الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الحاقة
مكية، وهي اثنتان وخمسون آية، ومائتان وستة وخمسون كلمة، وألف وأربعة وستون حرفا. قوله تعالى:
{الحاقة
مَا الحآقة} .
«الحاقة» مبتدأ، و «ما» مبتدأ ثانٍ، و «الحاقة» خبره، والجملة خبر الأول؛ لأن معناها «ما هي» واللفظُ استفهام، ومعناها التفخيم والتعظيم لشأنها.
قال ابن الخطيب: وُضِعَ الظاهرُ موضع المضمرِ؛ لأنه أهولُ لها، ومثله {القارعة مَا القارعة} [القارعة:
1
، 2] وقد تقدَّم تحريرُ هذا في «الواقعةِ» .
و «الحاقَّة» فيها وجهان:
أحدهما: انه وصف اسم فاعل بمعنى أنها تبدي حقائق الأشياء.
وقيل: إن الأمر يحق فيها فهي من باب «ليل نائم، ونهار صائم» قاله الطبري.
وقيل: سميت حاقة؛ لأنها تكون من غير شكٍّ لأنها حقَّت فلا كاذبة لها.
وقيل: سميت القيامة بذلك؛ لأنها أحقت لأقوامٍ الجنَّة، وأحقَّت لأقوامٍ النَّار.
وقيل: من حق الشيء: ثبت فهي ثابتة كائنة.
وقيل: لأنها تحق كل محاق في دين الله أي: تغلبه، من حاققته، فحققته أحقه أي: غلبته.
وفي «الصحاح» : وحاقه، أي: خاصمه، وادعى كل واحد منهما الحقَّ، فإذا غلبه قيل: حقه، ويقال: ما له فيه حقٌّ، ولا حقاق أي: خصومة، والتحاق: والتخاصم، والاحتقاق: الاختصام، والحاقَّةُ والحقُّ والحقةُ ثلاثُ لغاتٍ بمعنًى.
وقال الكسائيُّ والمؤرج: الحاقَّةُ: يوم الحقِّ.
والثاني: أنه مصدر ك «العاقبة» و «العافية» .
قوله «ما الحَاقَّةُ» في موضع نصب على إسقاط الخافض، لأن «أدرى» بالهمزة يتعدى لاثنين، للأول: بنفسه، والثني: ب «الباء» ، قال تعالى:{وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ} [يونس: 16] ، فلما وقعت جملة الاستفهام معلقة لها كانت في موضع المفعولِ الثاني، ودون الهمزة تتعدى لواحدٍ ب «الباء» نحو:«دريت بكذا» أو يكون بمعنى «علم» فيتعدّى لاثنين.
فصل في معنى «ما أدراك» .
معنى «ما أدراك» ، أي شيء أعلمك ما ذاك اليوم، والنبي صلى الله عليه وسلم َ كان عالماً بالقيامة، ولكن لا علم له بكونها وصفتها، فقيل ذلك تفخيماً لشأنها، كأنك لست تعلمُها، ولم تعاينها.
وقال يحيى بن سلام: بلغني أنَّ كل شيء في القرآن «ومَا أدْراكَ» فقد أدراه وعلمه، وكل شيء قال:«ومَا يُدْريكَ» فهو مما لم يعلمهُ.
وقال سفيان بن عيينة: كل شيء قال فيه: «وما أدْراكَ» فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه:«وما يُدريْكَ» ، فإنه لم يخبر به.
قوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة} .
«القارعةُ» القيامة، سميت بذلك [لأنها] تقرعُ قلوب العبادِ بالمخافةِ.
وقيل: لأنها تقرع الناس بأهوالها يقال: أصابتهم قوارعُ الدهرِ، أي: أهواله وشدائده وقوارضُ لسانه؛ جمع قارضة، وهي الكلمة المؤذيةُ، وقوارعُ القرآن: الآيات التي يقرؤها الإنسانُ إذا قُرعَ من الجن والإنس نحو آية «الكرسي» كأنَّه يقرع الشيطان.
وقال المبرِّد: القارعة مأخوذةٌ من القرعة من رفع قومٍ وحطِّ آخرين.
وقوارعُ القيامة: انشقاقُ السماءِ، وانفطارها، والأرض والجبال بالدكِّ والنسف، والنجوم بالطَّمس والانكدار.
وإنما قال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بالقارعة} ، ولم يقل: بها ليدل على أنَّ معنى القرع حاصل في الحاقَّةِ، فيكون ذلك زيادة على وصف شدتها، ولما ذكرها وفخمها أتبع ذلك
بذكر من كذب بها، وما حل بهم بسبب التكذيبِ تذكيراً لأهل «مكةَ» وتخويفاً لهم من عاقبةِ تكذيبهم.
وقيل: عنى بالقارعةِ: العذاب الذي نزل بهم في الدنيا، وكان نبيُّهم يخوفهم بذلك، فيكذبونه وثمودُ قوم صالح، وكانت منازلهم ب «الحجر» فيما بين «الشام» و «الحجاز» .
قال ابن إسحاق: هو وادي «القرى» ، وكانوا عرباً، وأما عادٌ فقوم هود، وكانت منازلهم ب «الأحقاف» ، و «الأحقاف» : الرمل بين «عمان» إلى «حَضْرمَوْتَ» و «اليمن» كله، وكانوا عرباً ذوي بسطةٍ في الخلق وقد تقدم ذلك في «الأحقاف» .
قوله: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} . هذه قراءةُ العامةِ.
وقرأ زيدُ بن عليٍّ: «فَهَلكُوا» مبنياً للفاعل.
وقوله: «بالطاغية» فيه إضمار أي: بالفعلة الطَّاغية.
وقال قتادةُ: بالصَّيحةِ الطاغية المتجاوزةِ للحدِّ، أي: لحد الصيحاتِ من الهولِ، كما قال:{إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر} [القمر: 31] .
و «الطغيانُ» : مجاوزة الحدِّ، ومنه {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ} [الحاقة: 11] ، أي: جاوز الحدَّ.
وقال ابن زيدٍ: بالرجل الطَّاغية، وهو عاقرُ الناقةِ، و «الهاء» فيه للمبالغة على هذه الأوجه صفة.
والمعنى: أهلكوا بما أقدم عليه طاغيهم من عقر الناقة وكان واحداً، وإنما هلك الجميعُ؛ لأنهم رضوا بفعله، ومالئوه.
وقيل له: طاغية كما يقال: فلان راويةٌ وداهيةٌ وعلامةٌ ونسابةٌ.
ويحتمل أن يقال: بسبب الفِرقةِ الطاغيةِ، وهم: التسعة رهطٍ، الذين كانوا يفسدون في الأرض، ولا يصلحون، وأحدهم عاقرُ الناقة.
وقال الكلبيُّ: «بالطَّاغيةِ» : بالصَّاعقةِ.
وقال مجاهدٌ: بالذُّنوبِ.
وقال الحسنُ: بالطُّغيانِ فهي مصدرٌ ك «العاقبة» و «الكاذبة» ، أي: أهلكُوا بطغيانهم وكفرهم، وبوضحه:{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ} [الشمس: 11] .
قال ابن الخطيب: وهذا منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، قال: وقد طعنوا فيه بوجهين:
الأول: قال الزجاجُ: إنه لما ذكر في الجملة الثانية نوع الشيءِ الذي وقع به العذابُ، وهو قوله تعالى:{بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} وجب أن يكون الحال في الجملة الأولى كذلك حتى تحصل المناسبةُ.
والثاني: قال القاضي: لو كان المرادُ ما قالوه لكان من حق الكلام أن يقال: أهْلِكُوا لها ولأجلِها.
ف «الباء» للسببية على الأقوال إلَاّ على قولِ قتادة، فإنها فيه للاستعانة ك «عملتُ بالقدوم» .
قوله: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} . أي: باردة تحرق ببردها كإحراق النار مأخوذٌ من الصَّرصر وهو البردُ. قاله الضحاك.
وقيل: إنَّها لشديدةُ الصوتِ.
وقال مجاهد: إنَّها لشديدة السُّمومِ، و «عَاتِية» عتت على خُزَّانها فلم تطعهم، ولم يطيقوها من شدة هبوبها غضبت لغضبِ اللَّهِ.
وقال عطاء عن ابن عباسٍ: عتت على عادٍ فقهرتهم، فلم يقدروا على ردِّها بحيلة من استناد إلى جبل، بل كانت تنزعهم من مكانهم وتهلكهم.
وروى سفيانُ الثوريُّ عن موسى بن المسيِّب عن شهر بن حوشب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَا أرسَلَ اللَّهُ من نسمةٍ من ريْحٍ بمِكْيالٍ ولا قطرة من مَاءٍ إلَاّ بمكيَالٍ إلا يَوْمَ عادٍ ويَوْمَ قوْم نُوحٍ فإنَّ المَاءَ يوْمَ قوْمِ نُوحٍ طَغَى على الخزان فلمْ يكُنْ لهُمْ عليهِ سبيلٌ» ، [ {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} الآية والرِّياح لمّا كَانَ يَوْمُ عادٍ غشَتْ على الخزائنِ ولمْ يكُنْ لهُمْ عليْهَا سبيلٌ]، ثم قرأ:{بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} .
وقيل: إنَّ هذا ليس من العتو الذي هو عصيانٌ، إنَّما هو بلوغُ الشيء وانتهاؤه، ومنه قولهم: عتا النَّبْتُ، أي: بلغ منتهاه وجفَّ، قال تعالى:{وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} [مريم: 8]، أي: بالغة منتهاها في القوّة والشدّة.
قوله: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} ، أي: أرسلها وسلَّطها عليهم، والتسخيرُ استعمال الشيء بالاقتدار.
وقال الزجاج: أقامها عليهم.
والجملة من قوله: «سخَّرها» يجوز أن تكون صفة ل «رِيْح» ، وأن تكون حالاً منها لتخصيصها بالصفة، أو من الضمير في «عاتية» ، وأن تكون مستأنفةً.
قال ابنُ الخطيب: وعندي أنَّ فيه لطيفة، وذلك أن في الناس من قال: إن تلك الرياحَ إنما اشتدت؛ لاتصال فلكي نجومي اقتضى ذلك، فقوله:«سخَّرهَا» فيه إشارة إلى نفي ذلك المذهب، وأن ذلك إنَّما حصل بتقدير الله وقدرته، فإنه لولا هذه الدقيقةُ لمَا حصل منه التخويفُ، والتحذيرُ عن العقابِ.
وقوله: {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} الفائدة فيه أنه - تعالى - لو لم يذكر ذلك لما كان مقدارُ زمان ذلك العذاب معلوماً، فلما قال:{سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} احتمل أن يكون متفرقاً في هذه المدةِ، فأزال هذا الظنَّ بقوله:«حُسُوماً» أي: مُتتابِعَةٌ مُتواليةٌ.
فصل في تعيين الأيام المذكورة في الآية
قال وهبٌ: هي الأيامُ التي تسميها العرب أيام العجوزِ، ذاتُ بردٍ ورياحٍ شديدةٍ.
وقيل: سمِّيت عجوزاً لأنها في عجزِ الشتاءِ.
وقيل: لأن عجوزاً من قوم عاد دخلت سرباً، فتبعتها الريح فقتلتها في اليومِ الثامنِ من نزول العذاب، وانقطع العذابُ.
قوله: «حُسُوْماً» . فيه أوجهٌ:
أحدها: أن ينتصب نعتاً لما قبلها.
الثاني: أن ينتصب على الحالِ، أي: ذات حُسُوم.
وقرأ السدِّي: «حَسُوماً» - بالفتح - حالاً من الريح، أي: سخرها عليهم مستأصلة.
الثالث: أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظها، أي: تحسمهم حُسوماً.
الرابع: أن يكون مفعولاً له.
ويتضح ذلك بقول الزمخشريِّ: «الحُسُوْم» : لا يخلو من أن يكون جمع «حاسم» ك «شاهد» و «شهود» ، أو مصدراً «كالشَّكور» ، «والكفُور» ، فإن كانت جمعاً، فمعنى قوله:«حُسُوْماً» أي: نحساتٌ حسمتْ كلَّ خيرٍ، واستأصلت كُلَّ بركةٍ، أو متتابعة هبوب الريح ما خفضت ساعة تمثيلاً لتتابعها بتتابُعِ فعل الحاسمِ في إعادة الكيِّ على الدَّاء كرَّة بعد اخرى حتى ينحسمَ.
وإن كان مصدراً فإما أن ينتصب بفعله مضمراً، أي: تحسمهم حُسوماً بمعنى استأصل استئصالاً، أو تكون صفة كقولك: ذات حسومٍ، أو يكون مفعولاً له، أي: سخرها عليهم للاستئصال.
قال عبد العزيز بن زرارة الكلابي الشاعر: [الوافر]
4839 -
فَفرَّقَ بَيْنَ بيْنِهمُ زمانٌ
…
تَتَابعَ فيهِ أعْوَامٌ حُسُومُ
انتهى. وقال المبرِّدُ: الحُسومُ: الفصلُ، حسمتُ الشَّيء من الشيء فصلتهُ منه.
ومنه الحسام.
قال الشاعر: [المتقارب]
4840 -
فأرْسلْتُ رِيحاً دَبُوراً عَقِيماً
…
فَدارَتْ عَليْهِمْ فكَانَتْ حُسُومَا
وقال الليثُ: هي الشُّؤمُ، يقال: هذه ليالي الحسوم، أي: تحسم الخير عن أهلها: لقوله تعالى: {في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ} [فصلت: 16] ، وهذان القولان يرجعان إلى القول الأول؛ لأن الفصل قطعٌ وكذلك الشُّؤم لأنه يقطع الخير.
قال ابنُ زيدٍ: حَسَمتْهُمْ فلم تُبْقِ منهم أحداً، وعنه أيضاً: أنها حسمت الليالي والأيام حتى استوفتها؛ لأنها بدأ طلوع الشمس أول يوم، وانقطعت غروب الشمس من آخر يوم.
واختلف في أولها: فقال السدِّي: غداة يوم الأحدِ.
وقال الربيع بن أنس: غداة يوم الجمعة وقال يحيى بن سلام: غداة يوم الأربعاء، وهو يوم النحس المستمر.
قيل: كان آخر أربعاء في السَّنة، وآخرها يوم الأربعاء، وهي في «آذار» من أشهر السريانيين، ولها أسماء مشهورة، قال فيها ابن أحمر:[الكامل]
4841 -
كُسِعَ الشِّتاءُ بِسَبْعَةٍ غُبْرِ
…
أيَّامِ شَهْلتِنَا مع الشَّهْرِ
فإذَا انْقَضَتْ أيَّامُهَا ومضَتْ
…
صِنٌّ وصِنَّبرٌ مَعَ الوَبْرِ
وبآمِرٍ وأخِيهٍ مُؤتَمِرٍ
…
ومُعَلِّلٍ وبِمُطفِىء الجَمْرِ
ذهَبَ الشِّتاءُ مُولِّياً عَجِلاً
…
وأتَتْكَ واقِدَةٌ من النَّجْرِ
وقال آخر: [الكامل]
4842 -
…
- كُسِيَ الشِّتاءُ بِسبْعَةٍ غُبْرِ
بالصِّنِّ والصِّنَّبْرٍ والوبْرِ
…
وبآمرٍ وأخِيهِ مُؤتَمِرٍ
ومُجَلِّلٍ وبِمُطْفِىء الجَمْرِ
…
قوله: {فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى} أي: في تلك الليالي والأيَّام «صرعى» جمع صريع، وهي حال نحو:«قتيل وقتلى، وجريح وجرحى» .
والضمير في «فيها» للأيام والليالي كما تقدم، أو للبيوت أو للريح، والأول أظهرُ لقُربهِ؛ ولأنه مذكور.
قوله: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} . أي: أصول نخلٍ، و «كأنهم أعجازُ» حال من القوم، أو مستأنفة.
وقرأ أبو نهيك: «أعْجُز» على وزن «أفْعُل» نحو: «ضَبْع وأضْبُع» .
وقرىء: «نخيل» حكاه الأخفشُ.
وقد تقدَّم أن اسم الجنس يذكَّر ويؤنَّثُ، واختير هنا تأنيثُه للفواصلِ، كما اختير تذكيره لها في سورة «القمر» .
وقال أبو الطُّفيل: أصول نخل خاوية، أي: بالية.
وقيل: خاليةُ الأجوافِ لا شيء فيها.
قال القرطبيُّ: وقد قال تعالى في سورة «القمر» : {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] فيحتمل أنَّهم شُبِّهُوا بالنخل التي صُرعت من أصلها وهو أخبار عن عظم أجسامهم، ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع، أي: أنَّ الريح قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية، أي: أن الرِّيح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخل الخاوية الجوف.
وقال ابن شجرة: كانت الريحُ تدخل في أفواههم فتخرجُ ما في أجوافهم من الحشوِ من أدبارهم، فصاروا كالنخل الخاوية.
وقال يحيى بن سلام: إنما قال: الخاوية، لأن أبدانهم خوت من أرواحهم مثل النخل الخاوية.
قوله: {فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} .
أدغم اللام في التاء أبو عمرو وحده، وتقدم في «الملك» .
و «مِنْ بَاقِيَة» مفعوله، و «مِنْ» مزيدة، والهاء في «بَاقِية» قيل: للمبالغة، فيكون المراد ب «الباقية» : البقاءُ، ك «الطاغية» بمعنى الطُّغيان، أي: من باقٍ.
والأحسنُ أن يكون صفةً لفرقةٍ، أو طائفةٍ، أو نفس، أو بقية ونحو ذلك.
وقيل: فاعلة بمعنى المصدر ك «العافية» و «العاقبة» .
قال المفسرون: والمعنى هل ترى لهم أحداً باقياً.
قال ابن جريجٍ: كانوا سبعَ ليالٍ وثمانية أيَّام أحياء في عذابِ الله من الريح، فلما أمسوا في اليوم الثامنِ ماتوا فاحتملتهم الريحُ، فألقتهم في البحر، فذلك قوله:{فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ} وقوله: {فَأْصْبَحُواْ لَا يرى إِلَاّ مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25] .
قوله: {وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ} .
قرأ أبو عمرو والكسائيُّ: بكسر القاف، وفتح الباء، أي: ومن هو في جهته، ويؤيده قراءةُ أبي موسى:«ومن تلقاه» .
وقرأ أبيٌّ وعبد الله: «ومنْ مَعَه» .
والباقون: بالفتحِ والسكونِ على أنه ظرف، أي: ومن تقدمه.
والقراءة الأولى اختارها أبو عبيدة، وأبو حاتم اعتباراً بقراءة أبيّ، وعبد الله.
قوله: {والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ} .
«المؤتفكات» : أهل قرى لوط.
وقراءة العامة: بالألف.
وقرأ الحسن والجحدريُّ: «والمُؤتَفكةُ» على التوحيد.
قال قتادةُ: إنما سُمِّيتْ قرى لوط «مُؤتفِكَات» لأنَّها ائتفكت بهم، أي: انقلبت.
وذكر الطبري عن محمد بن كعب القرظيِّ قال: خمس قريات: «صبعة، وصعرة وعمرة، ودوما، وسدوم» ، وهي القرية العظمى.
وقوله: «بالخاطئة» . إما أن تكون صفة، أي: بالفعلة، أو الفعلات الخاطئة، وهي المعصية والكفر.
وقال مجاهد: بالخطايا كانوا يفعلونها.
وقال الجرجاني: بالخطأ العظيمِ، فيكون مصدراً ك «العاقبة» و «الكاذبة» .
قوله: {فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ} إن عاد الضمير إلى فرعون، ومن قبله، فرسول ربِّهم موسى عليه الصلاة والسلام ُ -.
وإن كان عائداً إلى أهلِ المؤتفكاتِ، فرسولُ ربِّهم لوط عليه الصلاة والسلام ُ.
