المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قلت: لا؛ لأن الأولى معناها: أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها. والثانية: معناها - اللباب في علوم الكتاب - جـ ١٩

[ابن عادل]

الفصل: قلت: لا؛ لأن الأولى معناها: أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها. والثانية: معناها

قلت: لا؛ لأن الأولى معناها: أنهم يقبلون أوامره ويلتزمونها.

والثانية: معناها أنهم يؤدّون ما يؤمرون به لا يتثاقلون عنه، ولا يتوانون فيه» .

وقال القرطبي: {لَاّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ} أي: لا يخالفونه في أمر من زيادة، أو نقصان {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} في وقته لا يقدمونه، ولا يؤخرونه.

وقيل: أي: لذتهم في امتثال أمر اللَّهِ، كما أن سرور أهل الجنة في الكون في الجنة، ذكره بعض المعتزلة، وعندهم أنه يستحيل التكليف غداً، ولا يخفى معتقد أهل الحقِّ في أن الله يكلف العبد اليوم وغداً، ولا ينكر التكليف غداً في حق الملائكةِ، ولله أن يفعل ما يشاء.

ص: 209

أي: فإن عذركم لا ينفع، وهذا النهي لتحقيق اليأس {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدنيا، ونظيره:{فَيَوْمَئِذٍ لَاّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ} [الروم: 5‌

‌7]

.

قوله

تعالى

: {يا

أيها

الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} .

فرأ الجمهور: بفتح نون «نَصُوحاً» .

فهي صيغة مبالغة أسند النصح إليها مجازاً، وهي من: نصح الثوب، أي: خاطه فكأنه التائب يرقع ما حرقه بالمعصية.

وقيل: هي من قولهم: عسل ناصح، أي: خالص.

وقرأ أبو بكر: بضم النون.

وهو مصدر «نَصَحَ» ، يقال: نصح نصحاً ونصوحاً، نحو: كَفَر كُفْراً وكُفُوراً، وشَكَرَ شُكْراً وشُكُوراً.

وفي انتصابه أوجه:

ص: 209

أحدها: أنه مفعول له، أي: لأجل النصح الحاصل نفعه عليكم.

والثاني: أنه مصدر مؤكد لفعل محذوف، أي: ينصحهم نصحاً.

الثالث: أنه صفة لها، إما على المبالغة على أنها نفس المصدر، أو على حذف مضاف، أي: ذات نصوحٍ.

وقرأ زيد بن عليّ: «تَوْباً» دون تاء.

فصل في تعلق هذه الآية بقوله يا أيها الذين كفروا

قال ابن الخطيب: وجه تعلق هذه الآية بقوله: {يا أيها الذين كَفَرُواْ} أنه - تعالى - نبّههم على رفعِ العذاب في ذلك اليوم، بالتوبة في الدنيا، إذ في ذلك اليوم لا تفيدُ التوبةُ.

فصل

أمر بالتَّوبة، وهي فرض على الأعيان في كُلِّ الأحوال، وكُلِّ الأزمان واختلفوا في التوبة النَّصُوح:

فقيل: هي التي لا عودة بعدها، كما لا يعود اللَّبن إلى الضرع.

روي عن عمر، وابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، ورفعه معاذٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم َ.

وقال قتادة: «النَّصُوحُ» الصَّادقة الخالصة.

ص: 210

وقيل: الخالصة. يقال: نصح له، أي: أخلص له القول.

وقال الحسن: «النَّصُوحُ» أن يبغض الذنب الذي أحبه، ويستغفر منه إذا ذكره.

وقيل: هي التي لا يثق بقبولها، ويكون على وجلٍ منها.

وقال الكلبيُّ: التوبة النَّصوح، الندم بالقلب، والاستغفار باللسان، والإقلاع عن الذنب، والعزم على ألَاّ يعود.

وقيل غير ذلك.

