وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] . وإما أن تكون للتعليل، أي: أحدث التسبيح لأجل الله تعالى.

وجاء في بعض الفواتح «سبَّح» بلفظ الماضي، وفي [بعضها] بلفظ المضارع، وذلك إشارة إلى أن هذه الأشياء مسبحة في كل الأوقات، لا يختص بوقت دون وقت، بل هي مسبحة أبداً في الماضي، وستكون مسبحة أبداً في المستقبل.

قوله: {وَهُوَ العزيز الحكيم} .

«العزيز» : الغالب القادر الذي لا ينازعه شيء، وذلك إشارة إلى كمال القدرة.

«الحكيم» : الذي يفعل أفعاله على وفق الحكمة والصواب.

قوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} .

جملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب.

ص: 453

وحقيقة «المُلْك» عبارة عن نفوذ الأمر، فهو سبحانه وتعالى المالك القادر القاهر.

وقيل: أراد خزائن المطر والنبات والرِّزق.

قوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} .

يجوز في هذه الجملة ثلاثة أوجه:

أحدها: أنها لا محل [لها] كالتي قبلها.

والثاني: أنها خبر مبتدأ مضمر، أي: هو له ملك.

الثالث: أنه الحال من الضمير في «له» فالعامل فيها الاستقرار.

ولم يذكر مفعول الإحياء والإماتة؛ إذ الغرض ذكر الفعلين [فقط، والمعنى ليميت] الأحياء في الدنيا، ويحيي الأموات للبعث.

وقيل: هو يحيي النُّطف، وهي أموات، ويميت الأحياء.

قال ابن الخطيب: «وعندي فيه وجه ثالث، وهو أنه ليس المراد منه تخصيص الإحياء والإماتة بزمان معين، وبأشخاص معينين، بل معناه: أنَّه القادر على خلق الحياة والموت، كقوله تعالى:{الذي خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] ، [والمقصود منه] كونه - تعالى - هو المنفرد بإيجاد هاتين الماهيتين على الإطلاق لا يمنعه عنهما مانع.

قوله: {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لا يعجزه شيء.

قوله تعالى: {هُوَ الأول والآخر} الآية.

قال الزمخشري: فإن قلت: [فما معنى» الواو «؟] .

قلت: «الواو» الأولى معناها الدلالة على [أنه الجامع بين الصفتين الأولية] ، والآخرية.

والثالثة على الجامع بين الظُّهور والخفاء.

وأما الوسطى فعلى أنه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين، ومجموع الصفتين الأخريين.

فصل في تفسير الآية

قال القرطبي رحمه الله: اختلف في معاني هذه الأسماء وقد شرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم َ شرحاً يغني عن قول كل قائل.

ص: 454

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «اللَّهُمَّ أنْتَ الأوَّلُ فليسَ قَبلكَ شيءٌ، وأنْتَ الآخرُ فليْسَ بعدكَ شيءٌ، وأنْتَ الظَّاهرُ فليس فوقكَ شيءٌ، وأنْتَ الباطنُ فليْسَ دُونَك شيءٌ، اقْضِ عنَّا الدَّينَ، وأغْنِنَا من الفَقْرِ» ، عنى بالظاهر الغالب، وبالباطن العالم، والله أعلم.

قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .

مما كان أو يكون لا يخفى عليه شيء، وهذا معنى قول ابن عباس.

قال ابن الخطيب: الظَّاهر بحسب الدلائل، والباطن بحسب الحواس.

والقول بأن الباطن هو العالم ضعيف؛ لأنه يلزم منه التكرار في قوله: «وهو بكل شيء عليم بما كان أو يكون» .

فصل في إثبات وحدانية الله

قال ابن الخطيب: احتج كثير من العلماء في إثبات أنَّ الإله واحد بقوله: «هو الأول» ، قالوا: الأول هو الفرد السَّابق، ولهذا لو قال: أول مملوك اشتريته فهو حر، ثم اشترى عبدين لم يعتقا؛ لأن شرط كونه أولاً حصول الفردية، وهنا لم تحصل، فلو اشترى بعد ذلك عبداً واحداً لم يعتق؛ لأن شرط الأولية كونه سابقاً، وهاهنا لم يحصل، فثبت أن الشَّرط في كونه أولاً أن يكون فرداً، فكانت الآية دالة على أنَّ صانع العالم فرد.

قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} .

تقدم [في «الأعراف» ] ، والمقصود منه دلائل القدرة.

{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض} أي: يدخل فيها من مطر وغيره.

{وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من نباتٍ وغيره.

{وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء} من رزق ومطر وملك.

{وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} يصعد فيها من الملائكة، وأعمال العباد {وَهُوَ مَعَكُمْ} يعني: بقدرته وسلطانه وعلمه.

{أَيْنَ مَا كُنتُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ينظر أعمالكم ويراها، ولا يخفى عليه شيء منها.

ص: 455

فصل في الكلام على الآية

قال القرطبي: وقد جمع في هذه الآية بين {استوى على العرش} وبين «وهُوَ معكُم» ، والأخذ بالظَّاهر تناقض فدل على أنه لا بد من التأويل، والإعراض عن التأويل اعتراف بالتناقض.

وقد قال أبو المعالي: إن محمداً صلى الله عليه وسلم َ ليلة الإسراء لم يكن بأقرب إلى الله عز وجل من يونس بن متَّى حين كان في بطن الحوت. وقد تقدم.

فصل في تفسير المعية

ذكر ابن الخطيب عن المتكلمين أنهم قالوا: هذه المعية إما بالعلم، وإما بالحفظ والحراسة، وعلى التقديرين فالإجماع منعقد على أنَّه سبحانه وتعالى ليس معنا بالمكانِ والحيز والجهةِ، فإذن قوله:{وَهُوَ مَعَكُمْ} لا بد فيه من التأويل، فإذا جوَّزنا التأويل في موضع وجب تأويله في سَائر المواضع.

قوله تعالى: {لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض} .

هذا التكرير للتأكيد، أي: هو المعبود على الحقيقة.

{وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} أي: أمور الخلائق في الآخرة.

وقد تقدم في البقرة «: أن الأخوين وابن عامر يقرءون:» تَرْجِعُ «بفتح التاء وكسر الجيم مبنيًّا للفاعل، والباقون: مبنيًّا للمفعول في جميع القرآن.

وقال أبو حيان هنا: وقرأ الجمهور:» تُرْجَعُ «مبنيًّا للمفعول، والحسن وابن أبي إسحاق والأعرج مبنيًّا للفاعل.

وهذا عجيب منه وقد وقع له مثل ذلك كما تقدم.

قوله: {يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل} .

أي: ما ينتقص من النهار فيزيد في الليل، وما ينتقص من الليل فيزيد في النهار.

{وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} . أي: لا تخفى عليه الضمائر، ومن كان بهذه الصفة، فلا يجوز أن يعبد سواه.

قوله تعالى: {آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} .

ص: 456

أي: صدقوا أن الله واحد، وأن محمداً عبده ورسوله.

» وأنفِقُوا «: تصدقوا وقيل: أنفقوا في سبيل الله.

وقيل: المراد: الزكاة المفروضة.

وقيل: غيرها من وجوه الطاعات، وما يتقرب به.

وقوله تعالى: {مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} دليل على أن أصل الملك لله سبحانه وتعالى، وأن العبد ليس له فيه إلَاّ التصرف الذي يرضي الله تعالى، فيثيبه على ذلك بالجنة، فمن أنفق منها في حقوق الله، وهان عليه الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره، إذا أذن له فيه، كان له الثواب الجزيل.

وقال الحسن:» مُستخْلفِين فيه «بوراثتكم إياه عمن كان قبلكم، وهذا يدل على أنها ليست بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة النُّواب والوكلاء، فاغتنموا الفوز، فإنها بإقامة الحق قبل أن تزال عنكم إلى من بعدكم.

{فالذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم، وأنفقوا في سبيل الله لهم أجر كبير} وهو الجنة.

فصل في الكلام على الآية

قال القاضي: هذه الآية تدل على أن هذا الأجر لا يحصل بالمال وحده حتى يضاف إليه هذا الإنفاق، فمن أخل بالواجب من زكاة وغيرها فلا أجر له.

قال ابن الخطيب: وهذا استدلال ضعيف؛ لأنه لا يلزم من نفي الأجر الكبير نفي أصل الأجر، فلم قلتم: إنها [تدل على أنه] لا أجر له أصلاً؟ .

فإن قيل: قوله» آمنوا بالله «خطاب مع من عرف الله أو مع من لم يعرف الله، فإن كان الأول كان ذلك أمراً بأن يعرف من عرفه، وذلك أمر بتحصيل الحاصل، وهو محال.

وإن كان الثاني كذلك كان ذلك الخطاب متوجِّهاً على من لم يكن عارفاً به، ومن لم يكن عارفاً يستحيل أن يكون عارفاً بأمره، فيكون الأمر متوجِّهاً على من يستحيل أن يعرف كونه مأموراً بذلك الأمر، وهو تكليف ما لا يُطاق.

قال ابن الخطيب: والجواب من النَّاس من قال: معرفة وجود الصَّانع حاصلة للكل، وإنما المقصود من هذا الأمر معرفة الصفات.

ص: 457

قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ} .

مبتدأ وخبر وحال: أي: أي شيء استقر لكم غير مؤمنين.

قال القرطبي: «هذا استفهام يراد به التوبيخ، أي: أي عذر لكم في ألا تؤمنوا وقد أزيحت العلل» . {والرسول يَدْعُوكُمْ} .

فقوله: {والرسول يَدْعُوكُمْ} جملة حالية من ضمير «تؤمنون» .

قال الزمخشري: «فهما حالان متداخلان» .

و «لتؤمنوا» متعلق ب «يدعو» أي: يدعوكم للإيمان، كقولك:«دعوته لكذا» .

ويجوز أن تكون «اللام» للعلة، أي: يدعوكم إلى الجنة وغفران الله لأجل الإيمان.

وفيه بعد.

وهذه الآية تدل على أنه لا حكم قبل ورود الشرع.

قوله: {وَقَدْ أَخَذَ} . حال أيضاً.

وقرأ العامة: «أخَذ» مبنيًّا للفاعل، وهو الله - تعالى - لتقدّم ذكره.

وقرأ أبو عمرو «أُخِذَ» مبنيًّا للمفعول، حذف الفاعل للعلم به.

و «ميثاقكم» منصوب في قراءة العامة، ومرفوع في قراءة أبي عمرو.

و «إن كنتم» جوابه محذوف، تقديره: فما يمنعكم من الإيمان.

وقيل: تقديره: إن كنتم مؤمنين لموجب ما رتبه، فهذا هو الموجب.

وقدره ابن عطية: إن كنتم مؤمنين فأنتم في رتبة شريفة.

فصل في المراد بهذا الميثاق

قال مجاهد: المراد بالميثاق هو المأخوذ عليهم حين أخرجهم من ظهر آدم، وقال:{أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] .

قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف؛ لأنه - تعالى - إنما ذكر أخذ الميثاق ليكون

ص: 458

ذلك سبباً في أنه لم يبق لهم عُذْر في ترك الإيمان بعد ذلك، وأخذ الميثاق وقت إخراجهم من ظهر آدم غير معلوم للقوم إلَاّ بقول الرسول.

فقبل معرفة تصديق الرسول لا يكون ذلك سبباً في وجوب تصديق الرسول بل المراد بأخذ الميثاق نصب الدلائل والبينات، بأن ركب فيهم العقول، وأقام عليهم الحُجج والدلائل التي تدعو إلى متابعة الرَّسُول، وهذا معلوم لكل أحد، فيكون سبباً لوجوب الإيمان بالرسول.

فصل في حصول الإيمان بالعبد.

قال القاضي: قوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ} يدل على قدرتهم على الإيمان، إذ لا يجوز أن يقال ذلك لمن لا يتمكن من الفعل كما لا يقال: ما لك لا تطول ولا تبيض، فيدل هذا على أن الاستطاعة قبل الفعل، وعلى أن القدرة صالحة للضدين، وعلى أن الإيمان حصل بالعبد لا بخلق الله.

قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي: إذْ كنتم مؤمنين.

وقيل: إن كنتم مؤمنين بالحجج والدليل.

وقيل: إن كنتم مؤمنين بحق يوماً من الأيام، فالآن فقد صحت براهينه.

وقيل: إن كنتم مؤمنين بأن الله خلقكم كانوا يعترفون بهذا.

وقيل: هذا خطاب لقوم آمنوا، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم َ ميثاقهم فارتدوا.

وقوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي: كنتم تقرُّون بشرائط الإيمان.

ص: 459

قوله تعالى: {هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ} .

تقدمت قراءتا «يُنْزِلُ» تخفيفاً وتشديداً في «البقرة» .

وزيد بن علي: «أنْزَلَ» ماضياً.

ص: 459

وقوله: {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} يعني القرآن.

وقيل: المعجزات، أي: لزمكم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم َ لما معه من المعجزات والقرآن أكبرها وأعظمها.

{لِّيُخْرِجَكُم} أي: بالقرآن.

وقيل: بالرسول.

وقيل: بالدعوة، {مِّنَ الظلمات} ، وهو الشرك والكفر.

{إِلَى النور} وهو الإيمان {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .

فصل في إرادة الله للإيمان

قال القاضي: هذه الآية تدل على إرادته للإيمان، أكد ذلك بقوله:{وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} .

فإن قيل: أليس يدل ظاهرها على أنه يخرج من الظلمات إلى النور، فيجب أن يكون الإيمان من فعله؟ .

قلنا: إذا كان الإيمان بخلقه لا يبقى لقوله: {هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم} [الحديد: 9] معنى؛ لأن ما يخلقه لا يتغير، بل المراد أنه يلطف بهم.

قال ابن الخطيب: وهذا على حسنه معارض بالعلم؛ لأنه علم أن إيمانهم لا يوجد فقد كلفهم بما لا يوجد، فكيف يعقل مع هذا أنه أراد منهم الخير والإحسان، وحمل بعضهم قوله:{وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم َ ولا وجه لهذا التخصيص.

قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَاّ تُنفِقُواْ} .

الكلام فيه كالكلام في قوله: {وَمَا لَنَآ أَلَاّ نُقَاتِلَ} [البقرة: 246]، فالأصل:«في ألا تنفقُوا» .

فلما حذف حرف الجر جرى الخلاف المشهور، وأبو الحسن يرى زيادتها كما تقدم تقريره في البقرة.

قوله: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ} جملة حالية من فاعل الاستقرار أو مفعوله، أي: وأي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله، والحال أن ميراث السموات والأرض له، فهذه حال منافية.

