الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهي ثمان وسبعون آية، وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة، وألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا. بسم الله
الرحمن
الرحيم قال قال تعالى: «الرَّحْمن» فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي:«الله الرحمن» .
الثاني: أنه مبتدأ وخبره مضمر، أي:«الرحمن ربنا» وهذان الوجهان عند من يرى أن «الرحمن» آية مع هذا المضمر معه، فإنهم عدُّوا الرحمن «آية» .
ولا يتصور ذلك إلا بانضمام خبر أو مخبر عنه إليه؛ إذ الآية لا بد أن تكون مفيدة، وسيأتي ذلك في قوله:{مُدْهَآمَّتَانِ} [الآية: 64] .
الثالث: أنه ليس بآية، وأنه مع ما بعده كلام واحد، وهو مبتدأ، خبره «عَلَّم القُرْآنَ» .
فصل في بيان مناسبة السورة
افتتح السورة التي قبلها بذكر معجزة تدل على القهر [والغلبة] والجبروت، وهو انشقاق القمر، فمن قدر عليه قدر على قطع الجبال وإهلاك الأمم، وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدلّ على الرحمة، وهي القرآن، وأيضاً فأولها مناسب لآخر ما قبلها؛ لأن آخر تلك أنه {مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} [القمر: 55] وأول هذه أنه رحمن.
قال بعضهم: إن «الرحمن» اسم علم، واحتج بقوله تعالى:{قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى} [الإسراء:
1
10] .
وأجاز أن يقال: «يالرحمن» باللام، كما يقال:«يا الله» وهذا ضعيف، وهو مختص بالله تعالى، فلا يقال لغيره.
قال سعيد بن جبير، وعامر الشعبي:«الرحمن» فاتحة ثلاثة سور إذا جمعن كن اسماً من أسماء الله تعالى: «الر» و «حم» و «نون» ، فيكون مجموع هذه «الرحمن» .
ولله - تعالى - رحمتان:
رحمة سابقة بها خلق الخلق، ورحمة لاحقة بها أعطاهم الرزق والمنافع، فهو رحمن باعتبار السَّابقة، رحيم باعتبار اللاحقة، ولما اختص بالإيجاد لم يقل لغيره: رحمن، ولما تخلق بعض خلقه الصالحين ببعض أخلاقه بحسب الطَّاقة البشرية، فأطعم ونفع، جاز أن يقال له: رحيم.
قوله: «عَلَّم القُرآن» فيه وجهان:
أظهرهما: أنه «علم» المتعدية إلى اثنين أي عرف من التعليم، فعلى هذا المفعول الأول محذوف.
قيل: تقديره: علم جبريل القرآن.
وقيل: علم محمداً.
وقيل: علم الانسان، وهذا أولى لعمومه، ولأن قوله:«خَلَقَ الإنْسان» دال عليه.
والثاني: أنها من العلامة، والمعنى: جعله علامة، وآية يعتبر بها، أي: هو
علامة النبوة ومعجزة، وهذا مناسب لقوله تعالى:{وانشق القمر} [القمر: 1] . على ما تقدم أنه ذكر في أول تلك السورة معجزة من باب الهيبة، وذكر في هذه السورة معجزة من باب الرحمة، وهو أنه يسر من العلوم ما لا يسره غيره، وهو ما في القرآن، أو يكون بمعنى أنه جعله بحيث يعلم كقوله تعالى:
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ} [القمر: 17]، فالتعليم على هذا الوجه مجاز كما يقال لمن أنفق على متعلم وأعطى أجرة معلمه: علمته.
فإن قيل: لم ترك المفعول الثاني؟ .
فالجواب: أن ذلك إشارة إلى أن النعمة في التعليم لا تعليم شخص دون شخص؛ فإن قيل: كيف يجمع بين هذه الآية، وبين قوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ الله} [آل عمران: 7] ؟ فالجواب: إن قلنا بعطف الرَّاسخين على «الله» فظاهر.
وإن قلنا بالوقف على الجلالة، ويبتدأ بقوله:«والرَّاسِخُون» فلأن من علم كتاباً عظيماً فيه مواضع مشكلة قليلة، وتأملها بقدر الإمكان، فإنه يقال: فلان يعلم الكتاب الفلاني، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين في تلك المواضع القليلة، وكذا القول في تعليم القرآن، أو يقال: المراد لا يعلمه من تلقاء نفسه، بخلاف الكتب التي تستخرج بقوّة الذكاء.
فصل في نزول هذه الآية
قال المفسرون: نزلت هذه الآية حين قالوا: وما الرحمن؟ .
وقيل: نزلت جواباً لأهل «مكة» حين قالوا: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل: 103] ، وهو رحمن «اليمامة» ، يعنون: مسيلمة الكتاب فأنزل الله - تعالى - {الرحمن، علَّم القُرآن} أي: سهله لأن يذكر ويُقرأ.
كما قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ} [القمر: 22] .
قوله تعالى: «خلق الإنسان» .
قال ابن عباس وقتادة، والحسن: يعني آدم عليه الصلاة والسلام ُ -.
قوله: «علَّمهُ البَيانَ» علمه أسماء كل شيء.
وقيل: علمه اللغات كلها، وكان آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية. وعن ابن عباس أيضاً، وابن كيسان: المراد بالإنسان هنا محمد عليه الصلاة والسلام ُ - والمراد من البيان بيان الحلال من الحرام، والهدى من الضلالة.
وقيل: ما كان وما يكون؛ لأنه ينبىء عن الأولين، والآخرين، ويوم الدين.
وقال الضحاك: «البيان» : الخير والشر وقال الربيع بن أنس: هو ما ينفعه مما يضره.
وقيل: المراد ب «الإنسان» جميع الناس، فهو اسم للجنس، والبيان على هذا الكلام: الفهم وهو مما فضل به الإنسان على سائر الحيوان.
قال السدي: علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به.
وقال يمان: الكتابة والخط بالقلم نظيره {عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 4، 5] .
فصل في كيفية النظم
إنه علم الملائكة أولاً، ثم خلق الإنسان، وعلمه البيان، فيكون ابتدأ بالعلوي، وقابله بالسفلي، وقدم العلويات على السفليات، فقال:«علم القرآن» إشارة إلى تعليم العلويين.
ثم قال: {خَلَقَ الإنسانَ، علَّمهُ البيانَ} إشارة إلى تعليم السفليين، وقال:{الشمس والقمر بحسبان} [في العلويات]{والنجم والشجر يسجدان} [في السفليات] .
ثم قال: {والسمآء رَفَعَهَا} [الرحمن: 7]، وفي مقابلتها {والأرض وَضَعَهَا} [الرحمن: 10] .
فصل في وصل هذه الجمل
هذه الجمل من قوله: {عَلَّمَ القُرآنَ، خلق الإنسَانَ، علَّمه البيان} جيء بها من غير عاطف؛ لأنها سيقت لتعديد نعمه، كقولك:«فلان أحسن إلى فلان، أشاد بذكره، رفع من قدره» فلشدة الوصل ترك العاطف، والظاهر أنها أخبار.
وقال أبو البقاء: و «خَلَقَ الإنسَانَ» مستأنف، وكذلك «علَّمَهُ» ، ويجوز أن يكون حالاً من الإنسان مقدرة، وقدَّر معها مرادة انتهى.
وهذا ليس بظاهر، بل الظاهر ما تقدم، ولم يذكر الزمخشري غيره.
فإن قيل: لم قدم تعليم القرآن للإنسان على خلقه، وهو متأخر عنه في الوجود؟ .
فالجواب: لأن التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه.
فإن قيل: كيف صرح بذكر المفعولين في «علَّمهُ البَيانَ» ، ولم يصرح بهما في «علَّم القُرآن» ؟ .
فالجواب: أن المراد من قوله «علَّمه البَيَانَ» تعديد النِّعم على الإنسان، واستدعاء للشكر منه، ولم يذكر الملائكة؛ لأن المقصود ذكر ما يرجع إلى الإنسان.
فإن قيل: بأنه علم الإنسان القرآن.
فيقال: بأن ذكر نعمة التعليم وعظمها على سبيل الإجمال، ثم بين كيفية تعليمه القرآن، فقال:{خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} .
واستدلّ بعضهم بهذه الآية على أن الألفاظ توقيفية.
قوله: {والشمس والقمر بحسبان} فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الشمس مبتدأ، و «بِحُسْبَان» خبره على حذف مضاف، تقديره: جري الشمس والقمر بحسبان، أي كائن، أو مستقر، أو استقر بحُسْبَان.
الثاني: أن الخبر محذوف يتعلق به هذا الجار، تقديره: يجريان بحُسْبَان.
وعلى هذين القولين، فيجوز في الحسبان وجهان:
أحدهما: أنه مصدر مفرد بمعنى «الحُسْبان» ، فيكون ك «الشُّكْران» و «الكُفْران» .
والثاني: أنه جمع حساب، ك «شهاب» و «شُهْبَان» .
والثالث: أن «بحسبان» خبره، و «الباء» ظرفية بمعنى «في» أي: كائنان في حسبان.
وحسبان على هذا اسم مفرد، اسم للفلك المستدير، مشبهة بحسبان الرَّحَى الذي باستدارته تدور الرّحى.
فصل
لما ذكر خلق الإنسان وإنعامه عليه لتعليمه البيان، ذكر نعمتين عظيمتين، وهما: الشمس والقمر، وأنهما على قانون واحد وحسابٍ لا يتغيران، وبذلك تتم منفعتهما للزراعات وغيرها، ولولا الشمس لما زالت الظلمة، ولولا القمر لفات كثير من المنافع الظاهرة، بخلاف غيرهما من الكواكب، فإن نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ظهور نعمتهما، وأنهما بحساب لا يتغير أبداً، ولو كان مسيرهما غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزِّراعات في أوقاتها، ومعرفة فصول السَّنة.
ثم لما ذكر النعم السماوية وذكر في مقابلتها أيضاً نعمتين ظاهرتين من الأرض، وهما: النبات الذي لا ساق له، وما له ساق؛ لأن النبات أصل الرزق من الحبوب والثمار، والحشيش للحيوان.
وقيل: إنما ذكر هاتين النعمتين بعد تعليم القرآن إشارة إلى أن من الناس من لا تكون نفسه زكيّة، فيكتفي بأدلة القرآن، فذكر له آيات الآفاق، وخص الشمس والقمر؛ لأن حركتهما بحسبان تدل على الفاعل المختار.
ولو اجتمع العالم ليبيّنوا سبب حركتهما على هذا التقدير المعين لعجزوا، وقالوا: إن الله حركهما بالإرادة كما أراد.
وقيل: لما ذكر معجزة القرآن بإنزاله أنكروا نزول الجرم من السماء وصعوده إليها، فأشار تعالى بحركتهما إلى أنها ليست بالطبيعة.
وهم يقولون بأن الحركة الدّورية من أنواع الحركات لا يكون إلا اختيارياً، فقال تعالى: من حرّكهما على الاستدارة أنزل الملائكة على الاستقامة، والثقيل على مذهبكم لا يصعد، وصعود النَّجم والشجر إنما هو بقدرة الله تعالى، فحركة الملك كحركة الفلك جائزة.
فصل في جريان الشمس والقمر
قال المفسرون: [المعنى] يجريان بحسبان معلوم فأضمر الخبر.
قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك: يجريان بحساب في منازل لا تعدوها ولا يحيدان عنها.
وقال ابن زيد وابن كيسان: بهما تحسب الأوقات والأعمار، ولولا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدرك أحد كيف يجد شيئاً إذا كان الدهر كله ليلاً أو نهاراً.
وقال السدي: «بحسبان» تقدير آجالهما، أي: يجريان بآجال كآجال الناس، فإذا جاء أجلهما هلكا، نظيره:{كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الرعد: 2] .
وقال الضحاك: بقدر.
وقال مجاهد: «بحسبان» كحُسْبَان الرَّحى يعني: قطعها، يدوران في مثل القُطْب.
والحُسْبَان: قد يكون مصدر «حسبته أحسبُه بالضم حَسْباً وحِسَاباً وحُسْبَاناً» مثل الغُفْرَان والكُفْران والرُّجحان.
وحسبته أيضاً: أي عددته.
وقال الأخفش: ويكون جماعة الحساب، مثل «شِهَاب، وشُهْبَان» .
والحُسْبَان - بالضم - أيضاً: العذاب والسِّهام القصار، الواحدة: حُسْبَانة.
والحُسْبانة أيضاً: الوِسادَة الصغيرة تقول منه: «حَسَّبْتُهُ» إذا وسدته. قال: [مجزوء الكامل]
4619 -
…
...
…
...
…
... ..... لَثَوَيْتَ غَيْرَ مُحَسَّبِ
أي غير مُوسَّد، يعني: غير مكرم ولا مكفن.
قوله تعالى: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] .
قال ابن عباس وغيره: النَّجْم: ما لا ساق له، والشَّجر: ما له ساق.
وأنشد ابن عباس قول صفوان التيمي: [الطويل]
4620 -
لَقَدْ أنجمَ القَاعُ الكَبيرُ عِضَاههُ
…
وتَمَّ بِهِ حيَّا تَميمٍ ووَائِلِ
وقال زهير بن أبي سُلْمَى: [البسيط]
4621 -
مُكَلَّلٌ بأصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ
…
رِيحُ الجَنُوبِ لِضاحِي مَائِهِ حُبُكُ
واشتقاق النجم من «نَجَمَ الشيء يَنْجُمُ» - بالضم - نُجُوماً: ظهر وطلع.
ومنه: نَجَمَ نابُ البعير، أي: طلع. وسجودهما: سجود ظلالهما؛ قاله الضحاك. وقال الفرّاء: سجودهما أنهما يستقبلان إذا طلعت، ثم يميلان معهما حتى ينكسر الفيء.
وقال الزجاج: سجودهما: دوران الظِّل معهما، كما قال:{يَتَفَيَّؤُاْ ظِلَالُهُ} [النحل: 48] .
وقال الحسن ومجاهد: النجم نجم السماء، وسجوده في قول مجاهد:«دوران ظله» وهو اختيار الطبري، حكاه المهدوي.
وقيل: سجود النجم: أفوله، وسجود الشجر: إمكان الاجتناء لثمارها، حكاه الماوردي.
والأول أظهر.
وقيل: إن جميع ذلك مسخر لله تعالى، فلا تعبدوا النجم كما عبد قوم من الصَّابئين النجوم، وعبد كثير من العجم الشجر.
والسجود: الخضوع، والمعني به آثار الحدوث، حكاه القشيري.
وقال النحاس: أصل السجود في اللغة: الاستسلام والانقياد لله عز وجل فهو من السموات كلها استسلامها لأمر الله عز وجل وانقيادها له.
ومن الحيوان كذا، ويكون من سجود الصلاة.
وأنشد محمد بن يزيد في النجم بمعنى النجوم؛ قال: [الطويل]
4622 -
فَبَاتَتْ تَعُدُّ النَّجْمَ في مُسْتجيرِهِ
…
سَرِيعٍ بأيْدِي الآكلينَ جُمُودهَا
قوله تعالى: {والسمآء رَفَعَهَا} .
العامة: على النصب على الاشتغال مراعاة لعجز الجملة التي يسميها النحاة ذات وجهين، وفيها دليل لسيبويه الذي يجوز النصب، وإن لم يكن في جملة الاشتغال ضمير عائد على المبتدأ الذي تضمنته الجملة ذات الوجهين.
والأخفش يقول: لا بد من ضمير، مثاله:«هند قامت وعمراً أكرمته لأجلها» .
قال: «لأنك راعيْتَ الخبر وعطفت عليه، والمعطوف على الخبر خبر، فيشترط فيه ما يشترط فيه» .
ولم يشترط الجمهور ذلك، وهذا دليلهم.
فإن القراء كلهم نصبوا مع عدم الرابط إلا من شذ منهم وقد تقدم تحرير هذا في سورة «يس» عند قوله: {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39] .
وقرأ أبو السمال: برفع السماء على الابتداء، والعطف على الجملة الابتدائية التي هي قوله «والشمس والقمر» .
قال القرطبي: «فجعل المعطوف مركباً من ابتداء وخبر كالمعطوف عليه» .
قوله: «ووَضَع المِيزانَ» .
العامة على «وَضَع» فعلاً ماضياً، و «الميزان» نصب على المفعول به.
وقرأ إبراهيم: «ووضْع الميزانِ» - بسكون الضاد - وخفص «الميزان» وتخريجها:
على أنه معطوف على مفعول «رفعها» أي: «ورفع ووضْع الميزان» أي جعل له مكانة ورفعة لأخذ الحُقُوق به، وهو من بديع اللفظ حيث يصير التقدير:«ورفع ووضع الميزان» .
قال الزمخشري: «فإن قيل: كيف أخلّ بالعاطف في الجمل الأول وجيء به بعده؟ .
قلت: بَكَّتَ بالجمل: الأول، وأورده على سننِ التعديد للذين أنكروا الرحمن وآلاءه كما تبكت منكر أيادي المنعم من الناس بتعدّدها عليه في المثال الذي قدمته، ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التَّبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف.
فإن قلت: أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف؟ .
قلت: إن الشمس والقمر سماويَّان، والنجم والشجر أرضيَّان فبينهما تناسب من حيث التقابل، وإن السماء والأرض لا يزالان يذكران قرينتين، وإن جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله، فهو مناسب لسجود النجم والشجر» .
فصل في المراد بوضع الميزان
قال مجاهد وقتادة: وضع الميزان عبارة عن العدل.
قال السدي: «ووضع الميزان» وضع في الأرض العدل الذي أمر به، يقال: وضع الله الشريعة، ووضع فلان كذا أي ألقاه.
وقيل: على هذا الميزان القرآن، لأن فيه بيان ما يحتاج إليه.
وهو من قول الحسين بن الفضل.
وقال الحسن وقتادة - أيضاً - والضحاك: هو الميزان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض، وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل يدل عليه قوله تعالى:{وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} [الرحمن: 9] .
والقسْط هو العَدْل، وقيل: هو الحكم.
وقيل: المراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال. وأصل «ميزان» «يوزان» . وقد مضى القول فيه في «الأعراف» .
قال ابن الخطيب: قوله: «ووَضَعَ المِيزانَ» إشارة إلى العدل، كقوله:{وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان} [الحديد: 25] أي: ليعلموا بالكتاب، ويعملوا بالميزان، فكذا هنا «عَلَّمَ القُرآن» ووضع الميزانَ، فالمراد ب «الميزان» : العدل بوضعه شرعة، كأنه قيل: شرع العدل لئلا تطغوا في الميزان الذي هو آلة العَدْل، هذا هو المنقول، قال: والأولى العكس كالأول وهو الآلة، والثاني: بمعنى الوزن، أو بمعنى العدل.