فصل في الأشياء التي يُتَاب منها

قال بعض العلماءِ: الذنبُ الذي لا يكونُ منه التوبةُ لا يخلو، إما أن يكون حقاً لله أو للآدميين، فإن كان حقاً لله عز وجل كتركِ صلاة، أو صوم أو تفريط في زكاة؛ فإن التوبة لا تصح منه حتى ينضم إلى الندم قضاء ما فات منها.

وإن كان قتل نفساً بغير حقٍّ، فإن تمكن من القصاص منه إن طلب به، فإن عُفِيَ عنه كفاه النَّدم، والعزم على ترك العودِ بالإخلاص، وكذلك إن عُفِي عنه في القَتْل بمال فعليه أن يؤديه إن كان واجداً له، قال تعالى:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] .

وإن كان ذلك من حدود الله - ما كان - فإنه إذا تاب إلى الله - تعالى - بالندم الصحيح سقط منه، وقد نصَّ الله - تعالى - على سقوط الحد عن المحاربين إذا تابوا قبل القدرةِ عليهم، كما تقدم.

وكذلك الشُّرَّاب، والسُّراق، والزُّناة إذا صلحوا، وتابوا، وعرف ذلك منهم، ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم، وإن رفعوا إليه فقالوا: تُبْنا لم يتركهم في هذه الحال كالمحاربين إذا غلبوا، هذا مذهب الشافعي.

فإن كان الذنبُ من مظالم العباد، فلا تصح التوبة منه إلا برده إلى صاحبه، والخروج عنه - عيناً كان أو غيره - إن كان قادراً عليه، فإن لم يكن قادراً، فالعزم أن يؤديه إذا قدر في أعجل وقت، وأسرعه.

وإن كان لواحد من المسلمين، وذلك الواحد لا يشعر به، ولا يدري من أين أتى، فإنه يزيل ذلك الضرر عنه، ثم يسأله أن يعفو عنه، ويستغفر له، فإذا عفى، فقد سقط الذنب عنه، وإن أرسل من يسأل ذلك له، فعفى ذلك المظلوم عن ظلمه عرفه بعينه، أو لم يعرفه، فذلك صحيح.

ص: 211

وإن أساء رجل إلى رجل، بأن فزعه بغير حق، أو غمه، أو لطمه، أو صفعه بغير حق، أو ضربه بسوط وآلمه، ثم جاءه مستعفياً نادماً على ما كان منه عازماً على ألا يعود فلم يزل يتذلل له، حتى طابت نفسه فعفا عنه، سقط الذَّنب عنه، وهكذا إن شتمه بشتمٍ لا حدَّ فيه.

قوله: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} .

«عَسَى» من الله واجبةً، وهو معنى قوله عليه الصلاة والسلام ُ -:«التَّائِبُ من الذَّنْبِ كمَنْ لا ذَنْبَ لَهُ» .

و «أنْ» في موضع نصب.

قوله: «ويُدخِلَكُمْ» . معطوف على «يُكَفِّرَ» .

قرأ العامة: بالنصب.

وابن أبي عبلة: بسكون اللام.

فاحتمل أن يكون من إجراء المنفصلِ مجرى المتصل، فسلبت الحركة؛ لأنه يتحلل من مجموع «يُكفِّرَ عَنْكُم» مثل «نطع وقمع» فيقال: فيهما: نَطْع وقَمْع.

ويحتمل أن يكون عطفاً على محل «عَسَى أن يُكَفِّرَ» كأنه قيل: توبوا يوجب تكفير سيئاتكم، ويدخلكم، قاله الزمخشري.

يعني أن «عَسَى» في محل جزم جواباً للأمر؛ لأنه لو وقع موقعها مضارع لانجزم كما مثل به الزمخشري.

وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن «عَسَى» جوابٌ ولا تقع جواباً؛ لأنها للإنشاء.

قوله: {يَوْمَ لَا يُخْزِى الله النبي} .

«يَوْمَ» منصوب ب «يُدخِلَكُم» ، أو بإضمار «اذْكُرْ» .

ومعنى «يُخْزِي» هنا: يعذب، أي: لا يعذبه، ولا يعاقب الذين آمنوا معه.

