الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة المجادلة
[مدنية] في قول الجميع إلا رواية عن عطاء: أن العشر الأول منها مدني، وباقيها مكي.
وقال الكلبي: نزلت جميعها ب " المدينة " غير قوله تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7] نزلت ب " مكة ".
وهي ثنتان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة وألف وسبعمائة واثنان وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} الآية.
«قَدْ» هنا للتوقع.
قال الزمخشري: «لأنه عليه الصلاة والسلام ُ - و
المجادلة
كانا يتوقعان أن يسمع اللَّه مجادلتهما وشكواها، وينزل في ذلك ما يفرج عنهما» .
وإظهار الدال عند السين قراءة الجماعة إلا أبا عمرو والأخوين.
ونقل عن الكسائي أنه قال: من بيَّن الدال عند السين فلسانه أعجمي، وليس بعربي. وهذا غير معرج عليه.
و «في زوجها» في شأنه من ظهاره إياها.
فصل فيمن جادلت الرسول صلى الله عليه وسلم َ
التي اشتكت هي خولة بنت ثعلبة.
وقيل: بنت حكيمٍ.
وقيل: بنت خُويلد.
قال الماوردي: وليس هذا بمختلف؛ لأن أحدهما: أبوها، والآخر: جدها، فنسبت إلى كل منهما.
قيل: كانت أمة.
وقيل: هي ابنة صامت.
وقيل: أمة لعبد الله بن أبي. وهي التي أنزل الله فيها: {وَلَا تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور: 33] أي لا يكرهها على الزنا.
وقيل: هي ابنة حكيم.
قال النحاس: وهذا ليس بمُتناقض، يجوز مرَّة أن تنسب إلى أبيها، ومرَّة إلى أمها، ومرَّة إلى جدِّها، ويجوز أن تكون أمةً كانت لعبد الله بن أبي، فقيل لها: أنصارية بالولاء؛ لأنه كان في عداد الأنصاريين وأنه كان من المنافقين. نقله القرطبي.
وقيل: اسمها جميلة، وخولة أصح، وزوجها أوسُ بن الصَّامت أخو عبادة بن الصَّامت.
وروي أن عمر بن الخطاب مرَّ بها في خلافته، وهو على حمارٍ والناس معه، فاستوقفته طويلاً ووعظته، وقالت: يا عمرُ، قد كنت تدعى عُمَيراً ثم قيل لك: عمر، ثم قيل: أمير المؤمنين، فاتَّقِ الله يا عمر، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب، وهو واقف يسمع كلامها، فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقفُ لهذه العجوز هذا الوقوف.
فقال: والله لو حَبَسَتْنِي من أول النهار إلى آخره لا زلت إلَاّ للصَّلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هذه خولة بنت ثعلبة، سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟! .
وقالت عائشة: تبارك الذي وسِعَ سمعهُ كُلَّ شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وهي تقول: يا رسول الله أكَلَ شَبَابي، ونَثرْتُ له بطني حتَّى إذا كبرت سنّي، وانقطع ولدي ظاهر منِّي، اللهم إني أشكو إليك فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات:{قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} الآية.
«روي أنها كانت حسنة الجِسْمِ، فرآها زوجها ساجدةً فنظر عجيزتها، فأعجبه أمرها، فلما انصرفت أرادها فأبَتْ فغضب عليها، قال عروة: وكان امرأ به لممٌ فأصابه بعض لممهِ، فقال لها: أنْتِ عليَّ كظهْرِ أمِّي وكان الإيْلاء والظِّهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال لها:» حَرُمْتِ عليْهِ «، فقالت: والله ما ذكر طلاقاً، وإنه أبو ولدي وأحبّ الناس إليَّ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:» حَرُمْتِ عَليْهِ «، فقالت: أشكو إلى الله فَاقتِي ووحْدتِي، فقد طالت له صُحْبتي ونفَضَتْ له بَطْني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:» مَا أرَاك إلَاّ قَدْ حَرُمْتِ عليْهِ ولَمْ أومر فِي شأنِك بِشيءٍ «، فجعلت تراجع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وإذا قال لها رسول الله:» حَرُمْتِ عليْهِ «هتفت وقالت: أشكو إلى الله فاقتِي وشدة حالي، وإن لي صبيةً صغاراً إن ضَممتُهُمْ إليَّ جاعُوا، وإن ضَممتُهُمْ إليه ضاعُوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهُم إني أشكو إليك فأنزل على لسان نبيك، وكان هذا أول ظهارٍ في الإسلام فأنزل الله تعالى: {قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} الآية. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إلى زوجها، وقال:» مَا حَمَلَكَ عَلى ما صَنَعْتَ «؟ فقال: الشيطان، فهل من رُخْصَة؟ فقال:» نَعَمْ «، وقرأ عليه الأربع آيات، فقال:» هَلْ تَسْتطِيْعُ الصَّوْمَ «؟ فقال: لا والله، فقال:» هَلْ تَسْتطيعُ العِتْقَ «؟ فقال: لا والله، إني أن أخطأ في أن آكل في اليوم مرة أو مرتين لكلَّ بصري وظننت أني أموت، قال:» فأطْعِمْ ستِّيْنَ مِسْكيناً «، فقال: ما أجد إلا أن تعينني منك بعونٍ وصلةٍ، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بخمسةَ عشر صاعاً، وأخرج أوس من عنده مثله، فتصدق به على ستين مسكيناً» .
فصل في اللمم الذي كان بأوس بن الصامت
قال أبو سليمان الخطَّابي: ليس المراد من قوله في هذا الخبر: وكان بن لَمَم الخبل والجنون، إذ لو كان به ثُمَّ ظاهر في تلك الحال لم يكن يلزمه شيء، بل معنى
اللَّمَم هاهنا: الإلمام بالنساء وشدة الحِرْصِ والتَّوقَانِ إليهن.
فصل في الظهار
اعلم أن الظِّهار كان من أشدّ طلاق الجاهلية؛ لأنه في التحريم أوكدُ ما يمكن، فإن كان الحكم صار مقرّراً في الشرع كانت الآية ناسخة له، وإلا لم يفد نسخاً؛ لأن النسخ إنما يدخل في الشَّرائع لا في عادة الجاهلية، لكن الذي روي أنه عليه الصلاة والسلام ُ - قال لها:«حَرُمْتِ» أوْ «مَا أَرَاكَ إلَاّ قَدْ حَرُمْتِ» كالدلالة على أنه كان شرعاً.
فأما ما روي أنه توقف في الحكم فلا يدل على ذلك.
وفي الآية دليل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق ولم يَبْقَ له في مهمه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك المُهِمّ.
فصل فيما حكاه الله عن هذه المرأة
اعلم أنَّ الله - تعالى - حكى عن هذه المرأة أمرين:
أحدهما: المجادلة وهو قوله تعالى: {تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} أي: في شأن زوجها، وتلك المجادلة هي أنه عليه الصلاة والسلام ُ - كلما قال لها:«حَرُمَتْ عَليْهِ» ، قالت: والله ما ذكر طلاقاً.
والثاني: شكواها إلى الله فَاقتَهَا ووحْدتهَا، وقولها: إن لي صبية صغاراً.
فصل في سمع الله تعالى
قال القرطبي: الأصل في السماع إدراك المسمُوعات وهو اختيار أبي الحسن، وقال ابن فورك: الصحيح أنه إدراك المسمُوع.
وقال الحاكم أبو عبد الله: «السميع» هو المدرك للأصوات التي يدركها المخلوقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الأذُن كالأصَم من النَّاس لما لم يكن له هذه الحاسة لم يكن أهلاً لإدراك الصوت، والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة، والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متّصفاً بهما.
وقرىء: «تُحَاوِرُكَ» أي: تراجعك الكلام.
قوله: {وتشتكي إِلَى الله} يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنه عطف على «تجادلك» فهي صلة أيضاً.
والثاني: أنها في موضع نصب على الحال، أي: تجادلك شاكيةً حالها إلى الله.
وكذا الجملة من قوله: {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} والحالية فيها أبعد.
و «شكا» و «اشتكى» بمعنى واحد.
و «المُحَاورة» : المراجعة في الكلام، حار الشيء يحُور حَوْراً، أي: رجع يرجع رجوعاً.
ومنه: «نعوذ بالله من الحور بعد الكورِ» ، وكلمته فما أحار بكلمة، أي: فما أجاب.
{إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} . أي: يسمع كلام من يناديه، ويبصر من يتضرع إليه.
قوله: {الذين يُظَاهِرُونَ} تقدم الخلاف في «تُظَاهرون» في سورة «الأحزاب» ، وكذا في {اللائي} [الأحزاب: 4] .
وقرأ أبيّ هنا: «يَتَظَاهرون» .
وعنه أيضاً: «يتظهرون» .
وفي «الذين» وجهان:
أحدهما: أنه مبتدأ، وخبره: قوله {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} .
الثاني: أنه منصوب ب «بصير» على مذهب سيبويه في جواز إعمال «فعيل» قاله مكي.
يعني: أن سيبويه يعمل «فعيلاً» من أمثلة المبالغةِ، وهو مذهب مطعُون فيه على سيبويه؛ لأنه استدلّ على إعماله بقول الشاعر:[البسيط]
4729 -
حَتَّى شَآهَا كَلِيلٌ مَوْهِناً عَمِلٌ
…
بَاتَتْ طِرَاباً وبَاتَ اللَّيْلَ لَمْ يَنَمِ
ورد عليه بأن «موهناً» ظرف زمان، والظروف يعمل فيها روائح الأفعال، والمعنى: يأتي «ما» قاله مكي.
وقرأ العامة: «أمَّهاتِهِمْ» بالنصب على اللغة الحجازية الفصحى، كقوله
{مَا هذا بَشَراً} [يوسف: 31] .
وعاصم في رواية بالرفع على اللغة التميمية، وإن كانت هي القياس لعدم اختصاص الحرف، وقرأ عبد الله:«بأمَّهاتهم» بزيادة الباء وهي تحتمل اللغتين.
وقال الزمخشري: «وزيادة الباء في لغة من يَنْصِبُ» .
قال شهاب الدين: هذا هو مذهب أبي عليّ، يرى أن «الباء» لا تزاد إلا إذا كانت عاملة، فلا تزاد في التميمية، ولا في الحجازية إذا منع من عملها مانع، نحو:«ما إن زيد بقَائمٍ» ، وهذا مردُود بقول الفرزدق وهو تميمي:[الطويل]
4730 -
لَعَمْرُكَ ما مَعْنٌ بتَارِكِ حَقِّهِ
…
ولا مُنْسِىءٌ مَعْنٌ ولا مُتَيَسِّرُ
وبقول الآخر: [المتقارب]
4731 -
لَعَمْرُكَ مَا إنْ أبُو مالكٍ
…
بِوَاهٍ ولا بِضَعيفٍ قُوَاه
فزادها مع «ما» الواقع بعدها «إن» .
فصل في التعبير بلفظ الظهار
ذكر الظَّهْر كناية عن معنى الركوب، والآدمية إنما يُرْكَب بطنُها، ولكن كنَّى عنه بالظَّهر؛ لأن ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره فكنَّى بالظهر على الركوب، ويقال: نزل عن امرأته أي: طلقها كأنه نزل عن مركُوبه، ومعنى: أنت عليَّ كظهرِ أمي،
أي: أنت عليَّ محرمة لا يحلّ لي ركوبك نقله القرطبي.
ونقل ابن الخطيب عن صاحب «النظم» : أنه ليس مأخوذاً من الظَّهر الذي هو عضو من الجسد؛ لأنه ليس الظَّهر بأولى بالذكر في هذا الوضع من سائر الأعضاء التي هي مواضع المباضعةِ والتلذُّذ، بل الظهر هاهنا مأخوذ من العُلوّ، ومنه قوله تعالى:{فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97] أي: يعلوه وكذلك امرأة الرجل ظهره؛ لأنه يعلوها بملك البضع وإن لم يكن ناحية الظَّهر، فكأن امرأة الرجل مركب للرجل وظهر له.
ويدلُّ على صحة هذا المعنى ما نقل عن العرب أنهم يقولون في الطلاق: نزلت عن امرأتي، أي: طلقتها، وفي قولهم: أنت عليّ كظهر أمي حذف وإضمار؛ لأن تقديره: ظهرك عليّ، أي ملكي إياك، وعلوي عليك حرام كما عُلوي على أمي وملكها عليّ.
