المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سورة الجمعة   [مدنية] وهي إحدى عشرة آية، ومائة وثمانون كلمة، وسبعمائة - اللباب في علوم الكتاب - جـ ١٩

[ابن عادل]

الفصل: سورة الجمعة   [مدنية] وهي إحدى عشرة آية، ومائة وثمانون كلمة، وسبعمائة

سورة الجمعة

[مدنية] وهي إحدى عشرة آية، ومائة وثمانون كلمة، وسبعمائة وعشرون حرفا.

روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة ".

ص: 68

وعنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: " نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له، قال: يوم‌

‌ الجمعة

، فاليوم لنا، وغدا لليهود وبعد غد للنصارى ". بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى:{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} تقدم الكلام فيه.

وقوله: {الملك القدوس العزيز الحكيم} .

وجه تعلق هذه السورة بما قبلها، هو أنه تعالى قال في أول تلك السورة:«سبَّحَ للَّهِ» بلفظ الماضي وذلك لا يدل على التسبيح في المستقبل، فقال في أول هذه السورة بلفظ [المستقبل] ليدل على التسبيح في الزمن الحاضر والمستقبل.

ص: 68

وأما تعلق الأول بالآخر، فلأنه تعالى ذكر في آخر تلك السورة أنه كان يؤيد أهل الإيمان حتى صاروا غالبين على الكُفَّار وذلك على وفق الحكمة لا للحاجة إليه إذ هو غني على الإطلاق ومنزه عما يخطر ببال الجهلة، وفي أول هذه السورة ذكر على ما يدل على كونه مقدساً، ومنزّهاً عما لا يليق بحضرته العليَّة ثم إذا كان خلق السماوات والأرض بأجمعهم في تسبيح حضرة الله تعالى فله الملك، ولا ملك أعظم من هذا على الإطلاق، ولما كان الملك كله له تعالى فهو الملك على الإطلاق، ولما كان الكل خلقه فهو المالك على الإطلاق.

قوله: {الملك القدوس} .

قرأ العامة: بجر «الملكِ» وما بعده نعتاً لله، والبدل ضعيف لاشتقاقهما.

وقرأ أبو وائل وسلمة بن محارب ورؤبة بالرفع على إضمار مبتدأ مقتضٍ للمدح.

وقال الزمخشري: «ولو قرىء بالنصب على حدّ قولهم: الحمد لله أهل الحمد، لكان وجهاً» .

وقرأ زيد بن علي: «القَدُّوس» بفتح القاف، وقد تقدم ذلك. و «يُسَبِّحُ» من جملة ما يجري فيه اللفظان، ك «شكره وشكر له ونصحه ونصح له وسبحه وسبح له» .

فإن قيل: «الحَكِيمُ» يطلق أيضاً على الغير كما يقال في لقمان: إنه حكيم.

فالجواب: أن الحكيم عند أهل التحقيق هو الذي يضع الأشياء مواضعها، والله تعالى حكيم بهذا المعنى.

قوله: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ} .

تقدم الكلام في «الأميّ والأميين» جمعه.

و «يَتْلُو» وما بعده صفة ل «رسول» صلى الله عليه وسلم َ.

قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: «الأميّون» العرب كلهم من كتب منهم ومن لم يكتب؛ لأنهم لم يكونوا أهل كتاب.

وقيل: الأميّون الذين لا يكتبون، وكذلك كانت قريش.

وروى منصور عن إبراهيم قال: «الأمّي» الذي لا يقرأ ولا يكتب.

ص: 69

وعن ابن عباس رضي الله عنهما الأميون الذين ليس لهم كتاب ولا نبي بعث فيهم، وقيل: الأميون الذين هم على ما خلقوا عليه.

وقرىء: «الأمين» بحذف ياء النَّسب.

قوله: {رَسُولاً مِنْهُمْ} .

يعني محمداً صلى الله عليه وسلم َ وما من حيّ من العرب إلا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم َ فيهم قرابة وقد ولدوه.

وقال ابن إسحاق: إلا بني تغلب، فإن الله طهَّر نبيه صلى الله عليه وسلم َ منهم لنصرانيتهم، فلم يجعل لهم عليه ولادة، وكان أميًّا لم يقرأ من كتاب ولم يتعلّم صلى الله عليه وسلم َ.

قال الماورديُّ: فإن قيل: فما وجه الامتنان بأن بعث اللَّهُ نبيًّا أميًّا؟ .

فالجواب من ثلاثة أوجه:

أحدها: لموافقته ما تقدم من بشارة الأنبياء.

الثاني: لمشاكلة حاله لأحوالهم فيكون أقرب لموافقتهم.

الثالث: لينفي عنه سوء الظن في تعليمه ما دعى إليه من الكتب التي قرأها والحكم التي تلاها.

قال القرطبي: «وهذا كله دليل معجزته وصدق نبوته» .

قوله: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} يعني القرآن «ويُزكِّيهم» أي: يجعلهم أزكياء القلوب بالإيمان. قاله ابن عباس.

وقيل: يطهرهم من دنس الكفر والذنوب. قاله ابن جريج ومقاتل.

وقال السديُّ: يأخذ زكاة أموالهم، «ويُعَلِّمُهُم الكِتابَ» يعني: القرآن، «والحكمة» يعني السُّنة. قاله الحسن.

وقال ابن عباس: «الكتاب» الخط بالقلم، لأن الخط إنما نشأ في العرب بالشَّرع لما أمروا بتقييده بالخط.

وقال مالك بن أنسٍ: «الحكمة» الفقه في الدين.

وقد تقدم في البقرة.

ص: 70

{وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ} أي: من قبله وقبل أن يُرسل إليهم {لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} أي: في ذهاب عن الحق.

فصل في الرد على بعض الشبه

قال ابن الخطيب: احتج أهل الكتاب بهذه الآية، فقالوا: قوله تعالى: {بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ} يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ُ كان رسولاً إلى الأميين وهم العرب خاصَّة، قال: وهذا ضعيف، فإنه [لا] يلزم من تخصيص الشيء بالذكر نفي ما عداه، ألا ترى قوله تعالى:{وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت: 48] أنه لا يفهم منه أنه لا يخطه بشماله، ولأنه لو كان رسولاً إلى العرب خاصة، كان قوله تعالى {كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28] لا يناسب ذلك، وقد اتفقوا على صدق الرسالة المخصوصة فيكون قوله:{كَآفَّةً لِّلنَّاسِ} دليلاً على أنه عليه الصلاة والسلام ُ - كان رسولاً إلى الكل.

قوله: {وآخرين منهم} فيه وجهان:

أحدهما: أنه مجرور عطفاً على «الأميين» ، أي: وبعث في آخرين من الأميين و {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} صفة ل «آخرينَ» .

والثاني: أنه منصوب عطفاً على الضَّمير المنصوب في «يُعلِّمُهُم» .

أي: ويعلم آخرين لم يلحقوا بهم وسيلحقون، فكلّ من تعلم شريعة محمد صلى الله عليه وسلم َ إلى آخر الزَّمان فرسول الله صلى الله عليه وسلم َ معلمه بالقوة؛ لأنه أصل ذلك الخير العظيم والفضل الجسيم.

قوله: {لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} .

أي: لم يكونوا في زمانهم وسيجيئون بعدهم.

قال ابن عمر وسعيد بن جبير: هم العجم.

وفي «صحيح البخاري» ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم َ إذا نزلت عليه سورة الجمعة، فلما قرأ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} قال رجل: من هؤلاء يا رسول الله؟ فلم يراجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم َ حتى سأله مرة أو مرتين أو ثلاثاً قال: وفينا سلمان الفارسي قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم َ يده على سلمان ثم قال:» لَوْ كَانَ

ص: 71

الإيمانُ عِندَ الثُّريَّا لناله رجالٌ مِنْ هؤلاءِ «، وفي رواية:» لَوْ كَانَ الدِّينُ عندَ الثُّريَّا لذهب بِهِ رجُلٌ من فارسَ، أو قال: مِنْ أبْناءِ فِارِسَ حتَّى يتناولهُ «لفظ مسلم.

وقال عكرمة: هم التابعون.

وقال مجاهد: هم الناس كلهم، يعني من بعد العرب الذين بعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم َ.