قالت المعتزلة: قوله تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ} يدل على أنه لا يعذب الذين آمنوا؛ لأن الإخزاء يقع بالعذاب، ولو كان أصحاب الكبائر من أهل الإيمان لم يخفف عليهم العذاب.

قال ابنُ الخطيب: وأجاب أهل السُّنة بأنه - تعالى - وعد أهل الإيمان بألَاّ يخزيهم.

ص: 212

من أهل السنَّةِ من يقف على قوله: {يَوْمَ لَا يُخْزِى الله النبي} ، ومعناه لا يخزيه في رد الشفاعة، والإخزاء: الفضيحة، أي: لا يفضحهم بين يدي الكفار، ويجوز أن يعذبهم على وجه لا تقف الكفرة عليه.

قوله: {والذين آمَنُواْ} يجوز فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون منسوقاً على «النَّبِي» ، أي: ولا يخزي الذين آمنوا، فعلى هذا يكون «نُورُهُمْ يَسْعَى» مُستأنفاً، أو حالاً.

والثاني: أن يكون مبتدأ، وخبره «نُورُهُمْ يَسْعَى» ، و «يَقُولُون» خبر ثاني أو حال.

وتقدم إعراب مثل هذه الجمل في «الحديد» وإعراب ما بعدها في «براءة» .

وقرأ أبو حيوة، وأبو نهل الفهمي:«وبإيْمَانهِمْ» بكسر الهمزة.

ومعنى قوله: {نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي: في الدنيا وبأيمانهم عند الحساب، لأنهم يؤتون الكتاب بأيمانهم، وفيه نور، وخير.

وقيل: يسعى النور بين أيديهم في موضع وضع أقدامهم «وبأيْمانِهِمْ» لأن خلفهم وشمالهم طرق الكفرة، وقولهم:{رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} قال ابن عباس: يقولون ذلك عند إطفاء نور المُنافقين إشفاقاً.

وقال الحسنُ: إنه - تعالى - يتمّم لهم نورهم، ولكنهم يدعون تقرباً إلى حضرة الله تعالى، كقوله:{واستغفر لِذَنبِكَ} [غافر: 55] وهو مغفور.

وقيل: أدناهم منزلة من نوره بقدر ما يبصر موضع قدمه، فيسألون إتمامه.

وقال الزمخشري: السَّابقون إلى الجنَّة يمرون كالبرقِ على الصِّراط، وبعضهم كالريح، وبعضهم كالجواد المسرع، وبعضهم حَبْواً، وهم الذين يقولون: ربنا أتمِمْ لنا نورنا.

ص: 213

فإن قيل: إنه - تعالى - لا يخزي النبي في ذلك اليوم، ولا الذين آمنوا معه؟ .

فالجوابُ: لأن فيه إفادة الاجتماع، بمعنى لا يخزي الله المجموع، أي: الذين يسعى نورهم، وفيه فائدة عظيمة، إذ الاجتماع بين الذين آمنوا، وبين نبيهم تشريفٌ في حقهم وتعظيم.

ص: 214

أمره أن يجاهدَ الكُفَّار بالسيف، والمواعظ الحسنة، والدعاء إلى الله، والمنافقين بالغلظة، وإقامة الحُجَّة أن يعرفهم أحوالهم في الآخرة، وأنه لا نُور لهم يجوزون به على الصِّراط مع المؤمنين.

وقال الحسنُ: أي: جاهدهم بإقامة الحدود عليهم، فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود وكانت الحدودُ تقامُ عليهم {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} يرجع إلى الصنفين {وَبِئْسَ المصير} أي: المرجع.

قال ابن الخطيب: وفي مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم َ بقوله: {يا أيها النبي} في أول السورة وفي هذه الآية ووصفه بالنبي لا باسمه، كقوله لآدم:{يا آدم} [البقرة: 35]، وموسى {ياموسى} [طه: 11] ، ولعيسى {ياعيسى} [المائدة: 116] دليل على فضيلته عليهم.