ص: 460

فصل في الكلام على الإنفاق

لما أمر أولاً بالإيمان وبالإنفاق، ثم أكَّده في الآية المتقدمة بإيجاب الإيمان بالله أتبعه في هذه الآية بتأكيد إيجاد الإنفاق، والمعنى: أنكم ستموتون فتورثون، فهلا قدّمتموه في الإنفاق على طاعة الله؟ .

وتحقيقه: أن المال لا بد وأن يخرج من اليد، إما بالموت وإما بالإنفاق في سبيل الله، فإن خرج بالموت كان أثره اللَّعنُ والمقتُ والطرد والعقاب، وإن خرج بالإنفاق في سبيل الله كان أثره المدح والثواب وإذا كان لا بد من خروجه من اليد، فكل عاقل يعلم أن خروجه عن اليد بحيث يستعقب المدح والثواب أولى منه مما يستعقب اللعن والعقاب، ثم لما بين تعالى أن الإنفاق في سبيل الله فضيلة بيَّن أن المسابقة في الإنفاق تمام الفضيلة، فقال:{لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ} .

قوله: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ} .

في فاعل «يستوي» وجهان:

أظهرهما: أنه «مَنْ أنفق» وعلى هذا فلا بد من حذف معطوف يتم به الكلام، فقدره الزمخشري: لا يستوي منكم من أنفق قبل فتح «مكة» وقوة الإسلام، ومن أنفق من بعد الفتح، [فحذف لوضوح الدلالة] .

[وقدره أبو البقاء: «ومن لم ينفق» .

قال: ودلّ على المحذوف قوله: {مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح} ] .

والأول أحسن؛ لأن السِّياق إنما جيء بالآية ليفرق بين النَّفقتين في زمانين.

والثاني: أن فاعله ضمير يعود على الإنفاق، أي: لا يستوي جنس الإنفاق إذ منه ما وقع قبل الفتح، ومنه ما وقع بعده.

فهذان النَّوعان متفاوتان، وعلى هذا فيكون «من» مبتدأ، و «أولئك» مبتدأ ثاني، و «أعظم» خبره، والجملة خبر «من» . وهذا ينبغي ألَاّ يجوز ألبتة.

وكأن هذا المعرب غفل عن قوله: «منكم» ، فلو أعرب هذا القائل «منكم» خبراً مقدماً، و «من» مبتدأ مؤخراً، والتقدير: منكم من أنفق من قبل الفتح، ومنكم من لم ينفق قبله ولم يقاتل، وحذف هذا لدلالة الكلام عليه لكان سديداً، ولكنه سَهَا عن لفظة «منكم» .

ص: 461

فصل في المراد بالفتح

أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح فتح «مكة» .

وقال الشعبي والزهري: فتح «الحديبية» .

قال قتادة: كان قتالان، أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى؛ لأن القتال والنفقة قبل فتح «مكة» أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك، وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لأن حاجة النَّاس كانت أكثر لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق، والأجر على قدر النَّصب.

قال مالك رضي الله عنه: ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم لقوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ} .

قال الكلبي: نزلت في أبي بكر وفيها دليل واضح على تفضيل أبي بكر وتقديمه؛ لأنه أوَّل من أسلم، وأول من أنفق في سبيل الله.

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أوَّل من أظهر الإسلام بسيفه النبي صلى الله عليه وسلم َ وأبو بكر.

وعن ابن عمر قال: «كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم َ وعنده أبو بكر، وعليه عباءة قد خلَّلها في صدره بخلالٍ، فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام ُ فقال: يا نبي الله، ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال؟ قال:» أنْفَقَ مالهُ عليَّ قَبْلَ الفَتحِ «، قال: فإن الله تعالى يقول لك: اقرأ على أبي بكر السلام، وقل له: أنت راضٍ في فقرك أم ساخط؟ فقال أبو بكر: إني عن ربي لَراضٍ، قال: فإن الله - تعالى - يقول لك قد رضيت عنك كما أنت عني راضٍ، فبكى أبو بكر، فقال جبريل: والذي بعثك يا محمد بالحق لقد تخلَّلت حملةُ العرش بالعبى منذ تخلَّل صاحبك هذا بالعباءة» .

ولهذا قدمه الصحابة على أنفسهم وأقرُّوا له بالتقدم والسبق.

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سبق النبي صلى الله عليه وسلم َ وثنى أبو بكر وثلث عمر، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد [المفتري] ثمانين جلدة وطرح الشهادة.

ص: 462

فصل في التقدم والتأخر في أحكام الدين

فإن قلت: التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا، فأما في أحكام الدين فقالت عائشة رضي الله عنها: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أن ننزل النَّاس منازلهم. وأعظم المنازل مرتبة الصلاة.

وقد قال صلى الله عليه وسلم َ في مرضه: «مُرُوا أبَا بَكْر فليُصَلِّ بالنَّاسِ» .

وقال: «يَؤم القَوْمَ أقرؤهُم لِكتابِ اللَّه» .

وقال: «وليؤمكما أكبركما» .

وفهم منه العلماء أنه أراد كبر المنزلة، كما قال عليه الصلاة والسلام ُ:«الوَلَاء للْكِبَرِ» ولم يَعْنِ كبر السن.

وقد قال مالك وغيره: إن للسن حقًّا، وراعاهُ الشَّافعي وأبو حنيفة، وهو أحق بالمراعاة.

وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين، فمن قدم في الدين قدم في الدنيا.

وفي الحديث: «ليْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوقِّر كبِيْرنَا ويرْحَمْ صَغِيْرَنا ويَعرفْ لِعَالِمنَا حقَّهُ» .

وفي الحديث أيضاً: «مَا أكْرَمَ شابٌّ شَيْخاً لسنِّهِ إلَاّ قيَّضَ اللَّهُ لهُ عِندَ سنِّهِ مَنْ يُكرمهُ» .

قوله: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} .

قراءة العامة: بالنَّصب على أنَّه مفعول مقدم، وهي مرسومة في مصاحفهم «وكلاًّ» بألف.

وابن عامر: برفعه.

ص: 463

وفيه وجهان:

أظهرهما: أنه ارتفع على الابتداء، والجملة بعده خبره، والعائد محذوف أي: وعده الله.

ومثله: [الرجز]

4716 -

قَدْ أصْبَحَتْ أمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي

عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ

برفع «كلُّه» أي: لم أصنعه.

والبصريون [رحمة الله عليهم] لا يجيزون هذا إلَاّ في شعر، كقوله:[السريع]

4717 -

وخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتِنَا

بالحَقِّ لا يَحْمَدُ بالبَاطِلِ

ونقل ابن مالك الإجماع من البصريين والكوفيين على جواز ذلك إن كان المبتدأ «كُلاًّ» وما أشبهها في الافتقار والعموم.

قال شهاب الدين لم أره لغيره وقد تقدم نحو من ذلك في سورة «المائدة» ، عند قوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} [المائدة: 50] ولم يرو قوله: «كله لم أصنع» إلا بالرفع مع إمكان أن تنصبه، فتقول:«كله لم أصنع» مفعولاً مقدماً.

قال أهل البيان: لأنه قصد عموم السَّلب لا سلب العموم، فإن الأول أبلغ، وجعلوا من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام ُ «كُلُّ ذلِكَ لَمْ يَكُنْ» .

ولو قال: لم يكن كل ذلك، لكان سلباً للعموم، والمقصود عموم السَّلب.

قال الشيخ عبد القاهر: المعنى يتفاوت بالرفع والنصب، فمع الرفع يفيد أنه لم يفعل شيئاً من الأشياء، ومع النَّصْب يفيد أنه يفعل المجموع، ولا يلزم أنه لم يفعل البعض، بل إن قلنا بدليل الخطاب دل على أنه فعل البعض.

والثاني: أن يكون «كلّ» خبر مبتدأ محذوف، و {وعد الله الحسنى} صفة لما قبله، والعائد محذوف، أي:«وأولئك كل وعد الله الحسنى» .

فإن قيل: الحذف موجود أيضاً فقد عدتم لما فررتم منه؟ .

فالجواب: أن حذف العائد من الصفة كثير بخلاف حذفه من الخبر.

ومن حذفه من الصفة قوله: [الوافر]

ص: 464

4718 -

ومَا أدْرِي أغَيَّرَهُمْ تَنَاءٍ

وطُولُ العَهْدِ أمْ مَالٌ أصَابُوا

أي: أصابوه، ومثله كثير، وهي في مصاحف «الشام» مرسومة:«وكلّ» دون ألف فقد وافق كل مصحفه، و «الحسنى» مفعول ثان، والأول محذوف على قراءة الرفع.

وأمَّا النصب فالأول مقدّم على عامله.

ومعنى الآية: أن المتقدمين السَّابقين والمتأخرين اللَاّحقين وعدهم الله جميعاً الجنة مع تفاوت الدرجات.

{والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} أي: أنه لما وعد السَّابقين والمحسنين بالثواب فلا بد وأن يكون عالماً بالخيرات، وبجميع المعلُومات حتى يمكنه إيصال الثَّواب إلى المستحقين، إذ لو لم يكن عالماً بهم، وبأفعالهم على سبيل التفصيل لما أمكن الخروج من عهدة الوعد بالتَّمام، فلهذا السَّبب أتبع هذا الوعد بقوله:{والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .

ص: 465

قوله تعالى: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} . وقد تقدم في «البقرة» .

ندب إلى الإنفاق في سبيل الله.

وقال ابن عطية: هنا بالرَّفع على العطف، أو القطع والاستئناف.

وقرأ عاصم: «فيُضَاعفه» بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام، وفي ذلك قلقٌ.

قال أبو علي: لأن السؤال لم يقع على القرضِ، وإنما وقع عن فاعل القَرْض، وإنما تنصب الفاء فعلاً مردوداً على فعل مستفهم عنه، لكن هذه الفرقة حملت ذلك على المعنى، كأن قوله:{مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ} بمنزلة قوله: «أيقرض الله أحدٌ» . انتهى.

ص: 465

وهذا الذي قاله أبو علي ممنوع، ألا ترى أنه ينصب بعد «الفاء» في جواب الاستفهام بالأسماء، وإن لم يتقدم فعل نحو: أين بيتك فأزورك ومثل ذلك: من يدعوني فأستجيب له، ومتى تسير فأرافقك، وكيف تكون فأصحبك، فالاستفهام إنما وقع عن ذات الدَّاعي، وعن ظرف الزَّمان، وعن الحال لا عن الفعل.

وقد حكى ابن كيسان عن العرب: «أين ذهب زيدٌ فنتبعه، ومن أبوك فنكرمه» .

فصل في المقصود بالقرض

ندب الله تعالى إلى الإنفاق في سبيل الله، والعرب تقول لكل من فعل فعلاً حسناً:«قد أقرض» .

كما قال بعضهم رحمة الله عليه: [الرمل]

4719 -

وإذَا جُوزيتَ قَرْضاً فاجزه

إنَّما يَجزي الفَتَى لَيْسَ الجَمَلْ

وسماه قرضاً؛ لأن القرض أخرج لاسترداد البدل، أي: من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدله الله بالأضعاف الكثيرة.

قال الكلبي: «قرضاً» أي: صدقة.

«حسناً» أي: محتسباً من قلبه بلا منٍّ ولا أدى.

{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} : ما بين سبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف.

وقيل القَرْض الحسن هو أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.

وقال زيد بن أسلم: هو النَّفقة على الأهل.

وقال الحسن: التطوُّع بالعبادات.

وقيل: عمل الخير.

وقال القشيري: لا يكون حسناً حتى يجمع أوصافاً عشرة:

الأول: أن يكون من الحلال، لقوله صلى الله عليه وسلم َ:«لا يَقْبَلُ اللَّهُ صلاةً بِغَيْرِ طهُورٍ، ولا صَدَقةً مِنْ غُلُولٍ» .

ص: 466

الثاني: أن يكون من أكرم ما يمكنه؛ ولا يخرج الرديء كقوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267] .

الثالث: أن يتصدق به وهو يحبّه، ويحتاج إليه لقوله تعالى:{لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وقوله: {وَآتَى المال على حُبِّهِ} [البقرة: 177] .

وقال عليه الصلاة والسلام ُ «أفْضَلُ الصَّدقةِ أنْ تُعْطيَهُ وأنْتَ صَحيحٌ شَحِيحٌ تأمْلُ العَيْشَ ولا تمهلُ حتَّى إذا بلغتِ التَّراقي قُلْتَ: لفُلانٍ كذا، ولفُلانٍ كَذَا» .

الرابع: أن تصرف صدقته إلى الأحوج فالأحوج، ولذلك خص تعالى أقواماً بأخذها، وهم أهل المبهمات.

الخامس: أن تخفي الصَّدقة لقوله تعالى: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 271] .

السادس: ألَاّ يتبعها منًّا ولا أذى، لقوله تعالى:{لَا تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} [البقرة: 264] .

السابع: أن يقصد بها وجه الله تعالى، ولا يُرائِي لقوله تعالى:{إِلَاّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى} [الليل: 20] .

الثامن: أن يستحقر ما يعطي وإن كثر؛ لأن الدُّنيا كلها قليلة، قال تعالى:{وَلَا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] في أحد التأويلات.

التاسع: أن يكون من أحبّ الأموال إليه، وأن يكون كثيراً لقوله عليه الصلاة والسلام ُ «أفْضَلُ الرِّقابِ أغْلاهَا وأنفَسُهَا عِنْدَ أهْلِهَا» .

العاشر: ألا يرى عزَّ نفسه، وذُلّ الفقير، بل يكون الأمر بالعكس.

{فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} يعني الجنَّة.

قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى المؤمنين} .

فيه أوجه:

أحدها: أنه معمول للاستقرار العامل في «له أجر» أي: استقر له أجر في ذلك اليوم.

ص: 467

الثاني: أنه مضمر، أي: اذكر، فيكون مفعولاً به.

الثالث: أنهم يُؤجَرُون «يوم ترى» فهو ظرف على أصله.

الرابع: أن العامل فيه «يسعى» أي: يسعى نور المؤمنين والمؤمنات يوم تراهم هذا أصله.

الخامس: أن العامل فيه «فيُضَاعفه» . قالهما أبو البقاء.

قوله: «يَسْعَى» حال؛ لأن الرُّؤية بصرية، وهذا إذا لم تجعله عاملاً في «يوم» ، و «بين أيديهم» ظرف للسعي، ويجوز أن يكون حالاً من «نورهم» .

قوله: «وبأيمانهم» ، أي: وفي جهة أيمانهم.

وهذه قراءة العامة، أعني بفتح الهمزة جمع يمين.

وقيل: الباء بمعنى «عن» أي: عن جميع جهاتهم، وإنما خص الأيمان لأنها أشرف الجهات.