قوله: {أَلَاّ تَطْغَوْاْ} ، في «أنْ» هذه وجهان:
أحدهما: أنها الناصبة، و «لا» بعدها نافية، و «تطغوا» منصوب ب «أن» ، و «أن» قبلها لام العلة مقدّرة تتعلق بقوله:«ووضَعَ المِيزانَ» ، التقدير:«لئلَاّ تَطغَوا» ، كقوله تعالى:{يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] .
وأجاز الزمخشري وابن عطية: أن تكون المفسرة، وعلى هذا تكون «لا» ناهية، والفعل مجزوم بها.
قال القرطبي: فلا يكون ل «أنْ» موضع من الإعراب، فتكون بمعنى «أي» ، و «تطغوا» مجزوم بها كقوله:{وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا} [ص: 6]، أي:«امْشُوا» .
إلا أن أبا حيان رد هذا القول بأن شرط التفسيرية تقدم جملة متضمنة لمعنى القول، وليست موجودة.
قال شهاب الدين: «وإلى كونها مفسرة ذهب مكي، وأبو البقاء، إلا أن أبا البقاء كأنه تنبه للاعتراض، فقال:» وأن - بمعنى أي - والقول مقدر «.
فجعل الشيء المفسر ب» أن «مقدراً لا ملفوظاً به، إلا أنه قد يقال إن قوله» والقول مقدر «ليس بجيّد؛ لأنها لا تفسر القول الصريح، فكيف يقدر ما لا يصحّ تفسيره، فإصلاحه أن يقول: وما هو بمعنى القول مقدر» .
فصل في الطغيان في الميزان
والطغيان مجاوزة الحد، فمن قال: الميزان العدل، قال: الطغيان الجور ومن قال:
إنه الميزان الذي يوزن به، قال: طغيانه النّجس.
قال ابن عباس: لا تخونوا من وزنتم له.
وعنه أيضاً أنه قال: يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس: المكيال والميزان.
ومن قال: إنه طغيان الحكم، قال: طغيانه التحريف.
وقيل: فيه إضمار، أي: وضع الميزان وأمركم ألا تطغوا فيه.
فإن قيل: العلم لا شك في كونه نعمة، وأما الميزان فأي نعمة عظيمة فيه حتى يعد بسببها في الآلاء؟ .
فالجواب: أن النفوس تأبى الغَبْنَ، ولا يرضى أحد بأن يغلبه غيره، ولو في الشيء اليسير، ويرى أن ذلك استهانة به، فلا يترك خَصْمه يغلبه، ثم إن عند عدم المعيار الذي به تُؤخذ الحقوق، كل أحد يذهب إلى أن خصمه يغلبه، فوضع الله - تعالى - معياراً بين به التَّساوي، ولا يقع به البغضاء بين الناس، وهو الميزان، فهو نعمة كاملة، ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته وكثرته، وسهولة الوصول إليه كالهواء والماء الذي لا يبين فضلهما إلَاّ عند فقدهما.
قوله: {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط} .
أي: افعلوه مستقيماً بالعدل.
وقال أبو الدرداء: أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل.
وقال ابن عيينة: الإقامة باليد، والقسط بالقلب.
وقال مجاهد: القسط: العدل بالرومية.
وقيل: هو كقولك: أقام الصلاة، أي: أتى بها في وقتها، وأقام الناس أسواقهم، أي: أتوا بها لوقتها، أي: لا تدعوا التعامل بالوزن والعدل.
قوله: «ولا تُخْسِرُوا» .
العامة على ضم التاء وكسر السين، من «أخْسَرَ» أي: نقص، كقوله:{وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] .
وقرأ زيد بن علي، وبلال بن أبي بردة: بفتح التاء وكسر السين، فيكون «فَعِل،
وأفْعَل» بمعنى، يقال: خَسِر الميزان، وأخْسَره «بمعنى واحد، نحو: جَبِر وأجْبر» .
ونقل أبو الفتح وأبو الفضل عن بلال: فتح التاء والسين، ونقلها أيضاً القرطبي عن أبان بن عثمان، قال: وهما لغتان، يقال: أخسرت الميزان، وخسرته، ك «أجبرته» و «جبرته» .
قال شهاب الدين: وفيها وجهان:
أحدهما: أنه على حذف حرف الجر، تقديره:«ولا تخسروا في الميزان» ، ذكره الزمخشري وأبو البقاء، إلا أن أبا حيان قال: لا حاجة إلى ذلك؛ لأن «خَسِر» جاء متعدياً، قال تعالى:{خسروا أَنفُسَهُمْ} [الأنعام: 12] و {خَسِرَ الدنيا والآخرة} [الحج: 11] .
قال شهاب الدين: «وهذا أليق من ذاك، ألا ترى أن» خسروا أنفسهم «و» خسر الدنيا والآخرة «معناه: أن الخسران واقع بهما، وأنهما معدومان، وهذا المعنى ليس مراداً في الآية قطعاً، وإنما المراد: لا تخسروا الموزُون في الميزان» .
وقرىء: «تَخْسُروا» بفتح التاء وضم السين.
قال الزمخشري: «وقرىء:» ولا تَخْسروا «بفتح التاء وضم السين وكسرها وفتحها، يقال: خَسِر الميزان يَخْسُره ويَخْسِره، وأما الفتح فعلى أن الأصل:» في الميزان «فحذف الجار، وأوصل الفعل إليه» .
وكرر لفظ «الميزان» ولم يضمره في الجملتين بعده تقوية لشأنه.
وهذا كقول الآخر: [الخفيف]
4623 -
لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ
…
نَغَّصَ المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا
فصل في معنى الآية
المعنى: ولا تنقصوا ولا تبخسوا الوزن والكيل، كقوله:{وَلَا تَنقُصُواْ المكيال والميزان} [هود: 84] .
وقيل: لا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة، فيكون ذلك حسرة عليكم، وكرَّر الميزان لحال رُءُوس الآي.
وقيل: التكرير للأمر بإيفاء الوزن، ورعاية العدل فيه.
وقال ابن الخطيب: {ولا تخسروا الميزان} أي: لا تنقصوا الموزون.
وذكر «الميزان» ثلاث مرات، فالأول: بمعنى الآلة، وهو قوله «وَضَعَ المِيزانَ» .
والثاني: بمعنى المصدر أي: لا تطغوا في الوزن.
والثالث: للمفعول، أي: لا تخسروا الموزون.
وبين القرآن و «الميزان» مناسبة، فإن القرآن فيه العلم الذي لا يوجدُ في غيره من الكتب، والميزان به يقام العدل الذي لا يقام بغيره من الآلات.
قوله: {والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ} ، كقوله:{والسمآء رَفَعَهَا} .
قرأ أبو السمال: بالرفع مبتدأ، و «الأنام» علّة للوضع.
«الأنام» . قيل: كل الحيوان.
وقيل: بنو آدم خاصة، وهو مروي عن ابن عبَّاس نقل النووي في «التهذيب» عن الزبيدي:«الأنام» : الخَلْق، قال: ويجوز الأنيم.
وقال الواحدي: قال الليث: «الأنامُ» ما على ظهر الأرض من جميع الخلق.
وقيل: هم الإنس والجن. قاله الحسن، والأول قاله الضَّحاك.
ووزنه: «فَعَال» ك «قَذَال» فيجمع في القلة على «أنِمّة» بزنة: «امرأة أنمّة» ، وفي الكثرة على «أنْم» ك «قَذَال وأقذلة وقُذْل» .
قوله: «فيها فاكهة» يجوز أن تكون هذه الجملة حالاً من «الأرض» إلا أنها حال مقدرة، والأحسن أن يكون الجار والمجرور هو الحال.
و «فاكهةٌ» رفع بالفاعلية، ونكرت لأن الانتفاع بها دون الانتفاع بما ذكر بعدها، وهو من باب الترقّي من الأدنى إلى الأعلى.
قال ابن الخطيب: الأرض موضوعة لكل ما عليها، وإنما خصّ الإنسان بالذِّكْر؛
لأن الانتفاع بها أكثر، فإنه ينتفع بها، وبما فيها، وبما عليها، فقال:«للأنام» لكثرة انتفاع الأنام بها.
وقوله: «فِيهَا فَاكِهَةٌ» .
أي: ما يتفكّه به الإنسان من ألوان الثمار.
قوله: {والنخل ذَاتُ الأكمام} إشارة إلى الأشجار.
و «الأكمام» جمع «كِمّ» - بالكسر - وهو وعاء الثمر.
قال الجوهري: و «الكِمُّ» - بالكسر - و «الكِمَامة» : وعاء الطلع، وغطاء النَّوْر، والجمع:«كِمَام» و «أكِمَّة» ، و «الأكاميم» أيضاً، و «كم» الغسيل إذا أشفق عليه، فسُتر حتى يقوى، قال العجاج:[الرجز]
4624 -
بَلْ لَوْ شَهِدتَ النَّاسَ إذْ تُكُمُّوا
…
غُمَّةٍ لَوْ لَمْ تُفَرَّجْ غُمُّوا
و «تكمّوا» : أي أعمى عليهم وغطّوا.
وأكممتُ وكَمَمْت أي: أخرجت كمامها، والكِمَامُ - بالكسر - والكمامة أيضاً: ما يكمّ به فَمُ البعير لئلا يعضّ، تقول منه بعير مكموم أي محجوم، وكممت الشيء: غطّيته، ومنه كُمُّ القميص - بالضم - والجمع:«أكْمَام وكِمَمَة» مثل: جُبّ وجببة.
و «الكُمَّةُ» : القَلَنْسُوَة [المدورة] ؛ لأنها تغطي الرأس.
قال رحمه الله: [الطويل]
4625 -
فَقُلْتُ لَهُمْ: كِيلُوا بِكُمَّةِ بَعْضِكُمْ
…
دَرَاهِمَكُمْ، إنِّي كذلِك أكْيَل
قال الحسن: «ذات الأكمام» أي: ذات اللّيف، فإن النخلة قد تكمم بالليف وأكمامها: ليفها الذي في أعناقها.
وقال ابن زيد: ذات الطلع قبل أن يتفتّق.
وقال عكرمة: ذات الأحْمَال.
وقال الضَّحاك: «ذات الأكمام» : ذات الغلف.
والأكمام: الأوعية التي يكون فيها الثمر؛ لأن ثمر النخل يكون في غلاف ما لم يتشقق، والمراد بالفاكهة: الفواكهة.
قال ابن كيسان: ما يتفكّهون به من النعم التي لا تُحْصَى، ونكّر الفاكهة للتكثير والتعظيم.
قوله: {والحب ذُو العصف والريحان} .
قرأ ابن عامر: بنصب الثلاثة. وفيه ثلاثة أوجه:
النصب على الاختصاص، أي «وأخص الحبَّ» قاله الزمخشري.
وفيه نظر، لأنه لم يدخل في مسمى الفاكهة والنخل حتى يخصّه من بينها، وإنما أراد إضمار فعل، وهو «أخص» فليس هو الاختصاص الصّناعي.
الثاني: أنه معطوف على «الأرض» .
قال مكي: «لأن قوله» والأرض وضعها «أي: خلقها، فعطف» الحب «على ذلك» .
الثالث: أنه منصوب ب «خلق» مضمراً، أي «وخلق الحب» .
وقال مكي: «أو وخلق الحب» ، وقراءته موافقة لرسم مصاحف بلدهِ، فإن مصاحف «الشام» «ذا» بالألف.
وجوزوا في «الرَّيْحَان» أن يكون على حذف مضاف، أي «وذا الريحان» فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ك {وَسْئَلِ القرية} [يوسف: 82] .
وقرأ الأخوان برفع الأولين وجرّ «الرَّيْحَان» عطفاً على «العَصْف» وهي تؤيد قول من حذف المضاف في قراءة ابن عامر.
والباقون: برفع الثلاثة عطفاً على «فاكهة» أي: وفيها أيضاً هذه الأشياء.
ذكر أولاً ما يتلذّذون به من الفواكهة.
وثانياً: الشيء الجامع بين التلذّذ والتغذِّي، وهو ثمر النخل.
وثالثاً: ما يتغذى به فقط، وهو أعظمها؛ لأنه قوت غالب الناس.
ويجوز في «الرَّيْحَان» على هذه القراءة أن يكون معطوفاً على ما قبله، أي:«وفيها الريحان» أيضاً، وأن يكون مجروراً بالإضافة في الأصل، أي:«وذو الريحان» ففعل به ما تقدم.
و «العَصْفُ» قال مجاهد رضي الله عنه: ورق الشَّجر والزرع.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: تِبْن الزرع وورقه الذي تَعْصِفُه الرياح.
قال الراغب: «أصله: من» العَصْفِ والعَصِيفَة «، وهو ما يُعصف، أي: يقطع من الزرع» .
وقال سعيد بن جبير: بقل الزرع أي ما ينبت منه، وهو قول الفراء.
والعرب تقول: خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك، وكذا في «الصِّحاح» وكذا نقله القرطبي.
وعصفت الزرع، أي: جَزَرته قبل أن يدرك.
وعن ابن عباس أيضاً: العصف: ورق الزرع الأخضر إذا وقع رءوسه ويبس نظيره: {كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ} [الفيل: 8] .
قال الجوهري: «وقَدْ أعْصَفَ الزَّرْعُ، ومكانٌ مُعْصفٌ، أي: كثير الزرع» .
قال أبو قيس بنُ الأسلت الأنصاريُّ: [السريع]
4626 -
إذا جُمَادَى مَنَعَتْ قَطْرَهَا
…
زَانَ جَنَابِي عَطَنٌ مُعْصِفُ
وقيل: «العَصْفُ» : حُطام النبات، والعَصْفُ أيضاً: الكسب.
قال الراجز: [الرجز]
4627 -
بِغَيْرِ مَا عَصْفٍ ولا اكْتسَابِ
…
وكذلك «الاعتصاف والعصيفة» : الورق المجتمع الذي يكون فيه السّنبل.
وحكى الثعلبي: وقال ابن السكيت: «تقول العرب لورق الزرع: العَصْف والعَصِيفة، والجِلُّ بكسر الجيم» .
قال علقمة بن عبدة: [البسيط]
4628 -
تَسْقِي مَذانِبَ قَدْ مَالتْ عَصيفتُهَا
…
حُدُورُهَا مِنْ أتِيِّ المَاءِ مَطْمُوم
في «الصحاح» : «والجِلّ - بالكسر - قصب الزرع إذا حصد» .
والرَّيحان في الأصل مصدر، ثم أطلق على الرزق.
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: هو الرزق بلغة «حِمْير» ، كقولهم:«سبحان الله وريحانه» أي: استرزاقه.
وعن ابن عباس أيضاً والضحاك وقتادة: أنه الريحان الذي يشمّ وهو قول ابن زيد أيضاً.
وعن ابن عباس أيضاً: أنه خُضْرة الزرع.
وقال سعيد بن جبير: هو ما قام على ساق.
وقال الفراء: «العصفُ» المأكول من الزرع.
و «الريحان» ما لا يؤكل.
وقال الكلبي العَصْف: الورق الذي لا يؤكل.
و «الريحان» : هو الحب المأكول.
وقيل: كل فلّة طيبة الريح سميت ريحاناً؛ لأن الإنسان يراح لها رائحة طيبة أي: يشم. وفي «الريحان» قولان:
أحدهما: أنه على «فَعْلان» وهو من ذوات «الواو» ، والأصل «رَوْحَان» من الرائحة.
قال أبو علي: فأبدلت «الواو» ياء كما أبدلت الياء واواً في «أشاوى» وإنما قلبت الواو ياء للفرق بينه وبين «الرَّوْحَان» وهو كل شيء له روح.
قال القرطبي: والثاني: أن يكون أصله «رَيْوَحَان» على وزن «فَيْعَلان» فأبدلت الواو ياء، وأدغمت فيها الياء، ثم خفف بحذف عين الكلمة، كما قالوا: كَيْنُونة وبَيْنُونَة والأصل تشديد الياء، فخفف كما خفف «هَيْن ولَيْن» .
قال مكي: ولزم تخفيفه لطوله بلُحُوق الزيادتين، وهما الألف والنون.
ثم ردّ قول الفارسي بأنه: لا موجب لقلبها ياء.
ثم قال: «وقال بعض الناس» وذكر ما تقدم عن أبي علي.
قال القرطبي: «والأصل فيما يتركب من الراء والواو والحاء: الاهتزاز والحركة» .
وفي الصحاح: «والريحان نبات معروف، والرَّيْحَان: الرزق، تقول: خرجت أبتغي ريحان الله» .
وفي الحديث: «الولدُ مِنْ رَيْحانِ اللَّهِ» .
وقولهم: سُبْحَانَ اللَّهِ ورَيْحَانه «نصبوهما على المصدر، يريدون: تنزيهاً له واسترزاقاً.
قوله: {والحب ذُو العصف والريحان} فالعَصْفُ: ساق الزرع، والرَّيْحَان: ورقه قاله الفراء.
قوله: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] ،» فبأي «متعلق ب» تكذبان «.
والعامة على إضافة» أي «إلى» الآلاء «.
وقرىء في جميع السورة بتنوين» أيّ «.
وتخريجها: على أنه قطع» أيًّا «عن الإضافة إلى شيء مقدر، ثم أبدل منه» آلاء ربكما «بدل معرفة من نكرة، وتقدم الكلام في» الآلاء «ومفردها في الأعراف» .
والخطاب في «ربكما» قيل: للثقلين من الإنس والجن؛ لأن الأنام تضمنهما، وهو قول الجمهور، ويدل عليه حديث جابر.
وفيه: «للْجِنُّ أحْسَنُ مِنْكُم رَدًّا» .
وقيل: لما قال: {خَلَقَ الإنسان، وَخَلَقَ الجآن} [الرحمن: 14، 15] . دل ذلك على ما تقدم وما تأخر لهما.
وكذا قوله: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان} [الرحمن: 31] خطاب للإنس والجن.
وقال أيضاً: {يامعشر الجن والإنس} [الرحمن: 33] .
وقال الجرجاني: خاطب الجن مع الإنس، وإن لم يتقدم للجن ذكر. كقوله تعالى:{حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32] .
فقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القرآن، والقرآن كالسورة الواحدة، فإذا ثبت أنهم مكلَّفُون كالإنس، خوطب الجنسان بهذه الآيات.
وقيل: الخطاب للذكر والأنثى.
وقيل: هو مثنّى مراد به الواحد، كقوله تعالى:{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] .
