الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سورة الملك
مكية، وتسمى الواقية، والمنجية، وتدعى في التوراة المانعة؛ لأنها تنقي وتنجي من عذاب القبر.
وعن ابن شهاب: أنه كان يسميها المجادلة؛ لأنها تجادل عن صاحبها في القبر. وهي ثلاثون آية، وثلاثمائة كلمة، وألف وثلاثمائة حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ
الملك}
.
«تبارك» تفاعل من البركة وقد تقدم.
وقال الحسنُ: تقدّس.
وقيل: دام، فهو الدائم الذي لا أول لوجوده، ولا آخر لدوامه {الذي بِيَدِهِ الملك} أي: ملكُ السموات والأرض في الدنيا والآخرة.
وقال ابن عبَّاس: {بِيَدِهِ الملك} : يعزّ من يشاء، ويذل من يشاء، ويُحيي ويميت، ويغني ويفقر، ويعطي ويمنع.
قال ابن الخطيب: هذه اللفظة تستعمل لتأكيد كونه - تعالى - ملكاً ومالكاً كما يقال: بيد فلان الأمر، والنهي، والحل والعقد، ولا مدخل للجارحة.
قال الزمخشريُّ: {بِيَدِهِ الملك} كل موجود، وهو على كل ما لم يوجد قدير:
قوله: {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . يدل على أن المعدوم شيء؛ لأن قدرة الله لا تتعلق بالموجود؛ لأن القدرة مؤثرة، والعدم نفي محض، فلا يكون أثراً لها، فوجب أن يكون المعدوم شيئاً.
فصل في أنه لا مؤثر إلا قدرة الله
احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا مؤثر إلا قدرة الله، وأبطلوا القول بالطَّبائع كقول الفلاسفة، وأبطلوا القول بالمتولدات كقول المعتزلة، وأبطلوا القول بكون العبد موجوداً لأفعالٍ نفسيةٍ، لقوله:{وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
فصل في وحدانية الله
دلّت هذه الآية على الوحدانية؛ لأنا لو قدرنا إلهاً ثانياً، فإما أن يقدر على إيجاد الشيء أولاً، فإن لم يقدر على إيجاد شيء لم يكن إلهاً، وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئاً، فيلزم كون ذلك للإله الأول لقوله {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فيلزم وقوع مخلوق من خالقين، وهو محال؛ لأنه إذا كان كل واحد منهما مستقلاً بالإيجاد، ويلزم أن يستغنى بكلّ واحد منهما عن كل واحد منهما، فيكون محتاجاً إليهما وغنياً عنهما وذلك محال.
فصل في الرد على جهم
احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء، فقال: لوكان شيئاً لكان قادراً على نفسه لقوله تعالى: {وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} لكن كونه قادراً على نفسه محال، فيمتنع كونه شيئاً.
والجواب: لما دلّ قوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله} [الأنعام: 109] على أنه - تعالى - شيء وجب تخصيص هذا العموم، فإذن دلّت هذه الآيةُ على أنَّ العامَّ المخصوص واردٌ في كتاب الله تعالى، ودلت على أن تخصيص العام بدليل العقل جائز، بل واقع.
قوله: {الذي خَلَقَ الموت والحياة} .
قيل: خَلَق الموت في الدنيا، والحياة في الآخرة، وقدم الموت على الحياة، لأن الموت إلى القهر أقرب، كما قدم البنات على البنين فقال:{يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً} [الشورى: 49] .
وقيل: قدمه؛ لأنه أقدم، لأن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنُّطف والتراب ونحوه.
وقال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم َ يقول:
وعن أبي الدَّرداء أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم َ قال: «لَوْلَا ثلاثٌ ما طَأطَأ ابنُ آدَمَ رَأسهُ: الفَقْرُ، والمَرَضُ والمَوتُ» .
وقيل: إنما قدم الموت على الحياة؛ لأن من نصب الموت بين عينيه، كان أقوى الدواعي له إلى العمل الصالح.
قال ابن الخطيب: قالوا: الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر، واختلفوا في الموت.
فقيل: إنه عبارة عن عدم هذه الصفة، وقال أصحابنا: إنه صفة وجودية مضادة للحياة، واحتجوا بقوله تعالى:{الذي خَلَقَ الموت} والعدم لا يكون مخلوقاً، وهذا هو التحقيق.
وروى الكلبي عن ابن عبَّاسٍ: أن الله - تعالى - خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء، ولا يجد رائحته شيء إلَاّ مات، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ودون البَغْل لا تمر بشيء، ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي على ما سيأتي.
قال ابن الخطيب: وهذا لا بد وأن يكون مقولاً على سبيل التمثيل، والتصوير، وإلا فالتحقيق ما ذكرنا.
فصل في الموت والحياة
حكى ابنُ عباس، والكلبي ومقاتلٌ: أن الموت والحياة يجسمان، فالموت في هيئة كبْش لا يمر بشيء، ولا يجد ريحه إلا مات، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاءَ وهي التي كان جبريل والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يركبونها، خطوتُها أمدُ البصر فوق الحمار ودون البغل، لا تمر بشيء يجد ريحاً إلا يحيى، ولا تطأ على شيء إلا حيي، وهي التي أخذ السَّامري من أثرها، فألقاها على العِجْل فحيي. حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس، والماوردي معناه عن مقاتل والكلبي.
وعن مقاتل: «خَلَقَ المَوْتَ» يعني: النُّطفة والعلقة والمُضغة، وخلق الحياة، يعني خلق إنساناً، ونفخ فيه الروح، فصار إنساناً.
قال القرطبيُّ: وهذا حسن، يدل عليه قوله تعالى:{لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} .
قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ} . متعلق ب «خلق» .
وقوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} تقدم مثله في أول «هود» [الآية 7] .
وقال الزمخشريُّ هنا: «فإن قلت: من أين تعلق قوله {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ، بفعل البلوى؟ قلت: من حيث إنه تضمن معنى العلم، فكأنه قيل: ليعلمكم أيكم أحسن عملاً، وإذا قلت: علمته أزيد أحسن عملاً أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثَّاني من مفعوليه كما تقول: علمته هو أحسن عملاً، فإن قلت: أتسمي هذا تعليقاً؟ .
قلت: لا، إنما التعليق أن يقع بعده ما يسد مسدَّ المفعولين جميعاً، كقولك: علمت أيهما عمرو، وعلمت أزيد منطلق، ألا ترى أنه لا فرق بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدراً بحرف الاستفهام وغير مصدر به، ولو كان تعليقاً لافترقت الحالتان كما افترقتا في قولك: عَلِمْتُ أزيدٌ منطلق، وعلمت زيداً منطلقاً» .
قال شهاب الدين: «وهذا الذي منع تسميته تعليقاً سماه به غيره ويجعلون تلك الجملة في محل ذلك الاسم الذي يتعدى إليه ذلك الفعل، فيقولون في:» عَرفتُ أيُّهُمْ منطلقٌ «: إن الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط الخافضِ؛ لأن» نظر «يتعدى به» .
فصل في اللام في قوله: ليبلوكم
قال الزَّجَّاجُ: اللام في «لِيَبْلوَكُمْ» تتعلق بخلقِ الحياة، لا بخلق الموت.
وقال الفراء والزجاج أيضاً: لم تقع البلوى على «أي» لأن فيما بين البلوى و «أي» إضمار فعل كما تقول: «بَلوْتُكمْ لأنْظُر أيكم أطوع» ، ومثله قوله تعالى:{سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40]، أي: سلهم، ثم انظر أيهم فأيهم، رفع بالابتداء، والمعنى: ليبلوكم ليعلم، أو فينظر أيكم أحسن عملاً.
قال ابن الخطيب: «أيُّكُمْ» مبتدأ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
فصل في الابتلاء
الابتلاءُ: هو التجربة، والامتحان، حتى يعلم أنه هل يطيع، أو يعصي، وذلك في حق العالم بجميع المعلومات مُحَال، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة في قوله تعالى:{وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] .
والحاصل أن الابتلاء من الله هو أن يعامل عبده معاملة تشبه المختبر.
فصل في تفسير الآية
قال السديُّ في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} أي: أكثر للموت ذكراً وأحسن استعداداً وأشد خوفاً وحذراً.
وقال ابن عمر: «تلا النبي صلى الله عليه وسلم َ: {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} حتَّى بلغ {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فقال:» أورعُ عن محَارمِ اللَّهِ، وأسرعُ في طاعةِ اللَّهِ «» .
وقيل: يعاملكم معاملة المختبر، فيبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره، وبالحياة ليبين شكره.
وقيل: خلق الله الموت للبعث، والجزاء، وخلق الحياة للابتلاء «وهُوَ العَزِيزُ» في انتقامهِ ممن عصاه «الغَفُورُ» لمن تاب.
فصل فيمن قالوا: إن فعل الله يكون لغرض
احتج القائلون بأنه تعالى يفعل الفعل لغرض بقوله: «ليَبْلُوكُمْ» قالوا: وهذه اللام للغرض كقوله تعالى {إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} ، والجواب: أن الفعل في نفسه ليس بالابتلاء، إلا أنه لما أشبه الابتلاء سمي به مجازاً، فكذلك هاهنا، إنه يشبه الغرض، وإن لم يكن في نفسه غرضاً فقدم حرف الغرضِ.
قوله: {الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} .
يجوز أن يكون الموصول تابعاً للعزيز الغفُورِ، نعتاً، أو بياناً أو بدلاً.
وأن يكون منقطعاً عنه خبر مبتدأ، أو مفعول فعل مقدر.
وقوله: «طِباقَاً» صفة ل «سَبْعَ» ، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه جمع طبق، نحو: جبل وجبال.
والثاني: أنه جمع طبقة، نحو: رحبة ورحاب.
والثالث: أنه مصدر طابق، يقال: طَابَقَ مُطابَقَةَ وطِبَاقاً.
ثم إما أن تجعل نفس المصدر مبالغة، وإما على حذف مضاف، أي: ذات طباق، وإما أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر، أي: طوبقت طباقاً. من قولهم: طابق الفعل، أي: جعله طبقةً فوق أخرى.
روي عن ابن عباس: «طِبَاقاً» ، أي: بعضها فوق بعض، والملتصق منها أطرافها.
قال القرطبيُّ: وقيل: مصدر بمعنى المطابقة، أي: خلق سبع سمواتٍ، ويطبقها تطبيقاً أو مطابقة على طوبقت طباقاً؛ لأنه مفعول ثان، فيكون «خَلَقَ» بمعنى جعل وصيّر.