فإن قيل: قوله: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} يدل على أن مصيرهم بئس المصيرُ، فما فائدة ذلك؟ فالجوابُ: أن مصيرهم بئس المصير مطلقاً، والمطلق يدل على الدوام، وغير المطلق لا يدل على الدوام.

ص: 214

ثم ضرب اللَّهُ مثلاً للصَّالحات، من النِّساء، فقال:

ص: 214

{ضَرَبَ الله مَثَلاً} إلى آخره، تقدم الكلام على «ضرب» مع «المَثَل» ، وهل هو بمعنى «صير» أم لا؟ وكيف ينتصب ما بعدها في سورة «النحل» .

فصل في ضرب الله لهذا المثل

ضرب الله هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يغني أحد عن قريب، ولا نسب في الآخرة إذا فرق بينهما الدِّين، وكان اسم امرأة نوح «والهة» ، وامرأة لوط «والغة» ، قاله مقاتل.

وقال الضحاكُ عن عائشة رضي الله عنها: إن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم َ فأخبره أن اسم امرأة نوح «وَاغِلة» وامرأة لوط «والهة» ، {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} يعني نوحاً ولوطاً.

ويجوز أن يكون «امْرَأة نُوحٍ» بدلاً من قوله «مثلاً» على تقدير حذف المضاف، أي: ضرب الله مثلاً مثل امرأة نوح.

ويجوزأن يكونا مفعولين.

قوله: {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ} .

جملة مستأنفة كأنها مفسرة ل «ضَرْبِ المثلِ» ، ولم يأت بضميرهما، فيقال: تحتهما أي: تحت نوح ولوط، لما قصد من تشريفهما بهذه الإضافة الشريفة، وليصفهما بأجَلّ الصِّفات، وهو الصَّلاح.

قوله: {فَخَانَتَاهُمَا} .

قال عكرمة، والضحاك: بالكفر.

وقال سليمان بن رقية، عن ابن عباس: كانت امرأة تقول للناس: إنه مجنون وامرأة لوط كانت تخبر بأضيافه.

وعن ابن عباس: ما بَغَت امرأة نبي قط، وإنما كانت خيانتهما أنهما كانا على غير دينهما.

ص: 215

قال القشيريُّ: وهذا إجماع من المفسرين إنما كانت خيانتهما في الدين، وكانتا مشركتين وقيل: كانتا منافقتين.

وقيل: خيانتهما النَّميمةُ إذا أوحى الله إليهما شيئاً أفشتاه إلى المشركين، قاله الضحاك.

وقيل: كانت امرأة لوط إذا نزل به ضيف دخنت لتعلم قومها أنه قد نزل به ضيف لما كانوا عليه من إتيان الرجال.

قوله: {فَلَمْ يُغْنِيَا} .

العامة: بالياء من تحت، أي: لم يغن نوح ولوط عن امرأتيهما شيئاً من الإغناء من عذاب الله.

وقرأ مبشر بن عبيد: تغنيا - بالتاء من فوق -، أي: فلم تُغْن المرأتان عن أنفسهما.

وفيها إشكال إذ يلزم من ذلك تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل في غير المواضع المستثناة.

وجوابه: أن «عَنْ» هنا اسم كهي في قوله: [الكامل]

4790 -

دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حَجَراتِهِ.....

...

...

...

...

...

. .

وقد تقدم هذا والاعتراض عليه بقوله: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} [مريم: 25]{واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32] ، والجواب هناك.

فصل في معنى الآية

معنى الآية: لم يدفع نوح، ولوط مع كرامتهما على الله تعالى عن زوجتيهما لما عصيا شيئاً من عذاب اللَّه تنبيهاً بذلك على أنَّ العذاب يدفع بالطَّاعة، لا بالوسيلة.

وقيل: إن كفار مكة استهزءوا وقالوا: إنَّ محمداً يشفع لنا، فبين تعالى أن الشفاعة لا تنفع كفار «مكة» ، وإن كانوا أقرباء كما لا ينفع شفاعة نوح امرأته، وشفاعة لوط لامرأته مع قربهما له لكفرهما.