وقاله ابن زيد ومقاتل بن حيان، قالا: هم من دخل الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم َ إلى يوم القيامة.

قال سهل بن سعد الساعدي: إن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال:» «إنَّ في أصْلاب أمَّتِي رجالاً ونِساءً يدخُلونَ الجنَّة بغيرِ حسابٍ» ثم تلا: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} «والقول الأول أثبتُ.

» وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال: «رأيتُني أسْقِي غَنَماً سُوداً ثُمَّ أتبعتُهَا غَنَماً عُفْراً أوِّلْها يَا أبا بَكْر» ، قال: يا نبِيَّ الله، أما السُّودُ فالعربُ، وأمَّا العُفْرُ فالعجمُ تتبعُك بعد العربِ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ:«كَذِلكَ أوَّلها الملك يا أبا بكر» «يعني: جبريل عليه السلام، رواه ابن أبي ليلى عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم َ وهو علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

قوله تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} .

قال ابن عباس: حيث ألحق العجم بقريش.

وقيل: يعني: الإسلام فضل الله يؤتيه من يشاء. قاله الكلبي.

وقال مقاتل: يعني الوحي والنبوة.

وقيل: إنه المال ينفق في الطاعة، لما روى أبو صالح عن أبي هريرة:» أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، فقالوا: ذهب أهل الدُّثُور بالدَّرجات العلى والنعيم

ص: 72

المقيم، فقال:«ومَا ذَاكَ» ، فقالوا: يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:«أفَلَا أعلِّمُكُمْ شَيْئاً تُدْركُونَ بِهِ من سَبَقكُمْ وتَسبقُونَ من بَعْدكُمْ ولا يكُونُ أحَدٌ أفضل مِنكُمْ إلَاّ من صَنَعَ مِثْلَ ما صَنَعْتُمْ» قالوا بلى يا رسول الله، قال:«تُسَبِّحُونَ وتُكبِّرُونَ وتحْمدُونَ دُبر كُلِّ صلاةٍ ثلاثاً وثلاثينَ مرَّةً» ، قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقالوا: سمع إخواننا من أهل الأموال بما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ {ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} «

وقيل: إنه انقياد الناس إلى تصديق النبي صلى الله عليه وسلم َ ودخولهم في دينه ونصرته.

ص: 73

قوله: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة} .

هذه قراءة العامَّة.

وقرأ زيد بن علي ويحيى بن يعمر: «حَمَلُوا» مخففاً مبنياً للفاعل.

قوله: {كَمَثَلِ الحمار} .

هذه قراءة العامة.

وقرأ عبد الله: «حِمَارٍ» منكراً، وهو في قوة قراءة الباقين، لأن المراد بالحمار: الجِنْس ولهذا وصف بالجملة بعده، كما سيأتي.

وقرأ المأمون بن هارون الرشيد: «يُحَمَّل» مشدداً مبنيًّا للمفعول.

والجملة من «يَحْمِلُ أو يُحَمَّلُ» فيها وجهان:

أشهرهما: أنه في موضع الحال من «الحمار» .

ص: 73

والثاني: أنها في موضع الصفة للحمار، لجريانه مجرى النكرة، إذ المراد به الجنس.

قال الزمخشري: أو الجر على الوصف لأن الحمار كاللئيم، في قوله:[الكامل]

4767 -

وَلقَدْ أمُرُّ على اللَّئيمِ يسُبُّنِي.....

...

...

...

... .

وتقدم تحرير ذلك وأن منه عند بعضهم: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ} [يس: 37] ، وأن «نسلخ» نعت لليل، والجمهور يجعلونه حالاً للتعريف اللفظي.

وأما على قراءة عبد الله: فالجملة وصف فقط، ولا يمتنع أن تكون حالاً عند سيبويه. والأسفار: جمع سفر، وهو الكتاب المجتمع الأوراق.

فصل في تفسير هذا المثل

هذا مثل ضرب لليهود لما تركوا العمل بالتوراة، ولم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم َ «حُمِّلُوا التَّوراةَ» أي: كلفوا العمل بها. قاله ابن عباس.

وقال الجرجاني: هو من الحمالة بمعنى الكفالة، أي: ضمنوا أحكام التوراة.

وقوله: {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} .

لم يعملوا بما فيها ولم يؤدّوا حقها {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} أي: كتباً من العلم، واحدها سفر.

قال الفرَّاء: هي الكتب العظام، لأنها تسفر عما فيها من المعاني إذا قرئت، ونظيره: شبر وأشبار.

يعني كما أن الحمار يحملها ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود يقرأون التوراة ولا ينتفعون بها، لأنهم خالفوا ما فيها.

قال ميمون بن مهران: الحمار لا يدري أسفر على ظهره أم زبيل، كذلك اليهود، وفي هذا تنبيه من الله تعالى لمن حمل الكتاب أن يتعلم معانيه ويعلم ما فيه ويعمل به لئلا يلحقه من الذم ما لحق هؤلاء.

قال الشاعر: [الطويل]

4768 -

لَعَمْرُكَ مَا يَدْرِي البَعِيرُ إذَا غَدَا

بأوسَاقِهِ أوْ رَاحَ مَا فِي الغَرَائِرِ

ص: 74

قوله: {بِئْسَ مَثَلُ القوم} فيه أوجه:

أحدها: وهو المشهُور أن «مثَلُ القَوْمِ» فاعل «بِئْسَ» والمخصوص [بالذم الموصول بعده، وهذا مشكل؛ لأنه لا بد من تصادق فاعل «نعم وبئس» والمخصوص هنا: «المثل» ليس بالقوم المكذبين]

والجواب: أنه على حذف مضاف، أي: بئس مثل القوم مثل الذين كذبوا.

الثاني: أن «الَّذينَ» صفة للقوم فيكون مجرور المحلّ، والمخصوص بالذَّم محذوف لفهم المعنى، تقديره: بئس مثل القوم المكذبين مثل هؤلاء، وهو قريب من الأول.

الثالث: أن الفاعل محذوف، وأن «مثل القوم» هو المخصوص بالذَّم، وتقديره: بئس المثل مثل القوم، ويكون الموصول نعتاً للقوم أيضاً، وإليه ينحو كلام ابن عطية فإنه قال: والتقدير {بئس المثل مثل القوم} .

وهذا فاسد: لأنه لا يحذف الفاعل عند البصريين إلَاّ في مواضع ثلاثة ليس هذا منها، اللهم إلا أن يقول بقول الكوفيين.

الرابع: أن يكون التمييز محذوفاً، والفاعل المفسر به مستتر، تقديره:«بئس مثلاً مثل القوم» وإليه ينحو كلام الزمخشري فإنه قال: «بئس مثلاً مثل القوم» .

فيكون الفاعل مستتراً مفسراً ب «مَثَلاً» ، و «مثلْ القَوْمِ» هو المخصوص بالذم، والموصول صفة له، وحذف التمييز، وهذا لا يجيزه سيبويه وأصحابه ألبتة.

نصوا على امتناع حذف التمييز، وكيف يحذف وهو مبين.

فصل

قال ابن الخطيب: فإن قيل: ما الحكمة في تعيين الحمار من دون سائر الحيوانات؟ .

فالجواب من وجوه:

أحدها: أنه تعالى خلق الخيل والبغال والحمير للركوب والزينة، كما قال تعالى:{والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 87] ، والزينة في الخيل أظهر وأكثر بالنسبة إلى الركوب والحمل عليه، وفي البغال دون الخيل، وفي الحمير دون البغال، فالحمار كالمتوسط في المعاني الثلاثة، وحينئذ يكون الحمار في معنى الحمل أظهر

ص: 75

وأغلب بالنسبة إلى الخيل والبغال وغيرهما من الحيوانات.

وثانيها: أن هذا التمثيل لإظهار الجهل والبلادة لأولئك القوم، والحمار يمثل به في الجهل والبلادة.

وثالثها: أن في الحمار من الحقارة ما ليس في غيره من الحيوانات. والغرض من الكلام هاهنا تحقير القوم وتعييرهم، فيكون تعيين الحمار أليق.

ورابعها: أن حمل الأسفار على الحمار أسهل وأعمّ وأسهل لسرعة انقياده، فإنه ينقاد للصبي الصغير من غير كلفة، وهذا من جملة ما يوجب حسن الذكر بالنسبة إلى غيره.