وقال أبان بن تغلب: سمعت بعض الأعراب يذم رجلاً، فقال: شره طباق، وخيره غير باق. ويجوز في غير القرآن «سَبْعَ سماواتٍ طباقٍ» بالخفض على النَّعت ل «سماواتٍ» نظيره:{وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ} [يوسف: 42] .
فصل في الدلالة على القدرة
قال ابن الخطيب: دلّت هذه الآية على القدرة من وجوه.
أحدها: من حيث بقاؤها في جو الهواء متعلقة بلا عماد ولا سلسلة.
وثانيها: من حيث إن كل واحد منها اختصّ بمقدار معين مع جواز ما هو أزيد منه وأنقص.
وثالثها: أنه اختص كل واحد منها بحركة خاصة مقدرة بقدر معين من السرعة، والبطء إلى جهة معينة.
ورابعها: كونها في ذواتها محدثة، وكل ذلك يدل على إسنادها إلى قادر تام القدرة.
قوله {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ} . «تَفاوتٍ» هو مفعول «ترى» و «مِنْ» مزيدة فيه. وقرأ الأخوان: «تَفَوُّت» بتشديد الواو دون ألف.
قال القرطبيُّ: «وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه» .
والباقون: بتخفيفها بعد ألف، وهما لغتان بمعنى واحد، كالتعهُّد والتَّعاهد والتَّظاهر والتَّظهُّر والتَّصغُّر والتَّصاغُر والتَّحمُّل والتَّحامُل والتَّضاعف والتضعف والتَّباعد والتبعُّد، قاله الفرَّاء.
وقال الأخفش: «تَفَاوُتٍ» أجود؛ لأنهم يقولون: تفاوت الأمر، ولا يكادون يقولون:«تفوت» .
واختيار أبي عبيد: «تفوت» ، يقال: تفاوت الشيء إذا فات.
واحتج بما روي في الحديث: أنَّ رجُلاً تفوَّت على أبيهِ في مالهِ.
وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: «أمثلي يتفوت عليه في ماله» .
قال النحاس: وهذا مردود على أبي عبيد، لأن «يتفوت» أي: يضاف في الحديث، «تفاوُتٍ» في الآية أشبه، كما يقال: تباين، تفاوت الأمر إذا تباين، أو تباعد، أي: فات بعضها بعضاً نقله القرطبي.
وحكى أبو زيد: تفاوت الشَّيء تفاوُتاً بضم الواو وفتحها وكسرها.
[والقياس] : الضَّمُّ كالتقابل، والفتح والكسر شاذان.
والتفاوت: عدم التناسب؛ لأن بعض الأجزاء يفوت الآخر، وهذ الجملة المنفية صفة لقوله:«طِبَاقاً» وأصلها: ما ترى فيهن، فوضع مكان الضمير.
قوله: {ما ترى في خلقِ الرَّحمنِ} تعظيماً لخلقهن، وتنبيهاً على سببب سلامتهن، وهو أنه خلق الرحمن، قاله الزمخشري.
وظاهر هذا أنها صفة ل «طِبَاقاً» ، وقام الظاهر فيها مقام المضمر، وهذا إنما يعرف في خبر المبتدأ، وفي الصلة على خلاف فيهما وتفصيل.
وقال أبو حيَّان: الظَّاهر أنه مستأنفٌ، وليس بظاهر لانفلات الكلام بعضه من بعض، و «خَلق» مصدر مضاف لفاعله والمفعول محذوف، أي: في خلق الرحمن السماواتِ، أو كل مخلوق، وهو أولى ليعم، وإن كان السياق مرشداً للأول.
فصل في معنى الآية
والمعنى ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج، ولا تناقض، ولا تباين، بل هي
مستقيمة مستوية دالة على خالقها، وإن اختلفت صوره وقيل: المراد بذلك السماوات خاصة، أي: ما ترى في خلق السماوات من عيب، وأصله من الفوت، وهو أن يفوت شيء شيئاً، فيقع الخَلَل لعدم استوائها يدل عليه قول ابن عباس: من تفرق.
وقال السديُّ: «مِنْ تفَاوُتٍ» أي: من اختلاف، وعيب بقول الناظر: لو كان كذا كان أحسن.
وقيل: «التفاوت» الفطور، لقوله بعد ذلك:{فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} ، ونظيره قوله تعالى:{وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ} [ق: 65] .
قال القفَّالُ رحمه الله: ويحتمل أن يكون المعنى: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ} في الدلالة على حكم الصانع، وأنه لم يخلقها عبثاً.
فصل في الخطاب في الآية لمن؟
الخطاب في قوله تعالى: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ} إما للرسول صلى الله عليه وسلم َ أو لكل مخاطب، وكذا القول في قوله {فارجع البصر} ، {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ} .
فصل فيما تدل عليه الآية
دلت هذه الآية على كمال علم اللَّه، وذلك أن الحسّ دل على أن هذه السماوت السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان، وكل فاعلٍ كان فعله محكماً متقناً، فلا بد وأن يكون عالماً، فدلت الآيةُ على كونه - تعالى - عالماً بالمعلومات بقوله:{مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ} إشارة إلى كونها محكمة متقنة.
فصل فيمن اعتبر المعاصي ليست من خلق الله
احتج الكعبيُّ بهذه الآية على أن المعاصي ليست من خلق الله، قال: - لأنه تعالى - نفى التَّفاوت عن خلقهِ، وليس المرادُ نفي التفاوت في الصغر والكبر والنقص، والعيب، فوجب حمله على نفي التفاوت بين خلقه من حيث الحكمة، فدل من هذا الوجه على أنَّ أفعال العبادِ ليست من خلقه لما فيها من التَّفاوت الذي بعضه جهل، وبعضه سفه. والجواب: أنا نحمله على أن لا تفاوت فيها بالنسبة إليه من حيث إنَّ الكُلَّ يصح عنه بحسب القدرة والإرادة والداعية، وأنه لا يقبح منه شيء أصلاً.
فصل في السموات السَّبع
روى البغويُّ عن كعب رضي الله عنه أنه قال: السماء الدنيا موج مكفوف، والثانية: مرمرة بيضاء، والثالثة: حديد، والرابعة، صُفْرٌ، وقال: نحاس، والخامسة: فضّة، والسادسة: ذهب، والسَّابعة: ياقوتة حمراء، وبين السماء السَّابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور.
قوله
{فارجع
البصر} . مسبب عن قوله {مَّا ترى} .
و «كرتَيْنِ» نصب على المصدر كمرتين، وهو مثنّى لا يراد به حقيقته، بل التكثير بدليل قوله:{يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} أي: مزدجراً وهو كليل، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتين، ولا ثلاث، وإنما المعنى كرات، وهذا كقولهم:«لَبَّيْك وسعْديْكَ وحنَانيْكَ، ودَوالَيْك، وهَذَاذَيْكَ» لا يريدون بهذه التثنية تشفيع الواحد، إنما يريدون التكثير أي: إجابة لك بعد أخرى. وإلا تناقض الغرض، والتثنية تفيد التكثير لقرينة كما يفيده أصلها وهو العطف لقرينة؛ كقوله:[البسيط]
4791 -
لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وقَبْرٌ كانَ أكْرمَهُمْ.....
…
...
…
...
…
... . .
أي: قبور كثيرة ليتم المدح.
وقال ابن عطية: «كَرَّتَيْنِ» معناه: مرتين، ونصبها على المصدر.
وقيل: الأولى ليرى حسنها، واستواءها، والثانية لينظر كواكبها في سيرها، وانتهائها وهذا بظاهره يفهم التثنية فقط.
قوله: {هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} .
هذه الجملة يجوز أن تكون متعلقة لفعل محذوف يدلّ عليه «فارْجعِ البصَرَ» مضمناً معنى «انظُر» ؛ لأنه بمعناه، فيكون هو المعلق.
وأدغم أبو عمرو: لام «هَلْ» في التاء هنا وفي «الحَاقَّة» ، وأظهرهما الباقون، وهو المشهور في اللغة.
والفطور: جمع فطرٍ، وهو الشَّقُّ، يقال: فطره فانفطر، ومنه: فطر ناب البعير، كما يقال: شقّ، ومعناه: شق اللحم وطلع.
قال المفسرون: «الفُطُور» الصُّدوع والشُّقوق؛ قال الشاعر: [الوافر]
4792 -
شَقَقْتِ القَلْبَ ثُمَّ ذَرَرْتِ فِيهِ
…
هَواكِ فَلِيطَ فالتأمَ الفُطُورُ
قوله: «ينقلبْ» .
العامة: على جزمه على جواب الأمرِ.
والكسائي في رواية برفعه. وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون حالاً مقدرة.
والثاني: أنه على حذف الفاءِ، أي: فينقلب.
و «خَاسِئاً» حال وقوله: «وهُو حَسِيرٌ» حال، إما من صاحب الأولى، وإما من الضمير المستتر في الحال قبلها، فتكون متداخلة. وقد تقدّمتا «خاسئاً» و «حسير» في «المؤمنين» و «الأنبياء» .
فصل في تفسير الآية
لما قال: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ} كأنه قال بعده: ولعلك لا تحكم بمقتضى ذلك البصر الواحد، ولا يعتمد عليه لاحتمال وقوع الغلطِ في النظرة الواحدة، ولكن ارجع البصر، واردد النظر مرة أخرى، حتى يتيقّن لك أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت ألبتَّة.
قال القرطبي: أمر أن ينظر في خلقه ليعتبروا به، ويتفكَّروا في قدرته، فقال:{فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} أي: اردُدْ طرفك إلى السماء، ويقال: قلَّب بصره في السماء، ويقال: اجتهد بالنَّظر إلى السَّماء، والمعنى متقارب، وإنما قال:«فارْجع» - بالفاء - وليس قبله فعل مذكُور؛ لأنه قال: «مَا تَرَى» والمعنى: انظر، ثم ارجع البصر هل ترى من فُطورٍ، قاله قتادة.
قال مجاهد والضحاك: و «الفطور» الشقوق.
وقال قتادة: من خلل.
وقال السديُّ: من خروق.
وقال ابن عبَّاس: مِنْ وهَنٍ.
وقوله: {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} في موضع المصدر؛ لأن معناه: رجعتين.
لأن الإنسان إذا نظر في الشَّيء مرتين ترى عينه ما لم تنظره مرة أخرى، فأخبر تعالى أنه وإن نظر إلى السماء مرَّتين لا يرى فيها عيباً، بل يتحيّر بالنظر إليها.
وقال ابن الخطيب: «معناه أنك إذا كررت نظرك لم يرجع إليك بصرك بما طلبته من وجدان الخلل، والعيب، بل يرجع إليك» خَاسِئاً «أي: مبعداً صاغراً عن أن يرى شيئاً من ذلك من قولك: خسأت الكلب إذا باعدته، وطردته» .