وكقول الحجاج بن يوسف: «يا حرسي اضربا عنقه» ، وكقول امرىء القيس:[الطويل]
4629 -
قِفَا نَبكِ
…
. .....
…
...
…
...
…
...
و [الطويل]
4630 -
خَلِيلَيَّ مُرَّا بِي
…
. .....
…
...
…
...
…
. .
وقيل: التثنية للتأكيد.
وقيل: التكذيب يكون بالقلب، أو باللسان، أو بهما، فالمراد هما.
فصل في آلاء الله تعالى
قال ابن زيد: المراد بالآلاء: القدرة، والمعنى: فبأي قدرة ربكما تكذبان، وهو قول الكلبي.
واختار محمد بن علي الترمذي، وقال: هذه السورة من بين السور علم القرآن، والعلم: إمام الجند، والجند تتبعه، وإنما صارت علماً؛ لأنها سورة صفة الملك والقدرة، فقال:{الرحمن عَلَّمَ القرآن} فافتتح السورة باسم الرحمن من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة، فقال:{الرحمن عَلَّمَ القرآن} .
ثم ذكر الإنسان فقال: «خَلَقَ الإنسان» ثم ذكر ما صنع به، وما من عليه به، ثم ذكر حُسْبَان الشمس والقمر، وسجود الأشياء من نجم وشجر، وذكر رفع السماء، ووضع الميزان وهو العدل، ووضع الأرض للأنام، فخاطب هذين الثقلين: الإنس والجن، حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة، ولا حاجة إلى ذلك، فأشركوا به الأوثان، وكل معبود اتخذوه من دونه، وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم.
فقال سائلاً لهم: {فبأي آلاء ربكما تكذبان} أي: بأي قدرة ربكما تكذبان، وإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من قدرته وملكه شريكاً يملك معه، ويقدر معه، فذلك تكذيبهم، ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال، وذكر خلق الجانّ من مارجٍ من نارٍ، ثم سألهم فقال:{فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} أي: بأي قدرة ربكما تكذبان، فإن له في كل خلق قدرة بعد قدرة، فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد، والمبالغة في التقرير، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلقٍ بعد خلق.
وقال القتبي: إن الله - تعالى - عدد في هذه السورة نعماءه، وذكر خلقه آلاءه، ثم أتبع كل خلّة وصفها ونعمة وضعها في هذه الآية، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين ليبينهم على النعم، ويقررهم بها، كما يقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره وينكره: ألم تكن فقيراً فأغنيتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملاً فعززتك، أفتنكر هذا؟ ألم تكن راجلاً فحملتك، أفتنكر هذا؟ والتكرير حسن في مثل هذا.
قال الشاعر: [مشطور الرجز]
4631 -
كَمْ نِعْمَةٍ كَانَتْ لَكُمْ كَمْ كَمْ وكَمْ
…
وقال الشاعر رحمه الله: [البسيط]
4632 -
لا تَقْتُلِي مُسْلِماً إن كُنْتِ مُسْلمَةً
…
إيَّاكِ من دمِهِ إيَّاكِ إيَّاكِ
وقال آخر: [المنسرح]
4633 -
لا تَقْطَعَنَّ الصَّديقَ ما طَرَفَتْ
…
عَيْنَاكَ من قَوْلِ كَاشحٍ أشِرِ
ولا تَمَلَّنَّ مِنْ زيَارتِهِ
…
زُرْهُ وَزُرْهُ وَزُرْ وَزُرْ وَزُرِ
وقال الحسين بن الفضل: التكرير طرد للغفلة، وتأكيد للحجَّة.
قال شهاب الدين: والتكرير - هاهنا - كما تقدم في قوله: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ} [القمر: 17]، وكقوله فيما سيأتي:{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 45] .
وذهب جماعة منهم ابن قتيبة: إلى أن التكرير لاختلاف النِّعم، فلذلك كرر للتوقيف مع كل واحدة.
قال ابن الخطيب: وذكره بلفظ الخطاب على سبيل الالتفات، والمراد به التقريع والزَّجْر، وذكر لفظ الرب؛ لأنه يشعر بالرحمة.
قال: «وكررت هذه اللفظة في هذه السورة نيفاً وثلاثين مرة إما للتأكيد، ولا يعقل بخصوص العدد معنى.
وقيل: الخطاب مع الإنس والجن، والنعمة منحصرة في دفع المكروه، وتحصيل المقصود، وأعظم المكروهات عذاب جهنم، و {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} [الحجر: 44] ، وأعظم المقاصد: نعيم الجنة، ولها ثمانية أبواب، فالمجموع خمسة عشر، وذلك بالنسبة للجن والإنس ثلاثون، والزائد لبيان التأكيد» .
روى جابر بن عبد الله، قال:«قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ سورة» الرحمن «حتى ختمها، ثم قال:» مَا لِي أراكُمْ سُكُوتاً؟ للجِنُّ كانُوا أحسنَ مِنكُم رَدًّا؛ ما قرأتُ عليهمِ هذهِ الآية مرَّة: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} إلا قالوا: ولا بِشيءٍ من رحْمَتِكَ ربَّنا نكذِّبُ، فلكَ الحمد «.
قوله: {خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار} . لما ذكر الله - تعالى - خلق العالم الكبير من السماء والأرض، وما فيها من الدلالات على وحدانيته وقدرته، ذكر خلق العالم الصَّغير، فقال:{خَلَقَ الإنسان} .
قال المفسرون: يعني: آدم من صلصال وهو الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة، وشبهه بالفخَّار الذي طبخ.
وقيل: هو طين خلط برملٍ.
وقيل: هو الطين المُنتنُ، من صلَّ اللحم وأصلَّ: إذا أنْتَنَ.
وقال هنا: {مِن صَلْصَالٍ كالفخار} .
وقال في «الحجر» : {مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 26] وقال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَاّزِبٍ} [الصافات: 11] .
وقال: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] .
وكله متفق المعنى، وذلك أنه أخذ من تراب الأرض، فعجنه فصار طيناً، ثم انتقل فصار كالحَمَأ المسنون، ثم يبس فصار صلصالاً كالفخار.
فقوله: «كالفخَّار» نعت ل «صَلْصَالٍ» . وتقدم تفسيره.
قوله: {وَخَلَقَ الجآن} .
قيل هو اسم جنس كالإنسان.
وقيل: هو أبو الجن «إبليس» .
وقيل: هو أبوهم، وليس ب «إبليس» .
قوله: {مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} «من» الأولى لابتداء الغاية.
وفي الثانية وجهان:
أحدهما: أنها للبيان.
والثاني: أنها للتبعيض.
و «المَارِجُ» : قيل: ما اختلط من أحمر وأصفر وأخضر، وهذا مشاهد في النار ترى الألوان الثلاثة مختلطاً بعضها ببعض.
وقيل: الخالص.
وقيل: الأحمر وقيل: الحمرة في طرف النَّار.
وقيل المختلط بسواد.
وقيل: اللهب المضطرب.
وقال الليث: «المارج» : الشعلة الساطعة ذات اللهب الشديد، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه اللهب الذي يعلو النَّار، فيختلط بعضه ببعض أحمر وأخضر وأصفر، ونحوه عن مجاهد.
وقيل: «المَارِجُ» المرسل غير ممنوع.
قال المبرد: «المارج» : النار المرسلة التي لا تمنع.
وقال أبو عبيدة والحسن: «المارج» : المختلط النار، وأصله من مرج إذا اضطرب، واختلط.
قال القرطبي: يروى أن الله - تعالى - خلق نارين، فمرج إحداهما بالأخرى، فأكلت إحداهما الأخرى، وهي نار السَّمُوم، فخلق منها «إبليس» .
قال القشيري: «والمارج» في اللغة: المرسل أو المختلط، وهو فاعل بمعنى مفعول كقوله:{مَّآءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] و {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21]، والمعنى:«ذو مرج» .
{مِّن نَّارٍ} نعت ل {مَّارِجٍ} .
وتقدم الكلام على قوله: «فبأي آلاء» إلى آخرها.
قوله تعالى: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} .
العامة على رفعه.
وفيه ثلاثة أوجه:
أحدهما: أنه مبتدأ، خبره {مَرَجَ البحرين} ، وما بينهما اعتراض.
الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي:«هُو ربُّ» أي: ذلك الذي فعل هذه الأشياء.
الثالث: أنه بدل من الضمير في «خلق» .
وابن أبي عبلة: «ربّ» بالجر، بدلاً أو بياناً ل «ربّكما» .
قال مكي: ويجوز في الكلام الخفض على البدل من «ربكما» ، كأنه لم يطلع على أنها قراءة منقولة.
و «المشرقان» : قيل: مشرقا الشتاء والصيف ومغرباهما.
وقيل: مشرقا الشمس والقمر ومغرباهما، وذكر غاية ارتفاعهما، وغاية انحطاطهما إشارة إلى أن الطرفين يتناول ما بينهما كقولك في وصف ملك عظيم:(له المشرق والمغرب) فيفهم منه أن له ما بينهما.
ويؤيده قوله تعالى: {بِرَبِّ المشارق والمغارب} [المعارج: 40] .
قوله تعالى: {مَرَجَ البحرين} أي: خلَّى وأرسل وأهمل، يقال: مرج الناس السلطان، أي: أهملهم، وأصل المَرْج الإهمال كما تمرج الدَّابة في المَرْعى ويقال: مرج خلط.
وقال الأخفش: ويقول قوم: أمرج البحرين مثل «مرج» فيكون «فَعَلَ وأفْعَلَ» بمعنى.
و «البَحْرين» : قال ابن عباس رضي الله عنهما: بحر السماء، وبحر الأرض.
قال سعيد بن جبير: يلتقيان في كل عام.
وقيل: يلتقي طرفاهما.
وقال الحسن وقتادة: بحر «فارس» و «الروم» .
وقال ابن جريج: البحر المالح، والأنهار العذبة.
وقيل: بحر المشرق، وبحر المغرب يلتقي طرفاهما.
وقيل: بحر اللؤلؤ والمرجان.
«بينهما برزخ» حاجز.
قوله: «يلتقيان» حال من «البَحريْنِ» وهي قريبة من الحال المقدرة، ويجوز بتجوّز أن تكون مقارنة.
و «بَينهُمَا بَرزخٌ» يجوز أن تكون جملة مستأنفة، وأن تكون حالاً، وأن يكون الظَّرف وحده هو الحال، و «البَرْزَخُ» فاعل به، وهو أحسن لقربه من المفرد.
وفي صاحب الحال وجهان:
أحدهما: هو البحرين.
والثاني: هو فاعل «يَلْتقيان» .
و «لا يَبْغِيَان» حال أخرى كالتي قبلها، أي: مرجهُمَا غير باغيين أو يلتقيان غير باغِيين، أو بينهما برزخٌ في حال عدم بغيهما، وهذه الحال في قوة التعليل، إذ المعنى:«لئلَاّ يَبْغِيانِ» .
وقد تمحّل بعضهم، وقال: أصل ذلك لئلا يبغيا ثم حذف حرف العلة، وهو مطّرد مع «أن» و «إن» ، ثم حذفت «أن» أيضاً، وهو حذف مطرد، كقوله:{وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] ، فلما حذفت «أن» ارتفع الفعل، وهذا غير ممنوع، إلا أنه تكرر فيه الحذف.
وله أن يقول: قد جاء الحذف أكثر من ذلك فيما هو أخفى من هذا، كما سيأتي في قوله:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} [الواقعة: 82] .
فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها
لما ذكر الشمس والقمر، وهما يجريان في الفلك كما يجري الفلك في البحر،
كقوله: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] ، فذكر البحرين عقيب المشرقين والمغربين، أو لأن المشرقين والمغربين يكونان في البر والبحر، فذكر البحر بعد ذكر البر؛ لانحصار البر والبحر بين المشرق والغرب.
قوله: «بينهما بَرْزَخ» أي: حاجز، «لا يبْغِيَان» ، فعلى القول الأول بأنهما بحر السماء، وبحر الأرض، فالحاجز الذي بينهما هو ما بين السماء والأرض. قاله الضحاك.
وعلى الأقوال الباقية: الحاجز: هو الأرض التي بينهما. قاله الحسن وقتادة.
وقال بعضهم: الحاجز: هو القدرة الإلهية.
وقوله: «لا يَبْغِيَان» . قال قتادة: لا يبغيان على النَّاس فيغرقانهم، جعل بينهم وبين الناس اليبس.
وقال مجاهد وقتادة أيضاً: لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه.
وقال ابن زيد: «لا يبغيان» أي يلتقيان، تقديره: مرج البحرين يلتقيان لولا البرزخ الذي بينهما لا يبغيان أن يلتقيا.
وقيل: البرزخ ما بين الدنيا والآخرة، أي: بينهما مدة قدرها الله تعالى، وهي مدة الدنيا فهما لا يبغيان، فإذا أذنَ الله بانقضاء الدنيا صار البحران شيئاً واحداً، وهو كقوله تعالى:{وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ} [الانفطار: 3] .
وقال سهل بن عبد الله: البحران: طريق الخير والشر، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة.
فصل في إحاطة البحار بالأرض
قال ابن الخطيب: إن الله - تعالى - خلق في الأرض بحاراً تحيط بها الأرض، وخلق بحراً محيطاً بالأرض أحاط به الهواء، كما قال به أهل الهيئةِ، وهذه البحار التي في الأرض لها اتصال بالبحر المحيط، ثم إنهما لا يبغيان على الأرض، ولا يغطيانها بفضل الله لتكون الأرض بارزة يتخذها الإنسان مكاناً، وعند النظر إلى أمر الأرض يحار الطبيعي ويتلجلج في الكلام، فإن عندهم أن طبع الأرض يكون في المركز مغموراً بالماء، ويكون الماء محيطاً بجميع جوانبه، فإذا سئلوا عن ظهور الأرض من الماء قالوا: جذب في الأرض.
فإذا قيل لهم: لماذا تجذب؟ وما سبب الجذب؟ .
فالذي عنده قليل من الحق أسند ذلك إلى إرادة الله تعالى ومشيئته، والآخر يقول: ذلك بحسب اتصالات الكواكب وأوضاعها.
فإن قيل له: لماذا اختلفت أوضاع الكواكب على الوجه الذي أوجب البرد في بعض الأرض دون بعض؟ بهت كما بهت الذي كفر، ويرجع إلى الحق إن هداه الله تعالى.
وقال ابن الخطيب: ومعنى الآية أن الله - تعالى - أرسل بعض البحرين إلى بعض، ومن شأنهما الاختلاط فحجزهما ببرزخ من قدرته، فهما لا يبغيان، أي: لا يجاوز كل واحدٍ منهما ما حد له.
و «البَغْي» : مجاوزة الحد، أو من الابتغاء وهو الطَّلب، أي: لا يطلبان غير ما قدر لهما.
قوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} قرأ نافع، وأبو عمرو:«يُخْرَجُ» مبنيًّا للمفعول، والباقون: مبنيًّا للفاعل على المجاز.
قالوا: ثم مضاف محذوف، أي «من أحدهما» ؛ لأن ذلك لم يؤخذ من البحر العذب حتى عابُوا قول الشاعر:[الطويل]
4634 -
فَجَاءَ بِهَا ما شِئْتَ مِنْ لطَمِيَّةٍ
…
على وجْهِهَا مَاءُ الفُراتِ يَمُوجُ
قال مكي: «كما قال: {على رَجُلٍ مِّنَ القريتين} [الزخرف: 31] ، أي: من إحدى القريتين، فحذف المضاف كثير شائع» .
وقيل: هو كقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] وإنما الناسي فتاه، ويعزى هذا لأبي عبيدة.
قال البغوي: وهذا جائز في كلام العرب أن يذكر شيئين، ثم يخص أحدهما بفعل، كقوله:{يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} [الأنعام: 130] ، ثم كانت الرسل من الإنس.
وقيل: يخرج من أحدهما اللؤلؤ، ومن الآخر المرجان.
وقيل: بل يخرجان منهما جميعاً.
ثم ذكروا أقاويل.
منها: أنهما يخرجان من المِلْح في المواضع الذي يقع فيه العذب، وهذا مشاهد عند الغواصين، وهو قول الجمهور، فناسب ذلك إسناده إليهما.
ومنها: قول ابن عباس رضي الله عنهما: تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر، والصدف تفتح أفواهها للمطر، وقد شاهده الناس، فيكون تولده من بحر السماء، وبحر الأرض. وهذا قول الطبري.
ومنها: أن العذب في الملح كاللقاح، كما يقال: الولد يخرج من الذَّكر والأنثى.
ومنها: أنه قيل: منهما من حيثُ هما نوع واحد، فخروج هذه الأشياء إنما هي منهما، كما قال تعالى:{وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} [نوح: 16] وإنما هو في واحدةٍ منهن.
وقال الزمخشري: «فإن قلت: لم قال:» منهما «، وإنما يخرجان من الملح؟
قلت: لما التقيا، وصارا كالشيء الواحد، جاز أن يقال: يخرجان منهما كما يقال: يخرجان من البحر، ولا يخرجان من جميع البحر، وإنما يخرجان من بعضه، وتقول: خرجت من البلد، وإنما خرجت من محلَّةٍ واحدة من محاله، بل من دارٍ واحدة من دُورهِ، وقيل: لا يخرجان إلَاّ من ملتقى الملح والعذب» . انتهى.
وقال بعضهم: كلام الله أولى بالاعتبار من كلام بعض النَّاسِ، فمن الجائز أن يسوقها من البحر العذب إلى الملح، واتفقُوا أنهم لم يخرجوها إلا من الملح، وإذا كان في البر أشياء تخفى على التُّجَّار المترددين القاطعين المفاوز، فكيف بما هو في قَعْرِ البحر؟ .
فالجواب عن هذا: أن الله لا يخاطب الناس، ولا يمنن عليهم إلا بما يألفون، ويشاهدون.
و «اللؤلؤ» : قيل: كِبارُ الجوهر، والمرجان: صغاره. قاله علي، وابن عباس، والضحاك رضي الله عنهم.
وقيل بالعكس، وأنشدوا قول الأعشى رحمه الله:[البسيط]
4635 -
مِنْ كُلِّ مَرْجَانةٍ فِي البَحْرِ أحْرَزَهَا
…
تيَّارُهَا ووقَاهَا طينهَا الصَّدَفُ
أراد اللؤلؤة الكبيرة. قاله علي، وابن عباس أيضاً.
وقيل: «المرجان» : حجر أحمر.
وقيل: حجر شديد البياض، والمرجان أعجمي.
قال ابن دريد: لم أسمع فيه كلاماً منصرفاً.