وقرأ أبو حيوة وسهل بن شعيب: بكسرها.

وهذا المصدر معطوف على الظرف قبله، والباء سببية، أي: يسعى كائناً وثابتاً بسبب أيمانهم.

وقال أبو البقاء: تقديره: وبأيمانهم استحقُّوه، أو بأيمانهم يقال لهم: بُشْرَاكُم.

فصل في المراد بهذا اليوم

المراد من هذا يوم المُحاسبة.

واختلفوا في هذا النور.

فقال الحسن: هو الضياء الذي يمرون فيه «بين أيديهم» أي: قدَّامهم.

«وبأيمانهم» ، قال الفرَّاء:«الباء» بمعنى «في» أي: في أيمانهم، أو بمعنى:«عن أيمانهم» .

وقال الضحاك: النور هُداهم، وبأيمانهم كتبهم، واختاره الطبري.

أي: يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم، ف «الباء» على هذا بمعنى «في» ، ويجوز على هذا أن يوقف على «بين أيديهم» ولا يوقف إذا كانت بمعنى «عن» .

ص: 468

وعلى قراءة سهل بن شعيب وأبي حيوة: «وبإيمانهم» بكسر الألف، أراد الإيمان الذي هو ضد الكُفر، وعطف ما ليس بظرف على الظَّرف لأن معنى الظرف الحال، وهو متعلق بمحذوف.

والمعنى: يسعى كائناً بين أيديهم، وكائناً بأيمانهم.

وقيل: أراد بالنور: القرآن.

وعن ابن مسعود: «يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنَّخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نوراً من نوره على إبهام رجله، فيطفأ مرة ويوقد أخرى» .

قال الحسن: ليَسْتَضيئُوا به على الصِّراط.

وقال مقاتل: ليكون لهم دليلاً إلى الجنَّة.

قوله: {بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ} .

«بُشْرَاكم» مبتدأ، و «اليوم» ظرف، و «جنَّات» خبره على حذف مضاف أي: دخول جنَّات وهذه الجملة في محل نصب بقول مُقدَّر، وهو العامل في الظرف، يقال لهم: بُشراكم اليوم دخول جنَّات.

قال القرطبي: «ولا بُدَّ من تقدير حذف المضاف؛ لأن البُشْرَى حدث، والجنة عين، فلا تكون هي هي» .

وقال مكي: وأجاز الفراء نصب «جنَّات» على الحال، ويكون «اليوم» خبر «بشراكم» قال:«وكون» جنَّات «حالاً لا معنى له؛ إذ ليس فيها معنى فعل، وأجاز أن يكون» بُشْرَاكم «في موضع نصب على» يبشرونهم بالبُشْرَى «، وينصب» جنات «بالبشرى وكله بعيد، لأنه يفصل بين الصلة والموصول باليوم» . انتهى.

وعجيب من الفرَّاء كيف يصدر عنه ما لا يتعقّل، ولا يجوز صناعة، كيف تكون جنات حالاً، وماذا صاحب الحال؟ .

ص: 469

وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} حال من الدخول المحذوف، التقدير: بشراكم اليوم دخول الجنة جنات تجري من تحتها الأنهار مقدرين الخلود فيها.

قال القرطبي: «ولا تكون الحال من» بشراكم «لأن فيه فصلاً بين الصلة والموصول، ويجوز أن تكون مما دلّ عليه البشرى كأنه قال: يبشرون خالدين فيها، ويجوز أن يكون الظَّرف الذي هو» اليوم «خبراً عن» بشراكم «، و» جنات «بدلاً من البشرى على تقدير حذف المضاف كما تقدم، و» خالدين «حال حسب ما تقدم» .

فصل في العامل في قوله: «خالدين»

قال شهاب الدِّين: «خالدين» نصب على الحال، والعامل فيها المضاف محذوف، إذ التقدير: بُشْرَاكم دخولكم جنات خالدين فيها، فحذف الفاعل وهو ضمير المخاطب، [وأضيف المصدر لمفعوله، فصار دخول جنات] ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف فيه مقامه في الإعراب، ولا يجوز أن يكون «بشراكم» هو العامل فيها؛ لأنه مصدر، وقد أخبر عنه قبل ذكر متعلقاته، فيلزم الفصل بأجنبي، وظاهر كلام مكي أنه عامل في الحال، فإنه قال:«خالدين» نصب على الحال من الكاف والميم، والعامل في الحال هو العامل في صاحبها فيلزم أن يكون «بشراكم» هو العامل، وفيه ما تقدم من الفصل بين المصدر ومعموله.

فصل في كون الفاسق مؤمناً أم لا

قال ابن الخطيب: تقدم في الكلام البشارة عند قوله: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ} [البقرة: 25] . وهذه الآية تدل على أن المؤمنين لا ينالهم أهوال يوم القيامة؛ لأنه تعالى بين أن هذه صفتهم يوم القيامة من غير تخصيص.

قال الكعبي: هذه الآية تدلّ على أن الفاسق ليس بمؤمن؛ لأنه لو كان مؤمناً لدخل تحت هذه البشارة، ولو كان كذلك لقطع بأنه من أهل الجنَّة؛ [ولما لم يكن كذلك ثبت أنه ليس بمؤمن] .

أجاب ابن الخطيب: [بأنا نقطع بأن الفاسق من أهل الجنة] ، لأنه إما أن يدخل النار، أو أنه ممن دخلها، لكنه سيخرج منها، وسيدخل الجنة، ويبقى فيها أبد الآباد، فإذن يقطع بأنه من أهل الجنة، فسقط الاستدلال.

ص: 470

قوله: «ذلك الفوز» هذه الإشارة عائدة إلى جميع ما تقدم من النور والبشرى بالجنَّات المخلدة.

قوله: {يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات} .

العامل في «يوم» «ذلك الفوز العظيم» .

وقيل: «هو بدل من اليوم الأول» .

وقال ابن الخطيب منصوب ب «اذْكر» مقدًّرا.

واعلم أنه لما شرح حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح حال المنافقين، فقال: يوم يقول.

قوله: {لِلَّذِينَ آمَنُواْ} . «اللام» للتبليغ.

و {انظرونا نقتبس من نوركم} قراءة العامة: «انْظُرونَا أمر من النَّظر» .

وحمزة: «أنْظِرُونا» بقطع الهمزة، وكسر الظَّاء من الإنظار بمعنى الانتظار.

وبها قرأ الأعمش، ويحيى بن وثَّاب، أي: انتظرونا لنلحق بكم، فنستضيء بنوركم.

والقراءة الأولى يجوز أن تكون بمعنى هذه، إذ يقال: نظره بمعنى انتظره، وذلك أنَّه يسرع بالخواص على نُجُب إلى الجنة، فيقول المنافقون: انتظرونا لأنَّا مُشَاة لا نستطيع لحوقكم، ويجوز أن يكون من النظر وهو الإبصار؛ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم، فيضيء لهم المكان، وهذا أليق بقوله:{نقتبس من نوركم} . قال معناه الزمخشري.

إلَاّ أن أبا حيان قال: إن النَّظر بمعنى الإبصار لا يتعدى بنفسه إلا في الشِّعر، إنما يتعدى ب «إلى» .

قوله: {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي: نستضيء من نوركم.

و «القَبَس» : الشعلة من النار أو السِّراج.

قال ابن عبَّاس وأبو أمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة.

ص: 471

قال الماوردي: أظنّها بعد فصل القضاء، ثم يعطون نوراً يمشون فيه.

قال المفسّرون: يعطي الله كل أحد يوم القيامة نوراً على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين [نوراً خديعة لهم، بدليل قوله تعالى: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] .

وقيل: إنما يعطون النور؛ لأن جميعهم أهل دعوة] دون الكافر، ثم يسلب المنافق نوره لنفاقه. قاله ابن عباس.

وقال أبو أمامة: يعطى المؤمن النور، ويترك الكافر والمنافق بلا نور.

وقال الكلبي: بل يستضيء المنافق بنور المؤمنين، [فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحاً وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين، فذلك قول المؤمنين] : {رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التحريم: 8] خشية أن يسلبوه كما سلبه المنافقون، فإذا بقي المنافقون في الظلمة، فإنهم لا يبصرون مواضع أقدامهم، قالوا للمؤمنين:{انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} . قيل: ارجعُوا «وراءكم» ، أي: إلى المواضع التي أخذنا منها النور، فاطلبوا هناك نوراً لأنفسكم، فإنكم لا تقتبسون من نورنا، فلما رجعوا وانعزلوا في طلبِ النور «ضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ» .

وقيل: معناه هلَاّ طلبتم النور من الدنيا بأن تؤمنوا؟ .

قوله: «وراءكم» فيه وجهان:

أظهرهما: أنه منصوب ب «ارجعوا» على معنى ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور، فالتمسوا هناك ممن يقتبس، أو ارجعوا إلى الدُّنيا فالتمسوا نوراً بتحصيل سببه، وهو الإيمان، أو يكون معناه: فارجعوا خائبين وتنحّوا عنَّا فالتمسوا نوراً آخر، فلا سبيل لكم إلى هذا النور.

والثاني: أن «وَرَاءكُم» اسم للفعل فيه ضمير فاعل، أي: ارجعوا «رجوعاً» قاله أبو البقاء.

ومنع أن يكون ظرفاً ل «ارجعوا» .

قال: لقلّة فائدته؛ لأن الرُّجوع لا يكون إلَاّ إلى وراء.

قال شهاب الدين: «وهذا فاسد؛ لأن الفائدة جليلة كما تقدم شرحها» .

ص: 472

قوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} .

العامة على بنائه للمفعول، والقائم مقام الفاعل يجوز أن يكون «بِسُورٍ» وهو الظاهر، وأن يكون الظرف.

وقال مكي: «الباء» مزيدة، أي: ضرب سور. ثم قال: «والباء متعلقة بالمصدر أي: ضرباً بسور» .

وهذا متناقض، إلَاّ أن يكون قد غلط عليه من النساخ، والأصل: والباء متعلقة بالمصدر، والقائم مقام الفاعل الظرف، وعلى الجملة هو ضعيف، والسور: البناء المحيط وتقدم اشتقاقه في أول البقرة.

قوله: «لَهُ بابٌ» . مبتدأ وخبر في موضع جرّ صفة ل «سُور» .

وقوله: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة} هذه الجملة يجوز أن تكون في موضع جر صفة ثانية ل «سور» ، ويجوز أن تكون في موضع رفع صفة ل «باب» ، وهو أولى لقربه، والضمير إنما يعود إلى الأقرب إلا بقرينة.

وقرأ زيد بن علي، وعمرو بن عبيد:«فضرب» مبنيًّا للفاعل، وهو الله أو الملك.

فصل في المراد بالسور

«السور» : حاجز بين الجنة والنار.

قال القرطبي: «روي أن ذلك السُّور ب» بيت المقدس «عند موضع يعرف ب» وادي جهنم «فيه الرَّحْمَة يعني: ما يَلِي منه المؤمنين، وظاهره من قبله العذاب يعني: ما يلي المنافقين» .

قال كعب الأحبار رضي الله عنه: هو الباب الذي ب «بيت المقدس» المعروف ب «باب الرحمة» .

وقال عبد الله بن عمرو: إنه سور ب «بيت المقدس» الشرقي، باطنه فيه المسجد، وظاهره من قبله العذاب، يعني: جهنم ونحوه عن ابن عباس.

ص: 473

وقال زياد بن أبي سوادة: قام عبادة بن الصَّامت على سُور ب «بيت المقدس» الشرقي فبكى، وقال: من هاهنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أنه رأى جهنم.

وقال قتادة: هو حائط بين الجنَّة والنار، {باطنه فيه الرحمة} يعني: الجنة، {وظاهره من قبله العذاب} يعني: جهنم.

وقال مجاهد: إنَّه حجاب. كما في «الأعراف» وقد مضى القول فيه.

وقد قيل: إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي هو في ظاهره ظلمة المنافقين.

وقيل: السُّور عبارة عن منع المنافقين عن طلبِ المؤمنين.

ص: 474

قوله: {يُنَادُونَهُمْ} يجوز أن يكون حالاً من الضمير في «بينهم» . قاله أبو البقاء.

وهو ضعيف لمجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة.

ص: 474

وأن تكون مستأنفة، وهو الظاهر.

وقوله: {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} يجوز أن يكون تفسيراً للنداء، وأن يكون منصوباً بقول مقدّر.

فصل في معنى الآية

والمعنى: ينادي المنافقون المؤمنين {ألم نَكُنْ معكم} يعني: في الدنيا نصلّي مثل ما تصلّون، ونغزو مثل ما تَغْزُون، ونفعل مثل ما تفعلون؟ .

«قالوا: بَلَى» ، أي: يقول المؤمنون: بلى، قد كُنتم معنا في الظَّاهر، {ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} أي: استعملتموها في الفتنة.

وقال مجاهد: أهلَكْتمُوهَا بالنِّفاق.

وقيل: بالمعاصي. قاله أبو سنان. وقال أبو نمير الهمداني: بالشهوات واللَّذَّات.

وقوله: «وتربّصتم» أي: بالنبي صلى الله عليه وسلم َ الموت، وبالمؤمنين الدَّوائر.

وقيل: تربَّصتم بالتوبة.

«وارْتَبْتُمْ» أي: شككتم في التوحيد، أو النبوة، أو البعث.

«وغرَّتكم الأماني» أي: الأباطيل.

وقيل: طول الأمل، وهو ما كانوا يتمنّونه من ضعف المؤمنين، ونزول الدَّوائر بهم.

وقال قتادة: الأماني هنا خدعُ الشيطان.

وقيل: الدنيا، قاله عبد الله بن عباس.

وقال أبو سنان: هو قولهم: «سيغفر لنا» .

وقال بلال بن سَعْدٍ: ذكرك حسناتك، [ونسيانك] سيئاتك غِرَّةً {حتَّى جاء أمر الله} يعني: الموت.

وقيل: نُصْرة نبيه صلى الله عليه وسلم َ.

وقال قتادة: إلقاؤهم في النَّار.

قوله: {وَغَرَّكُم بالله الغرور} .

ص: 475

قرأ العامة: «الغَرُور» بفتح الغين، وهو صفة على «فعول» ، والمراد به: الشَّيْطان، أي: خدعكم بالله الشيطان.

وقرأ أبو حيوة، ومحمد بن السميفع، وسماك بن حَرْب:«الغُرُور» بالضم، وهو مصدر، والمراد به الأباطيل.

«عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم َ خطَّ لنا خُطُوطاً، وخط منها خطًّا ناحية، فقال:» أتَدْرُونَ مَا هَذَا؟ هَذَا مِثْلُ ابْنِ آدَمَ ومِثْلُ التمنِّي، وتِلْكَ الخُطُوطُ الآمَالُ، بَيْنَمَا يتمنَّى إذْ جَاءَهُ المَوْتُ «» .