فصل في حقيقة الظهار
حقيقة الظهار: تشبيه ظهر بظهر، والموجب للحكم منه تشبيه ظَهْر محلّل بظهر محرم، ولهذا أجمع الفقهاء على أنَّ من قال لزوجته: أنت عليَّ كظهرِ أمي، أنه مظاهر.
وقال أكثرهم، إذا قال لها: أنت عليّ كظهرِ ابنتي، أو أختي، أو من تحرم عليه على التأبيد من ذوات المحارم أنه مظاهر.
فصل في ألفاظ الظهار
وألفاظ الظِّهار: صريح وكناية:
فالصريح: أنت علي كظهر أمي، وأنت عندي، وأنت منّي، وأنت معي كظهر أمي، وكذلك أنت عليَّ كبطن أمي، أو كرأسها أو فرجها ونحوه، وكذلك فرجك، أو رأسك، أو ظهرك، أو بطنك، أو رجلك عليَّ كظهر أمي، فهو مظاهر مثل قوله: يدك، أو رجلك، أو رأسك، أو فرجك طالق تطلق عليه، ومتى شبهها بأمّه، أو بإحدى جداته من قبل أبيه، أو أمه فهو ظهار بلا خلاف، وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحلّ له بحال كالبنت، والأخت، والعمة، والخالة كان مظاهراً عند أكثر الفقهاء.
والكناية: أن يقول: أنت عليَّ كأمي، أو مثل أمي، فإنه يعتبر فيه النية، فإن أراد الظهار كان ظهاراً، وإن لم ينو الظهار لم يكن مظاهراً على خلاف في ذلك، فإن شبه امرأته بأجنبيّة، فإن ذكر الظهر كان ظهاراً، وإن لم يذكر الظهر، فقيل: يكون ظهاراً.
وقيل: طلاقاً.
وقال: أبو حنيفة والشافعي: لا يكون شيئاً.
وقيل: وهذا فاسد؛ لأنه شبّه محللاً من المرأة بمحرم، فأشبه الظهر. نقله القرطبي.
فإن قال: أنت عليَّ حرام كظهر أمي، كان ظهاراً ولم يكن طلاقاً؛ لأن قوله: أنت عليَّ حرام يحتمل التحريم بالطلاق، فيكون طلقة، ويحتمل التحريم بالظِّهار، فلما صرح به كان تفسيراً لأحد الاحتمالين، فقضي به فيه.
فصل
والظِّهار لازم في كلّ زوجة مدخول بها، أو غير مدخُول بها من كل زوج يجوز طلاقه.
وقال مالك: يجوز الظِّهار من كل من يجوز له وطؤها من إمائِهِ إذا ظاهر منهن لزمه الظِّهارُ فيهن، وقال غيره: لا يلزم.
قال ابن العربي: وهي مسألة عسيرةٌ جدًّا؛ لأن مالكاً يقول: إذا قال لأمته: أنت عليَّ حرام لا يلزم، فكيف يبطل فيها صريح التحريم، وتصح كنايته.
قوله: {مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً} نعتان لمصدر محذوف أي قولاً منكراً وزوراً أي: كذباً وبهتاناً.
قاله مكي. وفيه نظر؛ إذ يصير التقدير: ليقولون قولاً منكراً من القولِ، فيصير قوله:«مِنَ القَوْلِ» لا فائدة فيه، والأولى أن يقال: نعتان لمفعول محذوف، لفهم المعنى، أي: ليقولن شيئاً منكراً من القول لتفيد الصفة غير ما أفاده الموصوف.
والمنكر من القول: ما لا يعرف في الشَّرْع، والزور: الكذب.
{وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} إذ جعل الكفارة عليهم مُخلصةً لهُمْ من هذا القَوْل المنكر.
وقيل: «لعفو غفور» إما من قبل التوبة لمن يشاء، كما قال تعالى:{وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 116] .
أو بعد التوبة.
فإن قيل: المظاهر إنما قال: أنْتِ عليَّ كظهرِ أمِّي، فشبه بأمه، ولم يقل: إنها أمه،
فما معنى أنه جعله منكراً من القوْلِ وزوراً. والزُّور: الكذب، وهذا ليس بكذب؟ .
فالجواب: أنَّ قوله إنْ كان خبراً فهو كذب، وإنْ كَانَ إنشاء فكذلك؛ لأنه جعله سبباً للتَّحريم، والشَّرْع لم يجعله سبباً لذلك.
وأيضاً فإنما وصف بذلك، لأن الأم مؤبدة التحريم، والزَّوْجة لا يتأبّد تحريمها بالظِّهار، وهذا ضعيف؛ لأنَّ المشبه لا يلزم أن يساوي المشبه به من كُلِّ وجهٍ.
فإن قيل: قوله: {إِلَاّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} يقتضي أن لا أم إلا الوالدة، وهذا مشكل لقوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] .
وقوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] .
والحمل على حرمة النكاح لا يفيد؛ إذْ لا يلزمُ مِنْ عدم كوْنِ الزَّوجة أمًّا عدمُ الحُرمةِ، فظاهر الآية الاستدلال بعدم الأمومة على عدم الحرمة؟ .
فالجواب: أنا نقول: هذه الزَّوجة ليست بأم حتى تحصل الحرمة بسبب الأمومة، ولم يرد الشرع بجعل هذه اللفظة سبباً للحرمةِ، فإذن لا تحصل الحرمة هناك ألبتّة فكان وصفهم لها بالحرمة كذباً وزوراً.
قوله: {والذين يُظَاهِرُونَ} مبتدأ.
وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} مبتدأ ثان وخبره مقدم، أي: فعليهم، أو فاعل بفعل مقدر، أي: فيلزمهم تحرير، أو خبر مبتدأ مضمر، أي: فالواجب عليهم تحرير.
فصل
ويلزم الظهار قبل النكاح إذا نكح التي ظاهر منها عند مالك، ولا يلزم عند غيره لقوله تعالى:{مِن نِّسَآئِهِم} .
وإذا ظاهر صح ظهاره كما يصح طلاقه. وقال مالك: لا يلزم ظهاره؛ لأنه لا يصح تكفيره بالصِّيام، وهذا منقوض بظهار العبد، وهو لا يكفر بالعتقِ والإطعام.
فصل في عدم صحة ظهار المرأة من زوجها
لا يصح ظهار المرأة من زوجها، وعليها كفَّارة يمين، إنما الظهار على الرجال؛ لأن الحل والعقد في النكاح بيدِ الرجال ليس بيد المرأة منه شيء.
وقال الحسن بن زياد: هي مظاهرة.
وقال الزهري: أرى أن تكفر كفَّارة الظهار.
وقال محمد بن الحسن: لا شيء عليها.
فصل في المظاهرة حال الغضب والسكر
وإذا ظاهر حال غضبه لزمه حكم الظِّهار، للحديث، ويصح ظهار السكران وطلاقه، وإذا ظاهر من نسائه بكلمة واحدة فكفَّارة واحدة، وإن ظاهر منهنّ بكلمات فعليه لكل واحدة كفَّارة ظهار، وإذا قال لأربع نسوة: إن تزوجتكنّ فأنتن عليَّ كظهرِ أمي، فتزوج إحداهن لم يقربها حتى يكفِّر، ثم قد سقط اليمين فيه في سائرهن.
وقيل: لا يَطَأُ البواقي منهن حتى يكفر فإن قال لامرأته: أنت عليَّ كظهرِ أمي، وأنت طالق ألبتة، لزمه الطلاق والظِّهار معاً، ولم يكفر حتى ينكحها بعد زوج ولا يطؤها إذا نكحها حتى يكفر، فإن قال لها: أنت طالق ألبتَّة، وأنت عليّ كظهر أمي لزمه الطَّلاق، ولم يلزمه الظِّهار؛ لأن المبتُوتةَ لا يلحقها طلاق ولا ظهار، ويصح الظهار المؤقّت كما لو قال: أنت اليوم عليَّ كظهرِ أمي فإنَّه يصحّ ويبطل بمضيّ اليوم.
وقال مالك: يتأبّد.
قوله: «منكم» توبيخ للعرب، وتهجين لعادتهم في الظِّهار؛ لأنه كان من أيمان الجاهلية خاصة، دون سائر الأمم.
وقوله: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] أي: ما نساؤهم بأمهاتهم، {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَاّ اللائي وَلَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] أي إلا الوالدات.
وعلى التقادير الثلاثة، فالجملة خبر المبتدأ، ودخلت «الفاء» لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط.
قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} . في هذه «اللام» أوجه:
أحدها: أنها متعلقة ب «يعودون» .
وفيه معان:
أحدها: والذين من عادتهم أنهم كانوا يقولون هذا القول في الجاهلية، ثمَّ يعودون لمثله في الإسلام.
الثاني: ثم يتداركون ما قالوا؛ لأن المتدارك للأمر عائد إليه، ومنه:«عَادَ غَيْثٌ عَلَى ما أفْسَدَ» أي تداركه بالإصلاح، والمعنى: أن تدارك هذا القول وتلافيه بأن يكفر حتى ترجع حالهما كما كانت قبل الظِّهار.
الثالث: أن يراد بما قالوا ما حرَّموه على أنفسهم بلفظ الظِّهار تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكر في قوله تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} [مريم: 80]، والمعنى: ثم يريد العود للتَّماسِّ. قاله الزمخشري.
وهذا الثالث هو معنى ما روي عن مالك، والحسن، والزهري: ثم يعودون للوطءِ، أي: يعودون لما قالوا: إنهم لا يعودون إليه، فإذا ظاهر ثُمَّ وطىء لزمتِ الكفَّارة عند هؤلاء.
الرابع: «لما قالوا» ، أي: يقولونه ثانياً، فلو قال: أنت عليَّ كظهرِ أمي مرّة واحدة لم يلزمه كفارة؛ لأنه لم يَعُدْ لما قال، وهذا منقول عن بكير بن عبد الله الأشجّ، وأبي حنيفة، وأبي العالية، والفراء في آخرين، وهو مذهب أهل الظَّاهر.
قال ابن العربي: وهذا القول باطل قطعاً؛ لأن قصص المتظاهرين قد رويت، وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم، والمعنى أيضاً بنقضه؛ لأن الله - تعالى - وصفه بأنه مُنْكَر من القول وزور، فكيف يقال: إذا أعدت القول المحرّم، والسَّبب المحظور وجبت عليك الكفَّارة، وهذا لا يعقل ألا ترى أنَّ كل سبب يوجب الكفَّارة لا يشترط فيه الإعادة من قتلٍ ووطءٍ في صوم؟ .
الخامس: أن المعنى أن يعزم على إمساكها فلا يطلقها بعد الظِّهار حتى يمضي زمن يمكن أن يطلقها فيه، فهذا هو العودُ لما قال، وهو مذهب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة أيضاً.
وقال: العود هنا ليس بتكرير القول، بل بمعنى العزم على الوطء.
قال القرطبي: وهذا ينتقض بثلاثة أمور:
أحدها: أنه قال: «ثُمَّ» وهي للتراخي.
الثاني: قوله: «ثم يعُودُون» يقتضي وجود فعل من جهته، ومرور الزمان ليس بفعل منه.
الثالث: أن الطلاق الرَّجْعِي لا ينافي البقاء على الملك، فلم يسقط حكم الظِّهار كالإيلاء.
وقال مكي: «واللام متعلقة ب» يَعُودُون «أي: يعودون لوطءِ المقول فيه الظهار، وهن الأزواج ف» ما «والفعل مصدر، أي: لقولهم، والمصدر في موضع المفعول به، نحو:» هذا دِرْهم ضرب الأمير «أي: مضروبه، فيصير المعنى، كقولهم للمقول فيه الظِّهار، أي: لوطئه» .
وهذا معنى قول الزمخشري في الوجه الثالث الذي تقدم تقريره عن الحسن، والزهري، ومالك إلَاّ أن مكيًّا قيد ذلك بكون «ما» مصدرية حتى يقع المصدر المؤول موضع اسم المفعول، وفيه نظر؛ إذ يجوز ذلك وإن كانت «ما» غير مصدرية لكونها بمعنى «الذي» ونكرة موصوفة، بل جعلها غير مصدرية أولى؛ لأن المصدر المؤول فرع المصدر الصريح، إذ الصريح أصل للمؤول به، ووضع المصدر موضع اسم المفعول خلاف الأصل، فيلزم الخروج عن الأصل بشيئين: بالمصدر المؤول، ثم وقوعه موقع اسم المفعول، والمحفوظ من لسانهم إنما هو وضع المصدر الصَّريح موضع المفعول لا المصدر المؤول فاعرفه.