و «اللؤلؤ» ، بناء غريب لم يرد على هذه الصيغة إلا خمسة ألفاظ: اللؤلؤ، و «الجُؤجؤ» وهو الصَّدر، و «الدُّردؤ» ، و «اليُؤيُؤ» - لطائر - و «البُؤبؤ» - بالموحدتين - وهو الأصل، و «اللُّؤلُؤ» - بضمتين - والهمز هو المشهور.
وإبدال الهمزة واواً شائع فصيح وقد تقدم ذلك.
وقرأ طلحة: «اللُّؤلِىء» - بكسر اللام الثالثة - وهي لغة محفوظة، ونقل عنه أبو الفضل:«اللُّولِي» بقلب الهمزة الأخيرة ياء ساكنة، كأنه لما كسر ما قبل الهمزة قلبها ياء استثقالاً.
وقرأ أبو عمرو في رواية: «يُخْرِجُ» أي: الله تعالى، وروي عنه، وعن ابن مقسم:«نُخْرِج» بنون العظمةِ.
و «اللؤلؤ والمرجان» على هاتين القراءتين منصوبان.
فصل في مناسبة نعمة اللؤلؤ والمرجان للنعم السابقة
قال ابن الخطيب: فإن قيل: أي نعمة عظيمة في «اللُّولؤ والمرجان» حتى ذكرهما مع نعمة تعليم القرآن وخلق الإنسان؟ .
وأجاب بأن النعم منها خلق الضَّروريات كالأرض التي له مكاناً، وكذا الرزق الذي به بقاؤه.
ومنها ما يحتاج إليه، وإن لم يكن ضروريًّا كالحيوان، وإجراء الشمس والقمر.
ومنها المنافع وإن لم يكن محتاجاً إليها كالفاكهة، وخلق البحار، كقوله تعالى:{والفلك التي تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس} [البقرة: 164] .
ومنها الزينة وإن لم يكن نافعاً كاللؤلؤ والمرجان، كقوله تعالى:{وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [النحل: 14] ، فالله تعالى ذكر أنواع النعم الأربعة، وصدرها بالنعمة العظيمة التي هي الروح وهو العلم بقوله:{عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 2]، أو يقال: بأن المقصود منه عجائب الله لا بيان النعم؛ لأن النعم سبق ذكرها فذكر خلق الإنسان من صلصال، وخلق الجان من مارج من نارٍ، وهذان من العجائب الدَّالة على القدرة، لا من النعم.
واعلم أن الأركان أربعة: التراب والماء والهواء والنار، فالله تعالى بيّن بقوله:{خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ} ، أن التراب أصل لمخلوق عجيب، وبين بقوله:{وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} ، أن النار أيضاً أصل لمخلوق عجيب، وبين بقوله:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} أن الماء أصل لمخلوق آخر كالحيوان عجيب، بقي الهواء لكنه غير محسوس، فلم يذكر أنه أصل مخلوق، لكن بين كونه منشئاً للجواري التي في البحر كالأعلام.
فقال: «ولهُ الجوارِ» .
العامة على كسر «الراء» ؛ لأنه منقوص على «مفاعِل» والياء محذوفة لفظاً لالتقاء الساكنين.
وقرأ عبد الله والحسن، ويروى عن أبي عمرو، «برفع الراء تناسياً للمحذوف» . ومنه:[الرجز]
4636 -
لَهَا بَنَاتٌ أرْبَعٌ حِسَانُ
…
وأرْبَعٌ فثَغْرُهَا ثَمَانُ
وهذا كما قالوا: هذا شاكٍ وقد تقدم تقرير هذا في الأعراف عند قوله: {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف: 41] .
قوله: «المُنشآتُ» .
قرأ حمزة، وأبو بكر بخلاف عنه بكسر الشِّين، بمعنى أنها تنشىء الموج بجريها، أو تنشىء السير إقْبَالاً وإدباراً، أو التي رفعت شراعها، والشِّراع: القلاع.
وعن مجاهد: كل ما رفعت قلعها فهي من المنشآت، وإلا فليست منها ونسبة الرَّفع
إليها مجاز، كما يقال: أنشأت السَّحابة المطر.
والباقون: بالفتح، وهو اسم مفعول، أي أنشأها الله، أو الناس، أو رفعوا شراعها.
وقرأ ابن أبي عبلة: «المُنَشَّآت» بتشديد الشين مبالغة.
والحسن: «المُنشَّأة» بالإفراد وإبدال الهمزة ألفاً وتاء محذوفة خطاً، فأفرد الصفة ثقة بإفهام الموصوف الجمعية، كقوله:{وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} [آل عمران: 15] .
وأما إبداله الهمزة ألفاً وإن كان قياسها بين بين، فمبالغة في التخفيف.
كقوله: [البسيط]
4637 -
إنَّ السِّباعَ لَتَهْدَا فِي مَرَابِضِهَا.....
…
...
…
...
…
...
…
... .
أي: «لتهدأ» وأما كتابتها بإلقاء المحذوفة، فاتباعاً للفظها في الوصل.
و «في البَحْر» متعلق ب «المنشآت» أو «المنشأة» ، ورسمه بالتاء بعد الشين في مصاحف «العراق» يقوي قرءاة الكسر، ورسمه بدونها يقوي قراءة الفتح، وحذفوا الألف كما تحذف في سائر جمع المؤنث السالم.
و «كالأعلام» حال، إما من الضمير المستكنّ في «المنشآت» ، وإما من «الجواري» وكلاهما بمعنى واحد.
فصل في المراد بالجواري
«الجَوَارِي» جمع جارية. وهي اسم أو صفة للسفينة، وخصها بالذكر؛ لأن جريها في البحر لا صنع للبشر فيه، وهم معترفون بذلك، فيقولون:«لك الفُلْك، ولك المُلْك» .
وإذا خافوا الغرقَ دعوا الله خاصة، وسميت السفينة جارية؛ لأن شأنها ذلك وإن كانت واقفةً في السَّاحل كما سماها في موضع آخر ب «الجارية» ، فقال تعالى:{إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} [الحاقة: 11] .
وسماها بالفلك قبل أن تكون كذلك، فقال لنوح عليه الصلاة والسلام ُ:{واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا} [هود: 37] ثم بعد ما عملها سمَّاها سفينة، فقال:{فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة} [العنكبوت: 15] .
واعلم أن المرأة المملوكة تسمى أيضاً جارية؛ لأن شأنها الجري والسعي في حوائج سيدها، بخلاف الزَّوجة، فهو من الصفات الغالبة.
و «السفينة» : «فعيلة» بمعنى «فاعلة» عند ابن دريد، أي: تسفن الماء و «فَعِيلَة» بمعنى «مفعولة» عند غيره بمعنى منحوتة، قال ابن الخطيب: فالفُلك أولاً، ثم السفينة، ثم الجارية.
والأعلام: الجبال، والعلم: الطويل، قال:[الرجز]
4638 -
إذَا قطعْنَ علماً بَدَا عَلَمْ
…
وقالت الخنساء في صخر: [البسيط]
4639 -
وإنَّ صَخْراً لتَأتَمُّ الهُدَاةُ بِهِ
…
كَأنَّهُ علمٌ فِي رَأسِهِ نَارُ
أي «جبل» ، فالسفن في البحر كالجبال في البر.
وجمع «الجواري» ووحد «البحر» ، وجمع «الأعلام» إشارة إلى عظمةِ البحر.
قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} غلب من يعقل على غيره، وجميعهم مراد.
والضمير في «عليها» للأرض.
قال بعضهم: وإن لم يجر لها ذكر، كقوله:{حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32] .
ورد هذا بأنه قد تقدم ذكرها في قوله: {والأرض وَضَعَهَا} [الرحمن: 10] .
وقيل: الضمير عائد إلى الجارية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزلت هذه الآية قالت الملائكة: هلك أهل الأرض. فنزلت {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَاّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] فأيقنت الملائكة بالهلاك. وقاله مقاتل.
ووجه النعمة في فناء الخلق: التسوية بينهم في الموت.
وقيل: وجه النِّعمة أن الموت سبب النَّقل إلى دار الجزاء والثواب.
قوله: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} أي ويبقى الله، فالوجه عبارة عن وجود ذاته سبحانه وتعالى.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الوجه عبارة عنه، كما قال {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام} .
ويقال: هذا وجه الأمر، ووجه الصواب، وعين الصواب، ومعنى {ذو الجلال والإكرام} أي: هو أهل لأن يكرم، وهذا خطاب مع كل سامع.
وقيل: خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم َ.
فإن قيل: كيف خاطب الاثنين بقوله: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا} .
وخاطب هاهنا الواحد فقال: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} ، ولم يقل:«وجْه ربِّكُمَا» ؟ .
فالجواب: أن الإشارة هاهنا وقعت إلى فناء كل أحد، فقال:{ويبقى وجه ربك} أيها السامع ليعلم كل أحد أن غيره فانٍ، فلو قال: ويبقى وجه ربكما، لكان كل أحد يخرج نفسه، ورفيقه المخاطب عن الفناء.
فإن قيل: فلو قال: «ويبقى وجه الرّب» من غير خطاب، كان أدَلَّ على فناء الكل؟ .
فالجواب: إن كان الخطاب في الرب إشارة إلى اللطف، والإبقاء إشارة إلى القهر، والموضع موضع بيان اللطف، وتعديد النعم، فلهذا قال: بلفظ الرب وكاف الخطاب.
قوله تعالى: {ذُو الجلال والإكرام} .
العامة على «ذو» بالواو صفة للوجه، وأبي، وعبد الله:«ذي» بالياء صفة ل «ربّك» . وسيأتي خلاف القراء في آخر السورة إن شاء الله تعالى.
و «الجلال» : العظمة والكبرياء.
و «الإكرام» : يكرم أنبياء وأولياءه بلُطفه مع جلاله وعظمته.
قوله تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات والأرض} فيه وجهان:
أحدهما: أنه مستأنف.
والثاني: أنه حال من «وجه» ، والعامل فيه «يبقى» أي يبقى مسئولاً من أهل السموات والأرض.
وفيه إشكال؛ لأنه لما قال: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} كان إشارة إلى بقائه بعد فناء من على الأرض، فكيف يكون في ذلك الوقت مسئولاً لمن في الأرض؟ .
قال ابن الخطيب: والجواب من وجوه.
الأول: أنهم يفنون بالنظر إليه، لكنهم يبقون بإبقاءِ الله، فيصح أن يكون الله مسئولاً.
الثاني: أن يكون مسئولاً معنًى لا حقيقة؛ لأنهم إذا فنوا فهم يسألونه بلسان الحالِ.
الثالث: أن قوله: «ويبقى» للاستمرار فهو يبقى ويعيد من كان في الأرض، ويكون مسئولاً.
الرابع: أنَّ السَّائلين هم الملائكة الذين هم في الأرض فأنهم فيها، وليسوا عليها، ولا يضرّهم زلزلتها، فعندما يفنى من عليها يبقى الله تعالى، ولا يفنى في تلك الحال الملائكة، فيسألونه ماذا نفعل؟ فيأمرهم بما يريد.
فصل في تحرير السؤال المقصود
وهذا السُّؤال إما استعطاف، وإما استعطاء، فيسأله كل أحد ما يحتاج إليه.
قال ابن عباس وأبو صالح: أهل السموات يسألونه المغفرة، ولا يسألونه الرزق، وأهل الأرض يسألونهما جميعاً.
قال ابن جريج: تسأله الملائكة الرزق لأهل الأرض، فكانت المسألتان جميعاً من أهل السماء، وأهل الأرض لأهل الأرض.
وقال ابن عطاء: إنهم يسألونه القوة على العباد.
قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ} منصوب بالاستقرار الذي تضمنه الخبر، وهو قوله:«فِي شأن» .
والشأن: الأمر.
فصل في تفسير هذه الآية
روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال: «» كُلَّ يوم هُوَ في شأنٍ «قال:» مِنْ شَأنِه أن يَغْفِرَ ذَنْباً، ويُفَرِّجَ كُرْبَةً، ويرفعَ أقواماً، ويضع آخرين «» .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم َ في قول الله عز وجل: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} قال: يَغْفِرُ ذَنْباً، ويكْشِفُ كَرْباً ويُجِيْبُ داعياً.
وقيل: من شأنه أنه يُحْيي ويميت، ويعزّ ويذلّ، ويرزق ويمنع.
وقال ابن بحر: الدّهر كله يومان:
أحدهما: مدة أيام الدنيا.
والآخر: يوم القيامة، فشأنه سبحانه وتعالى في أيام الدنيا الابتلاء والاختبار بالأمر والنهي والإحياء والإماتة والإعطاء والمنع، وشأنه يوم القيامة: الجزاء والحساب والثواب والعقاب.
والظَّاهر أن المراد بذلك الإخبار عن شأنه في كل يوم من أيام الدنيا.
وقال عمرو بن ميمون: في قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} من شأنه أن يميت حيًّا، ويحيي ميّتًا ويقرّ في الأرحام، ويعز ذليلاً، ويذلّ عزيزاً.
وقيل: من شأنه أن يولج الليل في النهار، ويولج النَّهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويشفي سقيماً، ويسقم سليماً، ويبتلي معافى ويعافي مُبْتلى، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويفقر غنيًّا، ويغني فقيراً.
وقال الكلبي: هو سوق المقادير المواقيت.
وعن عبد الله بن طاهر أنه دعا الحسين بن الفضل، وقال له: أشكلت عليّ ثلاث آيات، دعوتك لتكشفها لي قوله تعالى:
{فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين} [المائدة: 31] وقد صح أن الندم توبة.
وقوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وصح أن القلم جف بما هو كائن إلى يوم القيامة، وقوله تعالى:{وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سعى} [النجم: 39] فما بال الإضعاف؟ .
فقال الحسين: يجوز ألا يكون الندم توبة في تلك الأمة، ويكون توبة في هذه الأمة؛ لأن الله خصّ هذه الأمة بخصائص لم تشاركهم فيها الأمم.
وقيل: إن ندم «قابيل» لم يكن على قتل هابيل، ولكن على حمله.
وأما قوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سعى} [النجم: 39]، فمعناه: ليس له إلَاّ ما سعى عدلاً، ولي أن أجزيه بواحدة ألفاً.
وأما قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} فإنها شُئُون يبديها ولا يبتديها، فقام عبد الله بن طاهر وقَبَّلَ رأسه، وسوغ خراجه.
قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ} .
قرأ: «سيفرغ» - بالياء - الأخوان، أي سيفرغ الله تعالى. والباقون من السبعة: بنون العظمة، والرَّاء مضمومة في القراءتين، وهي اللغة الفصحى لغة «الحجاز» .
وقرأها مفتوحة الراء مع النون الأعرج، ويحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون من «فَرَغَ» بفتح الراء في الماضي، وفتحت في المضارع لأجل حرف الحَلْق.
والثاني: أنه سمع فيه «فَرِغَ» - بكسر العين - فيكون هذا مضارعه، وهذه لغة «تميم» وقرأ عيسى بن عمر وأبو السمال:«سَنِفْرَغُ» - بكسر حرف المضارعة وفتح الراء. وتوجيهها واضح مما تقدم في «الفاتحة» .
قال أبو حاتم: هذه لغة سفلى «مضر» .
والأعمش وأبو حيوة وإبراهيم: «سَيُفْرَغُ» - بضم الياء - من تحت مبنيًّا للمفعول.
وعيسى - أيضاً - بفتح نون العظمة، وكسر الراء.
والأعرج - أيضاً - بفتح الياء، ويروى عن أبي عمرو.
فصل في الكلام على فرغ
وأنشد ابن الأنباري لجرير: [الوافر]
4640 -
ألانَ وقَدْ فَرَغْتُ إلى نُمَيْرٍ
…
فَهَذَا حِينَ كُنْتُ لَهُمْ عَذَابَا
وأنشد الزجاج والنحاس: [الطويل]
4641 -
فَرَغْتُ إلى العَبْدِ المُقَيَّدِ في الحِجْلِ
…
ويدل عليه قراءة أبيِّ رضي الله عنه: «سَنفْرُغُ إليْكُمْ» أي سنقصد إليكم.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم َ «أنه لما بايع الأنصار ليلة» العقبةِ «، صاح الشيطان: يا أهل الجباجب هذا مُذمَّمٌ يبايع بني» قيلة «على حربكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ:» هذا أزَبّ العقبة، أما والله لأتفرَّغن لك «
أي: أقصد إلى إبطال أمرك.
وهذا اختيار القتبي والكسائي وغيرهما.
قال ابن الأثير: الأزَبُّ في اللغة: الكثير الشعر، وهو هاهنا شيطان اسمه «أزب العقبة» وهو الحيّة.
وقيل: إن الله - تعالى - وعد على التقوى، وأوعد على الفُجُور، ثم قال:{سَنَفْرُغُ لَكُمْ} أي: مما وعدناكم، ونوصل كلاًّ إلى ما وعدناه، أقسم ذلك وأتفرغ منه. قاله الحسن، ومقاتل، وابن زيد.
قوله تعالى: {أَيُّهَ الثقلان} . تقدم الكلام في قراءة «أيُّهَا» في «النور» [النور: 31] وهو منادى، والحكمة في نداء المُبْهَم هي تنبيه كل سامع، ثم يخصص المقصود بعد ذلك، فيكون فيه اهتمام بالمنادى.
وأيضاً يجعل المبهم وصلة لنداء المعرف باللام، وزيد معه هاء التي للتَّنبيه عوضاً عن الإضافة؛ لأن المبهم يضاف.
و «الثَّقلان» الجنّ والإنس، سُمِّيَا بذلك لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما بسبب التكليف.
وقيل: سمّوا بذلك؛ لأنهما ثقلا الأرض أحياء وأمواتاً.
قال تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] .
ومنه قولهم: أعطهِ ثقله أي وزنه.
وقال بعض أهل المعاني: كل شيء له قَدْر ووزن ينافس فيه فهو ثقل، ومنه قيل لبيض النعام: ثقل، لأن واجده وصائده يفرح به إذا ظفر به.
وقال جعفر الصادق: سميا ثقلين؛ لأنهم مثقلان بالذنوب.
وقيل: الثَّقَل الإنس لشرفهم، وسمّي الجن بذلك مجازاً للمجاورة والتغليب كالعَمريْن والقَمريْن والثَّقَل: العظيم الشريف.
قال عليه الصلاة والسلام ُ: «إنِّي تاركٌ فيكم ثقلينِ: كتاب اللَّهِ وعترتِي» .