قال الواحديُّ: والوجه أن يقال: المراد بالرسول كلاهما للخبر عن الأمتين بعد ذكرهما بقوله: «فَعَصَوْا» فيكون كقوله: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16]
قال القرطبي: وقيل: «رسول» بمعنى رسالة، وقد يعبر عن الرسالة بالرسول، كقوله:[الطويل]
4843 -
لَقَدْ كَذَبَ الواشُونَ ما بُحْتُ عِندهُمْ
…
بِسِرِّ ولا أرْسلتُهُمْ بِرسُولِ
قوله: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً} ، أي: عالية زائدة على الأخذات، وعلى عذاب الأمم،
يقال: ربا الشيء يربوا إذا زاد، ومنه الرِّبا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطي.
والمعنى: أنها كانت زائدة في الشدة على عقوبات سائر الكفار، كما أن أفعالهم كانت زائدة في القُبحِ على أفعال سائرِ الكفار.
وقيل: إن عقوبة آل فرعون في الدنيا متعلقة بعذاب الآخرة، لقوله:{أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [نوح: 25] وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدُّنيا، فتلك العقوبة كأنها كانت تنمو وتربو. ثم ذكر قصة قومِ نوح، وهي قوله:
{إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} ، أي: ارتفع وعلا.
وقال عليٌّ رضي الله عنه: طَغَى على خُزَّانه من الملائكة غضباً لربِّه، فلم يقدروا على حبسه.
قال المفسرون: زاد على كل شيء خمسة عشر ذراعاً.
وقال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنه: طغى الماءُ زمن نوحٍ على خزانه، فكثر عليهم فلم يدروا كم خرج، وليس من الماء قطرة تنزل قبله، ولا بعده إلا بكيل معلوم غير ذلك اليوم، وقد تقدم مرفوعاً أوَّل السورةِ، والمقصود من ذكر قصص هذه الأممِ، وذكر ما حل بهم من العذاب، زجر هذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسولِ، ثم منَّ عليهم بأن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله:«حَمَلْناكُم» أي: حملنا آباءكم، وأنتم في أصلابهم، «فِي الجَاريَةِ» أي: في السفن الجاريةِ، والمحمولُ في الجارية إنَّما هو نوحٌ وأولاده، وكل من على وجه الأرض من نسل أولئك.
والجارية من أسماء السفينة، ومنه قوله تعالى:{وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام} [الرحمن: 24]، وغلب استعمالُ الجاريةِ في السفينة؛ كقوله في بعض الألغاز:[البسيط]
4844 -
رَأيْتُ جَاريَةٌ في بَطْنِ جَارِيَةٍ
…
فِي بَطْنِهَا رجُلٌ في بطْنهِ جَمَلُ
قوله: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} ، أي: سفينة نوح عليه الصلاة والسلام ُ - جعلها الله تذكرة وعظةً لهذه الأمةِ حتى أدركها أوائلهم. في قول قتادة.
قال ابن جريجِ: كانت ألواحُهَا على الجوديِّ، والمعنى: أبقيتُ لكم الخشباتِ حتى تذكروا ما حلَّ بقوم نوحٍ، وأنجى الله أباكم، وكم من سفينةٍ هلكت وصارت تراباً، ولم يبق منها شيءٌ، وهذا قولُ الفرَّاءِ.
قال ابنُ الخطيبِ: وهذا ضعيفٌ، بل الصوابُ ما قاله الزجاج: أن الضمير في قوله: «
لنجعلها» يعود إلى «الواقِعَة» التي هي معلومةٌ، وإن كانت هنا غير مذكورةٍ، والتقدير: لنجعل نجاةَ المؤمنين وإغراق الكافرين عظةً، وعبرةً، ويدل على صحته قوله:{وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} فالضمير في قوله: «وتَعِيهَا» لا يمكن عوده إلى السفينة، فكذا الضمير الأول.
قوله: «وتَعِيهَا» العامة: على كسر العين وتخفيف التاء، وهو مضارع «وَعَى» منصوب عطفاً على «لنجْعَلهَا» .
وابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون عنه وقنبل، قال القرطبي: وحميد والأعرج بإسكانها تشبيهاً له ب «رحم، وشهد» وإن لم يكن منه، ولكن صار في اللفظ بمنزلة الفعل الحلقي العين.
قال ابن الخطيب: وروى عن ابن كثيرٍ إسكان العين، جعل حرف المضارعة مع ما بعده بمنزلةٍ واحدةٍ، فحذف وأسكن كما أسكن الحرف المتوسط من «فَخْذ وكَبْد وكَتْف» ، وإنما فعل ذلك؛ لأن حرف المضارعة لا ينفصل من الفعل، فأشبه ما هو من نفس الكلمة، وصار كقول من قال: وَهْو وَهْي، ومثل ذلك {وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] في قراءة من سكَّن القاف.
وروي عن حمزة: إخفاء الكسرة.
وروي عن عاصم وحمزة: بتشديد «الياء» .
وهو غلط عليهما، وإنما سمعهما الراوي يثبتان حركة الياء، فظنَّها شدة.
وقيل: أجريا الوصل مجرى الوقف فضعِّف الحرفُ، وهذا لا ينبغي أن يلتفت إليه.
وروي عن حمزة أيضاً، وموسى بن عبد الله العبسي:«وتعِيهَا» بسكون «الياء» .
وفيه وجهان: الاستئناف، والعطف على المنصوب، وإنما سكنا «الياء» استثقالاً للحركة على حرف العلة، كقراءة:
{تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] .
فصل في «وعى»
قال الزَّجَّاجُ: يقال: وعيتُ كذا، أي: حفظتُه في نفسي، أعيه وعْياً ووعيتُ العلمَ، ووعيتُ ما قلته كله بمعنى، وأوعيت المتاع في الوعاء.
قال الزجاجُ: يقال لكل ما حفظته في غير نفسك: أوعيتُه - بالألف - ولما حفظته في نفسك: وعيته، بغير ألف.
قال ابن الخطيب: واعلم أن وجه التذكير في هذا أن نجاة قومٍ من الغرقِ في السَّفينة، وتغريق من سواهم يدل على قدرة مدبر العالم، ونفاذ مشيئته، ونهاية حكمته، ورحمته، وشدة قهره.
«روي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ قال عند نزول هذه الآية:» سَألْتُ اللَّه أنْ يَجْعلهَا أذنَكَ يا عليُّ «، قال علي رضي الله عنه:» فما نَسِيتُ شيئاً بعد ذلك «» .
فإن قيل: لِمَ قال: «أذُنٌ واعِيَةٌ» على التوحيد والتنكير؟ .
فالجوابُ: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلةٌ، ولتوبيخ الناس بقلة من يَعِي منهم، والدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعيت وعقلتْ عن الله، فهي السَّواد الأعظم عند الله، وأن سواها لا يلتفت إليهم، وإن امتلأ العالمُ منهم.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] .
قال قتادة: الأذُنُ الواعيةُ أذنٌ عقلتْ عن الله تعالى، وانتفعت بما سمعت من كتاب الله عز وجل.
قوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} .
لما حكى هذه القصص الثلاثة ونبَّه بها على ثبوت القدرة والحكمة للصانع، فحينئذ ثبت بثبوت القدرة إمكان القيامة، ويثبت القدرة إمكان وقوع الحشر، ولما ثبت ذلك شرع سبحانه في تفاصيل أحوال القيامة، فذكر أولاً مقدماتها، فقال:{فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} .
قوله: «واحدةٌ» تأكيد، و «نَفْخَةٌ» مصدر قام مقام الفاعل.
وقال ابنُ عطية: «لما نُعِتَ صحَّ رفعهُ» انتهى.
ولو لم يُنعتْ لصحَّ رفعه؛ لأنه مصدر مختص لدلالته على الوحدة، والممنوع عند البصريين إنما هو إقامة المبهمِ، نحو:«ضَرَبَ» .
والعامةُ على الرفع فيهما.
وقرأ أبو السّمال: بنصبهما، كأنه أقام الجارَّ مقام الفاعلِ، فترك المصدر على
أصله، ولم يؤنث الفعل وهو:«نُفِخَ» ؛ لأن التأنيث مجازي وحسَّنه الفصل انتهى.
فصل في النفخة الأولى
قال ابن عباس: هي النفخة الأولى لقيام الساعة، فلا يبقى أحد إلا مات.
قال ابن الخطيب: لأن عندها يحصل خرابُ العالمِ.
فإن قيل: لم قال بعد ذلك {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} والعرض إنما يكون عند النفخة الثانية؟ .
قلت: جعل اليوم اسماً للحين الواسع الذي تقع فيه النَّفختان، والصَّعقة والنشور، والوقوف، والحساب، فكذلك {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} كقوله:«جئتُه عام كذا» وإنَّما كان مجيئُك في وقتٍ واحدٍ من أوقاته.
وقيل: إنَّ هذه النَّفخة هي الأخيرةُ.
وقال: {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} ، أي: لا تثنَّى.
قال الأخفشُ: ووقع الفعلُ على النَّفخة، إذ لم يكن قبلها اسم مرفوع، فقيل: نفخة.
قوله: {وَحُمِلَتِ الأرض} ، قرأ العامة: بتخفيف «الميم» .
أي: وحملتها الريحُ، أو الملائكةُ، أو القدرةُ، أي: رفعتْ من أماكنها، «فَدُكَّتا» ، أي: فُتَّتَا وكسِّرتا، {دَكَّةً وَاحِدةً} أي: الأرض والجبالُ؛ لأن المراد الشيئان المتقدمان، كقوله:{وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] .
ولا يجوزُ في «دكَّةً» إلا النصبُ؛ لارتفاع الضمير في «دُكَّتَا» .
وقال الفرَّاءُ: لم يقلْ: «فَدُكِكْنَ» ؛ لأنه جعل الجبال كلها كالجملةِ الواحدة [والأرض كالجملة الواحدة] ومثله: {أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً} [الأنبياء: 30]، ولم يقل:«كُنَّ» .
وهذا الدَّكُّ، كالزلزلةِ لقوله تعالى:{إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] .
وإما بريح بلغت من قوة عصفها أنَّها تحمل الأرض والجبال، أو بملك من الملائكة، أو بقدرة الله، «فَدُكَّتَا» ، أي: جملة الأرض، وجملة الجبال تضرب بعضها في بعض حتى تندق وتصير {كَثِيباً مَّهِيلاً} [المزمل: 14] ، و {هَبَآءً مُّنبَثّاً} [الواقعة: 6] .
والدَّكُّ أبلغُ من الدَّق وقيل: «دُكَّتا» أي: بُسطتا بسطةً واحدةً، ومنه اندكَّ سنامُ البعير، إذا انفرش في ظهره.
وقرأ ابن عامرٍ في رواية، والأعمش، وابن أبي عبلة وابن مقسم:«وحُمِّلت» - بتشديد الميم -.
فجاز أن يكون التشديد للتكثير، فلم يكسب الفعل مفعولاً آخر.
وجاز أن يكون للتعدية فيكسبه مفعولاً آخر، فيحتمل أن يكون الثاني محذوفاً، والأول هو القائمُ مقام الفاعلِ تقديره: وحُمِّلت الأرض والجبال ريحاً تفتتها، لقوله:{فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} [طه: 105] .
وقيل: التقدير: حملنا ملائكة، ويحتمل أن يكون الأول هو المحذوف، والثاني هو القائم مقام الفاعل.
قوله: «فيَومئذٍ» منصوب ب «وقعت» ، و «وقَعَتِ الواقِعَةُ» لا بُدَّ فيه من تأويلٍ، وهو أن تكون «الوَاقعةُ» صارت علماً بالغلبةِ على القيامة، أو الواقعة العظيمة، وإلَاّ فقام القائمُ لا يجوز، إذ لا فائدة فيه، وتقدم هذا في قوله:{إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1]
والتنوين في «يومئذٍ» للعوضِ من الجملة، تقديره: يومئذٍ نُفِخَ في الصُّوْرِ.
فصل في معنى الآية
المعنى قامت القيامة الكبرى {وانشقت السمآء} أي: انصدعت وتفطرت.
وقيل: انشقت لنزول الملائكة بدليل قوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25]{فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} ، أي: ضعيفة مسترخيةٌ ساقطةٌ {كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] بعد ما كانت محكمةً.
يقال: وهى البناء يَهِي وهْياً، فهو واهٍ إذا ضعف جدّاً.
ويقال: كلامٌ واهٍ أي: ضعيف.
فقيل: إنَّها تصير بعد صلابتها بمنزلة الصوف في الوهْي، ويكون ذلك لنزولِ الملائكةِ.
وقيل: لهولِ يوم القيامةِ.
وقال ابن شجرة: «واهية» أي: متخرقة، مأخوذ من قولهم: وهى السِّقاءُ، إذا انخرق.
ومن أمثالهم: [الرجز]
4845 -
خَلِّ سَبيلَ مَنْ وهَى سِقاؤهُ
…
ومَنْ هُرِيقَ بالفَلاةِ مَاؤهُ
أي: من كان ضعيف العقل لا يحفظ نفسه.
{والملك على أَرْجَآئِهَآ} . لم يردْ به ملكاً واحداً، بل المراد الجنس والجمع. «على أرجائها» «الأرجاء» في اللغة: النواحي والأقطار بلغة «هُذَيْل» ، واحدها:«رجا» مقصور وتثنيته «رجوان» ، مثل «عصا، وعصوان» ، قال الشاعر:[الوافر]
4846 -
فَلَا يُرْمَى بِيَ الرَّجوانِ أنَّي
…
أقَلُّ القَوْمِ مَنْ يُغْنِي مَكانِي
وقال آخر: [الطويل]
4847 -
كَأنْ لَمْ تَرَي قَبْلِي أسِيراً مُقَيَّداً
…
ولا رَجُلاً يُرْمَى بِهِ الرَّجوانِ
و «رجاء» هذا يكتب بالألف عكس «رَجَا» ؛ لأنه من ذوات الواو، ويقال:«رجا» ، ورجوانِ، والجمع:«الأرجاء» ، ويقال ذلك لحرفي البئر وحرف القبر وما أشبهه.
فصل في تفسير الآية
قاب ابن عباس: على أطرافها حين تنشق.
قال الماورديُّ: ولعله قول مجاهد وقتادة، وحكاه الثعلبي عن الضحاك، قال: على أطرافها مما لم تنشقّ منها.
وقال سعيد بن جبيرٍ: المعنى والملك على حافات الدنيا، أي: ينزلون إلى الأرض، ويحرسون أطرافها.
وقال: إذا صارت السماءُ قطعاً، تقف الملائكةُ على تلك القطعِ التي ليست مُتشققة في أنفسها.
فإن قيل: الملائكةُ يمُوتُونَ في الصَّعقةِ الأولى، لقوله تعالى:{فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} [الزمر: 68] فكيف يقال: إنهم يقفون على أرجاء السماء؟ .
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أنهم يقفون لحظة على أرجاء السماء، ثم يموتون.
والثاني: المراد الذين استثناهم في قوله: {إِلَاّ مَن شَآءَ الله} [الزمر: 68][النمل: 87] .
فإن قيل: إنَّ الناس إذا رأوا جهنَّم هالتهم، فندُّوا كما تندُّ الإبلُ، فلا يأتون قطراً من أقطار الأرض إلَاّ رأوا ملائكة، فيرجعون من حيثُ جاءوا.
وقيل: {على أَرْجَآئِهَآ} ينتظرون ما يؤمرون به في أهل النَّارِ من السَّوق إليها، وفي أهل الجنة من التحية والكرامة، وهذا كلُّه راجعٌ إلى قول ابن جبير، ويدلُّ عليه قوله تعالى:{وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25] .
قوله: {على أَرْجَآئِهَآ} ، خبر المبتدأ، والضمير للسماء، وقيل: للأرضِ، على ما تقدم.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: ما الفرق بين قوله: «والمَلَكُ» وبين أن يقال: «والمَلائِكَةُ» ؟
قلت: الملكُ أعمُّ من الملائكةِ، ألا ترى إلى قولك:«ما من ملك إلَاّ وهو ساجدٌ» أعم من قولك: «ما مِنْ ملائكةٍ» انتهى.
قال أبو حيَّان: ولا يظهر أنَّ الملك أعمُّ من الملائكةِ، لأن المفرد المحلَّى بالألف واللام، قُصاراه أن يكون مراداً به الجمع المحلَّى، ولذلك صح الاستثناءُ منه، فقصاراه أن يكون كالجمع المُحَلَّى بهما، وأما دعواه أنه أعم منه، بقوله:«ألا ترى» إلى آخره، فليس دليلاً على دعواه؛ لأن «مِنْ ملكٍ» نكرةٌ مفردة في سياق النفي قد دخلت عليها «مِن» المخلصة للاستغراق، فشملت كل ملكٍ فاندرج تحتها الجمعُ لوجود الفرد فيه، فانتفى كل فردٍ فرد، بخلاف «مِنْ ملائِكةِ» ، فإن «مِنْ» دخلت على جمع منكَّر، فعمّ في كل جمع جمع من الملائكةِ، ولا يلزم من ذلك انتفاء كلِّ فردٍ فردٍ من الملائكة، لو قلت:«ما في الدار من رجال» جاز أن يكون فيها واحدٌ، لأن النفي إنما انسحب على جمع، ولا يلزم من انتفاء الجمع أن ينتفي المفردُ، والملك في الآية ليس في سياق نفي دخلت عليه «مِنْ» وإنَّما جِيءَ به مفرداً؛ لأنه أخفُّ، ولأن قوله:{على أَرْجَآئِهَآ} يدلُّ على الجمع؛ لأن الواحد بما هو واحد لا يمكن أن يكون «على أرجائِهَا» في وقتٍ واحدٍ بل أوقات، والمراد - والله أعلم - أن الملائكة على أرجائها إلَاّ أنه ملك واحد ينتقل على أرجائها في أوقات.
وقال شهاب الدين: إنَّ الزمخشريَّ منزعهُ في هذا ما تقدم عنه في أواخر سورة «
البقرة» عند قوله: {وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] فليرجع ثمَّة.
وأما قول أبي حيان: «ما مِنْ رجالٍ» أن النفي منسحبٌ على رُتَب الجمع، ففيه خلاف، والتحقيق ما ذكره.
قوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} .
الضمير في «فَوقَهُمْ» يجوز أن يعود على «الملائكة» بمعنى كما تقدم، وأن يعود على الحاملين الثمانية.
وقيل: إنَّ حملة العرشِ فوقَ الملائكةِ الذينَ في السماء على أرجائها.
وقيل: يعود على جميع العالم، أي: أن الملائكة تحمل عرش الله فوق العالم كلِّه.
فصل في هؤلاء الثمانية
قال ابن عباس: ثمانية صنوفٍ من الملائكة لا يعلم عددهم إلا الله.
وقال ابن زيد: هم ثمانية أملاكٍ.
وعن الحسن: الله أعلمُ كم هم ثمانية، أم ثمانية آلاف، أو ثمانية صفوف. وعن النبي صلى الله عليه وسلم َ «أَنَّ حَمَلةَ العَرْشِ اليَوْم أربعةُ أوعالٍ، فإذَا كان يومُ القيامةِ أيدهُم اللَّهُ بأربَعة آخرين، فكانُوا ثَمانيَةً» خرَّجَهُ الماورديُّ مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم َ. ورواه العباسُ بنُ عبد المطّلب عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم َ قال: «هُمْ ثَمانِيَةُ أملاكٍ على صورةِ الأوعالِ، لكلِّ ملكٍ منهُم أربعةُ أوجهٍ: وجهُ رجُلٍ، ووجهُ أسدٍ، ووجهُ ثورٍ، ووجهُ نسْرٍ، وكلُّ وجهٍ مِنْهَا يسألُ اللَّهَ الرِّزقَ لذلك الجِنْسِ» .
فإن قيل: إذا لم يكنْ فيهم صورةُ وعلٍ، فكيف سُمُّوا أوعالاً؟ .