وخامسها: أن رعاية الألفاظ والمناسبة من لوازم الكلام [وبين] لفظ الأسفار والحمار مناسبة لفظة [لا توجد] في غيره من الحيوانات فيكون ذكره أولى.

فصل

قال القرطبي: «معنى الكلام: بئس مثل القوم المثل الذي ضربناه لهم فحذف المضاف {والله لَا يَهْدِي القوم الظالمين} الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب الأنبياء يعني من سبق في علمه أنه يكون كافراً» .

قوله

: {قُلْ

يا

أيها

الذين هادوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس} . أي: من دون محمَّد وأصحابه. لما ادعت اليهود الفضيلة، وقالوا:{نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، قال الله تعالى:{إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس} فللأولياء عند الله الكرامة {فَتَمَنَّوُاْ الموت} لتصيروا إلى ما يصير إليه أولياء الله.

قوله: {أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ} .

سادّ مسد المفعولين أو المفعول على الخلاف، و «لله» متعلق ب «أولياء» أو بمحذوف نعتاً ل «أولياء» ، و {من دون الناس} كذلك.

قوله: {فَتَمَنَّوُاْ الموت} . جواب الشَّرط.

ص: 76

والعامة: بضم الواو وهو في الأصل واو الضمير.

وابن السميفع وابن يعمر وابن إسحاق: بكسرها، وهو أصل التقاء السَّاكنين.

وابن السميفع أيضاً: بفتحها وهذا طلب للتخفيف.

وتقدم نحوه في: {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16] .

وحكى الكسائي إبدال الواو همزة.

قوله: {وَلَا يَتَمَنَّونَهُ} ، وقال في البقرة:{وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} [البقرة: 95] .

قال الزمخشري: لا فرق بين «لا» و «لن» في أنَّ كل واحد منهما نفي للمستقبل إلا أن في «لن» تأكيداً وتشديداً ليس في «لا» فأتي مرة بلفظ التأكيد «ولن يتمنوه» ومرة بغير لفظه «ولا يتمنونه» .

قال أبو حيان: «وهذا رجوع عن مذهبه وهو أن» لن «تقتضي النفي على التأبيد إلى مذهب الجماعة وهو أنها لا تقتضيه» .

قال شهاب الدين: وليس فيه رجوع، غاية ما فيه أنه سكت عنه، وتشريكه بين «لا» و «لن» في نفي المستقبل لا ينفي اختصاص «لن» بمعنى آخر.

وتقدم الكلام على هذا مشبعاً في «البقرة» .

فصل

المعنى: «ولا يتمنونه أبداً بما قدمت أيديهم» أي: أسلفوه من تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم َ فلو تمنوه لماتوا، فكان ذلك بطلان قولهم وما ادعوه من الولاية.

«قال عليه الصلاة والسلام ُ لما نزلت هذه الآية:» والذي نفسي بيده لو تمنوا الموت ما بقي على ظهرها يهودي إلا مات «» .

وفي هذا إخبار عن الغيب ومعجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلم َ، وقد مضى الكلام على هذه الآية في «البقرة» عند قوله:{فَتَمَنَّوُاْ الموت} [البقرة: 94] .

ص: 77

في هذه الفاء وجهان:

أحدهما: أنها داخلةٌ لما تضمنه الاسم من معنى الشرط، وحكم الموصوف بالموصول حكم الموصول في ذلك.

قال الزجاج: ولا يقال: إنَّ زيداً فمنطلق، وهاهنا قال:«فإنَّهُ مُلاقِيكُمْ» لما في معنى «الذي» من الشرط والجزاء، أي: فررتم منه فإنه ملاقيكم، وتكون مبالغة في الدلالة على أنه لا ينفع الفرار منه.

الثاني: أنها مزيدة محضة لا للتضمين المذكور.

وأفسد هؤلاء القول الأول بوجهين:

أحدهما: أن ذلك إنما يجوز إذا كان المبتدأ أو اسم إن موصولاً، واسم «إن» هنا ليس بموصول، بل موصوفاً بالموصول.

والثاني: أن الفرار من الموت لا ينجي منه فلم يشبه الشرط يعني أنه متحقق فلم يشبه الشرط الذي هو من شأنه الاحتمال.

وأجيب عن الأول: بأن الموصوف مع صفته كالشيء الواحد؛ ولأن «الذي» لا يكون إلا صفة، فإذا لم يذكر الموصوف دخلت الفاء، والموصوف مراد، فكذلك إذا صرح بها.

وعن الثاني: بأن خلقاً كثيراً يظنون أن الفرار من أسباب الموت ينجيهم إلى وقت آخر.

وجوز مكي: أن يكون الخبر قوله: {الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} وتكون الفاء جواب الجملة قال: كما تقول: «زيد منطلق فقم إليه» .

وفيه نظر؛ لأنها لا ترتب بين قوله: {إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} وبين قوله {فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} فليس نظيراً لما مثله.

قال القرطبي: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله: {الذي تَفِرُّونَ} ثم يبدأ بقوله {فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} .

وقرأ زيد بن علي: «إنَّهُ» بغير فاء.

وفيها أوجه:

ص: 78

أحدها: أنه مستأنف، وحينئذ يكون الخبر نفس الموصول، كأنه قيل: فإن الموت هو الشيء الذي تفرّون منه. قاله الزمخشري.

الثاني: أن الخبر الجملة من قوله: {فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} وحينئذ يكون الموصول نعتاً للموت.

الثالث: أن يكون «إنه» تأكيد، لأن الموت لما طال الكلام أكد الحرف تأكيد لفظياً، وقد عرف أنه لا يؤكد كذلك إلا بإعادة ما دخل عليه أو بإعادة ضميره، فأكد بإعادة ضمير ما دخلت عليه «إن» .

وحينئذ يكون الموصول نعتاً للموت، و «ملاقيكم» خبره، كأنه قيل: إن الموت إنه ملاقيكم.

وقرأ ابن مسعود: «ملاقيكم» من غير «فإنه» .

فإن قيل: الموت ملاقيهم على كل حال فروا أو لم يفروا، فما معنى الشرط والجزاء؟ .

فالجواب: أنَّ هذا على جهة الرَّد عليهم إذ ظنوا أن الفرار ينجيهم، {ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} وهذا وعيد بليغ وتهديد شديد.

قوله

تعالى

: {يا

أيها

الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الجمعة} الآية.

قرأ العامة: «الجُمُعَة» بضمتين.

وقرأ عبد الله بن الزبير وزيد بن علي والأعمش وأبو حيوة وأبو عمرو في رواية بسكون الميم.

فقيل: هي لغة في الأولى وسكنت تخفيفاً وهي لغة تميم.

وقيل: هو مصدر بمعنى الاجتماع.

ص: 79

وقيل: لما كان فيه معنى الفعل صار «كرجل هُزْأة» أي: يُهزأ به، فلما كان في «الجمعة» معنى التجمع أسكن؛ لأنه مفعول به في المعنى أو يشبهه، فصار ك «هزأة» الذي يهزأ به. قاله مكي.

وكذا قال أبو البقاء: هو بمعنى المجتمع فيه، مثل: رجل ضحكة، أي يضحك منه.

وقال مكي: يجوز إسكان الميم إستخفافاً، وقيل: هي لغة.

وقد تقدم أنها قراءة وأنها لغة تميم.

وقال أبو حيان: «ولغة بفتحها لم يقرأ بها» .

قال شهاب الدين: «قد نقلها أبو البقاء قراءة، فقال: ويقرأ - بفتح الميم - بمعنى الفاعل، أي: يوم المكان الجامع، مثل: رجل ضحكة، أي: كثير الضحك» .

وقال مكي: «وفيه لغة ثالثة - بفتح الميم - على نسبة الفعل إليها كأنها تجمع الناس، كما يقال:» رجل لحنة «إذا كان يلحن الناس، وقرأة إذا كان يقرىء الناس» ، ونقلها قراءة أيضاً الزمخشري، إلا أن الزمخشري جعل «الجمعة» - بالسكون - هو الأصل، وبالمضموم مخففاً منه يقال: يوم الجمعة، يوم الفوج المجموع، كقولهم:«ضُحَكَة» للمضحوك منه، ويوم الجمعة - بفتح الميم - يوم الوقت الجامع، كقولهم: ضحكة ولعبة، ويوم الجمعة، كما قيل: عُسَرة في عُسْرة، وقرىء بهن جميعاً.