فصل في سبب التثنية بعد الجمع
جمع في قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ} ثم قال: {أَيُّهَ الثقلان} ؛ لأنهما فريقان، وكل فريق جمع، وهذا كقوله تعالى:{يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم} ، ولم يقل «إن استطعتما» ؛ لأنهما فريقان في حال الجمع، كقوله تعالى:{فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} [النمل: 45] .
وقوله تعالى: {هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ} [الحج: 19]، ولو قال: سنفرغ لكما، أو قال: استطعتما، لجاز.
وقرأ أهل «الشَّام» : «أيُّهُ الثَّقلانِ» بضم الهاء، والباقون: بفتحها.
فصل في أن الجن مكلفون
هذه الآيات التي في «الأحقاف» ، و {قُلْ أُوحِيَ} [الجن: 1] دليل على أن الجن مخاطبون مكلفون مأمورون منهيّون مثابون معاقبون كالإنس سواء، مؤمنهم كمؤمنهم، وكافرهم ككافرهم.
قوله تعالى: {يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا} [الرحمن: 33] الآية. لما بين أن الله تعالى لا يشغله شأن عن شأن، كأن قائلاً قال: فلم أخر عذابهم؟ .
فأجيب: بأن الجميع في قبضته، وأن الذي يستعجل إنما يخاف الفوت، والجميع في قبضة الله - تعالى - فلا يفوتونه.
و «المعشر» : الجماعة العظيمة؛ لأن المعشر هو العدد الكامل الكثير الذي لا عدد بعده إلَاّ بابتداء فيه حيث يعيد الآحاد، تقول: أحد عشر، واثنا عشر وعشرون، وثلاثون، أي ثلاث عشرات، فالمعشر كأنه في محل العشر الذي هو الكثرة الكاملة.
فإن قيل: ما الحكمة في تقديم الجنّ على الإنس هاهنا، وتقديم الإنس على الجن في قوله تعالى:{قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن} [الإسراء: 88] ؟ .
فالجواب: أن النفوذ من أقطار السموات والأرض بالجن أليق إن أمكن، والإتيان
بمثل هذا القرآن بالإنس أليق إن أمكن الإتيان، فقدم في كل موضع ما يليق به.
فصل في المراد بالآية
معنى الآية: إن استطعتم أن تنفذوا: تجوزوا وتخرجوا بسرعة.
والنفوذ: الخروج وقد تقدم في أول «البقرة» أن ما فاؤه نون وعينه فاء يدل على الخروج كنفق ونفر، قال تعالى:{يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا} فاهربوا واخرجوا منها، وهذا أمر تعجيز، والمعنى: حيث ما كنتم أدرككم الموت، كما قال تعالى:{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت} [النساء: 78] وهو قول الضحاك.
وروى جويبر عن الضحاك أيضاً قال: يقال لهم هذا يوم القيامة، يعني: إن استطعتم أن تجوزوا أقطار السموات والأرض، فتعجزوا ربكم حتى لا يقدر عليكم، فجوزوا يعني لا مهرب لكم ولا خروج لكم عن ملك الله سبحانه وتعالى، وأينما تولوا فثمَّ ملك الله.
وقال ابن عباس إن استطعتم أن تعلموا ما في السموات وما في الأرض فاعلموه ولن تعلموه إلا بسلطان أي يبينه من الله عز وجل وعنه أيضاً لا تنفذون إلا بسلطان لا تخرجون من سلطاني وقدرتي عليكم وقال قتادة: لا تنفذون إلا بملك وليس لكم ملك وقيل: الباء بمعنى إلى أي إلا إلى سلطان كقوله تعالى وقد أحسن بي أي إليّ.
وقيل معناه: لا تنفذوا إلا ومعكم سلطان الله وقيل معناه: لا تتخلصون من عذاب الله إلا بسلطان يجيركم وإلا فلا مجير لكم.
قوله تعالى: {إِلَاّ بِسُلْطَانٍ} . حال أو متعلق بالفعل قبله.
والسلطان: القوة التي يتسلّط بها على الأمر والملك والقدرة والحجة كلها سلطان، يريد: حيث ما توجهتم كنتم في ملكي.
قوله تعالى: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} .
قرأ ابن كثير: بكسر الشين والباقون: بضمها، وهما لغتان بمعنى واحد مثل:«صِوَار» من البقر، و «صُوَار» وهو القطيع من البقر.
و «الشُّواظ» : قيل: اللَّهب معه دخان.
وقال ابن عباس وغيره: هو اللهب الخالص الذي لا دُخان له.
وقيل: اللَّهب الأحمر.
وقيل: هو الدخان الخارج من اللهب.
وقال رؤبة رحمه الله: [الرجز]
4642 -
…
...
…
...
…
...
…
... ونَارَ حَرْبٍ تُسْعِرُ الشُّواظَا
وقال حسَّان رضي الله عنه: [الوافر]
4643 -
هَجَوْتُكَ فاختضَعْتَ لَهَا بِذُلٍّ
…
بِقَافِيةٍ تأجَّجُ كالشُّوَاظِ
وقال مجاهد: «الشُّواظ» : اللَّهب الأخضر المنقطع من النَّار.
وقال الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من دخان اللَّهب ليس بدخان الحطب.
وقاله سعيد بن جبير.
وقيل: «الشُّواظ» : النَّار والدخان جميعاً. قاله ابن عمر، وحكاه الأخفش عن بعض العرب.
و «يُرْسَل» مبني للمفعول وهي قراءة العامة، وزيد بن علي «نرسل» بالنون شُواظاً ونحاساً بالنصب، و «من نار» صفة ل «شواظ» أو متعلق ب «يرسل» .
قوله: «ونُحَاس» .
قرأ ابن كثير وأبو عمرو: بجره عطفاً على «نار» .
والباقون: برفعه عطفاً على «شُواظ» .
و «النُّحَاس» : قيل: هو الصفر المعروف يذيبه الله - تعالى - ويعذبهم به.
وقيل: الدخان الذي لا لهب معه.
قال الخليل: وهو معروف في كلام العرب.
وأنشد للأعشى: [المتقارب]
4644 -
يُضِيءُ كَضَوْءِ السِّرَاجِ السَّلِي
…
طِ لَمْ يَجْعَل اللَّهُ فيهِ نُحَاسَا
قال المهدوي: من قال: إن الشواظ النار والدخان جميعاً، فالجر في «نُحَاس» على هذا بين.
فأما الجر على قول من قال: إن الشواظ اللَّهب الذي لا دخان فيه فبعيد لا يسوغ إلا على تقدير حذف موصوف كأنه قال: «يرسل عليكما شواظ من نار، وشيء من نحاس» ف «شيء» معطوف على شواظ، و «من نحاس» جملة هي صفة لشيء، وحذف «شيء» وحذفت «من» لتقدم ذكرها في «من نار» كما حذفت «على» من قولهم: على من تنزل أنزل أي: وعليه، فيكون «نُحَاس» على هذا مجروراً ب «من» المحذوفة، وتضم نونه وتكسر، وبالكسر قرأ مجاهد، وطلحة والكلبي، ونقله القرطبي عن حميد أيضاً، وعكرمة، وأبي العالية.
وقرأ ابن جندب: «ونَحْسٌ» ، كقوله تعالى:{فِي يَوْمِ نَحْسٍ} [القمر: 19] وابن أبي بكرة، وابن أبي إسحاق:«ونَحُسُّ» بضم الحاء والسين مشددة من قوله تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُم} [آل عمران: 152] أي: ونقتل بالعذاب، وقرأ ابن أبي إسحاق أيضاً:«ونَحس» بضم الحاء وفتحها وكسرها وجر السين، والحسن والقاضي:«ونُحُسٍ» بضمتين وجر السين.
وتقدمت قرأة زيد: «ونُحَاساً» بالنَّصْب لعطفه على «شُواظاً» في قراءته.
و «النِّحاس» أيضاً بالكسر: الطبيعة والأصل.
يقال: فلان كريم النحاس و «النُّحاس» أيضاً بالضم، أي: كريم النِّجار.
قال ابن مسعود: النحاس: المهل وقال الضحاك: هو دُرْديّ الزَّيت المغلي.
وقال الكسائي: هو النار التي لها ريح شديدة.
قوله تعالى: {فَلَا تَنتَصِرَانِ} أي: لا ينصر بعضكم بعضاً، يعني الجن والإنس.
وثنّى الضمير في «عَلَيْكُمَا» ؛ لأن المراد النوعان، وجمع في قوله:«إن اسْتَطعْتُمْ» ؛ لأنه خطاب للمعشر، وكذا قوله تعالى:{فَلَا تَنتَصِرَانِ} خطاب للحاضرين، وهم نوعان.
قوله تعالى: {فَإِذَا انشقت السمآء} جوابه مقدر، أي: رأيت هولاً عظيماً، أو كان ما كان.
وقوله: «فَكَانَت ورْدَةً» أي: مثل وردة.
فقيل: هي الزهرة المعروفة التي تشمّ شبهها بها في الحمرة.
وأنشد قول الشاعر: [الطويل]
4645 -
فَلَوْ كُنْتُ وَرْداً لونُهُ لَعشِقْتَنِي
…
ولكِنَّ ربِّي شَانَنِي بِسَوَادِيَا
وقيل: هي من لون الفَرَس الورد يكون في الربيع إلى الصُّفرة، وفي الشتاء إلى الحُمْرة، وفي شدة البرد إلى الغبرة، فشبه تلوّن السماء بتلون الوردة من الخَيل.
وقرأ عمرو بن عبيد: «وَرْدَةٌ» بالرفع.
قال الزمخشري: فحصلت سماء وردة، وهو من الكلام الذي يسمى التَّجريد؛ كقوله:[الكامل]
4646 -
فَلَئِنْ بَقِيتُ لأرحلنَّ بِغَزْوَةٍ
…
تَحْوِي الغَنائمَ أو يَمُوتَ كَرِيمُ
قوله: «كالدِّهان» يجوز أن يكون خبراً ثانياً، وأن يكون نعتاً ل «وَرْدَة» ، وأن يكون حالاً من اسم «كانت» .
وفي «الدِّهَان» قولان:
أنه جمع «دُهْن» نحو: قُرْط وقِرَاط، ورُمْح ورِمَاح، وهو في معنى قوله تعالى:{تَكُونُ السمآء كالمهل} [المعارج: 8] وهو: دردي الزيت.
والثاني: أنه اسم مفرد.
فقال الزمخشري: «اسم ما يدهن به كالحزام والإدام» ؛ وأنشد: [الطويل]
4647 -
كأنَّهُمَا مَزادَتَا مُتَعَجِّلٍ
…
فريَّان لمَّا تُدهَنَا بدِهَانِ
وقال غيره: هو الأديم الأحمر؛ وأنشد للأعشى: [الوافر]
4648 -
وأجْرَدَ مِنْ كِرامِ النَّخْلِ طَرْفٍ
…
كأنَّ على شَواكِلِه دِهَانَا
أي: أديماً أحمر، وهذا يحتمل أن يكون جمعاً، ويؤيده ما أنشده منذر بن سعيد:[الطويل]
4649 -
تَبِعْنَ الدِّهَانَ الحُمْرَ كُلَّ عَشِيَّةٍ
…
بمَوْسمِ بَدْرٍ أو بِسُوقِ عُكَاظِ
فقوله: «الحمر» يحتمل أن يكون جمعاً، وقد يقال: هو كقولهم: أهلك الناس الدينار الحمر والدرهم البيض، إلَاّ أنه خلاف الأصل.
وقيل: شبهت بالدهان وهو الزيت لذوبها ودورانها.
وقيل: لبريقها.
فصل في معنى الآية
قال المفسرون: قوله تعالى: {فَإِذَا انشقت السمآء} انصدعت يوم القيامة، {فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان} .
قال مجاهد والضحاك، وغيرهما:«الدهان» : الدهن، والمعنى: صارت في صفاء الدّهن، والدهان على هذا جمع دهن.
وقال سعيد بن جبير وقتادة: المعنى تصير في حُمْرة الورد، وجريان الدهن، أي: تذوب مع جريان الدهن حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقّتها وذوبانها.
وقيل: الدهان: الجلد الأحمر الصرف. ذكره أبو عبيدة والفراء. أي: تصير السماء كالأديم لشدّة حر نار جهنم.
وعن ابن عباس: المعنى: فكانت كالفرس الورد في الربيع كميت أصفر، وفي الشتاء كميت أحمر، فإذا اشتد الشتاء كان كميتاً أغْبر.
وقال الفراء: أراد الفرس الوردة، تكون في الربيع وردة إلى الصُّفرة، فإذا اشتد البرد كانت وردة؛ فإذا كان بعد ذلك كانت وردةً إلى الغبرة، فشبه تلوّن السماء بتلوّن الورد من الخيل.
وقال الحسن: «كالدِّهان» أي: كصبّ الدهن، فإنك إذا صببته ترى فيه ألواناً.
وقال زيد بن أسلم: المعنى: أنها تصير كعكر الزيت.
وقيل: المعنى أنها تمر وتجيء.
قال الزجاج: أصل الواو والراء والدال للمجيء والإتيان.
وهذا قريب مما تقدم من أن الفرس الوردة تتغير ألوانها، والورد أيضاً: يطلق على الأسد.
وقال قتادة: إنها اليوم خضراء، وسيكون لها لون أحمر. حكاه الثعلبي.
قال المارودي: وزعم المتقدمون أن أصل لون السَّماء الحمرة، وأنها لكثرة الحوائل وبعد المسافة يرى لونها أزرق، وشبهوا ذلك بعروق البدن، وهي حمراء حمرة الدم، وترى بالحائل زرقاء، فإن كان هذا صحيحاً، فإنَّ السماء لقربها من النَّواظر يوم القيامة، وارتفاع الحواجز ترى حمراء؛ لأنها أصل لونها. والله أعلم.
قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ} التنوين عوض من الجملة، أي: فيومئذ انشقَّت السَّماء، والفاء في «فيومئذٍ» جواب الشرط.
وقيل: هو محذوف، أي: فإذا انشقت السَّماء رأيت أمراً مهولاً ونحو ذلك.
والهاء في «ذنبه» تعود على أحد المذكورين، وضمير الآخر مقدر، أي: ولا يسأل عن ذنبه جانّ أيضاً؛ وناصب الظرف «لا يسأل» و «لا» غير مانعة.
وقد تقدم الخلاف فيها في الفاتحة وتقدمت قراءة «جأنٌّ» بالهمزة فيها أيضاً.
فصل في الكلام على هذه الآية
قال المفسرون: هذه الآية مثل قوله تعالى: {وَلَا يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} [القصص: 78] .
وأن القيامة مواطن لطول ذلك اليوم، فيسأل في بعض، ولا يسأل في بعض. وهذا قول عكرمة.
وقيل: المعنى لا يسألون إذا استقرُّوا في النَّار. وقال الحسن وقتادة: لا يسألون عن ذنوبهم؛ لأن الله - تعالى - حفظها عليهم، وكتبتها الملائكة. رواه العوفي عن ابن عباس.
وعن الحسن ومجاهد أيضاً: لا تسأل الملائكة عنهم؛ لأنهم يعرفونهم بسيماهم.
دليله قوله تعالى: {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} ، رواه مجاهد عنه أيضاً في قوله تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92]، وهو قوله تعالى:{فَيَوْمَئِذٍ لَاّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَآنٌّ} .
قال: لا يسألهم ليعرف ذلك منهم، ولكنهم يسألهم لم عملتموها؟ سؤال توبيخ.
وقال أبو العالية: لا يسأل غير المجرم عن ذنب المجرم.
وقال قتادة: يسألون قبل الختم على أفواههم، ثم يختم على أفواههم، وتتكلم جوارحهم شاهدة عليهم.
قوله تعالى: {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} .
قرأ حماد بن أبي سليمان: «بِسِيمائِهِمْ» بالمد.
قوله تعالى: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي} الآية.
«يُؤخذ» متعدّ، ومع ذلك تعدى بالباء؛ لأنه ضمن معنى «يسحب» . قاله أبو حيان.
و «يسحب» إنما يتعدى ب «على» ، قال تعالى:{يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48] فكان ينبغي أن يقول: ضمن معنى يتعدى «يدعون أو يدفعون» .
وقال مكّي: «إنما يقال: أخذت الناصية، وأخذت بالناصية، ولو قلت: أخذت الدَّابة بالناصية، لم يجز.
وحكي عن العرب: أخذت الخِطَام، وأخذت بالخِطَام.
بمعنى.
وقد قيل: إن تقديره: فيؤخذ كل واحد بالنَّواصي، وليس بصواب؛ لأنه لا يتعدى إلى مفعولين أحدهما: بالباء، لما ذكرنا، وقد يجوز أن يتعدى إلى مفعولين: أحدهما بحرف جر غير الباء، نحو: أخذت ثوباً من زيد، فهذا المعنى غير الأول، فلا يحسن مع الباء مفعول آخر إلَاّ أن تجعلها بمعنى «من أجل» ، فيجوز أن تقول:«أخذت زيداً ثوباً بعمرو» أي: من أجله وبذنبه «. انتهى.
وفيما قاله نظر، لأنك تقول:» أخذت الثوب بدرهم «فقد تعدّى بغير» من «أيضاً بغير المعنى الذي ذكره.
وقال ابن الخطيب: فإن قيل: كيف عدي الأخذ بالباء وهو متعد بنفسه قال تعالى: {لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد: 15] وقال: {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} [طه: 21] ؟ .
فالجواب أن الأخذ تعدى بنفسه كما تقدم، وبالباء كقوله تعالى:{لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي} [طه: 94] لكن التدقيق فيه أن المأخوذ إن كان مقصوداً فكأنه ليس هو المأخوذ، فكأن الفعل لم يتعد إليه بنفسه، فيذكر الخوف ويدل على هذا استعمال القرآن، فقال تعالى:{خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} [طه: 21]، وقال تعالى {وليأخذوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] وأخذ الألواح إلى غير ذلك مما هو المقصود بالأخذ غيره، وأسند الأخذ إلى النواصي دون ضمير المجرمين إشارة إلى استيلاء الآخذين على المأخوذين وكثرتهم وكيفية الأخذ.
و» أل «في» النَّواصي والأقْدَام «ليست عوضاً من ضمير عند البصريين، فالتقدير: بالنواصي منهم، وهي عند الكوفيين عوض.
والنَّاصية: مقدم الرأس، وقد تقدم هذا مستوفى في» هود «وفي حديث عائشة رضي الله عنها:» مَا لَكُم لا تَنُصُّونَ مَيَّتَكُمْ «أي: لا تمدُّون ناصيته.
و» النَّصيّ «: مرعى طيب، فقولهم: فلان ناصية القوم، يحتمل أن يكون من هذا، يعنون أنه طيب منتفع، أو مثل قولهم: هو رأسُ القَوْمِ انتهى.
