المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

سورة نوح عليه السلام - اللباب في علوم الكتاب - جـ ١٩

[ابن عادل]

الفصل: سورة نوح عليه السلام

سورة نوح عليه السلام

ص: 380

مكية وهي ثمان وعشرون آية، ومائتان وأربع وعشرون كلمة، وتسعمائة وتسعة وعشرون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا‌

‌ نُوح

اً إلى قَوْمِهِ} .

روى قتادة عن ابن عبَّاسٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم َ قال: «أوَّل نبيٍّ أرسِلَ نوحٌ عليه الصلاة والسلام ُ، وأرسِلَ إلى جَميعِ أهْلِ الأرضِ» .

ولذلك لمَّا كفروا، أغرق الله أهل الأرض جميعاً، وهو نوح بنُ لامك بن

ص: 380

متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه الصلاة والسلام ُ.

قال وهبٌ: وكلهم مؤمنون، أرسل إلى قومهِ وهو ابنُ خمسين سنة.

وقال ابن عبَّاسٍ: أربعين سنة.

وقال عبد الله بن شداد: بعث وهو ابنُ ثلاثمائة وخمسين سنة.

قوله: {أَنْ أَنذِرْ} .

يجوز أن تكون المفسرة، فلا يكونُ لها موضع من الإعراب؛ لأن في الإرسال معنى الأمر فلا حاجة إلى إضمار الباءِ، ويجوز أن تكون المصدرية، أي: أرسلناه بالإنذار.

قال الزمخشريُّ: والمعنى: أرسلناه بأن قلنا له: أنذر، أي: أرسلناه بالأمر بالإنذار. انتهى.

وهذا الذي قدره حسنٌ جدّاً، وهو جواب عن سؤال تقدَّم في هذا الكتاب، وهو قولهم: فإنَّ «أنْ» المصدرية يجوز أن توصل بالأمر مشكل؛ لأنه ينسبكُ منها وما بعدها مصدر، وحينئذ فتفوت الدلالة على الأمر؛ ألا ترى أنَّك إذا قدَّرت «كتبت إليهم بأن قم كتبت إليه القيام» تفوت بالدلالة على الأمر حال التصريح بالمصدر، فينبغي أن يقدر كما قاله الزمخشريُّ، أي: كتبت إليه بأن قلتُ له: قُمْ، أي: كتبتُ إليه بالأمر بالقيامِ.

وقال القرطبي: «أي: بأن أنذر قومكَ، فموضع» أن «نصب بإسقاط الخافض» .

وقرأ عبد الله: «أنذر قومك» بغير «أن» بمعنى: «قلنا له: أنذر قومك» . وقد تقدم معنى الإنذار في سورة «البقرة» .

وقوله: {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .

قال ابن عبَّاسٍ: يعني عذاب النَّار في الآخرة.

وقال الكلبيُّ: هو الطوفان.

وقيل: أنذرهم بالعذاب على الجملة إن لم يؤمنوا، فكان يدعو قومه وينذرهم، فلا يجيبونه كما تقدَّم.

{قَالَ ياقوم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} ، أي: مخوف مظهر لكم بلسانكم الذي تعرفونه.

ص: 381

قوله: {أَنِ اعبدوا الله} ، إما أن تكون تفسيرية ل «نَذِيْر» أو مصدرية، والكلامُ فيها كالكلام في أختها كما تقدم، والمعنى: وَحِّدوا اللَّه واتَّقُوه، أي: خافوه «وأطِيعُونِ» فيما آمركم به؛ فإنِّي رسول الله إليكم.

{يَغْفِرْ لَكُم} جزم «يَغْفِرْ» لجواب الأمر.

قوله: {مِّن ذُنُوبِكُمْ} . في «مِنْ» هذه أوجه:

أحدها: أنَّها تبعيضية.

الثاني: أنَّها لابتداء الغايةِ.

الثالث: أنَّها لبيان الجنسِ، وهو مردود لعدم تقدم ما تبينُه.

الرابع: أنَّها مزيدةٌ. قال ابن عطية: وهو مذهب كوفيٌّ.

قال شهاب الدين: ليس مذهبهم ذلك؛ لأنهم يشترطون تنكير مجرورها، ولا يشترطون غيره. والأخفش لا يشترط شيئاً، فزيادتُها هنا ماشٍ على قوله لا على قولهم.

قال القرطبي: وقيل: لا يصح كونها زائدة؛ لأن «مِنْ» لا تزاد في الواجب، وإنما هي هنا للتبعيض، وهو بعض الذنوب، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين.

وقال زيد بن أسلم: المعنى يُخرِجُكم من ذنوبكم.

وقال ابن شجرة: المعنى يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها.

قوله: {وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ} .

قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف قال: «يُؤخِّركُمْ» مع إخبارهِ بامتناع تأخيره؟ .

قلتُ: قضى الله أنَّ قوم نوحٍ إن آمنوا عمَّرهُم ألف سنةٍ، وإن بقُوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة، قيل لهم: إن آمنتم أخِّرتُم إلى الأجلِ الأطولِ، ثم أخبرهُم أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخَّرُ انتهى.

وقد تعلَّق بهذه الآية من يقول بالأجلين وتقدم جوابه.

وقال ابن عباسٍ: أي: يُنْسِىءُ في أعماركم، ومعناه: أنَّ الله - تعالى - كان قضى قبل خلقهم، إنْ هم آمنوا بارك في أعمارهم وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب.

وقال مقاتل: يؤخركم إلى منتهى أعماركم في عافية فلا يعاقبكم بالقحطِ وغيره، فالمعنى على هذا: يؤخركم من العقوبات والشدائد إلى آجالكم.

ص: 382

وقال الزجاج: «أي يؤخركم عن العذاب، فتموتوا غير موتة المستأصلين بالعذاب» .

وعلى هذا قيل: أجل مسمى عندكم تعرفونه لا يميتكم غَرْقاً ولا حَرْقاً ولا قَتْلاً، ذكره الفراء. وعلى القول الأول أجل مسمى عند الله.

قوله: {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لَا يُؤَخَّرُ} ، أي: إذا جاء الموتُ لا يؤخَّر بعذاب كان، أو بغير عذاب، وأضاف الأجلَ إليه سبحانه؛ لأنه الذي أثبته، وقد يضاف إلى القوم كقوله تعالى:{إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} [يونس: 49] ؛ لأنه مضروبٌ لهم، و «لَوْ» بمعنى «إنْ» أي: إن كنتم تعلمون.

وقال الحسن: معناه: لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يُؤخَّرُ.

وعلى هذا يكون جوابُ «لَوْ» محذوفاً تقديره: لبادرتم إلى ما أمركم به أو لعلمتم كما قال الحسن.

قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} ، وهذان ظرفان ل «دَعوْتُ» ، والمراد: الإخبار باتصال الدعاء وأنَّه لا يفتر عن ذلك وقيل: معناه سراً وجهراً {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلَاّ فِرَاراً} ، أي: تباعداً من الإيمان، وهذا استثناء مفرغ وهو مفعول ثان.

وقراءة العامة: بفتح الياء من «دُعَائِي» .

وأسكنها الكوفيُّون، ويعقوب والدوري عن أبي عمرو.

قوله: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} ، أي: إلى سبب المغفرةِ، وهي الإيمانُ بك والطاعة لك {جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ} لئلَاّ يسمعُوا دُعائِي {واستغشوا ثِيَابَهُمْ} أي: غطُّوا بها وجوههم لئلَاّ يرون.

قال ابن عبَّاسٍ: جعلوا ثيابهم على رءوسهم لئلَاّ يسمعوا كلامي، فاستغشاءُ الثِّياب إذن زيادة في سدِّ الآذان حتى لا يسمعوا، أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت، أو ليعرفوه إعراضهم عنه.

وقيل: هو كنايةٌ عن العداوةِ، يقال: لبس فلانٌ ثياب العداوةِ «وأصَرُّوا» على الكفر فلم يتوبوا، «واسْتَكْبَرُوا» عن قبول الحق، وهو قولهم:{أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111] .

قوله: «لِتَغْفِرَ» ، يجوز أن تكون للتعليل، والمدعو إليه محذوفٌ، أي: دعوتهم

ص: 383

للإيمان بك لأجلِ مغفرتك لهم، وأن تكونَ لام التَّعديةِ، ويكون قد عبَّر عن السبب بالمسبب، الذي هو حظهم، والأصل دعوتهم للتوبة التي هي سببٌ في الغفران.

و «جَعلُوا» ، هو العامل في «كُلَّمَا» وهو خبر «إنِّي» .

قوله: «جِهَاراً» ، يجوز أن تكون مصدراً من المعنى؛ لأنَّ المعنى يكون جهاراً وغيره، فهو من باب «قعد القُرفُصَاء» ، وأن يكون المرادُ ب «دعوتهم» : جاهرتهم. وأن يكون نعت مصدر محذوف أي: دعاء جهاراً.

وأن يكون مصدراً في موضع الحالِ، أي: مجاهراً، أو ذا جهارٍ، أو جعل نفس المصدر مبالغة.

قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: ذكر أنه دعاهم ليلاً ونهاراً، ثم دعاهم جهاراً، ثُمَّ دعاهم في السرِّ والعلن فيجب أن يكون ثلاث دعواتٍ مختلفاتٍ، حتى يصح العطفُ.

قلتُ: قد فعل عليه السلام كما يفعل الذي يأمُر بالمعروفِ، وينهى عن المنكرِ في الابتداء بالأهون، والترقي إلى الأشدِّ فالأشدِّ، فافتتح في المناصحة بالسرِّ فلما لم يقبلوا ثَنَّى بالمجاهرة، فلمَّا لم يقبلوا ثلَّث بالجمع بين السرِّ والإعلان، ومعنى» ثُمَّ «للدلالة على تباعد الأحوال؛ لأن الجهاد إذا غلظ من الإسرار، والجمعُ بين الأمرين، أغلظُ من إفراد أحدهما» .

وقال أبو حيان: «وتكرر كثيراً له أنَّ» ثُمَّ «للاستبعاد، ولا نعلمه لغيره» .

وقوله: «اسْتِكبَاراً» . قال القرطبيُّ: تفخيم.

فصل في معنى الآية

معنى: «جِهَاراً» ، أي: مظهراً لهم الدعوة، وهو منصوب ب «دَعوْتهُمْ» بنصب المصدر.

{ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} .

أي: لم أبقِ مجهوداً.

وقال مجاهد رضي الله عنه: معنى «أعْلَنْتُ» صِحْتُ، {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} بالدعاءِ عن بعضهم من بعض.

وقيل: «أسْرَرْتُ لهم» أتيتُهم في منازلهم وكلُّ هذا من نوح عليه الصلاة والسلام ُ - مبالغةٌ في الدعاءِ، وتلطف في الاستدعاءِ.

ص: 384

وفتح الياء من «إنِّي أعلنْتُ» ، الحرميون وأبو عمرو، وأسكنها الباقون.

قوله: {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ} ، أي سلوه المغفرة لذنوبكم بإخلاص الإيمان {إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} وهذا منه - تعالى - ترغيبٌ في التوبة، لقوله عليه الصلاة والسلام ُ:«الاسْتغفَارُ مَمحاةٌ للذنُوبِ» .

قوله: {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} . أي: يرسل ماء السماءِ، ففيه إضمار.

وقيل: السماء: المطر، أي يرسلُ المطر؛ قال الشاعر:[الوافر] .

4878 -

إذَا نَزََل السَّماءُ بأرْضِ قَوْمٍ

رَعيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غِضَابَا

و «مِدْراراً» يجوز أن يكون حالاً من «السَّماء» . ولم يؤنث؛ لأن «مفعالاً» لا يؤنث، تقول:«امرأة مِئْنَاث، ومِذْكَار» ولا يؤنث بالتاء إلا نادراً، وحينئذ يستوي فيه المذكر والمؤنث، فتقول رجُلٌ مخدامةٌ، ومطرابةٌ، وامرأة مخدامة ومطرابة، وأن يكون نعتاً لمصدر محذوف، أي: إرسالاً مدراراً. وتقدم الكلام عليه في الأنعام.

وجزم «يرسل» جواباً للأمر، و «مِدْرَاراً» ذا غيث كثيرٍ.

فصل في حكاية قوم نوح

قال مقاتل: لما كذَّبوا نوحاً عليه الصلاة والسلام ُ - زماناً طويلاً حبس اللَّهُ عنهم المطر، وأعقم أرحامَ نسائهم أربعين سنة، فهلكت مواشيهم وزروعهم فصاروا إلى نوح عليه الصلاة والسلام ُ - واستغاثوا به، فقال:{استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} ، أي: لمن أناب إليه، ثم رغبهم في الإيمان فقال:{يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} .

قال قتادة: علم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم َ أنهم أهل حرصٍ على الدنيا، فقال: هلموا إلى طاعة الله، فإنَّ في طاعة الله درك الدنيا والآخرة.

فصل في استنزال الرزق بالاستغفار.

في هذه الآية والتي قبلها في «هود» دليلٌ على أنَّ الاستغفار يستنزلُ به الرزق والأمطار قال الشعبيُّ: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فأمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيت فقال: لقد استسقيت بمجاديح السماءِ التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ:{استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا} .

ص: 385

قال ابن الأثير: المجاديحُ واحدها «مجدح» والياء زائدة للإشباع، والقياس أن يكون واحدها مجداح، فأما مجدح فجمعه «مجادح» ، والمجدح: نجمٌ من النجوم.

قيل: هو الدبران.

وقيل: هو ثلاثةُ كواكب، كالأثافي تشبيهاً له بالمجدح، الذي له ثلاث شعبٍ، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر، فجعل الاستغفار مشبهاً بالأنواء، مخاطبة لهم بما يعرفونه لا قولاً بالأنواء، وجاء بلفظ الجمع؛ لأنه أراد الأنواء جميعها التي يزعمون أن من شأنها المطر.

وشكى رجلٌ إلى الحسن الجدوبة، فقال له: استغفر الله، وشكى آخر إليه الفقر، فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادعُ الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله، وشكى إليه آخرُ جفاف بساتينه فقال له: استغفر الله، فقلنا له في ذلك، فقال ما قلت من عندي شيئاً، إنَّ الله تعالى يقول في سورة «نوح» :{استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً} .

فإن قيل: إنَّ نوحاً عليه الصلاة والسلام ُ - أمر الكفار أولاً بالعبادة، والطَّاعة، فأيُّ فائدةٍ في أن أمرهم بعد ذلك بالاستغفار.

فالجوابُ: لمَّا أمرهم بالعبادة قالوا له: إن كان الدين الذي كُنَّا عليه حقاً، فلم تأمرنا بتركه، وإن كان باطلاً، فكيف يقبلنا بعد أن عصيناه، فقال نوح عليه الصلاة والسلام ُ -: إنكم وإن كنتم قد عصيتموه ولكن استغفروا من تلك الذنوب فإنَّه سبحانه كان غفاراً.

فإن قيل: فلم قيل: إنه كان غفاراً، ولم يقل: إنَّه غفار؟ .

فالجوابُ: كأنه يقول: لا تظنوا أن غفرانه إنما حدث الآن بل هو أبداً هكذا عادته أنه غفارٌ في حق من استغفر.

قوله: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} .

قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف، أي: ما لكم لا تخافون لله عظمة، وقدرة على أحدكم بالعقوبة، أي: أيُّ عذر لكم في ترك الخوف من الله؛ قال الهذليُّ: [الطويل]

4879 -

إذَا لَسَعتْهُ النَّخْلُ لمْ يَرْجُ لَسْعهَا.....

...

...

...

...

ص: 386

وقال سعيد بن جبيرٍ وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح: ما لكم لا ترجون لله ثواباً، ولا تخافون له عقاباً.

وقال سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاسٍ: {مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ} ، لا تخشون لله عقاباً وترجون منه ثواباً.

وقال الوالبي والعوفي عنه: ما لكم لا تعلمون لله عظمة.

وقيل: ما لكم لا تعتقدون لله عظمة.

وقال ابن عباس ومجاهد: ما لكم لا ترون لله عظمة.

قال قطرب: هذه لغةٌ حجازيةٌ، وهذيل وخزاعةُ ومضر يقولون: لم أرج، أي: لم أبال.

قوله: «وقَاراً» ، يجوز أن يكون مفعولاً به على معان، منها: ما لكم لا تأملون له توقيراً، أي: تعظيماً.

قال الزمخشريُّ: والمعنى ما لكم لا تكونون على حالٍ، تأملون فيها تعظيم الله إيَّاكم في دار الثواب «ولله» بيانٌ للموقر، ولو تأخر لكان صلته. انتهى.

أي: لو تأخر «للَّهِ» عن «وقَاراً» لكان متعلقاً به، فيكون التوقير منهم لله تعالى وهو عكس المعنى الذي قصده، ومنها: لا تخافون لله حلماً وترك معاجلة بالعقاب فتؤمنوا.

ومنها: لا تخافون لله عظمة، وعلى الأول يكون الرجاء على بابه، وقد تقدم أن استعماله بمعنى الخوف مجاز ومشترك.

وأن يكون حالاً من فاعل «تَرجُونَ» ، أي: موقرين الله تعالى، أي: تعظمونه ف «لِلَّهِ» على هذا متعلق بمحذوف على أنه حالٌ من «وقَاراً» أو تكون اللام زائدة في المفعول به، وحسنه هنا أمران: كون العامل فرعاً، وكون المعمول مقدماً، و «لا تَرْجُونَ» حال.

وقد تقدم نظيره في المائدة.

والوقارُ: العظمة، والتوقيرُ التعظيم، ومنه قوله تعالى:{وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] .

وقال قتادةُ: ما لكم لا ترجون لله عاقبة كأن المعنى: ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان.

ص: 387

وقال ابن كيسان: ما لكم لا ترجون في عبادة الله، وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيراً.

وقال ابن زيد: ما لكم لا تؤتون لله تعالى طاعة.

وقال الحسنُ: ما لكم لا تعرفون لله حقاً، ولا تشكرون له نعمة.

وقيل: ما لكم لا توحدون الله لأن من عظمه فقد وحَّده.

وقيل: إن الوقار هو: الثبات لله عز وجل، ومنه قوله تعالى:{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] أي: اثبتن، والمعنى: ما لكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى، وأنه إلهكم، لا إله لكم غيره، قاله ابن بحر، ثم دلَّهم على ذلك فقال:{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} .

يعني نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاماً، ولحماً، ثم أنشأناه خلقاً آخر.

وقيل: «أطْوَاراً» صبياناً، ثم شباناً، ثم شيوخاً، وضعفاء، ثم أقوياء.

وقيل: «أطواراً» ، أي: أنواعاً، صحيحاً، وسقيماً، وبصيراً، وضريراً، وغنياً، وفقيراً.

وقيل: الأطوار: اختلافهم في الأخلاق، والأفعال.

قوله: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} ، جملة حالية من فاعل «تَرْجُونَ» .

والأطوار: الأحوال المختلفة.

قال الشَّاعرُ: [البسيط]

4880 -

فإنْ أفَاقَ فقَدْ طَارتْ عَمايَتُهُ

والمَرْءُ يُخلقُ طَوْراً بَعْدَ أطْوارِ

وانتصابهُ على الحال، أي: منتقلين من حال إلى حال، أو مختلفين من بين مُسِيءٍ، ومحسن، وصالح، وطالح.