لا يقال: إن جعلها غير مصدرية يحوجُ إلى تقدير حذف مضاف ليصحّ المعنى، أي: يعودون لوطء الذي ظاهر منها، أو امرأة ظاهر منها، أو يعودون لإمساكها.
والأصل: عدم الحذف؛ لأن هذا مشترك الإلزام لنا ولكم، فإنكم تقولون أيضاً: لا بد من تقدير مضاف، أي: يعودون لوطء أو لإمساك المقول فيه الظهار، ويدل على جواز كون «ما» في هذا الوجه غير مصدرية ما أشار إليه أبو البقاء، فإنه قال: يتعلق ب «يعودون» بمعنى يعودون للقول فيه، هذا إن جعلت «ما» مصدرية، ويجوز أن تجعلها بمعنى «الذي» ونكرة موصوفة.
الثاني: أن «اللام» تتعلق ب «تحرير» ، وفي الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: والذين يُظَاهرون من نسائهم فعليهم تحرير رقبة لما نطقوا به من الظِّهار، ثم يعودون للوطء بعد ذلك. وهذ ما نقله مكي وغيره عن الأخفش.
قال أبو حيَّان: «وليس بشيء؛ لأنه يفسد نظم الآية» .
وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم فساد النظم مع دلالة المعنى على التقديم والتأخير، ولكن
نسلم أن ادِّعاء التقديم والتأخير لا حاجة إليه؛ لأنه خلاف الأصل.
الثالث: أن «اللام» بمعنى «إلى» ، و «اللام» و «إلى» يتعاقبان، قال تعالى:{هَدَانَا لهذا} [الأعراف: 43]، وقال:{فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم} [الصافات: 23] وقال: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] وقال: {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ} [هود: 36] قاله الأخفش.
الرابع: أنها بمعنى «في» ، نقلها أبو البقاء، ومع ذلك فهي متعلقة ب «يعودون» .
الخامس: أنها متعلقة ب «يقولون» .
[قال مكي: وقال قتادة: ثم يعودون لما قالوا من التحريم فيحلونه، فاللام على هذا تتعلق ب «يقولون» ] .
قال شهاب الدين: «ولا أدري ما هذا الذي قاله مكي، وكيف فهم تعلقها ب» يقولون «على تفسير قتادة، بل تفسير قتادة نص في تعلقها ب» يعودون «، وليس لتعلقها ب» يقولون «وجه» .
ونقل القرطبي عن الفرَّاء قال: اللام بمعنى «عن» والمعنى: ثم يرجعون عما قالوا، ويريدون الوطء.
وقال أبو مسلم: العود هو أن يحلف أولاً على ما قال من لفظ الظهار، فلو لم يَحْلف لم تلزمه كفارة كما لو قال في المأكول: هو عليَّ حرام كَلَحْمِ الآدمي فلا كفَّارة عليه، فإذا حلف عليه لزمته كفارة يمين.
وهذا ضعيف؛ لأن الكفَّارة قد تجب بالجماعِ في الحجّ، وفي رمضان، وفي قتل الخطأ، ولا يمين هناك.
قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي: فعلية إعتاق رقبةٍ، يقال: حرَّرته، أي: جعلته حرًّا، ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سالمة من كل عيب، ومن كمالها إسلامها كالرَّقبة في كفَّارة القتل، فإذا أعتق نصفي عبدين لم يجزه.
وقال الشافعي: يجزيه لأنَّ النِّصفين في معنى العبد الواحد؛ ولأن الكفَّارة في العتقِ طريقها المال، فجاز أن يدخلها التَّبعيض كالإطعام، ودليل الأول قوله:{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد، وبعض الرقبة ليس رقبة؛ ولأنه لو أوصى رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحجّ واحد منهما نصفها، ولو أوصى أن يشتري رقبة فيعتق
عنه لم يجز أن يعتق نصف عبدين، كذا ها هنا.
وروي عن أحمد رضي الله عنه إن كان باقيهما حراً صح وأجزأ، وإلَاّ فلا؛ لأن المقصود تكميل الحرية وقد كملت، ولقوله عليه الصلاة والسلام ُ:«لَيْسَ لِلَّهِ شَرِيْكٌ فإنْ أعْتِقَ مُكَاتبٌ عَنِ الكفَّارةِ لَمْ يَجْزِهِ» .
وقال أبو حنيفة: إن أعتقه قبل أن يؤدي شيئاً أجزأه، وإن أعتق بعد أن أدى شيئاً لم يجزه، فإن أعتق ذا رحمه المحرم عن كفارته عتق، ولم يُجْزه عن الكفارة.
قوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} ، أي: من قبل أن يجامعها، فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير فإن جامعها قبل التَّكفير عصى، ولا يسقط عنه التكفير.
وحكي عن مجاهد: أنه إذا وطىء قبل أن يشرع في التكفير لزمه كفَّارة أخرى، وعن غيره أن الكفَّارة الواجبة بالظِّهار تسقط عنه، ولا يلزمه شيء أصلاً؛ لأن الله - تعالى - أوجب الكفَّارة، وأمر بها قبل المسيسِ، فإذا أخَّرها حتى مسَّ فقد فات وقتُها، والصحيح ثبوت الكفَّارة؛ لأنه بوطئه ارتكب إثماً، وذلك ليس بمسقط للكفَّارة، ويأتي بها قضاء كما لو أخَّر الصلاة عن وقتها، وسواء كانت الكفَّارة بالعِتْقِ، أو الصوم، أو الإطعام.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إن كانت بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم، فأما غير الوطء من القبلة والمباشرة والتلذُّذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء.
فصل فيمن ظاهر من امرأته مراراً
إذا ظاهر مراراً من امرأته ولم يُكفر، فكفَّارة واحدة إلا أن يكون قد كفَّر عن الأول، فعليه للثاني كفَّارة.
قال: وينبغي للمرأة ألا تدعه يقربها حتى يكفِّر، فإن تهاون بالتكفير حال الإمام بينها وبينه، ويجبره على التكفير وإن كان بالضرب حتى يوفيها حقها من الجماع.
قال الفقهاء: ولا شيء من الكفارة يجبر عليه ويحبس إلا كفارة الظِّهار وحدها؛ لأن ترك التكفير إضرار بالمرأة، وامتناع من إيفاء حقّها.
قوله تعالى: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي: تؤمرون به.
{والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} من التَّكفير وغيره.
قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} .
وقوله تعالى: {فَإِطْعَامُ} كقوله في الأوجه الثلاثة المتقدمة من قبلُ، متعلق بالفعل أو الاستقرار المتقدم، أي: فيلزم تحرير، أو صيام، أو فعليه كذا من قبل تماسهما. والضمير في «يتماسَّا» للمظاهر والمظاهر منها لدلالة ما تقدم عليها.
فصل إذا لم يجد الرقبة
من لم يجد الرقبة ولا ثمنها، وكان مالكاً لها إلَاّ أنه شديد الحاجة إليها لخدمته، أو كان مالكاً لثمنها إلَاّ أنه يحتاج إليه لنفقته، أو كان له مسكين ليس له غيره، ولا يجد شيئاً سواه فله أن يصوم.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا يصوم وعليه العتق، ولو كان محتاجاً إلى ذلك.
والصيام الواجب في هذه الكفَّارة أن يصوم شهرين متتابعين، فإن أفطر في أثنائها بغير عُذْرٍ استأنفهما وإن أفطر بعذر من سفر أو مرض، فقال ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار والشعبي: يبني على ما مضى، وهو الصحيح من مذهب الشافعي.
فإن ابتدأ الصيام، ثم وجد الرقبة لم يلزمه الانتقال عنه؛ لأنه أمر به حين دخل فيه.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه يعتق قياساً على الصغيرة المعتدة بالشهور إذا رأت الدَّم قبل انقضاء عدّتها، فإنها تستأنف الحَيْض إجماعاً، فإن وطىء المظاهر في خلال الشهرين نهاراً بطل التتابع، وإن وطىء ليلاً لم يبطل؛ لأنه ليس محلاًّ للصَّوم.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه ومالك: يبطل بكل حال، ويجب عليه ابتداء الكفَّارة لقوله تعالى:{مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} وهذا شرط عائد إلى جملة الشهرين.
ومن طال مرضه طولاً لا يرجى بُرْؤه، وكان بمنزلة العاجز من كبرٍ، فيجوز له العدول عن الصيام إلى الإطعام.
فإن كان يرجى بُرْؤه، واشتدت حاجته إلى وَطْءِ امرأته فالاختيار له أن ينتظر البُرْءَ حتى يقدر على الصيام، فإذا كفَّر بالإطعام، ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه.
فإن ظاهر وهو موسرٌ، ثم أعسر قبل أن يكفر صام، وإنما ينظر إلى حاله يوم يكفر، ولو جامعها في عدمه وعسره، فلم يكفر حتى أيسر لزمه العِتْق.
ولو ابتدأ بالصوم ثم أيسر، قال القرطبي رحمه الله: فإن كان مضى من صومه صدر صالح كالجمعة وشبهها تمادى، وإن كان يوماً أو يومين ترك الصوم، وعاد إلى
العتق، وليس ذلك بواجب عليه.
ولو ظاهر عن امرأتين له فأعتق رقبة عن إحداهما لا بعينها لم يجز له وطء واحدة منهما حتى يكفر الكفَّارة الأخرى، ولو عين الكفَّارة عن إحداهما جاز له أن يطأها قبل أن يكفر الكفَّارة عن الأخرى.
[قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} الآية كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} في الأوجه الثلاثة المتقدمة، و «مِنْ قَبْل» متعلق بالفعل، أو الاستقرار المتقدم، أي: فيلزمه تحرير، أو صيام أو فعليه كذا من قبل تماسهما، والضمير في «يتماسّا» للمظاهر والمظاهر منها لدلالة ما تقدم] .
فصل في الترتيب في كفَّارة الظهار
اعلم أن الله - تعالى - أمر بكفَّارة الظهار مرتبة، فلا سبيل إلى الصيام إلا عند العجز عن الإعتاق، وكذلك لا سبيل إلى الإطعام إلا عند عدم الاستطاعة على الصيام، فمن لم يطق الصيام وجب عليه إطعام ستين مسكيناً لكل مسكين مد من طعام بمدِّ النبي صلى الله عليه وسلم َ.
قال ابن عبد البرّ: والأفضل مُدَّان بمُدِّ النبي صلى الله عليه وسلم َ ولا يجزىء عند مالك، والشافعي رضي الله عنهما أن يطعم أقل من ستين مسكيناً.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لو أطعم مسكيناً واحداً كل يوم نصف صاعٍ حتى يكمل العدد أجزأه.
وعن أحمد رضي الله عنه إذا لم يجد إلَاّ مسكيناً واحداً ردد عليه بعدد الأيام.
فصل في نسخ الظهار لما كانوا عليه
حكم الظِّهار ناسخ لما كانوا عليه من كون الظِّهار طلاقاً في الجاهلية، روي ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما.
قوله: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ} .
قال الزَّجَّاج: «ذلك» فيه وجهان:
الأول: أنه في محل رفع، أي: الغرض ذلك الذي وصفنا من التَّغليظ في الكفَّارة، «لتُؤمِنُوا» أي: لتصدقوا أن الله أمر به.
الثاني: فعلنا ذلك للبيان والتعظيم للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم َ والعمل بشرائعه، ولا تستمروا على أحكام الجاهلية من جعل الظهار أقوى أنواع الطَّلاق.
فصل في أن الكفارة إيمان بالله تعالى
استدلّ بعض العلماء على أنَّ هذه الكفَّارة إيمان بالله تعالى؛ لأنه لما ذكرها وأوجبها، قال جل ذكره:{لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} ، أي: ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدّوها، فسمى التكفير إيماناً؛ لأنه طاعة، ومراعاة للحد، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان.
فصل في معنى الآية
معنى قوله تعالى: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} أي: لئلا تعودوا للظِّهار الذي هو منكر من القول وزور.