فصل في سيما المجرمين
قال الحسن: {يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ} أي بسواد الأوجه، وزرقة الأعين قال تعالى:{وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمَئِذٍ زُرْقاً} [طه: 102] .
وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] .
فقوله: {فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام} أي: يأخذ الملائكة بنواصيهم، أي: بشعور مقدم رءوسهم وأقدامهم فيقذفونهم في النار.
و» النَّواصي «: جمع ناصية.
وقال الضحاك: يجمع بين ناصيته وقدمه في سلسلة من وراء ظهره حتى يندقَّ ظهره، ثم يلقى في النّار.
وقيل: يفعل به ذلك ليكون أشد لعذابه، وأكثر لتشويهه.
وقيل: تسحبهم الملائكة إلى النَّار، تارةً تأخذ بناصيته، وتجرّه على وجهه، وتارةً تأخذ بقدميه وتسحبه على وجهه.
فإن قيل: ما وجه إفراد» يُؤخَذ «مع أن المجرمين جمع، وهم المأخوذون؟ .
فالجواب من وجهين: الأول: أن قوله:» يُؤخَذُ «متعلق» بالنواصي «، كقولك: ذهب يزيد.
والثاني: أن يتعلق بما يدلّ عليه» يؤخذ «، فكأنه قال: يؤخذ المأخوذون بالنواصي.
قوله
تعالى
: {هذه
جَهَنَّمُ التي يُكَذِّبُ بِهَا المجرمون} أي يقال لهم: هذه جهنّم.
قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يقال: معناه هذه صفة جهنم، فأقيم المضاف إليه مقام المضاف، وقد يكون المشار إليه هو ما تقدم.
قال: والأقوى أن يقال: الكلام تم عند قوله تعالى: {بالنواصي والأقدام} ، وقوله تعالى:{هذه جَهَنَّمُ} لقربها، كما يقال: هذا زيد قد وصل إذا قرب مكانه، فكأنه قال: جهنم التي يكذب بها المجرمون هذه قريبة غير بعيدة عنهم، ويؤيده قوله:«يُكَذِّبُ» ؛ لأن الكلام لو كان بإضمار يقال، لقال تعالى لهم:(هذه جهنم التي كذب بها المجرمون) ؛ لأن في ذلك اليوم لا يبقى تكذيب.
قوله تعالى: «يَطُوفُونَ» .
قراءة العامة: «يَطُوفون» من «طاف» ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وأبو عبد الرحمن:«يُطَافُونَ» مبنيًّا للمفعول، من أطافهم غيرهم.
والأعمش وطلحة وابن مقسم: «يُطَوِّفُون» بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة، أي يطوفون أنفسهم.
وقرأت فرقة: «يَطَّوَّفُونَ» بتشديد الطَّاء والواو، والأصل:«يتطوّفون» .
قوله تعالى: {حَمِيمٍ آنٍ} أي: حَارّ متناهٍ في الحرارة، وهو منقوص ك «قاض» يقال:«أتَى يَأتِي فهو آتٍ» ك «قَضَى يَقْضِي فهو قَاضٍ» . وقد تقدم في «الأحزاب» .
قال قتادة: يطوفون مرة بين الحميم، ومرة بين الحميم والجحيم.
و «الحميم» : الشّراب. وفي قوله تعالى: «آنٍ» ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه الذي انتهى حرّه وحميمه. قاله ابن عبَّاس، وسعيد بن جبير، والسدي، ومنه قول النابغة الذبياني:[الوافر]
4650 -
وتُخْضَبُ لِحْيَةٌ غَدَرَتْ وخَانَتْ
…
بأحْمَرَ مِنْ نَجِيعِ الجَوْفِ آنِ
وقال قتادة: «آن» طبخ منذ خلق الله السموات والأرض، يقول: إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم ذلك.
وعن كعب: أنه الحاضر، وعنه أيضاً:«آن» اسم واد من أودية جهنّم.
وقال مجاهد: إنه الذي قد آنَ شربه، وبلغ غايته.
ثم قال: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
فإن قيل: هذه الأمور ليست نعمة، فكيف قال: بأي آلاء؟ .
فالجواب من وجهين.
أحدهما: أن ما وصف من هَوْلِ القيامة، وعقاب المجرمين فيه زَجْر عن المعاصي، وترغيب في الطَّاعات وهذا من أعظم النعم.
«روي أن النبي صلى الله عليه وسلم َ أتى على شاب في الليل يقرأ: {فَإِذَا انشقت السمآء فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان} فوقف الشَّاب، وخنقته العبرة، وجعل يقول: ويحي من يوم تنشقُّ فيه السماء وَيْحِي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ:» ويحك يا فتى، يأتيني مثلها، فوالذي نَفْسِي بيدهِ لقَدْ بَكَتْ ملائكةُ السَّماءِ منْ بُكائِكَ «» .
الثاني: أن المعنى كذبتم بالنعم المتقدمة ما استحقيتم هذه العقوبات، وهي دالة على الإيمان بالغيب، وهو من أعظم النعم.
قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} .
يجوز أن يكون «مَقَام» مصدراً، وأن يكون مكاناً.
فإن كان مصدراً، فيحتمل أن يكون مضافاً لفاعله، أي: قيام ربه عليه، وحفظه لأعماله من قوله تعالى:{أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] . ويروى عن مجاهد، قال مجاهد وإبراهيم النَّخعي: هو الرجل يهمّ بالمعصية، فيذكر الله فيدعها من خوفه.
وأن يكون مضافاً لمفعوله، والمعنى: القيام بحقوق الله فلا يضيعها.
وإن كان مكاناً، فالإضافة بأدنى ملابسة لما كان النَّاس يقومون بين يدي الله للحساب في عرصات القيامة.
قيل: فيه مقام الله، والمعنى: خاف مقامه بين يدي ربه للحساب، فنزلت المعصية، ف «مقام» : مصدر بمعنى القيام.
فصل فيمن علق طلاق زوجته على دخوله الجنة
قال القرطبي: هذه الآية دليل على أن من قال لزوجته: إن لم أكُن من أهل الجنة فأنت طالق، أنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفاً من الله وحياء منه. وقاله سفيان الثوري وأفتى به.
فصل في المراد بالجنتين
الظاهر أن الجنتين لخائف واحد.
قال محمد بن علي الترمذي: جنّة لخوفه من ربه، وجنّة لتركه شهوته.
قال ابن عباس: من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض.
قال القرطبي: ويجوز أن يكون المقام للعبد، ثم يضاف إلى الله، وهو كالأجل في قوله تعالى:{فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} [الأعراف: 34] وقوله في موضع آخر: {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لَا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4] .
وقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ} أي: كل خائف له جنتان على حدة.
وقيل: جنتان لجميع الخائفين. والأول أظهر.
وقيل: جنة لخائف الإنس، وأخرى لخائف الجن، فيكون من باب التوزيع. وقيل:«مقام» هنا مُقحم، والتقدير:«ولمن خاف ربه» ؛ وأنشد: [الوافر]
4651 -
…
...
…
...
…
ونَفَيْتُ عَنْهُ
…
مَقَامَ الذِّئْبِ كالرَّجُلِ اللَّعينِ
أي: نفيت الذئب وليس بجيد، لأنَّ زيادة الاسم ليست بالسهلة.
وقيل: المراد ب «الجنتين» : جنّة للجزاء، وأخرى زيادة على الجزاء.
وقيل: إن الجنتين: جنته التي خلقت له، وجنة ورثها.
وقيل: إحدى الجنتين منزله، والأخرى منزل أزواجه كما يفعله رؤساء الدنيا.
وقيل: إحدى الجنتين مسكنه، والأخرى بستانه.
وقيل: إن إحدى الجنتين أسافل القصور، والأخرى أعاليها.
وقال مقاتل: هما جنة عدن وجنة النعيم.
وقال الفرَّاء: إنها جنة واحدة، وإنما ثنّى مراعاة لرءوس الآي.
وقيل: جنة واحدة، وإنما ثنّى تأكيداً كقوله تعالى:{أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] .
وأنكر القتبي هذا، وقال: لا يجوز أن يقال: خزنة النار عشرون، وإنما {تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] مراعاة لرءوس الآي.
وأيضاً قال: {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} .
وقال عطاء وابن شوذب: نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه حين ذكر ذات يوم الجنّة حين أزلفت، والنَّار حين برزت.
وقال الضحاك: بل شرب ذات يوم لبناً على ظمأ، فأعجبه فسأل عنه، فأخبر أنه من غير حلٍّ فاستقاءه ورسول الله صلى الله عليه وسلم َ ينظر إليه، فقال:«رحمكَ اللَّهُ لقَدْ أنْزِلَتْ فِيْكَ آيَةٌ» ، وتلا عليه هذه الآية.
قوله تعالى: «ذَوَاتَا» . صفة ل «جَنَّتان» ، أو خبر مبتدأ محذوف، أي:«هما ذواتا» .
وفي تثنية «ذات» لغتان:
الرد إلى الأصل، فإن أصلها «ذوية» ، فالعين واو، واللام ياء؛ لأنها مؤنثة «ذو» .
الثانية: التثنية على اللفظ. فيقال: «ذواتا» .
و «الأفنان» : فيه وجهان.
أحدهما: أنه جمع «فَنَن» ك «طلل» ، وهو الغصن.
قال النابغة الذبياني: [الوافر]
4652 -
بُكَاءُ حَمَامَةٍ تَدْعُو هَدِيلاً
…
مُفَجَّعَةٍ على فَنَنٍ تُغَني
وقال آخر: [الرمل]
4653 -
رُبَّ وَرْقَاءَ هَتُوفٍ بالضُّحَى
…
ذَاتِ شَجْوٍ صَدَحَتْ في فَنَنِ
وقال آخر: [الطويل]
4654 -
…
...
…
...
…
...
…
عَلَى كُلِّ أفْنَانِ العِضَاهِ تَرُوقُ
و «الفَنَن» : جمعه أفنان ثم الأفانين.
قال الشاعر يصف رحى: [الرجز]
4655 -
لَهَا زِمَامٌ مِنْ أفَانِينِ الشَّجَرْ
…
وشجرة فناء: أي ذات أفنان، وفنواء أيضاً على غير قياس.
وفي الحديث: «أنَّ أهْلَ الجنَّةِ مُردٌ مُكَحَّلُون أولُو أفَانِيْن» .
وهو جمع أفنان، وأفنان: جمع «فَنَن» من الشعر، شبه بالغصن. ذكره الهروي.
وقيل: «ذواتا أفنان» أي: ذواتا سعة وفضل على ما سواهما. قاله قتادة.
وعن مجاهد أيضاً وعكرمة: أن الأفنان ظل الأغصان على الحِيْطان.
وقال مجاهد: الفنن: هو الغصن المستقيم طولاً.
الوجه الثاني: أنه جمع «فنّ» ك «دنّ» ، وإليه أشار ابن عبَّاس.
والمعنى: ذواتا أنواع وأشكال؛ وأنشدوا: [الطويل]
4656 -
ومِنْ كُلِّ أفْنَانِ اللذَاذَةِ والصِّبَا
…
لَهَوْتُ بِهِ والعَيْشُ أخضرُ نَاضِرُ
قال سعيد بن جبير والضحاك: ألوان من الفاكهة، واحدها:«فنّ» ، من قولهم:«افتنّ فلان في حديثه» إذا أخذ في فنون منه وضروب، إلا أن الكثير في «فنّ» أن يجمع على «فنون» ، وجمع عطاء بين القولين فقال: في كل غصن فنون من الفاكهة.
قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أي: في كل واحدة منهما عينٌ جارية، كما قال تعالى:{فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} [الغاشية: 12] تجريان ماء بالزيادة، والكرامة من الله - تعالى - على أهل الجنَّة.
وعن ابن عباس أيضاً والحسن: تجريان بالماء الزلال، إحدى العينين: التسنيم؛ والأخرى السلسبيل.
وقال ابن عطية: إحداهما من ماء غير آسن، والأخرى من خمر لذّة للشَّاربين.
وقيل: تجريان من جبل من مسك.
وقال أبو بكر الوراق: فيهما عينانِ تجريانِ، لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عز وجل.
قوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} ، أي: صنفان ونوعان.
قيل: معناه: أن فيهما من كل ما يتفكه به ضربين رطباً ويابساً.
وقال ابن عبَّاس: ما في الدنيا ثمرة حُلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحَنْظل إلاّ أنه حلو.
فإن قيل: قوله تعالى: {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} ، و {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} ، و {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} . أوصاف للجنتين المذكورتين، فهو كالكلام الواحد، تقديره:«جنتان ذواتا أفنان، وفيهما عَيْنَان تجريان، وفيهما من كل فاكهة زوجان» فما الفائدة في فصل بعضها عن بعض بقوله: {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ؟ مع أنه لم يفصل حين ذكر العذاب بين الصفات، بل قال:{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 35] مع أن إرسال النُّحاس غير إرسال الشُّواظ. وقوله: «يَطُوفُون» كلام آخر؟ .
فالجواب: أنه جمع العذاب جملة، وفصل آيات الثواب ترجيحاً لجانب الرحمة على جانب العذاب، وتطييباً للقلب، وتهييجاً للسَّامع؛ فإن إعادة ذكر المحبوب محبوب، وتطويل الكلام في اللذات مستحسن.
فإن قيل: ما وجه توسيط آية العينين بين ذكر الأفنان، وآية الفاكهة والفاكهة إنما تكون على الأغصان، فالمناسبة ألاّ يفصل بين آية الأغصان والفاكهة؟ .
فالجواب: أنه على عادة المتنعمين إذا خرجوا يتفرجون في البستان، فأول قصدهم الفرجة بالخضرة والماء، ثم يكون الأكل تبعاً.
قوله: «متّكِئين» يجوز أن يكون حالاً من «منْ» في قوله {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وإنما جمع حملاً على معنى «مَنْ» بعد الإفراد حملاً على لفظها.
وقيل: حال عاملها محذوف، أي: يتنعمون متكئين.
وقيل: منصوب على الاختصاص.
والعامة على: «فُرُش» بضمتين، وأبو حيوة: بضمة وسكون، وهي تخفيف منها.
قوله تعالى: {بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} هذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة والظاهر أنها صفة ل «فُرش» . وتقدم الكلام في «الاستبرق» في سورة الكهف.
وقال أبو البقاء: أصل الكلمة فعل على «اسْتَفْعَلَ» ، فلما سمي به قطعت همزته.
وقيل: هو أعجمي، وقرىء بحذف الهمزة، وكسر النون، وهو سهو؛ لأن ذلك لا يكون في الأسماء، بل في المصادر والأفعال. انتهى. أما قوله: وهو سهو؛ لأن ذلك لا يكون إلا في الأسماء
…
الخ.
يعني أن حذف الهمزة في الدَّرج لا يكون إلا في الأفعال والمصادر.
وأما الأسماء فلا تحذف همزاتها؛ لأنها همزات قطع.
ثم قوله: «إلا في الأفعال والمصادر» ليس هذا الحَصْر بصحيح اتفاقاً لوجود ذلك في أسماء عشرة ليست بمصادر تقدم ذكرها في أول الكتاب.
قال ابن الخطيب: قوله: «عَلى فُرُشٍ» متعلق بما في «مُتَّكئينَ» ، كأنه يقول: يتَّكئون على فرش، كما يقال: فلان اتكَّأ على عصاه، أو على فخذيه، وهذا لأن الفراش لا يتكأ عليه، وإن كان متعلقاً بغيره فما هو؟ .
فنقول: تقديره: يتفكّه الكائنون على فرش متكئين، من غير بيان ما يتكئون عليه.
فصل في تحرير معنى الاستبرق
«الإسْتَبْرَقُ» : ما غلظ من الدِّيباج.
قال ابن مسعود، وأبو هريرة: إذا كانت البطانة التي تلي الأرض هكذا فما ظنك بالظهارة؟ .
وقيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر؟ .
قال: هذا مما قال الله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله.
قال القرطبي: وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه قال: «ظَواهِرُهَا نُورٌ يتلألأُ» وعن الحسن: البطائن هي الظَّواهر، وهو قول الفراء.
روي عن قتادة: والعرب تقول للبطن: ظهراً، فيقولون: هذا بطن السماء، وظهر الأرض.
وقال الفرَّاء: قد تكون البطانة: الظهارة، والظهارة: البطانة؛ لأنَّ كل واحد منهما يكون وجهاً، والعرب تقول: هذا ظهر السماء، وهذا بطن السماء لظاهرها الذي تراه.
وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا، وقالوا: لا يكون هذا إلَاّ في الوجهين المتساويين إذا ولي كل واحد منهما قوماً كالحائط بينك وبين قوم، وعلى ذلك أمر السماء.
وقال ابن عباس: وصف البطائن وترك الظواهر؛ لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظَّواهر.
فصل في أن الإستبرق معرب
قال ابن الخطيب: الإستبرق معرب، وهو الدِّيْبَاج الثخين، وكما أن الديباج معرب بسبب أن العرب لم يكن عندهم ذلك إلا من العجم تصرفوا فيه، وهو أن أصله بالفارسية «ستبرك» بمعنى: ثخين، فزادوا في أوله همزة، وبدلوا الكاف قافاً، أما الهمزة فلأن حركات أوائل الكلم في لسان العجم غير مبنية في كثير من المواضع، فصارت كالسكون، فأثبتوا فيه همزة كما يجلبون همزة الوصل عند سكون أول الكلمة، ثم إنَّ البعض جعلوها همزة وصل، وقالوا:«مِن اسْتَبْرَقٍ» . والأكثرون جعلوها همزة قطع؛ لأن أول الكلمة في الأصل متحرك، لكن بحركة فاسدة، فأتوا بهمزة تسقط عنهم الحركة الفاسدة، وتمكنهم من تسكين الأول؛ لأن عند تساوي الحركة العود إلى السُّكون أقرب، وأواخر الكلمات عند الوقف تسكن، ولا تبدل حركة بحركة.
وأما القافُ فلأنهم أرادوا إظهار كونها فارسية أو أعجمية، فأسقطوا منها الكاف التي هي حرف تشبيه، وعلى لسان العرب في أواخر الكلم للخطاب لو تركت الكاف لاشتبه «ستبرك» ب «مسجدك» ، إذا لحقت كاف الخطاب بهما، فلو تركت الكاف قافاً أولاً، ثم ألحقت الهمزة بأولها، وهذا ومثله لا يخرج القرآن عن كونه عربيًّا؛ لأن العربي ما نطقت به العرب وضعاً واستعمالاً من لغة غيرها، وذلك كله سهلٌ عليهم، وبه يحصل الإعجاز، بخلاف ما لم يستعملوه من كلام العجم لصعوبته عليهم، وذكر الاتكاء؛ لأنه حال الصَّحيح الفارغ القلب المتنعم، بخلاف المريض والمهموم.