قوله: {أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} .

لما ذكر لهم دليل التوحيد من أنفسهم، أتبعه بدليل الآفاق فقال:{أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً} ، أي: ألم تعلموا أنَّ الذي قدر على هذا، فهو الذي يجب أن يعبد، ومعنى:«طباقاً» قال ابن عباس والسدي: أي: بعضها فوق بعض كل سماء منها وطبقة على الأخرى كالقبابِ.

فإن قيل: هذا يقتضي ألا يكون بينهما فرج، وإذا كان كذلك فكيف تسلكها الملائكة؟ .

ص: 388

فالجواب: أن الملائكة أرواح.

وأيضاً قال المبرِّد: معنى طباقاً، أي: متوازية لا أنها متماسة.

وقرا الحسنُ: «خلَق الله سبعَ سماواتٍ طِباقاً» على سبع أرضين بين كل أرض وأرض وسماء خلق وأمر.

وقوله: {أَلَمْ تَرَوْاْ} ، على جهة الإخبار، لا المعاينة كما تقول: ألمْ ترنِي كيف صنعتُ بفلان كذا، و «طِبَاقاً» نصب على أنه مصدر طابقه طباقاً، أو حال بمعنى:«ذات طباقٍ» ، فحذف «ذات» وأقام «طِباقاً» مقامه، وتقدم الكلامُ عليه في سورة «الملك» .

وقال مكيّ: وأجاز الفرَّاء في غير القرآنِ جر «طِباق» على النعت ل «سماوات» .

يعني أنه يجوز أن يكون صفة للعدد تارة وللمعدود أخرى.

قوله: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} ، أي: في السماوات، والقمر إنَّما هو في سماءٍ واحدةٍ منهن قيل: هو في السماء الدنيا، وإنَّما جاز ذلك لأن بين السماواتِ ملابسة فصح ذلك، وتقول: زيد في المدينة، وإنَّما هو في زاوية من زواياها.

وقال ابن كيسانِ: إذا كان في إحداهنَّ فهو فيهنَّ.

وقال قطرب: «فِيهِنَّ» بمعنى: «مَعهُنَّ» .

وقال الكلبيُّ: أي: خلق الشمس والقمر مع خلق السماوات والأرض.

وقال جُلُّ أهل اللغةِ في قول امرىء القيس: [الطويل]

4881 -

وهَلْ يَنعَمَنْ مَنْ كَانَ آخِرُ عَهدِهِ

ثَلاثِينَ شَهْراً في ثلاثةِ أحْوالِ

«في» بمعنى: «مَعَ» .

وقال النحاس: سألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية. فقال: جوابُ النحويين: أنه إذا جعله في إحداهن، فقد جعله فيهن، كما تقول: أعطني الثيابَ المعلمة، وإن كنت إنما أعلمت أحدها.

وجواب آخر: أنه يروى أنه وجه القمر إلى داخل السماء، وإذا كان إلى داخلها فهو متصل بالسماوات، ومعنى:«نُوْراً» ، أي: لأهل الأرض، قاله السدي.

ص: 389

وقال عطاءُ: نورٌ لأهل السماوات والأرض.

وقال ابن عباس وابن عمر: وجهه يضيء لأهل الأرض، وظهره يضيء لأهل السماء.

قوله: {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} .

يحتمل ان يكون التقدير: وجعل الشمس فيهن - كما تقدم - والشمس، قيل: في الرابعة، وقيل: في الخامسة، وقيل: في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة والله أعلم.

وقوله: «سِراجَاً» . يعني مصباحاً لأهل الأرض، ليتوصلوا إلى التصرف لمعايشهم، وفي إضاءتها لأهل السماء، القولان الأولان، حكاه الماورديُّ.

وحكى القشيريُّ عن ابن عباسٍ: أن الشمس وجهه في السماوات وقفاه في الأرض.

وقيل: على العكس.

وقيل لعبد الله بن عمر: ما بالُ الشمس تقلينا أحياناً وتبرد علينا أحياناً؟ .

فقال: إنَّها في الصيف في السماء الرابعة، وفي الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمنِ، ولو كانت في السَّماء الدنيا، لما قام لها شيء.

ولما كانت الشمس سبباً لزوال الليلِ وهو ظل الأرض أشبهت السِّراجَ، وأيضاً فالسراجُ له ضوءٌ والقمرُ له نورٌ، والضوء أقوى من النور، فجعل للشمس كما قال {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} [يونس: 5] .

قوله: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} . يعني آدمَ عليه الصلاة والسلام ُ - خلقه من أديم الأرض كلِّها، قاله ابن جريج. وقد تقدم بيانه.

و «نَبَاتاً» . إما مصدر ل «أنبت» على حذف الزوائد، ويسمى اسم مصدر، لأن مصدر «أنْبَتَ» «إنباتاً» فجعل الاسم الذي هو النباتُ في موضع المصدر وإمَّا ب «نَبَتُّمْ» مقدراً، أي:«فَنَبَتُّمْ نَبَاتاً» ، فيكون منصوباً بالمضارع المقدر.

قال الزمشخريُّ: أو نصب ب «أَنْبَتَكُمْ» لتضمنه معنى: «نَبَتُّمْ» .

قال أبو حيَّان: ولا أعقل معنى هذا الوجه بالثاني.

قال شهابُ الدين: هذا الوجه المتقدم، وهو أنه منصوب ب «أَنْبَتَكُمْ» على حذف

ص: 390

الزوائد ومعنى قوله: لتضمنه معنى «نَبَتُّمْ» ، أي: مشتمل عليه، غاية ما فيه أنه حذفت زوائدهُ.

قال القرطبيُّ: «وقال الخليلُ والزجاجُ: إنه محمول على المعنى، لأن معنى» أنْبتَكُم «جعلكم تنبتون نباتاً.

وقيل: معناه أنبت لكم من الأرض النبات، ف» نَبَاتاً «على هذا نصب على المفعول الصريح، والأول أظهر» .

قال ابن بحر: أنبتكم في الأرض بالكبر بعد الصغر، وبالطول بعد القصر، ثم يعيدكم فيها، أي عند موتكم بالدفن {وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} بالنشور والبعث يوم القيامة.

والإنبات: استعارة بليغة، قيل: المراد أنبت أباكم.

وقيل: المراد أنبت الكلَّ لأنهم من النطف، وهي من الأغذية التي أصلها الأرض، وهذا كالتفسير لقوله:{خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً} ، ثم قال:{ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} ، وهذا إشارة إلى الطريقة المعهودة في القرآن، من أنه تعالى لما كان قادراً على الابتداء، فهو قادر على الإعادة، وقوله:{وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} ، أكده بالمصدر فإنه قال: يخرجكم حتماً لا محالة.

قوله: {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً} ، أي: مبسوطة.

{لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً} أي: طرقاً واسعة، والسُّبُل: الطرقُ، والفجاجُ: جمع فجٍّ، وهو الطريق الواسعة، قاله الفراءُ.

وقيل: الفَجُّ: المسلك بين الجبلين، وفي «الأنبياء» ، قدَّم الفجاج لتناسب الفواصل. وقد تقدم الكلام على ذلك.

ص: 391

ذكر أولاً أنهم عصوا ثم ذكر أنهم ضموا إلى عصيانه طاعة رؤسائهم الذين يدعونهم إلى الكفر، إنما زادهم أموالهم، وأولادهم خساراً؛ لأنهم سبب لخسارة الآخرة، والدنيا في جنب الآخرة كالعدم، فإذا خسرت الآخرة بسببها كانت كاللُّقمةِ من الحلوى مسمومة؛ ولذلك قال جماعة: ليس لله على الكافر نعمة، وإنَّما هي استدراج للعذابِ.

قال المفسِّرون: لبث فيهم نوحٌ عليه السلام كما أخبر الله تعالى ألف سنةٍ إلاِّ خمسين عاماً داعياً لهم وهم على كفرهم وعصيانهم.

قال ابنُ عباس: دعا نوحٌ الأبناءَ بعد الآباءِ، فكان الآباءُ يأتون بأولادهم إلى نوح عليه الصلاة والسلام ُ - ويقولون لأبنائهم: إياكم وأن تطيعوا هذا الشيخ؛ فيما يأمركم به، حتى بلغوا سبع قرونٍ، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم، ولبث بعد الطوفان ستين عاماً، حتى كثر الناس وفشوا.

قال الحسن: كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين، حكاه الماورديُّ.

قوله «وولده» قرأ أهل «المدينة» و «الشام» وعاصم: «وَوَلَدُه» بفتح اللام والواو.

والباقون: «وَوُلْدُهُ» بضم الواو وسكون اللام، وقد تقدم أنهما لغتان ك «بَخَل وبُخْل» .

قال أبو حاتم: ويمكن أن يكون المضموم جمع المفتوح ك «خَشَب وخُشْب» .

وأنشد لحسَّانٍ: [الكامل]

4882 -

يَا بِكْرَ آمنةَ المُباركِ وُلْدُهَا

مِنْ وُلدِ مُحْضنةٍ بِسعْدِ الأسْعَدِ

قوله: {وَمَكَرُواْ} ، عطف على صلة «من» لأن المتبوعين هم الذين مكروا.

{وَقَالُواْ} للإتباع: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} ، وإنَّما جمع الضمير حملاً على المعنى، بعد حملها على لفظها في {لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ} ، يجوز أن يكون مستأنفاً إخباراً عن الكفار.

قوله «كُبَّاراً» ، العامة: على ضم الكاف وتشديد الباء، وهو بناء مبالغة أبلغ من «كُبَار» بالضم والتخفيف.

قال عيسى: وهي لغةٌ يمانية؛ وأنشد: [الكامل]

4883 -

والمَرْءُ يُلحِقُهُ بِفِتْيانِ النَّدى

خُلقُ الكَريمِ وليْسَ بالوُضَّاءِ

ص: 392

وقول الآخر: [الكامل]

4884 -

بَيْضَاءُ تَصْطادُ الغَوِيَّ وتَسْتَبِي

بالحُسْنِ قَلْبَ المُسْلِمِ القُرَّاءِ

ويقال: رجل طُوَّال، وجميل، وحُسَّان، وعظيم، وعُظَّام.

وقرأ ابن عيسى وابن محيصن وأبو السمال وحميد ومجاهد: بالضم والتخفيف، وهو بناء مبالغة أيضاً دون الأول.

وقرأ زيد بن علي وابن محيصن أيضاً: بكسر الكاف وتخفيف الباء.

قال أبو بكر: هو جمع كبير، كأنه جعل «مَكْراً» ، مكان «ذُنُوب» ، أو «أفاعيل» يعني فلذلك وصفه بالجمع.

فصل في المقصود بالمكر في الآية

قيل مكرهم: هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح.

وقيل: هو تعزيزهم الناس بما أوتوا من الدنيا، والولد، حتى قالت الضعفة: لولا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النِّعمَ.

وقال الكلبيُّ: هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد، وهذا بعيد، لأن هذا إنما قاله النصارى وهم بعد قوم نوح عليه السلام بأزمان متطاولة.

وقال مقاتل: هو قول كبرائهم لأتباعهم: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} ، فمنعوا القوم عن التوحيد وأمروهم بالشرك، واعلم أنه لما كان التوحيد أعظم المراتب، لا جرم كان المنعُ منه أعظم الكبائر، فلهذا وصفه اللَّهُ تعالى بأنه كبار.

قال ابن الخطيب: وإنَّما سماه مكراً لوجهين:

الأول: لما في إضافة الآلهة إليهم من الحيل الموجبة، لاستمرارهم على عبادتها؛ لأنها معبود آبائهم، فلو قبلتم قول نوحٍ لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين، وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك، ولما كان اعتراف الإنسانِ على نفسه وعلى أسلافه بالقصور والنقص والجهل بهذه الكلمة وهي لفظة «آلهتكم» وصدفكم عن الدين؛ فلهذه الحجة الخفية سمّى الله كلامهم مكراً.

ص: 393

الثاني: أنه تعالى حكى عن المتبوعين أنهم كان لهم مال وولد، فلعلهم قالوا لأتباعهم: إن آلهتكم خير من إله نوح؛ لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد، وإله نوح [لا يعطيه شيئاً لأنه فقير] فصرفوهم بهذا المكر عن طاعة نوح، وهو مثل مكر فرعون إذ قال:{أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} [الزخرف: 51]، وقوله {أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ} [الزخرف: 52، 53] .

قوله: {وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً} [نوح: 23] يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام، إن قيل: إن هذه الأسماء لأصنام، وألا يكون إن قيل: إنها أسماء رجال صالحين على ما ذكر المفسِّرون.

وقرأ نافع: «وُدّاً» بضم الواو، والباقون: بفتحها.

وأنشد بالوجهين قول الشاعر: [البسيط]

4885 -

حَيَّاكَ وُدٌّ فإنَّا لَا يَحِلُّ لَنَا

لَهْوُ النِّساءِ، وإنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا

وقول الآخر: [الطويل]

4886 -

فَحيَّاكَ وُدُّ مَنْ هداكَ لعِسِّهِ

وخُوص بأعْلَى ذِي فَضالة هجِّه

قال القرطبي: قال الليث: «وَدٌّ» - بفتح الواو - صنم كان لقوم نوح، و «وُدّ» - بالضم - صنم لقريش، وبه سمي عمرو بن عبد ود.

وفي الصحاح: «والوَدُّ» بالفتح: الوتد في لغة أهل نجد، كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال. والود في قول امرىء القيس:[الرمل]

4887 -

تُظْهِرُ الوَدَّ إذَا مَا أشْجَذتْ

وتُواريهِ إذَا ما تَشْتَكِرْ

قال ابن دريدٍ: هو اسم جبلٍ.

و «ود» : صنم كان لقوم نوح عليه الصلاة والسلام ُ - ثم صار لكلب، وكان بدومةِ الجَندلِ، ومنه سموا بعبد ودّ.

قوله: {وَلَا يَغُوثُ وَيَعُوقَ} . قرأهما العامة بغير تنوين، فإن كانا عربيين: فالمنع من الصرف للعلمية والوزن، وإن كانا أعجميين: فالعجمة والعلمية.

ص: 394

وقرأ الأعمش: «ولا يغوثاً ويعوقاً» مصروفين.

قال ابن عطية: «وذلك وهم، لأن التعريف لازم ووزن الفعل» . انتهى.

قال شهاب الدين: وليس بوهم لأمرين:

أحدهما: أنه صرفهما للتناسب إذ قبلهما اسمان مصروفان وبعده اسم مصروف كما صرف «سَلاسِل» .

والثاني: أنه جاء على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقاً، وهي لغة حكاها الكسائي، ونقل أبو الفضل: الصرف فيهما عن الأشهب العقيلي، ثم قال: جعلهما «فعولاً» ، فلذلك صرفهما، فأما في العامة: فإنهما صفتان من الغوثِ والعوقِ.

قال شهاب الدين: «وهذا كلامٌ مشكلٌ، أما قوله:» فعولاً «فليس بصحيح، إذ مادة يغث ويعق مفقودة، وأما قوله: صفتان من الغوث والعوق، فليس في الصفات ولا في الأسماء» يفعل «والصحيح ما قدمته» .

وقال الزمخشريُّ: وهذه قراءة مشكلة لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين، ففيهما المنع من الصرف، ولعله وجد الازدواج، فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات: ودّاً وسواعاً ونسراً، كما قرىء {وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواجِ.

قال أبو حيَّان: كأنه لم يطلع على أن صرف ما لا ينصرف لغة.

فصل في بيان هذه الأسماء.

قال ابن عبَّاس وغيره: وهي أصنامٌ، وصور كان قوم نوحٍ يعبدونها، ثم عبدتها العربُ، وهذا قول الجمهورِ.

وقيل: إنَّها للعربِ لم يعبدها غيرهم، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم، فلذلك خصُّوا بالذكر بعد قوله:{لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً} .

وقال عروة بن الزبير: اشتكى آدمُ عليه الصلاة والسلام ُ - وعند بنوه: ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر، وكان ود أكبرهم، وأبرّهم به.

ص: 395

قال محمد بن كعب، كان لآدمَ خمس بنينَ: ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر، وكانوا عُبَّاداً، فمات رجل منهم فحزنوا عليه، فقال الشيطان: أنا أصور لكم مثله، إذا نظرتم إليه ذكرتموه، قالوا: افعل، فصوّره في المسجدِ، من صفر ورصاصٍ، ثم مات آخرُ، فصوره حتى ماتوا كلُّهم، وصوروهم وتناقصت الأشياءِ كما ينقص اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين، فقال لهم الشيطان: ما لكم لا تعبدون شيئاً؟ .

قالوا: وما نعبدُ؟

قال آلهتكم وآلهة آبائكم، ألا ترونها في مصلاكم؟ فعبدوها من دون الله، حتى بعث الله نوحاً، فقالوا:{لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً} الآية.

وقال محمد بن كعبٍ أيضاً ومحمد بن قيس: بل كانوا قوماً صالحين، بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا زيَّن لهم إبليس أن يصوروا صورهم؛ ليتذكروا بها اجتهادهم، وليتسلوا بالنظر إليها فصوّروهم، فلما ماتوا هم وجاء آخرون قالوا: ليت شعرنا، وما هذه الصورُ التي كان يعبدها آباؤنا؟ فجاءهم الشيطان فقال: كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر، فعبدوها فابتدىء عبادة الأوثان من ذلك الوقت.

وبهذا المعنى فسر ما جاء في الصحيحين من حديث عائشةَ: «أنّ أم حبيبةَ وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة، تسمى مارية فيها تصاوير لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:» إنَّ أولئِكَ كَانَ إذَا مَاتَ فيهِم الرَّجلُ الصَّالحُ، بَنَوا على قَبْرهِ مَسْجداً، ثُمَّ صوَّرُوا فِيْهِ تِلكَ الصُّورَ أولئك شِرارُ الخَلقِ عند اللَّهِ يَوْمَ القِيَامةِ «

وذكر الثعلبيُّ عن ابن عباس قال: هذه الأصنام أسماء رجال صالحين، من قوم نوح فلمَّا هلكوا أوحى الشيطانُ إلى قومهم أن ينصبوا في مجالسهم أنصاباً، ويسمونها بأسمائهم

وهذا بعيدٌ، لأن نوحاً عليه الصلاة والسلام ُ - هو الآمرُ لهم بتركها وذلك يدل على أنَّهم كانوا قبل نوحٍ، حتى أرسلَ نوحٌ إليهم.

وروي عن ابن عباس: أنَّ نوحاً عليه الصلاة والسلام ُ - كان يحرس جسد آدمَ عليه الصلاة والسلام ُ - على جبل الهند فيمنع الكافرينَ أن يطوفوا بقبره، فقال لهم الشيطانُ: إن هؤلاء، يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم، وإنما هو جسد،

ص: 396

وأنا أصوّر لكم مثله تطوفون به، فصوَّر لهم هذه الأصنام الخمسة، وحملهم على عبادتها، فلمَّا كان أيام الطوفانِ دفنها الطين، والتراب، والماء، فلم تزل مدفونة حتى أخرجها الشيطانُ لمشركي العرب وكانت للعربِ أصنام أخر، فاللات كانت لقديد، وأساف ونائلة وهبل، لأهل مكة.