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: «خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ خطًّا مربَّعاً وخط في وسطه خطًّا، وجعله خارجاً منه، وخط عن يمينه ويساره خطوطاً صغاراً، فقال:» هَذَا ابْنُ آدَمَ وهَذَا أجَلُهُ يُحيطُ بِهِ، وهذا أمَلُهُ قَدْ جَاوَزَ أجَلَهُ، وهذه الخُطُوطُ الصِّغَارُ الأعْرَاضُ فإنْ أخْطَأهُ هذا نَهَشَهُ هذا «» .

قوله: «فَاليَوْمَ» منصوب ب «يؤخذ» ، ولا يبالي ب «لا» النافية، وهو قول الجمهور وقد تقدم آخر «الفاتحة» ثلاثة أقوال. وقرأ ابن عامر:«تؤخذ» بالتأنيث للفظ الفدية.

والباقُون: بالياء من تحت؛ لأن التأنيث مجازي.

فصل في المراد بالفدية

قوله: {فاليوم لا يؤخذ منكم فدية} أيها المنافقون، {ولا من الذين كفروا} أي: أيأسهم من النَّجاة. والمراد بالفدية قيل: لا يقبل منكم إيمان، ولا توبة؛ لأن التكليف قد زال وحصل الإلحاد.

وقيل: لا يقبل منكم فدية تدفعون بها العذاب عن أنفسكم كقوله تعالى: {وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقرة: 123]، والفدية: ما يفتدى به، فهو يتناول الإيمان والتوبة والمال.

ص: 476

قال ابن الخطيب: وهذا يدلُّ على أن قبُول التَّوبة غير واجب عقلاً على ما يقوله المعتزلة؛ لأنه - تعالى - بين أنه لا يقبل الفدية أصلاً، والتوبة فدية، فتكون الآية دالة على أنَّ التوبة غير مقبولة أصلاً، وإذا كان كذلك لم تكن التوبة واجبة القبول عقلاً.

قوله: {وَلَا مِنَ الذين كَفَرُواْ} .

عطف الكافر على المنافق، والعطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، فيقتضي أن يكون المنافق كافراً؟ .

وأجيب بأن المراد منه الذين أظهروا الكفر، وإلَاّ فالمنافق كافر.

قوله: {مَأْوَاكُمُ النار} أي: هي مصيركم.

وقوله: {هِيَ مَوْلَاكُمْ} يجوز أن يكون مصدراً أي: ولايتكم، أي: ذات ولايتكم.

قال القرطبي: «تملك أمرهم، بمعنى أن الله - تعالى - يركب فيها الحياة والعقل، فهي تتميز غيظاً على الكُفَّار، ولهذا خوطبت في قوله تعالى:{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] .

ويجوز أن يكون مكاناً، أي: مكان ولايتكم، وأن يكون بمعنى أولى بكم، كقوله تعالى:{هِيَ مَوْلَاكُمْ} قاله الكلبي، وهو قول الزجاج والفراء وأبي عبيدة» .

قال ابن الخطيب: وهذا الذي قالوه معنى، وليس تفسيراً للفظ، لأنه لو كان «مولى وأولى» بمعنى واحد في اللغة لصحّ استعمال كل واحد منهما مكان الآخر، وكان يجب أن يصحّ أن يقال: هذا أولى فلان، كما يقال: مولى فلان، ولما بطل ذلك علمنا أن الذي قالوه معنًى، وليس بتفسير، وإنما نبَّهنا على هذه الدقيقة؛ لأن الشريف المرتضى لما تمسك في إمامة علي رضي الله عنه بقوله صلى الله عليه وسلم َ:«مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فعليٌّ مَولاهُ» قال: أحد معاني «مولى» أنه أولى. واحتج في ذلك بأقوال أئمة اللغة في تفسير هذه الآية، بأن «مولى» معناه «أولى» إذا ثبت أن اللفظ محتمل له وجب حمله عليه؛ لأن ما

ص: 477

عداه إمَّا بَيِّنُ الثبوت ككونه ابن العم والنَّاصر، أو بَيِّنُ الانتفاء كالمعتِق، والمعتَق، فيكون على التقدير الأول عبثاً، وعلى الثاني كذباً.

قال ابن الخطيب رحمه الله: وأما نحن فقد بيَّنا بالدليل أن قول هؤلاء في هذا الموضع معنى لا تفسير، وحينئذ يسقط الاستدلال به.

وفي الآية وجه آخر، وهو أن معنى قوله:«هي مولاكم» أي: لا مولى لكم؛ لأن من كانت النار مولاه، فلا مولى له، كما يقال: ناصره الخذلان ومعينه البكاء، أي: لا ناصر له ولا معين، وهذا متأكد بقوله تعالى:

{وَأَنَّ الكافرين لَا مولى لَهُمْ} [محمد: 11]، ومنه قوله تعالى:{يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل} [الكهف: 29] .

وقوله: {وَبِئْسَ المصير} أي: هي، ومعناه: ساءت مرجعاً ومصيراً.

قوله: {أَلَمْ يَأْنِ} .

قرأ العامة: «ألم» . وقرأ الحسن وأبو السمال: «ألمَّا» .

وأصلها «ألم» زيدت عليها «ما» ، فهي نفي كقول القائل: قد كان كذا، و «لم» نفي، كقوله: قد كان كذا.

وقوله: {أَن تَخْشَعَ} . فاعل «يأن» ، أي: ألم يقرب خشوع قلوبهم ويحينُ؛ قال الشاعر: [الطويل]

4720 -

ألَمْ يَأنِ لِي يا قَلْبُ أنْ أتْرُكَ الجَهْلَا

وأنْ يُحْدِثَ الشَّيْبُ المُبِيْنُ لنَا عَقْلا

وماضيه «أنى» بالقصر «يأني» .

ويقال: «آن لك - بالمد - أن تفعل كذا يَئِينُ أيْناً» أي: مثل «أنى لَكَ» وهو مقلوب منه.

وأنشد ابن السِّكِّيت: [الطويل]

4721 -

ألَمَّا يَئِنْ لِي أنْ تُجَلَّى عَمايَتِي

وأقْصُرُ عَنْ لَيْلَى بَلَى قَدْ أنَى لِيَا

فجمع بين اللغتين.

وقرأ العامة: «يأن» مضارع «أنى» أي: حان وقرب، مثل رمى يرمي.

ص: 478

والحسن: «يئن» مضارع «آن» بمعنى «حان» أيضاً، مثل:«باع يبيع» .

و «اللام» للتبيين. قاله أبو البقاء، فعلى هذا يتعلق بمحذوف، أي: أعني للذين.

فصل في نزول هذه الآية

في «صحيح مسلم» ، عن ابن مسعُود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} إلا أربع سنين.

قال الخليل: العِتَاب مخاطبة الإذلال، ومذاكرة الموجدة. تقول: عاتبت معاتبة.

«أن تخْشعَ» ، أي: تذل وتلين {قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} .

«وروي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لما ترفهوا ب» المدينة «فنزلت الآية، ولما نزلت هذه الآية قال عليه الصلاة والسلام ُ:» إنَّ الله يَسْتَبْطِئكُمُ بالخُشُوعِ «فقالوا عند ذلك: خشعنا» .

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنَّ الله استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.

وقيل: نزلت في المنافقين بعد الهجرة، وذلك لما سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة، فنزلت:{الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} [يوسف: 1] إلى قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] فأخبرهم أن القصص أحسن من غيره، وأنفع لهم، فكفُّوا عن سلمان، ثم سألوه مثل الأول، فنزلت:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا} [الآية، فعلى هذا التأويل يكون {فالذينءَامَنُواْ} في العلانية باللسان] .

وقال السُّدي وغيره: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا} بالظَّاهر وأسرُّوا الكفر {أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} .

وقيل: نزلت في المؤمنين.

قال سعد: قيل: يا رسول الله، لو قصصت علينا؟ فنزل:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] فقالوا بعد زمان: لو حدثتنا، فنزل قوله:{الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} [الزمر: 23]

ص: 479

فقالوا بعد مدة: لو ذكرتنا، فأنزل الله تعالى:{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} الآية.

وقيل: هذا خطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد - عليهم الصلاة والسلام - لأنه قال عقيبه: {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} [الحديد: 19] أي: ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقرآن، وألَاّ يكونوا كمتقدمي قوم موسى وقوم عيسى؛ إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيهم، فقَسَتْ قلوبهم.

قوله: {وَمَا نَزَلَ} .

قرأ نافع وحفص: «نَزَل» مخففاً مبنيًّا للفاعل.

وباقي السبعة كذلك إلَاّ أنها مشددة.

والجحدري وأبو جعفر والأعمش وأبو عمرو في رواية: «ما نزّل» مشدداً مبنيًّا للمفعول.

وعبد الله: «أنْزَل» مبنيًّا للفاعل، وهو الله تعالى.

و «ما» في قراءة «ما نزل» مخففاً، يتعين أن تكون اسمية، ولا يجوز أن تكون مصدرية لئلا يخلو الفعل من الفاعل، وما عداها يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون بمعنى «الذي» .

فإن قلت: فقراءة الجحدري ومن معه ينبغي أن تكون فيها اسمية لئلَاّ يخلو الفعل من مرفوع؟ فالجواب: أن الجار وهو قوله: «من الحقّ» يقوم مقام الفاعل.

فصل في معنى الآية

قال ابن الخطيب: يحتمل أن يكون المراد بذكر الله، وما نزل من الحق هو القرآن؛ لأنه جامع للوصفين الذِّكر والموعظة، وأنه حق نازل من السماء، ويحتمل أن يكون المراد هو ذكر الله مطلقاً، و {ما نزل من الحقّ} هو القرآن، وإنما قدم الخشوع بالذكر على الخشوع بما نزل من القرآن؛ لأن الخشوع والخوف والخشية لا تحصل إلا عند ذكر الله تعالى، فأما حصولها عند سماع القرآن، فذلك لأجل اشتمال القرآن على ذكر الله.

ص: 480

قوله: {وَلَا يَكُونُواْ} .

قرأ العامة: بالغيبة جرياً على ما تقدم.

وأبو حيوة، وابن أبي عبلة: ب «التاء» من فوق على سبيل الالتفات.

قال القرطبي: وهي رواية رويس عن يعقوب، وهي قراءة عيسى، وابن إسحاق.

ثم هذا يحتمل أن يكون منصوباً عطفاً على «يخشع» كما في قراءة الغيبة، وأن يكون نهياً، فتكون «لا» ناهية والفعل مجزوم بها.

ويجوز أن يكون نهياً في قراءة الغيبة أيضاً، ويكون ذلك انتقالاً إلى نهي أولئك المؤمنين عن كونهم مشبهين لمن تقدمهم نحو «لا يَقُمْ زيد» .

قوله: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد} .

قرأ العامة: بتخفيف الدال بمعنى الغاية، كقولك: أمد فلان، أي: غايته.

وقرأ ابن كثير في رواية بتشديدها؛ وهو الزمن الطَّويل.

فصل في معنى الآية

معنى الآية لا تسلكوا سبيل اليهود والنصارى أعطوا التوراة والإنجيل، فطالت الأزمان لهم.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمدُ قست قلوبهم، فاخترعوا كتاباً من عند أنفسهم استحلته أنفسهم، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتَّى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، كأنهم لا يعلمون، ثم اصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم، وقالوا: إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد، فإن أبى قتلناه، فلا يختلف علينا بعده أحد، فأرسلوا إليه، فكتب كتاب الله في ورقةٍ، وجعلها في عنقه، ثم لبس عليه ثياباً وأتاهم، فعرضوا عليه كتابهم، وقالوا: أتؤمن بهذا؟ فضرب بيده على صدره وقال: آمنت بهذا - يعني المعلق على صدره - فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين [ملة]، وخير مللهم أصحاب ذي القرن؛ قال عبد الله: ومن يَعِشْ منكم

ص: 481

فسيرى منكراً، ويجب على أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كارهٌ.

وقال مقاتل: يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الأمدُ، واستبطئوا بعث النبي صلى الله عليه وسلم َ {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ، وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني: الذين ابتدعوا الرَّهبانية أصحاب الصوامع.

وقيل: من لا يعلم ما يتديّن به من الفقه، ويخالف من يعلم.

[وقيل: هم من لا يؤمن في علم الله تعالى، وقال ابن عباس: مالوا إلى الدنيا، وأعرضوا عن مواعط الله.

وقيل:] طالت أعمارهم في الغفلة، فحصلت القَسْوة في قلوبهم بذلك السبب.

[وقيل غير ذلك.

وقوله: {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي: خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين،] وكأنه أشار إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفِسْقِ في آخر الأمر.

قوله تعالى: {اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} .

أي: يحييها بالمطر.

وقال صالح المري: يلين القلوب بعد قسوتها.

وقال جعفر بن محمد: يحييها بالعدلِ بعد الجورِ.

وقيل: المعنى: وكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد الكفر والضلالة.

وقيل: كذلك يحيي الموتى من الأمم، ويميز بين الخاشع قلبه، وبين الفاسق قلبه.

{قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي: إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على قدرة الله، وأنه يحيي الموتى.

ص: 482

قوله تعالى: {إِنَّ المصدقين والمصدقات} .

خفف الصاد منهما ابن كثير، وثقلها باقي السَّبعة.

فقراءة ابن كثير من التصديق، أي: صدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فيما جاء به، كقوله:{والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33]، وقراءة الباقين من الصدقة وهو مناسب لقوله:«وأقرضوا» والأصل: المتصدّقين والمتصدّقات، فأدغم، وبها قرأ أبي.

وقد يرجح الأول بأن الإقْرَاض مُغنٍ عن ذكر الصدقة.

قوله: «وأقْرَضُوا» فيه ثلاثة أوجه:

[أحدها] : أنه معطوف على اسم الفاعل في «المصدّقين» ؛ لأنه لما وقع صلة ل «ال» حل محل الفعل، كأنه قيل: إن الذين صدقوا وأقرضوا، وعليه جمهور المعربين، وإليه ذهب الفارسي، والزمخشري، وأبو البقاء.

وهو فاسد؛ لأنه يلزم الفصل بين أبعاض الصِّلة بأجنبي، ألا ترى أنَّ «المصدقات» عطف على «المصدقين» قبل تمام الصِّلة، ولا يجوز أن يكون عطفاً على «المصدقات» لتغايُر الضمائر تذكيراً وتأنيثاً.

الثاني: أنه معترض بين اسم «إن» وخبرها، وهو «يضاعف» .