قوله تعالى: {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} مبتدأ وخبر، وأصله:«دان» مثل «غاز» فأعل كإعلاله.
وقرأ عيسى بن عمر: «وجَنِي» بكسر النون.
وتوجيهها: أن يكون أمال الفتحة لأجل الألف، ثم حذف لالتقاء الساكنين، وأبقى إمالة النون نحو الكسرة وقرىء:«وجِنَى» بكسر الجيم، وهي لغة.
والجنى: ما يقطف من الثِّمار، وهو «فَعْلٌ» بمعنى «مفعول» كالقَبْضِ والقنص.
فصل في المراد بالجنى
قال القرطبي: «الجنى» : ما يُجْتنى من الشجر، تقول: أتانا الشجر بجناة طيبة لكل ما يجتنى، وثمرة جنيٌّ على «فَعِيل» حين جُني.
قوله: «دانٍ» أي: قريب.
قال ابن عبَّاس: تدنو الشجرة حين يجتنيها ولي الله إن شاء قائماً، وإن شاء قاعداً، وإن شاء مضطجعاً.
وقال قتادة: لا يرد يده بعد، ولا شوك.
قال ابن الخطيب: جنة الآخرة مخالفة لجنّة الدنيا من ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الثمرة على رءوس الشجر في الدنيا بعيدة على الإنسان المتّكىء، وفي الجنة هو متكىء، والثمرة تتدلى إليه.
ثانيها: أن الإنسان في الدنيا يسعى إلى الثمرة، ويتحرك إليها، وفي الآخرة هي تدنُو إليهم، وتدور عليهم.
وثالثها: أنَّ الإنسان في الدنيا إذا قرب من ثمر شجرة بعد عن غيرها، وثمار الجنة كلها تدنو إليهم في وقت واحد، ومكان واحد.
قوله تعالى: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف} .
اختلف في هذا الضمير.
فقيل: يعود على الجنات.
فإن قيل: كيف تقدّم تثنيته في قوله: {فِيهِمَا عَيْنَانِ} ، و {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ} ثم أتى بضمير جمع؟ .
فالجواب: أن أقلّ الجمع اثنان على قول، وله شواهد تقدم أكثرها، أو يقال: عائد إلى الجنَّات المدلول عليها بالجنتين.
أو يقول: كل فرد فرد له جنتان فصح أنها جنان كثيرة، وإما أن الجنة تشتمل على مجالس وقصور ومنازل، فأطلق على كل واحد منها جنة.
وقيل: يعود على الفرش.
قال الزمخشري: «فِيهِنَّ» أي: في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين، والفاكهة والفرش والجنى.
قال أبو حيان: «وفيه بُعْد» وكأنه قد استحسن الوجه الأول وفيه نظر؛ لأن الاستعمال أن يقال: على الفراش كذا، ولا يقال: في الفراش كذا إلا بتكلّف.
فلذلك جمع الزمخشري مع الفرش غيرها حتى صح له أن يقول: «فيهن» بحرف الظرفية؛ ولأن الحقيقة أن يكون الإنسان على الفرش لأنه مستعمل عليها.
وأما كونها فيها فلا يقال إلا مجازاً.
وقال الفراء: كل موضع في الجنة، فلذلك صح أن يقال:«فيهن» .
والقاصرات: الحابسات الطَّرف: أي يحبسن أعينهن عن غير أزواجهن.
ومعناه: قصرن ألحاظهن على أزواجهن.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
4657 -
مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مِحْوَلٌ
…
مِنَ الذّرِّ فوقَ الإتبِ مِنْهَا لأثَّرَا
و «قاصرات الطّرف» من إضافة اسم الفاعل لمنصوبه تخفيفاً، إذ يقال: قصر طرفه على كذا، وحذف متعلق القصر للعلم به، أي: على أزواجهن.
وقيل: معناه: قاصرات طرف غيرهن عليهن إذا رآهن أحد لم يتجاوز طرفه إلى غيرهن.
ووحد الطرف مع الإضافة إلى الجمع؛ لأنه في معنى المصدر، من طرفت عيناه
تطرف طرفاً، يقال: ما فيها عين تطرف، ثم سميت العين بذلك، فأدى عن الواحد والجمع، كقولهم:«قَومٌ عَدْل، وصَوْم» . قاله القرطبي.
واعلم أن هذا الترتيب في غاية الحسن؛ لأنه بيَّن أولاً المَسْكن وهو الجنة، ثم بين ما يتنزّه به وهو البستان، والأعين الجارية، ثم ذكر المأكول، فقال:{فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} ، ثم ذكر موضع الرَّاحة بعد الأكل وهو الفرش، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه.
قال ابن الخطيب: وقوله: {قَاصِرَاتُ الطرف} .
أي: نساء أو أزواج، فحذف الموصوف لنكتة وهو أنه - تعالى - لم يذكرهُنّ باسم الجنس، وهو النساء بل بالصفات، فقال:{وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22]، {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} [النبأ: 33] {قَاصِرَاتُ الطرف} ، {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ} [الرحمن: 72] ولم يقل: نساء عُرباً، ولا نساء قاصرات، لوجهين:
إما على عادة العظماء كبنات الملوك إنما يذكر بأوصافهنّ، وإما لأنهن لما كملن كأنهن خرجن من جنسهن.
وقوله تعالى: {قَاصِرَاتُ الطرف} يدل على عفّتهن، وعلى حسن المؤمنين في أعينهن، فيحببن أزواجهن حبًّا يشغلهنَّ عن النَّظر إلى غيرهم، ويدل أيضاً على الحياء؛ لأن الطرف حركة الجفن، والحييَّةُ لا تحرك جفنها، ولا ترفع رأسها.
قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} .
هذه الجملة يجوز أن تكون نعتاً ل «قاصرات» ، لأن إضافتها لفظية، كقوله تعالى:{هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] .
وقوله: [البسيط]
4658 -
يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كَانَ يَطْلُبُكُمْ.....
…
...
…
...
…
. .
وأن يكون حالاً لتخصيص النكرة بالإضافة.
واختلف في هذ الحرف والذي بعده عن الكسائي، فنقل عنه أنه يجيء في ضم أيهما شاء.
ونقل عنه الدوري ضم الأول فقط.
ونقل عنه أبو الحارث: ضم الثاني فقط، وهما لغتان.
يقال: طَمَثَها يَطْمِثها ويَطْمُثها إذا جامعها، لما روى أبو إسحاق السبيعي قال:
كنت أصلي خلف أصحاب عليٍّ فأسمعهم يقولون: «لم أطْمِثْهُنّ» بالرفع، وكنت أصلي خلف أصحاب عبد الله فأسمعهم يقولون: بكسر الميم، وكان الكسائي يضم إحداهما، ويكسر الأخرى لئلاّ يخرج عن هذين الأثرين.
وأصل «الطَّمْث» : الجماع المؤدّي إلى خروج دم البكر، ثم أطلق على كل جماع طمث، وإن لم يكن معه دم.
وقيل: «الطّمث» : دم الحيض ودم الجماع، فيكون أصله من الدم.
ومنه قيل للحائض: طامث، كأنه قيل: لم يدمهن بالجماع إنس قبلهم ولا جانّ.
وقيل الطمث: المسّ الخالص.
وقال الجحدري، وطلحة بن مصرف:«يطمثهن» بفتح الميم في الحرفين، وهو شاذ، إذ ليس عينه ولا لامه حرف حلق.
والضمير في «قبلهم» عائد على الأزواج الدال عليهم قوله: {قَاصِرَاتُ الطرف} ، أو الدَّال عليه «متكئين» .
فصل في تحرير معنى الطمث
قال القرطبي: «لم يطمثهن» أي: لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن أحد.
قال الفراء: والطَّمْث: الافتضاض والنكاح بالتدمية، طَمَثَها يَطْمِثُها طَمْثاً إذا افتضها.
ومنه قيل: امرأة طامث أي: حائض.
وغير الفراء يخالفه في هذا ويقول: طمثها بمعنى وطىء على أيّ الوجوه كان، إلا أن الفراء أعرف وأشهر.
قال الفرزدق: [الوافر]
4659 -
وقَعْنَ إليَّ لَمْ يُطْمَثْنَ قَبْلِي
…
وهُنَّ أصحُّ مِنْ بَيْضِ النَّعَامِ
وقال أبو عمرو: الطَّمث والمس، وذلك في كل شيء يمسّ، ويقال للمرتع: ما طمث ذلك المرتع قبله أحد، وما طمث هذه النَّاقة حبل أي ما مسها عقال وقال المبرد: لم يذللهن إنس ولا جان، والطمث: التذليل.
وقرأ الحسن: «جأن» بالهمزة.
فصل في أن الجن يجامعون ويدخلون الجنة كالإنس
دلّت هذه الآية على أن الجن تغشى كالإنس، وتدخل الجنة، ويكون لهم فيها جنيّات.
قال ضَمْرَة: للمؤمنين منهم أزواج من الحُور، فالإنسيَّات للإنس، والجنّيات للجن.
وقيل: معناه: لم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الجنّ في الجنَّة من الحور العين من الإنسيّات إنس، وذلك لأن الجن لا تطأ بنات آدم في الدنيا. ذكره القشيري.
قال القرطبي: قد مضى القول في سورة «النمل» وفي «سبحان» وأنه جائز أن تطأ بنات بني آدم.
وقد قال مجاهد: إنه إذا جامع الرجل، ولم يسم انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه، فذلك قوله:{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَآنٌّ} يعلمك أن نساء الدنيا لم يطمثهن الجان. والحور العين قد برئن من ذلك العيب.
قال مقاتل قوله: {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} ؛ لأنهن خلقن في الجنة، فعلى قوله يكونون من حور الجنة.
وقال الشعبي: من نساء الدنيا لم يَمْسَسْهن منذ أنشئن خلقٌ، وهو قول الكلبي، أي لم يجامعهن في الخلق الذي فيه إنس ولا جان.
قوله تعالى: {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} .
هذه الجملة يجوز أن تكون نعتاً ل «قَاصِرَات» ، وأن تكون حالاً منها. ولم يذكر مكي غيره.
و «الياقُوت» : جوهر نفيس، يقال: إن النار لم تؤثر فيه.
ولذلك قال الحريري: [البسيط]
4660 -
وطَالَمَا أصلي اليَاقوتُ جَمْر غَضَى
…
ثُمَّ انْطفَى الجَمْرُ والياقوتُ يَاقوتُ
أي حاله لم يؤثر بها، وجه التشبيه كما قال الحسن في صفاء الياقوت، وبياض المرجان، وهذا على القول بأنه أبيض.
وقيل: الوجه في الصفة بهما لنفاستهما لا للونهما، ولذلك سموا بمرجانة ودُرَّة وشبه ذلك.
قوله تعالى: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلَاّ الإحسان} .
قرأ ابن أبي إسحاق: «إلا الحسان» أي: الحور الحسان.
قال القرطبي: هَلْ في الكلام على أربعة أوجه: تكون بمعنى «قد» ، كقوله تعالى:{هَلْ أتى عَلَى الإنسان} [الإنسان: 1]، {وَهَلْ أَتَاكَ} [طه: 9] ، وبمعنى الاستفهام كقوله:{فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [الأعراف: 44] .
وبمعنى الأمر كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] .
وبمعنى «ما» في الجَحْد كقوله تعالى: {فَهَلْ عَلَى الرسل إِلَاّ البلاغ المبين} [النحل: 35] ، و {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلَاّ الإحسان} .
قال ابن الخطيب: في هذه الآية وجوهٌ كثيرة حتى قيل: إنَّ في القرآن ثلاث آيات في كل واحدة منها مائة قول:
أحدها: قوله تعالى: {فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] .
ثانيها: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} [الإسراء: 8] .
ثالثها: {هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلَاّ الإحسان} والمشهور منها أقوال:
أحدها: قال عكرمة: أي: هل جزاء من قال: لا إله إلَاّ الله، وعمل بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم َ إلا الجنة.
وقيل: هل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة. قاله ابن زيد.
«وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قرأ هذه الآية، فقال:» يقول الله تعالى: هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلاّ أنْ أُسكنه جنَّتي وحظيرة قدسي برحمتي «» .
وقال الصادق: هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلا حفظ الإحسان إليه في الأبد.
قال ابن الخطيب: والأقرب أنه عام، فجزاء كل من أحسن إلى غيره أن يحسن هو أيضاً.
قوله تعالى: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} .
أي: من دون تلك الجنتين المتقدمتين جنَّتان في المنزلة وحسن المنظر، وهذا على الظاهر من أن الأوليين أفضل من الأخريين، وقيل: بالعكس، ورجحه الزمخشري.
وقال: قوله: {مُدْهَآمَّتَانِ} مع قوله في الأوليين: {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48] يدل على أن مرتبة هاتين دونهما، وكذلك قوله في الأوليين:{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن: 50] مع قوله في هاتين: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} ؛ لأن النضخ دون الجري، وقوله في الأوليين:{فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ} [الرحمن: 52] مع قوله في هاتين: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ} ، وقوله في الأوليين:{فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] حيث ترك ذكر الظهائر لعلوها ورفعتها، وعدم إدراك العقول إياها، مع قوله في هاتين:«رفرفٍ خُضرٍ» دليل عليه.
وقال القرطبي: لما وصف الجنتين أشار إلى الفرق بينهما، فقال في الأوليين:{فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ} [الرحمن: 52] وفي الأخريين: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} ولم يقل: من كل فاكهة.
وقال في الأوليين: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] وهو الدِّيباج.
وفي الأخريين: {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76] و «العَبْقَرِي» : الوشْي، والديباج أعلى من الوشي.
والرفرف: كسرُ الخباء، والفرش المعدة للاتِّكاء عليها أفضل من كسر الخباء.
وقال في الأوليين في صفة الحور: {كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان} [الرحمن: 58] .
وفي الأخريين: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ} ، وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان.
وقال في الأوليين: {ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48] .
وفي الأخريين: {مُدْهَآمَّتَانِ} أي: خضراوان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان، وفي هذا كله بيان لتفاوت ما بينهما.
قال ابن الخطيب: ويمكن أن يجاب الزمخشري بأن الجنتين اللتين من دونهما لذريتهم التي ألحقهم الله - تعالى - بهم ولأتباعهم لا لهم، وإنما جعلها لهم إنعاماً عليهم، أي: هاتان الأخريان لكم، أسكنوا فيهما من تريدون.
وقيل: إن المراد بقوله: {وَمِن دُونِهِمَا} أي: دونهما في المكان، كأنهم في جنتين، ويطلعون من فوق على جنتين أخريين، بدليل قوله تعال:{لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [الزمر: 20] .
وقال ابن عباس: ومن دونهما في الدّرج.
وقال ابن زيد: ومن دونهما في الفضل.
وقال ابن عباس: والجنات لمن خاف مقام ربه، فيكون في الأوليين: النخل والشجر وفي الأخريين: الزرع والنبات.
وقيل: المراد من قوله: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} لأتباعه لقصور منزلتهم عن منزلة أحدهما للحور العين، والأخرى للولدان المخلدون ليتميز بها الذكور من الإناث.
وقال ابن جريج: هي أربع جناتٍ منها للسابقين المقربين فيها من كل فاكهة زوجان، وعينان تجريان، وجنات لأصحاب اليمين فيها فاكهة ونخل ورمان.
وقال أبو موسى الأشعري: جنتان منها للسَّابقين، وجنتان من فضَّة للتابعين.
وقال عليه الصلاة والسلام ُ: «جَنَّتانِ من فضَّةٍ، آنيتُهمَا وما فيهمَا، وجنَّتانِ مِنْ ذهبٍ آنيتُهُمَا وما فِيهَما، وما بَيْنَ القَوْمِ وبيْنَ أن يَنْظرُوا إلى ربِّهِمْ إلَاّ رِدَاءُ الكِبرياءِ على وجْهِهِ في جنَّة عدْنٍ» .
وقال الكسائي: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} أي: أمامهما وقبلهما.
قال البغوي: «يدلّ عليه قول الضحاك: الجَنَّتان الأوليان من ذهب وفضّة، والأخريان من ياقُوت وزمرّد، وهما أفضل من الأوليين» .
وإلى هذا القول ذهب أبو عبد الله الترمذي الحكيم في «نوادر الأصول» ، وقال:«ومعنى {ومن دونهما جنتان} أي: دون هذا إلى العرش، أي: أقرب وأدنى إلى العرش» .
وقال مقاتل: الجنَّتان الأوليان: جنة عدن وجنة النعيم، والأخريان: جنة الفردوس، وجنة المأوى.
قوله تعالى: {مُدْهَآمَّتَانِ} أي: خضراوان. قاله ابن عبَّاس وغيره.
وقال مجاهد: مسودتان.
والإدْهَام في اللغة: السواد وشدة الخضرة، جُعلتا مدهامتان لشدة ريِّهما، وهذا مشاهد بالنظر، ولذلك قالوا: سواد «العراق» لكثرة شجره وزرعه.
ويقال: فرس أدهم وبعير أدهم، وناقة دهماء، أي اشتدت زرقته حتى ذهب البياض الذي فيه، فإن زاد على ذلك واشتد السواد فهو جَوْن، وادهمَّ الفرس ادهماماً أي صار أدهم.
وادْهَامَّ الشيء ادهيماماً: أي: اسوداداً، والأرض إذا اخضرت غاية الخضرة تضرب إلى السواد، ويقال للأرض المعمورة: سواد يقال: سواد البلد.
وقال عليه الصلاة والسلام ُ: «عَليْكُمْ بالسَّوادِ الأعظَمِ، ومن كَثَّرَ سوادَ قَوْمٍ فهُو مِنْهُمْ» .
قال ابن الخطيب: والتحقيق فيه أن ابتداء الألوان هو البياض وانتهاؤها هو السَّواد، فإنَّ الأبيض يقبل كل لون، والأسود لا يقبل شيئاً من الألوان.
قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} .
قال ابن عباس: فوَّارتان بالماء والنَّضْخُ - بالخاء المعجمة - أكثر من النَّضْحِ - بالحاء المهملة - لأن النَّضْح بالمهملة: الرَّشُّ والرشحُ، وبالمعجمة: فورانُ الماء.
وقال ابن عباس والحسن ومجاهد: المعنى نضَّاختان بالخير والبركة.
وعن ابن مسعود وابن عباس أيضاً وأنس: تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كما ينضخ رشّ المطر.