قال الماورديُّ: فما» ود «فهو أول صنم معبود سمي» ودّاً «لودهم له، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومةِ الجندلِ، على قول ابن عباس وعطاء ومقاتل؛ وفيه يقول شاعرهم:[البسيط]

4888 -

حَيَّاكَ وُدٌّ فإنَّا لا يحلُّ لَنَا

لَهْوُ النِّساءِ وإنَّ الدِّينَ قَدْ عَزَمَا

وأما» سُواع «فكان لهذيل بساحل البحر في قولهم.

وقال ابن الخطيب:» وسُواع لهمدَان «.

وأما» يَغُوثُ «فكان لقطيف من مراد بالجوف من سبأ، في قول قتادة.

وقال المهدويُّ: لمراد ثم لغطفان.

وقال الثعلبيُّ: واتخذت - أعلى وأنعم - وهما من طيىء، وأهل جرش من مذحج يغوث، فذهبوا به إلى مراد، فعبدوه زماناً، ثُمَّ بَنِي ناجية، أرادوا نزعه من» أنعم «ففروا به إلى الحصين أخي بني الحارث بن كعب بن خزاعة.؟

وقال أبو عثمان المهدويُّ: رأيت» يغُوث «وكان من رصاص، وكانوا يحملونه على جمل أجرد، ويسيرون معه ولا يهيجونه، حتى يبرك بنفسه، فإذا برك نزلوا، وقالوا: قد رضي لكم المنزل فيه فيضربون عليه بناء، وينزلون حوله.

وأما» يعوق «فكان لهمدان ببلخ، في قول عكرمة وقتادة وعطاء، ذكره الماورديُّ.

وقال الثعلبيُّ: وأما» يعوق «فكان لكهلان من سبأ، ثم توارثه بنوه الأكبر فالأكبر، حتى صار في الهمداني.

وفيه يقول غط الهمداني: [الوافر]

4889 -

يَرِيشُ اللَّهُ في الدُّنيَا ويَبْرِي

ولا يَبْرِي يعُوقُ ولا يَرِيشُ

وقيل: كان «يَعُوق» لمراد؛ وأما «نَسْر» ، فكان لذي الكلاع من حمير، في قول قتادة ومقاتل.

وقال الواقدي: كان «ودّ» على صورة رجلٍ، و «سُواع» على صورة امرأة،

ص: 397

و «يَغُوث» على صورة أسد، و «يعوق» على سورة فرس، و «نَسْر» على سورة نسر من الطير، والله أعلم. قوله:{وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً} ، أي: الرؤساء فهو عطف على قوله: {وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً} ، أو الأصنام، وجمعهم جمع العقلاءِ، معاملة لهم معاملة العقلاء لقوله تعالى:{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس} [إبراهيم: 36] .

قوله: {وَلَا تَزِدِ الظالمين} . عطف على قوله: {رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} [على حكاية كلام نوح بعد «قال» وبعد الواو النائبة عنه، أي قال: إنهم عصوني]، وقال:«لا تَزِد» ، أي: قال هذين القولين، فهما في محل نصب، قاله الزمخشريُّ. قال:«كقولك: قال زيد نودي للصلاة، وصلِّ في المسجد يحكي قوليه، معطوفاً أحدهما على صاحبه» .

وقال أبو حيَّان: «ولا تَزِد» معطوف على «قَدْ أضلُّوا» لأنها محكية ب «قَالَ» مضمرة، ولا يشترط التناسب في الجمل المتعاطفة، بل تعطف خبراً على طلب، وبالعكس خلافاً لمن اشترط ذلك.

فصل في معنى «إلا ضلالاً»

معنى قوله: {إِلَاّ ضَلَالاً} .

قال ابن بحر: أي إلا عذاباً، لقوله تعالى:{إِنَّ المجرمين فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] .

وقيل: إلَاّ خسراناً.

وقيل: إلَاّ فتنة بالمال.

قوله: {مِّمَّا خطيائاتهم} . «مَا» مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد، ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة، وجعل «خَطِيئَاتهِم» بدلاً وفيه تعسف.

وتقدم الخلاف في قراءة «خَطِيئاتِهِم» في «الأعراف» .

وقرأ أبو رجاء: «خطيّاتهم» جمع سلامة إلَاّ أنه أدغم الياء في الياء المنقلبة عن الهمزة.

وقال أبو عمرو: قوم كفروا ألف سنةٍ فلم يكن لهم إلَاّ خطيَّات، يريد أنَّ الخطايا أكثر من الخطيَّات.

وقال قوم: خطايا وخطيات، جمعان مستعملان في القلة، والكثرة، واستدلوا بقول الله تعالى:{مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} [لقمان: 27] .

ص: 398

وقال الشاعر: [الطويل]

4890 -

لَنَا الجَفنَاتُ الغُرّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى

وأسْيَافُنَا يَقْطُرنَ مِنْ نَجْدةٍ دَمَا

وقرأ الجحدريُّ وتروى عن أبيِّ «خطيئتهم» بالإفراد، والهمز.

وقرأ عبد الله «مِنْ خَطيئاتِهم مَا أغْرِقُوا» ، فجعل «ما» المزيدة بين الفعلِ وما يتعلق به.

و «من» للسببية تتعلق ب «أغْرقُوا» .

وقال ابنُ عطية: لابتداء الغايةِ، وليس بواضح.

وقرأ العامةُ: «أغرقوا» من «أغرق» .

وزيد بن علي: «غُرِّقُوا» بالتشديد.

وكلاهما للنقل، تقول:«أغرقت زيداً في الماء، وغرَّقته به» .

فصل في صحة «عذاب القبر»

قال ابن الخطيب: دل قوله: {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} ، على إثبات عذاب القبر لأنه يدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق، ولا يمكن حمل الآية على عذاب الآخرة وإلَاّ بطلت دلالة هذه الفاء، وأيضاً فقوله «فأدْخِلُوا» يدل على الإخبار عن الماضي، وهذا إنَّما يصدق لو وقع ذلك، وقال مقاتل، والكلبيُّ: معناه أنهم سيدخلون في الآخرة ناراً، ثم عبر عن المستقبل بلفظ الماضي؛ لصدق وقوع وعده كقوله:{ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44] .

قال ابن الخطيب: وهذا ترك للظاهر، من غير دليل، فإن قيل: إنما تركنا الظاهر لدليل، وهو أن من مات في الماء، فإنا نشاهده هناك، فكيف يمكن أن يقال: إنهم في تلك الساعة أدخلوا ناراً؟ فالجواب: إن هذا الإشكال، إنَّما جاء لاعتقاد أنَّ الإنسان هو مجموعُ هذا الهيكل، وهذا خطأ لأن الإنسان هو الذي كان موجوداً من أول عمره، مع أنَّه كان صغير الجثَّة في أول عمره، ثم إن أجزاءه دائماً في التحلل والذوبان، ومعلوم أن الباقي غير المتبدل، فهذا الإنسانُ عبارة عن ذلك الشيء الذي هو باقٍ، من أول عمره إلى الآن، فلمَ لا يجوز أن يقال: نقل الأجزاء الباقية الأصلية التي في الإنسان عبارة عنها إلى النار وإلى العذاب.

ص: 399

ونقل القرطبيُّ عن القشيري أنه قال: هذه الآية تدل على عذاب القبرِ، ومنكروه يقولون: صاروا مستحقين دخول النار، أو عرض عليهم أماكنهم من النار، كقوله تعالى:{النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46] .

وقيل: أشار إلى ما في الخبر من قوله: «البحرُ نارٌ في نارِ» .

وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى: {أَغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} ، قال: يعني عذبوا بالنار في الدنيا في حالة واحدة، كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب. ذكره الثعلبي.

وأنشد ابن الأنباري: [البسيط]

4891 -

الخَلْقُ مُجتمِعٌ طَوْراً ومُفْتَرِقٌ

والحَادثَاتُ فُنونٌ ذاتُ أطوَارِ

لا تَعْجَبنَّ لأضْدادٍ قَد اجْتمَعَتْ

فاللَّهُ يَجْمَعُ بينَ المَاءِ والنَّارِ

قال المعربون: «فأدخلُوا» يجوز أن يكون من التعببير عن المستقبل بالماضي، لتحقق وقوعه كقوله:{أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] ، وأن يكون على بابه، والمراد عرضهم على النَّار في قبورهم كقوله في آل فرعون:{النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46] .

قوله: {فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً} ، أي: من يدفع عنهم العذاب، وهذا يدل على أنهم إنما عبدوا تلك الأصنام لتدفع عنهم الآفاتِ، وتجلب المنافع إليهم فلما جاءهم العذاب لم ينتفعوا بتلك الأصنام، ولم يدفعوا عنهم العذاب وهو كقوله تعالى:{أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا} [الأنبياء: 43] .

{وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} .

قال الزمخشريُّ: «ديَّاراً» من الأسماء المستعملة في النفي العام، يقال: ما بالدار ديار وديور، كقيَّام وقيُّوم، وهو «فَيْعَال» من الدارة أصله:«ديْوَار» ففعل به ما فعل بأصل «سيِّد وميِّت» ولو كان «فَعَّالاً» لكان «دوَّاراً» انتهى.

يعني أنه كان ينبغي أن تصح واوهُ ولا تقلب ياء، وهذا نظير ما تقدم له من البحث في «مُتَحيِّز» وأن أصله:«مُتَحَيْوز» لا «مُتَفعِّل» إذ كان يلزم أن يكون «متحوِّزاً» لأنه من «الحَوْز» ويقال فيه أيضاً: «دَوَّار» نحو «قيَّام وقوَّام» .

وقال مكيٌّ: وأصله «ديْوَار» ثم أدغموا الواو في الياء مثل «ميِّت» أصله «ميْوِت» ثم أدغموا الثاني في الأول، ويجوز أن يكون أبدلوا من الواو ياء، ثم أدغموا الياء الأولى في الثانية.

ص: 400

قال شهاب الدين: قوله أدغموا الثاني في الأول، هذا لا يجوز؛ إذ القاعدة المستقرة في المتقاربين قلب الأول لا الثاني، ولا يجوز العكسُ إلا شذوذاً أو لضرورة صناعية، أما الشذوذ فكقوله:{واذَّكَرَ} [يوسف: 45] بالذال المعجمة، و {فهل من مُذَّكر} [القمر: 15] بالذال المعجمة أيضاً وأما الضرورة الصناعية فنحو: امدح هذا، لا تقلب الهاء حاء، لئلا يدغم الأقوى في الأضعف وهذا يعرفه من عانى التصريف، والديار: نازل الدار، يقال: ما بالدار ديار، وقيل: الديار صاحب الدار.

وقال البغويُّ: «الدَّيارُ يعني أحداً يدور في الأرض، فيذهب ويجيء» فعَّال «من الدوران» .

فصل في دعاء نوح على قومه

لما أيس نوح عليه الصلاة والسلام ُ - من أتباعهم إياه دعا عليهم.

قالت قتادة: دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَاّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] ، فأجاب الله دعوته وأغرق أمته، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم َ:«اللَّهُمَّ مُنزِلَ الكتابِ هَازِم الأحزابِ، اهْزمهُم وزلْزلهُمْ» .

وقيل: سبب دعائه أنَّ رجلاً من قومه حمل ولداً صغيراً على كتفهِ فمرَّ بنوحٍ، فقال: احذر هذا فإنه يضلك، فقال: يا أبتِ، أنزلني فأنزله فرماه فشَجَّه، فحينئذ غضب ودعا عليهم.

وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد: إنَّما قال هذا، حين أخرج اللَّهُ كلَّ مؤمنٍ من أصلابهم وأرحام نسائهم، وأعقم أرحام أمهاتهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة، وقيل: بسبعين سنة، فأخبر اللَّهُ نوحاً أنهم لا يؤمنون، ولا يلدون مؤمناً كما قال تعالى:{أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَاّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] ، فحنيئذ دعا عليهم نوحٌ، فأجاب اللَّهُ دعاءَ فأهلكهم كلَّهم، ولم يكن فيهم صبي وقت العذابِ، لأن الله تعالى قال:{وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل أَغْرَقْنَاهُمْ} [الفرقان: 37] . ولم يوجد التكذيب من الأطفال.

فصل في بيان أنه لا يدعى على كافر معين

قال ابن العربي: دعا نوح على الكافرين أجمعين ودعا النبي صلى الله عليه وسلم َ على من تحزب على المؤمنين وألّبَ عليهم، وكان هذا أصلاً في الدعاء على الكافرين في الجملة فأمَّا

ص: 401

كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه؛ لأن مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم َ بالدعاء على عُتبةَ وشَيبَةَ وأصحابه لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم. والله أعلم.

قوله: {رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ} .

العامة: على فتح الدال على أنه تثنية والد؛ يريد: أبويه.

واسم أبيه: لملك بن متوشلخ، واسمه أمه: شمخى بنت أنوش، وكانا مؤمنين.

وحكى الماورديُّ: اسم أمه: منجل.

وقرأ الحسن بن علي رضي الله عنهما ويحيى بن يعمر والنخعيُّ: ولولدي، تثنية ولد يعني: ابنيه ساماً وحاماً.

وقرأ ابن جبير والجحدري: «ولوالدِي» - بكسر الدال - يعني أباه.

فيجوز أن يكون أراد أباه الأقرب الذي ولده، وخصَّه بالذَّكر لأنه أشرف من الأم، وأن يريد جميع من ولده من لدن آدم إلى زمن من ولده.

قال الكلبيُّ: كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمن.

وذكر القرطبي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما الصلاة والسلام.

قوله {وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} .

قال ابن عباس رضي الله عنه: أي: مسجدي ومصلاي، «مُؤمِناً» ، أي: مُصدِّقاً بالله، ف «مُؤمِناً» حال، وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن بهم، فجعل المسجد سبباً للدعاء بالمغفرة.

وقيل: المراد بقوله «بيتي» ، أي: سفينتي.

وقال ابن عباس: أي: دخل في ديني.

فإن قيل: فعلى هذا يصير قوله: «مُؤمِناً» مكرراً.

فالجواب: إنَّ من دخل في دينه ظاهراً قد يكون مُؤمناً، وقد لا يكون مؤمناً، فالمعنى: ولمن دخل دخولاً مع تصديق القلبِ.

ص: 402

قوله: {وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات} ، خصَّ نفسه أولاً بالذكر والدعاء، ثم المتصلين به لأنَّهم أولى، وأحق بدعائه، ثم عمَّ المؤمنين، والمؤمناتِ إلى يوم القيامة، قاله الضحاك.

وقال الكلبيُّ: من أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم َ.

وقيل: من قومه، والأول أظهر، ثم ختم الكلام مرةً أخرى بالدعاءِ على الكافرين [فقال:{وَلَا تَزِدِ الظالمين إِلَاّ تَبَاراً} ، أي: هلاكاً، ودماراً، والمراد بالظالمين: الكافرين] فهي عامة في كل كافر ومشرك.

وقيل: أراد مشركي قومه، و «تَبَاراً» مفعول ثاني، والاستثناءُ مفرغ، والتبار: كل شيء أهلك فقد تبر، ومنه قوله تعالى:{إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} [الأعراف: 139] .

وقيل: التَّبارُ الخُسران.

قال المفسّرون: فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم.

روى الثعلبيُّ عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ نُوحٍ، كَانَ مَنَ المُؤمِنْينَ الَّذينَ تُدركُهمْ دَعْوَة نُوحٍ عليه السلام» .

ص: 403

سورة الجن

ص: 404

مكية، وهي ثمان وعشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة وثمانمائة وسبعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله:{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ} ، هذه قراءةُ العامة، أعني كونها من «أوْحَى» رباعياً.

وقرأ العتكي عن أبي عمرو وابن أبي عبلة وأبو إياس: «وَحَى» ثلاثياً.

وهما لغتان، يقال: وَحَى إليه كذا وأوحى إليه بمعنى واحد، فقلبت الواو همزة،

ص: 404

ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] ؛ وأنشد العجاج: [الرجز]

4892 -

وحَى لَهَا القَرارَ فاسْتَقَرَّتِ

وقرأ زيد بن علي والكسائي في رواية وابن أبي عبلة أيضاً: «أُحي» بهمزة مضمومة لا واو بعدها، وخرجت على أن الهمزة بدلٌ من الواو المضمومة، نحو «أعد» في «وَعَد» فهذا فرع قراءة «وَحَى» ثلاثياً.

قال الزمخشريُّ: وهو من القلب المطلق جواباً في كل واو مضومة، وقد أطلقه المازنيُّ في المكسورة أيضاً: ك «إشاح، وإسادة» ، و «إعاء أخيه» [يوسف: 76] .

قال أبو حيَّان: وليس كما ذكر بل في ذلك تفصيل، وذلك أن الواو المضمومة قد تكون أولاً، وحشواً، وآخراً، ولكل منها أحكام، وفي بعض ذلك خلاف، وتفصيل مذكور في كتب النحو. وتقدم الكلام في ذلك مشبعاً في أول الكتاب.

ثم قال أبو حيَّان بعدما تقدم عن المازنيِّ: وهذا تكثير وتبجح.

قوله: {أَنَّهُ استمع} ، هذا هو القائمُ مقام الفاعل لأنَّه هو المفعول الصريحُ، وعند الكوفيين والأخفش يجوز أن يكون القائمُ مقامه الجار، والمجرور، فيكون هذا باقياً على نصبه، والتقدير: أوحي إليَّ استماع نفرٍ «من الجن» صفة ل «نَفَر» .

فصل في تفسير الآية

قال ابن عباس وغيره: قل يا محمد لأمَّتك أوحِيَ إليَّ على لسانِ جبريل، أنَّه استمع نفرٌ من الجنِّ، والنَّفرُ: الجماعةُ ما بين الثلاثة إلى العشرة، واختلفوا، هل رآهم النبي صلى الله عليه وسلم َ أم لا؟ .

فظاهرُ القرآن يدل على أنَّه لم يرهم لقوله تعالى: {أَنَّهُ استمع} ، وقوله:{وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن} [الأحقاف: 29] .

وفي صحيح مسلم، والترمذي عن ابن عباسٍ قال: انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشيطان، وبين خبر السماء، وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطينُ إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ .

فقالوا: حِيْلَ بيننا وبين خبر السماءِ، وأرسلت علينا الشهب قالوا: ما ذلك إلا من شيء حدث، فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها، فمرَّ النفرُ الذين أخذوا نحو «تهامة» وهو وأصحابه بنخلة قاصدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه الفجر فلمَّا سمعوا

ص: 405

القرآن قالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} فأنزل الله على نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم َ {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن} الآية.

قال القرطبيُّ: وفي هذا الحديث دليلٌ على أنه صلى الله عليه وسلم َ لم يرَ الجنَّ ولكن حضروه وسمعوا قرآنه.

فإن قيل: الذين رموا بالشُّهب هم الشياطينُ والذين سمعوا القرآن هم الجنُّ، فما وجه الجمع؟ فالجواب من وجهين:

الأول: أنَّ الجن كانوا مع الشياطين، فلما رمي الشياطين أخذوا الجنَّ الذين كانوا منهم في تجسس الخبرِ.