قيل له: قد يجوز أن يكون كلاهما مقصوداً، فيكون المعنى: ذلك لئلا تعودوا، فتقولوا المنكر والزور، بل تدعونهما طاعة لله سبحانه وتعالى إذ كان قد حرمهما، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا إذا كان الله منع من مَسِيْسهَا وتكفروا إذا كان الله عز وجل أمر بالكفَّارة، وألزم إخراجها منكم، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم َ لأنها حدود تحفظونها وطاعات تؤدّونها، والطَّاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم َ إيمان بالله ورسوله.
فصل في إدخال العمل تحت مسمى الإيمان
قال ابن الخطيب: استدل من أدخل العمل في مسمى الإيمان بهذه الآية، فقال: إن الله - تعالى - أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين، فدل على أن العمل من الإيمان، ومن أنكر ذلك قال: إنه - تعالى - لم يقل: ذلك لتؤمنوا باللَّهِ بعمل هذه الأشياء، ونحن نقول: المعنى «ذلك لتؤمنوا بالله» والإقرار بهذه الأحكام.
فصل فيمن استدل بهذه الآية على أن أفعال الله معللة بالأغراض
استدلت المعتزلة في قوله تعالى «لتؤمنوا» على أن فعل الله معلل بالغرض، وعلى
أن غرضه أن تؤمنوا، ولا تستمروا على ما كانوا عليه من الكفر، وهذا يدلّ على أنه - تعالى - أراد منهم الإيمان وعدم الكفر.
قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} أي بيّن معصيته وطاعته، فمعصيته الظِّهار، وطاعته الكفارة.
{وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: لمن جحد هذا وكذاب به، ولم يصدق بأحكام الله تعالى له عذاب جهنم.
قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ} الآية.
قال المبرد: أصل «المحادّة» الممانعة، ومنه يقال للبواب: حداد، وللممنوع الرزق: محدود.
وقال أبو مسلم الأصفهاني: «المحادّة» : مفاعلة من لفظ الحديدِ، والمراد المقاتلة بالحديد، سواء كان ذلك في الحقيقة، أو كان منازعة شديدة شبيهة للخصومة بالحديد.
فصل في مناسبة الآية لما قبلها
لما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادّين المخالفين لها، قال المفسرون: المُحادة: المُعَاداة والمخالفة في الحدود، وهو كقوله تعالى:{ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] .
وقيل: يحادون الله، أي: أولياء الله كما جاء في الخبر، «مَنْ أهَانَ لِي وليًّا فقدْ بَارَزَني بالمُحاربةِ» .
قال الزجاج: المحادّة: أن تكون في حد يخالف حد صاحبك.
والضمير في قوله «يحادّون» يمكن أن يرجع إلى المُنافقين، فإنهم كانوا يوادّون الكافرين، ويظاهرونهم على النبي صلى الله عليه وسلم َ فأذلهم الله سبحانه وتعالى، ويحتمل أن يرجع
لجميع الكُفَّار، فأعلم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم َ أنهم كبتوا، أي خذلوا.
قال المبرد رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: كبت الله فلاناً، أي: أذلّه، والمردود بالذل يقال له مكبوت.
وقال أبو عبيدة والأخفش: أهلكوا.
وقال قتادة: خزوا كما خزي الذين من قبلهم.
وقال ابن زيد: عذبوا.
وقال السدي: لعنوا، وقال الفراء: غيظوا يوم الخندق.
وقيل: يوم «بدر» .
وقيل معنى كبتوا: أي سيكبتون، وهو بشارة من الله للمؤمنين بالنصر، وأخرج الكلام بلفظ الماضي تقريباً للمخبر عنه.
وقيل: لغة مذحج.
ويحتمل أن يكون لتحقق وقوعه، والمراد بالذين من قبلهم أعداء الرسل - صلوات الله وسلامه عليهم - {وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} فيمن حاد الله ورسوله من الذين من قبلهم فيما فعلنا بهم {وَلِلْكَافِرِينَ} بهذه الآيات {عَذَابٌ مُّهِينٌ} يذهب بعزّهم وكبرهم، فبين تعالى أن عذاب المحاربين في الدنيا الذُّل والهوان، وفي الآخرة العذاب الشديد.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً} .
فيه أوجه:
أحدها: أنه منصوب ب «عذاب مهين» .
الثاني: أنه منصوب بفعل مقدر، فقدره أبو البقاء: يهانون أو يعذبون، أو استقر ذلك يوم يبعثهم، وقدره الزمخشري ب «اذكر» قال: تعظيماً لليوم.
الثالث: أنه منصوب ب «لهم» . قاله الزمخشري، أي: بالاستقرار الذي تضمنه لوقوعه خبراً.
الرابع: أنه منصوب ب «أحصاه» ، قاله أبو البقاء، وفيه قلق؛ لأن الضمير في «أحصاه» يعود على «ما عملوا» . قوله:«جَمِيعاً» أي: الرجال والنساء، أي: كلهم لا يترك منهم واحداً.
وقيل: مجتمعين في حال واحدة {فَيُنَبِّئُهُم} أي: يخبرهم بما عملوا في الدنيا تخجيلاً لهم وتوبيخاً.
{أَحْصَاهُ الله} عليهم في صحائف أعمالهم «ونَسُوهُ» حتى ذكرهم به في صحائفهم ليكون أبلغ في الحجة عليهم.
{والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي شاهد مطلع وناظر لا يخفى عليه شيء.
ثم إنه - تعالى - أكد بيان كونه عالماً بكل المعلومات، فقال جل ذكره:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} فلا يخفى عليه سرّ ولا علانية.
قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نجوى} .
«يكون» تامة، و «من نجوى» فاعلها، و «من» مزيدة فيه، و «نجوى» في الأصل مصدر، فيجوز أن يكون باقياً على أصله، ويكون مضافاً لفاعله، أي: ما يوجد من تناجي ثلاثة، ويجوز أن يكون على حذف، أي: من ذي نَجْوَى، ويجوز أن يكون أطلق على الأشخاص المتناجين مبالغة.
فعلى هذين الوجهين ينخفض «ثلاثة» على أحد وجهين:
إما البدل من «ذوي» المحذوفة، وإما الوصف لها على التقدير الثاني، وإما البدل، أو الصفة ل «نجوى» على التقدير الثالث.
وقرأ ابن أبي عبلة: «ثلاثة» ، و «خمسة» نصباً على الحال، وفي صاحبها وجهان:
أحدهما: أنه محذوف مع رافعه تقديره: يتناجون ثلاثة، وحذف لدلالة «نجوى» .
والثاني: أنه الضمير المستكن في «نجوى» إذا جعلناها بمعنى المتناجين [قاله الزمخشري، رحمه الله.
قال مكي: «ويجوز في الكلام رفع» ثلاثة «على البدل من موضع» نجوى «؛ لأن موضعها رفع و» من «زائدة، ولو نصبت» ثلاثة «على الحال من الضمير المرفوع إذا جعلت» نجوى «بمعنى المتناجين جاز في الكلام» ] .
قال شهاب الدين: «ولا يقرأ به فيما علمت، وهو جائز في غير القرآن كما قال، وأما النصب فقد قرىء به، وكأنه لم يطلع عليه» .
قوله: {إلا هو رابعهم} ، {إلا هو خامسهم} ، {إلا هو معهم} كل هذه الجمل بعد «إلا» في موضع نصب على الحال أي: ما يوجد شيء من هذه الأشياء إلا في حال من هذه الأحوال، فالاستثناء مفرغ من الأحوال العامة.
وقرأ أبو جعفر: «ما تكون» بتاء التأنيث لتأنيث النجوى.
قال أبو الفضل: إلا أنَّ الأكثر في هذا الباب التذكير على ما في قراءة العامة؛ لأنه مسند إلى «من نجوى» وهو اسم جنس مذكر.
قال ابن جني: التذكير الذي عليه العامة هو الوجه؛ لوقوع الفاصل بين الفعل والفاعل، وهو كلمة «من» ، ولأن تأنيث النجوى غير حقيقي.
قوله: «ولا أكْثرَ» .
العامة على الجر عطفاً على لفظ «نجوى» .
وقرأ الحسن، والأعمش، وابن أبي إسحاق، وأبو حيوة ويعقوب:«ولا أكثر» بالرفع، وفيه وجهان:
أحدهما: أنه معطوف على موضع «نجوى» لأنه مرفوع، و «من» مزيدة، فإن كان مصدراً كان على حذف مضاف كما تقدم، أي: من ذوي نجوى، وإن كان بمعنى متناجين، فلا حاجة إلى ذلك.
الثاني: «أدنى» مبتدأ، و {إلَاّ هو معهم} خبره، فيكون «ولا أكثر» عطفاً على المبتدأ، وحينئذ يكون «ولا أدنى» من باب عطف الجمل لا المفردات.
وقرأ الحسن ويعقوب أيضاً ومجاهد والخليل: «ولا أكبر» بالباء الموحدة والرفع على ما تقدم.
وزيد بن علي: «ينبيهم» - بسكون النون - من أنبأ إلَاّ أنه حذف الهمزة وكسر الهاء.
وقرىء كذلك إلا أنه بإثبات الهمزة وضم الهاء، والعامة بالتشديد من «نبأ» .
فصل في النجوى
«النَّجْوَى» : التناجي، وهو السرار وهو مصدر يوصف به، يقال: قوم نجوى، وذوو نجوى.
قال تعالى: {وَإِذْ هُمْ نجوى} [الإسراء: 47] .
قال الزجاج: «النجوى» مشتقة من النجوة وهي ما ارتفع وتنجى، فالكلام المذكور سرًّا، لما خلا عن استماع الغير صار كالأرض المرتفعة، فإنها لارتفاعها خلت عن اتصال الغير، والسرار ما كان بين اثنين.
قوله: {إِلَاّ هُوَ رَابِعُهُمْ} أي: يعلم، ويسمع نجواهم بدليل افتتاح الآية بالعلم.
فإن قلت: ما الحكمة في ذكره سبحانه وتعالى الثلاثة والخمسة، وأهمل الأربعة؟ .
فالجواب من وجوه:
الأول: أن ذلك إشارة إلى كمال الرحمة؛ لأن الثلاثة إذا اجتمعوا، فإذا تناجى اثنان
منهم بقي الثالث ضائعاً وحيداً، فيضيق عليه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم َ:«إذَا كُنْتُمْ ثلاثَةً فَلا يَتَنَاجَى اثْنَان دُونَ الثَّالثِ إلَاّ بإذْنِهِ فإنَّ ذلِكَ يُحْزنهُ» .
فكأنه - تعالى - يقول: أنا جليسك وأنيسك، وكذا الخمسة إذا اجتمعوا بقي الخامس وحيداً فريداً.
الثاني: أن العدد الفرد أشرف من الزوج؛ لأن الله تبارك وتعالى وتر يحب الوتر، فخص أعداد الفرد بالذكر تنبيهاً على أنه لا بد من رعاية الأمور الإلهية في جميع الأمور.
الثالث: أن أقل ما لا بد منه في المشاورة التي يكون الغرض منها تمهيد مصلحة ثلاثة حتى يكون الاثنان كالمتنازعين في النفي والإثبات، والثالث كالحاكم بينهما، فحينئذ تكمل المشورة، ويتم ذلك الغرض، فلهذا السبب لا بد وأن يكون أرباب المشورة عددهم فرداً، فذكر الله - تعالى - الفردين الأولين، واكتفى بذكرهما تنبيهاً على الباقي.
الرابع: أن الآية نزلت في قوم منافقين اجتمعوا على التناجي، وكانوا على هذين العددين.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في ربيعة، وحبيب بن أبي عمرو، وصفوان بن أمية كانوا يتحدّثون، فقال أحدهم: هل يعلم الله ما نقول؟ وقال الثالث: يعلم البعض.
الخامس: أنه في مصحف عبد الله بن مسعود: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلَاّ الله رابعهم، ولا أربعة إلا الله خامسهم، ولا خمسة إلا الله سادسهم، ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم إذا أخذوا في التناجي} .
قوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة} أي: يحاسب على ذلك، ويجازي عليه.
{إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وهذا تحذير من المعاصي، وترغيب في الطاعات.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى} الآية.
قيل: هم اليهود.
وقيل: هم المنافقون.
وقيل: فريق من الكفار.