وخسأ الكلب بنفسه، يتعدى ولا يتعدَّى، وانخسأ الكلب أيضاً، وخسأ بصره أيضاً خَسْأً وخسوءاً، أي: ستر.
قال ابن عبَّاسٍ: الخاسىء الذي لم يرَ ما يهوى.
وقال المبردُ هاهنا: الخاسىء المبعد المصغر.
وقوله: «وهُو حَسِيرٌ» أي: قد بلغ الغاية في الإعياء، فهو بمعنى «فاعل» من الحسور الذي هو الإعياء، ويجوز أن يكون مفعولاً من حسرهُ بعدُ الشيء وهو معنى قول ابن عبَّاسٍ؛ ومنه قول الشاعر:[البسيط]
4793 -
مَنْ مَدَّ طَرْفاً إلى ما فَوْقَ غَايَتِهِ
…
إرتدَّ خَسْآنَ مِنهُ الطَّرْفُ قَدْ حُسِرَا
يقال: حسر بصره يحسر حسوراً، أي: كلَّ وانقطع نظره من طول مدى، وما أشبه ذلك، فهو حسير ومحسور أيضاً.
قال الشاعر: [الطويل]
4794 -
نَظَرْتُ إليْهَا بالمُحَصَّبِ مِنْ مِنَى
…
فعَادَ إليَّ الطَّرْفُ وهوَ حَسِيرُ
وقيل هو النادم؛ قال: [الرمل]
4795 -
مَا أنَا اليَوْمَ على شَيْءٍ خَلَا
…
يَا بْنَةَ القَيْنِ تولَّى بِحَسِرْ
قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ} ، أي: السماء القربى؛ لأنها أقرب السماوات إلى النَّاس، والمعنى: السَّماء الدُّنيا من النَّاس أي: الدنيا منكم لأنها «فعلى» تأنيث «أفعل» التفضيل، «بِمصَابِيحَ» جمع مصباح وهو السِّراجُ، وسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها وسماها زينة لأن الناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح، فكأنه قال: ولقد زيَّنَّا سقف الدارِ التي اجتمعتم فيها بمصابيح الأنوار.
قوله: {وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} .
الضمير في «وَجَعَلْنَاهَا» يجوز فيه وجهان:
أظهرهما: أنه يعود على «مَصَابِيحَ» .
قيل: وكيفية الرَّجْم أن توجد نار من ضوء الكواكب يرمي بها الشيطانُ، والكوكب في مكانه لا يرجم به. قاله أبو علي جواباً لمن قال: كيف تكون زينةً وهي رجوم لا تبقى؟ .
قال المهدويُّ: وهذا على أن يكون الاستراق من موضع الكوكب.
والثاني: أن الضمير يعود على السماء، والمعنى: وجعلنا منها؛ لأن ذات السماء ليست للرجوم.
قاله أبو حيان. وفيه نظر لعدم عود الضمير على السَّماء.
قال القرطبي: والمعنى جعلنا شُهُباً، فحذف المضاف، بدليل قوله {إِلَاّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] ، قال: وعلى هذا فالمصابيح لا تزول ولا يرجم بها.
قال المهدويُّ: وهذا على أن يكون الاستراق دون موضع الكوكب.
وقال القشيريُّ: وأحسن من قول أبي علي أن نقول: هي زينة قبل أن ترجم بها الشياطين.
والرجوم: جمع رجمٍ، وهو مصدر في الأصل أطلق على المرجوم به كضرب الأمير.
ويجوز أن يكون باقياً على مصدريته، ويقدر مضاف، أي: ذات رجوم.
وجمع المصدر باعتبار أنواعه، فعلى الأول يتعلق قوله:«للشَّياطينِ» بمحذوف على أنه صفة ل «رُجُوماً» .
وعلى الثاني: لا تعلق له؛ لأن اللام مزيدة في المفعول به، وفيه دلالة حينئذ على إعمال المصدر منوناً مجموعاً.
ويجوز أن تكون صفة له أيضاً كالأول، فيتعلق بمحذوف.
وقيل: الرجوم هنا الظنون، والشياطين: شياطين الإنس.
كما قال: [الطويل]
4796 -
…
...
…
...
…
...
…
... ..... ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرَجَّمِ
فيكون المعنى: جعلناها ظُنُوناً ورجوماً بالغيبِ، لشياطين الإنس، وهم الأحكاميون من المنجمين.
فصل في خلق النجوم
قال قتادةُ: خلق الله النُّجوم لثلاثٍ: زينة السَّماءِ ورجوماً للشياطين، وعلاماتٍ يهتدى بها في البرِّ والبحرِ والأوقاتِ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به، وتعدى، وظلم.
وقال محمد بن كعب: والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم، ولكنهم يتَّخذون الكهانة، ويتَّخذون النُّجوم علةً.
فصل
قال ابن الخطيب: ظاهر الآيةِ لا يدلّ على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا؛ لأن السماوات إذا كانت شفافة، فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا، أو في سماوات أخرى فوقها، فهي ولا بُد أن تظهر في السَّماء الدنيا، ولتلوح منها، فعلى التقدير تكون السماء الدنيا متزينة، واعلم أنَّ أصحاب الهيئةِ اتفقوا على أن هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن الذي فوق كرات السياراتِ، واحتجوا أن بعض الثوابت في الفلك الثامن، فيجب أن تكون كلها هناك.
وإنما قلنا: إن بعضها في الفلك الثامن، لأن الكواكب القريبة من المنطقة تنكسف
بهذه السيارات، فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة وإنما قلنا: إن الثوابت لما كانت في الفلك الثَّامن وجب أن تكون كلها هناك؛ لأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة درجة واحدة، فلا بُدَّ وأن تكون مركوزةً في كرة واحدة.
قال ابن الخطيب: وهذه استدلالاتٌ ضعيفة؛ فإنه لا يلزم من كون بعض الثَّوابت فوق السيارة كون كلها هناك؛ لأنه لا يبعد وجود كرة تحت كرة القمر، وتكون في النظر مساوية لكرة الثوابت، وتكون الكواكب المركوزة فيها مقارب القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية؛ إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة، وعلى هذا التقدير لا يمتنع أن تكون المصابيح مركوزة في سماء الدنيا، فثبت بهذا ضعف مذاهب الفلاسفة.
فصل في سبب الرجوم
قال ابن الخطيب: يروى أن السبب في الرجوم أن الجن كانت تسمع خبر السماء فلما بعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم َ حرست السماء ورجمت الشياطين، فمن جاء منهم مسترقاً للسمع رمي بشهاب، فأحرقه لئلا ينزل به إلى الأرض، فيلقيه إلى النَّاس، فيختلط على النبي أمره، ويرتاب النَّاس بخبره. ومن النَّاس من طعن في هذا من وجوه:
أحدها: أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة، قالوا: إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس إذا بلغ النَّار التي دون الفلك احترق بها، فتلك الشعلة هي الشهاب.
وثانيها: أن الجن إذا شاهدوا جماعة منهم يسترقون، فيحرقون إن امتنع أن يعودوا لذلك.
وثالثها: أن ثُخْنَ السماء مسيرة خمسمائة سنةٍ، فالجن لا يقدرون على خرقها؛ لأنه تعالى نفى أن يكون فيها فطور، وثخنها يمنعهم من السمع لأسرار الملائكة من ذلك البعد العظيم، وإذا سمعوه من ذلك البعد، فهم لا يسمعون كلام الملائكة حال كونهم في الأرض.
ورابعها: أن الملائكة إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة، إما لأنهم طالعوها من اللوح المحفوظ، أو لأنهم نقلوها من وحي الله إليهم، وعلى التقديرين، فلم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا يمكنوا الجن من معرفتها.
وخامسها: أن الشياطين مخلوقون من النار، والنار لا تحرق النار، بل تقويها.
وسادسها: إن كان هذا القذف لأجل النبوة فلم بقي بعدها؟ .
وسابعها: أن هذ الرجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض، لأنا نشاهدها بالعين، ومع البعد لا نشاهدها كما لا نشاهد حركات الكواكب.
وثامنها: إن كانت الشياطين ينقلون أخبار الملائكةِ عن المغيبات إلى الكهنة، فلم لا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفار، حتى يتوصل الكفار بذلك إلى إلحاق الضرر بالمؤمنين؟ .
وتاسعها: لم لم يمنعهم الله ابتداء من الصعود إلى السماء؟ .
والجواب عن الأول: أنا لا ننكر أن هذه الشُّهب كانت موجودة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم َ.
وعن الثاني: أنه إذا جاء القدر عمي البصر، فإذا قضى الله على طائفة منها بالحرق لطغيانها قيَّض الله لها من الدواعي ما يقدمها على العملِ المفضي إلى هلاكها.
وعن الثالث: أن نمنع كون ثخن الفلك ما ذكروه، بأن البعد بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام.
وعن الرابع: ما روى الزهري عن علي بن الحسين، عن علي بن أبي طالب قال:«بينما النبي صلى الله عليه وسلم َ جالساً في نفرٍ من أصحابه، إذ رمي بنجم فاستنار، فقال: مَا كُنْتُمْ تقُولُونَ فِي الجَاهليَّةِ إذَا حدث؟ قال: كنا نقول: يولد عظيم أو يموت عظيم فقال النبي صلى الله عليه وسلم َ:» فإنَّها لا تُرْمَى لمَوْتِ أحدٍ، ولا لِحياتهِ، ولكِنَّ اللَّه - تعالى - إذا قَضَى الأمْرَ في السَّماءِ سبَّحتْ حملةُ العرشِ، ثُمَّ يُسبِّحُ أهلُ كُلِّ سماءٍ، وتسبِّحُ كُل سماءٍ، حتى ينتهي التَّسبيحُ إلى هذه السَّماءِ، ويَسْتخبرُ أهلُ السَّماءِ حملة العَرْشِ ماذا قال ربُّكُمْ؟ فيُخبرُونهُمْ، ولا يَزالُ يَنْتَهِي ذلِكَ الخَبَرُ من سماءٍ إلى سماءٍ إلى أن يَنْتَهِي الخبرُ إلى هذه السَّماء فتَخْطَفُهُ الجِنُّ فَيُرمَونَ، فمَا جَاءُوا به فَهُوَ حَقٌّ، ولكنَّهم يزيدُون فِيهِ «» .
وعن الخامس: أنَّ نار النجومِ قد تكون أقوى من نارِ الجن.
وعن السادس: أنه عليه الصلاة والسلام ُ - أخبر ببطلان الكهانةِ، فلو لم ينقطعوا لعادت الكهانة، وذلك يقدح في خبر الرسولِ عليه الصلاة والسلام ُ.
وعن السابع: أن البعد غير مانع من السماءِ عندنا.