{وَقِيلَ ادخلا النار مَعَ الداخلين} في الآخرة كما يقال لكفار مكة وغيرهم. قطع الله

ص: 216

بهذه الآية طمع من يرتكب المعصية أن ينفعه صلاح غيره، ثم أخبر أن معصية غيره لا تضره إذا كان مطيعاً.

قوله: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ امرأة فِرْعَوْنَ} .

واسمها آسية بنت مزاحم.

قال يحيى بن سلام: قوله: {ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} مثل ضربه الله يحذر به عائشة، وحفصة في المخالفة حين تظاهرتا عليه صلى الله عليه وسلم َ ثم ضرب الله لهما مثلاً بامرأة فرعون ومريم ابنة عمران ترغيباً في التمسك بالطاعة، والثبات على الدين.

وقيل: هذا حث للمؤمنين على الصبر في الشدة، أي: لا تكونوا في الصبر عند الشدة أضعف من امرأة فرعون حين صبرت على أذى فرعون.

قال المفسرون: لما غلب موسى السحرة آمنت امرأةُ فرعون.

وقيل: هي عمة موسى آمنت به، فلما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها بأربعة أوتاد، وألقاها في الشمس، وألقى عليها صخرة عظيمة، فقالت:«ربِّ نَجِّنِي مِنْ فرعَونَ وعمله» . فرمى بروحها في الجنة، فوقعت الصخرة على جسد لا روح فيه.

وقال الحسنُ: رفعها تأكل في الجنة، وتشرب.

قال سلمان الفارسي: كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة.

قوله: {إذْ قَالَتْ رَبِّ} .

منصوب ب «ضرب» ، وإن تأخر ظهور الضرب.

ويجوز أن ينتصب بالمثل.

قوله: {عِندَكَ} .

يجوز تعلقه ب «ابْنِ» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «بَيْتاً» كان نعته فلما قدم نصب حالاً.

و {فِي الجنة} .

إما متعلق ب «ابْنِ» وإما بمحذوف على أنه نعت ل «بَيْتاً» .

ص: 217

فصل في قصة امرأة فرعون.

قال المفسرون: لما كانت تعذب في الشمس، وأذاها حرّ الشمس {قَالَتْ: رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة} فوافق ذلك حضور فرعون، فضحكت حين رأت بيتها في الجنة، فقال فرعون: لا تَعْجبُوا من جُنُونهَا أنَا أعذِّبُها وهي تضحك، فقبض رُوحها.

وروي أنه وضع على ظهرها رحى فأطلعها اللَّهُ، حتى رأت مكانها في الجنَّة، وانتزع روحها، فألقيت عليها صخرة بعد خروج روحها فلم تجد ألماً.

وقال الحسن وابن كيسان: رفع الله امرأة فرعون إلى الجنة، فهي فيها تأكل، وتشرب، وتتنعم.

قوله: {وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} .

تعني بالعمل: الكفر.

وقيل: «من عمله» ، أي: من عذابه وظلمه.

وقال ابن عباس: الجماع.

{وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} ، أي: الكافرين.

قال الكلبيُّ: أهل «مصر» .

وقال مقاتل: القبط.

قوله: {وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ} .

عطف على {امرأة فِرْعَوْنَ} .

ضرب الله المثل للكافرين بامرأتين، وللمؤمنين بامرأتين.

وقال أبو البقاء: «ومَرْيَمَ» أي: «واذكر مريم» .

وقيل: أو «ومثل مريم» .

وقرأ العامة: «ابْنَة» بنصب التاء.

وأيوب السختياني: بسكون الهاء، وصلاً، أجرى الوصل مجرى الوقف.

والعامة أيضاً: «فَنَفَخْنَا فيْهِ» أي: في الفرجِ.

ص: 218

وعبد الله: «فِيْهَا» أي: في الجملة. وقد تقدم في «الأنبياء» مثله.

والعامة أيضاً: «وصَدَّقتْ» بتشديد الدال.