وتقديره: يوم الوقت الجامع أحسن [من تقدير أبي البقاء يوم] المكان الجامع؛ لأن نسبة الجمع إلى الطرفين مجاز، فالأولى إبقاؤه زماناً على حاله.

قال القرطبي: «وجمعها جُمع وجُمعان» .

وقال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: نزل القرآن بالتثقيل والتفخيم، فاقرأوها «جمعة» يعني بضم الميم.

ص: 80

وقال الفرَّاء وأبو عبيد: والتخفيف أحسن وأقيس، نحو: غُرْفة وغُرَف، وطُرْفة وطُرَف وحُجرة وحُجَر وفتح الميم لغة بني عقيل. وقيل: إنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم َ.

فصل في الكلام على الآية

فإن قيل: قال ابن الخطيب: قوله: «للصَّلاةِ» ، أي: لوقت الصلاة، بدليل قوله:{مِن يَوْمِ الجمعة} ولا تكون الصلاة من اليوم وإنما يكون وقتها من اليوم.

فالجواب: روى سلمان أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال: «إنَّمَا سُمِّيتْ جُمعَةً لأنَّ اللَّهَ جَمَعَ فِيهَا خلقَ آدَمَ»

وقيل: لأن الله - تعالى - فرغ فيها من خلق كل شيء فاجتمع فيها جميع المخلوقات.

وقيل: لتجتمع الجماعات فيها. وقيل: لاجتماع النَّاس فيها للصلاة.

قوله: {مِن يَوْمِ} .

«من» هذه بيان ل «إذا» وتفسير لها. قاله الزمخشري.

وقال أبو البقاء: إنها بمعنى «في» أي: في يوم، كقوله تعالى:{أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} [فاطر: 40]، أي: في الأرض.

فصل في أول من قال أما بعد وسمى الجمعة

قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: قال أبو سلمة: أول من قال: أما بعد، كعب بن لؤي وكان أول من سمى الجمعة جمعة لاجتماع قريش فيه إلى كعب، وكان يقال ليوم الجمعة: العروبة.

وقيل: أول من سماها جمعة: الأنصار.

قال ابن سيرين: جمَّع أهل «المدينة» من قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم َ المدينة، وقبل أن ننزل الجمعة، وهم الذين سموها الجمعة، وذلك أنهم قالوا: إن اليهود يجتمعون فيه في كل سبعة أيام وهو يوم السَّبت، وللنصارى يوم مثل ذلك وهو الأحد، فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوماً لنا نذكر الله فيه ونصلي فيه ونستذكر، فقالوا: يوم السبت لليهود، ويوم

ص: 81

الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكّرهم، فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا، فذبح لهم أسعد شاةً فتعشَّوا وتغدَّوا منها لقلتهم فهذه أول جمعة في الإسلام.

وروي أنهم كانوا اثني عشر رجلاً.

وقال البيهقي: وروينا عن موسى بن عقبة عن الزهري أن مصعب بن عمير كان أول من جمع الجمعة للمسلمين بالمدينة قبل أن يقدمها النبي صلى الله عليه وسلم َ قال البيهقي: يحتمل أن يكون مصعب جمع بهم بمعونة أسعد بن زرارة، فأضافه كعب إليه.

وروي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب: أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحَّم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة قال: لأنه أول من جمع بنا في هزم النَّبيت من حرَّة بني بياضة في بقيع يقال له: بَقِيعُ الخضمات، قلت له: كم كنتم يومئذ؟ قال: أربعين.

ذكره البغوي.

وأما أول جمعة جمعها النبي صلى الله عليه وسلم َ بأصحابه، [فقال أهل السير:«قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم َ] مهاجراً حتى نزل ب» قباء «على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنين عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى، ومن تلك السَّنة يُعَدُّ التاريخ فأقام بها إلى يوم الخميس وأسس مسجدهم، ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركته في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجداً، فجمع بهم

ص: 82

وخطب، وهي أول جمعة خطبها بالمدينة، وقال فيها:» الحَمْدُ لِلَّهِ، أحْمَدهُ، وأسْتَعينُهُ، وأسْتَغفِرُهُ، وأسْتَهْدِي بِهِ، وأومِنُ بِهِ، ولا أكْفُرُهُ، وأعَادِي من يَكْفُرُ بِهِ، وأشْهَدُ ألا إلهَ إلَاّ اللَّهُ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وأشْهَدُ أنَّ مُحَمداً عَبْدُهُ ورسُولهُ، أرْسلَهُ اللَّهُ بالهُدَى ودَيِنِ الحَقِّ ليظهره على الدين كله والنُّورِ والمَوعِظَةِ والحِكْمَةِ، على فَتْرَة مِنَ الرُّسُلِ، وقلَّةِ العِلْمِ وضَلالةٍ مِنَ النَّاسِ، وانقِطاعٍ مِنَ الزَّمانِ، ودُنُوٍّ مِنَ السّاعةِ، وقُرْبٍ مِنَ الأَجَلِ؛ مَن يُطِع الرَّسُول فَقَدْ رَشَدَ ومن يَعْصِي اللَّهَ ورسُولَهُ فَقَدْ غَوَى وفرَّطَ وضَلَّ ضلالاً بَعِيداً. وأوصِيكُمْ بتَقْوَى اللَّهِ فإنَّهُ خَيْرُ ما أوصيكم وخير ما أوصى بِهِ المُسْلِمُ المُسْلِمَ أنْ يَحُضَّهُ على الآخِرةِ وأنْ يأمرهُ بتَقْوَى اللَّهِ، واحْذَرُوا ما حذَّرَكُمُ اللَّهُ من نَفْسِهِ، فإنَّ تَقْوَى اللَّهِ مِنْ عَمِلَ بِهِ على وجَلٍ ومخَافَةٍ من ربِّهِ عُنْوانُ صِدْقٍ عَلَى مَا تَبْغُونَ مِنَ الآخِرةِ ومَن يُصْلِح الذي بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ مِنْ أمْرِهِ في السِّرِّ والعَلانِيَةِ لا يَنْوِي بِهِ إلَاّ وجْهَ اللَّهِ يَكُنْ لَهُ ذِكْراً في عَاجل أمْرِهِ وذُخْراً فِيمَا بَعْدَ المَوْتِ حِينَ يَفْتَقِرُ المَرْءُ إلى ما قدَّم ومَا كَانَ ممَّا سِوَى ذلك {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ والله رَؤُوفٌ بالعباد} [آل عمران: 30] .

هُوَ الَّذي صدقَ قولهُ، وأنجَزَ وعْدَهُ، لا خُلْفَ لذَلِكَ فإنَّه يقولُ:{مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلَاّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [سورة ق: 29] .

فاتَّقُوا اللَّهِ في عاجلِ أمْركُمْ وآجلهِ، فِي السِّرِّ والعلانيةِ، فإنَّهُ {وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق: 5] .

ومَنَ يتَّقِ اللَّهَ فقد فَازَ فَوْزاً عَظِيماً.

وإنَّ تَقْوَى اللَّهِ تُوقِي مقْتَهُ وتُوقِي عُقوبتَهُ وتُوقِي سُخْطَهُ، وإنَّ تَقْوَى اللَّه تُبَيِّضُ الوُجُوه وتُرْضي الرَّبَّ، وترفعُ الدَّرجة، فخُذُوا حِذْركُمْ ولا تُفَرِّطُوا في جَنْب اللَّهِ فقدْ عَلَّمَكُمْ في كتابهِ ونَهَجَ لَكُمْ سبيلهُ، ليَعْلَمَ الَّذينَ صَدَقُوا وليَعْلَمَ الكَاذِبِينَ، فأحْسِنُوا كَمَا أحسن اللَّهُ إليْكُمُ، وعادُوا أعْدَاءهُ، وجَاهِدُوا في اللَّهِ حقَّ جِهَادِهِ هُو اجتبَاكُمْ وسمَّاكُمُ المُسلِمينَ، {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] ، ولا حَولَ ولا قُوَّة إلَاّ باللَّهِ العليِّ العظيم، فأكْثِرُوا من ذِكْرِ اللَّهِ تعالى واعْمَلُوا لِمَا بَعْدَ المَوْتِ، فإنَّه من يُصْلِحْ ما بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ يَكْفِهِ اللَّهِ مَا بَيْنَه وبيْنَ النَّاسِ، ذلِكَ بأنَّ اللَّهِ يَقْضِي بَيْنَ النَّاسِ ولا يَقْضُون عليْهِ، ويَمْلِكُ مِنَ النَّاسِ ولا يَمْلِكُونَ مِنْهُ، اللَّهُ أكبرُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلَاّ باللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ «.