فالجواب: أنَّ وجْهَ الثَّور إذا كانت له قرون الوعْلِ أشبه الوعْلَ.
وفي الخبرِ: «أنَّ فَوْقَ السَّماءِ السَّابعةِ ثمانيةَ أوْعالٍ بينَ أظلافهِنَّ ورُكبهنَّ مثلُ ما بَيْنَ
سماءٍ إلى سماءٍ، وفوقَ ظُهورهِنَّ العَرْشُ» ذكره القشيريُّ، وخرَّجهُ الترمذيُّ من حديث العباس بن عبد المُطلبِ.
وفي حديث مرفوع: «أنَّ حَمَلَةَ العرْشِ ثَمَانيَةُ أمْلاكٍ؛ على صُوَرِ الأوعالِ، ما بين أظْلافهَا إلى رُكَبِهَا مسِيْرةُ سبعِينَ عاماً للطَّائرِ المُسْرعِ» .
ورُوي أنَّ أرجلهنَّ في السَّماءِ السَّابعةِ.
فصل في إضافة العرش إلى الله
إضافة العرش إلى الله - تعالى - كإضافة البيت إليه، وليس البيتُ للسكنِ، فكذلك العرشُ، ومعنى «فوقهم» أي: فوق رءوسهم.
قال ابنُ الخطيب: قالت المشبِّهةُ: لو لم يكن اللَّهُ في العرشِ لكان حملُ العرش عبثاً لا فائدة فيه، لا سيما قد أكَّد ذلك بقوله:{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} ، والعرش إنَّما يكونُ لو كان الإلهُ حاضراً في العرش.
وأجاب: بأنه لا يمكن أن يكون المراد أنَّ الله - تعالى - جالس في العرش؛ لأن كل من كان حاملاً للعرش؛ كان حاملاً لكل ما كان في العرش فلو كان الإلهُ على العرش لزم أن يكون الملائكة حاملين لله تعالى، وذلك محالٌ؛ لأنه يقتضي احتياج الله إليهم، وأن يكونوا أعظم قدراً من الله، وكل ذلك كفرٌ، فعلمنا أنه لا بد فيه من التأويل، فنقول: السببُ في هذا الكلام هو أنه - تعالى - خاطبهم بما يتعارفونه، فخلق لنفسه بيتاً يزورونه ليس أنه يسكنه - تعالى الله عن ذلك - وجعل في ركن البيت حجراً، هو يمينه في الأرض إذْ كان من شأنهم أن يعظموا رؤساءهم بتقبيل أيمانهم، وجعل على العبادِ حفظةً لا لأن النسيان يجوزُ عليه سبحانه، وكذلك أنَّ الملك إذا أراد محاسبة عماله جلس على سريره، ووقفت الأعوانُ حوله، فسمى الله يوم القيامة عرشاً، وحفَّت به الملائكة لا لأنه يقعد عليه، أو يحتاجُ إليه، بل كما قلنا في البيت والطَّواف.
قوله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} هو جواب «إذَا» من قوله: «فَإذَا نُفِخَ» . قاله أبو حيَّان.
وفيه نظرٌ، بل جوابها ما تقدم من قوله:«وقَعَتِ الواقِعَةُ» و «تُعْرضُونَ» على هذا مستأنفة.
قوله: {لَا تخفى} .
قرأ الأخوان: بالياء من تحت؛ لأن التأنيث مجازي، كقوله:{وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} [هود: 67] .
واختاره أبو عبيد؛ لأنه قد حال بين الفعل والاسم المؤنث الجار والمجرور.
والأخوان: على أصلهما في إمالة الألف.
وقرأ الباقون: «لا تَخْفَى» بالتاء من فوق للتأنيث اللفظي والفتح وهو الأصل، واختاره أبو حاتم.
فصل في العرض على الله
قال القرطبيُّ: هذا هو العرضُ على الله، ودليله:{وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً} [الكهف: 48] وليس ذلك عرضاً ليعلم ما لم يكن عالماً، بل ذلك العرضُ عبارةٌ عن المحاسبة والمساءلة وتقدير الأعمال عليهم للمجازاة.
قال صلى الله عليه وسلم َ: «يُعْرَضُ النَّاسُ يوم القِيامةِ ثلاثَ عَرضَاتٍ، فأما عَرْضتانِ فَجِدالٌ، ومعَاذِيرٌ وأما الثَّالثةُ فعند ذلك تَطِيْرُ الصُّحُفُ في الأيْدِي فآخِذٌ بيَمِينِهِ وآخِذٌ بِشمالهِ» .
وقوله: {لَا تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} .
قال ابن شجرة: أي: هو عالم بكل شيء من أعمالكم، ف «خَافِيَة» على هذا بمعنى «خفيَّة» كانوا يخفونها من أعمالهم، ونظيره قوله تعالى:{لَا يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ} [غافر: 16] .
قال ابن الخطيب: فيكون الغرضُ المبالغة في التهديدِ، يعني:«تُعرَضُون على من لا يخفى عليه شيء» .
وقيل: لا يخفى عليه إنسان لا يحاسب.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: لا يَخْفَى المُؤمِنُ من الكافر، ولا البَرُّ من الفاجرِ.
وقيل: لا يتسر منكم عورة، لقوله عليه الصلاة والسلام ُ:«يُحْشرُ النَّاسُ حُفاةً عُراةً» .
قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} ، وهذا دليلٌ على النجاة.
قال ابن عباسٍ: أول من يُعْطَى كتابه بيمينه من هذه الأمة عمرُ بن الخطاب، وله شعاعٌ كشعاع الشمس، وقيل له: فأين أبو بكر، فقال: هيهات، زفَّته الملائكةُ إلى الجنَّة.
قال القرطبي: وقد ذكرناه مرفوعاً من حديث زيد بن ثابت بلفظه، ومعناه في كتاب «التذكرة» .
قوله: «هَاؤمَ» ، أي: خذوا {اقرؤا كِتَابيَهْ} يقول ذلك ثقة بالإسلام وسروراً بنجاته؛ لأن اليمين عند العرب من دلائلِ الفرح.
قال الشاعر: [الوافر]
4848 -
إذَا مَا رايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ
…
لقَّاهَا عَرابَةُ باليَميْنِ
وقال: [الطويل]
4849 -
أبِينِي أفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتِنِي
…
فأفْرَحُ أمْ صيَّدْتِنِي بِشمَالِكِ
وقال ابن زيدٍ: معنى: «هَاؤمُ» : تعالوا، فتتعدى ب «إلى» .
وقال مقاتلُ: «هَلُمَّ» .
وقيل: خذوا، ومنه الحديث في الربا:«إلا هَاء وهَاءَ» ، أي: يقول كل واحد لصاحبه: خُذْ، وهذا هو المشهورُ.
وقيل: هي كلمةٌ وضعت لأجابة الدَّاعي عند الفرح، والنَّشاط.
وفي الحديث: «أنَّه نَاداهُ أعرَابِيٌّ بصَوْتٍ عَالٍ، فأجَابَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم َ» هَاؤمُ «يطول صوته.» .
وقيل: معناها «اقصدوا» .
وزعم هؤلاء أنها مركبة من هاء التنبيه، وأموا، من الأم، وهو القصدُ، فصيره التخفيف والاستعمال إلى «هاؤم» .
وقيل: «الميمُ» ضميرُ جماعةِ الذكور.
وزعم القتيبي: أنَّ «الهمزة» بدلٌ من «الكاف» .
فإن عنى أنها تحلُّ محلَّها فصحيح، وإن عنى البدل الصناعي فليس بصحيح.
فقوله: «هاؤم» يطلب مفعولاً يتعدى إليه بنفسه إن كان بمعنى: «خُذْ» أو «اقْصِد إليّ» إن كان بمعنى: «تَعَالَوْا» ، و «اقرأوا» يطلبه أيضاً، فقد تنازعا في:«كِتَابِيَه» وأعمل الثاني للحذف من الأول.
وقد تقدم تحقيق هذا في سورة «الكهف» .
وفيها لغاتٌ: وذلك أنها تكون فعلاً صريحاً، وتكون اسم فعل، ومعناها في الحالين:«خذ» فإن كانت اسم فعلٍ، وهي المذكورة في الآية الكريمة، ففيها لغتان: المدّ والقصر تقول: «هَا درهماً يا زيدُ، وهاء درهماً» ، ويكونان كذلك في الأحوال كلها من إفراد وتثنيةٍ وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ، ويتصل بهما كافُ الخطاب، اتصالها بإسم الإشارة، فتطابق مخاطبك بحسب الواقع مطابقتها وهي ضميره، نحو:«هَاكَ، هَاكِ، هاءَكَ» إلى آخره.
وتخلف كافُ الخطابِ همزة «هاءَ» مصرفة تصرف كاف الخطاب، فتقول:«هَاءَ يا زيدُ، هاءِ يا هندُ، هاؤم، هاؤن» وهي لغةُ القرآن.
وإذا كانت فعلاً صريحاً؛ لاتصال الضمائر البارزة المرفوعة بها كان فيها ثلاثة لغاتٍ:
إحداها: أن يكون مثل «عَاطَى يُعَاطِي» ، فيقال:«هاء يا زيدُ، هائِي يا هندُ، هائيَا يا زيدان أو يا هنداتُ، هاءوا يا زيدون، هائين يا هنداتُ» .
الثانية: أن تكون مثل: «هَبْ» فيقال: «هَأ، هِىء، هَاءَا، هِئُوا، هِئْنَ» ، مثل:«هَبْ، هِبِي، هِبَا، هِبُوا، هِبْنَ» .
الثالثة: أن تكون مثل: «خَفْ» أمراً من الخوف، فيقال:«هَأْ، هَائِي، هَاءَا، هَاءُوا، هَأنَ» ، مثل:«خَفْ، خَافِي، خَافَا، خَافُوا، خفْنَ» .
قوله: «كتابيه» . منصوب ب «هاؤم» عند الكوفيين، وعند البصريين ب «اقرأوا» ؛ لأنه أقربُ العاملين، والأصل «كتابي» فأدخل «الهاء» لتبين فتحة «الياءِ» و «الهاء» في «كتابيه»
و «حسابيه» و «سلطانيه» و «ماليه» للسكتِ، وكان حقُّها أن تحذف وصلاً وتثبت وقفاً، وإنما أجري الوصل مجرى الوقف، أو وصل بنية الوقف في «كتابيه» و «حسابيه» اتفاقاً، فأثبت «الهاء» .
وكذلك في «مَاليَه» و «سلطانيه» و {مَا هِيَهْ} [القارعة: 10] في القارعة، عند القُرَّاء كلهم إلا حمزة، فإنه حذف الهاء من هذه الكلم الثلاث وصلاً، وأثبتها وقفاً؛ لأنها في الوقف يحتاج إليها؛ لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه، وفي الوصل يستغنى عنها.
فإن قيل: فَلِمَ لم يفعل ذلك في «كتابيه» و «حسابيه» ؟ .
فالجواب: أنه جمع بين اللغتين، هذا في القراءات السبعِ.
وقرأ ابن محيصن: بحذفها في الكلم كلِّها وصلاً ووقفاً إلا في «القارعة» ، فإنه لم يتحقق عنه فيها نقل.
وقرأ الأعمشُ، وابن أبي إسحاق: بحذفها فيهن وصلاً، وإثباتها وقفاً.
وابن محيصن: يسكنُ الهاء في الكلم المذكورة بغيرها.
والحق أنها قراءةٌ صحيحةٌ، أعني ثبوت هاء السكتِ وصلاً؛ لثبوتها في خط المصحف الكريم، ولا يلتفت إلى قول الزهراوي إن إثباتها في الوصل لحن لا أعلم أحداً يجيزه. وقد تقدم الكلام على هاء السكت في البقرة والأنعام.
قوله: {إنِّي ظَنَنتُ} .
قال ابن عباس: أي: أيقنتُ وعلمتُ.
وقيل: ظننتُ أن يؤاخذني الله بسيئاتي إن عذبني فقد تفضَّل علي بعفوه، ولم يؤاخذني بها.
قال الضحاك: كل ظن من المؤمن في القرآن فهو يقين، ومن الكافر فهو شك.
وقال مجاهد: ظَنُّ الآخرة يقين وظَنُّ الدنيا شَكٌّ.
وقال الحسن في هذه الآية: إنّ المؤمن من أحسن الظَّن بربّه فأحسن العمل، وإن المنافق أساء الظن بربه، فأساء العمل.
وقوله: {أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} ، أي: في الآخرة، ولم أنكرْ البعث، يعني أنه ما نجا إلا بخوفه من يوم الحساب؛ لأنه تيقّن أن الله يحاسبه، فعمل للآخرة.
قوله: {رَّاضِيَةٍ} ، فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه على المجاز جعلت العيشة راضية؛ لمحلها في مستحقيها، وأنها لا حال أكمل من حالها، والمعنى في عيش يرضاه لا مكروه فيه.
الثاني: أنه على النَّسب، أي: ذات رضا، نحو:«لابنٌ وتامرٌ» لصاحب اللَّبن والتَّمْرِ والمعنى: ذات رضا يرضى بها صاحبها.
الثالث: قال أبو عبيدة والفراء: إنه مما جاء فيه «فاعل» بمعنى مفعول نحو: {مَّآءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6]، أي: مدفوق، كما جاء مفعول بمعنى فاعل، كقوله:{حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45]، أي: ساتراً.
فصل في تنعم أهل الجنة.
قال عليه الصلاة والسلام ُ: «إنَّهُم يَعِيشون فلا يَمُوتُون أبداً، ويصحُّونَ فلا يَمْرضُونَ أبداً، وينعَمُونَ فلا يَرَوْنَ بأساً أبَداً ويَشِبُّونَ فلا يَهْرمُونَ أبداً» .
قوله: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} ، أي: عظيمةٌ في النفوس، {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} ، القطوف جمع: قطف، وهو فعل بمعنى مفعول، ك «الدِّعْي» و «الذِّبْح» ، وهو ما يَجتنِيهِ الجاني من الثِّمار، و «دَانِيَةٌ» ، أي: قريبة التناولِ يتناولها القائم، والقاعد، والمضطجع.
والقِطْف - بكسر القاف - وهو ما يقطفُ من الثِّمار، والقَطْفِ - بالفتح - المصدر، والقِطَاف - بالفتح والكسر - وقت القطف.
{كُلُواْ} ، أي: يقال لهم: كلوا واشربوا، وهذا أمر امتنان، لا أمرُ تكليف.
وقوله: «هنيئاً» قد تقدم في أول النساء وجوَّز الزمخشريُّ فيه هنا أن ينتصب نعتاً لمصدر محذوفٍ، أي:«أكْلاً هنيئاً وشُرْباً هنيئاً» ، وأن ينتصب على المصدر بعامل من لفظه مقدر، أي:«هَنِئْتُم بذلك هَنِيئاً» . و «الباء» في «بما أسْلفتُمْ» سببية، و «ما» مصدرية أو اسمية، ومعنى «هَنِيئاً» ، لا تكدير فيه ولا تنغيص، «بما أسْلَفْتُم» قدمتم من الأعمال {فِي الأيام الخالية} ، أي: في الدنيا.
قالت المعتزلةُ: وهذا يدل على أنَّ العمل يوجبُ الثوابَ، وأن الفعل للعبدِ، وقال:«كُلُوا» بعد قوله: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} لقوله: {فأما من أوتي كتابه} ، و «من» تتضمنُ معنى الجمعِ.
فصل فيمن نزلت فيه الآية
ذكر الضحاكُ: أن هذه الآية نزلت في أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي.
وقال مقاتل: والآية التي قبلها في أخيه الأسود بن عبد الأسد في قول ابن عبَّاس والضحاك.
قال الثعلبي: ويكون هذا الرجل، وأخوه سبب نزول هذه الآيات، ويعم المعنى جميع أهل الشقاوةِ، والسعادة، بدليل قوله تعالى:{كُلُواْ واشربوا} .
وقيل: إنَّ المراد بذلك كل من كان متبوعاً في الخير والشر يدعو إليه، ويأمر به.
قوله: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} لما نظر في كتابه وتذكر قبائح أفعاله يخجل منها ويقول: {ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} ثُم يتمنَّى الموت، ويقول:{ياليتها كَانَتِ القاضية} .
فالضَّميرُ في «لَيْتهَا» قيل: يعود إلى الموتةِ الأولى، وإن لم تكن مذكورة، إلا أنها لظهورها كانت كالمذكورة.
و «القَاضِيَة» : القاطعةُ من الحياة، قال تعالى:{فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} [الجمعة: 10]، ويقال: قُضِيَ على فلان، إذا مات، والمعنى: يا ليتها الموتة التي كانت القاطعة لأمري، ولم أبْعَثْ بعدها، ولم ألقَ ما وصلت إليه.
قال قتادة: يتمنى الموت، ولم يكن في الدنيا عنده شيء أكره من الموت، وشرٌّ من الموت ما يطلب منه الموت؛ قال الشاعر:[الطويل]
4850 -
وشَرٌّ مِنَ الموْتِ الذي إنْ لَقيتُهُ
…
تَمَنَّيتُ مِنْهُ المَوْتَ، والمَوْتُ أعْظَمُ
وقيل: يعود إلى الحالة التي شاهدها عند مطالعة الكتاب، والمعنى: يا ليت هذه الحالة كانت الموتة التي قضت عليَّ.
قوله: {مَآ أغنى عَنِّي} ، يجوزُ أن يكون نفياً، وأن يكون استفهام توبيخٍ لنفسه، أي: أيُّ شيءٍ أغنى عني ما كان لي من اليسار.
{هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} قال ابن عباس: هلكتْ عنِّي حُجَّتِي، والسلطانُ: الحجةُ التي كنتُ أحتجُّ بها، وهو قول مجاهدٍ وعكرمة والسُّدي والضَّحاك.
وقال مقاتل: ضلت عني حجّتي حين شهدت عليه الجوارح.
وقال ابن زيد: يعني مُلكي وتسلّطي على الناس، وبقيت ذليلاً فقيراً، وكان مُطاعاً في أصحابه.
قوله: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} ، كقوله:{كُلُواْ واشربوا} [الحاقة: 24] في إضمار القولِ، يقال ذلك لخزنةِ جهنَّم، والغلُّ: جمعُ اليدين إلى العُنُق، أي: شدوه بالأغلالِ.
{ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ} ، أي: اجعلوه يصلى الجحيمَ، وهي النارُ العظمى؛ لأنه كان يتعاظمُ في الدنيا.
وتقديمُ المفعول يفيد الاختصاص عند بعضهم.
ولذلك قال الزمخشريُّ: «ثُمَّ لا تصلوه إلا الجَحيم» قال أبو حيان: «وليس ما قاله مذهباً لسيبويه ولا لحُذاقِ النُّحاةِ» ، وقد تقدمت هذه المسألةُ متقنة، وأنَّ كلام النحاة لا يأبى ما قاله.
قوله: {ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً} ، في محل جر صفة ل «سِلْسِلَة» و «في سِلْسِلة» متعلق ب «اسْلُكُوه» ، و «الفاء» لا تمنع من ذلك.
و «الذِّراع» مؤنث، ولذلك يجمع على «أفْعُل» وسقطت «التاء» من عدده.
قال الشاعر: [الرجز]
4851 -
أرْمِي عَليْهَا وهْيَ فَرْعٌ أجْمَعُ
…
وهْيَ ثَلاثُ أذْرُعٍ وإصْبَعُ
وذكر السبعين دون غيرها من العدد، قيل: المرادُ به التكثير، كقوله:{إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 10] .
وقيل: المراد حقيقة العدد.
قال ابن عباسٍ: سبعون ذراعاً بذراع الملكِ.
وقال نوف البكالي: سبعون ذراعاً، كل ذراع سبعون باعاً، كل باع كما بينك وبين «مكّة» وكان في رحبة «الكوفة» .
وقال الحسنُ: الله أعلم أي ذراعٍ.