وعن الثامن: لعله تعالى أقدرهم على استماع الغيوب عن الملائكة، وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكافرين.
وعن التاسع: أن الله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
قوله: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} . لما ذكر منافع الكواكب، وذكر من جملة تلك المنافع أنها رجوم للشياطين قال بعد ذلك:{وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} ، أي: وأعتدنا للشَّياطين بعد الإحراق بالشُّهب في الدنيا عذاب السَّعير في الآخرة، وهو أشدُّ الحريقِ.
قال المبردُ: سعرت النَّار فهي مسعورة وسعير، مثل قوله: مقتولة وقتيل.
وهذه الآية تدل على أن النَّار مخلوقة؛ لأن قوله: {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ} خبر عن الماضي.
قوله: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ} خبر مقدم في قراءة العامة، و «عذابُ جهنَّم» مبتدؤه.
وفي قراءة الحسن والأعرج والضحاك: بنصب «عَذَابَ» فيتعلق ب «أعْتَدْنَا» عطفاً على «لَهُمْ» و «عَذابَ السَّعيرِ» ، فعطف منصوباً على منصوب، ومجروراً على مجرور، وأعاد الخافض، لأن المعطوف عليه ضمير.
والمخصوص بالذَّم محذوف، أي: وبئس المصير مصيرهم، أو عذاب جهنَّم، أو عذاب السَّعير.
فصل في معنى الآية
والمعنى لكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم عذاب جهنم؛ ليبين أن الشياطين المرجومين مخصوصون بذلك، ثم إنه - تعالى - وصف ذلك العذاب بصفات، أولها قوله تعالى:{إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً} يعني الكفار {إِذَآ أُلْقُواْ} طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة {سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً} أي: صوتاً.
قال ابن عباس: الشَّهيق لجهنم عند إلقاء الكُفار فيها كشهيق البغلةِ للشعير.
وقال عطاءٌ: الشَّهيق من الكُفَّار عند إلقائهم في النار.
وقال مقاتلٌ: سمعُوا لجهنم شهيقاً.
قال ابن الخطيب: ولعل المراد تشبيه صوت لهبِ النَّار بالشهيق، وهو كصوت الحمار.
وقال المبرد: هو - والله أعلم - تنفس كتنفس التغيُّظ.
قال الزجاجُ: سمع الكُفَّار للنار شهيقاً، وهو أقبح الأصوات.
وقيل: سمعوا من أنفسهم شهيقاً كقوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106] .
قوله: «لَهَا» متعلق بمحذوف على أنه حال من «شَهيقاً» لأنه في الأصل صفته، ويجوز أن يكون على حذف مضاف، أي: سمعوا لأهلها، وهي تَفُور: جملة حالية.
فصل في معنى الشهيق والزفير
قال القرطبيُّ: «والشهيق في الصدر، والزفير في الحلق، وقد مضى في سورة» هود «» .
وقوله: {وَهِيَ تَفُورُ} . أي: تغلي؛ ومنه قول حسَّان: [الوافر]
تَرَكْتُمْ قِدْركُمْ لا شيءَ فِيهَا
…
وقِدْرُ القَوْمِ حَامِيَةٌ تَفورُ
قال مجاهد: تفور كما يفور الحب القليل في الماء الكثير.
وقال ابن عباس: تغلي بهم على المراجل، وهذا من شدّة لهب النار من شدّة الغضب كما تقول: فلان يفور غيظاً.
قوله: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} .
قرأ العامة: «تَميَّزُ» بتاء واحدة مخففة، والأصل «تتميَّز» بتاءين، وهي قراءة طلحة.
والبزي عن ابن كثير: بتشديدها، أدغم إحدى التاءين في الأخرى.
وهي قراءة حسنة لعدم التقاء الساكنين بخلاف قراءته {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} [النور: 15]، و {نَاراً تلظى} [الليل: 14] وبابه.
وأبو عمرو: يدغم الدَّال في التاء على أصله في المتقاربين.
وقرأ الضحاك: «تَمَايَزُ» والأصل: «تتمايزُ» بتاءين، فحذف إحداهما.
وزيد بن علي: «تَمِيزُ» من «مَازَ» .
وهذا كله استعارة من قولهم: تميز فلان من الغيظ، أي: انفصل بعضه من بعض من الغيظ، فمن سببية، أي: بسبب الغيظ، ومثله في وصف كَلْب، أنشد عروة:[الرجز]
4798 -
…
...
…
...
…
...
…
... .
…
يَكَادُ أنْ يَخْرُجَ مِنْ إهَابِهِ
قال ابن الخطيب: ولعل سبب هذا المجاز أن دم القلب يغلي عند الغضب، فيعظم مقداره، فيزداد امتلاء العروق، حتَّى تكاد تتمزَّق.
فإن قيل: النَّار ليست من الأحياء، فكيف توصف بالغيظ؟ .
قال ابن الخطيب: والجواب: أن البنية عندنا ليست شرطاً للحياة، فلعل الله - تعالى - يخلق فيها وهي نار حياة، أو يكون هذا استعارة يشبه صوت لهبها وسرعة مبادرتها بالغضبان وحركته، أو يكون المراد الزبانية.
فصل في تفسير الآية
قال سعيد بن جبير {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ} يعني تنقطع، وينفصل بعضها من بعض.
وابن عباس والضحاك وابن زيد: تتفرق من الغيظ من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى.
قوله: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} . تقدم الكلام على «كُلَّمَا» . وهذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من ضمير جهنم.
والفَوْج: الجماعة من الناس، والأفْوَاج: الجماعات في تفرقة، ومنه قوله تعالى:{فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً} [النبأ: 18] والمراد هنا بالفوج جماعة من الكفار {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ} وهم مالك، وأعوانه سؤال توبيخ وتقريع {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} ، أي: رسول في الدنيا ينذركم هذا اليوم، حتى تحذروا.
قال الزَّجَّاج: وهذا التوبيخُ زيادة لهم في العذاب.
قوله: {بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ} . فيه دليل على جواز الجميع بين حرف الجواب، ونفس الجملة المجاب بها إذ لو قالوا: بلى، لفهم المعنى، ولكنهم أظهروه تحسراً وزيادة في تغميمهم على تفريطهم في قبُول قول النذير؛ فعطفوا عليه:«فكَذَّبْنَا» إلى آخره.
قوله: {إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} ظاهره أنه من مقول الكفار للنذير، أي: قلنا: «مَا أنْزَلَ اللَّهُ من شَيءٍ» أي: على ألسنتكم إن أنتم يا معشر الرسل {إِلَاّ فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} اعترفوا بتكذيب الرسلِ، ثم اعترفوا بجهلهم، فقالوا وهم في النار:{لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} من النذر يعني: الرسل ما جاءوا به «أوْ نَعْقِلُ» عنهم.
وجوز الزمخشريُّ أن يكون من كلام الرُّسل للكفرةِ، وحكاه الكفرة للخزنةِ، أي: قالوا لنا هذا فلم نقبلهُ.
قال ابن الخطيب: يجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار، أي: لما قالوا ذلك الكلام قالت الخزنة لهم: {إِنْ أَنتُمْ إِلَاّ فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} .
قوله: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير} .
قال ابن الخطيب: احتجّ بهذه الآية من قال: إنَّ الدين لا يتم إلا بالتعليم؛ لأنه قدم السمع على العقل، فدل على أنه لا بد أولاً من إرشاد المرشد غلب عليه تأمل السامع فيما ندب العلم.
وأجيب: بأنه إنما قدم السمع؛ لأن الرسول إذا دعا، فأول المراتب أنه يسمع كلامه، ثم يتفكر فيه فلما كان السمع مقدماً على التعقل لا جرم قدم عليه في الذكر.
فصل فيمن فضل السمع على البصر
واحتج بهذه الآيةِ من قدم السمع على البصر، قالوا: لأنه جعل للسمع مدخلاً في الخلاص من النار، والفوز بالجنة، والبصر ليس كذلك، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر.
قوله «بِذنْبِهِمْ» وحَّده؛ لأنه مصدر في الأصل، ولم يقصد التنويع بخلاف «بِذُنُوبِهِم» في موضع؛ ولأنه في معنى الجمع؛ ولأن اسم الجنس إذا أضيف عم.
فصل في المراد بالضلال الكبير
قال ابن الخطيب: يحتمل أن يكون المراد من الضَّلال الكبير ما كانوا عليه في الدنيا من ضلالهم، ويحتمل أن يكون المراد بالضَّلال الهلاك، ويحتمل أن يكون قد سمى عقاب الضلال باسمه.
فصل في الرد على المرجئة
احتجت المرجئةُ بهذه الآية على أنه لا يدخل النارَ إلا الكفار قالوا: لأنه تعالى
حكى عن كل من ألقي في النار أنهم قالوا: فكذبنا النذير، وهذا يدل على أن من لم يكذب الله ورسوله لا يلقى في النار، وظاهر هذه الآية يقتضي القطع بأن الفاسق المصرَّ لا يدخل النار، وأجاب القاضي عنه: بأن النذير قد يطلق على ما في العقول من الأدلة المخوفة، وكل من يدخل النار مخالف للدليل.
فصل في معرفة الله بعد ورود السمع
واحتج بهذه الآية من قال: إن معرفة الله، وشكره لا يجبان إلا بعد ورود السمع، قالوا: لأنه تعالى إنما عذبهم؛ لأنه أتاهم النذير، فدل على أنه لو لم يأتهم النذير لم يعذبوا.
قوله: {فَسُحْقاً} . فيه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب على المفعول به، أي: ألزمهم الله سحقاً.
والثاني: أنه منصوب على المصدر، تقديره:«أسحقهم الله سحقاً» فناب المصدر عن عامله في الدعاء نحو «جَدْعاً له، وغفراً» فلا يجوز إظهار عامله.
واختلف النحاة: هل هو مصدر لفعل ثلاثي، أم لفعل رباعي، فجاء على حذف الزوائد.
فذهب الفارسي والزجاج إلى أنه مصدر «أسْحَقهُ اللَّهُ» أي: أبعده.
قال الفارسي: فكان القياس إسحاقاً، فجاء المصدر على الحذف، كقوله:[الوافر]
4799 -
…
...
…
...
…
...
…
... .
…
وإنْ يَهْلِكْ فذلِكَ كانَ قَدْرِي
أي: تقديري.
والظاهر أن لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنه سمع «سَحَقَهُ اللَّهُ» ثلاثياً؛ ومنه قول الشاعر: [الطويل]
4800 -
يَجُولُ بأطْرَافِ البِلادِ مُغَرِّباً
…
وتَسْحَقُهُ ريحُ الصَّبَا كُلَّ مَسْحَقِ
والذي يظهر أن الزجاج والفارسي إنما قالا ذلك فيمن يقول من العرب: أسحقه الله سحقاً.