فصل في خطاب الله للمؤمنين

خاطب اللَّهِ المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفاً لهم وتكريماً، فقال: {يا أيها

ص: 83

الذين آمنوا} ، ثُمَّ خصه بالنِّداء وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى:{وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة} [المائدة: 58] ليدلّ على وجوبه وتأكيد فرضه.

وقال بعض العلماء: كون الصَّلاة الجمعة ها هنا معلُوم بالإجماع لا من نفس اللفظ.

وقال ابن العربي: «وعندي أنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة، وهي قوله: {مِن يَوْمِ الجمعة} وذلك يفيده لأن النداء الذي يختصّ بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة، وأما غيرها فهو عام في سائر الأيام، ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى ولا فائدة» .

فصل

كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم َ كما في سائر الصلوات مؤذن واحد إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم َ على المنبر أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، وكذلك فعل أبو بكر وعمر وعلي ب «الكوفة» ثم زاد عثمان أذاناً ثانياً على داره التي تسمى الزوراء حين كثر الناس بالمدينة، فإذا سمعوا أقبلوا حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذّن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ثم يخطب عثمان. أخرجه ابن ماجه في سننه.

وقال الماوردي: فأما الأذان الأول فمحدث، فعله عثمان بن عفَّان ليتأهب النَّاس لحضور الخطبة عند اتساع «المدينة» وكثرة أهلها، وقد كان عمر رضي الله عنه أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن بيوعهم، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد فجعله عثمان رضي الله عنه أذانين في المسجد.

قال ابن العربي: وفي الحديث الصحيح: أن الأذان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم َ واحداً، فلما كان زمن عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء، وسماه في الحديث: ثالثاً، لأنه إضافة إلى الإقامة، لقوله عليه الصلاة والسلام ُ -:«بَيْنَ كُلِّ أذَانَينِ صلاةٌ لِمن شَاءَ» يعني الأذان والإقامة.

وتوهّم بعض الناس أنه أذان أصلي، فجعلوا المؤذنين ثلاثة، فكان وَهْماً، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهماً على وهم.

قوله: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} .

ص: 84

قيل: المراد بالسعي هنا القصد. قال الحسن: والله ما هو بسعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب والنية.

وقال الجمهور: السعي العمل كقوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [الإسراء: 19]، وقوله:{إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى} [من سورة الليل: 4]، وقوله:{وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سعى} [النجم: 39] .

والمعنى: فاعملوا على المضي إلى ذكر الله واشتغلوا بأسبابه من الغسل والطهر والتوجه إليه.

وقيل: المراد به السعي على الأقدام، وذلك فضل، وليس بشرط، لقوله عليه الصلاة والسلام ُ -:«مَن اغْبرَّتْ قَدمَاهُ في سبيل اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلى النَّارِ» .

قال القرطبي: «ويحتمل ظاهره وجهاً رابعاً، وهو الجري والاشتداد» .

قال ابن العربي: وهو الذي أنكره الصَّحابة والفقهاء الأقدمون، فقرأها عمر رضي الله عنه:{فامضُوا إلى ذِكْرِ اللَّهِ} فرارا عن طريق الجري والاشتداد الذي يدل عليه الظاهر.

وقرأ ابن مسعود كذلك، وقال: لو قرأت: «فاسْعَوا» لسعيت حتى يسقط ردائي.

وقال ابن شهاب: [فامضوا] إلى ذكر الله، سالكاً تلك السبيل، وهو كله تفسير منهم لا قراءة قرآن منزل، وجائز قراءة القرآن بالتفسير في معرض التفسير.

قال أبو بكر بن الأنباري: وقد احتج من خالف المصحف بقراءة عمر وابن مسعود، وأن خرشة بن الحر قال: رآني عمر رضي الله عنه ومعي قطعة فيها: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} فقال عمر: من أقرأك هذا؟ قلت: أبيٌّ، فقال: إن أبيًّا أقرؤنا للمنسوخ ثم قرأ عمر: {فامضُوا إلى ذِكْرِ اللَّهِ} .

وقال الفراء وأبو عبيدة: معنى السَّعي في الآية المضي للجمعة.

واحتج الفراء بقولهم: هو يسعى في البلاد يطلب فضل الله.

واحتج أبو عبيدة بقول الشاعر: [السريع]

ص: 85

4769 -

أسْعَى عَلَى جدِّ بَنِي مَالِكٍ

كُلُّ امْرِىءٍ فِي شأنِهِ سَاعِ

فهل يحتمل السعي في هذا البيت المضي والانكماش، ومحال أن يخفى هذا المعنى على ابن مسعود وعلى فصاحته وإتقان عربيته.

قال القرطبي: وما يدلّ على أن المراد هنا العدو، قوله عليه الصلاة والسلام ُ -:«إذَا أقِيمَتِ الصَّلاةُ فَلَا تَأتُوهَا وأنتُمْ تَسْعونَ ولكِن ائْتُوهَا وعَليْكُمُ السَّكِينَةُ» .

قال الحسنُ رضي الله عنه: أما والله ما هو بالسَّعْي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا الصَّلاة إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنية والخشوع.

وقال قتادة: السعي أن تسعى بقلبك وعملك.

فصل في أن الآية خطاب للمكلفين

هذه الآية خطاب للمكلفين [بالإجماع] ويخرج منه المرضى والزمنى والمسافرون والعبيد والنساء بالدليل والعميان والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة.

لما روى الدارقطني عن أبي الزبير عن جابر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال» مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَعليْهِ الجُمُعة يَوْمُ الجُمُعةِ إلَاّ مَريضٌ أو مُسافِرٌ أو امْرَأةٌ أوْ صَبِيٌّ أو مَمْلوكٌ، فمن اسْتَغْنَى بِلَهْوٍ أو تجارة اسْتَغْنَى اللَّهُ عز وجل عَنْهُ، واللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ «.

قال العلماء رضي الله عنهم: لا يتخلف أحد عن الجمعة ممن عليه إتيانها إلا بعذر لا يمكنه معه الإتيان إليها كالمرض الحابس أو خوف الزيادة في المرض أو خوف جور

ص: 86

السلطان عليه في مال أو ولد دون القضاء عليه بحق. والمطر الوابل مع الوَحْل عذر إن لم ينقطع.

وروى المهدوي عن مالك أنهما ليسا بِعُذْرٍ.

ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة، ولم يكن عنده من يقوم بأمره فهو معذور، وقد فعل ذلك ابن عمر رضي الله عنه، ومن تخلف عنها لغير عذر فصلى قبل الإمام أعاده ولا يجزيه أن يصلي قبله وهو عاص في تخلفه ذلك مع إمكانه.

فصل في وجوب السعي

وجوب السعي يختص بالقريب الذي يسمع النداء، فأما البعيد الذي لا يسمع النداء فلا يجب عليه السعي.

واختلف الناس في القريب والبعيد.

فقال ابن عمرو وأبو هريرة رضي الله عنهما وأنس: تجب الجمعة على من كان في المصر على ستة أميال.

وقال ربيعة: أربعة أميال.

وقال مالك والليث: ثلاثة أميال.

وقال الشافعيُّ: اعتبار سماع الأذان أن يكون المؤذن صَيِّتاً، والأصوات هادئة، والريح ساكنة، وموقف المؤذن عند سور البلد.

«وروت عائشةُ رضي الله عنها أن الناس كانوا ينتابُون الجمعة من منازلهم من العوالي فيأتون في الغبار ويصيبهم الغبار فيخرج منهم الريح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ» لو اغْتسَلْتُمْ ليَوْمِكُمْ هَذَا «.