وزعم بعضهم أنَّ في قوله: «فِي سِلْسلَةٍ» «فاسْلُكوهُ» قلباً، قال: لأنه نُقِلَ في التفسير أنَّ السلسلة تدخل من فيه، وتخرج من دبره، فهي المسلوكُ فيه لا هو المسلوكُ فيها، والظاهر أنَّه لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه روي أنها لطولها، تجعل في عنقه، وتلتوي عليه، حتى تحيط به من جميع جهاته، فهو المسلوكُ فيها لإحاطتها به.
وقال الزمخشريُّ: والمعنى في تقديم السِّلسلة على السلك مثله في تقديم الجحيم على التًّصلية، أي: لا تسلكوه إلا في هذه السلسة، وثم للدلالة على التفاوتِ لما بين الغلِّ والتصليةِ بالجحيم وما بينها، وبين السلك في السلسلة، لا على تراخي المدة.
وناعه أبو حيان في إفادة تقديم الاختصاص كعادته، وجوابه ما تقدم.
ونازعه أيضاً في أن «ثُمَّ» للدلالةِ على تراخي الرُّتْبةِ.
وقال مكيٌّ: التراخي الزماني بأن يُصلى بعد أن يسلك، ويسلك بعد أن يُؤخذ ويغلي بمهله بين هذه الأشياء. انتهى.
وفيه نظرٌ من حيثُ إن التوعد بتوالي العذاب آكد، وأقطع من التوعد بتغريقه.
قوله: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بالله العظيم وَلَا يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين} .
«الحضُّ» : الحثُّ على الفعل والحرص على وقوعه، ومنه حروفُ التحضيض المبوب لها في النحو؛ لأنَّه يطلب بها وقوع الفعل وإيجاده، فبيَّن تعالى أنه عذِّب على تركِ الإطعامِ، وعلى الأمر بالبخلِ كما عذِّب بسبب الكُفْرِ.
قال ابن الخطيب: وفي الآية دليلُ على أنَّ الكُفَّار مخاطبون بالفروع.
كان أبو الدرداء يحض امرأته على الإطعام ويقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان، أفلا نخلع نصفها الثاني بالإطعام.
وقيل: المراد قول الكفار: {أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ} [يس: 47] .
وأصل «طعام» أن يكون منصوباً بالمصدر المقدر، والطعام عبارةٌ عن العين، وأضيف للمسكين للملابسةِ التي بينهما، ومن أعمل الطعام كما يعمل الإطعام، فموضع «المسكين» نصب، والتقدير: على إطعام المطعم المسكين، فحذف الفاعل، وأضيف المصدر إلى المفعول.
قوله: {فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ} في خبر «ليس» وجهان:
أحدهما: «له» .
والثاني: هاهنا، وأيهما كان خبراً تعلق به الآخر، أو كان حالاً من «حميم» ، ولا يجوز أن يكون «اليوم» خبراً ألبتة؛ لأنه زمان والمخبر عنه جثة.
ومنع المهدوي أن يكون «هاهُنَا» خبراً، ولم يذكر المانع.
وقد ذكره القرطبي فقال: «لأنه يصير المعنى: ليس هاهنا طعام إلا من غسلين، ولا يصح ذلك؛ لأن ثمَّ طعاماً غيره» . انتهى وفي هذا نظر؛ لأنا لا نسلم أولاً أن ثمَّ طعاماً غيره، فإن أورد قوله:{لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَاّ مِن ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] فهذا طعام آخر غير الغسلين.
فالجواب: أن بعضهم ذهب إلى أن الغسلين هو الضريع بعينه، فسمَّاه في آية «غسليناً» وفي أخرى «ضريعاً» .
ولئن سلمنا أنهما طعامان، فالحصر باعتبار الآكلين، يعني: أنَّ هذا الآكل انحصر طعامه في الغسلين، فلا ينافي أن يكون في النار طعام آخر.
وإذا قلنا: إن «له» الخبر، وأن «اليوم» ، و «هاهنا» متعلقان بما تعلق هو به، فلا إشكال، وكذلك إذا جعلنا «هاهنا» هو الخبر، وعلقنا به الجار والظرف، ولا يضرّ كون العامل معنوياً للاتساع في الظروف وحروف الجر.
وقوله: {إِلَاّ مِنْ غِسْلِينٍ} ، صفة ل «طعام» ، دخل الحصر على الصفة، كقولك:«ليس عندي إلا رجلٌ من بني تميم» .
والمراد ب «الحميم» : الصديق، فعلى هذا الصفة مختصة بالطَّعام، أي: ليس له صديق ينفعه، ولا طعام إلا من كذا.
وقيل: التقدير: ليس له حميم إلَاّ من غسلين ولا طعام. قاله أبو البقاء.
فجعل «مِنْ غسْلِين» صفة ل «الحميم» ، كأنه أراد الشَّيء الذي يحم به البدن من صديد النَّار.
وقيل: من الطعام والشَّراب؛ لأن الجميع يطعم، بدليل قوله:{وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} [البقرة: 249] .
فعلى هذا يكون {إلَاّ من غسلين} صفة ل «حميم» ول «طعام» ، والمرادُ بالحميم: ما يشرب، أي: ليس له طعام، ولا شراب إلا غسليناً.
أما إذا أريد بالحميم: الصديد فلا يتأتَّى ذلك.
وعلى هذا الذي ذكرنا، فيه سؤالٌ، وهو أن يقال: بأي شيء تعلَّق الجارُّ والظرفان؟ والجواب: إنَّها تتعلق بما تعلق به الخبرُ، أو يجعل «له» أو «هاهنا» حالاً من «حميم» ويتعلق «اليوم» بما تعلق به الحال، ولا يجوز أن يكون «اليوم» حالاً من «حميم» ، و «له» و «هاهنا» متعلقان بما تعلق به الحال؛ لأنه ظرف زمان، وصاحبُ الحال جثة، وهذا موضعٌ حسنٌ مفيدٌ.
و «الغِسْلين» : «فِعْلين» من الغُسَالة، فنُونُه وياؤه زائدتان.
قال أهل اللغة: هو ما يجري من الجراح إذا غسلت.
قال المفسرون: هو صديدُ أهل النَّارِ.
وقيل: شجر يأكلونه.
وعن ابن عباس: لا أدري ما الغِسْلينُ.
وسمي طعاماً؛ لقيامه مقامه فسمي طعاماً؛ كقوله: [الوافر]
4852 -
…
...
…
...
…
...
…
... .
…
تَحِيَّةُ بَينِهمْ ضَرْبٌ وجِيعُ
قوله: {لَاّ يَأْكُلُهُ إِلَاّ الخاطئون} . صفة ل «غسلين» .
والعامةُ: يهمزون «الخاطئون» ، وهم اسم فاعل من «خَطَأ يَخْطأ» إذا فعل غير الصواب متعمداً، والمخطىءُ من يفعله غير متعمد.
وقرأ الحسنُ والزهريُ والعتكي وطلحة: «الخَاطِيُون» بياء مضمومة بدل الهمزة.
وقرأ ناقع في رواية وشيبة: بطاء مضمومة دون همزة.
وفيها وجهان:
أحدهما: أنه كقراءة الجماعةِ إلا أنه خفف بالحذف.
والثاني: أنه اسم فاعل من «خَطَا يَخْطُوا» إذا اتبع خطوات غيره، فيكون من قوله تعالى:{وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} [البقرة: 168] ، قاله الزمخشريُّ.
وقد تقدم أول الكتاب أن نافعاً يقرأ: «الصَّابيون» بدون همز، وكلام الناس فيها.
وعن ابن عباس: ما الخاطُون، كلنا نخطُو.
وروى عنه أبو الأسود الدؤليُّ: ما الخاطُون إنما هو الخاطئون، وما الصَّابون إنما هو الصَّابئون، ويجوز أن يراد الذين يتخطون الحقَّ إلى الباطل ويتحدون حدود الله.
قوله: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} .
قد تقدم مثله في آخر الواقعة، إلا أنه قيل هاهنا: إن «لا» نافية لفعل القسم، وكأنه قيل: لا احتياجَ أن أقسمُ على هذا؛ لأنه حقٌّ ظاهرٌ مستغنٍ عن القسم، ولو قيل به في الواقعة لكان حسناً.
واعلم أنه - تعالى - لما أقام الدلالة على إمكان القيامةِ، ثم على وقوعها، ثم ذكر أحوال السُّعداءِ، وأحوال الأشقياء، ختم الكلام بتعظيم القرآنِ، فقال:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} .
وقيل: المراد: أقسم، و «لا» صلةٌ، والمعنى أقسم بالأشياء كلها ما ترون منها وما لا ترون، فعمَّ جميع الأشياء على الشمول؛ لأنها لا تخرجُ عن قسمين: مبْصر وغير مبصر، فقيل: الخالقُ والخلقُ، والدنيا والآخرة، والأجسام والأرواح، والإنس والجنُّ، والنعم الظاهرة، والباطنة.
وإن لم تكن «لا» زائدة، فالتقدير: لا أقسم على أنَّ هذا القرآن قول رسولٍ كريم - يعني «جبريل» ، قاله الحسن والكلبي ومقاتل - لأنه يستغنى عن القسم لوضوحه.
وقال مقاتل: سببُ نزولِ هذه الآية أن الوليد بن المغيرة قال: إنَّ محمداً ساحرٌ.
وقال أبو جهل: شاعر وليس القرآن من قول النبي صلى الله عليه وسلم َ. وقال عقبة: كاهن، فقال الله تعالى:{فَلَا أُقْسِمُ} أي: أقسم.
وإن قيل: «لا» نافية للقسم، فجوابه كجواب القسم.
«إنه» يعني القرآن {لقول رسول كريم} يعني جبريل. قاله الحسن والكلبي ومقاتل، لقوله:{لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ} [التكوير: 19، 20] .
وقال الكلبي أيضاً والقتبي: الرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم َ لقوله: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} ، وليس القرآن من قول الرسول صلى الله عليه وسلم َ إنما هو من قول الله عز وجل ونسب القول إلى الرسولِ، لأنه تاليه ومبلغه والعامل به، كقولنا: هذا قول مالك.
فإن قيل: كيف يكونُ كلاماً لله تعالى، ولجبريل، ولمحمد عليهما الصلاة والسلام؟
فالجواب: أن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسةٍ، فالله سبحانه أظهره في اللوح المحفوظ، وجبريلُ بلغه لمحمدٍ - عليهما الصلاة والسلام - ومحمد صلى الله عليه وسلم َ بلغه للأمة.
قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ} هو جوابُ القسمِ، وقوله:{وَمَا هُوَ بِقَوْلِ} معطوف على الجواب، فهو جواب. أقسم على شيئين: أحدهما: مثبت، والآخر: منفي، وهو من البلاغة الرائعة.
قوله: {قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} ، {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} .
انتصب «قليلاً» في الموضعين نعتاً لمصدر، أو زمان محذوف، أي: إيماناً أو زماناً قليلاً، والنَّاصبُ:«يؤمنون» و «تذكرون» و «ما» مزيدةٌ للتوكيدِ.
وقال ابن عطية: ونصب «قليلاً» بفعلٍ مضمرٍ يدل عليه: «تؤمنون» ، و «ما» يحتملُ أن تكون نافية، فينتفى إيمانهم ألبتة، ويحتمل أن تكون مصدرية، وتتصف بالقلة، فهو الإيمان اللغوي؛ لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرةٍ لا تغني عنهم شيئاً، إذ كانوا يصدقون أن الخيرَ والصلةَ والعفافَ الذي يأمرُ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ هو حقّ وصواب.
قال أبو حيَّان: أما قوله: «قليلاً نصب بفعل» إلى آخره، فلا يصح؛ لأن ذلك الفعل الدال عليه «تؤمنون» إما أن تكون «ما» نافية - كما ذهب إليه - أو مصدرية، فإن كانت نافية فذلك الفعل المُضْمَر الدال عليه «تؤمنون» المنفي ب «ما» يكون منفياً، فيكونُ التقدير: ما تؤمنون قليلاً ما تُؤمنون، والفعل المَنْفِي ب «ما» لا يجوز حذفه، ولا حذف ما، لا يجوز «زيداً ما أضربُه» على تقدير:«ما أضْربُ زيداً ما أضربه» ، وإن كانت مصدرية كانت إما في موضع رفعٍ ب «قليلاً» على الفاعلية، أي: قليلاً إيمانكم، ويبقى «قليلاً» لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له، وإما في موضع رفعٍ على الابتداء؛ فيكون مبتدأ لا خبر له، لأن ما قبلهُ منصُوبٌ.
قال شهابُ الدين: لا يُريد ابن عطية بدلالةِ «تؤمنون» على الفعل المحذوف الدلالة في باب الاشتغال، حتى يكون العامل الظاهر مفسراً للعامل المضمر، بل يريد مجرّد الدلالة اللفظية، فليس ما أورده أبو حيان عليه من تمثيله بقوله:«زيداً ما أضربه» أي: «ما أضرب زيداً ما أضربُه» وأما الردُّ الثاني فظاهرٌ، وقد تقدم لابن عطية هذا القولُ في أول سورة «الأعراف» فَليُلتَفَتْ إليه.
وقال الزمخشريُّ: «والقّلةُ في معنى العدم، أي: لا تؤمنون ولا تذكرون ألبتَّة» .
قال أبو حيَّان: ولا يُرادُ ب «قليلاً» هنا النفي المحض كما زعم، وذلك لا يكون إلَاّ في «أقلُّ رجل يقول ذلك إلا زيدٌ» ، وفي «قل» نحو «قَلَّ رجلٌ ذلك إلا زيدٌ» وقد يستعمل في «قليلة» ، و «قليلة» إذا كانا مرفوعين، نحو ما جوزوا في قول الشاعر:[الطويل]
4853 -
…
...
…
...
…
...
…
...
…
قَلِيلٌ بِهَا الأصْوَاتُ إلَاّ بُغامُهَا
أما إذا كان منصوباً نحو: «قليلاً ضربت، أو قليلاً ما ضربت» على أن تكون «ما» مصدرية، فإن ذلك لا يجوزُ؛ لأنه في «قليلاً ضربت» منصوب ب «ضربت» ، ولم تستعمل العرب «قليلاً» ، إذا انتصب بالفعل نفياً، بل مقابلاً لكثير، وأما في «قليلاً ما ضربت» على أن تكون «ما» مصدريةٌ، فتحتاج إلى رفع «قليل» ؛ لأن «ما» المصدرية في موضع رفع على الابتداء.
انتهى ما رد به عليه.
قال شهاب الدين: «وهذا مجرد دعوى» .
وقرأ ابنُ كثيرٍ وابن عامر بخلافٍ عن ابن ذكوان: «يؤمنون، يذكرون» بالغيبة حملاً على «الخاطئون» والباقون: بالخطاب، حملاً على «بما تبصرون» .
وأبيّ: وتتذكرون «بتاءين» .
فصل في القرآن الكريم
قوله: {وما هو بقول شاعرٍ} ؛ لأنه مباينٌ لصنوفِ الشعر كلِّها، {ولا بقول كاهنٍ} ؛ لأنه ورد بسبِّ الشياطين وشتمهم فلا ينزلون شيئاً على من سبِّهم.
وقوله: {قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ} ، المراد بالقليل من إيمانهم هو أنهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا: الله.
وقيل: إنهم قد يؤمنون في قلوبهم إلا أنهم يرجعون عنه سريعاً، ولا يتممون الاستدلال، ألا ترى إلى قوله تعالى:{إنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} [المدثر: 18] إلا أنه في آخرِ الأمرِ قال: {إِنْ هاذآ إِلَاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24] .
وقال مقاتل: يعني بالقليل أنهم لا يصدقون بأن القرآن من الله تعالى، والمعنى لا يؤمنون أصلاً، والعربُ يقولون: قلّ ما تأتينا، يريدون لا تأتينا.
قوله: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين} ، هذه قراءةُ العامة، أعني الرَّفع على إضمار مبتدأ، أي: هو تنزيلٌ وتقدم مثله.
وأبو السِّمال: «تنزيلاً» بالنصب على إضمار فعل، أي: نزل تنزيلاً.
قال القرطبي: وهو عطفٌ على قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أي: إنه لقول رسول كريم، وهو تنزيل من رب العالمين.
قوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ} ، هذه قراءةُ العامَّة، «تَفعَّل» من القول مبنيًّا للفاعل.
قال الزمخشريُّ: «التقوُّلُ، افتعالُ القولِ؛ لأن فيه تكلُّفاً من المفتعل» .
وقرأ بعضهم: «تُقُوِّلَ» مبنياً للمفعول.
فإن كان هذا القارىءُ رفع ب «بَعْضَ الأقاويل» فذاك، وإلا فالقائم مقام الفاعل الجار، وهذا عند من يرى قيام غير المفعول به مع وجوده.
وقرأ ذكوانُ وابنه محمد: «يَقُولُ» مضارع «قَالَ» .
و «الأقاويل» جمعُ: «أقوال» ، و «أقوال» جمع:«قول» ، فهو نظير:«أبَاييت» جمع: «أبياتٍ» جمع «بيتٍ» .
وقال الزمخشريُّ: وسمى الأقوال المنقولة أقاويل تصغيراً لها وتحقيراً، كقولك:«الأعاجيب» و «الأضاحيك» ، كأنها جمع «أفعولة» من القول.
والمعنى: لو نسب إلينا قولاً لم نقله «لأخذْنَا مِنْهُ باليَميْنِ» أي: لأخذناه بالقوة، و «الباء» يجوز أن تكون على أصلها غير مزيدة، والمعنى لأخذناه بقوة منا ف «الباء» حالية، والحالُ من الفاعل، وتكون «من» في حكم الزائدةِ، واليمينُ هنا مجاز عن القوة والغلبة؛ لأن قوة كل شيء في ميامنه.
قال القتبي: وهو معنى قول ابن عباس ومجاهد.
ومنه قول الشماخ: [الوافر]
4854 -
إذَا ما رايةٌ رُفِعتْ لمَجْدٍ
…
تلقَّاهَا عَرابَةُ باليَميْنِ
قال أبو جعفر الطبري: هذا الكلام مخرج مخرج الإذلال، على عادة الناس في الأخذ بيد من يعاقب.
ويجوز أن تكون الباءُ مزيدةً، والمعنى: لأخذنا يمينه، والمراد باليمين الجارحة كما يفعل بالمقتول صبراً يؤخذ بيمينه، ويضرب بالسَّيف، في جيده موجهة، وهو أشد عليه.
قال الحسن: لقطعْنَا يدهُ اليمنى.
وقال نفطويه: المعنى لقبضنا بيمينه عن التصرف.
وقال السدِّي ومقاتل: والمعنى: انتقمنا منه بالحقِّ؛ واليمين على هذا بمعنى الحق، كقوله تعالى:{إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين} [الصافات: 28] أي: من قبل الحق.
قوله: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} . وهو العِرْق المتصل من القلب بالرأس الذي إذا قُطعَ مات صاحبُه.
قاب أبو زيد: وجمعه الوُتْن، وثلاثة أوتِنَة، والموتُون الذي قُطِعَ وتينُه.
وقال الكلبي: هو عِرْق بين العلباء والحُلْقوم، وهما علباوان، وإن بينهما العِرْق.
والعِلْباء: عصب العنق.
وقيل: عرق غليظ تصادفه شفرة النَّاحر.
قال الشماخُ: [الوافر]
4855 -
إذَا بلَّغَتنِي وحَملْتِ رحْلِي
…
عرَابَةُ فاشْرقِي بِدمِ الوتِينِ
وقال مجاهد: هو حبل القلب الذي في الظهر، وهو النخاع، فإذا انقطع بطلت القوى، ومات صاحبه.
وقال محمدُ بن كعب: إنه القلبُ ومراقه، وما يليه.
وقال عكرمة: إنَّ الوتينَ إذا قُطعَ لا إن جَاعَ عرف ولا إن شَبعَ عرف.