الثاني: أن الذين رموا بالشهبِ كانوا من الجن، إلا أنهم قيل لهم: شياطين كما قيل: شياطين الإنس والجنِّ، فإنَّ الشيطان كل متمرد، وبعيد من طاعة الله تعالى.

قال ابن الخطيب رحمه الله: واختلف في أولئك الجنِّ الذين سمعوا القرآن من هم؟ .

فروى عاصم عن ذر قال: قدم رهطُ زوبعة وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم َ ثم انصرفوا، فذلك قوله تعالى:{وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن} .

وقيل: كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً وعامة جنود إبليس منهم.

وقيل: كانوا سبعة، ثلاثة من أرض «حرَّان» وأربعة من أرض «نَصِيبينَ» ،: قريِةٌ من قرى اليمن غير التي بالعراق رواه أيضاً عنهم عاصم عن ذر.

وقيل: إنَّ الجنَّ الذين أتوه بمكةَ جنُّ نصيبين، والذين أتوه بنخلة جنُّ نينَوى.

وقال عكرمةُ: كانوا اثني عشر ألفاً من جزيرة الموصل.

ومذهب ابن مسعود أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم َ أمر بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم ويدعوهم إلى الإسلام، روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال: «أمِرْتُ أن أتْلُوَ القُرآنَ على الجِنِّ فمَنْ

ص: 406

يَذْهَبُ مَعِي؟ فَسَكَتُوا، ثُمَّ قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم َ الثانية: ثُمَّ قال النبي صلى الله عليه وسلم َ الثالثة، فقلتُ: أنَا أذْهَبُ مَعَكَ يا رسُولَ اللَّهِ، فانطلقَ، حتى أتى الحَجُونَ عند شعب ابن أبي دب خط عليَّ خطّاً فقال: لا تجاوزه، ثُمَّ مضَى إلى الحَجُونِ فاتَّخَذُوا عليه أمْثَالَ الحجل كأنَّهُم رِجالُ الزُّطِّ، قال ابنُ الأثير في» النهاية «:» الزّطّ: قومٌ من السودان والهنود «يقرعون في دُفُوفهِمْ، كما تَقرَعُ النِّسوةُ في دُفُوفِها، حتَّى غشاهُ، فغَابَ عنْ بَصرِي، فقُمْتُ، فأوْمَأ بيدِه إليَّ أن اجْلِسْ ثُمَّ تلا القرآن صلى الله عليه وسلم َ فلم يزلْ صوتهُ يَرتفِعُ، ولصقوا في الأرضِ، حتَّى صِرْتُ لا أرَاهُمْ» .

وفي رواية أخرى، «قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ: مَنْ أنْتَ؟ .

قال صلى الله عليه وسلم َ: أنَا نَبِيٌّ، قالوا: فَمنْ يَشهَدُ لَكَ على ذَلِكَ؟ .

فقال الحبيب المجتبى صلى الله عليه وسلم َ: هذه الشَّجرةُ، تعالي يا شجرةُ فجَاءتْ تجرُّ عُروقهَا لها قعاقعُ، حتى انتصبتْ بين يديه صلى الله عليه وسلم َ فقال لها صلى الله عليه وسلم َ: على ماذا تشهدين فيَّ؟ .

فقالت أشْهَدُ أنَّك رسُولُ الله قال صلى الله عليه وسلم َ لها: اذْهَبِي، فَرجعَتْ فذهبت مكانها كَمَا جاءتْ، حتى صارتْ كما كانتْ.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: فلمَّا عاد إليَّ قال: أردت أن تأتيني، قلت: نعم يا رسول الله قال: مَا كَانَ ذلكَ لَكَ، قال: هؤلاءِ الجِنُّ أتَوا يَسْتمعُونَ القُرآنَ ثُمَّ ولَّوا إلى قَومِهِم مُنْذرينَ، فَسألُونِي الزَّادَ، فزوَّدتهُم العَظْمَ والبَعْرَ، فلا يَسْتطِيبنَّ أحدكُمْ بعَظْمٍ، ولا بَعْر» .

وفي رواية: «أنَّه صلى الله عليه وسلم َ لما فرغ وضع رأسهُ صلى الله عليه وسلم َ على حِجْرِ ابن مسعودٍ رضي الله عنه فرقد، ثُمَّ استيقظ صلى الله عليه وسلم َ فقال: هَلْ مِنْ وُضُوءٍ؟

قال: لا، إلَاّ أنَّ معي إداوة نبيذٍ، فقال صلى الله عليه وسلم َ: هَلْ هُو إلَاّ تمرٌ وماء» فَتوضَّأ مِنْهُ «.

ص: 407

قال ابن الخطيب: وطريقُ الجمع بين المذهبين مذهب ابن عباس ومذهب ابن مسعود من وجوه:

أحدها: لعل ما ذكره ابن عباس وقع أولاً فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورةِ، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روى ابن مسعود رضي الله عنهما.

وثانيها: أن بتقدير أن تكون واقعة الجن مرة واحدة إلا أنه صلى الله عليه وسلم َ ما رآهم، وما عرف أنَّهم ماذا قالوا، وأي شيءٍ فعلوا، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وكذا، وقالوا كذا.

وثالثها: أن الواقعة كانت مرة واحدة، وهو صلى الله عليه وسلم َ رآهم، وسمع كلامهم، وهم آمنوا به، ثم رجعوا إلى قومهم، قالوا لقومهم على سبيل الحكايةِ:{إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} وكان كذا وكذا فأوحى اللَّهُ تعالى إلى محمد صلى الله عليه وسلم َ ما قالوه لأقوامهم.

قال ابن العربي:» ابن مسعود أعرفُ من ابن عباس، لأنه شاهده، وابن عباس سمعهُ، وليس الخبرُ كالمعاينة «.

قال القرطبي: وقيل: إن الجنَّ أتوا النبي صلى الله عليه وسلم َ دفعتين.

أحدهما: بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود.

والثانية: بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس.

قال البيهقيُّ: الذي حكاه عبد الله إنما هو في أول ما سمعت الجنُّ قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم َ وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه عبد الله بن عباس ثم أتاه داعي الجنِّ مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود.

فصل في لفظ» قل «

قال ابن الخطيب: اعلم أنَّ قوله تعالى: قُلْ» أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم َ أن يظهر لأصحابه رضي الله عنهم ما أوحى إليه تعالى في واقعة الجنِّ، وفيه فوائد.

أحدها: أن يعرفوا بذلك أنه صلى الله عليه وسلم َ بُعث إلى الجن، كما بعث إلى الإنس.

وثانيها: أن تعلم قريش أنَّ الجنَّ مع تمردهم لما سمعُوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم َ.

ص: 408

وثالثها: أن يعلم القومُ أنَّ الجنَّ مكلفون كالإنس.

ورابعها: أن تعلم أنَّ الجنَّ يستمعون كلاماً تفهمه من لغتنا.

وخامسها: أن يظهر المؤمنُ منهم بدعوى غيره من الجنِّ إلى الإيمان، وفي هذه الوجوه مصالحُ كثيرة إذا عرفها الناس.

فصل في بيان أصل الجن

اختلف العلماءُ في أصل الجنِّ، فروى الحسنُ البصريُّ أنَّ الجنَّ ولد إبليس، والإنس ولد آدمَ - صلوات الله وسلامه عليه - ومن هؤلاء وهؤلاءِ مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثَّواب والعقاب، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرٌ فهو شيطانٌ، روى الضحاك عن ابن عباس أن: الجن هم ولد الجان، وليسوا شياطين ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين ولد إبليس، لا يموتون إلَاّ مع إبليس، وروي أن ذلك النفر كانوا يهوداً.

وذكر الحسن أنَّ منهم يهوداً ونصارى ومجوساً ومشركين.

فصل في دخول الجِنة الجَنة

اختلفوا في دخول الجنِّ الجنةِ على حسب الاختلاف في أصلهم، فمن زعم أنهم من الجانِّ لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنَّة بإيمانهم، ومن قال: إنهم من ذرية إبليس فله فيهم قولان:

أحدهما: وهو قول الحسن: يدخلونها.

الثاني: وهو قولُ مجاهد: لا يدخلونها

فصل فيمن أنكر الجن

قال القرطبيُّ: وقد أنكر جماعةٌ من كفرة الأطباءِ والفلاسفة: الجن، وقالوا: إنهم بسائط، ولا يصح طعامهم، اجتراء على الله والقرآن والسنة ترد عليهم، وليس في المخلوقات بسائط مركب من زوج، إنما الواحد سبحانه وتعالى، وغيره مركب، ليس بواحد كيفما تصرف حاله، وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى الله عليه وسلم َ في صورهم كما يرى الملائكة وأكثر ما يتصورون هنا في صور الحياتِ.

ففي الحديثِ: «أن رجلاً حديث عهدٍ بعرسٍ استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ بأنصاف النَّهارِ أن يرجع إلى أهله» الحديث.

وفيه: «فإذا حية عظيمة مطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها» وذكر الحديث.

ص: 409

وفي الحديث: «أنَّه صلى الله عليه وسلم َ قال:» إنَّ لهذه البيوتِ عوامر فإذا رأيتمْ منها شَيْئاً فحَرِّجُوا عليْها ثلاثاً، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر «

وقال:» اذهبوا فادفنوا صاحبكم «» .

وذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة كقوله في الصحيح: «إنِّ بالمدينة جنّاً قد أسْلمُوا» ، وهذه لفظ مختص بها فتختص بحكمها.

قال القرطبي: قلنا: هذا يدل على أنَّ غيرها من البيوت مثلها؛ لأنه لم يعلل بحرمة «المدينة» ؛ فيكونُ ذلك الحكمُ مخصوصاً بها وإنَّما علل بالإسلام وذلك عام في غيرها، ألا ترى قوله في الحديث مخبراً عن الجنِّ الذين لقي وكانوا من جنِّ الجزيرة وعضد هذا قوله:«ونَهَى عَن عوامِر البيوتِ» وهذا عام وقد مضى في سورة البقرة.

قوله تعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} ، أي: قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كقوله تعالى {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ} [الأحزاب: 37]، {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} [القصص: 29] {فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29] ، ووصف القرآن ب «عَجَباً» إما على المبالغة، أي: خارجاً عن حد أشكاله إما في فصاحة كلامه، وإما في بلاغة مواعظه، أو عجباً من عظم بركته، أو عزيزاً لا يوجد مثله وإما على حذف مضاف أي ذا عجب، وإمَّا بمعنى اسم الفاعل، أي: معجب. قوله «يَهْدِي» صفة أخرى، أي: هادياً.

{إِلَى الرشد} . قرأ العامةُ: «الرشد» بضمة وسكون، وابن عمر: بضمها وعنه أيضاً: فتحهما. وتقدم هذا في الأعراف. والمعنى: يهدي إلى الصواب.

وقيل: إلى التوحيد.

قوله تعالى: {فَآمَنَّا بِهِ} ، أي: بالقرآن، أي: فاهتدينا به، وصدقنا أنه من عند الله، {وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً} ، أي: لا نرجع إلى إبليس، ولا نطيعه، ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك، وهذا يدل على أنَّ أولئك الجنِّ كانوا مشركين.

قوله: {وَأَنَّهُ تعالى} . قرأ الأخوان وابن عامر وحفص: بفتح «أنَّ» ، وما عطف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمة، والباقون: بالكسر.

وقرأ أبو بكر وابن عامرٍ: «وإنَّهُ لمَّا قَامَ عبد الله يدعوه» بالكسر، والباقون: بالفتح.

ص: 410

واتفقوا على الفتح في قوله تعالى: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} .

وتلخيص هذه أن «أنَّ» المشددة في هذه السورة على ثلاثة أقسام:

قسم: ليس معه واو العطف، فهذا لا خلاف بين القراء في فتحه أو كسره على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية، كقوله {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن} ، لا خلاف في فتحه لوقوعه موقع المصدر، وكقوله {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} ، لا خلاف في كسره لأنه محكي بالقول.

القسم الثاني: أن يقترن بالواو، وهوأربع عشرة كلمة، إحداها: لا خلاف في فتحها وهو قوله: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} وهذا هو القسمُ الثاني.

والثالث: «وأنه لما قام» يكسرها ابن عامر وأبو بكر، وفتحها الباقون. كما تقدم تحرير ذلك كله.

والاثنتا عشرة: وهي قوله {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ} [الجن: 3]، {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ} [الجن: 4] {وَأَنَّا ظَنَنَّآ} [الجن: 5]، {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ} [الجن: 6] ، {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ} [الجن: 7] ، {وَأَنَّا لَمَسْنَا} [الجن: 8] ، {وَأَنَّأ كُنَّا} [الجن: 9] ، {وَأَنَّا لَا ندريا} [الجن: 10] ، {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون} [الجن: 11] ، {وَأَنَّا ظَنَنَّآ} [الجن: 12] ، {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا} [الجن: 13] ، {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون} [الجن: 14] .

فهذا ضبطها من حيثُ القراءات، وأما توجيه ذلك فاختلف الناسُ فيه.

فقال أبو حاتم في الفتح: هو معطوف على مرفوع «أوحِيَ» ، فتكون كلها في موضع رفع لما لم يسم فاعله.

ورد ذلك من حيث أنَّ أكثرها لا يصح دخولها تحت معمول «أوحِيَ» ، ألا ترى أنه لو قيل «أوحي إلينا أنا لمسنا السماء، وأنا كنا، وأنا لا ندري وأنا منا الصالحون، وأنا لما سمعنا الهدى، وأنا منا المسلمون» لم يستقم معناه.

وقال مكيٌّ: وعطف «أن» على «آمنَّا بِهِ» أتم في المعنى من العطف على «أنَّهُ اسْتمَعَ» لأنَّك لو عطفت «وأنا ظننا، وأنا لما سمعنا، وأنه كان رجال من الإنس، وأنا لمسنا» وشبه ذلك على «أنَّهُ اسْتمَعَ» لم يجز؛ لأنه ليس مما أوحي إليه إنَّما هو أمر أخبروا به عن أنفسهم، والكسر في هذا أبينُ وعليه جماعة من القُرَّاءِ.

الثاني: أن الفتح في ذلك عطف على محل «بِهِ» من «آمنَّا بِهِ» .

قال الزمخشريُّ: «كأنه قال: صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا، وأنه يقول سفيهنا، وكذلك البواقي» .

إلا أن مكياً ضعف هذا الوجه فقال: «والفتح في ذلك على الجمل على معنى:»

ص: 411

آمنَّا بِهِ «، فيه بعدٌ في المعنى؛ لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا، بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به، ولم يخبروا أنَّهم آمنوا أنه كان رجال، إنما حكى الله عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين به عن أنفسهم لأصحابهم، فالكسر أولى بذلك»

وهذا الذي قاله غير لازم، فإن المعنى على ذلك صحيح، وقد سبق الزمخشري إلى هذا التخريج الفرَّاء والزجاج، إلا أن الفراء استشعر إشكالاً وانفصل عنه، فإنه قال: فتحت «أن» لوقوع الإيمان عليها، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض فلا يمنع من إمضائهن على الفتح، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح «أن» نحو: صدقنا، وشهدنا، كما قالت العرب:[الوافر]

4893 -

وزَجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا

فنصب «العيونَ» لإتباعها «الحواجب» ، وهي لا تزجج إنما تكحل، فأضمر لها الكحل. انتهى فأشار إلى شيء مما ذكره وأجاب عنه.

وقال الزجاج: «لكن وجهه أن يكون محمولاً على» آمنَّا بِهِ «وصدقناه وعلمناه، فيكون المعنى: صدقنا أنه تعالى جد ربِّنا ما اتخذ صاحبة» .

الثالث: أنه معطوف على الهاء في «بِهِ» ، أي: آمنا به وبأنه تعالى جد ربنا، وبأنه كان يقول - إلى آخره - وهو مذهب الكوفيين.

وهو، وإن كان قوياً من حيثُ المعنى، إلا أنه ممنوع من حيث الصناعة لأنه لا يعطف على الضمير المجرور، إلا بإعادة الجار.

وتقدم تحرير هذين القولين في سورة «البقرة» عند قوله:

{وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} [البقرة: 217] على أن مكياً قد قوى هذا المدرك، وهو حسن جداً، فقال: هو يعني العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار في «أن» أجود منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر «إلى» مع «أن» .

ووجه الكسر: العطف على «إن» في قوله: «إنَّا سَمعْنَا» فيكون الجميع معمولاً للقول فقالوا: «إنَّا سَمِعْنَا» ، وقالوا:«إنَّه تعَالى جَدُّ ربِّنَا» إلى آخرها.

وقال بعضهم: الجملتان من قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس} ، {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ} معترضتان بين قول الجن، وهما من كلام الباري تعالى.

والظاهر أنه من كلامهم قاله بعضهم لبعض.

ص: 412

ووجه الكسرِ والفتح في قوله: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله} ما تقدم.

ووجه إجماعهم على فتح {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} وجهان:

أحدهما: أنه معطوف على «أنَّه اسْتَمَعَ» فيكون موحى أيضاً.

والثاني: أنه على حذف حرف الجر، وذلك الحرف متعلق بفعل النهي، أي: فلا تدعوا مع الله احداً، لأن المساجد لله. ذكرهما أبو البقاء.

وقال الزمخشريُّ: «أنَّهُ اسْتَمَع» - بالفتح - لأنه فاعل «أوْحِيَ» ، و «إنَّا سَمِعْنَا» بالكسر لأنه مبتدأ، محكي بعد القول، ثُمَّ يحمل عليهما البواقي، فما كان من الوحي فتح، وما كان من قول الجنِّ كسر، وكلهم من قولهم الثنتين الأخريين وهما:«وأن المساجد، وأنه لما قام عبد الله يدعوه» ، ومن فتح كلهن، فعطفاً على محلّ الجار والمجرور في «آمنَّا بِهِ» ، أي: صدقناه وصدقنا به.

والهاء في {أَنَّهُ استمع نَفَرٌ} ، وأنه تعالى وما بعد ذلك ضمير الأمر والشأن، وما بعده خبر «أن» .

قوله: {جَدُّ رَبِّنَا} . قرأ العامة: {جَدّ رَبَّنَا} بالفتح ل «رَبَّنَا» .

والمراد به هنا العظمة.

وقيل: قدرته وأمره.

وقيل: ذكره.

والجدُّ أيضاً: الحظُّ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم َ:«وَلَا ينفعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ» والجدُّ أيضاً: أبو الأب، والجدُّ أيضاً - بالكسر - ضد التواني في الأمر.

وقرأ عكرمة: بضم ياء «ربُّنا» وتنوين «جدٌّ» على أن يكون «ربنا» بدلاً من «جد» .

والجد: العظيمُ. كأنه قيل: وأنه تعالى عظم ربنا، فأبدل المعرفة من النكرة.

وعنه أيضاً: «جداً» على التمييز و «ربنا» فاعل ب «تعَالى» ، وهو منقول من الفاعلية؛ إذ التقدير:«جد ربنا» ثم صار تعالى ربنا جداً أي عظمة نحو تصبب زيداً عرقاً أي عرق زيد، وعنه أيضاً وعن قتادة كذلك إلا انه بكسر الجيم، وفيه وجهان:

أحدهما: أنه نعت لمصدر محذوف، وربنا فاعل ب «تعالى» ، والتقدير: تعالى ربُّنا تعالياً جداً، أي: حقاً لا باطلاً.