ويعقوب وقتادة وأبو مجلز، وعاصم في رواية: بتخفيفها، أي: صدقت فيما أخبرت به من أمر عيسى.

والعامة على: «بِكَلمَاتِ» جمعاً.

والحسن ومجاهد والجحدري: «بِكلمَةِ» بالإفراد.

فقيل: المراد بها عيسى؛ لأنه كلمةُ الله.

فصل في مريم ابنة عمران

ضرب الله مثلاً بمريم ابنة عمران وصبرها على أذى اليهود.

وقوله: {التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} عن الفواحش.

وقال المفسرون هنا: أراد بالفرج الجيب، لقوله {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} وجبريل عليه السلام إنما نفخ في جيبها ولم ينفخ في فرجها.

وهي في قراءة أبيٍّ: {فنفخنا في جيبها من روحنا} ، وكل خرق في الثوب يسمى فرجاً، ومنه قوله تعالى:{وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} [ق: 6] .

ويحتمل أن يكون أحصنت فرجها ونفخ الروح في جيبها.

ومعنى «فَنَفَخْنَا» أرسلنا جبريل فنفخ في جيبها «مِنْ رُوحِنَا» أي: روحاً من أرواحنا وهي روح عيسى، وقوله:{وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} أي: قول جبريل لها: {إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ} [مريم: 19] الآية.

وقال مقاتل: يعني بالكلمات عيسى، وأنه نبيّ وعيسى كلمة الله كما تقدم.

وقيل: {بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} يعني الشرائع التي شرعها الله للعباد بكلماته المنزلة.

قوله: {وَكُتُبِهِ} .

قرأ أهل «البَصْرة» وحفص: «وكُتُبِهِ» على الجمع.

وقرأ الأخرون: «وكِتَابِهِ» على التوحيد.

ص: 219

والمراد منه الكثرة، فالمراد به الجِنْس، فيكون في معنى كل كتاب أنزله الله تعالى.

وقرأ أبو رجاء: «وَكُتْبِهِ» بسكون التاء، وهو تخفيف حسن.

وروي عنه: «وكَتْبِهِ» بفتح الكاف.

قال أبو الفضل: مصدر وضع موضع الاسم، يعني ومكتوبه.

فصل في المراد بالكتب

أراد الكتب التي أنزلتْ على إبراهيم، وموسى، وداود، وعيسى.

وقوله: {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} .

يجوز في «مِن» وجهان:

أحدهما: أنها لابتداء الغاية.

والثاني: أنها للتبعيض، وقد ذكرهما الزمخشريُّ، فقال: و «مِنْ» للتبعيض، ويجوز أن تكون لابتداء الغاية، على أنها ولدت من القانتين؛ لأنها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات الله على نبيِّنا وعليهما وعلى سائر الأنبياء وآلهم.

قال الزمخشري: فإن قلت: لم قيل: {مِنَ القانتين} على التذكير؟ .

قلت: القنوت صفة تشمل من قنت من القبيلين فغلب ذكوره على إناثه.

ويجوز أن يرجع إلى أهل بيتها، فإنهم كانوا مطيعين لله، والقنوت: الطاعة.

وقال عطاء: من المصلّين بين المغرب والعشاء.

وعن معاذ بن جبلٍ: «أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال لخديجة وهي تجود بنفسها: أتكرهين ما قد نزل بك، وقد جعل اللَّهُ في الكره خيراً، فإذا قدمت على ضراتك فأقرئيهنّ منِّي السَّلام مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم وكليمة - أو قال: حليمة - بنت عمران أخت موسى بن عمران، فقالت: بالرفاء والبنين يا رسول الله» .

[قال ابن الأثير: الرفاء والبنين: الالتئام والاتفاق والبركة والنَّماء، وهو مهموز.

وذكره الهروي في «المعتلّ» قال: «وهو على معنيين:

أحدهما: الاتفاق وحسن الاجتماع، والآخر: من الهدوء والسكون، وأما المهموز

ص: 220