قال ابن قتيبة: ولم يرد أنا نقطعه بعينه، بل المراد أنه لو كذب لأمتناه فكان كمن قُطِعَ وتينه.
ونظيرهُ قوله صلى الله عليه وسلم َ: «مَا زَالَتْ أكْلَةُ خيْبَر تُعاودُنِي، فهذا أوَانُ انقِطَاعِ أبْهَرِي» «والأبَهَرُ» : عِرْقٌ متصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبُه، فكأنه قال: هذا أوانُ يقتلني السُّم، وحينئذ صرتُ كمن انقطع أبهره.
قوله: {فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} .
في «حاجزين» وجهان:
أحدهما: أنه نعت ل «أحد» على اللفظ، وإنما جمع المعنى، لأن «أحداً» يعُمُّ في سياق النفي كسائر النكراتِ الواقعة في سياق النَّفْي، قاله الزمخشري والحوفيُّ.
وعلى هذا فيكون «مِنْكُم» خبراً للمبتدأ، والمبتدأ في «أحد» زيدت فيه «مِنْ» لوجود شرطها.
وضعفه أبو حيَّان: بأن النفي يتسلَّط على كينونته «منكم» ، والمعنى إنما هو على نفي الحجز عما يراد به.
والثاني: أن يكون خبراً ل «ما» الحجازية، و «من أحد» اسمها، وإنما جُمِع الخبرُ لما تقدم و «منكم» على هذا حالٌ، لأنه في الأصل صفة ل «أحد» أو يتعلق ب «حاجزين» ولا يضر ذلك لكون معمول الخبر جاراً، ولو كان مفعولاً صريحاً لامتنع، لا يجوز:«ما طعامك زيداً آكلاً» ، أو متعلق بمحذوف على سبيل البيان، و «عنه» يتعلق ب «حاجزين» على القولين، والضمير للمقتول، أو للقتل المدلول عليه بقوله:«لأخذْنَا، لقطعنا» .
قال القرطبيُّ: المعنى فما منكم قوم يحجزون عنه لقوله تعالى {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] هذا جمع لأن «بين» لا تقع إلا على اثنين فما زاد، قال عليه الصلاة والسلام ُ:«لَمْ تحلَّ الغَنائِمُ لأحدٍ سُودِ الرُّءوسِ قَبْلكُمْ» .
لفظه واحد، ومعناه الجمع، و «من» زائدة.
والحَجْز: المنع، و «حَاجزيْنَ» يجوز أن يكون صفة ل «أحد» ، على المعنى كما
تقدم، فيكون في موضع جر، والخبر «منكم» ، ويجوز أن يكون منصوباً، على أنه خبر، و «منكم» ملغى، ويكون متعلقاً ب «حاجزين» ، ولا يمنع الفصل به من انتصاب الخبر في هذا، كما لم يمتنع الفصل به في «إنَّ فيك زيداً راغبٌ» .
قوله: {وَإِنَّهُ} . يعني: القرآن {لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} ، أي: الخائفين الذين يخشون الله، ونظيره {فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] .
وقيل: المراد محيمد صلى الله عليه وسلم َ أي: هو تذكرة ورحمة ونجاة.
{وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُم مُّكَذِّبِينَ} .
قال الربيع: بالقرآن، {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ} يعني: القرآن {عَلَى الكافرين} إمَّا يوم القيامة إذا رأوا ثواب المصدقين به، أو في الدنيا إذا رأوا دولة المؤمنين به، أو حين لم يقدروا على معارضته حين تحدَّاهم أن يأتوا بسورة مثله.
والحسرة: الندامة.
وقيل: «إنه لحسرة» يعني: التكذيب به، لدلالة مكذبين على المصدر دلالة «السَّفيه» فيه في قوله:[الوافر]
4856 -
إذَا نُهِيَ السَّفيهُ جَرَى إليْهِ
…
وخَالفَ، والسَّفيهُ إلى خِلافِ
أي: إلى السَّفهِ.
فصل فيمن استدل بالآية على أن الكفر ليس من الله
قال ابنُ الخطيب: وللمعتزلة أن يتمسكوا بهذه الآية، على أنَّ الكُفر ليس من الله؛ لأنه وصف القرآن بأنه تذكرةٌ للمتقين، ولم يقل: إنه ضلالٌ للمكذبين؛ بل نسب الضَّلال إليهم بقوله: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ} .
والجوابُ: ما تقدم.
قوله: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين} يعني: القرآن العظيم، تنزيل من الله عز وجل فهو كحق اليقينِ.
وقيل: حقًّا يقيناً لا بطلان فيه، ويقيناً لا ريب فيه، ثم أضيف أحد الوصفين إلى الآخرة للتأكيد، قاله ابن الخطيب.
وقال القرطبيُّ: قال ابنُ عبَّاسٍ: إنما هو كقولك: عينُ اليقينِ ومحضُ اليقينِ، ولو كان اليقينَ نعتاً لم يجز أن يضاف إليه، كما لا تقول: هذا رجل الظريف.
وقيل: أضافه إلى نفسه لاختلاف اللفظين.
وقوله: {فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم} .
قال ابن عبَّاس: أي: فَصَلِّ لربِّك وقيل: نزِّه اللَّه عن السوءِ والنقائصِ، إما شُكْراً على ما جعلك أهْلاً لإيحائه إليك، وإمَّا تنزيهاً له عن الرضا بأن يُنسبَ إليه الكذبُ من الوَحْي.
روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ الحَاقَّةِ حَاسَبَهُ اللَّهُ عز وجل حِسَاباً يَسِيراً» .
وعن فُضالةَ بنِ شريك، عن أبي الزاهرية قال: سمعته يقول: «مَنْ قَرَأ إحدى عَشْرَةَ آيةً من سُورةِ الحاقَّةِ، أجِير من فِتْنَةِ الدَّجَّالِ؛ ومنْ قَرَأها، كَانَ لَهُ نُوراً مِنْ فَوْقِ رَأسِهِ إلى قَدَمَيْهِ» .
سورة المعارج
مكية، وهي أربعة وأربعون آية، ومائتان وستة عشر كلمة، وألف وإحدى وستون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى:{سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} .
قرأ نافع وابن عامرٍ: «سَالَ سَائِلٌ» بغير همز.
والباقون: بالهمز، فمن همز، فهو من السؤال، وهي اللغةُ الفاشيةُ.
ثم لك في «سأل» وجهان:
أحدهما: أن يكون قد ضمن معنى «دعا» فلذلك تعدَّى بالباءِ، كما تقول: دعوتُ بكذا، والمعنى: دعا داعٍ بعذابٍ.
والثاني: أن يكون على أصله، والباء بمعنى «عن» ، كقوله:[الطويل]
4856 -
م - فإنْ تَسْألُونِي بالنِّسَاءِ
…
.....
…
...
…
...
…
...
…
{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] وقد تقدم تحقيقه.
والأول أولى لأن التجوزَ في الفعل أولى منه في الحرف لقوته.
وأما القراءةُ بالألف ففيها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنها بمعنى قراءة الهمزة، وإنما خففت بقلبها ألفاً، وليس بقياس تخفيف مثلها، بل قياس تخفيفها، جعلها بَيْنَ بَيْنَ، والباء على هذا الوجه كما في الوجه الذي تقدم.
الثاني: أنَّها من «سَالَ يَسالُ» مثل: خَافَ يخافُ، وعين الكلمة واو.
قال الزمخشريُّ: «وهي لغةُ قريش، يقولون: سلت تسال، وهما يتسايلان» .
قال أبو حيَّان: وينبغي أن يتثبت في قوله: «إنها لغةُ قريش» ؛ لأن ما جاء في القرآن من باب السؤال هو مهموز، أو أصله الهمز، كقراءة من قرأ {وسَلُوا} [النساء: 32] ، إذ لا يجوز أن يكون من «سَالَ» التي يكون عينها واواً، إذ كان يكون «وسالوا الله» مثل «خافوا» فيبعد أن يجيء ذلك كلُّه على لغةِ غير قريش، وهم الذين نزل القرآنُ بلغتهم إلا يسيراً فيه لغة غيرهم، ثم جاء في كلام الزمخشري: وهما «يتسايلان» بالياء، وهو وهم من النُّساخ، إنما الصواب: يتساولان - بالواو - لأنه صرح أولاً أنه من السؤال، يعني بالواو الصريحة.
وقد حكى أبو زيد عن العرب: إنهما يتساولان.
الثالث: إنها من السَّيلان، والمعنى:«سال» واد في جهنم، يقال له: سايل، وهو قول زيد بن ثابت.
فالعين ياء، ويؤيده قراءة ابن عباس:«سال سيل» .
قال الزمخشريُّ: «والسَّيل مصدر في معنى السَّائل، كالغَوْر بمعنى الغَائِر، والمعنى: اندفع عليهم وادي عذاب» ، انتهى.
والظاهر الوجه الأول لثبوت ذلك لغة مشهورة، قال:[البسيط]
4857 -
سَالَتْ هُذيْلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَاحشَةً
…
ضَلَّتْ هُذِيْلٌ بِمَا سَالتْ ولمْ تُصِبِ
وقرأ أبيُّ بن كعب وعبد الله: «سَال سَالٍ» مثل «مَال» .
وتخريجها: أن الأصل: «سائل» فحذفت عينُ الكلمة، وهي الهمزة، واللام محل الإعراب، وهذا كما قيل: هذا شاكٍ في شائك السِّلاح. وقد تقدم الكلام على مادة السؤال أول سورة «البقرة» فليلتفت إليه.
و «الباء» تتعلق ب «سال» من السيلان تعلقها ب «سأل» لِمَا يزيد.
وجعل بعضهم الباءَ متعلقة بمصدر دلَّ عليه فعل السؤالِ، كأنه قيل: ما سؤالهم؟ .
فقيل: سؤالهم بعذاب، كذا حكاه أبو حيَّان عن ابن الخطيب.
ولم يعترضه، وهذا عجيب، فإنَّ قوله أولاً: إنه متعلق بمصدر دل عليه فعل السؤال
ينافي تقديره بقوله: «سؤالهم بعذاب» ؛ لأن الباء في هذا التركيب المقدَّر تتعلق بمحذوف؛ لأنها خبر المبتدأ بالسؤال.
وقال الزمخشريُّ: «وعن قتادة سأل سائل عن عذاب الله بمن ينزل وعلى من يقع فنزلت، و» سأل «على هذا الوجه مضمن معنى عني واهتم، كأنه قيل: اهتم مهتم بعذاب واقعٍ» .
فصل في تفسير السؤال
قال القرطبيُّ: الباء يجوز أن تكون بمعنى «عن» والسؤالُ بمعنى الدعاء، أي دعا داع بالعذاب، عن ابن عباس وغيره، يقال: دعا على فلان بالويلِ ودعا عليه بالعذاب.
ويقال: دعوتُ زيداً، أي التمستُ إحضاره، والمعنى التمس ملتمسٌ عذاباً للكافرين، وهو واقع بهم لا محالة يوم القيامةِ، وعلى هذا فالباءُ زائدةٌ كقوله تعالى:{تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20]، وقوله تعالى:{وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} [مريم: 23] ، فهي تأكيد، أي: سأل سائل عذاباً واقعاً.
«لِلكَافِرينَ» أي: على الكافرين.
قيل: هو النضر بن الحارث حيثُ قال: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ، فنزل سؤاله، وقتل يوم «بدر» صبراً هو وعقبة بن أبي معيط، لم يقتل صبراً غيرهما، قاله ابن عباس ومجاهد.
وقيل: «إنَّ السائل هنا هو الحارثُ بن النعمان الفهري، وذلك أنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم َ في علي رضي الله عنه:» مَنْ كُنْتُ مَولاهُ فَعَليٌّ مَوْلاهُ «ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالأبطح، ثم قال: يا محمدُ، أمرتنا عن الله، أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّك رسول الله، فقبلناه منك، وأن نصلي خمساً، ونزكي أموالنا، فقبلناه منك، وأن نصوم شهر رمضان في كل عام، فقبلناه منك، وأن نحج، فقبلناه منك، ثُمَّ لم ترض بهذا، حتى فضَّلت ابن عمك علينا، أفهذا شيءٌ منك أم من الله؟ .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ:» واللَّهِ الَّذي لا إِلهَ إلَاّ هُوَ، ما هُوَ إلَاّ مِنَ اللَّه «فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقًّا، فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذابٍ أليم، فوالله ما وصل إلى ناقته، حتى رماه الله بحجر فوقع على دماغه، فخرج من دبره فقتله، فنزلت {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} » .
وقال الربيع: السائل هنا أبو جهلٍ وهو القائل ذلك.
وقيل: إنه قول جماعة من كفار قريش، وقيل: هو نوح عليه الصلاة والسلام ُ - سأل العذاب على الكافرين.
وقيل: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم َ دعا عليهم بالعقاب، وطلب أن يوقعه بالكفار، وهو واقع بهم لا محالة، وامتد الكلام إلى قوله تعالى {فاصبر صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج: 5] ، أي: لا تستعجل فإنه قريب، وهذا يدل على أن ذلك السائل هو الذي أمره الله بالصبر الجميلِ.
وقال قتادة: الباءُ بمعنى «عَنْ» ، فكأن سائلاً سأل عن العذاب بمن وقع، أو متى يقع، قال الله تعالى:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} ، أي: فاسأل عنه، وقال علقمةُ:[الطويل]
4858 -
فإن تَسْألُونِي بالنِّسَاءِ
…
.....
…
...
…
...
…
...
…
...
أي: عن النِّساء، فالمعنى: سلوني بمن وقع العذاب، ولمن يكون، فقال الله تعالى:{لِّلْكَافِرِينَ} وقال أبو عليّ وغيره: وإذا كان من السؤال، فأصله أن يتعدَّى إلى مفعولين، ويجوز الاقتصار على أحدهما وإذا اقتصر على أحدهما، جاز أن يتعدى إليه بحرف الجر، فيكون التقدير: سأل سائل النبي صلى الله عليه وسلم َ أو المسلمين بعذاب أو عن عذاب.
قوله: {لِّلْكَافِرِينَ} . فيه أوجه:
أحدها: أن يتعلق ب «سأل» مضمناً معنى «دعا» كما تقدم، أي: دعا لهم بعذاب واقع.
الثاني: أن يتعلق ب «واقع» واللام للعلة، أي نازل لأجلهم.
الثالث: أن يتعلق بمحذوف، صفة ثانية ل «عذاب» أي كائن للكافرين.
الرابع: أن يكون جواباً للسائل، فيكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هو للكافرين.
الخامس: أن تكون «اللام» بمعنى «على» ، أي: واقع على الكافرين.
ويؤيده قراءة أبيّ: «على الكافرين» ، وعلى هذا فهي متعلقة ب «واقع» لا على الوجه الذي تقدم قبله.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: بِمَ يتصل قوله: «للكافرين» ؟ .
قلت: هو على القول الأول متصل ب «عذاب» صفة له أي بعذاب واقع كائن
للكافرين، أو بالفعل أي دعا للكافرين بعذاب واقع أو بواقع، أي: بعذاب نازل لأجلهم.
وعلى الثاني: هو كلام مبتدأ جواب للسائل، أي: هو للكافرين انتهى.
قال أبو حيَّان: وقال الزمخشري: أو بالفعل، أي: دعا للكافرين، ثم قال: وعلى الثاني، وهو ثاني ما ذكر في توجيهه للكافرين، قال: هو كلام مبتدأ، وقع جواباً للسائل، أي: هو للكافرين، وكان قد قرر أن «سأل» في معنى «دعا» فعدي تعديته، كأنه قال: دعا داعٍ بعذاب، من قولك: دعا بكذا إذا استدعاه وطلبه، ومنه قوله تعالى:{يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ} [الدخان: 55] انتهى، فعلى ما قرره، أنه متعلق ب «دَعَا» يعني «بسأل» ، فكيف يكون كلاماً مبتدأ جواباً للسائل، أي: هو للكافرين، هذا لا يصح.
قال شهاب الدين: وقد غلط أبو حيان في فهمه عن أبي القاسم قوله: وعلى الثاني إلى آخره، فمن ثم جاء التخليط الذي ذكره الزمخشريُّ، إنما عنى بالثاني قوله عن قتادة: سأل سائل عن عذاب الله على من ينزل وبمن يقع، فنزلت، و «سأل» على هذا الوجه مضمن معنى «عني واهتم» ، فهذا هو الوجه الثاني المقابل للوجه الأول، وهو أن «سأل» يتضمن معنى «دَعَا» ، ولا أدري كيف تخبط حتى وقع، ونسب الزمخشري إلى الغلط، وأنه أخذ قول قتادة والحسن وأفسده، والترتيب الذي رتّبه الزمخشري، في تعلق «اللام» من أحسن ما يكون صناعة ومعنى.
قال القرطبي: وقال الحسن: أنزل اللَّهُ تعالى: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} ، وقال: لمن هو؟ فقال: «للكافرين» ، فاللام في «لِلكَافِريْنَ» متعلقة ب «واقع» .
وقال الفرَّاءُ: التقدير: بعذابٍ للكافرين واقع، فالواقع من نعت العذاب، فاللام دخلت للعذاب لا للواقع.
أي: هذا العذاب للكافرين في الآخرة، لا يدفعه عنهم أحدٌ.
وقيل: إن اللام بمعنى «على» أي: واقع على الكافرين كما في قراءة أبَيِّ المتقدمة.
وقيل: بمعنى «عَنْ» أي: ليس له دافع عن الكافرين.
قوله: {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} .
يجوز أن يكون نعتاً آخر ل «عذاب» ، وأن يكون مستأنفاً، والأول أظهر.
وأن يكون حالاً من «عَذاب» لتخصصه، إما بالعمل وإما بالصفة، وأن يكون حالاً من الضمير في «للكافرين» إن جعلناه نعتاً ل «عَذاب» .
قوله: {مِّنَ الله} يجوز أن يتعلق ب «دَافِعٌ» بمعنى ليس له دافع من جهته، إذا جاء وقته، وأن يتعلق ب «واقع» ، وبه بدأ الزمخشري، أي: واقع من عنده.
وقال أبو البقاء: ولم يمنع النفي من ذلك؛ لأن «لَيْسَ» فعل.
كأنه استشعر أن ما قبل النفي لا يعمل فيما بعده.
وأجاب: بأنَّ النفي لما كان فعلاً ساغ ذلك.
قال أبو حيَّان: والأجود أن يكون «مِنَ اللَّهِ» متعلقاً ب «وَاقع» ، و {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} جملة اعتراض بين العامل ومعموله. انتهى.
وهذا إنما يأتي على البدل، بأنَّ الجملة مستأنفةٌ، لا صفة ل «عذاب» ، وهو غير الظاهر كما تقدم لأخذ الكلام بعضه بحجزة بعض.
قوله: «ذي» صفة لله، ومعنى:«ذِي المَعارِج» ، أي: ذي العلو والدرجات الفواضل والنعم؛ لأنها تصل إلى الناس على مراتب مختلفة، قاله ابن عباس وقتادة.
«فالمعارج» ، مراتبُ إنعامه على الخلق.
وقيل: ذي العظمة والعلو.
وقال مجاهدٌ: هي معارج السماءِ.
وقيل: هي السموات.
قال ابن عباس: أي: ذي السموات، سمَّاها معارج الملائكةِ، لأن الملائكةَ تعرج إلى السماءِ، فوصف نفسه بذلك.
وقيل: «المعارج» الغرف، أي: أنه ذو الغرف، أي: جعل لأوليائه في الجنة غرفاً.
وقرأ عبد الله: «ذِي المعاريج» بالياء.
يقال: معرج، ومعراج، ومعارج، ومعاريج مثل مفتاح ومفاتيح.
والمعارج: الدرجات ومنه: {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] وتقدم الكلام على المعارج في «الزخرف» .
قوله: {تَعْرُجُ} . العامة: بالتاء من فوق.