قال أبو البقاء: «وإنما قيل ذلك لئلَاّ يعطف الماضي على اسم الفاعل» .

قال شهاب الدين: «ولا أدري ما هذا المانع؛ لأن اسم الفاعل متى وقع صلة ل» ال «صلح للأزمنة الثلاثة، ولو منع بما ذكرته من الفصل بأجنبي لأصاب، ولكن خفي عليه كما خفي على الفارسي والزمخشري» .

ص: 483

الثالث: أنه صلةٌ لموصول محذوف لدلالة الأول عليه، كأنه قيل:«الذين أقرضوا» ؛ كقوله: [الوافر]

4722 -

أمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللَّه مِنْكُمْ

ويَنْصُرهُ ويمْدَحهُ سَوَاءُ؟

أي: ومن ينصره، واختاره أبو حيان.

قال ابن الخطيب: وفي الآية إشكال، وهو أن عطفه الفعل على الاسم قبيحٌ، فما فائدة التزامه هنا؟ .

وأجاب بأن الزمخشري قال: «وأقرضوا» معطوف على معنى الفعل في التصديق؛ لأن «اللام» بمعنى «الذين» ، واسم الفاعل بمعنى «صدقوا وأقرضوا» .

قال: وهذا لا يزيل الإشكال، فإنه ليس فيه بيان أنه لم عدل عن ذلك اللفظ [إلى هذا اللفظ] .

والذي عندي فيه أن الألف واللام في «المصدّقين والمصدّقات» للمعهود، فكأنه ذكر جماعة معينين بهذ الموصف، ثم قبل ذكر الخبر أخبر عنهم بأنهم أتوا بأحسن أنواع الصدقة، وهو القرضُ، ثم ذكر الخبر بعد ذلك فقال:«يُضَاعَفُ لَهُمْ» .

فقوله: «وأقرضوا» ؛ كقوله: [السريع]

4723 -

إنَّ الثَّمَانينَ وبُلِّغْتَهَا.....

...

...

. .

قوله: {يُضَاعَفُ لَهُمْ} في القائم مقام الفاعل وجهان:

أظهرهما: أنه الجار بعده.

والثاني: أنه ضمير التصديق، ولا بد من حذف مضاف، أي: ثواب التصديق.

وقرأ الأعمش؛ «يُضَاعِفُهُ» بكسر العين، وزيادة هاء.

وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب: «يُضَعَّفُ» بتشديد العين وفتحها.

{وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} يعني: الجنة.

قوله: {والذين آمَنُواْ} مبتدأ، و «أولئك» مبتدأ ثانٍ، و «هم» يجوز أن يكون مبتدأ ثالثاً، و «الصديقون» خبره، وهو مع خبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول، ويجوز أن يكون «هم» فصلاً، و «أولئك» وخبره خبر الأول.

ص: 484

«والصِّديق» : هو الكثير الصِّدق.

وقال مجاهد: من آمن بالله ورسوله فهو صديق، وتلا هذه الآية.

وقال الضحاك: هم ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام: أبو بكر، وعلي، وزيد، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وحمزة، وتاسعهم عمر بن الخطاب، ألحقه بهم لما عرف من صدق نيته.

قوله: {والشهدآء} . يجوز فيه وجهان:

أحدهما: أنه معطوف على ما قبله، ويكون الوقف على «الشهداء» تامًّا، أخبر عن «الذين آمنوا» أنهم صديقون شهداء.

فإن قيل: الشهداء مخصوصون بأوصاف أخر زائدة على ذلك كالتسعة المذكورين.

أجيب: بأن تخصيصهم بالذكر لشرفهم على غيرهم لا للحصر.

والثاني: أنه مبتدأ، وفي خبره وجهان:

أحدهما: أنه الظرف بعده.

والثاني: أنه قوله «ولهم أجرهم» ، إما الجملة، وإما الجار وحده، والمرفوع فاعل به، والوقف لا يخفى على ما ذكرناه من الإعراب.

والصِّدِّيق: مثال مبالغة، ولا يجيء إلا من ثلاثي غالباً.

قال بعضهم: وقد جاء «مِسِّيك» من «أمسك» ، وهو غلط؛ لأنه يقال:«مسك» ثلاثياً، ف «مسّيك» منه.

فصل في المراد بالصديقين والشهداء

قال مجاهد وزيد بن أسلم: إن الشهداء والصديقين هم المؤمنون، وأنه متصل، وروي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم َ وهذا قول ابن مسعود في تأويل الآية.

قال القشيري: قال الله تعالى: {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} .

ف «الصديقون» هم الذين يلون الأنبياء.

ص: 485

و «الشهداء» هم الذين يلون الصديقين و «الصالحون» يلون الشهداء، فيجوز أن تكون هذه الآية في جملة من صدق بالرسل.

والمعنى: والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء، ويكون المعني بالشهداء من شهد لله بالوحدانية، أنهم شهداء عند ربهم على العباد في أعمالهم، والمراد أنهم عدول في الآخرة الذين تقبل شهاداتهم.

وقال الحسن: كل مؤمن فإنه شهيد كرامة.

وقال الفراء والزجاج: هم الأنبياء؛ لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] .

وقال ابن جرير: «الشهداء» هم الذين استشهدوا في سبيل الله.

«وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال:» ما تَعُدُّون الشُّهداء فيْكُمْ «؟ قالوا: المقتول، فقال:» إنَّ شُهَداء أمَّتِي إذاً لقَلِيلٌ «» .

وعلى هذا يكون منقطعاً عما قبله، وتكون «الواو» في «والشهداء» واو الاستئناف، وهذا مروي عن ابن عباس ومسروق.

وقوله: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} مما عملوا من العمل الصالح. و «نورهم» على الصراط.

ثم لما ذكر حال المؤمنين أتبعه بذكر حال الكافرين، فقال:{والذين كفروا وكذبوا بآياتنا، أولئك أصحاب الجحيم} . ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين ذكر بعده ما يدلّ على حقارة الدنيا، وكمال حال الآخرة، فقال:

{اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} .

«ما» صلة، أي: حياة هذه الدار لعبٌ باطل لا حاصل له، وهو فرح ثم ينقضي، وزينة ومنظر تتزيَّنُون به.

قوله: {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} .

العامة على تنوين «تَفَاخُر» موصوف بالظرف، أو عامل فيه.

والسلمي أضافه إليه، أي: يفخر به بعضكم على بعض.

ص: 486

قال المفسرون: «اللّعب» : الباطل، «واللَّهْو» : الفرح.

وقال قتادة: «لعب ولهو» : أكل وشرب.

وقال مجاهد: كل لعب لهو.

وقيل: «اللعب» : ما رغب في الدنيا، «واللهو» : ما ألْهى على الآخرة.

قوله: {وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد} .

قال ابن عبَّاس: يجمع المال في سخطِ الله، ويباهي به على أولياء الله، ويصرفه في مساخط الله، فهي ظلمات بعضها فوق بعض، وكان من عادة الجاهلية أن يتكاثروا بالأموال والأولاد.

قال بعض المتأخرين: «لعب» كلعب الصبيان، «ولهو» كلهو الفتيان «وزينة» كزينة النِّسْوان «وتفاخُر» كتفاخُر الأقران «وتَكاثُر» كتكاثُر الدُّهقان.

وقال علي رضي الله عنه ل «عمار» : لا تحزن على الدُّنيا، فإن الدنيا ستة أشياء: مأكول، ومشروب، وملبوس، ومشموم، ومركوب، ومنكُوح، فأحسن طعامها العسل، وهو بزقةُ ذبابة، وأكثر شرابها الماء، ويستوي فيه جميع الحيوان، وأفضل ملبوسها الدِّيباج وهو نسج دودة، وأفضل المشموم المِسْك وهو دم فأرة، وأفضل مركوبها الفرس، وعليها يقتل الرِّجال، وأما المنكوح فهو النساء وهو مبال في مَبال، والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها.

ثم ذكر تعالى لهذه الحياة مثلاً، فقال:«كمثل غيثٍ» أي: مطر {أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ} .

قال ابن مسعود: المراد ب «الكُفَّار» هنا: الزُّرَّاع.

وقال الأزهري: والعرب تقول للزَّارع: كافر؛ لأنه يكفرُ البَذْر [المبذور في الأرض] بتراب الأرض، أي: يغطّيه.

والمعنى: أن الحياة الدُّنيا كالزَّرع يعجب النَّاظرين إليه لخضرته بكثرة الأمطار، ثم لا يلبث أن يصير هشيماً كأن لم يكن.

وقيل: المراد بالكُفَّار هنا هم الكُفَّار بالله، وهم أشد إعجاباً بزينة الدنيا من المؤمنين.

ص: 487

وقوله: «نَبَاتُهُ» أي: ما ينبت من ذلك الغَيْث.

قوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} .

يجوز أن يكون في موضع نصب حالاً من الضمير في «لعب» ؛ لأنه بمعنى الوصف، وأن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، أي: ذلك كمثل.

وجوز ابن عطية: أن يكون في موضع رفع صفة لما تقدم، ولم يبينه، وقد بينه مكي، فقال: نعت ل «تفاخر» . وفيه نظر لتخصيصه له من بين ما تقدم، وجوز أن يكون خبراً بعد خبر للحياة الدنيا.

وقوله: {ثُمَّ يَهِيجُ} أي: يجفّ بعد خضرته {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} أي: متغيراً عما كان عليه من النَّضارة.

وقرىء: «مُصْفَارًّا» من «اصْفَارّ» وهو أبلغ من «اصْفَرّ» .

قوله: «وفي الآخِرةِ» خبر مقدم، وما بعده مبتدأ مؤخر، أخبر بأن في الآخرة عذاباً شديداً، ومغفرة منه ورضواناً، وهذا معنى حسن، وهو أنه قابل العذاب بشيئين: بالمغفرة والرضوان، فهو من باب لن يغلب عُسْرٌ يُسرينِ.

قال القرطبي: {وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ} ، أي: للكافر، والوقف عليه حسن، ويبتدأ {وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ} أي: للمؤمنين.

وقال الفراء: {وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة} تقديره: إمَّا عذاب شديد، وإمَّا مغفرة، فلا يوقف على «شديد» .

قوله: {وَمَا الحياة الدنيآ إِلَاّ مَتَاعُ الغرور} .

وهذا تأكيد لما سبق، أي: تغرّ الكافر، فأما المؤمن فإن الدنيا له متاع بلاغ إلى الجنة.

وقيل: العمل للحياة الدنيا متاع الغرور تزهيداً في العمل للدنيا، وترغيباً للعمل في الآخرة.

وقال سعيد بن جبير: الدُّنيا متاع الغرور إذا ألْهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة، فنعم المتاع ونعم الوسيلة.

ص: 488

قوله تعالى: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} الآية.

أي: سارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم.

وقيل: سارعوا بالتَّوبةِ؛ لأنها تؤدِّي إلى المغفرة. قاله الكلبي.

وقال مكحول: هي التكبيرة الأولى مع الإمام.

وقيل: الصف الأول.

فصل فيمن استدل بالآية على أن الأمر على الفور

احتج القائلون بأن الأمر على الفور بهذه الآية؛ لأنها دلت على وجوب المسارعة، فوجب أن يكون التراخي محظوراً.

قوله: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض} .

{عَرْضُهَا كَعَرْضِ} : مبتدأ وخبر، والجملة صفة، وكذلك «أعِدَّتْ» ، ويجوز أن تكون «أعدت» مستأنفة.

فصل في عرض الجنة

قال مقاتل: إنَّ السَّموات السَّبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح، وألزق بعضها إلى بعض لكانت عرض جنة واحدة من الجنَّات، والعرض أقل من الطول، ومن عادة العرب أنها تعبر عن الشيء بعرضه دون طوله؛ قال:[الطويل]

4724 -

كَأنَّ بِلادَ اللَّهِ وهْيَ عرِيضةٌ

على الخَائفِ المطلُوبِ كفَّةُ حَابِلِ

وقال عطاء عن ابن عباس: يريد أنَّ لكل واحد من المطيعين جنَّة بهذه الصِّفة.

ص: 489

وقال السُّدي: إنه - تعالى - شبّه عرض الجنة بعرض السَّموات السبع والأرضين السبع، ولا شك أن طوله أزيد من عرضه.

وقيل: هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه، وأكبر ما في أنفسهم مقدار السموات والأرض.

قاله الزجاج، وهو اختيار ابن عبَّاس.

وقال طارق بن شهاب: قال قوم من أهل «الحيرة» لعمر رضي الله عنه: أرأيت قول الله عز وجل: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض} فأيْنَ النَّارُ؟ قال لهم عمر: أرأيتم الليل إذا ولَّى وجاء النهار، فأين يكون الليل؟ فقالوا: لقد نزعت بما في التوراة مثله.

قوله: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} شرط الإيمان لا غير، والمعتزلة وإن زعموا أن لفظ الإيمان يفيد جملة الطَّاعات، لكنهم اعترفوا بأن لفظ الإيمان إذا عدي بالباء، فإنه باقٍ على مفهومه الأصلي وهو التصديق، فالآية حجة عليهم، ومما يؤكّد ذلك قوله تعالى بعده:{ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} فبين أن الجنة فضل الله يؤتيها من يشاء، سواء أطاع أم عصى.

فإن قيل: فيلزمكم أن تقطعوا بحصول الجنة لجميع العُصاة، وأن تقطعوا بأنه لا عقاب لهم؟ فالجواب: قلنا: نقطع بحصول الجنَّة، ولا نقطع بنفي العقاب عنهم؛ لأنهم إذا عذّبوا مدة، ثم نقلوا إلى الجنة، وبقوا فيها أبد الآباد، فقد كانت الجنَّة معدة لهم.

فإن قيل: فالمرتد قد آمن بالله، فوجب إلاّ يدخل تحت هذه الآية.

قلنا: فالجواب خص من العموم، فبقي العموم حجة فيما عداه.

فصل في أن الجنة مخلوقة أم لا؟

احتجوا بهذه الآية على أن الجنة مخلوقة.

قالت المعتزلة: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجهين:

الأول: أن قوله تعالى {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} [الرعد: 35] يدل على أن من صفتها بعد وجودها ألا تفتى، لكنها لو كانت الآن موجودة لفنيت بدليل قوله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] .

ص: 490

الثاني: أن المخلوقة الآن في السماء السَّابعة، ولا يجوز إذا كانت في واحدة منها أن يكون عرضها كعرض كل السموات والأرض، فثبت بهذين الوجهين أنه لا بُدَّ من التأويل، وذلك من وجهين:

أحدهما: أنه - تعالى - لما كان قادراً لا يصحّ المنع عليه، وإذا كان حكيماً لا يصحّ الخلف في وعده، ثم إنه - تعالى - وعد على الطَّاعة بالجنة، فكانت الجنة كالمعدّة المهيّأة لهم تشبيهاً لما سيقع قطعاً بالواقع، كما يقول المرء لصاحبه: أعددت لك المكافأة إذا عزم عليها وإن لم يوجدها.