وقرأ العامة: بضم وسكون.
والكسائي وآخرون: بضمتين.
وهما لغتان، والأحسن أن يكون المثقل أصلاً للمخفف، و «لأصْحابِ» بيان ك {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] ، وسقياً لَكَ.
وقال مكيٌّ: «والرفع يجوز في الكلام على الابتداء» .
أي: لو قيل: «فسحق» جاز، لا على أنه تلاوة، بل من حيث الصناعة، إلَاّ أن ابن عطية قال ما يضعفه، فإنه قال:«فسحقاً، نصباً على جهة الدعاء عليهم، وجاز ذلك فيه وهو من قبل الله - تعالى - من حيث إن هذا القول فيهم مستقر أزلاً، ووجوده لم يقع ولا يقع إلا في الآخرة، فكأنه لذلك في حيز المتوقع الذي يدعى فيه كما تقول: سُحْقاً لزيد، وبُعْداً له، والنصب في هذا كله بإضمار فعل، فأما ما وقع وثبت، فالوجه الرفع، كما قال تعالى {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] و {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54] ، وغير هذا من الأمثلة» ، انتهى.
فضعف الرفع كما ترى؛ لأنه لم يقع، بل هو متوقع في الآخرة.
فصل
قال المفسِّرون: {فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير} ، أي: فَبُعْداً لهم من رحمة الله.
وقال سعيد بن جبير، وأبو صالح: هو واد في جهنَّم يقال له: السحق.
قوله: {إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} ، نظيره:{مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب} [ق: 33] وقد
مضى الكلام فيه. أي: يخافون الله ويخافون عذابه الذي هو «بالغَيْبِ» وهو عذاب يوم القيامة «ويَخْشَوْنَهُ» في دار التكليف، أي: يتقون جميع المعاصي.
قال ابن الخطيب: وفي الآية دليل على انقطاع وعيد الفساق، لأن من جاء يوم القيامة مع هذه الخشية بفسق، فله الأمران، وانقطاع الثَّواب بالعقاب باطلٌ بالإجماع، فتعين العكس.
{لَهُم مَّغْفِرَةٌ} لذنوبهم {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وهو الجنَّة.
قوله: {لَهْم مَّغْفِرَةٌ} الأحسن أن يكون الخَبَرَ «لَهُمْ» و «مَغْفرةٌ» فاعل به، لأن الخبر المفرد أصل، والجار من قبيل المفردات، أو أقرب إليها.
قوله: {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ} .
اللفظ لفظ الأمر، والمراد به الخبر، يعني: إن أخفيتم كلامكم في أمر محمدٍ صلى الله عليه وسلم َ أو جهرتم به، فإن اللَّه عليم بذات الصُّدور، يعني بما في القلوب من الخير والشر.
قال ابن عباس: نزلت في المشركين كانوا ينالون من النبيّّّّّ صلى الله عليه وسلم َ فيخبره جبريل فقال بعضهم لبعض: أسِرُّوا قولكم كي لا يسمع ربُّ محمدٍ، فنزلت:{وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ} يعني وأسروا قولكم في أمر محمد.
وقيل: إنه خطاب عام لجميع الخلق في جميع الأعمال، والمراد أن قولكم وعملكم على أي سبيل وجد، فالحال واحدة في علمه تعالى بها، فاحذروا من المعاصي سرًّا كما تحترزون عنها جَهْراً، فإن ذلك لا يتفاوت بالنسبة إلى علم اللَّهِ تعالى:{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} . ما فيها كما يسمى ولد المرأة جنيناً في بطنها.
قوله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} . في «مَنْ خَلَقَ» وجهان:
أحدهما: أنه فاعل «يَعْلَمُ» والمفعول محذوف، تقديره: ألا يعلم الخالق خلقه، وهذا هو الذي عليه جمهور الناسِ، وبه بدأ الزمخشريُّ.
والثاني: أن الفاعل مضمر يعود على الباري تعالى، و «مَنْ» مفعول به، أي: لا يعلم الله من خلقه.
قال أبو حيَّان: والظَّاهر أن «مَنْ» مفعول، والمعنى أينتفي علمه بمن خلقه، وهو الذي لطف علمه ودقّ، ثم قال: وأجاز بعض النحويين أن يكون «مَنْ» فاعلاً والمفعول محذوف، كأنه قال: ألا يعلم الخالق سرَّكُم، وجهركُم، وهو استفهام معناه الإنكار.
قال شهاب الدينِ: «وهَذَا الوجهُ الذي جعله هو الظاهر يعزيه الناس لأهل الزَّيْغ والبدع الدافعين لعموم الخلق لله تعالى، وقد أطنب مكي في ذلك، وأنكر على القائل به، ونسبه إلى ما ذكرت، فقال: وقد قال بعض أهل الزيغِ: إن» مَنْ «في موضع نصب اسم للمسرين والمجاهرين ليخرج الكلام عن عمومه، ويدفع عموم الخلق عن الله تعالى، ولو كان كما زعم لقال: ألا يعلم ما خلق؛ لأنه إنما يقدم ذكر ما تكن الصدور فهو في موضع ما، ولو أتت» مَا «في موضع» مَنْ «لكان فيه أيضاً بيان العموم أن اللَّه خالق كل شيء من أقوال الخلق وأفعالهم أسروها، أو أظهروها خيراً كانت، أو شراً، ويقوي ذلك {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} ولم يقل: عليم بالمسرين والجاهرين، ويكون» مَا «في موضع نصبٍ، وإنما تخرج الآية من هذا العموم إذا جعلت» ما «في موضع نصب اسماً للأناسِ المخاطبين قبل هذه الآيةِ، وقوله: {بِذَاتِ الصدور} يمنع من ذلك» انتهى.
قال شهاب الدين: ولا أدري كيف يلزم ما قاله مكي بالإعراب الذي ذكره، والمعنى الذي أبداه، وقد قال بهذا القول أعني الإعراب الثاني جماعة من المحققين، ولم يبالوا بما ذكره لعدم إفهام الآية إياه.
قال الزمخشريُّ بعد كلام ذكره: ثم أنكر أن يحيط علماً بالمضمر والمسر والمجهر «مَنْ خَلَقَ» الأشياء، وحاله أنه اللطيف الخبير المتصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن، ويجوز أن يكون «مَنْ خَلقَ» منصوباً بمعنى ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله، ثم قال: فإن قلت: قدرت في «ألَا يَعْلَمُ» مفعولاً على معنى ألا يعلم ذلك المذكور ما أضمر في القلب، وأظهر باللسان من خلق، فهلَاّ جعلته مثل قولهم: هو يعطي ويمنع؟ وهلا كان المعنى: ألا يكون عالماً من هو خالق؛ لأن الخلق لا يصلحُ إلا مع العلم؟ قلت: أبت ذلك الحال التي هي قوله: {وَهُوَ اللطيف الخبير} لأنك لو قلت: ألا يكون عالماً من هو خالق وهو اللطيف الخبير لم يكن معنى صحيحاً؛ لأن «ألَا يَعْلَمُ» معتمد على الحال، والشيء لا يوقف بنفسه، فلا يقال: ألا يعلم وهو عالم، ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم بكل شيء.
فصل في معنى الآية
معنى الآية: ألا يعلم السّر من خلق السر، يقول: أنا خلقت السر في القلب، أفلا أكون عالماً بما في قلوب العباد؟ .
قال أهل المعاني: إن شئت جعلته من أسماء الخالق عز وجل ويكون
المعنى: ألا يعلم الخالق خلقه، وإن شئت جعلته من أسماء المخلوق، والمعنى: ألا يعلم الله من خلق، ولا بد أن يكون الخالق عالماً بمن خلقه، وما يخلقه.
قال ابن المسيِّب: بينما رجل واقف بالليل في شجر كثير، وقد عصفت الريحُ، فوقع في نفس الرجل، أترى الله يعلم ما يسقط من هذا الورق؟ فنودي من جانب الغيضة بصوت عظيم:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} ؟ .
وقال أبو إسحاق الإسفراييني: من أسماء صفات الذَّات ما هو للعلم، منها «العَلِيمُ» ، ومعناه: تعميم جميع المعلومات، ومنها «الخَبِيرُ» ويختص بأن يعلم ما يكون قبل أن يكون ومنها «الحَكِيمُ» ويختص بأن يعلم دقائق الأوصاف، ومنها «الشَّهِيدُ» ، ويختص بأن يعلم الغائِب والحاضر، ومعناه: ألَاّ يغيب عنه شيء، ومنها «الحافظ» ويختص بأنه لا ينسى شيئاً، ومنها «المُحصِي» ويختص بأنه لا يشغله الكثرة عن العلم مثل ضوء النور، واشتداد الريح، وتساقط الأوراق، فيعلم عند ذلك أجزاء الحركات في كل ورقة، وكيف لا يعلم وهو الذي يخلق؟ وقد قال:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} .
فصل
لما قال تعالى: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} ذكر الدليل على أنه عالم، فقال:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} الآية، والمعنى: أن من خلق لا بُدَّ وأن يكون عالماً بما يخلقه، لأن الخلق هو الإيجاد والتكوين على سبيل القصد، والقاصد إلى الشيء، لا بد وأن يكون عالماً بحقيقة ذلك المخلوق كيفية وكمية.
قال ابن الخطيب: فنقول: لو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بتفاصيلها، وهو غير عالم لأن التفاوت بين الحركةِ السريعةِ، والبطيئة إنما هو لتحلُّل السَّكناتِ، فالفاعل للحركة البطيئةِ قد يفعل حركة، وسكوناً، ولم يخطر بباله ذلك فَضْلاً عن كميته، ولأن المتحرك لا يعرف عدد أجزاء الحركات إلَاّ إذا عرف عدد الأحياز التي هي بين مبدأ المسافة ومنتهاها وذلك يتوقف على علمه بالجواهر المفردة التي تنتقل في تلك المسافة وعددها، وذلك غير معلومٍ، ولأنَّ النائم يتحرك مع عدم علمه؛ ولأن قوله:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} إنما يتصل بما قبله لو كان خالقاً لكل ما يفعلونه سرًّا وجهراً، وبما في الصدور.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد ألا يعلم من خلق الأجساد؟ .
فالجواب: أنه لا يجوز أن يكون المراد أن من فعل شيئاً يكون عالماً بشيء آخر.
قوله: {وَهُوَ اللطيف الخبير} .
قيل: اللطيف: العالم.
وقيل: هو فاعل الأشياء اللطيفة التي يخفى علمها على أكثر الفاعلين، ولهذا يقال: إن لُطْف الله تعالى بعباده عجيب، والمراد به دقائق تدبيره لهم، وهذا أقرب وإلا لكان ذكر الخبير بعد تكراراً.