وقرأ ابن مسعود، وأصحابه، والسلمي، والكسائي: بالياء من تحت.
وهما كقراءتي: «فَنَادَاهُ المَلائِكَةُ ونَادَتْهُ» [آل عمران: 39]، «تَوَفَّاهُ وَتَوَفَّتْهُ» [الأنعام: 61] .
وأدغم أبو عمرو: الجيم في التاء.
واستضعفها بعضهم من حيث إن مخرج الجيم بعيد من مخرج التاء.
وأجيب عن ذلك بأنها قريبة من الشين؛ لأن النقص الذي في الشين يقرِّبها من مخرج التاء، والجيم تدغم في الشين لما بينهما من التقارب، في المخرج والصفة، كما تقدم في {أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح: 29] فحُمِلَ الإدغام في التاء، على الإدغام في الشين، لما بين الشين والتاء من التقارب.
وأجيب أيضاً: بأنَّ الإدغام يكون لمجرد الصفات، وإنْ لم يتقاربا في المخرج، والجيم تشارك التاء في الاستفال والانفتاح والشّدة.
والجملة من «تعرج» مستأنفة.
قوله: «والرُّوحُ» من باب عطف الخاص على العام، إن أريد بالروح جبريل، أو ملك آخر من جنسهم، وأخر هنا وقدم في قوله:{يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} [النبأ: 38] ؛ لأن المقامَ هنا يقتضي تقدم الجمع على الواحد، من حيثُ إنه مقامُ تخويفٍ، وتهويل.
فصل في تحرير معنى الآية
{تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ} ، أي: تصعد في المعارج التي جعلها الله لهم.
قال ابن عبَّاسِ: الروح: جبريلُ عليه السلام لقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] .
وقيل: هو ملكٌ آخر، عظيمُ الخلقةِ.
وقال أبو صالح: إنه خلق من خلق الله، كهيئة الناس وليس بالناس.
وقال قبيصة بن ذؤيب: إنه روح الميت حين تقبض.
قوله: «إليه» ، أي: إلى المكان الذي هو محلهم، وهو في السماء؛ لأنه محلُّ برِّه وكرامته وقيل: هو كقول إبراهيم {إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي} [الصافات: 99]، أي: إلى الموضع الذي أمرني به.
وقيل: «إليه» إلى عرشه.
قال شهاب الدين: الضمير في «إليْهِ» ، الظاهر عوده على الله تعالى.
وقيل: يعود على المكان لدلالة الحال والسياق عليه.
قوله: «في يوم» ، فيه وجهان:
أظهرهما: تعلقه ب «تَعْرجُ» .
والثاني: أنه يتعلق ب «دافع» .
وعلى هذا فالجملة من قوله: «تعرجُ الملائكةُ» معترضة، و «كَانَ مقداره» صفةٌ ل «يوم» .
قال ابن الخطيب: الأكثرون على أنَّ قوله: «فِي يَوْمٍ» صلة قوله: «تَعْرُجُ» ، أي: يحصل العروج في مثل هذا اليوم.
وقال مقاتل: بل هذا من صلة قوله: «بعَذابٍ واقع» [وعلى هذا القول يكون في الآية تقديم وتأخير، والتقدير: سأل سائل بعذاب واقع] ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
وعلى التقدير الأول، فذلك اليوم، إما أن يكون في الآخرة، أو في الدنيا. وعلى تقدير أن يكون في الآخرة، فذلك الطول إما أن يكون واقعاً، وإما أن يكون مقدراً، فإن كان معنى الآية: إن ذلك العُروجَ يقع في يوم من أيام الآخرة طوله خمسون ألف سنةٍ، وهو يوم القيامة، وهذا قول الحسن، قال: وليس يعني أن مقدار طوله هذا فقط؛ إذ لو كان كذلك لحصلت له غاية، ولنفيت الجنة والنار عند انتهاء تلك الغاية، وهذا غير جائز، بل المراد: أن موقفهم للحساب حين يفصل بين الناس خمسون ألف سنة من سني الدُّنيا بعد ذلك يستقر أهل النار في النار، نعوذ بالله منها.
فصل في الاحتجاج لهذا القول
قال القرطبي: واستدل النحاس على صحة هذا القول بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه قال: «مَا مِنْ رجُلٍ لَمْ يُؤدِّ زكَاةَ مالِه إلَاّ جعلَ لَهُ شُجَاعاً مِنْ نَارٍ تُكْوَى بِهِ جبْهَتُهُ وظَهْرُهُ وجَنْبَاهُ يَوْمَ القِيامَةِ في يَوْمٍ كَانَ مقْدارهُ خَمْسينَ ألْفَ سَنةٍ حتَّى يقْضِيَ الله بَيْنَ النَّاسِ» وهذا يدل على أنه يوم القيامةِ.
وقال إبراهيم التيمي: ما قدر ذلك اليوم على المؤمن إلا ما قدر ما بين ظهر يومنا وعصره.
وروي هذا المعنى مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه قال: «يحاسبكم الله تعالى بمقدار ما بين الصلاتين» ولذلك سمى نفسه {سَرِيعُ الحساب} [المائدة: 40] ، و {أَسْرَعُ الحاسبين} [
الأنعام: 62] ، وإنما خاطبهم على قدر فهم الخلائقِ، وإلا فلا يشغله شأن عن شأن، وكما يرزقهم في ساعة يحاسبهم في لحظة، قال تعالى:{مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَاّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] .
والمعنى: لو ولي محاسبة العباد في ذلك اليوم غير الله، لم يفرغ منه في خمسين ألف سنة.
قال البغوي: هذا معنى قول عطاء عن ابن عباس ومقاتل.
قال عطاء: ويفرغ الله منه في مقدار نصف يوم من أيام الدنيا.
واعلم أنَّ هذا الطول، إنَّما يكون في حق الكافرِ، وأما في حق المؤمن فلا، لما روى أبو سعيد الخدري أنه قال:«قِيْلَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ: ما أطولَ هذا اليوم؟ فقال:» والذي نَفْسي بِيَدهِ إنَّهُ ليَخِفُّ على المؤمنِ حتَّى إنَّهُ يكُونُ أخفَّ من صلاةٍ مكتوبةٍ يُصلِّيهَا في الدُّنْيَا «» .
وقال بعضهم: إنَّ ذلك، وإن طال، فيكون سبباً لمزيد السرورِ والراحة لأهل الجنة، ويكون سبباً لمزيد الحزنِ والغمِّ لأهل النار.
وأجيب: بأنَّ الآخرة دارُ جزاءٍ، فلا بد وأن يحصل للمثابين ثوابهم، ودارُ الثوابِ هي الجنةُ لا الموقف، فإذاً لا بد من تخصيص طول الموقف بالكفار.
وقيل: هذه المدة على سبيل التقدير لا على التحقيق، أي: تعرج الملائكةُ في ساعة قليلة، هذه المدة على سبيل التقدير على على التحقيق ، أي: تعرج الملائكُة ساعة قليلة ، لو أراد أهل الدنيا العروج إليها كان مقدار مدَّتهم خمسين ألف سنةٍ.
وعن مجاهد والحسن وعكرمة: هي مدة إقامة عمر الدنيا من أول ما خلقت إلى آخر ما بقي خمسون ألف سنةٍ، وهو قول أبي مسلمٍ.
فإن قيل: كيف الجمعُ بين هذه، وبين قوله في سورة «السَّجدة» :{فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} [السجدة: 5] وقد قال ابن عباس: هي أيام سمَّاها الله تعالى هو أعلم بها، وأنا أكره أن أقول فيها ما لا أعلم؟ .
فالجوابُ: يحتمل أن من أسفل العالم إلى أعلى العرش خمسين ألف سنةٍ، ومن أعلى سماءِ الدنيا إلى الأرض ألف سنةٍ؛ لأن عرض كل سماءٍ خمسمائة، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة، فقوله:{في يَوْمٍ} يريد: في يوم من أيام الدنيا، وهو مقدار ألف سنةٍ لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا، ومقدار خمسين ألف سنةٍ لو صعدوا إلى أعلى العرش.
قوله
: {فاصبر
صَبْراً جَمِيلاً} قال ابن الخطيب: هذا متعلق ب «سألَ سَائلٌ» ؛ لأن استعجالهم بالعذاب كان على وجه الاستهزاءِ برسول الله صلى الله عليه وسلم َ والتعنُّت فأمر بالصبر.
ومن قَرَأ: «سَالَ سَائِل» ، وسيل فالمعنى جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر على أذى قومك، والصَّبرُ الجميلُ هو الذي لا جزع فيه، ولا شكوى لغير الله.
وقيل: أن يكون صاحب مصيبة في القوم لا يدرى من هو.
قال ابنُ زيدٍ والكلبيُّ: هذه الآيةُ منسوخة بالأمر بالقتال.
قوله: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً} .
الضميرُ في «إنَّهُمْ» لأهل «مكة» ، وفي «يَرونَهُم، ونَرَاه» لليوم إن أريد به يوم القيامة.
قال القرطبيُّ: أي: نعلمه؛ لأن الرؤية إنما تتعلقُ بالموجودِ، كقولك: الشافعي يرى في هذه المسألةِ كذا.
وقال الأعمشُ: يرون البَعْثَ بعيداً؛ لأنهم لا يؤمنون به، كأنهم يستبعدونه على جهة الإحالة كمن يقول لمن يناظره: هذا بعيدٌ لا يكون.
وقيل: الضمير يعودُ إلى العذاب بالنار، أي: غير كائن، «ونراه قريباً» لأن ما هو آت، فهو قريب.
قوله: {يَوْمَ تَكُونُ} ، فيه أوجه:
أحدها: أنه متعلق ب «قريباً» وهذا إذا كان الضمير في «نراه» للعذاب ظاهراً.
الثاني: أنه يتعلق بمحذوف يدل عليه «واقع» ، أي: يقع يوم يكون.
الثالث: أنه يتعلق بمحذوفٍ مقدر بعده، أي: يوم يكون كان وكيت وكيت.
الرابع: أنه بدل من الضمير في «نَرَاهُ» إذا كان عائداً على يومِ القيامةِ.
الخامس: أنَّه بدل عن «فِي يَوْمٍ» ، فيمن علقه ب «واقع» . قاله الزمخشري.
وإنَّما قال: فيمن علقه «بِواقعٍ» لأنه إذا علق ب «تَعْرُجُ» في أحد الوجهين استحال أن يبدل عنه هذا لأن عروج الملائكة ليس هو في هذا اليوم الذي تكون السماء كالمُهْلِ، والجبال كالعِهْنِ، ويشغل كل حميمٍ عن حميمه.
قال أبو حيان: «ولا يجوز هذا» يعني: إبداله من «في يوم» قال: لأن «فِي يَوْمٍ» وإن كان في موضع نصبٍ لا يبدل منه منصوب؛ لأن مثل هذا ليس بزائد، ولا محكوم له بحكم الزائد، ك «رُّبَّ» وإنما يجوز مراعاة الموضع في حرف الجر الزائد؛ كقوله:[الكامل]
4859 -
أبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمَا بِيدٍ
…
إلَاّ يَداً ليْسَتْ لَهَا عَضُدُ
ولذلك لا يجوز «مررتُ بزيد الخياط» على موضع «بزيد» ولا «مررتُ بزيد وعمراً» ، ولا «غضب على زيد وجعفراً» ولا «مررت بزيد وأخاك» على مراعاة الموضع.
قال شهاب الدين: قد تقدم أن قراءة {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] من هذا الباب فمن نصب الأرجل فليكن هذا مثله.
ثم قال أبو حيَّان: فإن قلت: الحركة في «يوم» تكون حركة بناء لا حركة إعرابٍ، فهو مجرور مثل «فِي يَوْمٍ» .
قلتُ: لا يجوز بناؤه على مذهب البصريين؛ لأنه أضيف إلى مُعرب، لكنه يجوز على مذهب الكوفيين فيتمشى كلامُ الزمخشريِّ على مذهبهم إن كان استحضره وقصده انتهى.
قال شهاب الدين: إن كان استحضره فيه تحامل على الرجل، وأي كبير أمر في هذا حتى لا ييستحضر مثل هذا. وتقدم الكلام على المهل في «الدخان» .
قوله: {وَتَكُونُ الجبال كالعهن} .
قيل: «العِهْنُ» هو الصُّوف مطلقاً، وقيل: يقدر كونه أحمر وهو أضعف الصوف، ومنه قول زهير:[الطويل]
4860 -
كَأنَّ فُتَاتَ العِهْنِ في كُلِّ مَنْزِلٍ
…
يَزَالُ بِه حَبُّ الفَنَا لمْ يُحَطَّمِ
الفتات: القطع، والعِهْنُ: الصُّوف الأحمر، واحده عهنة.
وقيل: يقيد كونه مصبوغاً ألواناً، وهذا أليق بالتشبيه؛ لأن الجبال متلونة، كما قال تعالى:{جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ} [فاطر: 27] .
والمعنى: أنها تلين بعد شدة، وتتفرق بعد الاجتماع.
وقيل: أول ما تتفرق الجبال تصير رمالاً ثم عِهْناً منفوشاً، ثم هباءً مَنْثُوراً.
قوله: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} .
قرأ العامة: «يَسْألُ» مبنياً للفاعل، والمفعول الثاني محذوف، فقيل: تقديره: لا يسأله نصره، ولا شفاعته لعلمه أنَّ ذلك مفقود.
وقيل: لا يسأله شيئاً من حمل أو زادٍ.
وقيل: «حَمِيْماً» منصوب على إسقاط الخافض، أي: عن حميم، لشغله عنه. قاله قتادة. لقوله تعالى:{لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] .
وقرأ أبو جعفر، وأبو حيوة، وشيبة، وابن كثير في رواية قال القرطبيُّ: والبزي عن عاصم: «يُسْألُ» مبنياً للمفعول.
فقيل: «حميماً» مفعول ثان لا على إسقاط حرف، والمعنى: لا يسأل إحضاره.
وقيل: بل هو على إسقاط «عَنْ» ، أي: عن حميم، ولا ذو قرابة عن قرابته، بل كل إنسان يُسأل عن عمله، نظيره:{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] .
قوله: {يُبَصَّرُونَهُمْ} عدي بالتضعيف إلى ثان، وقام الأول مقام الفاعل، وفي محل هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها في موضع الصفة ل «حَمِيم» .
والثاني: أنها مستأنفة.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: ما موقع «يُبصَّرُونهُم» ؟
قلت: هو كلام مستأنف، كأنه لمَّا قال:{لَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} قيل: لعله لا يبصره، فقال:«يُبَصَّرُونهُم» ، ثم قال: ويجوز أن يكون «يبصرُونهُم» صفة، أي: حميماً مبصرين معرفين إياهم انتهى.
وإنما اجتمع الضميران في «يبصرُونهُم» وهما للحميمين حملاً على معنى العمومِ؛ لأنهما نكرتان في سياق النفي.
وقرأ قتادةُ: «يُبصِرُونهُمْ» مبنياً للفاعل، من «أبصَرَ» ، أي: يبصر المؤمن الكافر في النار.
فصل في قوله تعالى يبصرونهم
«يُبصَّرُونهُم» ، أي: يرونهم، يقال: بصرت به أبصر، قال تعالى:{بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ} [طه: 96]، ويقال:«بصَّرَني زيدٌ بكذا» فإذا حذفت الجار قلت: بصَّرني زيدٌ، فإذا بنيت الفعل للمفعول، وقد حذفت الجارَّ، قلت: بصرت زيداً، فهذا معنى:«يُبَصَّرونهُمْ» أي: يعرف الحميمُ الحميمَ حين يعرفه، وهو مع ذلك، لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه، فيبصر الرجلُ أباه، وأخاه، وقرابته، وعشيرته، فلا يسألهُ، ولا يكلمه؛ لاشتغالهم بأنفسهم.
وقال ابن عبَّاس: يتعارفون ساعة، ثم لا يتعارفون بعد ذلك.
وقال ابن عباس أيضاً: يُبْصِرُ بعضهم بعضاً، فيتعارفون ثم يفرُّ بعضهم من بعضٍ، فالضمير في «يُبَصَّرونهُم» على هذا للكافر، والهاءُ والميم للأقرباء.
وقال مجاهدُ: المعنى: يُبَصِّرُ الله المؤمنين الكفَّار في يوم القيامةِ، فالضمير في «يُبَصَّرونهم» للمؤمنين، والهاءُ والميمُ للكفار.
وقال ابنُ زيدٍ: المعنى: يُبصِّرُ الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدُّنيا، فالضميرُ في «يُبَصَّرونَهُم» للتابعين، والهاءُ والميم للمتبوعين.
وقيل: إنه يُبصِرُ المظلومُ ظالمه، والمقتولُ قاتله.
وقيل: إن الضمير في «يُبصَّرونَهم» يرجع إلى الملائكة، أي: يعرفون أحوال
الناس، فيسوقون كلَّ فريقٍ إلى ما يليق بهم، وتمَّ الكلامُ عند قوله:«يُبصَّرُونَهُم» . قوله: «يَوَدُّ المُجرِمُ» ، أي: يتمنَّى الكافرُ {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} ، أي: من عذاب جهنم، وقيل: المرادُ بالمجرم كلُّ مذنب، وتقدم الكلام على قراءتي «يَومئذٍ» فتحاً وجرًّا في «هود» والعامة: على إضافة «عَذابِ» ل «يَومِئذٍ» .
وأبو حيوة: بتنوين «عذابٍ» ، ونصب «يَومئذٍ» ، على الظرف.
قال ابنُ الخطيب: وانتصابه بعذاب؛ لأن فيه معنى تعذيب.
وقال أبو حيَّان هنا: «والجمهور يكسرها - أي: ميم يومئذ - والأعرج وأبو حيوة: يفتحها» انتهى.
وقد تقدم أنَّ الفتح قراءةُ نافع، والكسائي.
قوله: {وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ} .
قال ثعلب: الفصيلةُ: الآباء الأدنون.
وقال أبو عبيدة: الفخذ.
وقال مجاهد وابن زيدٍ: عشيرته الأقربون.
وقد تقدم ذكر ذلك عند قوله: «شعوباً وقبائل» .
وقال المُبرِّدُ: الفصيلةُ: القطعةُ من أعضاء الجسدِ، وهي دون القبيلةِ، وسُمِّيت عترةُ الرجلِ فصيلته تشبيهاً بالبعض منه.
قال ابنُ الخطيبِ: فصيلة الرجل: أقرباؤه الأقربون الذين فصل عنهم، وينتمي إليهم؛ لأن المراد من الفصيلة المفصولة؛ لأن الولد يكون مفصولاً من الأبوين، قال عليه الصلاة والسلام ُ:«فَاطِمَةُ قِطعَةٌ منِّي» فلما كان مفصولاً منهما، كانا أيضاً مفصولين منه، فسُمِّيا فصيلة لهذا السببِ.
وكان يقالُ للعباس رضي الله عنه: فصيلةُ النبي صلى الله عليه وسلم َ لأن العمَّ قائم مقام الأب.
وقوله: «التي تؤويه» ، أي: ينصرونه.
وقال مالك: أمُّه التي تربيه، حكاه الماورديُّ، ورواه عنه أشهبُ.
قال شهاب الدين: ولم يبدله السوسي عن أبي عمرو، قالوا: لأنه يؤدي إلى لفظ هو أثقل منه، والإبدال للتخفيف.
وقرأ الزهريُّ: «تؤويهُ، وتُنجِيهُ» بضم هاء الكناية، على الأصل.
و «ثُمَّ نُنجِيْهِ» عطف على «يَفْتَدِي» فهو داخلٌ في خبر «لَوْ» وتقدم الكلامُ فيها، هل هي مصدريةٌ أم شرطيةٌ في الماضي، ومفعول «يَوَدُّ» محذوف، أي: يودُّ النَّجاة.