قال العلماء: والصوت إذا كان رفيعاً والناس في هدوء وسكون، فأقصى سماع الصوت ثلاثة أميال، والعوالي من» المدينة «أقربها على ثلاثة أميال.

وقال أحمد بن حنبل وإسحاق: تجب الجمعة على من سمع النداء لقوله عليه الصلاة والسلام ُ -:» إنَّمَا الجُمعَةُ عَلَى مَن سَمِعَ النِّداءَ «.

وقال أبو حنيفة وأصحابه: تجب الجمعة على من في المصر سمع النداء أو لم يسمعه ولا تجب على من هو خارج المصر ولو سمع النداء، حتى سئل: وهل تجب الجمعة على أهل» زبارة «وهي بينها وبين الكوفة مجرى نهر؟ فقال: لا.

ص: 87

وروي عن ربيعة أيضاً: أنها تجب على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشياً أدرك الصلاة.

فصل في وجوب الجمعة بالنداء.

دلّت هذه الآية على أن الجمعة لا تجب إلا بالنداء، والنداء لا يكون إلا بدخول الوقت لقوله عليه الصلاة والسلام ُ -:» إذَا حَضرتِ الصَّلاةُ فليُؤذِّنْ أحَدُكُمَا وليَؤُمّكما أكْبَركُمَا «.

وروى أنس بن مالك» أن النبي صلى الله عليه وسلم َ «كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» «.

وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأحمد بن حنبل: أنها تصلى قبل الزوال، واستدل أحمد بحديث سلمة بن الأكوع:» كنا نصلّي مع النبي صلى الله عليه وسلم َ ثم ننصرف وليس للحيطان ظلٌّ «.

وحديث ابن عُمَر:» ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة «.

وأخرج مسلم مثله عن سهل.

قال القرطبي: وحديث سلمة محمول على التكبير، لقول سلمة:» كنا نُجمِّعُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إذا زالت الشَّمس ثم نرجع ونتتبّع الفيء «.

فصل

نقل عن بعض الشافعية أن الجمعة فرض على الكفاية، وجمهور الأمة على أنها فرض عين لقوله تعالى:{إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} .

وقال عليه الصلاة والسلام ُ -:» ليَنْتَهينَّ أقْوامٌ عَنْ ودْعِهِمُ الجُمعاتِ أو ليَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلوبِهِم ثُمَّ ليَكونُنَّ مِنَ الغَافِلِينَ «.

وروى ابن ماجه في» سننه «قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:

«مَن تركَ الجُمَعَة ثَلاثَ مرَّاتٍ طَبَعَ اللَّهُ على قَلْبِهِ» ، إسناده صحيح.

ص: 88

وقال ابن العربي: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم َ أنه قال: «الرَّواحُ إلى الجُمُعَةِ واجِبٌ على كُلِّ مُسْلمٍ» .

فصل في العدد الذي تنعقد به الجمعة

اختلفوا في العدد الذي تنعقد به الجمعة.

فذهب قوم إلى أن كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلاً أحراراً عاقلين مقيمين لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفاً إلا ظعن حاجة تجب عليهم إقامة الجمعة فيها، وهو قول عبيد الله بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، قالوا: لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلاً على هذه الصفة، وشرط عمر بن عبد العزيز مع الأربعين أن يكون فيهم والٍ، وعند أبي حنيفة تنعقد بأربعة والوالي شرط.

وقال الأوزاعي وأبو يوسف: تنعقد بثلاث إذا كان فيهم وال.

وقال الحسن وأبو ثور: تنعقد باثنين كسائر الصلوات.

وقال ربيعة: تنعقد باثني عشر رجلاً.

فصل في اجتماع العيد والجمعة.

إذا اجتمع العيد والجمعة سقط فرض الجمعة عند أحمد لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عنها، ولما روي أن عثمان أذن في [يوم] عيد لأهل العوالي أن يتخلفوا عن الجمعة.

وقال غيره: لا يسقط فرض الجمعة لأن الأمر بالسعي متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر الأيام، وقول الصحابي ليس بحجة إذا خولف فيه ولم يجمع معه عليه.

وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقرأ في العيدين وفي الجمعة: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى} [الأعلى: 1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} [الغاشية: 1] قال وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضاً في الصَّلاتين» أخرجه أبو داود والترمذي والنَّسائي وابن ماجه.

قوله: {إلى ذِكْرِ الله} .

أي: الصلاة.

ص: 89

وقيل: الخطبة والمواعظ. قاله سعيد بن جبير.

قال ابن العربي: والصحيح أنه واجب في الجميع؛ لأنها تحرم البيع، ولولا وجوبها ما حرمته؛ لأن المُستحبَّ لا يحرم المباح.

قال القرطبي: وإذا قلنا: إنَّ المراد بالذِّكر الصَّلاة فالخطبة من الصَّلاة، والعبد يكون ذاكراً لله بقلبه كما يكون مسبحاً لله بفعله.

قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها غير ذلك؟ .

قلت: ما كان من ذكر رسول الله والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير، فهو في حكم ذكر الله، فأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم وهم أحقاء بعكس ذلك» .

فصل في السفر يوم الجمعة

ذهب بعضهم إلى أنه إذا أصبح يوم الجمعة مقيماً فلا يسافر حتى يصلي الجمعة، وذهب بعضهم إلى الجواز، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال:

«بعث النبي صلى الله عليه وسلم َ عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة، فغدا أصحابه وقال أتخلف فأصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ثم ألحقهم، فلما صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم َ رآه فقال:» مَا مَنَعَكَ أن تَغْدُوَ مَعَ أًصْحَابِكَ «، قال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم، فقال:» لَوْ أنفقْتَ مَا فِي الأرْضِ مَا أدْرَكْتَ «. فصلى غدوتهم» .

وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً عليه أهبة السفر، يقول: لولا أن اليوم الجمعة لخرجت، فقال له عمر: اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفرٍ.

قوله: {وَذَرُواْ البيع} .

يدل على تحريم البيع في وقت الجمعة على من كان مخاطباً بفرضها، والبيع لا

ص: 90

يخلو عن شراء فاكتفى بذكر أحدهما، كقوله:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل: 81] وخص البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق، ومن لا يجب عليه حضور الجمعة، فلا ينهى عن البيع والشراء.

وفي وقت التحريم قولان:

أحدهما: أنه من بعد الزَّوال إلى الفراغ منها. قاله الضحاك، والحسن، وعطاء.

الثاني: أنه من وقت أذان الخطبة إلى وقت الصَّلاة. قاله الشافعي.

قال القرطبي: «ومذهب مالك أن البيع يفسخ إذا نودي للصلاة، ولا يفسخ العتق والنكاح والطلاق وغيره، إذ ليس من عادة الناس اشتغالهم به كاشتغالهم بالبيع، قال: وكذلك الشرك والهبة والصدقة نادر لا يفسخ» .

قال ابن العربي: «والصحيح فسخ الجميع؛ لأن البيع إنما منع منه للاشتغال به فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعاً مفسوخ» .

وحمل بعضهم النهي على الندب لقوله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} ، وهو مذهب الشافعي؛ فإن البيع عنده ينعقد ولا يفسخ.

وقال الزمخشري: إن عامة العلماء على أن ذلك النهي لا يؤدي إلى فساد البيع، قالوا: لأن البيع لم يحرم لعينه، ولكن لما فيه عن الذُّهُول عن الواجب، فهو كالصلاة في الدار والثوب والمغضوب، والوضوء بماء مغصُوب.

قال القرطبي: «والصَّحيح فساده وفسخه لقوله عليه الصلاة والسلام ُ -» كُلُّ عملٍ ليْسَ عليْهِ أمْرُنَا فهُو ردٌّ «أي: مردود.

ثم قال:» ذَلِكُمْ «أي: ذلك الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع {خَيْرٌ لَّكُمْ} من المبايعة {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} مصالح أنفسكم.

قوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض} .

هذا أمر إباحة كقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} [المائدة: 2]، والمعنى: إذا فرغتم من الصلاة {فانتشروا فِي الأرض} للتجارة والتصرف في حوائجكم {وابتغوا مِن فَضْلِ الله} أي: من رزقه.