وقال سعيد بن جبير: بأنواع الفواكه والماء.
قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} .
قال بعض العلماء: ليس الرمان والنخل من الفاكهة؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، وهذا ظاهر الكلام، فلو حلف لا يأكل فاكهة لم يحنث بأكلهما.
وقال الجمهور: هما من الفاكهة، وإنما أعاد ذكر النَّخل والرمان لفضلهما على الفاكهة، فهو من باب ذكر الخاص بعد العام تفضيلاً له كقوله تعالى:{مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] .
وقوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] .
قال شهاب الدين: وهذا يجوز؛ لأن «فاكهة» عامًّا؛ لأنه نكرة في سياق الإثبات، وإنما هو مطلق، ولكن لما كان صادقاً على النخل والرمان قيل فيه ذلك.
وقال القرطبي: إنما كررهما؛ لأن النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البُرِّ عندنا؛ لأن النخل عامةُ قوتهم، والرُّمان كالتمرات، فكان يكثر غرسها عندهم لحاجتهم إليه، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثِّمار التي يعجبون بها، فإنما ذكر الفاكهة، ثم ذكر النخل والرمان لعمومهما، وكثرتهما عندهم في «المدينة» إلى «مكّة» إلى ما والاها من أرض «اليمن» ، فأخرجهما في الذكر من الفواكه، وأفرد الفواكه على حدتها.
وقيل: أفردا بالذكر؛ لأن النخل ثمرة: فاكهة وطعام.
والرُّمان: فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكّه.
ومنه قال أبو حنيفة رحمه الله: من حلف ألا يأكل فاكهة فأكل رماناً، أو رطباً لم يحنث.
فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها
قال ابن الخطيب: قوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} كقوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] ؛ لأن الفاكهة أرضية وشجرية، والأرضية كالبطِّيخ وغيره من الأرضيات المزروعة، والشجرية كالنَّخْل والرمان وغيرهما من الشجريات، فقال:{مُدْهَآمَّتَانِ} بأنواع
الخضر التي منها الفواكه الأرضية والفواكه الشجرية، وذكر منها نوعين وهما الرمان والرطب؛ لأنهما متقابلان.
أحدهما: حلو، والآخر: حامض.
وأحدهما: حار، والآخر: بارد.
وأحدهما: فاكهة وغذاء، والآخر: فاكهة ودواء.
وأحدهما: من فواكه البلاد الباردة، والآخر: من فواكه البلاد الحارة.
وأحدهما: أشجار في غاية الطول والكبر، والآخر: أشجاره بالضّد.
وأحدهما: ما يؤكل منه بارز، وما لا يؤكل كامن، فهما كالضدين، والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى ما بينهما كقوله تعالى:{رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} [الرحمن: 17] .
فصل في الكلام على نخل ورمان الجنة
قال ابن عباس: الرمانة في الجنة ملء جلد البعير المُقَتَّب.
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: نخل الجَنة: جذوعها زمرد أخضر، وكرمُها ذهب أحمر، وسعفُها كسوة لأهل الجنة، فيها (مقطعاتهم) وحللهم، وثمرها أمثال القلال والدِّلاء، أشد بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، وألين من الزُّبد، ليس له عجم.
وفي رواية: كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى، وإن ماءها ليجري في غير أخدود، والعنقود: اثنا عشر ذراعاً.
قوله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} .
في «خيرات» وجهان:
أحدهما: أنه جمع «خَيْرة» من الخير، بزنة «فعْلة» - بسكون العين - يقال:«امرأة خَيْرة وأخرى شَرّة» .
والثاني: أنه جمع «خيرة» المخفف من «خَيِّرة» ، ويدل على ذلك قراءة ابن مقسم والنهدي، وبكر بن حبيب:«خيّرات» بتشديد الياء.
قال القرطبي: «وهي قراءة قتادة، وابن السميفع، وأبي رجاء العطاردي» .
وقرأ أبو عمرو: «خَيَرَات» بفتح الياء، جمع «خَيَرة» ، وهي شاذة؛ لأن العين معلة، إلا أن بني «هُذَيل» تعامله معاملة الصحيح، فيقولون:«حورات وبيضات» .
وأنشد: [الطويل]
4661 -
أخُو بَيَضَاتٍ رَائِحٌ مُتَأوِّبٌ
…
رَفِيقٌ بِمَسْحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ
فصل في تفسير الآية
قال المفسرون: «الخيرات الحسان» يعني النِّساء، الواحدة «خيرة» على معنى «ذوات خير» .
وقيل: «خيرات» بمعنى «خيِّرات» ، فخفف ك «هَيِّن وليِّن» .
روى الحسن عن أمّه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ: أخبرني عن قوله:» خَيْراتٌ حِسَان «قال:» خَيراتُ الأخلاقِ حسانُ الوُجوهِ «» .
وقال أبو صالح: لأنَّهُنَّ عَذَارى أبْكَارٌ.
وقال الحكيم الترمذي: ف «الخيرات» ، ما اختارهنّ الله فأبدع خلقهنّ باختياره، فاختيار الله لا يشبه اختيار الآدميين، ثم قال:«حِسَانٌ» فوصفهن بالحسن؛ فإذا وصف الله خالق الحسن شباباً بالحسن، فانظر ما هناك.
وقال ابن الخطيب: «في باطنهن الخير، وفي ظاهرهنّ الحسن» .
قوله تعالى: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} .
معنى «مقصورات» : أي: محبوسات ومنه القصر؛ لأنه يحبس من فيه.
ومنه قول النحاة: «المقصور» ، لأنه حبس عن المد، وحبس عن الإعراب أو حبس الإعراب فيه، والنساء تمدح بملازمتهن البيوت كما قال قيس بن الأسلت:[الطويل]
4662 -
وتَكْسَلُ عَنْ جِيرَانِهَا فَيَزُرنهَا
…
وتغْفُلُ عَنْ أبْيَاتِهِنَّ فتُعْذَرُ
ويقال: امرأة مقصورة وقصيرة، وقصورة بمعنى واحد.
قال كثير عزة فيه: [الطويل]
4663 -
وأنْتِ الَّتِي حبَّبْتِ كُلَّ قصيرةٍ
…
إليَّ، ولَمْ تَعْلَمْ بذاكَ القَصَائِرُ
عَنَيْتُ قِصاراتِ الحِجَالِ ولمْ أردْ
…
قِصَارَ الخُطَا، شرُّ النِّساءِ البَحاتِرُ
و «الخيام» : جمع «خَيْمة» ، وهي تكون من ثُمام وسائر الحشيش، فإن كانت من شعر، فلا يقال لها: خيمة، بل بيت.
قال جرير: [الوافر]
4664 -
مَتَى كَانَ الخِيَامُ بِذِي طُلُوحٍ
…
سُقيتِ الغَيْثَ أيَّتُهَا الخِيَامُ
فصل في أن جمال الحور يفوق الآدميات
اختلفوا أيهما أكثر حسناً وأتم جمالاً الحور أو الآدميات.
فقيل: الحور لما ذكر من صفتهن في القرآن والسُّنة، «ولقوله صلى الله عليه وسلم َ في دعائه في صلاة الجنائز:» وأبْدِلْ لَهُ دَاراً خَيْراً مِنْ داره، وأبْدِلْ لَهُ زَوْجاً خَيْراً من زَوْجِه «» .
وقيل: الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف، روي ذلك مرفوعاً.
وقيل: إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج النَّبيِّين والمؤمنين يخلقن في الآخرة على أحسن صورة. قاله الحسن البصري.
والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا، إنما هن مخلوقات في الجنة؛ لأن الله تعالى قال:{لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَآنٌّ} وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات.
فصل في جمال الحور العين
«الحور» : جمع حوراء وهي الشديدة بياض العين مع سوادها.
و «المقصورات» : المحبوسات المستورات في الخيام، وهي الحجال، لسن بالطَّوافات في الطرق، قاله ابن عباس.
وقال عمر رضي الله عنه: «الخيمة» : درّة مجوفة. وقاله ابن عباس.
وقال: وهي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب.
قال أبو عبد الله الحكيم الترمذي في قوله تعالى: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} : بلغنا في الرواية أن سحابة أمطرت من العرش، فخلقن من قطرات الرحمة، ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطىء الأنهار سعتها أربعون ميلاً وليس لها باب، حتى إذا دخل وليّ الله الجنة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها، فهي مقصُورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين.
وقال مجاهد: قصرن أطرافهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يبتغين بدلاً.
وقال عليه الصلاة والسلام ُ: «لوْ أنَّ امْرأةً مِنْ نساءِ أهْلِ الجنَّة اطَّلعَتْ على أهْلِ الأرْضِ لأضاءَتْ ما بينَهُما، ولمَلأتْ ما بَيْنهُمَا ريحاً» .
وتقدَّم الكلام على قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَآنٌّ} .
قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ} .
«الرفرف» : جمع رفرفة فهو اسم جنس.
وقيل: بل هو اسم جمع. نقله مكي، وهو ما تدلى من الأسرة من عالي الثياب وقال الجوهري:«والرفرف» : ثياب خضر تتخذ منها المحابس، الواحدة: رَفرفة.
واشتقاقه: من رف الطائر إذا ارتفع في الهواء، ورفرف بجناحيه إذا نشرهما للطَّيران، ورفرف السحاب هبوبه.
ويدلّ على كونه جمعاً وصفه بالجمع.
وقال الراغب: رفيف الشجر: انتشار أغصانه، ورفيف الطائر نشر جناحيه، رَفَّ يَرِفُّ - بالكسر - ورفَّ فرخه يرُفُّه - بالضم - يفقده، ثم استعير للفقدِ، ومنه:«ما له حاف ولا رافّ» ، أي: من يحفه ويتفقده، والرفرف: المنتشر من الأوراق.
وقوله: {على رَفْرَفٍ خُضْرٍ} ضرب من الثياب مشبه بالرياض.
وقيل: الرفرف طرف الفُسْطاط والخباء الواقع على الأرض دون الأطناب والأوتاد.
وذكر الحسن: أنه البُسُط.
وقال ابن جبير، وابن عباس أيضاً: رياض الجنة من رفّ النبت إذا نعم وحسن.
وقال ابن عيينة: هي الزَّرابي.
وقال ابن كيسان: هي المرافق.
وقال أبو عبيدة: هي حاشية الثوب.
وقيل: الفرش المرتفعة.
وقيل: كل ثوب عريض عند العرب، فهو رفرف.
قال القرطبي: «وفي الخبر في وفاة النبي صلى الله عليه وسلم َ: فرُفِعَ الرَّفْرَفُ فَرأيْنَا وَجْهَهُ كأنَّهُ ورقَةٌ تُخَشْخِشُ» .
أي: رفع طرف الفسطاط.
وقيل: أصل الرفرف من رف النبت يرف إذا صار غضًّا نضيراً.
قال القتبي: يقال للشيء إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة حتى يكاد يهتز: رفّ يرفّ رفيفاً. حكاه الهروي. وقد قيل: إن الرَّفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف به، وأهوى به كالمرجاح يميناً وشمالاً ورفعاً وخفضاً يتلذّذ به مع أنيسه، قاله الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» .
قال: فالرفرف أعظم خطراً من الفرش، فذكر في الأوليين
{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] .
وقال هنا: {مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ} .
فالرفرف هو مستقر الولي على شيء إذا استوى عليه الوليّ رفرف به، أي طار به حيثما يريد كالمرجاح.
ويروى في حديث المعراج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لما بلغ سدرة المنتهى، جاء الرفرف فتناوله من جبريل، وطار به إلى سند العرش، فذكر أنه طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي على ربّي، ثم لما كان الانصراف تناوله، فطار به خفضاً ورفعاً يهوي به حتى آواه إلى جبريل عليه السلام.
ف «الرفرف» : خادم من الخدم بين يدي الله - تعالى - له خواصّ الأمور في محل الدنو والقرب كما أن البراق دابة تركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضه، فهذا الرفرف الذي سخره لأهل الجنتين الدَّانيتين هو مُتَّكأهما وفرشهما، يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار وشطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه.
فصل في الكلام على قوله: خضر
قوله تعالى: «خُضْرٍ» . نعت هنا ب «خضر» ؛ لأن اسم الجنس ينعت بالجمع كقوله: {والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} [ق: 10] وحسن جمعه هنا جمع «حِسَان» .
وقرأ العامة: «رفرف» وقرأ عثمان بن عفان ونصر بن عاصم والجحدري والفرقبي وغيرهم: «رفَارِفَ خُضْرٍ» بالجمع وسكون الضاد.
وعنهم أيضاً «خُضُر» بضم الضاد، وهي إتباع للخاء.
وقيل: هي لغة في جمع «أفْعَل» الصفة.
قال القرطبي: وروى أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قرأ: {متَّكئين على رفارف خضر وعباقر حسان} . ذكره الثعلبي، وضم الضاد من «خُضُر» قليل.
وأنشد ل «طرفة» : [الرمل]
4665 -
أيُّهَا الفِتْيانُ في مَجْلِسنَا
…
جَرِّدُوا مِنهَا وِرَاداً وشُقُرْ
وقال آخر: [البسيط]
4666 -
ومَا انتميْتُ إلى خُورٍ ولا كُشُفٍ
…
ولا لِئَامٍ غَداةَ الرَّوْعِ أوْزاعِ
وقرءوا: «وعَباقِريَّ» - بكسر القاف وتشديد الياء - مفتوحة على منع الصرف، وهي مشكلة.
إذ لا مانع من تنوين ياء النَّسب، وكأن هذا القارىء توهم كونها في «مفاعل» تمنع من الصرف.
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم َ «عباقريّ» منوناً ابن خالويه.
وروي عن عاصم: «رَفَارِف» بالصَّرف.
وقد يقال في من منع «عَبَاقِري» : إنه لما جاور «رَفارِف» الممتنع امتنع مشاكلة.
وفي من صرف «رَفارف» : إنه لما جاور «عباقِريًّا» المنصرف صرفه للتناسب، كقوله:{سَلَاسِلَا وَأَغْلَالاً} [الإنسان: 4] . كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
وقرأ أبو محمد المروزي وكان نحويًّا: «خُضَّار» ك «ضُرَّاب» بالتشديد، و «أفْعَل، وفُعَّال» لا يعرب.
قوله: «وعَبْقريّ حِسَان» .
الجمهور على أن «عبقري» منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنها بلد الجن.
قال ابن الأنباري: الأصل فيه أن «عَبْقَرَ» قرية تسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل.
وقال الخليل: كل منافس فاضل فاخر من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري.
ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم َ في عمر رضي الله عنه: «فَلَمْ أرَ عَبْقريًّا من النَّاسِ يَفْرِي فرْيَه» .
وقال أبو عمرو بن العلاء، وقد سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم َ:«فَلَمْ أرَ عَبْقريًّا من النَّاسِ يَفْرِي فرْيَه» ؛ فقال: رئيس قوم وجليلهم.
وقال زهير: [الطويل]
4667 -
بِخَيْلٍ عليْهَا جنَّةٌ عبْقريَّةٌ
…
جَدِيرُونَ يوماً أن ينَالُوا فَيستعْلُوا
وقال الجوهري: «العَبْقَري» موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن؛ قال لبيد: [الطويل]
4668 -
…
...
…
...
…
...
…
كُهُولٌ وشُبَّانٌ كَجِنَّةِ عَبْقَرِ
ثم نسبوا إليها كل شيء تعجبوا من حذقه وجودة صنعته وقوته، فقالوا:«عبقري» وهو واحد وجمع.
وفي الحديث: «أنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ على عَبْقَرِيّ» وهو البُسُط التي فيها الأصباغ، والنقوش، والمراد به في الآية: قيل: البسط التي فيها الصّور والتماثيل وقيل: الزَّرابي.
وقيل: الطَّنافس.
وقيل: الدِّيباج الثَّخين.
«عَبْقَرِي» جمع عبقرية، فيكون اسم جنس كما تقدم في «رفرف» .
وقيل: هو واحد دالّ على الجمع، ولذلك وصف ب «حِسَان» .
قال القرطبي: وقرأ بعضهم: «عَباقِريٌّ حِسَان» وهو خطأ؛ لأن المنسوب لا يجمع على نسبته.
وقال قطرب: ليس بمنسوب، وهو مثل:«كُرسيِّ وكَراسِيّ، وبُختيِّ وبخاتِي» .
قوله: {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام} .
قرأ ابن عامر: «ذُو الجلالِ» بالواو، جعله تابعاً للاسم، وكذا هي مرسومة في مصاحف الشَّاميين.
قال القرطبي: «وذلك يقوي كون الاسم هو المسمّى» .
والباقون: بالياء، صفة للربّ، فإنه هو الموصوف بذلك، وأجمعوا على أن الواو في الأولى إلا من استثنى فيما تقدم.
فصل في تحرير معنى تبارك
«تبارك» تفاعل من «البركة» .
قال ابن الخطيب: وأصل التَّبارك من التَّبرك، وهو الدوام والثبات، ومنه برك البعير وبركة الماء، فإن الماء يكون فيها دائماً.
والمعنى: دام اسمه وثبت، أو دام الخير عنده؛ لأن البركة وإن كانت من الثبات، لكنها تستعمل في الخير، أو يكون معناه: علا وارتفع شأنه.
فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها
قال القرطبي: كأنه يريد به الاسم الذي افتتح به السُّورة، فقال:«الرحمن» فافتتح بهذا الاسم، فوصف خلق الإنسان والجن، وخلق السموات والأرض وصنعه، وأنه {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] ووصف تدبيره فيهم، ثم وصف يوم القيامة وأهوالها وصفة النار، ثم ختمها بصفة الجنان، ثم قال في آخر السورة:{تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام} أي: هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة، كأنه يعلمهم أن هذا كله فرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم، وخلقت لكم السماء والأرض، والخليقة، والخلق، والجنة والنَّار، فهذا كله لكم من اسم الرحمن، فمدح اسمه فقال:{تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ} ، ثم قال:{ذِي الجلال والإكرام} أي: جليل في ذاته كريم في أفعاله.
روى الثعلبي عن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقول: «لِكُلِّ شَيءٍ عروسٌ، وعرُوسُ القرآنِ سُورةُ الرَّحمنِ، جل ذكرهُ» .
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ قَرَأ سُورة الرَّحْمَنِ رحِمَ الله ضعفهُ، وأدَّى شُكْرَ مَا أنْعَمَ اللَّهُ عز وجل عليه» .
والله سبحانه وتعالى الموفق الهادي إلى الخيرات، اللهم ارحمنا برحمتك.