والجِدُّ - بكسر الجيم - ضد الهزل.

ص: 413

والثاني: أنه منصوب على الحال، أي: تعالى ربنا حقيقة وتمكناً، قاله ابن عطية.

وقرأ حميد بن قيس: «جُدُّ ربِّنا» - بضم الجيم - مضافاً ل «ربِّنا» ، وهو بمعنى العظيم حكاه سيبويه.

وهو في الأصل من إضافة الصفة لموصوفها؛ إذ الأصل: ربنا العظيم، نحو:«جرد قطيفة» الأصل: قطيفةُ جرد، وهو مؤولٌ عن البصريين.

وقرأ ابنُ السميقع: «جدا ربنا» بألف بعد الدال مضافاً ل «ربِّنا» .

والجَدَا والجدوى: النفع والعطاء، أي: تعالى عطاء ربِّنا ونفعه.

فصل في معنى «الجد»

قال القرطبيُّ: الجد في اللغة: العظمةُ والجلالُ، ومنه قول أنس - رضي الله عليه -:«كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا» أي: عظم وجل فمعنى «جَدُّ ربِّنَا» أي: عظمته وجلاله، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة، وعن مجاهد أيضاً: ذكره.

وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمةُ أيضاً: غناه.

ومنه قيل للحظ جد ورجل مجدود: أي: محظوظ، وفي الحديث:«وَلا يَنْفَعُ ذَا الجدِّ منْكَ الجَدُّ» ، قال أبو عبيد والخليل، أي ذا الغنى منك الغنى، إنما تنفعه الطاعة.

وقال ابن عباس رضي الله عنه: قدرته وقال الضحاك: فعله.

وقال القرظي والضحاك: آلاؤهُ ونعماؤه على خلقه.

وقال أبو عبيد والأخفش: ملكه وسلطانه.

وقال السدي: أمره.

وقال سعيد بن جبير: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا} ، أي: تعالى ربنا.

ص: 414

وقيل: إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أبو الأب، ويكون هذا من الجنِّ.

وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع: ليس لله تعالى جد وإنما قالته العرب للجهالة فلا يوحدونه.

قال القشيريُّ: ويجوز إطلاق لفظ الجدِّ في حق الله تعالى إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم، فتجنُّبُه أولى.

قال القرطبيُّ: «ومعنى الآية: وأنه تعالى جدُّ ربِّنا أن يتخذ ولداً أو صاحبة للاستئناس بهما، أو الحاجة إليهما، والربُّ يتعالى عن ذلك كما يتعالى عن الأنداد والنظراء» .

وقوله عز وجل: {مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلَا وَلَداً} ، مستأنف، فيه تقرير لتعالي جده.

قوله: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً} .

الهاء في «أنه» للأمر أو الحديث، و «سَفِيهُنَا» يجوز أن يكون اسم «كَانَ» و «يقُولُ» الخبر، ولو كان مثل هذه الجملة غير واقعة خبراً ل «كَانَ» لامتنع تقديمُ الخبرِ حينئذ، نحو «سَفِيهُنَا يقُولُ» ، لو قلت:«يَقُولُ سَفيْهُنَا» على التقديم والتأخير، لم يجز فيه والفرق أنه في غير باب «كَانَ» يلتبس بالفعل والفاعل، وفي باب «كَانَ» يؤمن ذلك.

ويجوز أن يكون «سَفِيهُنَا» فاعل «يقُولُ» والجملة خبر «كَانَ» واسمها ضمير الأمر مستتر فيها، وقد تقدم هذا في قوله:{مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} [الأعراف: 137] وقوله تعالى: {شَطَطاً} تقدم في سورة الكهف مثله.

قال القرطبيُّ: «ويجوز أن يكون» كان «زائدة، والسفيه: هو إبليس، في قول مجاهد وابن جريج وقتادة. ورواه أبو بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم َ وقيل: المشركون من الجنِّ.

قال قتادةُ: عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس والشططُ والإشطاط: الغلو في الكفر.

ص: 415

قال أبو مالك: هو الجور وقال الكلبي: هو الكذب وأصله البعد ويعبر به عن الجور لبعده عن العدل وعن الكذب لبعده عن الصدق؛ قال الشاعر: [الطويل]

4894 -

بأيَّةِ حالٍ حَكَّمُوا فِيكَ فاشْتَطُّوا

وما ذَاكَ إلَاّ حَيْثُ يَمَّمَكَ الوَخْطُ

قوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّآ} أي: حسبنا {أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} .

» أنْ «مخففة، واسمها مضمر والجملة المنفية خبرها، والفاعل بينهما هنا حرف النفي، و» كذباً «مفعول به، أو نعت مصدر محذوف، أي: قولاً كذباً.

وقرأ الحسن والجحدري وأبو عبد الرحمن ويعقوب:» تقَوَّل «- بفتح القاف والواو المشددة - وهو مضارع» تقوَّل «أي: كذب، والأصل: تتقوَّل، فحذف إحدى التاءين، نحو» تذكرون «. وانتصب» كَذِباً «في هذه القراءة على المصدر؛ لأن التقول كذب، فهو نحو قولهم:» قَعدْتُ جُلُوساً «.

ومعنى الآية: وأنَّا حسبنا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذباً، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولداً حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق.

وقيل: انقطع الإخبار عن الجنِّ - هاهنا - فقال الله تعالى جل ذكره لا إله إلا هو -:

{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس} فمن فتح، وجعله من قول الجنِّ ردَّها إلى قوله:{أَنَّهُ استمع} ، ومن كسرها جعلها من قول الله تعالى.

والمراد به ما كانوا يفعلونه، من قول الرجل إذا نزل بواد: أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في جواره حتى يصبح، قاله الحسن وابن زيد وغيرهما.

وقيل: كانوا في الجاهلية إذ أقحطوا، بعثُوا رائدهم، فإذا وجد مكاناً فيه كلأ وماءٌ رجع إلى أهله فسار بهم حتى إذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذُ بك بربِّ هذا الوادي أن تصيبنا فيه آفةٌ، يعنون من الجن، فإن لم يفزعهم أحد نزلوا، وإن أفزعهم الجن رجعوا.

قال مقاتل: أول من تعوذ بالجنِّ قومٌ من أهل اليمن، ثم من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في العرب، فلَّما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم.

ص: 416

وقال كردم بن أبي السائب: خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم َ فآواني المبيت إلى راعي غنمٍ، فلما انتصف الليل جاء الذئب، فحمل حملاً من الغنم، فقال الراعي: يا عامر الوادي جارك الله، فنادى منادٍ: يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمةٌ، فأنزل الله تعالى على رسوله السيد الكامل المكمل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم َ بمكة:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقاً} ، أي: زاد الجنُّ الإنس رهقاً، أي: خطيئة، وإنما قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم.

والرَّهقُ: الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم، ورجل رهق إذا كان كذلك، ومنه قوله:{وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [يونس: 27] ؛ وقال الأعشى: [البسيط]

4895 -

لا شَيْءَ يَنْفعُنِي من دوُنِ رُؤْيتها

هَلْ يَشتفِي عَاشقٌ ما لم يُصِبْ رَهقَا

يعني إثماً، ورجل مرهق، أي: يغشاه السائلون.

قال الواحديُّ: الرَّهَقُ: غشيان الشيء، ومنه قوله تعالى:{تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} .

وأضيفت الزيادةُ إلى الجن إذ كانوا سبباً لها.

وقال مجاهد أيضاً: «فزَادُوهُم» أي: أن الإنس زادوا الجنَّ طغياناً بهذا التعوذ، حتى قالت الجنُّ:«سدنا الإنس والجن» .

وقال قتادة أيضاً، وأبو العالية والربيع وابن زيد: ازداد الإنس بهذا فرقاً وخوفاً من الجن.

وقال سعيد بن جبير: كفراً.

ولا يخفى أنَّ الاستعاذة بالجنِّ دون الاستعاذة بالله شركٌ وكفرٌ.

وقيل: لا يطلق لفظ الرجال على الجنِّ، فالمعنى: وأنه كان رجالٌ من الإنس يعوذون من شرِّ الجن برجال من الإنس وكان الرجل من الإنس يقول مثلاً: أعوذ بحذيفة بن بدر من جنِّ هذا الوادي.

قال القشيريُّ: وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق الرِّجالِ على الجن.

وقوله: «مِنَ الإنس» صفة ل «رِجَالٌ» وكذلك قوله «مِنَ الجِنِّ» .

ص: 417

قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً} .

الكلام في «أنْ لنْ» كالكلام في الأول، و «أن» وما في خبرها، سادةٌ مسدَّ مفعولي الظن والمسألة من باب الإعمال، لأن «ظنُّوا» يطلب مفعولين، و «ظَننْتُم» كذلك، وهو من إعمال الثاني للحذف من الأول.

والضمير في «أنَّهُم ظنُّوا» للإنس، وفي «ظَنَنْتُمْ» ، للجن، ويجوز العكس

فصل في الخطاب في الآية

هذا من قول الله تعالى للإنس، أي: وإن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم.

قال الكلبيُّ: ظنت الجنُّ كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولاً من خلقه يقيم به الحجة عليهم وكل هذا توكيد للحجة على قريش، أي: إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد صلى الله عليه وسلم َ فأنتم أحق بذلك.

قوله: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء} . هذا من قول الجنِّ، أي: طلبنا خبرها كما جرت عادتنا {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً} ، أي ملئت حفظاً يعني: الملائكة.

فاللَّمْسُ: المس، فاستعير للطلب، لأن الماس متقرب، يقال: لمسه والتمسه ونحوه الجس يقال: جسوه بأعينهم وتجسسوه.

والمعنى: طلبنا بلوغ السَّماء واستماع كلام أهلها.

قوله: {فَوَجَدْنَاهَا} ، فيها وجهان:

أظهرهما: أنها متعدية لواحد؛ لأن معناها: أصبنا وصادفنا، وعلى هذا فالجملة من قوله «مُلِئَتْ» في موضع نصب على الحال على إضمار «قَدْ» .

والثاني: أنها متعدية لاثنين، فتكونُ الجملة في موضع المفعول الثاني.

و «حَرَساً» نصب على التمييز نحو «امتلأ الإناء ماء» .

والحَرَس: اسم جمع ل «حَارِس» نحو «خَدَم» ل «خَادِم» و «غيب» لغائب، ويجمع تكسيراً على «أحْراس» ؛ كقول امرىء القيس:[الطويل]

4896 -

تَجَاوَزْتُ أحْرَاساً وأهْوَال مَعْشَرٍ

حِرَاصٍ عليَّ لو يُسِرُّونَ مَقْتَلِي

ص: 418

والحارس: الحافظُ الرقيبُ، والمصدر الحراسةُ، و «شديداً» صفة ل «حَرسَ» على اللفظ؛ كقوله:[الرجز]

4897 -

أخْشَى رُجَيْلاً أو رُكَيْباً عَادِيَا

ولو جاء على المعنى لقيل: «شداد» بالجمع، لأن المعنى: مُلئتْ ملائكة شداد، كقولك السلف الصالح، يعني: الصالحين.

قال القرطبيُّ: «ويجوز أن يكون حَرَساً مصدراً على معنى: حرست حراسة شديدة» .

قوله: «وشُهُباً» . جمع «شِهَاب» ك «كِتَابِ وكُتُب» .

وقيل: المراد النجوم، أو الحرسُ أنفسهم، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراقة السمع، وقد تقدم في سورة «الحجر، والصافات» .

وإنَّما عطف بعض الصفات على بعض عند تغاير اللفظ، كقوله:[الطويل]

4898 -

...

...

...

... ..... وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ

وقرأ الأعرجُ: «مُلِيتْ» بياء صريحة دون همزة.

قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} ، المقاعد: جمع «مقعد» اسم مكان، والضمير في «منها» ، أي: من السماء، والمقاعد مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء، وذلك أنَّ مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماءِ فيلقوها إلى الكهنة فحرسها الله - تعالى - حين بعث رسوله بالشهب المحرقةِ، فقالت الجن حينئذ:{فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً} يعني بالشهاب الكواكب المحرقة.

قوله «الآن» . هو ظرفٌ حالي، واستعير هنا للاستقبال، كقوله الشاعر:[الوافر]

4899 -

...

...

...

... سأسْعَى الآنَ إذ بَلغَتْ إنَاهَا

فاقترن بحرف التنفيس، وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله:«فالآن باشروهن» .

ص: 419

و «رصداً» إما مفعول له، وإما صفة له «شهاباً» أي «ذا رصد» وجعل الزمخشري:«الرصد» اسم جمع ك «حرس» ، فقال: والرصد: اسم جمع للراصد ك «حرس» على معنى: ذوي شهاب راصدين بالرجم وهم الملائكة ويجوز أن يكون صفة ل «شهاب» بمعنى الراصد، أو كقوله:[الوافر]

4900 -

...

...

...

.......

...

. ومِعَى جَياعَا

فصل في بيان متى كان قذف الشياطين

اختلفوا: هل كانت الشياطينُ تقذف قبل البعث أو كان ذلك أمراً حدث لمبعث النبي صلى الله عليه وسلم َ؟

فقال قوم: لم تحرس السماء في زمن الفترة فيما بين عيسى ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - خمسمائة عامٍ، وإنَّما كان من أجل بعثة النبي فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم َ منعوا من السموات كلِّها وحرست بالملائكة والشهب، قاله الكلبيُّ، ورواه عطية عن ابن عباس، ذكره البيهقي.

وقال عبد الله بن عمرو: لما كان اليوم الذي نُبِّىءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ منعتِ الشياطينُ ورموا بالشُّهبِ.

وقال عبد الملك بن سابور: لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى، ومحمد - عليهما الصلاة والسلام - فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم َ حُرستِ السماءُ ورميتِ الشياطينُ بالشهب، ومنعت من الدنو من السماء.

قال نافع بن جبيرٍ: كانت الشياطين في الفترة تستمع فلا ترى، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم َ رميت بالشهب، ونحوه عن أبي بن كعبٍ قال: لم يرم بنجم، منذ رفع عيسى عليه الصلاة والسلام ُ - حتى نُبِّىءَ رسول الله صلى الله عليه وسلم َ فرُمِيَ بها.

وقيل: كان ذلك قبل البعثِ، وإنِّما زادت بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم َ إنذاراً بحاله.

وهو معنى قوله: «قَدْ مُلِئَتْ» ، أي: زيد في حرسها.

وقال أوس بن حجر - وهو جاهلي -: [الكامل]

4901 -

فانْقَضَّ كالدُّرِّيِّ يَتْبَعُهُ

نَقعٌ يَثُورُ تَخالهُ طُنُبَا

ص: 420

قال الجاحظُ: «هذا البيت مصنوع، لأنَّ الرمي لم يكن قبل البعث» .

والقول بالرمي أصح لهذه الآية، لأنها تخبر عن الجن، أنَّها أخبرت بالزيادة في الحرس وأنها امتلأت من الحرس، والشهب.

وقال بشر بن أبي خازم: [الكامل]

4902 -

والعِيرُ يَرْهَقُها الغُبَارُ وجَحْشُهَا

يَنقَضُّ خَلفَهُمَا انقِضَاضَ الكَوْكَبِ

وروى الزهريُّ عن علي بن الحسين عن ابن عباس رضي الله عنهم قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم َ جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَا كُنتُمْ تقُولونَ في مِثْلِ هذا فِي الجَاهليَةِ»

قالوا: كُنَّا نقُولُ: يَمُوتُ عَظِيمٌ ابنُ عظيمِ، أو يولد عظيم [فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ:«إنها لا ترمى لموتِ أحدٍ ولا لحياته، ولكنَّ رَبَّنَا تبارك وتعالى إذَا قَضَى أمْراً فِي السَّماءِ، سبَّح حملةُ العَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أهْلُ كُلِّ سماءٍ، حتَّى يَنتهِي التَّسبيحُ إلى هذه السَّماءِ، ويَسْتَخْبِر أهْلُ السَّماءِ: ماذا قال ربُّكمْ، فيُخْبَرُون، ويُخبر أهْلُ كُلِّ سماءٍ، حتَّى يَنْتَهِي الخَبَرُ إلى هذه السَّماءِ فتَخْطفُهُ الجنُّ، فيروونه كما جاءُوا به فهو حقٌّ ولكنَّهم يزيدُون فيه»

وهذا يدلُّ على أن هذه الشهب كانت موجودة قبل البعث، وهو قول الأكثرين.

قال الجاحظ: فلو قال قائلٌ: كيف تتعرض الجنُّ لإحراق نفسها بسماع خبرٍ بعد أن صار ذلك معلوماً عندهم؟ .

فالجوابُ: أنَّ الله تعالى ينسيهم ذلك، حتى تعظم المحنة كما ينسى إبليس في كل وقت أنه لا يسلم، وأن الله - تعالى - قال له:{وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين} [الحجر: 35] ، ولولا هذا لما تحقق التكليف.

قال القرطبيُّ: «والرَّصدُ» ، قيل: من الملائكة، أي: ورصداً من الملائكة، وقيل: الرَّصَد هو الشهب، والرصد: الحافظ للشيء، والجمع أرصاد، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعاً كالحرس، والواحد: راصد.

وقيل: الرَّصَد هو الشهاب، أي: شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو «فعل» بمعنى «مفعول» ك «الخَبَط والنفض» .

قوله: {وَأَنَّا لَا ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض} ، في {أَشَرٌّ أَرِيدَ} وجهان:

ص: 421

أحسنهما: الرفع بفعل مضمر على الاشتغال، وإنما كان أحسن لتقدم طالب الفعل وهو أداة الاستفهام.

والثاني: أن الرفع على الابتداءِ.

ولقائل أن يقول: يتعين هذا الرفع بإضمار فعل لمدرك آخر، وهو أنه قد عطف ب «أمْ» فعل، فإذا أضمرنا فعلاً رافعاً، كنا قد عطفنا جملة فعلية على مثلها، بخلاف رفعه بالابتداء فإنه - حينئذٍ - يخرجُ «أمْ» عن كونها عاطفة إلى كونها منقطعة إلا بتأويلٍ بعيدٍ، وهو أن الأصل: أشَرٌّ أريد بهم، أم خيرٌ، فوضع لقوله:«أمْ أراد بِهمْ» موضع خير.

وقوله: «أشَرٌّ» ساد مسدَّ مفعول «ندري» ، بمعنى أنه معلق به، وراعى معنى «مَنْ» في قوله:«بِهمْ ربُّهُمْ» فجمع.

فصل في معنى الآية

قال ابن زيد: معنى الآية: أنَّ إبليس قال: لا ندري هل أراد بهذا المنعِ أن ينزل على أهل الأرض عذاباً، أو يرسل إليهم رسولاً.

وقيل: هو من قول الجنِّ فيما بينهم من قبل أن يسمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم َ أي: لا ندري أشرٌّ أريد بمن في الأرض بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم َ إليهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذب من الأمم، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا، فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم َ ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي.

وقيل: لا، بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين، أي: لما آمنوا أشفقوا أن لا يؤمن كثيرٌ من أهل الأرض فقالوا: إنَّا لا ندري، أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون؟ .

قوله: {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} .

هذا من قول الجنِّ، أي: قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم َ: وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون.