والثاني: أن المراد إذا كانت الآخرة أعدّها الله لهم، كقوله:{ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة} [الأعراف: 50] أي: إذا كان يوم القيامة نادى.

والجواب: أن قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} [القصص: 88] عام.

وقوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] مع قوله: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} [الرعد: 35] خاص، والخاصّ مقدّم على العام.

وأما قولهم: إنَّ الجنَّة مخلوقة في السماء السابعة كما قال عليه الصلاة والسلام ُ - في صفة الجنة: «سَقْفُهَا عرْشُ الرَّحْمنِ» فأي استبعاد في أن يكون المخلوق فوق الشيء أعظم منه، أليس أن العرش أعظم المخلوقات، مع أنه مخلوق فوق السماء السابعة.

قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} أي: أن الجنة لا تنال إلَاّ بفضل الله ورحمته، {والله ذُو الفضل العظيم} .

ص: 491

قوله: {مِن مُّصِيبَةٍ} فاعل «أصاب» ، و «من» مزيدة لوجود الشرطين، وذكر فعلها؛ لأن التأنيث مجازي

ص: 491

قوله: {فِي الأرض} يجوز أن يتعلق ب «أصاب» ، وأن يتعلق بنفس «مصيبة» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «مصيبة» ، وعلى هذا فيصلح أن يحكم على موضعه بالجر نظراً إلى لفظ موصوفه، وبالرفع نظراً إلى محله، إذ هو فاعل.

والمصيبة غلبت في الشَّر.

وقيل: المراد بها جميع الحوادث من خير وشر، وعلى الأول يقال: لم ذكرت دون الخير؟

وأجيب: بأنه إنما خصها بالذكر؛ لأنها أهمّ على البشر.

قوله: {إِلَاّ فِي كِتَابٍ} حال من «مصيبة» ، وجاز ذلك وإن كانت نكرة لتخصصها إما بالعمل، أو بالصفة، أي: إلا مكتوبة.

قوله: «مِنْ قَبْلِ» نعت ل «كتابٍ» ، ويجوز أن يتعلق به. قاله أبو البقاء. لأنه هنا اسم للمكتوب، وليس بمصدر.

والضمير في «نَبْرأها» الظاهر عوده على المصيبة.

وقيل: على الأنفس.

وقيل: على الأرض، أي على جميع ذلك. قاله المهدوي، وهو حسن.

فصل في مناسبة الآية لما قبلها

قال الزجاج: إنه - تعالى - لما قال: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [الحديد: 21] وبين أن المؤدي إلى الجنة لا يكون إلا بقضاء الله تعالى وقدره، فقال:{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ} .

والمعنى لا توجد مصيبة من هذه المصائب إلا وهي مكتوبة عند الله، والمصيبة في الأرض قَحْط المطر، وقلّة النبات، ونقص الثِّمار، وغلاء الأسعار، وتتابع الجوائح.

وأما المصيبة في الأنفس فقيل: هي الأمراض، والفقر، وذهاب الأولاد، وإقامة الحدود عليها.

وقيل: ضيق المعاش وقيل: الخير والشَّر أجمع، لقوله بعد ذلك:{لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} .

وقوله: {إلا في كتابٍ} يعني: مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ.

وقوله: {من قبل أن نَبْرَأها} .

ص: 492

قال ابن عباس: من قبل أن نخلق المصيبة.

وقال سعيد بن جبير: من قبل أن نخلق الأرض والنفس.

{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} أي: خلق ذلك، وحفظه على الله يسير أي: هيّن.

قال الربيع بن صالح: لما أُخذ سعيد بن جبيرٍ رضي الله عنه بَكَيْتُ، قال: ما يبكيك؟ قلت: أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه، قال: فلا تَبْكِ، فإنه كان في علم الله - تعالى - أن يكون، ألم تسمع قوله تعالى:{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلَا في أَنفُسِكُمْ} الآية.

قال ابن عباس: لما خلق الله القلم، قال له: اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة.

وقد ترك جماعة من السلف الدواء في أمراضهم، فلم يستعملوه ثقةً بربهم وتوكلاً عليه، وقالوا: قد علم الله أيام المرض وأيام الصِّحة، فلم حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال الله تعالى:{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلَا في أَنفُسِكُمْ} الآية، ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام ُ:

«مَنْ عَرَفَ يُسْرَ اللَّهِ في القَدَر هَانَتْ عليْهِ المَصَائِبُ» .

فصل في اتصال الآية بسياق الآيات قبلها

قيل: إن هذه الآية نزلت متّصلة بما قبلها، وهو أن الله - تعالى - هوَّن عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال، وما يقع فيها من خسران، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له، وإنما على المرء امتثال الأمر، ثم أدبهم فقال:{لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ} أي: حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم ييأسوا على ما فاتهم منه.

وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم َ قال: «لَا يَجِدُ أحَدكُمْ طَعْمَ الإيمانِ حتَّى يعْلمَ أنَّ ما أصابهُ لَمْ يَكُنْ ليُخْطِئَهُ، ومَا أخطَأهُ لَمْ يَكُنْ ليُصِيبَهُ» ، ثمَّ قرأ:{لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} أي من الدنيا. قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

ص: 493

فصل في أن ما كان وما يكون مكتوب في اللوح المحفوظ

قال ابن الخطيب: هذه الآية تدلّ على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود مكتوبة في اللَّوح المحفوظ.

قال المتكلمون: وإنما كتب ذلك لوجوه:

أحدها: ليستدلّ الملائكة بذلك المكتوب على كونه - تعالى - على علم بجميع الأشياء قبل وقوعها.

وثانيها: ليعرفوا حكمة الله، فإنه - تعالى - مع علمه بأنهم يقدمون على المعاصي خلقهم ورزقهم.

وثالثها: ليحذروا من أمثال تلك المعاصي.

ورابعها: ليشكروا الله - تعالى - على توفيقه إياهم للطَّاعات، وعصمته إياهم عن المعاصي.

فصل في كيفية حدوث الأحداث

قال ابن الخطيب: إن الحكماء قالوا: إن الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم هم المدبِّرات أمراً، والمقسمات أمراً، إنما هي المبادىء لحدوث الحوادث في العالم السفلي بواسطة الحركات الفلكية، والاتصالات الكوكبية، وتغيراتها هي الأسباب لتلك المسببات، وهذا هو المراد من قوله:{إِلَاّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 3] .

فصل في مصائب الأنفس

قوله تعالى: {وَلَا في أَنفُسِكُمْ} يتناول جميع مصائب الأنفس، فيدخل فيها كفرهم ومعاصيهم، فالآية دالة على أن جميع أعمالهم بتفاصيلها مكتوبةٌ في اللوح المحفوظ مثبتة في علم الله تعالى، فكان الامتناع من تلك الأعمال محال؛ لأن علم الله بوجودها مُنَافٍ لعدمها والجمع بين المتنافيين محال، وخصص مصائب الأرض والأنفس لتعلّقها بنا، ولم يقل: جميع الحوادث لشمولها حركات أهل الجنة والنار؛ لأنها غير متناهية، فإثباتها في الكتاب محال.

قال ابن الخطيب: وفي الآية دليلٌ على أن الله - تعالى - يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافاً ل «هشام بن الحكم» .

ص: 494

قوله تعالى: {لِّكَيْلَا} . هذه «اللام» متعلقة بقوله «ما أصَابَ» ، أي: أخبرناكم بذلك لكيلا يحصل لكم الحزن المقنط والمفرح المطغي فأما ما دون ذلك فالإنسان غير مؤاخذ به، و «كي» هنا ناصبة بنفسها، فهي مصدرية فقط لدخول لام الجر عليها.

وقرأ أبو عمرو: «بما أتاكم» مقصوراً من الإتيان، أي: بما جاءكم.

قال أبو علي الفارسي: لأن «أتاكم» معادل لقوله «فَاتَكُم» ، فكما أنَّ الفعل للفائت في قوله:«فاتكم» ، فكذلك الفعل الثاني في قوله:«بما أتاكم» .

وقرأ باقي السبعة: «آتاكم» ممدوداً من «الإيتاء» ، أي: بما أعطاكم الله إياه.

والعائد إلى الموصول في الكلمتين في الذكر المرفوع بأنه فاعل، و «الهاء» محذوفة من الصِّلة، أي: بما آتاكموه.

وقرأ عبد الله: «بما أوتيتم» .

فصل في أن حزن المؤمن صبر وفرحه شكر

قال ابن عبَّاس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبراً وغنيمته شكراً، والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدّى فيهما إلى ما لا يجوز.

وقال جعفر بن محمد: يا ابن آدم ما لك تأسف على مقدر لا يردّه عليك الفَوْت، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت.

وقيل ل «بزرجمهر» : أيها الحكيم، ما لك لا تحزن على ما فات، ولا تفرح بما هو آتٍ؟ قال: لأن الفائت لا يتلافى بالعبرةِ، والآتي لا يستدام بالحَبْرةِ.

ص: 495

وقوله: {والله لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي: متكبر بما أوتي من الدنيا.

«فخور» به على النَّاس، قيل: الفخور الذي ينظر الناس بعين الاحتقار.

فصل فيمن قالوا بالإرادة والجبر

قال ابن الخطيب: المعتزلة وإن نازعوا في القدرة والإرادة، فهم مسلمون في العلم والجبر، فيلزمهم الجبر باعتبارهما.

والفلاسفة مذهبهم الجَبْر؛ لأن سبب الحوادث عندهم الاتصالات الفلكية.

والقدرية قالوا: بأن الحوادث اتفاقية، فجميع فرق العقلاء يلزمهم الجبر، سواء أقروا به أو أنكروه.

فصل في إرادة العبد الحزن والفرح

قالت المعتزلة: قوله: {لِّكَيْلَا تَأْسَوْاْ} يدل على أنه إنما أخبرهم بكتبها ليحترزوا عن الحزن والفرح، ولولا قدرتهم عليه لم يكن لذلك فائدة، ويدل على أنه لا يريد أن يقع منهم الفرح والحزن، وهو خلاف قول المجبرة؛ لأنه قال:{والله لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} والمحبة هي الإرادة.

وأجيبوا بأن المحبة هي إرادة خاصة وهي إرادة الثواب، ولا يلزم من نفيها نفي الإرادة.

قوله: {الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} . تقدم نظيره في سورة «النساء» .

قال القرطبي: «الذين» في موضع خفض نعتاً للمختال.

وقال ابن الخطيب: بدل من قوله: «كل مُخْتَال» .

وقيل: رفع بالابتداء، فهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله.

والمعنى: الذين يبخلون فالله غني عنهم.

قيل: أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم َ في كتبهم لئلا يؤمن به النَّاس، فتذهب مأكلتهم.

قاله السُّدي والكلبي.

فيكون «الذين» مبتدأ، وخبره محذوف يدلّ عليه قوله تعالى:{وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} .

ص: 496

وقال سعيد بن جبير: «الذين يَبْخَلُون» يعني بالعلم {وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} بألَاّ يعلموا الناس شيئاً.

وقال زيد بن أسلم: إنه البُخْل بأداء حق الله تعالى.

وقال عبد الله بن عامر الأشعري: هو البخل بالصدقة والحقوق.

وقال طاوس: وهو البُخْل بما في يديه.

فصل في قراءات البخل

«بالبخل» . قرأ العامة: «بالبُخْل» بضم الباء وسكون الخاء.

وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وابن محيصن وحمزة والكسائي «بالبَخَل» بفتحتين، وهي لغة الأنصار.

وقرأ أبو العالية وابن السَّميفع: «بالبَخْل» بفتح الباء وإسكان الخاء.

وعن نصر بن عاصم: «البُخُل» - بضمتين - وكلها لغات مشهورة.

وقال قوم: الفرق بين البخل والسخاء من وجهين:

أحدهما: أن البخيل الذي لا يعطي عند السؤال، والسَّخي الذي يعطي بغير سؤال.

وتقدم الفرق بين البُخْل والشُّحِّ في آخر آل عمران.

قوله: {وَمَن يَتَوَلَّ} أي: عن الإيمان {فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} .

قرأ نافع وابن عامر: {فإن الله الغني الحميد} بإسقاط «هو» ، وهو ساقط في مصاحف «المدينة» و «الشام» ، والباقون: بإثباته، وهو ثابت في مصاحفهم، فقد وافق كل مصحفه.

قال أبو علي الفارسي: من أثبت «هو» يحسن أن يكون فصلاً، ولا يحسن أن يكون ابتداء؛ لأن الابتداء لا يسوغ حذفه.

ص: 497

يعني أنه رجح فصليّته بحذفه في القراءة الأخرى، إذ لو كان مبتدأ لضعف حذفه لا سيما إذا صلح ما بعده أن يكون خبراً لما قبله.

ألا ترى أنك لو قلت: إن زيداً هو القائم يحسن حذف «هو» لصلاحية «القائم» خبراً، وهذا كما قالوا في الصلة: إنه يحذف العائد المرفوع بالابتداء بشروط:

منها: ألَاّ يكون ما بعده صالحاً للصِّلة نحو: «جاء الذي هو في الدَّار، وهو قائم أبوه» لعدم الدلالة.

إلا أن للمنازع أن ينازع أبا عليٍّ ويقول: لا ألتزم تركيب إحدى القراءتين على الأخرى، وكم من قراءتين تغاير معناهما، كقراءتي:{والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}

[آل عمران: 36] إلا أن توافق القراءتين في معنى واحد أولى، هذا مما لا نزاع فيه.

ومن أثبت «هو» فعلى أن يكون فصلاً، ويجوز أن يكون مبتدأ، و «الغَنِيّ» خبره والجملة خبر «إن» .

قال ابن الخطيب: وقوله «الحميد» كأنه جواب من يقول: إذا كان الله عالماً بأنه يبخل، فلم أعطاه المال؟ .

فأجاب: بأنه محمود حيث فتح أبواب الرحمة مع تقصير العبدِ في الطاعة.

قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات} .

يعني المعجزات البينة، والشرائع الظاهرة.

وقيل: الإخلاص لله - تعالى - في العبادة.

{وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب} أي الكتب التي أوحينا إليهم فيها خبر من كان قبلهم.

«والمِيزَانَ» ، قال ابن زيد: هو ما يُوزَنُ به، ويتعامل.

روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه الصلاة والسلام ُ - وقال: مُرْ قَوْمكَ يَزِنُوا بِهِ ليقُومَ النَّاسُ بالقِسْطِ، أي: بالعدل في معاملاتهم.