وقيل: فريق من المسلمين، لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال:«كنا ذات ليلةٍ نتحدَّث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقال:» مَا هَذِهِ النَّجْوَى «؟ فقلنا: تُبْنَا إلى الله يا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إنا كُنَّا في ذكر المسيخ، يعني: الدجال فرقاً منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:»
ألا أخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أخْوَفُ عِنْدِي مِنْهُ؟ «قلنا: بلى، يا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، قال:» الشِّرْكُ الخَفِيُّ أن يَقُومَ الرَّجلُ يعْمَلُ لمكانِ رَجُل «ذكره الماوردي.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون للمؤمنين، ويتغامزون بأعينهم، فقال المؤمنون: لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل، أو مصيبة، أو هزيمة؛ ويسوؤهم ذلك، وكثرت شكواهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا، فنزلت الآية.
وقال مقاتل: كان بين النبي صلى الله عليه وسلم َ وبين اليهود موادعة، فإذا مرَّ بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظنّ المؤمن شرًّا، فيعرج عن طريقه فنهاهم الله - سبحانه - فلم ينتهوا فنزلت.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم َ فيسأله الحاجة ويناجيه، والأرض يومئذ خرب فيتوهّموا أنه يناجيه في حرب أو بليَّة أو أمر فيفزعون لذلك فنزلت.
قال ابن الخطيب رحمه الله: والأولى أن تكون نزلت في اليهود؛ لأنه عز وجل حكى عنهم، فقال:{وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} وهذا إنما وقع من اليهود، كانوا إذا سلموا على الرسول صلى الله عليه وسلم َ قالوا: السَّامُ عليكم، يعنون الموت.
قوله: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} أي: يرجعون إلى المُناجاة التي نهوا عنها.
قوله:» ويَتَنَاجَوْنَ «. قرأ حمزة:» وينْتَجُون «بغير ألف من» الانتجاء «من» النجوى «على وزن» يَفْتَعلُون «.
والباقون:» ويتناجون «من» التَّناجي «من» النجوى «أيضاً.
قال أبو علي: والافتعال، والتفاعل يجريان مجرى واحداً، ومن ثمَّ صححوا» ازْدَوجُوا واعتورُوا «لما كانا في معنى تزاوجوا وتعاوروا، وجاء
{حتى
إِذَا
اداركوا} [الأعراف: 28] وادَّرَكُوا.
قال شهاب الدين: ويؤيد قراءة العامة الإجماع على تناجيهم، و «فلا تتناجوا» و «تناجوا» ، فهذا من «التفاعل» لا غير، إلَاّ ما روي عن عبد الله، أنه قرأ {إذا انْتَجَيْتُم فلا تنتجوا} .
ونقل أبو حيان عن الكوفيين والأعمش: «فلا تنتجوا» كقراءة عبد الله.
وأصل: «تَنْتَجُونَ» «تَنْتَجِيونَ» و «تَنَاجَوْن» فاستثقلت الضَّمَّة على الياء، فحذفت فالتقى ساكنان فحذفت لالتقائهما، أو تقول: تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله، فقلبت ألفاً فالتقى ساكنان، فحذف أولهما وبقيت الفتحة دالة على الألف.
قوله: {بالإثم والعدوان} .
قرأ أبو حيوة: «بالعِدْوان» بكسر العين.
والمراد «بالإثم والعدوان» : الكذب والظلم، {وَمَعْصِيَتِ الرسول} صلى الله عليه وسلم َ مخالفته.
وقرأ الضَّحاك: «ومعصيات الرَّسُول» صلى الله عليه وسلم َ.
قوله: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} .
قال القرطبي: لا خلاف بين أهل النقل أن المراد به اليهود، وكانوا إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم َ قالوا: السَّام عليك يعنون الموت. كما روت عائشة رضي الله عنها «أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم َ فقالوا: السَّام عليك، قال النبي صلى الله عليه وسلم َ:» عَلَيْكُمْ «فقالت عائشة رضي الله عنها: السَّام عليكم، ولعنة الله، وغضبه عليكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:» مَهْلاً يا عَائِشَةُ، عليْكِ بالرِّفْقِ وإيَّاكِ والعُنْفَ والفُحْشَ «، قالت: أو لم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ عند ذلك» أو لَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ ورَدَدْتُ عليْهِمْ فَيُسْتجَابُ لي فيْهِمْ ولا يُسْتجابُ لهُمْ فِيْ؟ «.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم َ عند ذلك:» إذَا سَلَّمَ عَليْكُمْ أهْلُ الكتابِ، فقُولُوا: علَيْكَ مَا قُلْتَ «، فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} » .
وروى أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «إذَا سَلمَ علَيْكُمْ أهْلُ الكتابِ فقُولُوا: وعَليْكُمْ» بالواو.
فقال بعض العلماء رضي الله عنهم: إن الواو العاطفة تقتضي التشريك، فيلزم منه أن يدخل معهم فيما دعوا به علينا من الموت، أو من سآمة ديننا وهو الهلاك، يقال: سَئِمَ يَسْأمُ سَآمةً وسَآماً.
وقال بعضهم «الواو» زائدة كما زيدت في قول الشاعر: [الطويل]
4732 -
فَلَمَّا أجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى.....
…
...
…
...
…
...
…
... .
أي: لما أجزنا انتحى، فزاد «الواو» .
وقال آخرون: هي للاستئناف، كأنه قال: والسام عليكم، وقال آخرون: هي على بابها من العطف ولا يضرنا ذلك؛ لأنا نجاب عليهم ولا يجابون علينا كما تقدم في قوله صلى الله عليه وسلم َ ل «عائشة» رضي الله عنها.
فصل في رد السَّلام على أهل الذمة
اختلفوا في ردّ السَّلام على أهل الذِّمة، فقال ابن عباس والشعبي وقتادة: هو واجب لظاهر الأمْرِ بذلك.
وقال مالك رضي الله عنه: ليس بواجب، فإن رددت فقل: عليك.
وقال بعضهم: نقول في الرد: علاك السَّلام، أي: ارتفع عنك.
وقال بعض المالكية: تقول في الرد: السلام عليك - بكسر السين - يعني الحجارة.
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا} .
هذه الجملة التحضيضية في موضع نصب بالقول، ومعنى الآية: أن اليهود - لعنهم الله - لما كانوا يقولون: السام عليك، ويوهمون أنهم يسلمون، وكان النبي صلى الله عليه وسلم َ يرد عليهم بقوله:«عليكم» فإذا خرجوا قالوا: «لولا يعذبنا الله» أي: هلا يعذبنا بما نقول، أي: لو كان نبيًّا لعذبنا الله بما نقول.
وقيل: قالوا: إنه يرد علينا، ويقول: وعليكم السَّام، فلو كان نبيًّا لاستجيب له فينا ومتنا، وهذا موضع تعجب منهم، فإنهم كانوا أهل الكتاب، وكانوا يعلمون أنَّ الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - قد يغضبون، فلا يعاجل من يغضبهم بالعذاب.
قوله: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ} أي: كافيهم جهنم عقاباً غداً {يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير} .
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان} .
أي: كفعل المنافقين واليهود.
قال مقاتل: أراد بقوله: «آمنوا» المنافقين آمنوا بلسانهم.
وقال عطاء: يريد الذين آمنوا بزعمهم قال لهم: لا تتناجوا بالإثم والعدوان، ومعصية الرسول صلى الله عليه وسلم َ.
وقيل: يا أيها الذين آمنوا بموسى صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: {وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى} والمراد بالبر: الطاعة، وبالتقوى: العفاف عما نهى الله عنه.
{واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [أي] : تجمعون في الآخرة.
قوله تعالى: {إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ} . تقدم قراءتنا «ليحزن» بالضم والفتح في «آل عمران» [آل عمران 176] .
وقرىء: «بفتح الياء والزاي» على أنه مسند إلى الموصول بعده، فيكون فاعلاً.
فصل في تحرير معنى الآية
قال ابن الخطيب: الألف واللام في لفظ «النجوى» لا يمكن أن يكون للاستغراق؛ لأن في «النجوى» ما يكون من الله ولله، بل المراد منه: المعهود السابق، وهو النجوى بالإثم ليحزن المؤمنين إذا رأوهم متناجين.
قال المفسرون: معنى قوله تعالى: {إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ} وتوهموا أن المسلمين أصيبوا في السَّرايا، أو إذا رأو اجتماعهم على مكايدة المسلمين، وربما كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم َ فيظن المسلمون أنهم ينتقصونهم عند النبي صلى الله عليه وسلم َ {وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ} أي: التناجي {شَيْئاً إِلَاّ بِإِذْنِ الله} أي: بمشيئته.
وقيل: بعلمه.
وعن ابن عبَّاس رضي الله عنهما بأمره.
{وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أي: يكلون أمرهم إليه، ويفوضون [جميع] شئونهم إلى عونه.
فصل في النهي عن التناجي
روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال: «إذَا كَانَ ثلاثةٌ فَلا يَتَنَاجَى اثْنانِ دُونَ الواحدِ» .
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «إذَا كَانَ ثَلاثَةٌ فَلا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الآخَرِ حتَّى يَخْتلطُوا بالنَّاسِ من أجْلِ أنْ يُحْزِنَهُ» .
فبين في هذا الحديث غاية المنع، وهو أن يجد الثالث من يتحدث معه كما فعل ابن عمر، وذلك أنه كان يتحدث مع رجل، فجاء آخر يريد أن يناجيه فلم يُناجِهِ حتى دعا رابعاً، فقال له وللأول: تأخَّرا وناجى الرجل الطَّالب للمناجاة. خرجه في «الموطأ» ونبه فيه على العلة بقوله: «مِنْ أجْلِ أن يُحْزِنَهُ» أي: يقع في نفسه ما يحزن لأجله، وذلك بأن يقدر في نفسه أن الحديث عنه بما يكره، أو أنهم لم يروه أهلاً بأن يشركوه في حديثهم، إلى غير ذلك من ألقيات الشيطان، وأحاديث النفس، ويحصل ذلك كله من بقائه وحده، فإذا كان معه غيره أمن ذلك، وعلى هذا يستوي في ذلك كل الأعداد، فلا يتناجى أربعة دون واحد، ولا عشرة ولا ألف مثلاً، لوجود ذلك المعنى في حقه، بل وجوده في العدد الكثير أمكن وأوقع، فيكون بالمنع أولى، وإنما خص الثلاثة بالذكر؛ لأنه أول عدد يتأتى ذلك فيه.
قال القرطبي: «وظاهر الحديث يعم جميع الأزمان والأحوال» .
وذهب إليه ابن عمر ومالك والجمهور وسواء كان التناجي في مندوب، أو مباح، أو واجب فإن الحزن يقع به.
وقد ذهب بعض الناس إلى أن ذلك في أول الإسلام؛ لأن ذلك كان حال المنافقين، فيتناجى المنافقون دون المؤمنين، فلما فشا الإسلام سقط ذلك.
وقال بعضهم: ذلك خاصّ بالسفر، وفي المواضع التي لا يأمن الرجل فيها صاحبه، فأما في الحضر وبين العمارة فلا؛ لأنه يجد من يعينه، بخلاف السفر فإنه مظنَّة الاغتيال وعدم الغوث. والله أعلم.
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس} الآية.
وجه التعلق، لما نهى المؤمنين عما يكون سبباً للتباغُضِ والتنافر، أمرهم الآن بما يصير سبباً لزيادة المحبَّة والمودة.
وقال القرطبي: لما بين أنَّ اليهود يحيوه بما لم يحيّه الله، وذمّهم على ذلك وصل به الأمر بتحسين الأدب في مجالسة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حتى لا يضيقوا عليه المجلس، وأمر المسلمين بالتَّعاطف والتَّآلف حتى يفسح بعضهم لبعض حتى يتمكّنوا من الاستماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ والنظر إليه.
فصل في نزول الآية
قال قتادة ومجاهد والضحاك رضي الله عنهم: كانوا يتنافسون في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فأمرهم أن يفسح بعضهم لبعض.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: المراد بذلك مجالس القتال إذا اصطفوا للحرب.
وقال الحسن ويزيد بن أبي حبيب: كان النبي صلى الله عليه وسلم َ إذا قاتل المشركين تشاح أصحابه رضي الله عنهم على الصف الأول فلا يوسع بعضهم لبعض رغبة في القتال والشهادة، فنزلت، فيكون كقوله تعالى:{مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] .