قوله: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} لما بين الدليل كونه عالماً بما يسرون وما يعلنون ذكر بعده هذه الآية على سبيل التهديد كقول السيد لعبده الذي أساء إليه سراً: يا فلانُ أنا أعلم سرك وعلانيتك، فاجلس في هذه الدار التي وهبتها منك، وكل هذا الخير الذي هيأته لك، ولا تأمن تأديبي، فكأنه تعالى يقول: يا أيها الكُفَّار أنا عالم بسركم وجهركم وضمائركم، فخافوني؛ فإن الأرض التي هي قراركم أنا ذللتها لكم، ولو شئت خسفت بكم.
والذَّلُولُ: المنقاد الذي يذلّ لك، والمصدر الذل وهو اللين والانقياد، أي: لم يجعل الأرض بحيث يمتنع المشي فيها بالحزونة والغلظة.
وقيل: يثبتها بالجبالِ لئلا تزول بأهلها، ولو كانت تتكفأ متمايلة لما كانت منقادة لنا.
وقيل: إشارة إلى التمكن من الزرعِ، والغرس، وشق العيون، والأنهار، وحفر الآبار، وبناء الأبنية، ولو كانت صلبة لتعذر ذلك.
وقيل: لو كانت مثل الذَّهب والحديد لكانت تسخن جداً في الصيف، وكانت تبرد جداً في الشتاء.
قوله: {فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا} . هذه استعارة حسنة جداً.
وقال الزمخشري: مثل لفرط التذليل، ومجاوزته الغاية؛ لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير، وأنهاه عن أن يطأه الراكب بقدمه، ويعتمد عليه، فإذا جعلها في الذل بحيث يمشي في مناكبها لم يترك.
فصل في هذا الأمر
هذا أمر إباحة، وفيه إظهار الامتنان.
وقيل: هو خبر بلفظ الأمر، أي: لكي تمشوا في أطرافها، ونواحيها، وآكامها وجبالها.
وقال ابنُ عبَّاسٍ وقتادة وبشير بن كعب: «فِي منَاكبِهَا» في جبالها.
وروي أن بشير بن كعب كانت له سرية فقال لها: إن أخبرتيني ما مناكب الأرض فأنت حرة. فقالت: مناكبها: جبالها، فصارت حُرَّة، فأراد أن يتزوجها، فسأل أبا الدرداء، فقال:«دَعْ ما يَريبُكَ إلى ما لا يَريبُكَ» .
وقال مجاهد: في أطرافها، وعنه أيضاً: في طرفها وفجاجها، وهو قول السديِّ والحسن.
وقال الكلبيُّ: في جوانبها. ومنكبا الرجل: جانباه، وأصل الكلمة: الجانب، ومنه منكب الرجل والريح النكباء، وتنكب فلان عن فلان.
يقول: امشُوا حيث أردتم، فقد جعلتها لكم ذلولاً لا تمتنع.
وحكى قتادةُ عن أبي الجلد: أن الأرض من أربعة وعشرون ألف فرسخ، فللسودان اثنا عشر ألفاً، وللروم ثمانية آلافٍ، وللفرس ثلاثة آلافٍ، وللعرب ألفٌ.
قوله: {وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ} .
قال الحسن: ما أحله لكم.
وقيل: مما أنبته لكم.
وقيل: مما خلقه اللَّه لكم رزقاً من الأرض «وإليْهِ النُّشورُ» المرجع.
وقيل: معناه أن الذي خلق السماوات ولا تفاوت فيها، والأرض ذلولاً قادر على أن ينشركم، وإليه تبعثون من قبوركم.
قوله: {أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء} .
تقدم اختلاف القراء في الهمزتين المفتوحتين نحو {أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] تخفيفاً وتحقيقاً وإدخال ألف بينهما وعدمه في سورة «البقرة» .
وأن قنبلاً يقرأ هنا: بإبدال الهمزة الأولى واواً في الوصل «وإليْهِ النشورُ وأمنتُمْ» ،
وهو على أصله من تسهيل الثانية بين بين، وعدم ألف بينهما، وأما إذا ابتدأ، فيحقق الأولى، ويسهل الثانية بين بين على ما تقدم، ولم تبدل الأولى واواً، لزوال موجبه وهو انضمام ما قبلها، وهي مفتوحة نحو «مُوجِل، ويُؤاخِذكُم» ، وقد مضى في سورة «الأعراف» عند قوله تعالى:{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ} [الأعراف: 123] ، وإنما عددناه تذكيراً، وبياناً.
قوله: {مَّن فِي السمآء} . مفعول «أأمِنْتُمْ» وفي الكلام حذف مضاف، أي: أمنتم خالق السماوات.
وقيل: «فِي» بمعنى «على» ، أي: على السماء، كقوله:
{وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71]، أي: على جذوع النخل.
وإنما احتاج القائل بهذين إلى ذلك؛ لأنه اعتقد أن «مَنْ» واقعة على الباري، وهو الظاهر وثبت بالدليل القطعي أنه ليس بمتحيّز لئلا يلزم التجسيم، ولا حاجة إلى ذلك؛ فإن «مَنْ» هنا المراد بها: الملائكة سكان السماءِ، وهم الذين يتولّون الرحمة والنقمة.
وقيل: خوطبوا بذلك على اعتقادهم؛ فإن القوم كانوا مجسمة مشبِّهة، والذي تقدم أحسن.
قال ابن الخطيب: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها باتفاق المسلمين؛ لأن ذلك يقتضي إحاطة السَّماءِ به من جميع الجوانب، فيكونُ أصغر منها، والعرش أكبر من السماء بكثير، فيكون حقيراً بالنسبة إلى العرش، وهو باطل بالاتفاق، ولأنه قال:{قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض} [الأنعام: 12] فلو كان فيهما لكان مالكاً لنفسه، فالمعنى: إما من في السموات عذابه، وإما أن ذلك ما كانت العرب تعتقد، وإما من في السماء سلطانه وملكه وقدرته، كما قال تعالى:{وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض} [الأنعام: 3] فإنَّ الشيء الواحد لا يكون دفعة واحدة في مكانين، والغرض من ذكر السَّماءِ تفخيم سلطان الله، وتعظيم قدرته، والمراد الملك الموكل بالعذاب، وهو جبريلُ يخسفها بإذن الله.
قوله: {أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض} و {أَن يُرْسِلَ} فيه وجهان:
أحدهما: أنهما بدلان من {مَنْ فِي السماء} بدل اشتمال، أي: أمنتم خسفه، وإرساله.
قاله أبو البقاء.
والثاني: أن يكون على حذف «مِنْ» ، أي: أمنتم من الخسف والإرسال، والأول أظهر.
فصل
قال القرطبيُّ: ويحتمل أن يكون المعنى: أمنتم خالق من في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسفها بقارون {فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} أي: تذهب وتجيء، والمور: الاضطراب بالذهاب والمجيء. قال الشاعر: [الطويل]
4801 -
رَمَيْنَ فأقْصَدْنَ القُلُوبَ ولَنْ تَرَى
…
دَماً مَائِراً إلَاّ جرى في الحيَازِمِ
جمع «حيزوم» وهو وسط الصدر.
وإذا خسف بإنسان دارت به الأرض، فهو المور.
قال ابن الخطيب: إن الله - تعالى - يحرك الأرض عند الخسف بهم حتى تضطرب وتتحرك، فتعلو عليهم وهم يخسفون فيها، فيذهبون والأرض فوقهم تمُور، فتقلبهم إلى أسفل السافلين.
قال القرطبي: قال المحققُون: أمنتم من فوق السَّماء، كقوله:{فَسِيحُواْ فِي الأرض} [التوبة: 2] أي: فوقها لا بالمماسة والتحيُّز، لكن بالقهر والتدبير.
وقيل: معناه: أمنتم من على السماء كقوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71]، أي: عليها، ومعناه أنه مدبرها، ومالكها كما يقال: فلان على «العراق» ، أي: وليها وأميرها، والأخبار في هذا صحيحة، وكثيرة منتشرة مشيرة إلى العلوّ، لا يدفعها إلا ملحد، أو جاهل أو معاند، والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت، ووصفه بالعلو والعظمة، لا بالأماكن والجهات والحدود؛ لأنها صفات الأجسامِ، وإنما ترفع الأيدي بالدعاء إلى السماء؛ لأن السماء مهبط الوحْي، ومنزل القطر، ومحل القدس، ومعدن المطهرين من الملائكة، وإليها ترفع أعمال العباد، وفوقها عرشه وجنته كما جعل اللَّهُ الكعبة قبلة للصلاة، فإنه خلق الملائكة وهو غير محتاجٍ إليها، وكان في أزله قبل خلق المكان والزمان، ولا مكان له ولا زمان وهو الآن على ما عليه كان.
قوله {أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السمآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} .
قال ابن عباس: أي: حجارة من السماء كما أرسلها على قوم لوطٍ وأصحاب الفيل.
وقيل: ريح فيها حجارة وحصباء كأنها تقلع الحصباء، لشدتها وقوتها.
وقيل: سحاب فيه حجارة.
قيل: هاهنا النذير: المنذر، يعني محمداً صلى الله عليه وسلم َ وهو قول عطاء عن ابن عباس والضحاك، والمعنى: فستعلمون رسولي، وصدقه ولكن حين لا ينفعكم ذلك.
وقيل: إنه بمعنى الإنذار، والمعنى فستعلمون عاقبة إنذاري إياكم بالكتاب والرسول، وكيف في قوله {كَيْفَ نَذِيرِ} [ينبىء] عن ما ذكرنا من صدق الرسول، وعقوبة الإنذار.
وقد تقدم أن «نَذِير، ونكير» مصدران بمعنى الإنذار؛ والإنكار.
وأثبت ورش ياء «نذيري» وقفاً، وحذفها وصلاً، وحذفها الباقون في الحالين.
قوله: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} . يعني كفار الأمم كقوم نوح، وعاد، وثمود، وغيرهم {فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ} أي: إنكاري وتغييري: قاله الواحديُّ.
وقال أبو مسلم: النكير عقاب المنكر، ثم قال: سقطت الياء من «نَذيرِي» ومن «نَكيرِي» حتى تشابه رءوس الآي المتقدمة عليها، والمتأخرة عنها.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} .
لما ذكر ما تقدم من الوعيد ذكر البرهان على كمال قدرته، وعلى إيصال جميع أنواع العذاب إليهم، ومعناه كما ذلل الأرض للآدمي ذلل الهواء للطيور، وصافاتٍ: أي: باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن.