قوله: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} ، يحتمل وجهين:

أحدهما: يحتمل أن «دُونَ» بمعنى «غير» ، أي: ومنا غير الصالحين، أي: كافرون، وهو مبتدأ، وإنما فتح لإضافته إلى غير متمكن كقوله:{لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] فيمن نصب على أحد الأقوال، وإلى هذا نحا الأخفش.

ص: 422

والثاني: أن «دُونَ» على بابها من الظرف، وأنها صفة لمحذوف، تقديره: ومنا فريق أو فوج دون ذلك، وحذف الموصوف مع «مِنْ» التبعيضية يكثر، كقولهم: منَّا ظعنَ ومنَّا أقام، أي: منا فريقٌ ظعن، ومنا فريق أقام.

ومعنى الآية: ومنا صالحون دون أولئك في الصلاح.

قوله: {كُنَّا طَرَآئِقَ} ، فيه أوجه:

أحدها: أن التقدير: كنا ذوي طرائق، أي: ذوي مذاهب مختلفة.

الثاني: أن التقدير: كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائقِ المختلفةِ.

الثالث: أن التقدير: كنا ذوي طرائقَ مختلفةٍ؛ كقوله: [الكامل]

4903 -

...

...

...

...

..... كَمَا عَسَلَ الطَّريقَ الثَّعلَبُ

الرابع: أن التقدير: كانت طريقتنا طرائق قدداً، على حذف المضاف الذي هو الطرائقُ، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه، قاله الزمخشريُّ.

فقد جعل في ثلاثة أوجه مضافاً محذوفاً.

وقال: إنَّه قدر في الأول: «ذَوِي» .

وفي الثاني: مثل.

وفي الثالث: طرائق.

ورد عليه ابو حيَّان قوله: {كُنَّا طَرَآئِقَ} ؛ كقوله: [الكامل]

4904 -

...

...

...

...

.

كَمَا عَسَل الطَّريقَ الثَّعلبُ

بأن هذا لا يجوز إلا في ضرورة أو ندور، فلا يخرج القرآنُ عليه، يعني تعدى الفعل بنفسه إلى ظرف المكان المختص.

والقددُ: جمع قددة، والمراد بها الطريقةُ، وأصلها السيرة، يقال: قِدَّة فلان حسنة، أي: سيرته، وهو من قدَّ السير، أي: قطعه على استواء، فاستعير للسيرة المعتدلة.

قال الشاعر: [البسيط]

4905 -

ألقَابِضُ البَاسِطُ الهَادِي بطَاعتِه

في فِتْنَةِ النَّاس إذْ أهْواؤهُم قِدَدُ

وقال آخر: [البسيط]

4906 -

جَمعْتُ بالرَّأي منهُمْ كُلَّ رَافضَة

إذْ هُمْ طَرائقُ في أهوائِهمْ قِدَدُ

ص: 423

وقال لبيد في أخيه: [المنسرح]

4907 -

لَمْ تَبْلُغِ العَيْنُ كُلَّ نَهْمتهَا

لَيْلةَ تُمْسِي الجِيادُ كالقِددِ

والقِدُّ - بالكسر - سير يُقَدّ من جلد غير مدبوغ، ويقال: ما له قد ولا قحف، فالقد: إناء من جلد، والقحف: إناء من خشب.

فصل في معنى الآية

قال سعيد بن المسيِّب: معنى الآية «كنا مسلمين، ويهود ونصارى ومجوساً» .

وقال السدي: في الجن مثلكم قدرية، ومرجئة وخوارج، ورافضة، وشيعة، وسنية.

وقال قوم: إنا بعد استماع القرآنِ مختلفون منا المؤمنون، ومنا الكافرون.

وقيل: أي: ومنا الصالحون ومنا المؤمنون لم يتناهوا في الصلاح.

قال القرطبيُّ رحمه الله: «والأول أحسن، لأنه كان في الجن من آمن بموسى، وعيسى، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [الأحقاف: 30] ، وهذا يدل على إيمان قوم منهم في دعاء من دعاهم إلى الإيمان، وأيضاً لا فائدة في قولهم: نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر، والطرائق: جمع طريقة، وهي مذهب الرجل، أي: كنا فرقاً، ويقال: القوم طرائق أي: على مذاهب شتَّى، والقددُ: نحو من الطرائق وهو توكيد لها واحده: قدَّة، يقال: لكل طريقةٍ قِدَّةٌ» .

قوله: {وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} .

والظنُّ هنا بمعنى العلم، واليقين، وهو خلاف الظن في قوله تعالى:{وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً} ، «وأنَّهُم ظنُّوا» ، أي: علماً بالاستدلال والتفكر في آيات الله تعالى، أنا في قبضته، وسلطانه لن نفوته بهرب، ولا غيره.

وقوله: «فِي الأرضِ» ، حال، وكذلك «هَرباً» مصدر في موضع الحالِ، تقديره: لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء.

قوله: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى} ، يعني القرآن «آمنَّا بِهِ» ، وباللَّه، وصدقنا محمداً صلى الله عليه وسلم َ على رسالته، وكان صلى الله عليه وسلم َ مبعوثاً إلى الإنس والجنِّ.

ص: 424

قال الحسن رضي الله عنه بعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم َ إلى الإنس والجن ولم يبعث الله قط رسولاً من الجنِّ ولا من أهل البادية ولا من النِّساء، وذلك قوله تعالى:{وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَاّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى} [يوسف: 109] .

وفي الحديث: «بُعثْتُ إلى الأحْمَرِ والأسْودِ» ، أي: الإنس والجن. وقد تقدم هذا الكلام في سورة الأنعام في قوله تعالى: {يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ} [الآية: 130] .

قوله: {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً} .

قال ابنُ عباس: لا يخاف أن ينقص من حسناته، ولا أن يزاد في سيئاته؛ لأن البخس: النقصان، والرهق: العدوان، وغشيان المحارمِ، وقد تقدم في بيت الأعشى.

قوله: «فَلا يَخَافُ» ، أي: فهو لا يخافُ، أي فهو غير خائف؛ ولأن الكلام في تقدير مبتدأ وخبر فلذلك دخلت الفاءُ، ولولا ذلك لقيل: لا يخف، قاله الزمشخريُّ.

ثم قال: «فإن قلت: أي فائدة في رفع الفعل، وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبراً له ووجوب إدخال الفاء، وكان كل ذلك مستغنى عنه بأن يقال: لا يخف؟ .

قلتُ: الفائدة أنَّه إذا فعل ذلك فكأنه قيل:» فهُو لا يخَافُ «، فكان دالاً على تحقيق أن المؤمن ناجٍ لا محالة وأنَّه هو المختص بذلك دُون غيره» .

قال شهاب الدين: «وسببُ ذلك أن الجملة تكون اسمية حينئذٍ، والاسمية أدلُ على التحقيقِ والثبوتِ من الفعلية» .

وقرأ ابن وثاب والأعمشُ: بالجزم، وفيها وجهان:

أحدهما: ولم يذكر الزمخشريُّ غيره، أن «لا» نافية، والفاء حينئذ واجبة.

والثاني: أنها نافية، والفاء حينئذٍ زائدةٌ، وهذا ضعيفٌ.

وقوله «بَخْساً» ، فيه حذف مضاف، أي: جزاء بخس، كذا قرره الزمخشريُّ.

وهو مستغنى عنه.

وقرأ ابن وثاب: «بَخَساً» بفتح الخاء.

قال القرطبيُّ: وقرأ الأعمش ويحيى وإبراهيم: «فَلا يَخفْ» جزماً على جواب الشرط، وإلغاء الفاء أيضاً.

ص: 425

قوله: {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون} . أي: وأنا بعد استماع القرآن مختلفون، فمنا من أسلم ومنا من كفر، والقاسط: الجائر لأنه عادل عن الحق، والمقسط: العادل لأنه عادل إلى الحق، قسط: إذا جار، وأقسط: إذا عدل؛ قال: [الكامل]

4908 -

قَوْمٌ همُ قتلُوا ابنَ هِنْدٍ عَنْوةً

عَمْراً وهُمْ قَسطُوا على النُّعمَانِ

وقد تقدم في أول «النساء» أن «قَسَطَ» : ثلاثياً بمعنى «جَارَ» ، و «أقسط» الرباعي بمعنى «عَدَل» . وأن الحجاج قال لسعيد بن جبيرٍ: ما تقول فيَّ؟ .

قال: إنَّك قاسط عادل، فقال الحاضرون: ما أحسن ما قال، فقال: يا جهلة، جعلني كافراً جائراً، وتلا قوله تعالى:{وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} . وقرأ {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] .

قوله: {فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً} .

أي: قصدوا طريق الحقِّ، وتوخوه، وطلبوه باجتهاد، ومنه التحري في الشيء.

قال الراغبُ: «حرى الشيء يحري، أي: قصد حراه، أي: جانبه، وتحراه كذلك، وحَرَى الشيء يَحْرِي، نقص، كأنَّه لزم حراه، ولم يمتد؛ قال الشاعر:[الكامل]

4909 -

...

...

...

...

...

والمَرْءُ بَعْدَ تمامهِ يَحْرِي

ويقال: رماه الله بأفعى حارية، أي: شديدة» انتهى.

وكأن أصله من قولهم: هو حريٌّ بكذا، أي حقيق به. و «رَشَداً» مفعول به.

والعامة قرأوا: «رشداً» - بفتحتين - والأعرج: بضمة وسكون.

قوله: {وَأَمَّا القاسطون} . أي: الجائرون عن طريق الحق والإيمان {فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} أي: وقوداً، وقوله «فَكانُوا» أي: في علم الله تبارك وتعالى.

فإن قيل: ذكر عقاب القاسطين ولم يذكر ثواب المسلمين.

فالجواب: بل ذكر ثواب المؤمنين بقوله {تَحَرَّوْاْ رَشَداً} أي: تَحرَّوا رشداً عَظِيماً لا يعلم كنهه إلَاّ الله تعالى، ومثل هذا لا يتحقق إلا بالثَّواب.

فإن قيل: فإنَّ الجنَّ مخلوقون من النَّار، فكيف يكونون حطباً للنار؟ .

فالجواب: أنّهم وإن خلقوا من النار لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية فيصيرون لحماً، ودماً هكذا قيل.

ص: 426

وهذا آخر كلام الجن.

قوله {وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة} ، «أنْ» هي المخففة من الثقيلة، وتقدم أنه يكتفي ب «لو» ، فأصله بين «أن» المخففة، وخبرها إذا كان جملة فعلية في سورة «سَبَأ» .

وقال أبو البقاء هنا: «ولو» عوض كالسِّين، وسوف، وقيل:«لَوْ» بمعنى «إن» و «إن» بمعنى اللام، وليست بلازمة كقوله {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ} [مريم: 46] ، وقال في موضع آخر:{وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ} [المائدة: 37] ذكره ابن فضالة في البرهان.

قال شهاب الدين: «وهذا شاذٌّ لا يلتفت إليه ألبتة لأنه خلاف النحويين» .

وقرأ العامة: بكسر «وأن لو» على الأصل.

وابن وثَّاب والأعمشُ: بضمها، تشبيهاً بواو الضمير. وقد تقدم تحقيقه في البقرة.

فصل في بيان أن الله أوحى إليهم أن الإيمان بسبب البسطة في الرزق

هذا من كلام الله تعالى، أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق، وهذا محمولٌ على الوحي، أي أوحي إليَّ أن لو استقاموا.

قال ابنُ بحر كل ما كان في هذه السروة من «أنَّ» المثقلة فهي حكايةٌ لقول الجن الذين سمعوا القرآن، فرجعوا إلى قومهم منذرين، وكل ما فيها من «أن» المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم َ.

وقال ابن الأنباريِّ: ومن كسر الحروف، وفتح {وأنْ لو اسْتقَامُوا} أضمر يميناً تأويلها: والله أن لو استقاموا على الطريقة، كما يقال في الكلام: والله إن قمت لقمت، والله لو قمت قمت.

قال الشاعر: [الوافر]

4910 -

أمَا - واللَّهِ - أن لَوْ كُنْتَ حُرّاً

ومَا بالحُرِّ أنْتَ ولا العَتِيقِ

ومن فتح ما قبل المخففة نسقها على تقدير: {أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ} ، {وَأَلَّوِ استقاموا} أو «على آمنا به» ويستغنى عن إضمار اليمين.

ص: 427

والضمير في قوله {وَأَلَّوِ استقاموا} ، قيل: يرجع إلى الجنِّ الذين تقدم ذكرهم ووصفهم أي: هؤلاء القاسطون لو أسلموا لفعلنا بهم كذا وكذا.

وقيل: بل المراد الإنس لأن الترغيب في الانتفاع بالماءِ الغدقِ، إنما يليق بالإنس، لا بالجن وأيضاً أن هذه الآية إنَّما نزلت بعد ما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين، أقصى ما في الباب أنَّهُ لم يتقدم ذكر الإنس، ولكنه لما كان ذلك معلوماً جرى مَجْرى قوله:{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] .

وقال القاضي: الأقرب أن الكل يدخلون فيه.

قال ابن الخطيب: «ويدل على صحة قول القاضي، أنه تعالى أثبت حكماً معللاً بعلة، وهي الاستقامةُ فوجب أن يعم الحكم لعموم العلة» .

والغدق - بفتح الدال وكسرها -: لغتان في الماء الغزير، ومنه الغداق: للماء الكثيرِ وللرجل الكثير الغدق، والكثير النطق.

ويقال: غدقت عينه تغدق أي: هطل دمعها غدقاً.

وقرأ العامة: «غَدَقاً» بفتحتين.

وعاصم فيما يروي عنه الأعشى، بفتح الغين وكسر الدال، وقد تقدم أنهما لغتان.

قوله: {وَأَلَّوِ استقاموا} .

قال ابن الخطيب: إن قلنا: إن الضمير راجعٌ إلى الجنِّ ففيه قولان:

أحدهما: أن المعنى لو ثبت أبوهم على عبادته وسجد لآدم، ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم كقوله تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} [الأعراف: 96] الآية، {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ} [المائدة: 66] الآية، وقوله:{وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} [الطلاق: 2] . وقوله: {فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ} [نوح: 10 - 11]، إلى قوله:{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 12] الآية.

وإنَّما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافعِ وهذا هو اللائق بالجنِّ لا الماء المشروب.

الثاني: أن المعنى لو استقام الجنُّ أي الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها، ولم ينتقلوا عن الإسلام لوسعنا عليهم الدنيا كقوله:{وَلَوْلَا أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] الآية.

ص: 428

والقول الأول: اختيار الزجاج، قال: لأنَّه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فيرجع إلى الطريقة المعروفة، وهي طريقة الهدى.

ومعنى: {لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي: لنختبرهم هل يقومون بشكرها أم لا، وإن قلنا: إنَّ الضمير يعود على الإنس فالاحتمالان كما هما.

قوله: {لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} ، دليلٌ على أنه تبارك وتعالى يضل عباده. وأجاب المعتزلة، بأنَّ الفتنة هي الاختبار، كما يقال: فتنت الذهب بالنار لا خلق الضلالة.

واستدلت المعتزلة بقوله تعالى {لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} على أنه تعالى إنما يفعل لغرض.

وأجيبوا: بأن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلَّت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق الله تبارك وتعالى.

فصل في التحذير من الدنيا

روى مسلمُ عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم َ قال: «» أخْوفُ ما أخَافُ عليْكمْ ما يُخْرجُ اللَّهُ لكم مِنْ زهرةِ الدُّنيَا «قالوا: ومَا زَهْرةُ الدُّنيَا؟ .

قال:» بَركَاتُ الأرْضِ «. وذكر الحديث»

وقال عليه الصلاة والسلام ُ -: «فواللَّهِ مَا الفَقْرَ أخْشَى عليْكُم، وإنَّما أخْشَى علَيكُمْ أنْ يبسِطَ اللَّهُ عَليكُم الدُّنْيَا فتَنَافَسُوا فيها كما تَنَافَسَ فِيهَا مَنْ كَانَ قَبلكُمْ، فيُهلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَهُمْ»

قوله: {وَمَن يُعِرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ} ، أي: عن عبادته، أو عن موعظته، أو عن وحيه.

وقال ابن زيدٍ: يعني القرآن، وفي إعراضه وجهان:

الأول: عن القبول إن قيل إنها في الكفار والثاني عن العمل، إن قيل إنَّها في أهل الإيمان.

وقيل: {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ} ، أي: لم يشكره.

قوله: {يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} .

قرأ الكوفيون: «يَسْلكْهُ» - بياء الغيبة - لإعادة الضمير على الله تعالى، وباقي السبعة: بنون العظمة على الالتفات.

وهذا كما تقدم في قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً}

[الإسراء: 1]، ثم قال:{بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} [الإسراء: 1] .

ص: 429

وقرأ مسلم بن جندب: «نسلكه» بنون العظمة مضمومة من «أسلكه» . وبعضهم: بالياء من تحت مضمومة، وهما لغتان، يقال: سلكه وأسلكه.

وأنشد: [البسيط]

4911 -

حَتَّى إذَا أسْلكُوهُم فِي قَتائِدَةٍ

و «سلك، وأسلك» يجوز أن يكونا فيهما ضُمِّنا معنى الإدخال، فلذلك يتعديان لاثنين ويجوز أن يقال: يتعديان إلى أحد المفعولين، بإسقاط الخافض، كقوله تعالى:{واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ} [الأعراف: 155] .

فالمعنى: ندخله عذاباً، أو نسلكه في عذابٍ، هذا إذا قلنا: إن «صَعَداً» مصدر.

قال الزمخشريُّ: يقال: صَعَداً وصُعُوداً، فوصف به العذاب لأنه يتصعد للمعذب، أي: يعلوه، ويغلبه، فلا يطيقه، ومنه قول عمر رضي الله عنه: ما تصعد شيء ما تصعدتني خطبةُ النِّكاح يقول: ما شقَّ عليَّ، ولا غلبني.

وأما إذا جعلناه اسماً لصخرة في جهنم، كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، فيجوز فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون «صعداً» مفعولاً به أي «يسلكه» في هذا الموضع ويكون «عذاباً» مفعولاً من أجله.

الثاني: أن يكون «عذاباً» مفعولاً ثانياً كما تقدم، و «صعداً» بدلاً من عذاباً، ولكن على حذف مضاف أي: عذاب صعد، وقرأ العامة بفتحتين، وقرأ ابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين، وهو صفة تقتضي المبالغة كحُطَم ولُبَد، وقرىء بضمتينِ وهو وصف أيضاً ك «جُنُب» و «شُلُل» .

فصل

ومعنى عذاباً صعداً: أي شاقاً شديداً.

[وقيل عن ابن عباس:] هو جبل في جهنم، قال الخدريُّ: كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت.

ص: 430

وعن ابن عباس: إن المعنى مشقّة من العذاب، لأن الصعد في اللغة هو المشقة، تقول: تصعدني الأمر إذا شقَّ عليك، ومنه قول عمر المتقدم، والمشي في الصعود يشق، وصعود العقبة الكئودِ.

وقال عكرمةُ: هي صخرة في جهنم ملساء يكلف صعودها، فإذا انتهى إلى أعلاها حُدِر إلى جهنم.