وقال مقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم َ في «الصفة» وكان في المكان ضيق، وكان يكرم أهل «
بدر» من المهاجرين والأنصار فجاءنا أناس من أهل «بدر» وقد سبقوا إلى المجلس فقاموا قبالة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ما يحملهم على القيام، وشقّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقال صلى الله عليه وسلم َ لمن حوله من غير أهل «بدر» :«قُمْ يا فُلانُ» بعدد القائمين من أهل «بدر» فشقّ ذلك على من قام، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم َ الكراهة في وجوههم. فقال المنافقون: والله ما عدل على هؤلاء أن قوماً أخذوا مجالسهم، وأحبوا القرب منه، فأقامهم وأجلس من أبْطَأ، فنزلت الآية يوم الجمعة.
وروي عن ابن عبَّاس قال نزلت الآية في ثابت بن قيس بن شماس، وذلك أنه دخل المسجد، وقد أخذ القوم مجالسهم، وكان يريد القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم َ للوَقْر الذي كان في أذنيه، فوسعوا له حتى قرب من النبي صلى الله عليه وسلم َ ثم ضايقه بعضهم وجرى بينهم وبينه كلام ووصف الرسول صلى الله عليه وسلم َ محبته للقرب منه ليسمع كلامه، وإن فلاناً لم يفسح له، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: {تَفَسَّحُواْ فِي المجالس} .
قرأ الحسن، وداود بن أبي هند، وعيسى، وقتادة:«تَفَاسحُوا» ، والباقون:«تَفَسَّحوا» أي: توسعوا والفُسْحة: السَّعة، وفسح له: أي وسع له، ومنه قولهم:«بلد فسيحٌ» ولك في كذا فسحة، وفسح يَفْسَحُ، مثل:«مَنَعَ يَمْنَعُ» أي: وسع في المجلس، و «فَسُحَ يَفْسُحُ فَسَاحَةً» مثل:«كَرُمَ يَكْرُمُ كرامة» أي: صار واسعاً، ومنه مكان فسيح.
وقرأ عاصم: «في المجالس» جمعاً اعتباراً بأن لكلّ واحد منهم مجلساً.
والباقون: بالإفراد إذ المراد مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم َ وهو أحسن من كونه واحداً أريد به الجمع، وقرىء:«في المَجْلَس» - بفتح اللام - وهو المصدر، أي: تفسحوا في جلوسكم، ولا تتضايقوا.
فصل في أن الآية عامة في كل مجلس خير
قال القرطبي: الصحيح في الآية أنها عامة في كل مجلس اجتمع المسلمون فيه
للخير، والأجر، سواء كان مجلس حَرْب أو ذكر، أو مجلس يوم الجمعة، وإن كل واحد أحق بمكانه الذي سبق إليه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ سَبَقَ إلى مَا سَبَقَ إليْهِ فَهُوَ أحقُّ بِهِ ولكِنْ يُوسِّعُ لأخيهِ ما لم يتأذَّى بذلكَ فيُخْرجهُ الضَّيْقُ من موضعه» .
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال: «لا يُقِيمُ الرَّجلُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسُ فِيْه» .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه نهى أن يقام الرجل من مجلسه، ويجلس فيه آخر، ولكن تفسّحوا وتوسّعوا.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يكره أن يقيم الرجل من مجلسه، ثم يجلس مكانه.
وروى أبو هريرة عن جابر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال: «لا يُقِيمنَّ أحَدُكُمْ أخَاهُ يَوْمَ الجُمعَةِ ثُمَّ يُخَالفُ إلى مَقْعَدهِ، فَيقْعُدَ فِيْهِ، ولكِنْ يقُولُ: أفسحوا» .
فصل
إذا قام من مكانه، فقعد غيرهُ نظرنا، فإن كان الموضع الذي قام إليه مثل الأول في سماع كلام الإمام، لم يكره له ذلك، وإن كان أبعد من الإمام كره له ذلك؛ لأن فيه تفويت حظه.
فصل
إذا أمر رجل إنساناً أن يبكر إلى الجامع، فيأخذ له مكاناً يقعد فيه لا يكره، فإذا جاء الآمر يقوم من الموضع؛ لأن ابن سيرينَ كان يرسل غلامه إلى مجلس له في يوم الجمعة، فيجلس فيه، فإذا جاء قام له منه، وعلى هذا من أرسل بساطاً أو سجَّادة، فيبسط له في موضع من المسجد أنه لا يزعج منه.
وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال: «إذَا قَامَ أحَدُكُمْ» - وفي حديث
أبي عوانة: «مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلسهِ - ثُمَّ رَجَعَ إليْهِ فَهُوَ أحَقُّ بِهِ» ذكره القرطبي في «تفسيره» .
قوله: {يَفْسَحِ الله لَكُمْ} .
قال ابن الخطيب: هذا مطلق فيما يطلب النَّاس الفسحة فيه من المكان والرزق والصدر والقبر والجنة، قال: ولا ينبغي للعاقل أن يقيد الآية بالتفسُّح في المجلس بل المراد منه إيصال الخير إلى المسلم وإدخال السرور في قلبه.
قوله: {وَإِذَا قِيلَ انشزوا فانشزوا} .
قرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر بخلاف عنه بضم شين «انْشُزُوا» في الحرفين، والباقون: بكسرهما، وهما لغتان بمعنى واحد، يقال: نشز أي: ارتفع، يَنْشِزُ ويَنْشُزُ ك «عَرَشَ يَعْرِشُ ويَعْرُشُ؛ وعَكَفَ يَعْكفُ ويَعْكُفُ» وتقدم الكلام على هذا في «المائدة» .
فصل في معنى انشزوا
قال ابن عباس: معناه إذا قيل لكم: ارتفعوا فارتفعوا.
قال مجاهد والضحاك: إذا نودي للصَّلاة فقوموا إليها، وذلك أن رجالاً تثاقلوا عن الصلاة، فنزلت.
وقال الحسن ومجاهد أيضاً: انهضوا إلى الحرب.
وقال ابن زيد والزَّجَّاج: هذا في بيت النبي صلى الله عليه وسلم َ كان كل رجل منهم يحب أن يكون آخر عهده بالنبي صلى الله عليه وسلم َ فقال الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انشزوا} عن النبي صلى الله عليه وسلم َ «فانْشُزُوا» أي ارتفعوا عنه فإن له حوائج فلا تمكثوا.
وقال قتادة: معناه: أجيبوا إذا دعيتم إلى أمر بالمعروف.
قال القرطبي: «وهذا هو الصحيح لأنه يعم، والنَّشْز: الارتفاع، مأخوذ من نَشْزِ الأرض، وهو ارتفاعها» .
قوله: {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ} بطاعاتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ وقيامهم في مجالسهم، وتوسّعهم لإخوانهم.
وقوله تعالى: {والذين أُوتُواْ العلم} يجوز أن يكون معطوفاً على «الَّذين آمنوا» ، فهو من عطف الخاص على العام؛ لأن الذين أوتوا العلم بعض المؤمنين منهم، ويجوز أن يكون «الذين أوتوا» من عَطْف الصفات، أي: تكون الصفتان لذات واحدة، كأنه قيل: يرفع الله المؤمنين العلماء، و «درجات» مفعول ثان. وقد تقدم الكلام على نحو ذلك في «الأنعام» .
وقال ابن عباس رضي الله عنه: تم الكلام عند قوله تعالى: «منكم» ، وينصب «الذين أوتوا» بفعل مضمر، أي: ويخصّ الذين أوتوا العلم بدرجات، أو يرفعهم درجات.
فصل في تحرير معنى الآية
قال المفسرون في هذه الآية: إن الله - تعالى - رفع المؤمن على من ليس بمؤمن، والعالم على من ليس بعالم.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: مدح الله العلماء في هذه الآية والمعنى: أن الله - تعالى - يرفع الذين أوتوا العلم على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم درجات في دينهم إذا فعلوا ما أمروا به.
وقيل: كان أهل الغنى يكرهون أن يزاحمهم من يلبس الصوف، فيسبقون إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم َ فالخطاب لهم.
«ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ رجُلاً من الأغنياء يقبض ثوبه نفوراً من بعض الفقراء أراد أن يجلس إليه، فقال:» يا فُلَانُ أخَشِيْتَ أنْ يتعدَّا غِناكَ إليْهِ أوْ فَقْرُه إلَيْكَ «» .
وبيّن في هذه الآية أن الرِّفعة عند الله - تعالى - بالعلم والإيمان لا بالسَّبْق إلى صدور المجالس.
وقيل: أراد بالذين أوتوا العلم الذين قرأوا القرآن.
وروى يحيى بن يحيى عن مالك رضي الله عنه {يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ}
الصحابة، {والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ} يرفع الله - تعالى - بها العالم والطالب.
قال القرطبي: ثبت في الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقدم عبد الله بن عباس على الصحابة فكلموه في ذلك، فدعاهم ودعاه، وسألهم عن تفسير:{إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1] فسكتوا فقال ابن عباس: هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ أعلمه الله إيَّاه، فقال عمر: ما أعلم منها إلا ما تعلم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «بَيْنَ العَالمِ والعَابدِ مائَةُ دَرَجَةٍ، بَيْنَ كُلِّ دَرَجتيْنِ حَضْر الجَوادِ المُضمَّرِ سَبْعِيْنَ سَنَة» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «فَضْلُ العَالمِ عَلى العَابِدِ كَفضْلِ القَمَرِ ليْلَةَ البَدْرِ عَلى سَائِرِ الكَواكِبِ» .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «يَشْفَعُ يَوْمَ القِيامَةِ ثلاثةٌ: الأنْبِيَاءُ ثُمَّ العلماءُ ثُمَّ الشُّهداءُ» .
فأعظم بمنزلة هي واسطة بين النبوة والشهادة بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: «خُيِّرَ سليمان - صلوات الله وسلامه عليه - بين العلم والمال والملك، فاختار العلم فأعطي المال والملك معه» .
«ومر النبي صلى الله عليه وسلم َ بمجلسين في مسجده، أحد المجلسين يدعون الله عز وجل ويرغبون إليه، والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:» كِلَا المَجْلِسيْنِ عَلَى خَيْرٍ، وأحَدُهُمَا أفْضَلُ مِنْ صَاحبهِ، أمَّا هؤلاءِ فَيَدْعُونَ اللَّهَ عز وجل ويرغبُون إليه، وأمَّا هؤلاءِ فيتعلَّمونَ الفقهَ ويُعَلِمُّونَ الجاهلَ، فهؤلاءِ أفضلُ، وإنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّماً «ثم جلس فيهم» .
قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} الآية.
قال ابن عباس في سبب النزول: إن المسلمين كانوا يكثرون المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حتى شقوا عليه فأنزل الله - تعالى - هذه الآية فكفَّ كثير من الناس.
وقال الحسن: إن قوماً من المسلمين كانوا يستخلون بالنبي صلى الله عليه وسلم َ يناجونه، فظن بهم قوم من المسلمين أنهم ينتقصونهم في النَّجوى، فشق ذلك عليهم، فأمرهم الله - تعالى - بالصَّدقة عند النجوى ليقطعهم عن استخلائه.
وقال زيد بن أسلم: إن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم َ ويقولون: إنه أذُن يسمع كلَّ ما قيل له، وكان لا يمنع أحداً مُناجاته، فكان ذلك يشقّ على المسلمين؛ لأن الشيطان كان يلقي في أنفسهم أنهم ناجوه بأن جموعاً اجتمعت لقتاله، فأنزل الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول} [المجادلة: 9] الآية، فلم ينتهوا فأنزل الله هذه الآية فانتهى أهل الباطل عن النجوى؛ لأنهم لم يقدموا بين يدي نجواهم صدقة، وشقّ ذلك على أهل الإيمان، وامتنعوا عن النجوى لضعف مقدرة كثير منهم عن الصدقة، فخفف الله - تعالى - عنهم بما بعد الآية.
قال ابن العربي: وهذا الخبر يدل على أن الأحكام لا تترتب بحسب المصالح، فإن الله - تعالى - قال:{ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} ثم نسخه مع أنه كونه خيراً وأطهر، وهذا يرد على المعتزلة في التزام المصالح.
فصل فيمن اعتبر الصدقة واجبة أو مندوبة
ظاهر الآية يدلّ على أن تقديم الصَّدقة كان واجباً؛ لأن الأمر للوجوب، ويؤكد ذلك بعده قوله تعالى:{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وهذا لا يقال إلا فيما بفقده يزول وجوبه.