وقيل: أراد به العدل.

قال القشيري: وإذا حملناه على الميزان المعروف، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان وهو من باب:[الرجز]

4725 -

عَلَفْتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً

ص: 498

ويدل على هذا قوله تعالى: {والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} [الرحمن: 7] .

قوله: «مَعَهُمُ» حال مقدرة، أي: صائراً معهم، وإنما احتجنا إلى ذلك؛ لأن الرسل لم ينزلوا، ومقتضى الكلام أن يصحبوا الكتاب في النزول.

وأما الزمخشري فإنه فسّر الرسل بالملائكة الذين يجيئون بالوحي إلى الأنبياء، فالمعية متحققة.

قوله: {وَأَنزَلْنَا الحديد} .

روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال: «إنَّ اللَّهَ تعَالَى أنْزلَ أرْبَعَ بركاتٍ مِنَ السَّماءِ إلى الأرْضِ: الحَديْدَ والمَاءَ والنَّارَ والثَّلْجَ» .

وروى عكرمة عن ابن عباس قال: أنزل ثلاثة أشياء مع آدم عليه الصلاة والسلام ُ - الحَجَر الأسود وكان أشد بياضاً من الثَّلج، وعصا موسى، وكانت من آسِ الجنة، طولها عشرة أذرع مع طول موسى، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء: السَّنْدَان، والكَلْبتَان، والميْقَعَة، وهي المِطْرقَة ذكره الماوردي.

وروى الثعلبي عن ابن عبَّاس قال: نزل آدم من الجنَّة، ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين: السَّندان، والكلْبتَان، والمِيْقعَة، والمِطْرقَة والإبْرَة.

وحكاه القشيري قال: والمِيْقعَة: [ما يحدد به، يقال: وقعت الحديدة أقعها، أي حددتها.

وفي «الصحاح» ] : «المِيْقَعَة» الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، وخشبة القصَّار التي يدقّ عليها، والمِطْرقَة، والمِسَنّ الطويل.

وروي أن الحديد أنزل يوم الثلاثاء.

{فيه بأس شديدٌ} أي: لإهراق الدِّماء، ولذلك نهي عن الفَصْد والحِجَامة يوم الثلاثاء؛ لأنه يوم جرى فيه الدَّم.

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ «إنَّ فِي يَوْمِ الثلاثاءِ ساعةً لا يُرَاقُ فِيْهَا الدَّمُ» .

ص: 499

وقيل: «أنزلنا الحديد» أي: أنشأناه وخلقناه، كقوله تعالى:

{وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأنعام} [الزمر: 6] وهذا قول الحسن. فيكون من الأرض غير منزل من السماء.

وقال أهل المعاني: أي أخرج الحديد من المعادن، وعلمهم صنعته بوحيه.

وقوله: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} جملة حالة من «الحديد» ، والمراد بالحديد يعني: السلاج والجُنَّة.

وقيل: إن فيه من خشية القتل خوفاً شديداً.

{وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} قال مجاهد: يعني جُنَّة.

وقيل: انتفاع النَّاس بالماعون: الحديد كالسِّكين والفأس ونحوه.

قوله: {وَلِيَعْلَمَ الله} . عطف على قوله: {لِيَقُومَ الناس} ، أي: لقد أرسلنا رسلنا، وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس، وليعلم الله.

وقال أبو حيان: علّة لإنزال الكتاب والميزان والحديد.

والأول أظهر؛ لأن نصرة الله ورسوله مناسبة للإرسال.

قوله: «ورُسُلَهُ» عطف على مفعول «ينصره» ، أي: وينصر رسله.

قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون معطوفاً على «من» لئلا يفصل به بين الجار، وهو «بالغيب» ، وبين ما يتعلق به وهو «ينصر» .

قال شهاب الدين: وجعله العلة ما ذكره من الفصل بين الجار، وبين ما يتعلق به يوهم أن معناه صحيح لولا هذا المانع، وليس كذلك؛ إذ يصير التقدير: وليعلم الله من ينصره بالغيب، وليعلم رسله، وهذا معنى لا يصح ألبتة، فلا حاجة إلى ذكر ذلك، و «بالغيب» حال وقد تقدم مثله أول «البقرة» .

فصل في معنى الآية

المعنى: وليعلم الله من ينصره، أي: أنزل الحديد ليعلم من ينصره، أو ليقوم الناس بالقسط؛ أي: أرسلنا رسلنا.

{وأنزلنا معهم الكتاب} وهذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق، وليرى الله من ينصر دينه وينصر رسله بالغيب، أي: وهم لا يرونهم.

ص: 500

{إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} قوي في أخذه عزيز أي: منيع غالب.

وقيل: بالغيب أي: بالإخلاص.

فصل في الرد على من قال بحدوث علم الله

احتج من قال بحدوث علم الله بقوله: «وليعلم الله» .

وأجيب: بأنه - تعالى - أراد بالعلم المعلوم، فكأنه - تعالى - قال: ولتقع نُصْرة الرسول ممن ينصره.

فصل في الرد على الجبرية

قال الجبائي: قوله: {لِيَقُومَ الناس بالقسط} يدل على أنه - تعالى - أنزل الميزان والحديد، ومراده من العباد أن يقوموا بالقسط، وأن ينصروا رسله، وإذا أراد هذا من الكل بطل قول المجبرة أنه أراد من بعضهم خلاف ذلك.

وأجيب: بأنه كيف يمكن أن يريد من الكُلِّ ذلك مع علمه بأن ضدّه موجود، والجمع بين الضِّدين محال، والمحال غير المراد.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ} الآية.

لما أجمل الرسل في قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} فصل ها هنا ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب، وأخبر أنه أرسل نوحاً وإبراهيم، وجعل النبوة في نسلهما، لقوله:{وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب} ، أي: جعلنا بعض ذريتهما الأنبياء، وبعضهم أمماً يتلون الكتب المنزلة من السماء كالتوراة والإنجيل والزَّبُور والفُرقَان.

وقال ابن عبَّاس: الخَطّ بالقَلم.

قوله: {فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ} .

والضمير يجوز عودهُ على الذُّرِّية، وهو أولى لتقدم ذكره لفظاً.

وقيل: يعود على المرسل إليهم لدلالة رسلنا والمرسلين إليهم.

والمعنى: منهم مهتد ومنهم فاسق، والمراد بالفاسق هاهنا، قيل: الذي ارتكب الكبيرة سواء كان كافراً أو لم يكن لإطلاق هذا الاسم، وهو يشمل الكافر وغيره.

وقيل: المراد بالفاسق ها هنا الكافر؛ لأنه جعل الفُسَّاق ضد المهتدين.

ص: 501

قوله: {ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم} ، أي: أتبعنا على آثارهم، أي: على آثار الذُّرية.

وقيل: على آثار نوح وإبراهيم برسلنا موسى وإلياس وداود ويونس، وغيرهم، {وقفّينا بعيسى ابن مريم} ، فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمّه.

{وَآتَيْنَاهُ الإنجيل} : وهو الكتاب المنزل عليه وقد تقدم اشتقاقه في أول آل عمران.

وقراءة الحسن: بفتح الهمزة.

قال الزمخشري: أمره أهون من أمر البَرْطِيل والسَّكينة فيمن رواها بفتح «الفاء» ؛ لأن الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب.

وقال ابن جنّي: قراءة الحسن - بفتح الهمزة - مثال مبالغة، لا نظير له؛ لأنه «أفعيل» وهو عندهم من نجلت الشيء إذا استخرجته لأنه يستخرج به الأحكام.

وقال ابن الخطيب: وغالب الظن أنه ما قرأه إلا عن سماع؛ وله وجهان:

أحدهما: أنه شاذ، كما حكي عن بعضهم في البَرْطِيل.

والثاني: أنه ظن الإنجيل أعجميًّا، فحرف مثاله؛ تنبيهاً على كونه أعجمياً.

قوله: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه} على دينه يعني: الحواريين وأتباعهم {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} .

ص: 502

قرأ الحسن: «رَآفة» بزنة «فَعَالة» .

قال مقاتل: المراد من الرَّأفة والرحمة: المودَّة فكان يوادّ بعضهم بعضاً كما وصف الله - تعالى - أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم َ بقوله: {رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .

وقيل: هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصَّفْحِ، وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قستْ قلوبهم، وحرّفوا الكلم عن مواضعه.

والرَّأفة: [اللِّين.

والرحمة:] الشَّفقةُ.

وقيل: الرأفة تخفيف الكُل، والرحمة تحمل الثقل.

وقيل: الرَّأفة: أشد من الرحمة وتم الكلام.

فصل في أن أفعال العبد خلق لله تعالى

دلت هذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى؛ لأنه حكم بأن هذه مجعولة، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية.

قال القاضي: المراد بذلك أنه - تعالى - لطف بهم حتى قويت دواعيهم في الرَّهبانية التي هي تحمّل الكلفة الزائدة على ما يجب.

والجواب: أن هذا ترك للظاهر من غير دليل، وإن سلمنا ذلك فهو يحصل مقصودنا؛ لأن الحال الاستواء بمنع حصول الرُّجحان؛ لأنَّ حصول الرجحان عند الاستواء ممتنع، فعند المرجوحية أولى بأن يصير ممتنعاً، وإذا امتنع المرجُوح وجب الراجح ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض.

قوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} . في انتصابها وجهان:

أحدهما: أنها معطوفة على «رأفة ورحمة» .

و «جعل» إما بمعنى «خَلَق» ، وإما بمعنى «صيّر» ، و «ابتدعوها» على هذا صفة ل «رَهْبَانية» ، وإنما خصّت بذكر الابتداع؛ لأن الرَّأفة والرحمة في القلب أمر غريزة لا تكسُّب للإنسان فيها، بخلاف الرهبانية، فإنها أفعال البدن، وللإنسان فيها تكسُّب، إلا أن أبا البقاء منع هذا الوجه، بأن ما جعله الله لا يبتدعونه.

ص: 503

وجوابه: ما تقدم من أنه لما كانت مكتسبة صح ذلك منها.

وقال أيضاً: وقيل: هو معطوف عليها، و «ابتدعوها» نعتٌ له، والمعنى: فرض عليهم لزوم رهبانية ابتدعوها، ولهذا قال:{مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَاّ ابتغآء رِضْوَانِ الله} .

والوجه الثاني: أنها منصوبة بفعل مقدر يفسره الظَّاهر.

وقال أبو علي: «ابتدعوها رهبانية» ، وتكون المسألة من باب الاشتغال، وإليه نحا الفارسي والزمخشري، وأبو البقاء وجماعة.

إلَاّ أن هذا يقال: إنه إعراب المعتزلة، وذلك أنهم يقولون: ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له، فالرأفة والرحمة لما كانت من فعل الله نسب خلقهما إليه، والرهبانية لمَّا لم تكن من فعل الله - تعالى - بل من فعل العبد يستقلّ بفعلها نسب ابتداعها إليه.

ورد عليهم أبو حيَّان هذا الإعراب من حيث الصناعة، وذلك أن من حق الاسم المشتغل عنه ألَاّ يصلح للرفع بالابتداء، و «رَهْبَانية» نكرة لا مسوغ للابتداء بها، فلا يصلح نصبها على الاشتغال.

قال شهاب الدين: وفيه نظر لأنا لا نسلم أولاً اشتراط ذلك، ويدل عليه قراءة من قرأ:{سُورَةً أَنزَلْنَاهَا} [النور: 1] بالنصب على الاشتغال، كما تقدم تحقيقه، ولئن سلمنا ذلك فثمَّ مسوغ وهو العطف، ومن ذلك قول الشَّاعر:[البسيط]

4726 -

عِنْدِي اصْطِبَارٌ وشَكْوَى عِنْدَ قَاتلتِي

فَهَلْ بأعْجَبَ مِنْ هَذَا امْرُؤٌ سَمِعَا؟

وقول الآخر: [الطويل]

4727 -

تَغَشَّى ونَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا

مُحَيَّاكِ، أخْفَى ضَوْءُهُ كُلَّ شَارِقِ

ذكر ذلك ابن مالك.

و «الرَّهْبَانية» : منسوبة إلى «الرَّهْبَان» ، وهو «فَعْلَان» من رهب، كقولهم: الخَشْيَان من خشي، وقد تقدم معنى هذه المادة في سورة «المائدة» .

وقرىء بضم الراء.

ص: 504

قال الزمخشري: كأنها نسبة إلى «الرُّهْبَان» ، وهو جمع: راهب، ك «راكب، ورُكْبان» .

قال أبو حيان: والأولى أن يكون منسوباً إلى «رَهْبَان» - يعني بالفتح - وغيِّر؛ لأنَّ النَّسب باب تغيير، ولو كان منسوباً ل «رُهْبَان» الجمع لردّ إلى مفرده إلَاّ إن قد صار كالعلم، فإنه ينسب إليه ك «الأنصار» .

فصل في المراد بالرهبانية

والمراد من الرهبانية: ترهُّبُهم في الجبال فارِّين من الفتنة في الدين متحملين كلفاً زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلوة، واللِّباس الخَشِن، والاعتزال عن النساء، والتعبُّد في الغيرانِ والكهوف.

روى ابن عباس أن في أيام الفترةِ بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - غيَّر الملوك التوراة والإنجيل، فراح نفرٌ، وبقي نفر قليل، فترهبوا وتبتلوا.

قال الضحاك: إن ملوكاً بعد عيسى عليه الصلاة والسلام ُ - ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة، فأنكرها عليهم من كان بقيَ على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا، فليس يسعُنَا المقام بينهم، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصَّوامع.

وقال قتادة: الرهبانية التي ابتدعوها رفضُ النساء، واتخاذ الصَّوامع.

وفي خبر مرفوع: هي لحوقهم بالبرارِي والجبال.

قوله تعالى: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} .

صفة ل «رهبانية» ، ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك.

قال ابن زيد: معناه ما فرضناها عليهم، ولا أمرناهم بها.

ص: 505

وقوله: {إِلَاّ ابتغآء رِضْوَانِ الله} . فيه أوجه:

أحدها: أنه استثناء متصل مما هو مفعول من أجله، والمعنى: ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ابتغاء مرضات الله، فيكون «كتب» بمعنى «قضى» ، فصار المعنى: كتبناها عليهم ابتغاء مرضات الله، وهذا قول مجاهد.

والثاني: أنه منقطع.

قال الزمخشري ولم يذكر غيره: «أي: ولكنهم ابتدعوها» .

وإلى هذا ذهب قتادة وجماعة، قالوا: معناه لم يفرضها عليهم، ولكنهم ابتدعوها.

الثالث: أنه بدل من الضمير المنصوب في «كَتَبْنَاها» قاله مكي.