وكان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال:

ص: 91

اللهم إني أجبت دعوتك، وصلّيت فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فارزقني من فضلك رزقاً حلالاً وأنت خير الرازقين.

وقال جعفر بن محمد في قوله تعالى: {وابتغوا مِن فَضْلِ الله} : إنه العمل في يوم السبت.

وقال سعيد بن المسيب: طلب العلم.

وقيل: صلاة التطوع.

وقال ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا، إنما هي عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيادة الأخ في الله تعالى.

فصل

في فضل يوم الجمعة أحاديث كثيرة.

منها ما روي عن أبي هريرة قال: «خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار، فجلست معه، فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فكان فيما حدثته أن قلت له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:» خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الجُمُعَةِ، فيه خُلِقَ آدمُ، وفيه هَبَطَ من الجنة، وفيه مَاتَ، وفِيهِ تِيبَ علَيْهِ، وفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ، ومَا مِن دابَّةٍ إلَاّ وهِيَ مُسَبِّحَةٌ فِي يَوْمِ الجُمُعَةِ مِنْ حِين تُصْبحُ حتَّى تطلُعَ الشَّمْسُ شفقاً من السَّاعَة إلَاّ الجِنَّ والإنْسَ وفيهَا سَاعَةٌ لا يُصادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وهُو يُصلِّي فيسألُ اللَّهَ شَيْئاً إلَاّ أعْطَاهُ إيَّاهُ «.

قال كعب: ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت: بل في كل جمعة، قال: فقرأ كعب التوراة فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم َ، قال أبو هريرة: ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة، قال عبد الله بن سلام: قد علمت أية ساعة هي؟ هي في آخر ساعة من يوم الجمعة.

قال أبو هريرة: وكيف تكون آخر ساعة من يوم الجمعة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:» لا يُصادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وهُو يُصلِّي «وتِلْكَ السَّاعَةُ لا يُصلَّى فِيهَا؟ فقال عبد الله بن سلام: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:» مَن جَلَسَ مَجْلِساً يَنتظِرُ الصَّلاة فَهُوَ فِي صلاةٍ حتَّى يُصلِّيهَا «؟ .

ص: 92

قال أبو هريرة: بلى. قال:» فهو ذاك «» .

وقال عليه الصلاة والسلام ُ -: «مَن اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمعة واسْتَنَّ ومسَّ طِيْباً إن كان عِندَهُ ولبِسَ مِنْ أحْسَن ثيابهِ ثُمَّ خَرَجَ حتَّى يَأتِيَ المَسْجِدَ ولمْ يتَخَطَّ رِقَاب النَّاسِ ثُمَّ رَكَعَ مَا شَاءَ اللَّهُ أن يَرْكَعَ وأنصَتَ إذا خَرَجَ الإمامُ، كَانَتْ كفَّارة لما بَيْنهُمَا وبَيْنَ الجُمُعةِ الأخْرَى الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا» .

وقال أبو هريرة: وزيادة ثلاثة أيام؛ لأن اللَّه تعالى يقول: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] .

وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «إذَا كَانَ يَوْمُ الجمعة كَانَ عَلى كُلِّ بَابٍ مِنْ أبْوابِ المَسْجدِ ملائِكةٌ يَكْتُبُونَ [النَّاسَ على مَنَازلِهِم] ، الأوَّل فالأوَّلَ، فإذا خرج الإمامُ طُويتِ الصُّحَفُ واستَمَعُوا الخُطْبَةَ» .

وقال: «مَن اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمعَةِ، ثُمَّ رَاحَ في السَّاعةِ الأولى، فكَأنَّما قَرَّب بَدَنةً، ومن رَاحَ فِي السَّاعةِ الثَّانيةِ فكأنَّما قرَّب بقرةً، ومَن راحَ في السَّاعةِ الثَّالثة فكأنَّما قرَّب كبْشاً، ومن رَاحَ في السَّاعةِ الرَّابعةِ فكأنَّما قرَّب دَجَاجَةً [ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب عصفوراً] ، ومن رَاحَ فِي السَّاعةِ السادسة، فكَأنَّما قَرَّبَ بَيْضَةً فإذا خَرَجَ الإمامُ حَضرتِ الملائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» .

قوله: {واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: بالطاعة واللسان، وبالشكر على ما أنعم به عليكم من التوفيق لأداء فرائضه {لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [كي تفلحوا] .

وقال سعيد بن جبير: الذكر طاعة الله، فمن أطاع الله فقد ذكره؛ ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن كان كثير التسبيح.

ص: 93

قال ابن الخطيب: فإن قيل: ما الفرق بين ذكر الله أولاً وذكر الله ثانياً؟ .

فالجواب: أن الأول من جملة ما لا يجتمع مع التجارة أصلاً إذ المراد منه الخطبة والصلاة والثاني من جملة ما يجتمع مع التجارة كما في قوله تعالى: {رِجَالٌ لَاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} [النور: 37] .

قوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} .

روى مسلم عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم َ كان يخطب قائماً يوم الجمعة فجاءت عير من «الشام» فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثني عشر رجلاً، وفي رواية: أنا فيهم، فنزلت هذه الآية:{وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} .

وذكر الكلبي: أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من «الشام» في مجاعةٍ وغلاء سعر وكان معه جميع ما يحتاج إليه الناس من برّ ودقيق وغيره فنزلت عند أحجار الزيت وضرب بالطبل ليعلم الناس بقدومه فخرج الناس إلا اثني عشر رجلاً وقيل إلا أحد عشر رجلاً وحكى البغوي قال: فلما رأوه قاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه قال الكلبي وكانوا في خطبة الجمعة فانفضوا إليه وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ثمانية رجال حكاه الثعلبي عن ابن عباس وذكر الدارقطني من حديث جابر قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلت بالبقيع فالتفتوا إليها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ليس معه إلاّ أربعين رجلاً أنا منهم قال: وأنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم َ {وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً} قال الدارقطني لم يقل في هذا الآثار إلاّ أربعين رجلاً غير علي بن عاصم بن حصين وخالفه أصحاب حصين فقالوا لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم َ إلاّ اثني عشر رجلاً. واحتج بهذا الحديث من يرى أن الجمعة تنعقد باثني عشر رجلاً وليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة وذكر الزمخشري أن النبي صلى الله عيله وسلم قال:

«والذي نفسي بيده لو خرجوا جميعاً لأضرم الله عليهم الوادي ناراً» .

وروي في حديث مرسل عن أسد بن عمرو والد أسد بن موسى بن أسد وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لم يبق معه إلا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة عامر بن الجراح وسعيد بن زيد وبلال وعبد الله بن مسعود في إحدى الروايتين وفي الرواية الأخرى عمار بن ياسر قال القرطبي ولم يذكر جابراً وذكر مسلم أنه كان فيهم والدارقطني أيضاً فيكونون ثلاثة عشر وإن كان عبد الله بن مسعود بينهم فهم أربعة عشر.

ص: 94

وروى البغوي قال: «وكان ذلك قبل أن يسلم دحية، قال: فخرج الناس إليه، ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلاً وامرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ:» لو قام هؤلاء لقد سومت لهم الحجارة من السماء «» فأنزل الله هذه الآية.

فصل

وذكر أبو داود في مراسيله: السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة، وقد كانوا خليقاً بفضلهم ألَاّ يفعلوا، فقال: حدثنا محمود بن خالد، قال: حدثنا الوليد، قال: أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يخطب وقد صلى الجمعة، فدخل رجل فقال: إن دحية بن خليفة قدم بتجارته، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفوف، فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء، فأنزل الله عز وجل {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} فقدم النبي صلى الله عليه وسلم َ الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة فكان لا يخرج أحد لرعاف أو إحداث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم َ يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن له النبي صلى الله عيله وسلم ثم يشير إليه بيده، فكان في المنافقين من يثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق في جنبه مستتراً به حتى يخرج، فأنزل الله تعالى:{قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} [النور: 63] الآية.

قال السُّهيلي: وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبي صلى الله عيله وسلم يوجب أن يكون صحيحاً. والله أعلم.

وقال قتادة: وقد بلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات، كل مرة عير تقدم من «الشام» وكل ذلك يوافق يوم الجمعة.