وقيل: كان مندوباً بقوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ} وهذا إنما يستعمل في التطوع لا في الواجب، ولأنه لو كان واجباً لما أزيل وجوبه لكلام متصل به وهو قوله تعالى:{أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ} [إلى آخر الآية] .
وأجيب عن الأول: أن المندوب كما يوصف بأنه خير وأطهر، فكذلك أيضاً يوصف به الواجب.
وعن الثاني: أنه لا يلزم من اتصال الآيتين في التلاوة كونهما متَّصلتين في النزول كما قيل في الآية الدَّالة على وجوب الاعتداد أربعة أشهر وعشراً أنها ناسخة للاعتداد بحول، وإن كان الناسخ متقدماً في التلاوة على المنسوخ. انتهى.
فصل
اختلفوا في مقدار تأخُّر الناسخ عن المنسوخ في هذه الآية، فقال الكلبي رحمه الله: ما بقي ذلك التكليف إلا ساعة من النهار ثم نسخ.
وقال مقاتل بن حيان: بقي ذلك التكليف عشرة أيام، ثم نسخ لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: إنَّ في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي، ولا عمل بها أحد بعدي كان لي دينار، فاشتريت به عشرة دراهم، وكلما ناجيت النبي صلى الله عليه وسلم َ قدمت بين يدي نجواي درهماً، ثم نسخت فلم يعمل بها.
وروي عن ابن جريج، والكلبي، وعطاء عن ابن عباس رضي الله عنهم أنَّهم نهوا عن المُناجاة حتى يتصدقوا، فلم يُناج أحد إلَاّ عليٌّ تصدق بدينار، ثم نزلت الرخصة.
وقال ابن عمر: لقد كانت لعلي رضي الله عنه ثلاثة، لو كانت لي واحدة منهن كانت أحب إليَّ من حمر النعم: تزويجه فاطمة رضي الله عنها وإعطاؤه الرَّاية يوم «خيبر» ، وآية النجوى.
{ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ} من إمساكها، «وأطْهَرُ» لقلوبكم من المعاصي {فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ} يعني: الفقراء {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
روى الترمذي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «لما نزلت {يا أيها الذين
آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} سألت النبي صلى الله عليه وسلم َ فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ:» مَا ترى دِيْنَاراً؟ «قلت: لا يطيقونه، قال:» نِصْف دِيْنَارٍ «، قلت: لا يطيقونه، قال:» فَكَمْ «؟ قلت: شعيرة، قال:» إنَّك لزَهِيدٌ «فنزلت {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ} الآية» .
ومعنى قوله: «شعيرة» من ذهب، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم َ:«إنَّك لزَهِيْدٌ» أي: لقليل المال فقدّرت على حسب حالك.
قال ابن العربي: «وهذا يدلّ على نسخ العبادة قبل فعلها، وعلى النَّظر في المقدّرات بالقياس» .
قال القرطبي: «والظَّاهر أنَّ النسخ إنما وقع بعد فعل الصَّدقة كما تقدم» .
فصل فيمن استدل بالآية على عدم وقوع النسخ
أنكر أبو مسلم وقوع النسخ، وقال: إنَّ المنافقين كانوا يمتنعون عن بذل الصدقات، وإن قوماً من المنافقين تركوا النفاق وآمنوا ظاهراً وباطناً إيماناً حقيقيًّا، فأراد الله أن يميزهم عن المنافقين، فأمر بتقديم الصَّدقة على النَّجْوَى ليتميز هؤلاء الذين آمنوا على من بقي على نفاقه الأصلي، فلما كان هذا التكليف لأجل هذه المصلحة المقدرة لذلك الوقت، لا جرم يقدر هذا التكليف بذلك الوقت.
قال ابن الخطيب: وحاصل قول أبي مسلم: أن ذلك التكليف مقدر بغاية مخصوصة، ووجب انتهاؤه عند الانتهاء إلى تلك الغاية المخصوصة، ولا يكون هذا نسخاً، وهذا كلام حسن، والمشهور عند الجمهور أنه منسوخ بقوله:{أَأَشْفَقْتُمْ} .
وقيل: منسوخ بوجوب الزكاة.
قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ} .
هذا استفهام معناه التقرير.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: «أأشفقتم» أي: أبخلتم بالصدقة.
وقيل: خفتم.
و «الإشفاق» : الخوف من المكروه، أي: خفتم بالصدقة، وشقّ عليكم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات.
قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} . في «إذ» هذه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها على بابها من المعنى: أنكم تركتم ذلك فيما مضى، فتداركوه بإقامة الصَّلاة. قاله أبو البقاء.
الثاني: أنها بمعنى «إذا» كقوله تعالى:
{إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 71] وتقدم الكلام فيه.
الثالث: أنها بمعنى «إن» الشرطية، وهو قريب مما قبله؛ إلا أن الفرق بين «إن» ، و «إذا» معروف.
فصل في معنى الآية
المعنى: فإن لم تفعلوا ما أمرتم به، {وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} أي: ونسخ الله ذلك الحكم، ورخص بكم في ألَاّ تفرطوا في الصَّلاة والزكاة، وسائر الطاعات، وهذا خطاب لمن وجد ما يتصدق به، وهذا يدل على جواز النسخ قبل الفعل.
قال القرطبي: وما روي عن علي رضي الله عنه ضعيف؛ لأن الله - تعالى - قال: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} وهذا يدلّ على أن أحداً لم يتصدق بشيء.
فصل في أنَّ الآية لا تدل على تقصير المؤمنين
فإن قيل: ظاهر الآية يدل على تقصير المؤمنين في ذلك التكليف، وبيانه من وجوه:
الأول: قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ} يدل على تقصيرهم.
الثاني: قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ} .
الثالث: قوله عز وجل: {وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} .
فالجواب: قال ابن الخطيب: ليس الأمر كما قلتم؛ لأن القوم لم يكلفوا بأن يقدموا على الصَّدقة، ويشتغلوا بالمناجاة، بل أمروا أنهم لو أرادوا المناجاة، فلا بد من تقديم الصَّدقة فمن ترك المناجاة، فلا يمكن أن يكون مقصراً، فأما لو قيل بأنهم ناجوا من غير تقديم الصدقة، فهذا أيضاً غير جائز؛ لأن المناجاة لا تمكن إلا إذا مكن الرسول صلى الله عليه وسلم َ من المناجاة فإذا لم يمكنهم من ذلك لم يقدروا على المناجاة، فعلمنا أن الآية لا تدل على صدور التقصير منهم.
فأما قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ} فلا يمنع من أنه - تعالى - علم ضيق صدور كثير منهم عن إعطاء الصدقة في المستقبل لو دام الوجوب. فقال هذا القول.
وأما قوله عز وجل: {وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} فليس في الآية أنه تاب عليهم من هذا التقصير، بل يحتمل أنكم إن كنتم تائبين راجعين إلى الله تعالى، وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة، فقد [كفاكم] هذا التَّكليف.
قوله تعالى {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
روي عن أبي عمرو: {خبير بِمَا يعْملُونَ} بالياء من تحت، والمشهور عنه كالجماعة بتاء الخطاب.
والمعنى: يحيط بأعمالكم ونيَّاتكم.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم} .
قال قتادة: هم المنافقون تولّوا اليهود.
وقال السدي ومقاتل: هم اليهود. {مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} يعني: المنافقين ليسوا من المؤمنين في الدين والولاء، ولا من اليهود والكافرين، كما قال جل ذكره:{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لَا إلى هؤلاء وَلَا إِلَى هؤلاء} [النساء: 143] .
{وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
قال السدي ومقاتل رضي الله عنهما: «نزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وعبد الله بن نبتل المنافقين، كان أحدهما يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في حُجْرة من حُجَره، إذ قال:» يَدْخُلُ الآنَ عَليْكُم رجُلٌ قلبهُ قَلْبُ جبَّارٍ، وينْظرُ بِعَيْني شَيْطانٍ «، فدخل عبد الله بن نبتل، وكان أزرق، أسمر قصيراً، خفيف اللحية، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم َ:» علَامَ تَشْتُمنِي أنْتَ وأصْحَابُكَ «؟ فحلف بالله ما فعل، وجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما شتموه، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية»
فقال عز وجل: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنهم كذبة.
قال ابن الخطيب رحمه الله: والمراد من هذا الكذب، إما ادِّعاؤهم كونهم مسلمين، وإما أنهم كانوا يسبُّون الله - تعالى - ورسوله صلى الله عليه وسلم َ ويكيدون المسلمين، وإذا قيل: إنكم فعلتم ذلك خافوا على أنفسهم من القتل، فيحلفون أنهم ما قالوا ذلك وما فعلوه، فهذا هو الكذب الذي يحلفون عليه، وهذه الآية تدلّ على فساد قول الجاحظ: إن الكذب هو الخبرُ المخالف لاعتقاد المخبر.
قوله: {مَّا هُم مِّنكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} يجوز في هذه الجملة ثلاثة أوجه:
أحدها: أنها مستأنفة، لا موضع لها من الإعراب، أخبر عنهم بأنهم ليسوا من المؤمنين الخُلَّص، بل كقوله تعالى:{مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لَا إلى هؤلاء وَلَا إلى هؤلاء} [النساء: 143] فالضمير في «ما هم» عائد على {الذين تَوَلَّوْاْ} ، وهم المنافقون، وفي «مِنْهُمْ» عائد على اليهود، وهم الكافرون الخلص.
والثاني: أنها حالٌ من فاعل «تولوا» والمعنى على ما تقدم أيضاً.
والثالث: أنها صفة ثانية ل «قوماً» فعلى هذا يكون الضمير في «ما هم» عائداً على «قوماً» وهم اليهود، والضمير في «منهم» عائد على «الذين تولّوا» يعني اليهود ليسوا منكم أيها المؤمنون، ولا من المنافقين، ومع ذلك تولَاّهم المنافقون. قاله ابن عطية.
إلا أن فيه تنافر الضمائر، فالضمير في «وَيَحْلِفُونَ» عائد على «الذين تولّوا» فعلى الوجهين الأولين تتحد الضمائر لعودها على «الَّذيْنَ تولّوا» وعلى الثالث: تختلف كما عرفت.
وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملة حالية، أي: يعلمون أنه كذب، فيمينهم يمين غَمُوس ولا عُذر لهم فيها.
قوله: {أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} أي: لهؤلاء المنافقين عذاباً شديداً في جهنم، وهو الدَّرْك الأسفل من النَّار.
وقيل: عذاب القبر.
قال ابن الخطيب: لأنا إذا حملنا هذا على عذاب القَبْر، وحملنا قوله جل ذكره:{فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [المجادلة: 16] على عذاب الآخرة لا يلزم منه تكرار. {إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: بئست الأعمال أعمالهم.
قوله تعالى: {اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} .
قرأ العامة: «أيْمَانَهُمْ» - بفتح الهمزة - جمع «يَمِين» .
والحسن وأبو العالية - بكسرها - مصدراً هنا، وفي «المُنَافقين» ، أي: إقرارهم اتخذوه جُنّة يستجنُّون بها من القَتْلِ.
قال ابن جني: «هذا على حذف مضاف، أي: اتخذوا إظهار أيمانهم جُنَّة من ظهور نفاقهم» .
وقوله تعالى: {أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} مفعولان ل «اتَّخَذُوا» .
قوله: {لهم عذاب مهين} في الدنيا بالقَتْل وفي الآخرة بالنار.
وقيل: المراد من الكل عذاب الآخرة، كقوله عز وجل:{الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب} [النحل: 88] . الصّد عن سبيل الله: المنع عن الإسلام.
وقيل: إلقاء الأراجيف وتَثْبِيط المسلمين عن الجهاد.
قوله تعالى: {لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ الله شَيْئاً} تقدم الكلام عليه في آل عمران.
قال مقاتل رحمه الله: قال المنافقون: إن محمداً يزعم أنه ينصر يوم القيامة لقد
شقينا إذاً، فوالله لننصرنّ يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا إن كانت قيامة، فنزلت الآية.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً} أي: لهم عذاب مهين يوم يبعثهم الله، فيحلفون له كما يحلفون لكم اليوم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يحلفون لله - تعالى - يوم القيامة كذباً كما حلفوا لأوليائه في الدنيا، وهو قولهم:{والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] ويحسبون أنهم على شيء، بإنكارهم وحلفهم.