قال شهاب الدين: «صافَّاتٍ» يجوز أن يكون حالاً من «الطَّير» ، وأن يكون حالاً من «فَوقَهُمْ» إذا جعلناه حالاً، فتكون متداخلة، و «فَوقَهُمْ» ظرف ل «صافَّاتٍ» أو ل «يَرَوا» .
قوله: «ويَقْبِضْنَ» عطف الفعل على الاسم؛ لأنه بمعناه، أي: وقابضات، فالفعل
هنا مؤول بالاسم عكس قوله: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ} [الحديد: 18] فإن الاسم هناك مؤول بالفعل وقد تقدم الاعتراض على ذلك.
وقول أبي البقاء: معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى، أي: يصففن ويقبضن، أي «صافَّاتٍ وقَابضاتٍ» لا حاجة إلى تقديره: يصففن ويقبضن؛ لأن الموضع للاسم فلا نؤوله بالفعل.
قال أبو حيان: «وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه، ومثله قوله تعالى:{فالمغيرات صُبْحاً فَأَثَرْنَ} [العاديات: 3 - 4]، ومثل هذا العطف فصيحٌ وكذا عكسه إلَاّ عند السُّهيلي؛ فإنه قبيح؛ نحو قوله:[الرجز]
4802 -
بَاتَ يُغشِّيهَا بعَضْبٍ بَاتِر
…
يَقْصِدُ فِي أسْوُقِهَا وجَائرِ
أي: قاصد في أسواقها وجائر» .
وكذا قال القرطبيُّ: هو معطوف على «صافَّاتٍ» عطف المضارع على اسم الفاعل كما عطف اسم الفاعل على المضارع في قول الشاعر: «بَاتَ يُغشِّيها» البيت.
قال شهاب الدين: هو مثله في عطف الفعل على اسم الفاعل إلا أن الاسم فيه مؤولٌ بالفعل عكس هذه الآية، ومفعول «يقبِضنَ» محذوف، أي: ويقبضن أجنحتهن.
قاله أبو البقاء، ولم يقدر ل «صَافَّاتٍ» مفعولاً كأنه زعم أن الاصطفاف في أنفسها، والظاهر أن المعنى: صافات أجنحتها وقابضات، فالصف والقبض منها لأجنحتها.
ولذلك قال الزمخشري: «صافَّاتٍ» باسطات أجنحتهن، ثم قال: فإن قلت: لم قال: ويقبضن، ولم يقل:«قابضات» ؟ .
قلت: لأن الطيران هو صف الأجنحة؛ لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارىء على البسط للاستظهار به على التحرك، فجيء بما هو طارىء غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات، يكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح.
قوله «مَا يُمسِكُهُنَّ» . يجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفة، وأن تكون حالاً من
الضمير في «يَقْبِضنَ» قاله أبو البقاء. والأول أظهر.
وقرأ الزهريُّ: بتشديد السِّين.
فصل في معنى: يقبضن
قوله: «ويَقْبِضْنَ» .
أي: يضربن بها لجنوبهن.
قال أبو جعفر النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحية: صاف، وإذا ضمها فأصاب جنبه قابض، لأنه يقبضهما.
قال أبو خراش الشاعر: [الطويل]
4803 -
يُبَادِرُ جُنْحَ اللَّيْلِ فهو مُوائِلٌ
…
يَحُثُّ الجَناحَ بالتَّبسُّطِ والقبْضِ
وقيل: ويقبضن أجنحتهن بعد بسطها إذا وقفن من الطيران.
وقوله «ما يُمسِكُهنَّ» أي: ما يمسك الطير في الجو وهي تطير إلا الله عز وجل {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} .
قال ابن الخطيب: وفيه وجهان:
الأول: المراد من «البصير» كونه عالماً بالأشياء الدقيقة، كما يقال: فلان له بصر في هذا الأمر، أي: حذق.
والثاني: أن يجري اللفظ على ظاهره، فتقول:{إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} فيكون رائياً لنفسه، ولجميع الموجودات وهذا الذي يقوله أصحابنا: إنه تعالى شيء يصح أن يكون مرئياً، وأن كل الموجودات كذلك، فإن قيل: البصير إذا عدي بالباء يكون بمعنى العالم، يقال: فلان بصير بكذا إذا كان عالماً قلنا: لا نسلم، فإنه يقال: إن الله سميع بالمسموعات بصير بالمبصرات.
فصل
في قوله تعالى {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَاّ الرحمن} دليل على أن الأفعال الاختيارية للعبد مخلوقة لله تعالى، لأن استمساك الطير في الهواء فعل اختياري له، وقد نسبه للرحمن.
قوله: {أَمَّنْ هذا الذي} .
قرأ العامة: بتشديد الميم على إدغام ميم «أمْ» في ميم «مَنْ» و «أمْ» بمعنى «بَلْ» لأن بعدها اسم استفهام، وهو مبتدأ، خبره اسم الإشارة.
وقرأ طلحة: بتخفيف الأول وتثقيل الثاني.
قال أبو الفضل: معناه: أهذا الذي هو جند لكم، أم الذي يرزقكم. و «يَنْصُركُمْ» صفة لجند.
فصل في لفظ جند
قال ابن عباس: «جُندٌ لَكُمْ» أي: حزب ومنعه لكم {يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمن} ، فيدفع عنكم ما أراد بكم إن عصيتموه. ولفظ الجند يوحد، ولهذا قال: هذا الذي هو جند لكم، وهو استفهام إنكاري، أي لا جند لكم يدفع عذاب الله من دون الرحمن، أي: من سوى الرحمن {إِنِ الكافرون إِلَاّ فِي غُرُورٍ} من الشيطان يغرهم بأن لا عذاب، ولا حساب.
قال بعض المفسرين: كان الكفار يمتنعون عن الإيمان، ويعاندون الرسول عليه الصلاة والسلام ُ - معتمدين على شيئين:
أحدهما: قوتهم بعددهم ومالهم.
والثاني: اعتقادهم أن الأوثان توصل إليهم جميع الخيرات، وتدفع عنهم جميع الآفات فأبطل الله عليهم الأول بقوله {أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ} الآية، ورد عليهم الثاني بقوله:{أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُمْ} الآية.
قوله {إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} شرط، جوابه محذوف للدلالة عليه، أي: أفمن يرزقكم غيره.
وقدّر الزمخشريٌّ شرطاً بعد قوله: {أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ} تقديره: «إن أرسل عليكم عذابه» ولا حاجة له صناعة.
فصل في معنى الآية
المعنى {أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُم} أي: يعطيكم منافع الدنيا.
وقيل: من آلهتكم «إنْ أمسَكَ» يعني الله تعالى رزقه وهذا مما لا ينكره ذو عقل، وهو أنه تعالى إن أمسك أسباب الرزق كالمطر، والنبات وغيرهما لما وجد رازق سواه فعند وضوح هذا الأمر قال تعالى:{بَل لَّجُّواْ} ، أي: تمادوا وأصروا «فِي عُتُوٍّ» طغيان «ونُفورٍ» عن الحق، أو تباعد أو إعراض عن الحق.
قوله: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى} . «مُكِبًّا» حال من فاعل «يمشي» .
قال الواحديُّ: «أكب» ، مطاوع كبه، يقال: كببته فأكب.
قال الزمخشريُّ: هو من الغرائب والشواذ، ونحوه قشعت الريح السحاب فأقشع، وما هو كذلك ولا شيء من بناء «أفعل» مطاوع، بل قولك: أكب، من باب «أنفض، وألأم» ومعناه: دخل في الكب، وصار ذا كب وكذلك أقشع السحاب دخل في القشع.
ومطاوع «كب، وقشع» انكب وانقشع.
قال أبو حيان: «ومُكِباً» حال من «أكب» وهو لا يتعدى، و «كب» متعد، قال تعالى {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار} [النمل: 90] والهمزة فيه للدخول في الشيء، أو للصيرورة، ومطاوع كب انكب، تقول: كببته فانكب. قال الزمخشريُّ: «ولا شيء من بناء» أفعل «مطاوعاً ولا يتقن نحو هذا إلا حملة كتاب سيبويه» انتهى.
وهذا الرجل يتبجح بكتاب سيبويه، وكم من نص في كتاب سيبويه عمي بصره وبصيرته عنه حتى إن الإمام أبا الحجاج يوسف بن معزوز صنف كتاباً يذكر فيه ما غلط الزمخشري فيه، وما جهله من كتاب سيبويه. انتهى.
قال شهاب الدين: انظر إلى هذا الرجل كيف أخذ كلام الزمخشري الذي أسلفته عنه طرز به عبارته حرفاً بحرف ثم أخذ ينحي عليه بإساءة الأدب جزاء ما لقنه تلك الكلمات الرائقة، وجعل يقول: إن مطاوع «كَبَّ» «انكب» لا «أكب» وأن الهمزة للصيرورة، أو للدخول في الشيء، وبالله لو بقي دهره غير ملقن إياها لما قالها أبداً، ثم أخذ يذكر عن إنسان مع أبي القاسم كالسُّها مع القمر أنه غلطه في نصوص من كتاب سيبويه، والله أعلم بصحتها:[الوافر]
4804 -
وكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً
…
وآفتُهُ من الفَهْمِ السَّقيم
وعلى تقدير التسليم، فالفاضل من عدت سقطاته.
قال القرطبيُّ: يقال: أكب الرجل على وجهه فيما لا يتعدى بالألف، فإذا تعدى قيل: كبه الله على وجهه بغير ألف، وقوله:«أفَمنْ يَمْشي» هو المعادل ل {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً} .
وقال أبو البقاء: «وأهْدَى» خبر «مَنْ يَمِشِي» وخبر «من» الثانية محذوف.
يعني أن الأصل: أم من يمشي سوياً أهدى، ولا حاجة إلى ذلك؛ لأن قولك: أزيد قائم، أم عمرو لا يحتاج فيه من حيث الصناعة إلى حذف الخبر، نقول: هو معطوف على «زيد» عطف المفردات، ووحد الخبر لأن «أمْ» لأحد الشيئين.
فصل
قال المفسرون: {أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً} منكساً رأسه لا ينظر أمامه، ولا يمينه، ولا شماله، فهو لا يأمن من العثور والانكباب على وجهه {كَمنْ يَمْشي سويّاً} مُعتدِلاً ناظراً ما بين يديه، وعن يمينه وعن شماله.
قال ابن عباسٍ: هذا في الدنيا، ويجوز أن يريد به الأعمى الذي لا يهتدي إلى طريق، فلا يزال ينكسه على وجهه، وأنه ليس كالرجل السوي الصحيح البصير الماشي في الطريق المهتدي له.
قال قتادةُ: هو الكافر أكب على معاصي الله في الدنيا، يحشره الله يوم القيامة على وجهه.