وقيل: إنها هنا بمعنى «أن» وليس بشيء، وفاعل «ينجيه» إما ضميرُ الافتداء الدالُّ عليه «يَفْتَدي» ، أو ضمير من تقدم ذكرهم، وهو قوله:{وَمَن فِي الأرض} .
و {مَن فِي الأرض} مجرور عطفاً على «بَنِيْهِ» وما بعده، أي: يودُّ الافتداء بمن في الأرض أيضاً و «حميماً» إما حال، وإما تأكيد، ووحد باعتبار اللفظ.
فصل فيما يترتب على معنى «فصيلته» من أحكام
إذا وقف على فصيلته، أو أوصى لها فمن ادعى العموم حمله على عشيرته، ومن ادعى الخصوص حمله على الآباء الأدنى فالأدنى، والأول أكثر في النطقِ، قاله القرطبي و «تؤويه» تضمه وتؤمنهُ من خوف إن كان به، {وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً} ، أي: ويود لو فدي بهم لافتدى «ثُمَّ يُنجِيْهِ» أي: ويخلصه ذلك الفداءُ، فلا بُدَّ من هذا الإضمار، كقوله:{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] أي: وإن أكلهُ لفسقٌ.
وقيل: «يَودُّ المُجرمُ» يقتضي جواباً بالفاء كقوله: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] .
والجوابُ في هذه الآية «ثُمَّ يُنجِيهِ» لأنَّها من حروف العطف، أي يودُّ المجرم لو يفتدي، وينجيهِ الافتداءُ.
قوله: «كلا» . ردعٌ وزجرٌ.
قال القرطبيُّ: «وإنما تكون بمعنى» حقًّا «، وبمعنى» لا «وهي هنا تحتمل الأمرين، فإذا كانت بمعنى» حقًّا «فإن تمام الكلام» ينجيه «وإذا كانت بمعنى» لا «كان تمامُ الكلام عليها. إذ ليس ينجيه من عذاب الله إلا الافتداءُ» .
قوله: {إِنَّهَا لظى نَزَّاعَةً} في الضَّمير ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه ضميرُ النارِ، وإن لم يجر لها ذكرٌ لدلالة لفظ عذابٍ عليها.
والثاني: أنه ضميرُ القصةِ.
الثالث: أنه ضميرٌ مبهمٌ يترجم عنه الخبرُ، قاله الزمخشريُّ. وقد تقدم تحقيق ذلك في قوله تعالى:{إِنْ هِيَ إِلَاّ حَيَاتُنَا الدنيا} [الأنعام: 29] .
فعلى الأول يجوز في «لَظَى، نزَّاعةً» أوجه:
أحدها: أن يكون «لَظَى» خبر «إن» أي إن النار لظى، و «نزاعة للشوى» خبر ثان، أو خبر مبتدأ مضمر، أي هي نزاعة، أو تكون «لَظَى» بدلاً من الضمير المنصوب و «نزَّاعةً» خبر «إنَّ» .
وعلى الثاني: تكون «لَظَى نزَّاعةً» جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع خبراً ل «إنَّ» ، مفسرة لضمير القصةِ، وكذا على الوجه الثالثِ.
ويجوز أن تكون «نزَّاعةً» صفة ل «لَظَى» إذا لم نجعلها علماً، بل بمعنى اللهبِ، وإنما أنِّثَ النعتُ، فقيل:«نزَّاعةً» لأن اللهب بمعنى النارِ، قاله الزمخشريُّ.
وفيه نظرٌ؛ لأن «لَظَى» ممنوعةٌ من الصرف اتفاقاً.
قال أبو حيان بعد حكايته الثالث عن الزمخشري: «ولا أدري ما هذا المضمر الذي ترجم عنه الخبر، وليس هذا من المواضع التي يُفسِّر فيها المفرد الضمير، ولولا أنه ذكر بعد هذا أو ضمير القصةِ لحملت كلامه عليه» .
قال شهاب الدين: متى جعله ضميراً مبهماً، لزم أن يكون مفسراً بمفردٍ، وهو إما «لَظَى» على أن تكون «نزَّاعةً» خبر مبتدأ مضمر، وإما «نزَّاعةٌ» على أن تكون «لَظَى» بدلاً من الضمير وهذا أقربُ، ولا يجوز أن تكون «لَظَى، نزَّاعةٌ» مبتدأ وخبر، والجملة خبر ل «إنَّ» على أن يكون الضميرُ مبهماً، لئلَاّ يتحد القولان، أعني هذا القول، وقول: إنَّها ضميرُ القصةِ ولم يُعهد ضميرٌ مفسرٌ بجملة إلا ضمير الشأنِ والقصةِ.
وقرأ العامة: «نزَّاعةٌ» بالرفع.
وقرأ حفص، وأبو حيوة والزَّعفرانِيُّ، واليَزيديُّ، وابنُ مقسم:«نزَّاعةً» بالنصب. وفيها وجهان:
أحدهما: أن ينتصب على الحال، واعترض عليه أبو علي الفارسي، وقال: حمله على الحال بعيدٌ، لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال.
قال القرطبيُّ: «ويجوز أن يكون حالاً على أنه حالٌ للمكذبين بخبرها» .
وفي صاحبها أوجه:
أحدها: أنه الضمير المستكنُّ في «لَظَى» ؛ وإن كانت علماً فهي جاريةٌ مجرى المشتقات ك «الحارث والعباس» ، وذلك لأنها بمعنى التلظِّي، وإذا عمل العلم الصريح
والكنية في الظرف، فلأن يعمل العلم الجاري مجرى المشتقات في الأحوال أولى، ومن مجيء ذلك قوله:[السريع أو الرجز]
4861 -
أنَا أبُو المِنْهَالِ بَعْضَ الأحْيَان
…
ضمنه بمعنى أنا المشهور في بعض الأحيان.
الثاني: أنَّه فاعل «تَدعُو» وقدمت حاله عليه، أي: تدعو حال كونها نزَّاعةً.
ويجوز أن تكون هذه الحالُ مؤكدةً، لأنَّ «لَظَى» هذا شأنها، وهو معروف من أمرها، وأن تكون مبنيةً؛ لأنه أمرٌ توقيفيّ.
الثالث: أنه محذوف هو والعامل تقديره: تتلظَّى نزاعة، ودل عليه «لَظَى» .
الثاني من الوجهين الأولين: أنها منصوبة على الاختصاص، وعبَّر عنه الزمخشريُّ بالتهويل. كما عبَّر عن وجه رفعها على خبر ابتداء مضمر، والتقدير: أعني نزاعةٌ وأخصُّها.
وقد منع المبردُ نصب «نزَّاعة» ، قال: لأن الحال إنما يكون فيما يجوز أن يكون وألاّ يكون و «لَظَى» لا تكون إلا نزَّاعةً، قاله عنه مكِّيٌّ.
وردَّ عليه بقوله تعالى: {وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً} [البقرة: 91]، {وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً} [الأنعام: 126] قال: فالحق لا يكون إلا مصدقاً، وصراط ربِّك لا يكونُ إلَاّ مستقيماً.
قال شهاب الدين: المُبرِّدُ بني الأمر على الحال المبنيةِ، وليس ذلك بلازم؛ إذ قد وردت الحال مؤكدة كما أورده مكيٌّ، وإن كان خلاف الأصلِ، واللظى في الأصل: اللهب، ونقل علماً لجهنم، ولذلك منع من الصرف.
وقيل: هو اسم للدَّركة الثانية من النارِ، والشَّوى: الأطراف جمع شواة، ك «نوى، ونواة» ؛ قال الشاعر: [الوافر]
4862 -
إذَا نَظرَتْ عَرفْتَ النَّحْرَ مِنْهَا
…
وعَيْنَيْهَا ولمْ تَعْرفْ شَواهَا
يعني: أطرافها.
وقيل: الشَّوى: الأعضاء التي ليست بمقتل، ومنه: رماه فأشواه، أي لم يُصِبْ مقتله، وشوى الفرس: قوائمه، لأنه يقال: عَبْلُ الشَّوى.
وقيل: الشَّوى: جمع شواة وهي جلدة الرأس؛ وأنشد الأصمعي: [مجزوء الكامل]
4863 -
قَالتْ قُتَيْلَةُ: مَا لَهُ
…
قَدْ جُلِّلتْ شَيْباً شَواتُه
وقيل: هو جلد الإنسان، والشَّوى أيضاً: رُذال المال، والشيء اليسير.
فصل في معنى الآية
قال ثابت البناني والحسن: «نزَّاعةً للشَّوى» : أي لمكارم وجهه. وعن الحسن أيضاً: إنه الهام.
وقال أبو العالية: لمحاسن وجهه.
وقال قتادة: لمكارم خلقته وأطرافه.
وقال الضحاك: تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئاً.
وقال الكسائي: هي المفاصل.
وقيل: هي القوائم والجلود.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
4864 -
سَلِيمُ الشَّظَى، عَبْلُ الشَّوى، شَنِجُ النَّسَا
…
لَهُ حَجَباتٌ مُشرفاتٌ على الفَالِ
قوله: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ} .
يجوز أن يكون خبراً ل «إنَّ» أو خبراً لمبتدأ محذوف، أو حال من «لَظَى» أو من «نزَّاعةً» على القراءتين فيها؛ لأنها تتحملُ ضميراً.
فصل في المراد بالآية
المعنى: تدعُو «لَظَى» من أدبر في الدنيا عن الطَّاعة لله «وتولَّى» عن الإيمان ودعاؤها أن تقول: يا مشرك إليَّ يا كافر إليَّ.
وقال ابن عباس: تدعُو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح: إليَّ يا كافر، إليَّ يا منافق، ثم تلتقطهم كما تلتقط الطَّير الحبَّ.
وقال ثعلبٌ: «تَدعُو» ، أي: تهلك، تقول العربُ: دعاك الله، أي: أهلكك اللَّهُ.
وقال الخليلُ: إنَّه ليس كالدُّعاء «تعالوا» ولكن دعوتها إياهم تمكنها منهم، ومن تعذيبهم.
وقيل: الدَّاعي: خزنة جهنَّم أضيف دعاؤهم إليها.
وقيل: هو ضرب مثل، أي: أنها تدعوهم بلسان الحال، أي: إنَّ مصير من أدبر، وتولى إليها، فكأنَّها الدَّاعية لهم.
ومثله قول الشاعر: [الكامل]
4865 -
ولقَدْ هَبَطْنَا الوادِيِيْنِ فَوادِياً
…
يَدْعُو الأنيسَ بِهِ الغضِيضُ الأبْكَمُ
الغضيضُ الأبكمُ: الذباب، وهو لا يدعو، وإنَّما طنينه نبَّه عليه فدعا له.
قال القرطبيُّ: «والقولُ الأولُ هو الحقيقةُ لظاهر القرآنِ، والأخبار الصحيحة» .
قال القشيريُّ: ودعا لَظَى بخلقِ الحياةِ فيها حين تدعُو، وخوارقُ العادةِ غداً كثيرة.
قوله: {وَجَمَعَ فأوعى} . أي: جمع المال فجعله في وعاءٍ، ومنع منه حق الله تعالى، فكان جموعاً منوعاً.
قال ابن الخطيب: «جَمَعَ» إشارة إلى حبّ الدنيا، والحِرْص عليها، «وأوْعَى» إشارة إلى الأمل، ولا شكَّ أنَّ مجامع آفات الدين ليست إلَاّ هذه.
وقيل: «جَمَعَ» المعاصي «فأوْعَى» أي: أكثر منها حتى أثقلتهُ، وأصرَّ عليها، ولم يَتُبْ منها.
قوله: {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} .
قال الضحاك: المرادُ بالإنسان هنا الكافر.
وقيل: عام لأنه استثنى منه المصلين، فدلَّ على أن المراد به الجنس، فهو كقوله:{إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلَاّ الذين آمَنُواْ} [العصر: 2، 3] . و «هَلُوعاً» حال مقدرة.
والهلع مُفسَّر بما بعده، وهو قوله «إذَا، وإذَا» .
قال ثعلبٌ: سألني محمد بن عبد الله بن طاهر: ما الهلع؟ .
فقلت: قد فسَّره اللَّهُ، ولا يكون أبينَ من تفسيره، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع، وإذا ناله خيرٌ بخل به ومنعه. انتهى.
وأصله في اللغة على ما قال أبو عبيد: أشدّ الحرص وأسوأ الجزع، وهو قولُ مجاهدٍ وقتادة وغيرهما.
وقد هَلِع - بالكسر - يهلع هلعاً وهلاعاً فهو هلع وهالع وهلوع، على التكثير.
وقيل: هو الجزع والاضطرابُ السريع عند مسِّ المكروه، والمنع السَّريعُ عند مسِّ الخير من قولهم:«ناقةٌ هلوَاع» ، أي: سريعة السير، قال المفسرون: معناه: أنه لا يصبر في خير ولا شر، حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي.
روى السدِّي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: الهِلوَاع، الحريصُ على ما لا يحل له.
وقال عكرمة: هو الضَّجور.
وقال الضحاك: هو الذي لا يشبع.
والمَنُوع: هو الذي إذا أصاب حق المال منع منه حق الله تعالى.
وقال ابن كيسان: خلق اللَّهُ الإنسان يحبّ ما يسرُّه، ويرضيه، ويهربُ مما يكرهه، ثم تعبّده الله بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكرهُ.
وقال أبو عبيدة: الهِلواعُ الذي إذا مسَّهُ الخيرُ لم يشكر، وإذا مسَّهُ الضُّرُّ لم يَصْبِرْ.
وقال عليه الصلاة والسلام ُ: «شَرُّ مَا أعْطِي العَبْدُ شُحُّ هَالِعٌ، وجُبْنٌ خَالِعٌ» .
والعرب تقول: ناقةٌ هلواعة، وهلواع إذا كانت سريعة السَّير خفيفة؛ قال:[الكامل]
4866 -
صَكَّاءُ ذِعلِبةٌ إذَا استَدْبَرْتَهَا
…
حَرَجٌ إذَا اسْتقَبلْتَهَا هِلواعُ
الذِّعِلب والذِّعلِبَة: النَّاقةُ السَّريعةُ.
فصل في إعراب الآية
«جزُوْعاً، ومَنُوعاً» فيهما ثلاثةٌ أوجهٍ:
أحدها: أنهما منصوبان على الحال من الضمير في «هَلُوعاً» ، وهو العاملُ فيهما، والتقدير: هَلُوعاً حال كونه جَزُوعاً، وقت مسِّ الشَّرِّ، ومنوعاً وقت مس الخير، والظَّرفان معمولان لهاتين الحالتين.
وعبَّر أبو البقاء عن هذا الوجه بعبارة أخرى فقال: «جَزُوعاً» حال أخرى، والعاملُ فيها «هَلُوعاً» .
فقوله: «أخْرَى» يوهم أنها حالٌ ثانية وليست متداخلة لولا قوله: والعامل فيها هلوعاً.
والثاني: أن يكونا خبرين ل «كان» ، أو «صار» مضمرة، أي: إذا مسَّه الشَّرُّ كان، أو صار جَزُوعاً، وإذا مسَّه الخيرُ كان أو صار منوعاً، قاله مكيٌّ.
وعلى هذا ف «إذا» شرطية، وعلى الأول ظرف محض، العامل فيه ما بعده كما تقدم.
الثالث: أنَّهما نعتٌ ل «هَلُوعاً» ، قاله مكيٌّ، إلَاّ أنَّه قال: وفيه بعد؛ لأنك تنوي به التقديم بعد «إذا» انتهى.
وهذ الاستبعادُ ليس بشيء، فإنَّه غايةُ ما فيه تقديمُ الظرف على عامله.
وإنَّما المحذورُ تقديمه معمول النعت على المنعوت.
فصل في كلام القاضي
قال القاضي: قوله تعالى {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} نظير قوله: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] ، وليس المرادُ أنَّه مخلوقٌ على هذه الصفة؛ لأن الله - تعالى - ذمَّه عليها، والله - تعالى - لا يُذمُّ فعله، ولأنه استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك الخصلةِ المذمومةِ، ولو كانت هذه الخصلة ضرورية حاصلة بخلق الله تعالى، لما قدروا على تركها.
قال ابن الخطيب: واعلم أنَّ الهلع لفظ واقع على أمرين:
أحدهما: الحالةُ النفسانيةُ التي لأجلها يقدم الإنسانُ على إظهار الجزع والفزع.
والثاني: تلك الأفعالُ الظاهرة من القول والفعل الدالة على تلك الحالةِ النفسانيةِ،
فلا شك أنَّها تحدثُ بخلق الله - تعالى - لأنَّ من خُلقتْ نفسه على تلك الحالةِ لا يُمكِنهُ إزالةُ تلك الحالةِ من نفسه، بل الأفعال الظَّاهرة من القول والفعل يمكنه تركها والإقدامُ عليها فهي أمورٌ اختياريةٌ.
وأما الحالةُ النفسانيةُ التي هي الهلع في الحقيقة، فهي مخلوقةٌ على سبيل الاضطرار.
فصل في المراد بالشر والخير في الآية
قوله: {إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً} .
قيل: المرادُ بالخيرِ والشر: الغِنَى والفقرُ، أو الصحةُ والمرض، والمعنى: أنَّه إذا صار فقيراً أو مريضاً أخذ في الجزعِ والشكايةِ، وإذا صار غنياً، أو صحيحاً أخذ في منعِ المعروف، وشحَّ بمالِه.
فإن قيل: حاصلُ هذا الكلام أنَّه نُفُورٌ عن المضار لطلب الراحة، وهذا هو اللائقُ بالعقل، فلم ذمَّهُ الله عليه.
فالجوابُ: إنَّما ذمَّهُ اللَّهُ عليه لقصور نظرهِ على الأمورِ العاجلةِ، والواجبُ عليه أن يكون شاكراً راضياً في كل حالٍ.
قوله: {إِلَاّ المصلين} .
قال النخعيُّ: المرادُ ب «المصلين» : الذين يؤدونَ الصلاة المكتوبة.
وقال ابن مسعودٍ: هم الذين يصلونها لوقتها، فأمَّا تركها فكفرٌ.
وقيل: هم الصحابة وقيل: هم المؤمنون عامّةً.
قوله: {الذين هُمْ على صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ} أي: على مواقيتها.
وقال عقبة بن عامر: الذين إذا صلُّوا لم يلتفتوا يميناً ولا شمالاً.
و «الدائم» الساكن، ومنه:«نهى عن البول في الماء الدائم» ، أي: الساكن.
وقال ابن جريج والحسن: هم الذين يكثرون فعل التَّطوع منها.
فإن قيل: كيف قال: {على صَلَاتِهِمْ دَآئِمُونَ} وقال في موضع آخر: {على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 9] .
قال ابن الخطيب: دوامُهم عليها ألا يتركوها في وقتٍ من الأوقاتِ، ومحافظتهم عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها، حتى يأتي بها على أكمل الوجوه من المحافظة على شرائطها، والإتيان بها في الجماعة وفي المساجدِ الشريفةِ والاجتهاد في تفريغ القلب عن الوسواس والرياء والسمعة، وألاّ يلتفت يميناً ولا شمالاً، وأن يكون حاضر القلب فاهماً للأذكار، مطلعاً على حكم الصَّلاة متعلق القلب بدخول أوقات الصلواتِ.
قوله: {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} .
قال قتادة وابن سيرين: يريد الزكاة المفروضة.
وقال مجاهد: سوى الزكاة، وقال عليُّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: صلة الرَّحمِ وحمل الكل.
والأول أصح؛ لأنه وصف الحق بأنه معلوم، والمعلوم هو المقدر، وسوى الزكاة ليس بمعلوم إنما هو قدرُ الحاجةِ، وذلك يقل ويكثرُ.
وقال ابنُ عباسٍ: من أدَّى زكاة مالهِ فلا جناح عليه أن لا يتصدق، وأيضاً فالله - تعالى - استثناهُ ممن ذمَّه، فدلَّ على أنَّ الذي لا يُعْطِي هذا الحقَّ يكونُ مذموماً، ولا حقَّ على هذه الصفةِ إلا الزكاة.