قال ابن زيد: ظنوا أنه ينفعهم في الآخرة.
وقيل: يحسبون في الدنيا أنهم على شيء؛ لأنهم في الآخرة يعلمون الحق باضطرار، والأول أظهر.
والمعنى: أنهم لشدة توغلهم في النفاق ظنّوا يوم القيامة أنهم يمكنهم ترويج كذبهم بالأيمان الكاذبة على علام الغيوب، وإليه الإشارة بقوله تعالى:{وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] .
قال القاضي والجُبَّائي: إن أهل الآخرة لا يكذبون، فالمراد من الآية أنهم يحلفون في الآخرة: إنا ما كنا كافرين عند أنفسنا، وعلى هذا الوجه لا يكون الحلف كذباً، وقوله تعالى:{أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} أي: في الدنيا.
قال ابن الخطيب: «وتفسير هذه الآية على هذا الوجه يقتضي ركاكة عظيمة في النَّظْم» .
روى ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ القِيَامَةِ: أيْنَ خُصَمَاءُ اللَّهِ تعالى؟ فَتقُومُ القدريَّةُ مُسْودَّةً وجُوهُهُمْ، مُزْرَقَّةً أعْيُنُهُمْ، مَائِلٌ شِدْقُهُمْ يَسِيْلُ لُعَابهُم، فيقُولُونَ: واللَّهِ ما عَبَدْنَا مِنْ دُونِكَ شَمْساً ولا قَمَراً ولا صَنَماً، ولا اتَّخَذْنَا مِنْ دُونِكَ إلهاً» .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: صدقوا ولله، أتاهم الشرك من حيث لا يعلمون، ثم تلا:{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} ، هم والله القدرية ثلاثاً.
قوله تعالى: {استحوذ} . جاء به على الأصل، وهو فصيح استعمالاً، وإن شذ قياساً.
وقد أخرجه عمر رضي الله عنه على القياس، فقرأ:«اسْتَحَاذَ» ك «استبان» . وتقدم هذه المادة في «النساء» في قوله تعالى: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} [النساء: 141] .
قال الزجاج: «اسْتَحْوَذَ» في اللغة استولى، يقال: حذت الإبل، إذا استوليت عليها وجمعتها.
وقال المبرد: «استحوذ على الشيء: حواه وأحاط به» .
قيل: المعنى غلب عليهم الشيطان بِوسْوستِهِ في الدنيا.
وقيل: قوي عليهم فأنساهم ذكر الله، أي: أوامره في العمل بطاعته.
وقيل: زواجره في النهي عن معصيته، والنِّسيان قد يكون بمعنى الغَفْلة، ويكون بمعنى الترك، والوجهان محتملان هاهنا، {أولئك حِزْبُ الشيطان} : طائفته ورهطُه {أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشيطان هُمُ الخَاسِرُونَ} في بيعهم؛ لأنهم باعوا الجنة بجهنم، وباعوا الهدى بالضلالة.
فصل فيمن استدل بالآية على خلق الأعمال
احتجّ القاضي بهذه الآية في خلق الأعمال من وجهين:
الأول: أن ذلك النسيان لو حصل بخلق الله - تعالى - لكان إضافتها إلى الشيطان كذباً.
الثاني: لو حصل ذلك بخلق الله لكانوا كالمؤمنين في كونهم حزب الله لا حزب الشيطان.
قوله تعالى: {إِنَّ الذين يُحَآدُّونَ الله وَرَسُولَهُ} تقدم أول السورة.
{أولئك فِي الأذلين} . أي: من جملة الأذلاء لا أذلّ منهم؛ لأن ذل أحد الخصمين يدلّ على عز الخصم الثاني، فلما كانت عزة الله - تعالى - غير متناهية كانت ذلة من ينازعه غير متناهية أيضاً.
قوله تعالى: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} .
يجوز أن يكون «كَتَبَ» جرى مجرى القسم، فأجيب بما يجاب به.
وقال أبو البقاء: وقيل: هي جواب «كتب» ؛ لأنه بمعنى «قال» .
وهذا ليس بشيء؛ لأن «قال» لا يقتضي جواباً، فصوابه ما تقدم.
ويجوز أن يكون «لأغلبن» جواب قسم مقدر، وليس بظاهر.
فصل في تفسير الآية
قال المفسرون: {كتب الله لأغلبن} أي: قضى الله ذلك.
وقيل: كتب في اللوح المحفوظ قاله قتادة.
وقال الفراء: «كتب» بمعنى «قال» .
وقوله: «أنا» توكيد، «ورسلي» من بعث منهم بالحرب، فإن الرسول بالحرب غالب، ومن بعث منهم بالحُجّة غالب أيضاً، فإذا انضم إلى الغلبة بالحجة الغلبة بالحرب كان أغلب وأقوى.
قال مقاتل: قال المؤمنون: لئن فتح الله لنا «مكة» و «الطائف» و «خيبر» وما حولهن رجَوْنَا أن يظهرنا الله - تعالى - على «فارس» و «الروم» ، فقال عبد الله بن أبيّ ابن سلول: أتظنون «الروم» و «فارس» كبعض القرى التي غلبتم عليها، والله إنهم لأكثر عدداً وأشد بطشاً من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت:{لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} .
ونظيره: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 - 173] .
قوله: {ورسلي} .
قرأ نافع وابن عامر بفتح «الياء» .
والباقون: لا يحركون.
قال أبو علي: «التَّحريك والإسكان جميعاً حسنان» .
وقوله تعالى: {إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ} قوي على نُصْرة أنبيائه «عَزِيزٌ» غالب لا يدفعه أحد عن مُرَاده.
قوله تعالى: {لَاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} .
«يوادُّون» هو المفعول الثاني ل «تَجِدُ» ، ويجوز أن تكون المتعدية لواحد بمعنى «
صادق ولقي» ، فيكون «يوادّون» حالاً، أو صفة ل «قوماً» .
ومعنى «يوادُّون» أي: يحبون ويوالون {مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} . وقد تقدم الكلام على المُحَادّة.
والمعنى: أنه لا يجتمع الإيمان مع ودادةِ أعداء الله.
فصل في المراد بهذه الموادّة
فإن قيل: أجمعت الأمة على أنه تجوز مخالطتهم ومعاملتهم ومعاشرتهم فما هذه الموادة المحرمة؟ .
فالجواب أن الموادّة المحرمة هي إرادة منافعه ديناً ودُنْيا مع كونه كافراً، فأما سوى ذلك فلا حَظْر فيه.
قوله تعالى: «ولو كانوا» هذه «واو» الحال.
وقدّم أولاً الآباء؛ لأنهم تجب طاعتهم على أبنائهم، ثم ثنَّى بالأبناء؛ لأنهم أعلقُ بالقلوب وهم حياتها، قال الحماسي في معنى ذلك، رحمة الله عليه رحمة واسعة:[السريع]
4733 -
وإنَّمَا أوْلادُنَا بَيْنَنَا
…
أكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الأرْضِ
ثم ثلَّث بالإخوان؛ لأنهم هم الناصرون بمنزلة العضُد من الذِّراع.
قال رحمه الله: [الطويل]
4737 -
أخَاكَ أخَاكَ إنَّ مَنْ لا أخَا لَهُ
…
كَسَاعٍ إلى الهَيْجَا بِغَيْرِ سِلاحِ
وإنَّ ابْنَ عَمِّ المَرْءِ - فَاعْلمْ - جَنَاحُهُ
…
وهَلْ يَنْهَضُ البَازِي بِغَيْرِ جَنَاحِ
ثم ربع بالعشيرة؛ لأن بها يستعان وعليها يعتمد.
قال بعضهم، رحمة الله عليه:[البسيط]
4734 -
لا يَسْألُونَ أخَاهُمْ حِيْنَ يَنْدُبُهُمْ
…
في النَّائِبَاتِ عَلَى مَا قَالَ بُرْهَانَا
وقرأ أبو رجاء: «عَشِيْراتهم» ، بالجمع، كما قرأها أبو بكر في «التوبة» كذلك.
فصل في مناسبة الآية
لما بالغ في المنع من هذه الموادة في الآية الأولى من حيث أن الموادة مع الإيمان لا يجتمعان، بالغ هاهنا أيضاً من وجوه، وهي قوله تعالى:{وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} والمعنى: أن الميل إلى هؤلاء أعظم أنواع المحبة، ومع هذا فيجب أن يكون هذا الميل مطرحاً بسبب الدين.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه عبد الله بن الجراح يوم «أحد» ، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم «بدر» ، وأبي بكر رضي الله عنه قال ابن جريح:
«حدثت أن أبا قحافة سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ فصكّه أبو بكر رضي الله عنه صكَّة سقط منها على وجهه ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم َ فذكر ذلك له، فقال:» أو فَعَلْتَهُ لا تَعُدْ إليْهِ «، فقال: والذي بعثك بالحق نبيًّا لو كان السيف منِّي قريباً لقتلته» ، ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيد بن عمير، وعلي بن أبي طالب وحمزة وعبيدة رضي الله عنهم قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يوم «بدر» أخبر أن هؤلاء لم يوادُّوا أقاربهم وعشائرهم غضباً لله تعالى ودينه.
فصل في الاستدلال بالآية على معاداة القدرية
قال القرطبي: استدل مالك رحمه الله بهذه الآية على معاداة القدرية، وترك مجالستهم.
قال أشهب عن مالك: لا تجالسوا القدرية، وعادوهم في الله، لقول الله عز وجل:{لَاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} .
قال القرطبي: وفي معنى أهل القدر جميع أهل الظُّلم والعدوان.
وعن الثوري رضي الله عنه أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت فيمن يصحب السلطان.
وعن عبد العزيز بن أبي رواد: أنه لقي المنصور في الطّواف فلما عرفه هرب منه، وتلا هذه الآية.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه كان يقول: «اللَّهُمَّ لا تَجْعَلْ لفَاجِرِ عِنْدِي نِعْمَةً، فإنِّي وجَدْتُ فِيْمَا أوْحَيْتَ إليَّ: {لَاّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} » الآية
. قوله: {أولئك كَتَبَ} .
قرأ العامّة: «كَتَبَ» مبنيًّا للفاعل، وهو الله سبحانه وتعالى «الإيمان» نصباً، وأبو حيوة في رواية المفضل:«كُتِبَ» مبنيًّا للمفعول «الإيمان» رفع به.
والضمير في «منه» لله تعالى.
وقيل: يعود على «الإيمان» ؛ لأنه روح يحيا به المؤمنون في الدارين. قاله السدي، أي: أيدهم بروح من الإيمان، يدل عليه قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] .
فصل في معنى كتب الإيمان
معنى «كتب الإيمان» أي: خلق في قلوبهم التصديق، يعني من لم يُوالِ من حاد الله.
وقيل: «كَتَبَ» : أثبت. قاله الربيع بن أنس.
وقيل: جعل كقوله تعالى: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [آل عمران: 53] أي: اجعلنا، وقوله تعالى:{فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة} [الأعراف: 156] .
وقيل «كتب» أي: جمع، ومنه الكتيبة، أي: لم يكونوا ممن يقول: نؤمن ببعض، ونكفر ببعض.
وقيل: {كتب في قلوبهم الإيمان} أي: على قلوبهم الإيمان، كقوله تعالى:{فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] .
وخص القلوب بالذكر، لأنها موضع الإيمان.
قوله: «وأيَّدهُمْ» ، أي: قوَّاهم ونصرهم بروح منه.
قال الحسن: بنصر منه.
قال ابن عباس: نصرهم على عدوهم، وسمى تلك النصرة روحاً؛ لأنه به يحيا أمرهم.
وقال الربيع بن أنس رضي الله عنه: بالقرآن وحججه.
وقال ابن جريح: بنُورٍ وبُرهان وهدى.
وقيل: برحمة من الله.
وقيل: أيَّدهم بجبريل صلوات الله وسلامه عليه.
قوله: {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رضي الله عنهم} أي: قبل أعمالهم {وَرَضُواْ عَنْهُ} فرحوا بما أعطاهم {أولئك حِزْبُ الله أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} .
وهذه في مقابلة قوله تعالى: {أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ} ، وهذه الآية زجر عن التودّد إلى الكُفَّار والفُسَّاق، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
روى الثعلبي في تفسيره عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ المُجادلةِ كُتِبَ مِنْ حِزْبِ الله - تعالى - يَوْمَ القِيَامَةِ» .