وقيل: إن خروجهم لقدوم دحية الكلبي بتجارة ونظرهم إلى العير تمر لهوٌ لا فائدة فيه، إلا أنه كان مما لا إثمَ فيه لو وقع على ذلك الوجه، ولكنه لما اتصل به الإعراض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ والانفضاض عن حضرته غلظ وكبر، ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل.

وكان معه جميع ما يحتاج إليه الناس من بر ودقيق وغيره، فنزل عند أحجار الزيت، وضرب بالطبل [ليؤذن] الناس بقدومه، فخرج الناس إلا اثنا عشر رجلاً.

ص: 95

وقيل: أحد عشر رجلاً.

وحكى البغوي قال: «فلما رأوه قام خشية أن يسبقوا إليه» .

قال الكلبي: كانوا في خطبة الجمعة فانفضوا إليه وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ثمانية رجال، وحكاه الثعلبي عن ابن عباس.

وذكر الدارقطني من حديث جابر قال: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلت بالبقيع فالتفتوا إليها، وانفضوا إليها، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ليس معه إلا أربعين رجلاً أنا فيهم» ، قال: وأنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم َ: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً} .

قال الدارقطني: لم يقل في هذا الاسناد: «إلا أرْبعِينَ رَجُلاً» غير علي بن عاصم عن حصين، وخالفه أصحاب حصين، فقالوا: لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم َ إلا اثنا عشر رجلاً.

واحتج بهذا الحديث من يرى أن الجمعة تنعقد باثني عشر رجلاً، وليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة. وذكر الزمخشري أن النبي عليه الصلاة والسلام ُ - قال:«والَّذي نَفْسِي بِيدِهِ لوْ خَرَجُوا جَمِيعاً لأضرَمَ اللَّهُ عليْهِمُ الوَادِي نَاراً» .

وروي في حديث مرسل عن أسد بن عمرو والد أسد بن موسى بن أسد، وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ لم يبق معه إلا أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة بن الجراح، وسعيد بن زيد، وبلال وعبد الله بن مسعود في إحدى الروايتين، وفي الرواية الأخرى عمار بن ياسر.

قال القرطبي: «لم يذكر جابراً.

وذكر مسلم: أنه كان فيهم.

والدارقطني أيضاً فيكونون ثلاثة عشر، وإن كان عبد الله بن مسعود فيهم فهم أربعة عشر» .

قوله: {انفضوا إِلَيْهَا} .

أعاد الضمير على التجارة دون اللهو لأنها الأهم في السبب.

قال ابن عطية: «وقال: إليها، ولم يقل: إليهما، تهمُّماً بالأهم، إذ كانت هي

ص: 96

سبب اللهو، ولم يكن اللَّهْو سببها، وتأمل أن قدمت التجارة على اللهو في الرؤية؛ لأنها أهم، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولاً على الأبْيَن» انتهى.

وفي قوله: «لم يقل: إليهما» ثم أجاب بما ذكر نظر، لأن العطف «بأو» لا يثنى معه الضمير ولا الخبر ولا الحال، ولا الوصف؛ لأنها لأحد الشيئين، ولذلك تأول الناس:

{إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] كما تقدم في موضعه.

وإنما الجواب عنه: أنه وحَّد الضمير؛ لأن العطف ب «أو» ، وإنما جيء بضمير التجارة دون ضمير اللهو، وإن كان جائزاً للأهتمام كما قاله ابن عطية وغيره.

وقال الزمخشري قريباً من ذلك فإنه قال: فإن قلت: كيف قال: إليها، وقد ذكر شيئين؟ فالجواب: تقديره: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهواً انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه، وكذلك قراءة من قرأ: انفضوا إليه. انتهى.

فقوله: «قلت: تقديره» إلى آخره، يشعر بأنه كان حق الكلام أن يثنى الضمير ولكنه حذف، وفيه ما تقدم من المانع من ذلك أمر صناعي وهو العطف ب «أو» .

وقرأ ابن أبي عبلة: «إلَيْهِ» .

أعاد الضمير إلى اللهو، وقد نصَّ على جواز ذلك الأخفش سماعاً من العرب، نحو: إذا جاءك زيد أو هند فأكرمه، وإن شئت فأكرمها.

وقرأ بعضهم: «إليْهِمَا» بالتثنية.

وتخريجها كتخريج: «إن يَكُنْ غَنِيًّا أو فَقِيراً فالله أولى بهما» كما تقدم تحريره.

والمراد باللهو الطبل.

وقيل: كانت العير إذا قدمت «المدينة» استقبلوها بالتصفيق والصفير.

قوله: «وتَركُوكَ» .

جملة حالية من فاعل «انفضَّوا» و «قد» مقدرة عند بعضهم.

فصل في أن الخطبة فريضة في صلاة الجمعة.

الخطبة فريضة في صلاة الجمعة، ويجب أن يخطب قائماً فإن هذه الآية تدل على أن القيام شرط، ويخطب متوكئاً على قوس أو عصا، لما روى ابن ماجه في سننه «أن

ص: 97

النبي صلى الله عليه وسلم َ كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس، وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا» .

وأن يخطب على منبر؛ لأنه أبلغ في إعلام الحاضرين، ويسلم إذا صعد المنبر على الناس. لما روى ابن ماجه عن جابر بن عبد الله:«أن النبي صلى الله عليه وسلم َ كان إذا صعد المنبر سلم» .

ولم ير ذلك مالك.

وهل تشترط الطهارة في الخطبة؟

فيه قولان مبنيان على أن الجمعة ظهر مقصورة، أو فريضة مستقلة.

فإن قيل: بأنها ظهر مقصورة.

فقيل: الخطبتان عوض عن الركعتين الأخريين، وعلى هذا فيشترط لهما الطهارة.

وإن قيل: بأنها فريضة مستقلة فالخطبتان وعظ وتذكير، وذلك لا يشترط لها طهارة، وأقل ما يجزىء في الخطبة أن يحمد الله - تعالى - ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم َ ويوصي بتقوى الله، ويقرأ آية من القرآن، وكذلك في الخطبة الثانية إلا أن الواجب بدلاً من قراءة الآية الدعاء في قول أكثر الفقهاء.

وقال أبو حنيفة: لو اقتصر على التحميد، أو التسبيح، أو التكبير أجزأه.

وقال أبو يوسف ومحمد: الواجب ما تناوله اسم الخطبة.

وقال ابن عبد البر: وهذا أصح ما قيل في ذلك.

قال القرطبي: «والسكوت للخطبة واجب على من سمعها وجوب سُنَّة» .

قوله: {مَا عِندَ الله خَيْرٌ} .

«ما» موصولة مبتدأ، و «خير» خبرها.

ص: 98

والمعنى: ما عند الله من ثواب صلاتكم خيرٌ من لذَّة لهوكم، وفائدة تجارتكم.

وقيل: ما عندكم من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما أصبتموه من لهوكم وتجارتكم.

وقرأ أبو رجاء العطاردي: {قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة للذين آمنوا} .

{والله خَيْرُ الرازقين} .

أي: خير من رَزَقَ وأعْطَى، فمنه فاطلبوا واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيْرَي الدنيا والآخرة.

قال ابن الخطيب: قوله {والله خَيْرُ الرازقين} من قبيل أحكم الحاكمين وأحسن الخالقين، والمعنى: إن أمكن وجودُ الرازقين فهو خيرُ الرازقين.

وقيل: لفظ الرَّازق لا يطلقُ على غيره إلا بطريقِ المجازِ.

فإن قيل: التِّجارةُ واللَّهْوُ من قبيل ما لا يرى غالباً، فكيف يصحُّ قوله:{وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً} ؟ .

فالجواب: ليس المراد إلا ما يقرب منه اللهو والتجارة، كقوله:{حتى يَسْمَعَ كَلَامَ الله} [التوبة: 6] إذ الكلام غيرُ مسموعٍ.

وروى الثعلبي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ الجُمُعَةِ كُتِبَ لَهُ عَشْرُ حَسَناتٍ بعددِ مَنْ ذَهبَ إلى الجُمعةِ من مِصْرٍ مِنْ أمْصَارِ المُسْلمينَ ومَنْ لَمْ يَذْهَبْ» .

ص: 99