وقوله: {لِّلسَّآئِلِ والمحروم} . تقدَّم في الذَّاريات.
قوله: {والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين} [المعارج: 26]، أي: بيوم الجزاء، وهو يوم القيامة، أي: يؤمنون بالبعث، والنشور.
{والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ} ، أي: خائفون، والإشفاق: الخوف إما من تركِ واجبٍ، وإما من فعلِ محظورٍ، ثم أكَّد ذلك الخوف بقوله:
{إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} .
قال ابن عباسٍ: لمن أشرك أو كذَّب أنبياءه.
وقيل: لا يأمنه أحدٌ، بل الواجبُ على كل أحد أن يخافه ويشفق منه.
{والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَاّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولئك هُمُ العادون} تقدَّم تفسيرهُ في سورة «المؤمنون» [المؤمنين: 5، 6، 7] .
{والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} تقدَّم أيضاً [المؤمنين: 8] .
وقرىء: «لأمَانتِهِم» على التوحيد، وهي قراءةُ ابن كثير وابن محيصن.
ف «الأمانة» اسم جنسٍ تدخل فيها أماناتُ الدينِ، فإنَّ الشرائعَ أماناتٌ ائتمنَ اللَّهُ عليها عباده، ويدخل فيها أمانات الناس من الودائع، وقد مضى ذلك.
قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ} .
قرأ حفص: «بِشَهادَاتِهِمْ» جمعاً، اعتباراً بتعدد الأنواع، والباقون: بالإفراد، أو المرادُ الجنس.
قال الواحديُّ: والإفرادُ أولى؛ لأنه مصدرٌ، فيفرد كما تفرد المصادرُ، وإن أضيف إلى الجمع ك {لَصَوْتُ الحمير} [لقمان: 19] ومن جمع ذهب إلى اختلافِ الشَّهاداتِ.
قال أكثرُ المفسرينَ: يقومون بالشهادة على من كانت عليه من قريب وبعيد يقومون بها عند الحُكَّام، ولا يكتمونها.
وقال ابن عبَّاس: بشهادتهم: أن الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله.
قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ على صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} .
قال قتادةُ: على وضوئها وركوعها وسجودها، فالدوام خلاف المحافظة فدوامهم عليها محافظتهم على أدائهِا لا يخلُّون بها، ولا يشتغلون عنها بشيءٍ من الشواغل، ومحافظتهم عليها أن يُراعُو إسباغَ الوضوءِ لها، ومواقيتها، ويقيموا أركانها، ويكملوها بسننها، وآدابها، ويحفظونها من الإحباط باقتراف المآثمِ، فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات، والمحافظة على أحوالها، ذكره القرطبيُّ.
ثم قال: {أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} ، أي: أكرمهم الله فيها، بأنواع الكرامات.
قوله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} .
روي أنَّ المشركين كانوا يجتمعون حول النبي صلى الله عليه وسلم َ يستمعون كلامه، ويستهزئون به
ويكذبونه، ويقولون: إن دخل هؤلاء الجنَّة كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم َ فلندخلنَّها قبلهم، فنزلت هذه الآية إلى قوله:{أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَاّ} .
وقال أبو مسلمٍ: ظاهر الآية يدل على أنهم هم المنافقون، فهم الذين كانوا عنده، وإسراعهم المذكور هو الإسراعُ في الكفر، لقوله تعالى:{وَلَا يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} [آل عمران: 176] .
و «الإهْطَاعُ» : الإسراعُ.
قال الأخفش: «مُهْطعيْنَ» ، أي: مُسرِعيْنَ، قال:[الوافر]
4867 -
بِمكَّةَ أهْلُهَا ولقَدْ أرَاهُمْ
…
إليْهِ مُهْطِعينَ إلى السَّماعِ
والمعنى: ما بالهُمْ يسرِعُونَ إليْكَ، ويجلسُونَ حولك، ويعملون بما تأمُرهُمْ.
وقيل: ما بالهم يسرعون في التكذيب لك.
وقيل: ما بالُ الذين كفروا يسرعون إلى السَّماع منك ليعيبوكَ ويستهزئوا بك.
وقال عطيةُ: «مُهْطِعيْنَ» : مُعْرضِيْنَ.
وقال الكلبيُّ: ناظرين إليك تعجُّباً.
وقال قتادةُ: مادّين أعناقهم مديمي النظر إليك، وذلك من نظر العدو، وهو منصوبٌ على الحال.
قال القرطبيُّ: نزلت في جميع المنافقين المستهزئين، كانوا يحضرونه عليه الصلاة والسلام ُ - ولا يؤمنون به، و «قبلك» ، أي: نحوك.
قوله: {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ} .
أي: عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم َ وشماله حلقاً حلقاً وجماعات.
قوله: «عِزيْنَ» ، حالٌ من «الَّذين كَفرُوا» .
وقيل: حال من الضمير في «مُهْطعِينَ» فيكونُ حالاً متداخلة، و «عَن اليَميْنِ» ، يجوز أن يتعلق ب «عزين» ؛ لأنَّه بمعنى متفرقين. قاله أبو البقاء.
وأن يتعلق ب «مُهْطِعيْنَ» أي: مسرعين عن هاتين الجهتين، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال، أي: كائنين عن اليمين. قاله أبو البقاء.
و «عَزِيْنَ» جمع عزة، والعِزَة: الجماعة. قال مكيٌّ.
قال مكيٌّ: «وإنما جمع بالواو والنون؛ لأنه مؤنث لا يعقل؛ ليكون ذلك عوضاً مما حذفَ منه» .
قيل: إن أصله: عزهة، كما أنَّ أصل سنة: سنهة، ثم حذفت الهاء، انتهى.
قال شهاب الدين: قوله: لا يعقل سَهْو، لأن الاعتبار بالمدلولِ، ومدلوله - بلا شك - عقلاء. واختلفوا في لام «عِزَة» على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنَّها «واو» من: «عزوته أعزوه» ، أي: نسبته، وذلك أنَّ المنسوبَ مضمومٌ إلى المنسوب إليه، كما أنَّ كلَّ جماعةٍ مضموم بعضها إلى بعض.
الثاني: أنَّها «ياء» ، إذ يقال «عَزيتُه» - بالياء - أعزيه بمعنى عزوته، فعلى هذا في لامها لغتانِ.
الثالث: أنَّها هاءٌ، وتجمع تكسيراً على «عِزَهٍ» نحو كسرة وكِسَر، واستغني بهذا التكسير عن جمعها بالألف والتاء، فلم يقولوا:«عزات» كما لم يقولوا في «شفة وأمة: شفَات ولا أمات» استغناء ب «شِفَاه وإماء» .
وقد كثر ورودُه مجموعاً ب «الواو» والنون؛ قال الراعي: [الكامل]
4868 -
أخَلِيفَةَ الرَّحْمَنِ إنَّ عَشِيرَتِي
…
أمْسَى سَرَاتُهُم عِزينَ فُلُولَا
وقال الكميت: [الوافر]
4869 -
ونَحْنُ وجنْدَلٌ بَاغٍ تَركْنَا
…
كَتَائِبَ جَنْدلٍ شتَّى عِزينَا
وقال عنترةُ: [الوافر]
4870 -
وقِرْنٍ قَدْ تَركْتُ لِذِي وليٍّ
…
عليْهِ الطَّيْرُ كالعُصَبِ العِزينِ
وقال آخر: [الوافر]
4871 -
تَرانَا عِنْدَهُ واللِّيلُ دَاجٍ
…
عَلى أبْوَابِهِ حِلقاً عِزينَا
وقال الشاعرُ: [الوافر]
4872 -
فَلَمَّا أن أتَيْنَ على أضَاخٍ
…
تَركْنَ حَصاهُ أشْتَاتاً عِزينَا
والعزة لغةً: الجماعة في تفرقة، قاله أبو عبيدة.
ومنه حديثُ النبي صلى الله عليه وسلم َ «أنه خرج إلى أصحابه فرآهم حلقاً، فقال:» مَا لِي أراكُمْ عِزيْنَ، ألا تصفُّونَ كما تُصَفُّ المَلائِكةُ عِندَ ربِّهَا «، قالوا: وكيف تصف الملائكةُ؟ قال:» يتمون الصف الأول فيتراصون في الصف «» .
وقال الأصمعيُّ: العِزُونَ: الأصنافُ، يقال: في الدَّار عزون، أي: أصناف.
وفي «الصِّحاح» : «العِزَةُ» الفرقة من الناس.
وقيل: العِزَة: الجماعةُ اليسيرةُ كالثلاثة والأربعة.
وقال الراغبُ: «وقيل: هو من قولهم: عَزَا عزاء فهو عز إذا صبر، وتعزَّى: تصبَّر، فكأنَّها اسم للجماعة التي يتأسَّى بعضها ببعض» .
قال القرطبيُّ: ويقال: عِزُونَ، وعُزُون - بالضم - ولم يقولوا: عزات، كما قالوا: ثبات، قيل: كان المستهزئون خمسة أرهُطٍ.
وقال الأزهريُّ: وأصلها من قولهم: عَزَا فلانٌ نفسه إلى بني فلانٍ يعزوها عزواً إذا انتمى إليهم، والاسم:«العَزْوَة» ، كلُّ جماعةٍ اعتزوها إلى آخر واحد.
قوله: {أَن يُدْخَلَ} .
العامة: على بنائه للمفعول.
وزيد بن علي، والحسن، وابن يعمر، وأبو رجاء، وعاصم في رواية، قال القرطبي: وطلحة بن مصرف، والأعرج على بنائه للفاعل.
فصل في تعلق الآية بما بعدها
لما قال المستهزئون: إن دخل هؤلاء الجنَّة كما يقولُ محمدٌ فلندخلنَّها قبلهم، أجابهم الله - تعالى - بقوله:{كَلَاّ} لا يدخلونها، ثم ابتدأ فقال:{إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} أي: أنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نُطفةٍ، ثم من علقة، ثم كما خلق سائر جنسهم، فليس لهم فضلٌ يستوجبون به الجنة، وإنما يستوجب بالإيمان، والعمل الصالح، ورحمة الله تعالى.
وقيل: كانوا يستهزئون بفقراء المسلمينَ ويتكبرون عليهم، فقال:{إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِّمَّا يَعْلَمُونَ} ، أي: من القذر، فلا يليقُ بهم هذا التكبرُ.
وقال قتادة في هذه الآيةِ: إنَّما خلقت يا ابن آدم من قذرٍ فاتَّقِ اللَّهَ.
وروي أنَّ مطرف بن عبد الله بن الشِّخيرِ، رأى المهلَّب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خَزّ وجُبة خَزّ، فقال له: يا عبد الله، ما هذه المشية التي يبغضها الله؟ .
فقال له: أتعرفني، قال: نعم، أوّلك نطفةٌ مذرةٌ، وآخرك جيفةٌ قذرةٌ، وأنت تحمل العذرةَ، فمضى المهلَّب وترك مشيته.
قال ابن الخطيب: ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهاً:
أحدها: لما احتج على صحة البعث دل على أنهم كانوا منكرين للبعث، فكأنه قيل لهم: كلا إنكم منكرون للبعث فمن أين تطمعون بدخولِ الجنَّة.
وثانيها: أنَّ المستهزئين كانوا يستحقرون المؤمنين - كما تقدّم - فقال تعالى: إنَّ هؤلاء المستهزئين مخلوقون مما خلقوا، فكيف يليق بهم هذا الاحتقار؟ .
وثالثها: أنَّهم مخلوقون من هذه الأشياء المستقذرة، ولم يتصفوا بالإيمانِ، والمعرفةِ، فكيف يليق بالحكمة إدخالهم الجنة؟ .
وقيل: معنى قوله: {خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ} ، أي: مراحل ما يعلمون وهو الأمر والنَّهي والثوابُ والعقابُ.
كقول الأعشى: [المتقارب]
4873 -
أأزْمَعْتَ من آلِ لَيْلَى ابْتِكَارا
…
وشَطَّتْ على ذِي هَوَى أنْ تُزَارَا
أي: من أجل ليلى.
قوله: {فَلَا أُقْسِمُ} . قد تقدَّم.
وقرأ جماعة: «فلأقسم» دون ألفٍ.
{بِرَبِّ المشارق والمغارب} ، قرأ العامةَ: بجمع «المشارق، والمغارب» .
والجحدري وابن محيصن وأبو حيوة، وحميد: بإفرادهما، وهي مشارقُ الشمس ومغاربها.
وقوله: «إنَّا لقَادِرُونَ» ، جواب القسم:{على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ} أي: نقدر على إهلاكهم، وإذهابهم، والإتيان بخير منهم، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} ، أي: لا يفوتنا شيء، ولا يعجزنا أمرٌ نريده.
قوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ} ، أي: اتركهم يخوضُوا في أباطيلهم، ويلعبوا في دنياهم على جهة الوعيد، واشتغل أنت بما أمرت به. وقد تقدم تفسيره في سورة «الطور» .
واختلفوا فيما وصف الله به نفسه بالقدرة عليه، هل خرج إلى الفعل أم لا؟ .
فقيل: بدل بهم الأنصار والمهاجرين.
وقيل: بدل الله كفر بعضهم بالإيمان.
وقيل: لم يقع هذا التبديلُ، وإنما ذكر الله ذلك تهديداً لهم لكي يؤمنوا.
قوله: {حتى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ} .
قرأ ابن محيصن ومجاهد وأبو جعفر: «يَلْقُوا» مضارع «لَقى» ، والمعنى: أنَّ لهم يوماً يلقون فيه ما وعدوا، وهذه الآية منسوخةٌ بآية السَّيف، ثُمَّ ذكر ذلك اليوم فقال:
{يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث} ، يجوز أن يكون بدلاً من «يومهم» أو منصوب بإضمار «أعني» .
ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون خبر ابتداءٍ مضمر، وبني على الفتح، وإن أضيف إلى معرب، أي: هو يوم يخرجون، كقوله:{هذا يَوْمُ يَنفَعُ} [المائدة: 119] . وتقدم الكلام عنه مشبعاً.
والعامة: على بناء «يَخْرجُونَ» للفاعل.
وقرأ السلميُّ والمغيرة، وروي عن عاصمٍ: بناؤه للمفعول.
قوله: «سِراعاً» ، حال من فاعل «يَخْرجُونَ» ، جمعُ سِرَاع ك «ظِرَاف» في «ظَريف» ، و «كأنَّهُمْ» حال ثانية منه، أو حال من ضمير الحال، فتكونُ متداخلة.
والأجداثُ: القبور، ونظيره:{فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} [يس: 51]، أي: سِرَاعاً إلى إجابة الدَّاعي.
قوله: {إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} . متعلق بالخبر.
والعامَّة: على «نَصْبٍ» بالفتح، وإسكان الصاد.
وابن عامر وحفص: بضمتين.
وأبو عمران [الجوني] ومجاهد: بفتحتين.
والحسن وقتادة وعمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهم: بضم النون، وإسكان الصاد.
؟؟؟ فالأولى: هو اسم مفرد بمعنى العلمِ المنصوب الذي يُسْرعُ الشخصُ نحوه.
وقال أبو عمرو: هو شَبكةُ الصَّائدِ، يُسْرِع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته.
وأمَّا الثانية، فتحتملُ ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنه اسم مفرد بمعنى الصنم المنصوب للعبادة.
وأنشد للأعشى: [الطويل]
4874 -
وذَا النُّصُبِ المَنْصُوبِ لا تَعْبُدَنَّهُ
…
لِعاقِبَةٍ واللَّهَ ربَّك فاعْبُدَا
يعني: إيَّاك وذا النُّصُبِ.
الثاني: إنَّه جمعُ «نِصَاب» ك «كُتُب» و «كِتَاب» .
الثالث
: أنَّه جمع «نَصْب» نحو: «رَهْن ورُهُن، وسَقْف وسُقُف» وهذا قول أبي الحسن.
وجمع الجمع: أنصاب.
وقال النحاسُ: وقيل: نُصُبٌ ونَصْبٌ، بمعنى واحد، كما قيل: عُمْر وعُمُر وأسُد وأسْد جمع أسَد.
وأما الثالثة: ففعلٌ بمعنى مفعول، أي: منصوب كالقَبضِ والنَّقضِ.
والرابعة: تخفيفٌ من الثانية، والنصب أيضاً: الشر والبلاء، ومنه قوله تعالى:{أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] .
؟؟؟؟؟؟؟
فصل في معنى قوله: نصب
قال ابن عباس: «إلى نصب» ، أي إلى غاية، وهي التي ينتهي إليها بصرُك.
وقال الكلبيُّ: هو شيءٌ منصوب علمٌ أو رايةٌ.
وقال الحسنُ: كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمسُ إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أوَّلهم على آخرهم.
و «يُوفضُونَ» : يُسْرعُونَ.
وقيل: يستبقون.
وقيل: يسعون.
وقيل: ينطلقون، وهي متقاربة، والإيفاض: الإسراع؛ قال الشاعر: [المتقارب]
4875 -
فَوَارسُ ذبْيانَ تَحْتَ الحَدِي
…
دِ كالجِنِّ يُوفِضْنَ منْ عَبْقَرِ
وعبقر: موضع تزعم العرب أنه من أرض الجنِّ؛ قال لبيد: [الطويل]
4876 -
…
...
…
...
…
...
…
كُهُولٌ وشُبَّانٌ كجِنَّةِ عَبقَرِ
وقال الآخر: [الرجز]
4877 -
لأنْعَتَنْ نَعَامَةً مِيفَاضَا
…
وقال الليثُ: وفضَتِ الإبل تَفضِي وفُضاً، وأوفضها صاحبُها، فالإيفاض متعد، والذي في الآية لازم يقال: وفض وأوفض، واستوفض بمعنى: أسْرَع.
قوله: {خَاشِعَةً} . حال إما من فاعل «يُوفِضُونَ» وهو أقرب، أو من فاعل «يَخرُجونَ» وفيه بعدٌ منه، وفيه تعدد الحال لذي حالٍ واحدةٍ، وفيه الخلافُ المشهورُ.
و «أبْصارُهُمْ» فاعل، والمعنى: ذليلةٌ خاضعةٌ لا يعرفونها لما يتوقعونه من عذاب الله.
قوله: {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} ، قرأ العامةُ، بتنوين «ذلَّة» ، والابتداء ب «ذلِكَ اليَوْمَ» ، وخبره «الَّذي كَانُوا» .
وقرأ يعقوب والتمَّارُ: بإضافةِ «ذلَّة» إلى «ذلك» وجر «اليَوْم» ؛ لأنه صفةٌ، و «الَّذِي» نعتٌ لليومِ.
و «تَرهَقُهمْ» يجوز أن يكون استئنافاً وأن يكون حالاً من فاعل «يُوفضُونَ» أو «يَخرُجُونَ» ، ولم يذكر مكي غيره.
ومعنى: «ترهَقهُمْ» ، أي: يغشاهم الهوانُ والذلة.
قال قتادة: هو سوادُ الوُجوهِ.
والرَّهقُ: الغشيان: ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام، يقال: رهقه - بالكسر - يرهقه رهقاً، أي: غشيه.
ومنه قوله تعالى: {وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ} [يونس: 26] .
{ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ} ، أي: يوعدونه في الدنيا أنَّ لهم فيه العذاب، وأخرج الخبر بلفظ الماضي؛ لأن ما وعد الله به، فهو حقٌّ كائنٌ لا محالةَ.
روى الثَّعلبيُّ عن أبيِّ بن كعبٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ سأل سَائلٍ، أعْطاهُ اللَّهُ ثَوابَ الَّذينَ لأمَانَاتِهِمْ وعهْدِهِمْ راعثونَ، والَّذينَ هُمْ على صَلأتِهِمْ يُحَافِظُونَ» .