وقال: يكُلَّفُ الوليدُ بن المغيرة أن يصعد جبلاً في النار من صخرةٍ ملساءَ يجذب من أمامه بسلاسل، ويضرب من خلفه بمقامع، حتَّى يبلغ أعلاها ولا يبلغ في أربعين سنة فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، ثم يكلف صعودها، فذلك دأبه أبداً، وهو قوله:{سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً} [المدثر: 17] .

قوله: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} . قد تقدم أن السبعة أجمعت على الفتح، بتقدير: وأوحي إليَّ أن المساجد للَّهِ.

وقال الخليل: أي ولأن المساجد، فحذف الجارُّ، ويتعلق بقوله «فلا تدعُوا» .

وجعلوه كقوله تعالى: {لإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] فإنه متعلق بقوله {فَلْيَعْبُدُواْ} كقوله: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ} [الأنبياء: 92] .

وقرأ طلحة وابن هرمز: «وإنَّ المسَاجِدَ» - بالكسر. .، وهو يحتمل الاستئناف والتعليل، فيكون في المعنى كتقدير الخليل

فصل في المراد ب «المساجد»

المساجدُ: قيل هي جمع «مسجد» - بالكسر - وهو موضع السجود، وقد تقدم أن قياسه الفتح.

وقيل: هو «مسجد» - بالفتح - مراداً بها الأعضاء الواردة في الحديثِ: «الجبهة والأنف والركبتان واليدان والقدمان» ، وهو قول سعيد بن المسيب.

والمعنى: إن هذه الأعضاء أنعم الله بها عليكم فلا تسجد لغيره فتجحد نعمة الله، وقال عطاء: مساجدك أعضاؤك التي أمرت بالسجود عليها لا تذللها لغير خالقها.

قال عليه الصلاة والسلام ُ - «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم» وذكر الحديث، وقال عليه الصلاة والسلام ُ:«إذَا سَجَدَ العَبْدُ سَجَدَ مَعهُ سَبعةُ أعْضَاءٍ» وقيل: بل جمع مسجد، وهو مصدر بمعنى السجودِ، ويكون الجمع لاختلاف الأنواع.

ص: 431

وقال القرطبي: «المراد بها البيوت التي تبنيها أهل المللِ للعبادة» .

قال سعيد بن جبير رضي الله عنه: قالت الجن: كيف لنا ان نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} ، أي: بنيت لذكر الله ولطاعته.

وقال ابن عبَّاسٍ: المساجد هنا مكة التي هي القبلة، وسميت مكة مساجد، لأن كلَّ أحد يسجد إليها.

قال القرطبيُّ: «والقول بأنها البيوت المبنية للعبادة، وهذا أظهر الأقوال، وهو مروي عن ابن عباس» .

قال ابن الخطيب: «قال الواحديُّ: وواحد المساجد - على الأقوال كلِّها -» مسجد «- بفتح الجيم - إلا على قول من يقول: إنها المواضع التي بنيت للصلاةِ؛ فإنَّ واحدها» مسجد «- بكسر الجيم - لأن المواضع، والمصادر كلَّها من هذا الباب - بفتح العين - إلا في أحرف معدودة وهي: المسجد، والمطلِع، والمنسِك، والمسكِن، والمنبِت، والمفرِق، والمسقِط، والمجزِر، والمحشِر، والمشرِق، والمغرِب وقد جاء في بعضها الفتح، وهي: المنسك والمطلع والمسكن والمفرق، وهو جائز في كلِّها وإن لم يسمع» .

قوله: «للَّهِ» . إضافة تشريف وتكريم، ثم خص بالذِّكر منها البيت العتيق، فقال تعالى:{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ} [الحج: 26] وقال عليه الصلاة والسلام ُ -: «لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلَاّ إلى ثلاثةِ مساجدَ»

وقال عليه الصلاة والسلام ُ -: «صَلاةٌ فِي مَسْجدِي هذا خَيْرٌ مِنْ ألْفِ صلاةٍ فيما سواهُ إلَاّ المَسجد الحَرامَ»

وقد روي من طريق آخر لا بأس بها «أن النبي صلى الله عليه وسلم َ قال:» صَلاةٌ في مَسْجدِي هذا خَيْرٌ من ألفِ صلاةٍ فِيمَا سِواهُ إلَاّ فِي المسْجِد الحَرامِ، فإنَّ صلاةٌ فِيهِ خَيْرٌ مِنْ مائةِ ألفِ صلاةٍ في مَسْجديْ هَذَا «

ص: 432

قال القرطبي:» وهذا حديث صحيح «.

فصل في نسبة المساجد إلى غير الله

فإن قيل: المساجد وإن كانت لله ملكاً وتشريفاً فإنَّها قد تنسب إلى غيره تعالى تعريفاً كما قيل في الحديث:

«سابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق» .

ويقال: مسجد فلان، لأنه حبسه، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجدِ والقناطرِ والمقابرِ، وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.

فصل في معنى الآية

معنى: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} لا يذكرُ فيها إلا اللَّهُ تعالى فإنَّه يجوز قسمةُ الأموالِ فيها، ويجوز وضعُ الصدقات فيها، على رسم الاشتراك بين المساكين، والأكل فيها، ويجوز حبسُ الغريمِ فيها والنوم، وسكن المريضِ فيه، وفتح الباب للجار إليها وإنشاد الشعر فيه إذا عري عن الباطل.

قوله: {فَلَا تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} . وهذا توبيخٌ للمشركين، في دعواهم مع الله غيره في المسجد الحرام.

وقال مجاهد: كانت اليهودُ، والنصارى إذا دخلوا كنائسهم، وبيعهم أشركوا بالله تعالى، فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم َ والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة الحق إذا دخلوا المساجد كلها، فلا تشركوا فيها صنماً وغيره مما يعبد.

وقيل: المعنى أفردوا المساجدَ لذكر الله، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيباً، وفي الحديث:«مَنْ نَشدَ ضالَّةً في المسجد فقولوا: لا ردَّها اللَّه عليكَ، فإن المساجد لم تُبْنَ لهذا»

وقال الحسن: من السنة إذا دخل رجل المسجد أن يقول: لا إله إلا الله، لأن قوله تعالى {فَلَا تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} في ضمنه أمر بذكر الله ودعائه.

وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم َ كان إذا دخل المسجد قدَّم رجله اليمنى وقال:» وأنَّ المسَاجِدَ لِلَّهِ فلا تَدْعُوا مع اللَّهِ أحداً، اللَّهُمَّ إني عبدُكَ وزائِرُكَ وعلى كُلِّ مزُورٍ حقٌّ لزائره، وأنْتَ خَيْرُ مزُورٍ، فأسْألُكَ بِرحْمتكَ أنْ تَفُكَّ رقَبَتِي من النَّارِ «فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال:» اللَّهُمْ صُبَّ عليَّ الخَيْرَ صباً

ص: 433

ولا تَنزِعْ عنِّي صالحَ ما أعْطَيْتنِي أبداً، ولا تَجْعَلْ معِيْشتِي كدّاً، واجعل لِي في الأرضِ جداً «» .

قوله: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} .

يجوز الفتحُ، أي: أوحى الله إليه أنه، ويجوز الكسر على الاستئناف، و «عَبْدُ اللَّهِ» هو محمد صلى الله عليه وسلم َ حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن حسب ما تقدم أول اسورة. «يَدعُوهُ» ، أي: يعبده.

وقال ابن جريج: «يَدْعوهُ» ، أي: قام إليهم داعياً إلى الله تعالى، فهو في موضع الحالِ، أي: يوحد الله.

{كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} .

قال الزُّبيرُ بن العوام: هم الجنُّ حين استمعوا القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم َ أي: كاد يركب بعضهم بعضاً ازدحاماً عليه ويسقطون حرصاً على سماع القرآنِ العظيم.

وقيل: كادوا يركبونه حرصاً، قاله الضحاكُ.

وقال ابن عباس رضي الله عنهما: رغبة في سماع القرآن.

يروى عن مكحول: أن الجنَّ بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم َ في هذه الليلة، وكانوا سبعين ألفاً، وفرغوا من بيعته عند الفجر.

وعن ابن عباس أيضاً: أن هذا من قول الجنِّ لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم َ وائتمامهم به في الركوع والسجود.

وقيل: كاد الجنُّ يركب بعضهم بعضاً حرصاً على النبي صلى الله عليه وسلم َ.

وقال الحسن وقتادة وابن زيد: «لمَّا قَامَ عبدُ اللَّهِ» محمد بالدعوة تلبدت الإنس، والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى اللَّهُ تعالى إلَاّ أن ينصره ويتم نوره، واختار الطبريُّ

ص: 434

أن يكون المعنى كادت العربُ يجتمعون على النبي صلى الله عليه وسلم َ ويتظاهرون على إطفاء النورِ الذي جاء به.

قال مجاهد: اللِّبَد: الجماعات.

قوله «لِبَداً» : قرأ هشام: بضم اللام، والباقون: بكسرها.

فالأولى: جمع «لُبْدَة» - بضم اللام - نحو «غُرفَة وغُرَف» .

وقيل: بل هو اسم مفرد صفة من الصفات نحو «حطم» وعليه قوله تعالى {مَالاً لُّبَداً} [البلد: 6] .

وأما الثانية: فجمع «لِبْدة» - بالكسر - نحو «قربة وقِرَب» .

واللبدة: الشيء المتلبد، أي: المتراكب بعضه على بعض، ومنه قولهم «لبدة الأسد» . كقول زهير:[الطويل]

4912 -

لَدَى أسَدٍ شَاكٍ السِّلاحِ مُقذَّفٍ

لَهُ لِبَدٌ أظفَارُهُ لم تُقلَّمِ

ومنه: اللبد؛ لتلبُّد بعضه فوق بعض، ولبد: اسم نسر لقمان بن عاد، عاش مائتي سنةٍ، حتى قالوا: أطال اللَّهُ الأمد على لبد.

والمعنى: كادت الجنُّ يكونون عليه جماعات متراكمة متزاحمين عليه كاللبد.

وقرأ الحسن والجحدريُّ: «لُبُداً» - بضمتين - ورواها جماعة عن أبي عمرو.

وهي تحتمل وجهين:

أحدهما: أنه جمع «لَبْد» نحو «رَهْن» جمع «رُهُن» .

والثاني: أنه جمع «لَبُود» نحو «صَبُور، وصُبُر» وهو بناء مبالغة أيضاً.

وقرأ ابن محيصن: بضمة وسكون، فيجوز أن تكون هذه مخففة من القراءة التي قبلها ويجوز أن يكون وصفاً برأسه.

وقرأ الحسن والجحدريُّ أيضاً: «لُبَّداً» - بضم اللام وتشديد الباء، وهي غريبة جداً.

وقيل: وهو جمع «لابد» ك «ساجد وسُجَّد، وراكع ورُكَّع» .

ص: 435

وقرأ أبو رجاء: بكسر اللام، وكسر الباء، وهي غريبة أيضاً.

وقيل: اللُّبَد - بضم اللام وفتح الباء -: الشيء الدائم، واللبد أيضاً: الذي لا يسافر ولا يبرح؛ قال الشاعر: [البسيط]

4913 -

من امْرِىءٍ ذِي سماحٍ لا تزَالُ لَهُ

بَزْلاءُ يَعْيَا بِهَا الجثَّامةُ اللُّبَدُ

ويروى: اللَّبد، قال أبو عبيد: وهو أشبه، ويقال: ألبدت القربة جعلتها في لبيد.

ولبيد: اسم شاعر من بني عامر.

قوله

: {إِنَّمَآ

أَدْعُواْ

} ، قرأ عاصم وحمزةُ: بلفظ الأمر التفاتاً، أي: قل يا محمد، والباقون:«قال» إخباراً عن «عبد الله» وهو محمد صلى الله عليه وسلم َ.

قال الجحدريُّ: وهي في المصحف كذلك. وقد تقدم لذلك نظائر في «قل سبحان ربي» آخر «الإسراء» ، وكذا في أول «الأنبياء» وآخرها، وآخر «المؤمنون» .

قال المفسرون: سبب نزولِ هذه الآية أنَّ كفار قريش قالوا له: إنَّك جئت بأمر عظيم، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا ونحن نجيرك، فنزلت.

قوله: {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَدًا} .

قرأ الأعرج: «رُشُداً» - بضمتين -. وجعل الضر عبارة عن الغي؛ لأن الضرر سبب عن الغي وثمرته، فأقام المسبب مقام السبب، والأصل: لا أملك غياً، ولا رشداً، فذكر الأهم.

وقيل: بل في الكلام حذف، والأصل: لا أملكُ لَكُمْ ضراً ولا نَفْعاً ولا غيّاً ولا رشداً فحذف من كل واحدٍ ما يدل مقابله عليه.

فصل في معنى الآية

المعنى لا أقدر أن أدفع عنكم ضراً ولا أسوق لكم خيراً.

ص: 436

وقيل: {لا أملك لكم ضرّاً} ، أي: كفراً «ولا رَشداً» أي: هُدَى، أي: إنما عليَّ التبليغ.

وقيل: الضَّرُّ: العذاب، والرشدُ: النعيم، وهو الأول بعينه.

وقيل: الضرُّ: الموت، والرشد الحياة.

قوله: {قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ} ، أي: لن يدفع عني عذابه أحدٌ إن استحفظته وذلك أنهم قالوا: اترك ما تدعو إليه، ونحن نجيرُك.

وروى أبو الجوزاء عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: انطلقتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم َ ليلة الجن حتى أتى الحجُون فخطَّ علينا خطّاً، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه فقال سيد يقال له وِرْدان: أنا أزجلهم عنك، فقال:{إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ} ، ذكره الماورديُّ رحمة الله عليه، قال: ويحتمل معنيين:

أحدهما: لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد.

الثاني: لن يجيرني مما قدره الله تعالى علي أحدٌ، {وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} أي: ملجأ الجأ إليه، قاله قتادة، وعنه نصيراً ومولى.

وقال السدي: حِرْزاً، وقال الكلبيُّ: مدخلاً في الأرض مثل السِّرب، وقيل: مذهباً ولا مسلكاً، حكاه ابن شجرة؛ قال الشاعر:[البسيط]

4914 -

يَا لَهْفَ نَفْسِي ولَهْفِي غَيْرُ مُجْزيَةٍ

عَنِّي ومَا مِنْ قضَاءِ اللَّهِ مُلتَحَدُ

و «مُلتَحَداً» مفعول «أحد» لأنها بمعنى «أصيب»

قوله {إِلَاّ بَلَاغاً} ، فيه وجوه:

أحدها: أنه استثناء منقطع، أي: لكن إن بلغت عن الله رحمتي، لأن البلاغ من الله تبارك وتعالى لا يكونُ داخلاً تحت قوله:{وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً} .

لأنه لا يكون من دون الله عز وجل وبعنايته وتوفيقه.

والثاني: أنَّه متصل، وتأويله، أن الإجارة مستعارة للبلاغ، أو هو سببها أو بسبب رحمته تعالى، والمعنى لن أجِدَ شيئاً أميل إليه وأعتصمُ به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني، وإذا كان متصلاً جاز نصبه من وجهين:

أحدهما: أن يكون بدلاً من «مُلتحَداً» لأن الكلام غير موجب، وهذا اختيار الزَّجاجِ.

ص: 437

والثاني: أنه منصوب على الاستثناء.

الثالث: أنه مستثنى منقطع من قوله {لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَراً} .

قال قتادة: أي: لا أملك إلا بلاغاً إليكم، وقرره الزمخشري، فقال: أي: لا أملك لكم إلا بلاغاً من الله، وقيل:{إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله} جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاسطاعة وعلى هذا فالاستثناء منقطع.

الرابع: أنَّ الكلام ليس استثناء، بل شرطاً، والأصل:«إن لا» ف «إنْ» شرطية وفعلها محذوفٌ، لدلالة مصدره، والكلام الأول عليه، و «لا» نافية، والتقدير:«إن لا أبلغ بلاغاً من الله فلن يجيرني من الله أحدٌ» .

وجعلوا هذا كقول الآخر: [الوافر]

4915 -

فَطلِّقْهَا فلسْتَ لهَا بِكُفءٍ

وإلَاّ يَعْلُ مفْرِقَكَ الحُسامُ

أي: وإن لا تطلقها يعلُ، فحذف الشرط ونفى الجواب، وفي هذا الوجه ضعف من وجهين:

أحدهما: أن حذف الشرط دون أدلته قليل جداً.

والثاني: أنَّه حذف الجزءان هنا، أعني الشرط والجزاء.

فيكون كقول الشاعر: [الرجز]

4916 -

قَالتْ بنَاتُ العَمِّ: يا سَلْمَى وإنْ

كَانَ فَقيراً مُعدماً، قالتْ: وإنْ

أي قالت: وإن كان فقيراً معدماً فقد رضيته.

وقد يقال: إن الجواب مذكور عند من يرى جواز تقديمه، وإما في قوة المنطوق به لدلالة ما قبله عليه.

وقال الحسنُ: {إِلَاّ بَلَاغاً مِّنَ الله وَرِسَالَاتِهِ} . فإن فيه النجاة والأمان.

قوله {مِّنَ الله} . فيه وجهان:

أحدهما: أن «مِنْ» بمعنى «عَنْ» لأن «بلغ» يتعدى بها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام ُ -:«ألَا بلَّغُوا عنِّي» .

والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة ل «بلاغ» .

قال الزمخشري: «مِنْ» ليست للتبليغ وإنما هي بمنزلة «مِنْ» في قوله تعالى {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1]، بمعنى:«بلاغاً كائناً من اللَّهِ» .

ص: 438

قوله {وَرِسَالَاتِهِ} . فيه وجهان:

أحدهما: أنها منصوبة نسقاً على «بلاغاً» ، كأنه قيل: لا أملك لكم إلا التبليغ، والرسالات ولم يقل الزمخشري غيره.

والثاني: أنها مجرورة نسقاً على الجلالة، أي: إلا بلاغاً عن الله وعن رسالاته، قدره أبو حيَّان وجعله هو الظاهر، ويجوز في جعله «مِنْ» بمعنى «عَنْ» ، والتجوز في الحروف رأي الكوفيين ومع ذلك فغير متعارف عندهم.

قوله: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} ، في التوحيد، والعبادة {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} ، العامة: على كسر «إن» جعلوها جملة مستأنفة بعد فاء الجزاء.

قال الواحديُّ: «إن» مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء.

ولذلك حمل سيبويه قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95]، {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} [البقرة: 126] {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْساً وَلَا رَهَقاً} على أن المبتدأ فيها مضمر تقديره: فجزاؤه أنَّ له نار جهنَّم، أو فحكمه أنَّ له نار جهنَّم.

قال ابن خالويه: «سمعت ابن مجاهد يقول: لم يقرأ به أحدٌ، وهو لحنٌ، لأنه بعد فاء الشرط، قال: سمعتُ ابن الأنباري يقول: هو صواب، ومعناه: فجزاؤه أنَّ لهُ نار جهنَّم» .

قال شهاب الدين: ابن مجاهد، وإن كان إماماً في القراءات إلا أنه خفي عليه وجهها، وهو عجيبٌ جداً كيف غفل عن قراءتي {فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام: 54] في «الأنعام» ، لا جرم أن ابن الأنباري استصوب القراءة لطول باعه في العربية.