وهو مشكل، كيف يكون بدلاً وليس هو الأول لا بعضه، ولا مشتملاً عليه.

وقد يقال: إنه بدل اشتمال؛ لأن الرهبانية الخالصة المرعية حق الرعاية قد يكون فيها ابتغاء رضوان الله، ويصير نظير قولك: الجارية ما أحببتها إلا أدبها فأدبها بدل من الضمير في «أحببتها» بدل اشتمال، وهذا نهاية التمحُّل لصحة هذا القول.

والضمير المرفوع في «رَعَوْهَا» عائد على من تقدم.

والمعنى: أنهم لم يدوموا كلهم على رعايتها، وإن كان قد وجد هذا في بعضهم.

وقيل: يعود على الملوك الذين حاربوهم.

وقيل على أخلافهم و «حقَّ» نصبه على المصدر.

قال القرطبي فيها: وقيل: «إلَاّ ابتغاء» استثناء منقطع، والتقدير:«ما كتبناها عليهم، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله» .

{فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} .

أي: ما قاموا بها حقَّ القيام، بل ضمُّوا إليها التثليث والاتحاد، وأقام الناس منهم على دين عيسى عليه الصلاة والسلام ُ - حتى أدركوا نبينا محمداً عليه الصلاة والسلام ُ - فآمنوا به، فهو قوله تعالى:{فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم، وكثير منهم فاسقون} .

وقيل: إنّا ما كتبنا عليهم تلك الرهبانية إلَاّ ليتوسلوا بها إلى مرضاة الله تعالى، ثم إنهم أتوا بتلك الأفعال لغير هذا الوجه، وهو طلب الدنيا والرِّياسة والسُّمعة.

وقيل: معناه أنا كتبناها عليهم فتركوها، فيكون ذلك ذمًّا لهم لتركهم الواجب.

ص: 506

وقيل: إن الذين لم يرعوها حق رعايتها هم الذين أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم َ ولم يؤمنوا به.

فصل فيمن أحدث بدعة

دلت هذه الآية أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ابتدع خيراً أن يدوم عليه، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية.

وعن أبي أمامة الباهلي واسمه صديُّ بن عجلان أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال: «أحْدَثْتُم قيامَ رمضانَ ولمْ يُكتَبْ عليْكمْ، إنَّما كُتِبَ عليْكُمُ الصِّيامُ، فدُومُوا على القِيامِ إذْ فعلتُمُوهُ ولا تَتْرُكُوهُ، فإنَّ ناساً مِنْ بَنِي إسْرائِيلَ ابْتدَعُوا بِدَعاً ولَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عليهم ابتغَوْا بِهَا رضْوانَ اللَّهِ فَما رَعَوْهَا حَقَّ رعايتِهَا فَعَاتَبَهُم الله عليها بِترْكِهَا» ، فقال:{وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} الآية.

فصل

دلّت الآية على العزلة عن الناس وذلك مَنْدُوبٌ إليه عند فساد الزمان، وتغير الأحوال والإخوان.

قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ} .

أي: آمنوا بموسى وعيسى {اتقوا الله وَآمِنُواْ} بمحمد صلى الله عليه وسلم َ {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} ، أي: مثلين من الأجْر على إيمانهم بعيسى وبمحمد صلى الله عليه وسلم َ؛ وهذا نظير قوله تعالى: {أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} [القصص: 54] .

و «الكِفْلُ» : الحظّ والنصيب.

وقد تقدم، وهو في الأصل كساء يكتفلُ به الراكب يحفظه من السقوط. قاله ابن جرير.

وقال الأزهري: اشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط، والمعنى: يؤتكم نَصِيبيْنِ يحفظانكم من هلكةِ المعاصي كما يحفظ الكفلُ الراكب.

وقال أبو موسى الأشعري: «كِفْلَيْن» ضِعْفَيْن، بلسان «الحبشة» .

ص: 507

وقال ابن زيد: «كِفْلين» أجر الدنيا والآخرة.

وقيل: لما نزلت: {أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ} [القصص: 54] افتخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم َ فنزلت هذه الآية.

فإن قيل: إنه - تعالى - لما أعطاهم كِفْلَيْنِ، وأعطى المؤمن كفلاً واحداً كان حالهم أعظم.

فالجواب: أنه لا يبعد أن يكون النَّصيب الواحد أزيد قدراً من النصيبين.

روى أبو موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه قال: «ثَلاثَةٌ يُؤتَوْنَ أجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ: رجُلٌ كانَتْ لَهُ جَاريةٌ فأدَّبهَا وأحْسَنَ أدبهَا، ثُمَّ أعتَقَهَا وتَزوَّجَهَا، ورجُلٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ آمَنَ بِكِتَابِهِ، وآمَنَ بمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم َ وعبدٌ أحْسَنَ عبادةَ اللَّهِ ونَصَحَ سَيِّدَهُ» .

قوله: {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً} .

قال مجاهد: أي: بياناً وهدى.

وقال ابن عباس: هو القرآن.

وقيل: ضياء يمشون به في الآخرة على الصراط، وفي القيامة إلى الجنة، وهو النور المذكور في قوله تعالى {يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} [الحديد: 12] .

وقيل: تمشون به في الناس تدعونهم إلى الإسلام، فتكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياسة كنتم فيها، وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم َ وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله تعالى، لا الرِّياسة الحقيقية في الدين ثم قال:{وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} ، أي: ما أسلفتم من المعاصي، {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .

قوله تعالى: {لِّئَلَاّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} .

ص: 508

هذه «اللام» متعلقة بمعنى الجملة الطَّلبية المتضمنة لمعنى الشرط، إذ التقدير: إن تتقوا الله، وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا يعلم.

وفي الآية هذه وجهان:

أشهرهما عند النحاة والمفسرين: أنها مزيدة كهي في {مَا مَنَعَكَ أَلَاّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] و {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} [يس: 31] . على خلاف في هاتين الآيتين.

والتقدير: أعلمكم الله بذلك ليعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على شيء من فضلِ الله، وثبوت أن الفضل بيد الله، وهذا واضح بيِّن، وليس فيه إلا زيادة ما ثبتت زيادته شائعاً ذائعاً.

والثاني: أنها غير مزيدة، والمعنى: لئلا يعلم أهل الكتاب [عجز المؤمنين. نقل ذلك أبو البقاء، وهذا لفظه.

وكان قال قبل ذلك: «لا» زائدة، والمعنى: ليعلم أهل الكتاب] عجزهم.

وهذا غير مستقيم؛ لأن المؤمنين عاجزون أيضاً عن شيءٍ من فضل الله، وكيف يعمل هذا القائل بقوله:{وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله} ، فإنه معطوف على مفعول العلم المنفي، فيصير التقدير: لئلا يعلم أهل الكتاب أنَّ الفضل بيد الله، وهذا لا يستقيم نفي العلم به ألبتة، فلا جرم كان قولاً مطرحاً.

وقرأ العامة: «لئلَاّ» بكسر لام كي، وبعدها همزة مفتوحة مخففة.

وورش يبدلها ياء محضة. وهو تخفيف قياسي نحو: «مِيَة وفِيَة» في «مِئَة وفِئَة» ويدل على زيادتها قراءة عبد الله، وابن عباس، وعكرمة، والجحدري، وعبد الله بن سلمة:«ليعلم» بإسقاطها.

وقراءة حطَّان بن عبد الله: «لأن يعلم» بإظهار «أن» .

والجحدري أيضاً والحسن: «ليعلم» .

وأصلها كالتي قبلها «لأن يعلم» فأبدل الهمزة ياء لانفتاحها بعد كسرة؛ وقد تقدم أنه قياسي كقراءة ورش «ليلاّ» ثم أدغم النون في الياء.

ص: 509

قال أبو حيان: «بغير غُنَّةٍ كقراءة خلف» أن يضرب «بغير غُنَّةٍ» . انتهى.

فصار اللفظ «ليعلم» . وقوله «بغير غنة» ، ليس عدم الغنة شرطاً في صحة هذه المسألة بل جاء على سبيل الاتفاق، ولو أدغم بغنة لجاز ذلك فسقوطها في هذه القراءات يؤيد زيادتها في المشهورة.

وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه أبو بكر بن مجاهد: «ليلا يعلم» بلام مفتوحة وياء ساكنة كاسم المرأة، ورفع الفعل بعدها.

وتخريجها: على أن أصلها «لأن لا» على أنها لام الجر ولكن فتحت على لغة مشهورة معروفة؛ وأنشدوا:

4728 -

أرِيدُ لأَنْسَى ذِكْرَهَا

. .....

...

...

. .

بفتح «اللام» ، وحذف الهمزة اعتباطاً، وأدغمت النون في «اللام» فاجتمع ثلاثة أمثال فثقل النطق به، وأبدل الوسط ياء تخفيفاً، فصار اللفظ «ليلا» كما ترى، ورفع الفعل؛ لأن «أنْ» هي المخففة لا النَّاصبة، واسمها على ما تقرر ضمير الشَّأن، وفصل بينهما وبين الفعل الذي هو خبرها بحرف النَّفْي.

وقرأ الحسن أيضاً فيما روى عنه قطرب: «ليلا» بلام مكسورة، وياء ساكنة، ورفع الفعل بعدها، وهي كالَّتي قبلها في التخريج، غاية ما في الباب أنه جاء بلام الجر كما هي في اللغة الشهيرة.

وروي عن ابن عباس: «لكي يعلم» و «كي يعلم» .

وعن عبد الله: «لكيلا» .

وهذه كلها مخالفة للسَّواد الأعظم، ولسواد المصحف.

وقراءة العامة: {أن لا يقدرون} بثبوت النون، على أن «أنْ» هي المخففة.

وعبد الله: بحذفها على أن «أن» هي الناصبة.

وهذا شاذّ جداً؛ لأن العلم لا يقع بعده الناصبة.

وقوله: {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} الظاهر أنه مستأنف.

ص: 510

وقيل: هو خبر ثانٍ عن الفضل.

وقيل: هو الخبر وحده، والجار قبله حال، وهي حال لازمة؛ لأن كونه بيدِ الله لا ينتقل ألبتة.

فصل في اتصال الآية بما قبلها

نقل ابن الخطيب عن الواحدي أنه قال: هذه الآية مشكلة، وليس للمفسرين فيها قول واضح في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها.

واعلم أن أكثر المفسرين على أن «لا» هاهنا صلة زائدة، والتقدير: ليعلم أهل الكتاب.

وقال أبو مسلم وجماعة: على أن «لا» ليست زائدة، ونحن نفسر الآية على القولين بعون الله وتوفيقه.

أما على القول بزيادتها، فاعلم أنه لا بُدَّ هاهنا من تقديم مقدمة، وهي أن أهل الكتاب كانوا يقولون: إن الوحْيَ والرسالة فينا، والكتاب والشرع ليس إلَاّ لنا، وإنّ الله خصَّنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين العالمين.

إذا عرفت هذا، فنقول: إن الله - تعالى - لما أمر أهل الكتاب بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم َ ووعدهم الأجر العظيم في ذلك الإيمان أتبعه بهذه الآيةِ، والغرض منها أن يزيل عن قلبهم اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم، فقال: إنما بالغنا في هذا البيان ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيءٍ من فَضْل الله لقوم معينين، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، ولا اعتراض عليه في ذلك أصلاً.

وأما القول بأن «لا» غير زائدة، فاعلم أن الضمير في قوله:«لا يَقْدرون» عائد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم َ وإلى أصحابه رضي الله عنهم والتقدير: لئلا يعلم أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله، فإنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه، فقد علموا أنَّهم يقدرون عليه ثم قال:{وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله} فيصير التقدير: إنا جعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله في قوم معينين، وليعتقدوا أن الفضل بيد الله.

واعلم أنَّ هذا القول ليس فيه إلَاّ أنا أضمرنا فيه زيادة، فقلنا في قوله:{وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله} تقديره: وليعتقدوا أنَّ الفضل بيد الله وأما القول الأول فقد افتقرنا فيه إلى حذف شيء موجود، ومن المعلوم أنَّ الإضمار أولى من الحذف؛ لأن الكلام إذا افتقر إلى الإضمار لم يوهم ظاهره باطلاً أصلاً.

ص: 511

وأما إذا افتقرنا إلى الحذف كان ظاهرهُ موهماً للباطل، فعلمنا أن هذا القول أولى.

فصل في نزول هذه الآية

قال قتادةُ: حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت: لئلا يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله.

وقال مجاهد: قالت اليهود: يوشك أن يخرج منّا نبيٌّ يقطع الأيدي والأرجل، فلما خرج من العرب كفروا فنزلت:«لئلا يعلم» ، أي: ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون يعني: أنهم لا يقدرون، كقوله:{أَلَاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} [طه: 89] والمراد من فضل الله.

قيل: الإسلام وقيل: الثواب.

وقال الكلبي: من رزق الله.

وقيل: نِعَمُ الله التي لا تُحْصَى.

{وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله} ليس بأيديهم، فيصرفوا النُّبُوَّة عن محمد صلى الله عليه وسلم َ إلى من يُحِبُّون.

وقيل: إن الفضل بيد الله، أي: بقوله: {يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} .

روى البخاري عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وهو قائم على المنبر يقول: «إنَّما بَقَاؤكُمْ فِيْمَا سَلَفَ قَبْلكُمْ مِنَ الأممِ كما بَيْنَ صلاةِ العصْرِ إلى غُرُوبِ الشَّمسِ، أعْطِيَ أهْلُ التَّوراةِ التَّوْراةَ فَعمِلُوا بِهَا حتَّى انْتَصفَ النَّهارُ، ثُمَّ عَجَزُوا فأعْطُوا قِيْراطاً قِيْراطاً، ثُمَّ أعطي أهْلُ الإنجيلِ الإنجيلَ فعمِلُوا بِهِ حتَّى صلاةِ العَصْرِ، ثُمَّ عَجَزُوا فأعْطُوا قِيْراطاً قِيْراطاً، ثُمَّ أعطيتُمُ القُرْآنَ فعَمِلْتُمْ بِهِ حتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ فأعطيتُمْ قِيْراطَيْنِ قِيْراطَيْنِ، قال أهْلُ التَّوْرَاةِ: رَبَّنَا هؤلاءِ أقَلُّ عملاً وأكْثَرُ أجْراً، قال: هَلْ ظُلِمْتُمْ مِنْ أجْرِكُمْ شَيْئاً؟ قَالُوا: لا، قال: فذلِك فَضْلُ اللَّهِ أوتيهِ مَنْ أشَاءُ» .

وفي رواية: «فَغَضِبَتِ اليَهُودُ والنَّصَارى وقالُوا: رَبَّنَا» الحديث.

ص: 512