وقال ابن عباس والكلبيُّ: عنى بالذي يمشي على وجهه أبا جهل، وبالذي يمشي سوياً رسول الله صلى الله عليه وسلم َ.
وقيل: أبو بكر.
وقيل: حمزة.
وقيل: عمار بن ياسر.
قال عكرمة: وقيل: هو عام في الكافر والمؤمن، أي: إن الكافر لا يدري أعلى حق هو، أم على باطل، أي: هذا الكافر أهدى، أم المسلم الذي يمشي سوياً معتدلاً يبصر الطريق، وهو على صراطٍ مستقيمٍ وهو الإسلام.
قوله {قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ} . أمر نبيه أن يعرفهم قبح شركهم مع اعترافهم أن الله خلقهم {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} يعني القلوب.
قوله «قَلِيلاً» . نعت مصدر محذوف، أو حال من ضمير المصدر كما هو رأي سيبويه و «ما» مزيدة أي: تشكرون قليلاً، والجملة من «تَشْكُرون» إما مستأنفة، وهو الظاهر، وإما حال مقدرة؛ لأنهم حال الجعل غير شاكرين.
والمراد بالقلة العدم، أو حقيقتها، أي: لا تشكرون هذه النعم، ولا توحدون الله تعالى، تقول: قلَّما أفعلُ كذا، أي: لا أفعله.
قال ابن الخطيب: وذكر السمع والبصر والفؤاد هاهنا تنبيهاً على دقيقه لطيفة، كأنه تعالى قال: أعطيتم هذه الأعضاء الثلاثة مع ما فيها من القوى الشريفة، فضيعتموها ولم تقبلوا ما سمعتموه ولا اعتبرتم بما أبصرتموه ولا تأملتم في عاقبة ما عقلتموه، فكأنكم ضيعتم هذه النعم، وأفسدتم هذه المواهب، فلهذا قال:{قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} .
قوله: {قُلْ هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
قال ابن الخطيب: اعلم أنه تعالى استدل بأحوال الحيوانِ أولاً، ثم بصفات الإنسانِ ثانياً، وهي السمع والبصر والعقل، ثم بحدوث ذاته ثالثاً، وهو قوله {قُلْ هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض} واعلم أن الشروع في هذه الدلائل إنما كان لبيان صحة الحشر ليثبت ما ادعاه في قوله {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} ولهذا ختم الآية بقوله {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} لأنه لما كانت القدرة على الخلق ابتداء توجب القدرة على الإعادة، فلهذا ختمها بقوله {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
فصل في معنى «ذرأكم»
قال ابن عباسٍ: خلقكم في الأرض.
وقال ابن بحر: نشركم فيها، وفرقكم فيها على ظهرها {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فيجازي كلاًّ بعمله.
{وَيَقُولُونَ
متى
هذا
الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، أي: متى يوم القيامة ومتى هذا العذابُ الذي تعدوننا به؟ .
قال أبو مسلم: إنه تعالى قال: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} بلفظ المستقبلِ، وهذا يحتمل ما يوجد من الكفار من هذا القول في المستقبل، ويحتمل
الماضي، والتقدير: وكانوا يقولون: متى هذا الوعد، ولعلهم كانوا يقولون ذلك سخرية، واستهزاء، وكانوا يقولونه إيهاماً للضعفة، ثم إنه تعالى أجاب عن هذا السؤالِ، فقال {إِنَّمَا العلم عِنْدَ الله} ، أي: قل لهم يا محمد: علم وقت قيام الساعة عند الله فلا يعلمه غيره، نظيره:{قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: 187] الآية {وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} أي: مخوف ومعلم لكم، ثم إنه تعالى بين حالهم عند ذلك الوعد وهو قوله:{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} ، أي: الموعود، أو العذاب زلفة، أي: قريباً، فهو حال.
وقال القرطبيُّ: «مصدر، بمعنى مزدلفاً، أي: قريباً، قاله مجاهد» .
ولا بد من حذف مضاف، أي: ذا زلفة، وجعل الزلفة مبالغة.
وقيل: «زُلْفَة» تقديره: مكاناً ذا زلفةٍ، فينتصب انتصاب المصدرِ.
فصل في المراد بالعذاب.
قال الحسنُ: عياناً. وأكثر المفسرين على أن المراد عذابُ الآخرةِ.
وقال مجاهدٌ: عذاب يوم بدر.
وقيل: رأوا ما يوعدون من الحشر قريباً منهم، لقوله {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} .
وقال ابن عباس: يعني علمهم الشيء قريباً.
قوله: «سِيئَتْ» ، الأصل:«ساء» أحزن وجوههم العذاب، ورؤيته، ثم بني للمفعول، وساء هنا ليست المرادفة ل «بئس» كما تقدم مراراً.
وأشم كسرة السين الضم: نافع وابن عامر والكسائي، كما فعلوا ذلك في {سياء بِهِمْ} [هود: 87] في «هود» كما تقدم. والباقون: بإخلاص الكسر، وتقدم تحقيق هذا وتصريفه في أول «البقرة» ، وأن فيه لغات عند قوله {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 11] .
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس: «سِيْئَتْ» أي: اسودت وعليها الكآبة والغبرة.
يقال: ساء الشيءُ يسوء، فهو مسيء إذا قبح، وساء يساء إذا قبح، وهو فعل لازم ومتعدّ ومعنى {سِيئَتْ وُجُوهُ} ، أي: قبحت، بان عليها الكآبةُ، وغشيها الكسوفُ والقترة وكلحوا.
قال الزجاج: تبين فيها السوء، أي: ساءهم ذلك العذاب وظهر على وجوههم سمة تدل على كفرهم، كقوله تعالى {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] .
قوله: {وَقِيلَ هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ} ، أي: قال لهم الخزنة.
قال الفراء: «تفتعلون» من الدعاء. وهو قول أكثر العلماءِ، أي: تتمنون، وتسألون.
وقال ابن عباس: تكذبون، وتأويله: هذا الذي كنتم من أجله تدعون الأباطيل والأحاديث قاله الزجاج.
وقرأ العامة: بتشديد الدال مفتوحة.
فقيل: من الدعوى، أي: تدعون أنه لا جنة ولا نار، قاله الحسنُ.
وقيل: من الدعاء، أي: تطلبونه وتستعجلونه.
وقرأ الحسنُ وقتادةُ وأبو رجاء والضحاك، ويعقوب وأبو زيد وأبو بكر وابن أبي عبلة ونافع في رواية الأصمعي: بسكون الدالِ، وهي مؤيدة للقول بأنها من الدعاء في قراءة العامة.
وقال قتادة: هو قولهم: {رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا} [ص: 16] .
وقال الضحاك: هو قولهم: {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] الآية.
وقال النحاس: تدَّعون، وتدْعون، بمعنى واحد، كما يقال: قدر واقتدر، وعدى واعتدى إلا أن في «افتعل» معنى شيء بعد شيء، و «فَعَل» يصح للقيل والكثير.
قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله} . أي: قل لهم يا محمد، يعني مشركي مكة وكانوا يتمنون موت محمد صلى الله عليه وسلم َ كما قال:{أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} [الطور: 30] أرأيتم إن متنا، أو رحمنا، فأخرت آجالنا، يعني أنا ومن معي من المؤمنين فمن يجيركم من عذاب الله؟ فلا حاجة لكم إلى التربص بنا ولا إلى استعجال قيام الساعة.
وأسكن الياء في «أهْلَكَنِي» ابن محيصن والمسيبي وشيبة والأعمش وحمزة وفتحها الباقون.
وكلهم فتح الياء في «ومَنْ مَعِيَ» إلا أهل الكوفة فإنهم سكنوها، وفتحها حفص، كالجماعة.
قوله: {قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} . قد تقدم لِمَ أخر متعلق الإيمان وقدم متعلق التوكل، وأن التقديم يفيد الاختصاص.
قال القرطبيُّ: إنما قدم لوقوع «آمَنَّا» تعريضاً بالكافرين، حين ورد عقب ذكرهم، كأنه قيل: آمنا ولم نكفر كما كفرتم، ثم قال:«وعَليْهِ تَوكَّلْنَا» خصوصاً لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم، قاله الزمخشري.
وقرأ الكسائي: «فَسَيْعلمُونَ» بياء الغيبة نظراً إلى قوله «الكَافِرينَ» .
والباقون: على الخطاب، إما على الوعيد وإما على الالتفات من الغيبة المرادة في قراءة الكسائي وهو تهديد لهم، أي: فستعملون عند معاينة العذاب من الضال نحن، أم أنتم.
قوله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} يا معشر قريش {إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً} أي: غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء، و «غَوْراً» خبر «أصْبَحَ» ، وجوز أبو البقاء: أن يكون حالاً على تمام «أصْبَحَ» ، لكنه استبعده.
وحكى أنه قرىء: «غُؤُوراً» - بضم الغين، وهمزة مضمومة، ثم واو ساكنة - على «فعول» وجعل الهمزة منقلبة عن واو مضمومة.
فصل في المراد بالماء
كان ماؤهم من بئرين: بئر زمزم وبئر ميمون {فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ} أي: جارٍ، قاله قتادة والضحاك.
فلا بد لهم أن يقولوا: لا يأتينا به إلا الله تعالى، فقل لهم: فلم تشركون به من لا يقدر على أن يأتيكم به.
يقال: غار الماء يغور غوراً: نضب، والغور: الغائر، وصف بالمصدر للمبالغة كما تقول: رجلٌ عدلٌ، ورضى.
كما تقدم في سورة الكهف.
قال ابن عباسٍ: «بِماءٍ مَعينٍ» أي: ظاهر تراه العيون، فهو مفعول.
وقيل: هو من معن الماءُ، أي: كثر، فهو على هذا «فَعِيل» .
وعن ابن عباس أيضاً: «فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ عذبٍ» .
روى أبو هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال: «إنَّ سُورةً مِنْ كتابِ اللَّهِ ما هِيَ إلَاّ ثلاثُون آيَةً شَفَعتْ لرَجُلٍ فأخْرجتْهُ يَوْمَ القيامةِ مِن النَّارِ وأدْخلتْهُ الجَنَّةَ هِيَ سُورةُ تبَارَكَ» .
وعن عبد الله بن مسعود قال: إذا وضع الميت في قبره يؤت من قبل رجليه فيقال: ليس لكم عليه سبيل لأنه قد كان يقوم بي سورة «المُلْك» ثم يؤتى من قبل رأسه فيقول لسانه: ليس لكم عليه سبيل كان يقرأ بي سورة «المُلك» ، ثم قال: هي المانعة من عذاب الله وهي في التوراة سورة الملك، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطنب.
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ «ودِدْتُ أنَّ {تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك} في قلبِ كُلِّ مُؤمِنٍ» .