قول «خالدينَ» . حالٌ من الهاء في «له» ، والعامل الاستقرار الذي تعلق به هذا الجار وحمل على معنى «مِنْ» فلذلك جمع؛ لأن المعنى لكل من فعل ذلك فوحد أولاً اللفظ، ثم جمع المعنى.

فصل في رد كلام المعتزلة

استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية الكريمة على أن فُسَّاق أهل الصراة يخلدون في النار؛ لأن هذا العموم أقوى في الدلالة على المطلوب من سائرِ العمومات، وأيضاً: فقوله «أبداً» ينفي قول المخالف بأن المراد بالخلود المكثُ الطويلُ.

والجوابُ: أنَّ السياقَ في التبليغ عن الله، والرسالة، ثم قال تعالى:{وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} وإذا كان هنا محتملاً سقط الاستدلال، أو نقول: هذه الصورة لا بد

ص: 439

وأن تندرج في العموم، وترك التبليغ عن الله تعالى أعظم، فلا يجوز أن تساويه الذنوب التي ليست مثله في العقوبة، فلا يتعدى هذا الحكمُ إلى غيره من الذنوب، أو نقول: إن الله تعالى لم يقيد في سائر عمومات الوعيد في القرآن بالتأبيد إلا في هذه الآيةِ الكريمة فلا بد وأن يكون لهذا التخصيص فائدة، ومعنى، وليس المعنى إلا أن يكون هذا الذنب أعظم الذُّنُوبِ، وإذا كان السبب في هذا التخصيصِ هذا المعنى، علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب، فلا يتعدى إلى غيره من الذنوب فدلت هذه الآيةُ على أن حال سائر المذنبين مخالف لذلك، أو نقول:{وَمَن يَعْصِ الله} إلا في الكفر وإلا في الزنا وإلا في شرب الخمر، فإن مذهب القائلين بالوعيد أنَّ الاستثناءَ إخراج ما لولاه كان داخلاً تحت اللفظ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله تعالى {وَمَن يَعْصِ الله} متناولاً لكل من أتى بكل المعاصي.

فإن قيل: يستحيلُ العموم هنا لأن من جملة المعاصي التجسيم والتعطيل، والقائل بالتجسيم يمتنع أن يكون مع ذلك قائلاً بالتعطيل.

قلنا: يخص هذا بدليل الفعل فيحمل على جميع ما لا يستحيل اجتماعه.

فصل في أن الأمر للوجوب

دلت هذه الآية على أن الأمر مقيد بالوجوب لأن تارك المأمورية عاص لقوله {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93]، {لَاّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ} [التحريم: 6] ، {وَلَا أَعْصِي لَكَ أمْراً} [الكهف: 69] .

والعاصي مستحق للعقاب لقوله تعالى {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} .

قوله: {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} .

قال الزمخشريُّ: فإن قلت: بم تعلق حتى، وجعل ما بعده غاية له؟ .

قلت: بقوله: {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن: 19] على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة، ويستضعفون أنصاره، ويستقلون عددهم {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} من بوم بدر، وإظهار الله عليهم، أو من يوم القيامة {فَسَيَعْلَمُونَ} حينئذٍ {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً} .

قال: ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار، واستقلالهم لعددهم، كأنه قال لا يزالون على ما هم عليه، حتى إذا رأوا ما يوعدون، قال المشركون: متى هذا الوعد؟ إنكاراً له.

فقال: «قُلْ» : إنه كائن لا ريب فيه.

قال أبو حيان: قوله: بم تعلق، إن عنى تعلق حرف الجر فليس بصحيح لأنها

ص: 440

حرف ابتداءٍ، فما بعدها ليس في موضع جر خلافاً للزجاج، وابن درستويه، فإنهما زعما أنها إذا كان حرف ابتداءٍ فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر، وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها وكون ما بعدها غاية لما قبلها، فهو صحيح، وأما تقديره: أنها تتعلق بقوله: {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} فهو بعيد جداً لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة وقدر بعضهم ذلك المحذوف، فقال: تقديره: دعهم حتَّى إذا رأوا.

وقال التبريزي: جاز أن يكون غاية لمحذوف، ولم يبيِّن ما هو.

وقال أبو حيان: «والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم لكينونة النار لهم كأنه قيل: إن العاصي يحكم له بكينونة النار، والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فيسعلمون» .

قوله: {مَنْ أَضْعَفُ} . يجوز في «مَنْ» أن تكون استفهامية فترفع بالابتداء، و «أضْعَفُ» خبره، والجملة في موضع نصب سادَّةٌ مسدَّ المفعولين لأنها معلقة للعلم قبلها.

وأن تكون موصولة، و «أضعف» خبر مبتدأ مضمر، أي: هو أضعف، والجملة صلة وعائدٌ وحسن الحذف طول الصلة بالتمييز، والموصول مفعول للعلم بمعنى العِرفَان.

قال القرطبي: «حتى» هنا مبتدأ، أي «حتى أذا رأوا ما يوعدون» من عذاب الآخرة أو ما يوعدون من عذاب الدنيا، وهو القتل يوم بدر {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً} . و «مَنْ» يظهر أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم، بكينونة النار لهم، كأنه قيل: إن العاصي أهم أم المؤمنون؟ و «أقَلُّ عَداداً» معطوف.

ص: 441

قوله: {قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} ، يعني: قيام الساعة لا يعلمه إلَاّ اللَّهُ فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعلمنيه الله تعالى جلت قدرتهُ.

قوله: {أَقَرِيبٌ} ، خبرٌ مقدمٌ، و {مَّا تُوعَدُونَ} مبتدأ مؤخر، ويجوز أن يكون «قَرِيبٌ» مبتدأ لاعتماده على الاستفهام و «مَا تُوعَدُون» فاعل به، أي: أقريب الذي توعدون، نحو «أقَائِمٌ أبواك» ، و «مَا» يجوز أن تكون موصولة فالعائد محذوف، وأن تكون مصدرية فلا عائد، و «أمْ» الظاهر أنها متصلة.

وقال الزمخشريُّ: «فإن قلت: ما معنى قوله: {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً} ، والأمد

ص: 441

يكون قريباً وبعيداً، ألا ترى إلى قوله تعالى {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً} [آل عمران: 30] ، قلت: كان النبي صلى الله عليه وسلم َ يستقرب الموعد، فكأنه قال: ما أدري أهو حالٌّ متوقع في كُلِّ ساعة، أم مؤجل ضربت له غاية؟» .

وقرأ العامة: بإسكان الياء من «ربِّي» .

وقرأ الحرميان وأبو عمرو: بالفتح.

فصل في تعلق الآية بما قبلها

قال مقاتل: لما سمعوا قوله تعالى: {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً} . قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا الذي توعدنا به؟ .

فقال الله تعالى: {قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} إلى آخره، والمعنى أنَّ وقوعه متيقن، وأما وقت وقوعه فغير معلوم.

وقوله تعالى: {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً} ، أي: غاية وبعداً، وهذا كقوله تعالى:{إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} .

فإن قيل: أليس «أنه عليه الصلاة والسلام ُ - قال:» بُعثْتُ أنَا والسَّاعَةُ كهَاتيْنِ «، فكان عالماً بقُربِ وقُوعِ القيامةِ، فكيف قال - هاهنا -: لا أردي أقريب أم بعيد؟ .

فالجواب: أن المراد بقرب وقوعه، هو أن ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى فهذا القدر من القرب معلوم، فأما معرفة القرب المرتب وعدم ذلك فغير معلوم.

قوله: {عَالِمُ الغيب} ، العامة: على رفعه، إما بدلاً من» ربِّي «وإما بياناً له وإما خبراً لمبتدأ مضمر، أي هو عالم.

وقرىء: بالنصب على المدح.

وقرأ السديُّ: علم الغيب، فعلاً ماضياً ناصباً للغيب.

قوله:» فلا يُظهرُ «. العامة: على كونه من» أظْهَر «، و» أحَداً «مفعول به.

ص: 442

وقرأ الحسنُ:» يَظْهرُ «بفتح الياء والهاء من» ظهر «ثلاثياً، و» أحد «فاعل به.

فصل في تفسير الغيب

الغيب ما غاب عن العباد.

وقد تقدم الكلام عليه أول البقرة.

قوله: {إِلَاّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} . يجوز أن يكون استثناء منقطعاً، أي لكن من ارتضاه فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه بالوحي و» مِنْ «في قوله:» مِنْ رسُولٍ «لبيان المرتضين وقوله: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ} بيان لذلك.

وقيل: هو متصل، و «رَصَداً» تقدم الكلام عليه.

ويجوز أن تكون «مِنْ» ، شرطية، أو موصولة مضمنة معنى الشرط، وقوله «فإنَّهُ» خبر المبتدأ على القولين؛ وهو من الاستثناء المنقطع أيضاً، أي: لكن، والمعنى: لكن من ارتضاه من الرسل، فإنَّه يجعل له ملائكة رصداً يحفظونه.

فصل في الكرامات

قال الزمخشريُّ: «في إهذه الآية إبطال الكرامات؛ لأن الذين تضاف إليهم الكرامات، وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل، وقد خصَّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيها أيضاً إبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء، وأدخل في السخط» .

قال الواحديُّ: وفيها دليل على أن من ادعى أنَّ النجوم تدل على ما يكون من حياة، أو موت، أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن.

قال ابن الخطيب: واعلم أن الواحديَّ يجوز الكرامات، وأن يلهم الله أولياءه وقوع بعد الوقائع في المستقبل ونسبة الآية في الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم، فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات على ما قاله الزمخشريُّ، فإن جوَّز الكرامات لزمه تجويز علم النجوم وتفريقه بينهما تحكم محض.

قال ابن الخطيب: وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه، إذ لا صيغة عموم في عينه لأنه لفظ مفرد مضاف فيحمل على غيب واحد، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله {أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ} الآية.

فإن قيل: فما معنى الاستثناء حينئذ؟ .

ص: 443

قلنا: لعله إذا قربت القيامةُ يظهر، وكيف لا، وقد قال:{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25] فتعلم الملائكة حنيئذ قيام القيامة، أو هو استثناء منقطع أي: من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه، ومن خلفه حفظة يحفظونه بأمر الله من شر مردة الجنِّ والإنس، ويدل على أنه ليس المراد منه ألا يطلع أحد على شيء من المغيبات أنه ثبت بما يقارب التواتر أن «شقّاً وسطيحاً» كانا كاهنين وقد عرفا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم َ قبل ظهوره وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتَّى يرجع إليهما كسرى، وربيعة بن مضر، فثبت أن اللَّه تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات، وأيضاً هل المللِ على أن معبر الرؤيا، يخبر عن أمور مستقبلة، ويكون صادقاً فيه، وأيضاً: قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها فوقعت على وفق كلامها.

قال ابن الخطيب: وأخبرني أناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل فكانت على وفق خبرها.

وبالغ أبو البركات في كتاب «المعتبر» في شرح حالها وقالت: تفحصت عن حالها ثلاثين سنة، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً، وأيضاً فإنّا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً، وقد ترى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف، فإن قلنا: إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرناه.

فصل في معنى الآية

قال القرطبيُّ: المعنى {فَلَا يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلَاّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه، لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات كما ورد في التنزيل في قوله:{وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49] .

وقال ابن جبير: {إِلَاّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} هو جبريل عليه السلام وفيه بعد، والأولى أن يكون المعنى لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى، أي: اصطفاه للنبوة فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه ليكون ذلك دالاً على نبوته.

فصل في استئثار الله بعلم الغيب

ذكر القرطبيُّ أن العلماء قالوا: لما تمدح الله سبحانه وتعالى بعلم الغيب واستأثره

ص: 444

دون خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نبوتهم، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصى وينظر في الكواكب ويزجر بالطير من ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وبتخمينه وكذبه.

قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفو الأحوال والرتب فيهم الملك، والسوقة، والظالم، والجاهل، والعالم والغني، والفقير، والكبير مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة، فإن قال: إنما أغرقهم الطالع الفلاني الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام هذه الطوالع كلِّها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة إذ ذاك في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقي، ولا سعيد، ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم؛ ولقد أحسن القائل:[الكامل]

4917 -

حَكَمَ المُنجِّمُ أنَّ طَالعَ مَولِدِي

يَقْضِي عَليَّ بِمَيتَةِ الغَرقِ

قُلْ للمُنَجِّمِ صِبْحَةَ الطُّوفانِ هَلْ

وُلِدَ الجَمِيعُ بكَوكَبِ الغَرقِ؟

وقيل لعلي رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج: أتلقاهم والقمر لفي العقرب؟ فقال: فأين قمرهم؟ وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من البلاغة في الرد على من يقول بالتنجيم، وقال له مسافر بن عوف: يا أمير المؤمنين، لا تسرِ في هذه الساعة وسِرْ بعد ثلاث ساعاة يمضين من النهار، فقال له علي رضي الله عنه: ولم؟ .

قال: إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك، وأصاب أصحابك بلاءٌ، وضر شديد، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت، وظهرت وأصبت ما طلبت، فقال علي رضي الله عنه: ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم َ ولا لأصحابه منجم، ولا لنا من بعده. ثم قال: فمن صدقك في هذا القول لن آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله نداً، وضداً، اللَّهُمَّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ثم قال للمتكلم: نكذبك، ونخالفك، ونسير في الساعة التي تنهاها عنها، ثم أقبل على الناس فقال: أيها الناس، إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدوا به في ظلمات البر والبحر، إنما المنجم كافر، والكافر في النار، والمنجم كالساحر، والساحر في النار، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم، أو تعمل بها لأخلدنك في

ص: 445

الحبس ما بقيتُ، ولأحرمنَّك العطاء، ما كان لي سلطان، ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم، وهو وقعة «النَّهروان» الثابتة في «صحيح مسلم» ، ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها، وظفرنا، وظهرنا لقال: إنَّما كان ذلك تنجيمي وما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم َ منجم، ولا لنا من بعده، وقد فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان، ثم قال: يا أيها الناسُ، توكلوا على الله وثقوا به، فإنه يكفي ممن سواه.

قوله: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} ، يعني: ملائكة يحفظونه من أن يقرب منه شيطان، فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة.

قال الضحاك: ما بعث الله نبياً إلى ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين، أن يتشبهوا له بصورة الملك فإذا جاءه شيطان في صورة الملك، قالوا: هذا شيطان فاحذره، وإن جاء الملك قالوا: هذا رسول ربِّك.

وقال ابن عباس وابن زيد: «رَصَداً» ، أي: حفظةُ يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم َ من أمامه، وورائه من الجن، والشياطين.

وقال قتادة وسعيد بن المسيِّب: هم أربعة من الملائكة حفظة يحفظون الوحي بما جاء من عند الله.

وقال الفرَّاءُ: فالمراد جبريل كان إذا نزل بالرسالة نزل معه ملائكة يحفظونه من أن يستمع الجن الوحي، فيلقونه إلى كهنتهم، فيسبقوا به الرسول.

وقال السديُّ: «رَصَداً» أي: حفظة يحفظون الوحي، مما جاء من عند الله، وما ألقاه الشيطان قالوا: إنه من الشيطان، و «رَصَداً» نصب على المفعول.

قال الجوهريُّ: «والرَّصدُ: القوم يرصدون كالحرس، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكور والمؤنث وربما قالوا: أرصاد، والرّاصد للشيء: الراقب له، يقال: رصده يرصده رصْداً ورصَداً، والتَّرصُّد: الترقب، والمرصد: موضع الرصد» .

قوله: {لِّيَعْلَمَ} . متعلق ب «يَسْلكُ» .

والعامة: على بنائه للفاعل، وفيه خلاف. أي: ليعلم محمد صلى الله عليه وسلم َ أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة، قاله مقاتل وقتادة.

ص: 446

قال القرطبيُّ: «وفيه حذف تتعلق به اللام، أي: أخبرناه بحفظنا الوحي، ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حاله من التبليغ بالحق والصدق» .

وقيل: ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه.

قاله ابن جبير، قال: ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة عليهم السلام.

وقيل: ليعلم الرسول أن الرسل سواه بلغوا.

وقيل: ليعلم الله، [أي: ليظهر علمه للناس أنّ الملائكة بلغوا رسالات ربهم.

وقيل: ليعلم الرسول، أي رسولٍ كان أنَّ الرسل سواه بلغوا] .

وقيل: ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه.

وقال ابن قتيبة: أي: ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم، ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم.

وقال مجاهد: ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين، قد بلغوا رسالات ربهم.

وقيل: ليعلم الملائكة. وهذان ضعيفان، لإفراد الضمير.

والضمير في «أبْلغُوا» عائد على «من» في قوله: «من ارْتضَى» راعى لفظها أولاً، فأفرد في قوله {مِن بَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} ، ومعناها ثانياً، فجمع في قوله «أبْلَغُوا» إلى آخره.

وقرأ ابن عباس ومجاهد وزيد بن علي وحميد ويعقوب ليعلم مبنياً للمفعول أي ليعلم الناس أن الرسل قد بلغوا رسالاته.

وقرأ ابن أبي عبلة والزهري: لِيُعلم «- بضم الياء وكسر اللام - أي: ليعلم الله رسوله بذلك.

وقرأ أبو حيوة:» رِسَالة «بالإفراد، والمراد الجمع.

وقرأ ابن أبي عبلة:» وأحيط، وأحصي «مبنيين للمفعول،» كل «رفع ب» أحصي «. قوله:» عَدَداً «، يجوز أن يكون تمييزاً منقولاً من المفعول به، والأصل: أحصى عدد كل شيء، كقوله تعالى:{وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} [القمر: 12]، أي: عيون الأرض على خلاف سبق.

ص: 447

ويجوز أن يكون منصوباً على المصدر من المعنى، لأن» أحْصَى «بمعنى» عَد «، فكأنه قيل: وعد كل شيء عدداً.

أو يكون التقدير: وأحصى كلَّ شيء إحصاء، فيرد المصدر إلى الفعل، أو الفعل إلى المصدر.

ومنع مكي كونه مصدراً للإظهار، فقال:» عَدَداً «نصب على البيان، ولو كان مصدراً لأدغم.

يعني: أن قياسه أن يكون على» فَعْل «بسكون العين؛ لكنه غير لازم، فجاء مصدره بفتح العين.

ولما كان «لِيعْلمَ» مضمناً معنى «قَد عَلِمَ ذلِكَ» جاز عطف «وأحَاطَ» على ذلك المقدر.

قال القرطبي: «عَدَداً» ، نصب على الحال، أي: أحصى كل شيء.

فصل في معنى الإحاطة في الآية.

المعنى: أحاط علمه بما عند الرسل، وما عند الملائكة.

وقال ابن جبيرٍ: المعنى ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط بما لديهم، فيبلغوا رسالاته {وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} أي: علم كل شيء وعرفه فلم يخف عليه منه شيء، وهذه الآية تدل على أنه تعالى عالم بالجزئيات، وبجميع الموجودات.

روى الثعلبي عن أبيِّ بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ الجِنِّ أُعْطِيَ بعَددٍ كُلِّ جنِّي وشيْطانٍ صدَّق بمُحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم َ وكذَّب بِهِ عِتْقُ رَقبةٍ» والله تعالى أعلم بالصواب.

ص: 448