الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الضرب الثاني:
هو النصوص التي تحدثت عن أحوال المسيح عليه السلام البشرية التي يشترك فيها مع سائر الناس من طعام وشراب وعبادة لله وتذلل و ....
درس المحققون سيرة المسيح عليه السلام كما عرضتها الأناجيل - منذ بشارة أمه إلى حمله، وولادته في المزود، ثم لفّه بالخرق، ثم ختانه، ومن ثم نشأته وتعليمه مع الصبيان، ثم تعميده على يد المعمدان إلى أن ذكروا نهايته المزعومة على الصليب بعد أن جزع وتذلل لله ليصرف عنه هذا الأمر
…
فوجدوا أن المسيح لا يفرق في شيء عن سائر الناس، فقد ولد وكبر، وأكل وشرب، ومات. فما الذي يميزه بالألوهية عن غيره؟
فقد ولد من فرج امرأة متلبطاً بدمها "وبينما هما هناك تمّت أيامها لتلد"(لوقا 2/ 6).
ورضع من ثدييها "وفيما هو يتكلم بهذا رفعت امرأة صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك، والثديين اللذين رضعتهما"(لوقا 11/ 17)، فهل علمت مريم أن طفلها الخارج من رحمها والذي كانت تتولى كافة شئونه من نظافة وتربية ورضاع، هل كانت تعلم ألوهيته، أم جهلت ما علمه النصارى بعد ذلك؟ (1).
وقد ختن المسيح عليه السلام في ثامن أيام ولادته "ولما تمت ثمانية أيام ليختنوا الصبي سمي يسوع"(لوقا 2/ 21) فهل دار في خلد الذي كان الذي يختنه أنه يختن إلهاً؟ وماذا عن القطعة التي بانت منه؟ هل غادرتها الإلهية بانفصالها عن الإله المتجسد؟ أم بقيت فيها الإلهية حيث ضاعت أو دفنت؟
(1) لئن كنا نرى أن أم المسيح لم تعرف شيئاً عن ألوهية ابنها؛ فإن القس سمعان كلهون يوافقنا على هذا، بل لا يتوقف عند هذا، إذ يتطاول على مقام المسيح وأمه، ويرى أن أم المسيح وعائلته "قد ظنوا يسوع مختلاً"، وحاشا للعذراء البتول أن تظن بابنها العظيم مثل ذلك. انظر: اتفاق البشيرين، القس سمعان كلهون، ص (214).
وقد عمده يوحنا المعمدان عليه السلام في نهر الأردن " جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه"(متى 3/ 13)، أفجهل المعمدان أنه يعمد الإله؟ ومن المعلوم أن معمودية المعمدان غفران الذنوب، كما في متى: " واعتمدوا منه في الأردن معترفين بخطاياهم .. أنا أعمدكم بماء للتوبة
…
حينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن إلى يوحنا ليعتمد منه" (متى 3/ 6 - 14)،
فهل كان الإله مذنباً يبحث عمن يغفر له ذنوبه؟!
وأصاب المسيح عليه السلام ما يصيب كل البشر من أحوال وعوارض بشرية فقد نام " وكان هو نائماً"(متى 8/ 24)، وتعب كسائر البشر " كان يسوع قد تعب من السفر"(يوحنا 4/ 6)، واحتاج إلى حمار يركبه، فأرسل تلاميذه طالباً منهم إحضار الحمار لأن "الرب محتاج إليه"(مرقس 11/ 3).
واكتئب المسيح عليه السلام لما أصابه "وابتدأ يدهش ويكتئب"(مرقس 14/ 33)، وأحياناً كان يجتمع عليه الحزن والاكتئاب "وابتدأ يحزن ويكتئب"(متى 26/ 37).
ولما كان البكاء من عادة البشر إذا ما اعتراهم الضعف والأسى فإنه أحياناً كان يبكي كسائر البشر "بكى يسوع"(يوحنا 11/ 35)(1).
كما تعرض لمكايد أعدائه فقد حاول الشيطان أن يغويه، فلم يقدر، لقد صعد بالمسيح إلى جبل عال، وأراه جميع الممالك الإنسانية، وقال له "لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهنّ، لأنه إليّ قد دُفع، وأنا أعطيه لمن أريد، فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع، فأجابه يسوع وقال: اذهب يا شيطان، إنه مكتوب: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد"(لوقا 4/ 6 - 8).
(1) من عجيب ما قرأت تعليق الدكتور القس إبراهيم سعيد على بكاء المسيح، حيث يقول:"يعتبر بكاء المسيح دليلاً على ناسوته، وتعبيراً لجوهر لاهوته .. لأن عينه الغارقة في دموعها هي هي كلهيب نار". شرح بشارة لوقا، ص (479).
وتعرض للطم والشتم "ولما قال هذا، لطم يسوعَ واحد من الخدام كان واقفاً"(يوحنا 18/ 22)، فلم يستطع أن يدفع عن نفسه إلا بالكلام، لأنه كان موثقاً "قبضوا على يسوع وأوثقوه"(يوحنا 8/ 12).
والمسيح عليه السلام قد جاع أيضاً، وبحث عن طعام يأكله "وفي الصبح إذ كان راجعاً إلى المدينة جاع"(متى 21/ 18).
كما عطش " قال: أنا عطشان"(يوحنا 19/ 28).
وقد أكل وشرب، فسد جوعته، وروى ظمأه " فناولوه جزءاً من سمك مشوي وشيئاً من شهد عسل، فأخذ وأكل قدامهم"(لوقا 24/ 42 - 43).
والطعام والشراب الذي كان يتقوى به، وينمو به جسمه طولاً وعرضاً " وكان الصبي ينمو "(لوقا 2/ 40)، ونموه كان بالجسد والعقل " وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس"(لوقا 2/ 52)، فالطعام ينميه جسدياً، والتعلم في الهيكل من الشيوخ والمعلمين ينميه عقلياً " وجداه في الهيكل جالساً في وسط المعلمين يسمعهم ويسألهم"(لوقا 2/ 46).
كما ويقتضي الطعام خسيسة أخرى لا يليق أن تذكر في سياق الحديث عن مقام الألوهية وعظمته، ألا وهي التبول والتغوط، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وهو ما نبه الله تعالى إليه أذهان العقلاء بقوله:{ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام} فكل من طعم وشرب احتاج لإخراج ما طعم، ولا يليق نسبة هذه المنقصة ولا غيرها إلى الله عز وجل الذي لا يشارك الناس هذه الدنايا.
وتذكر الأناجيل حزن المسيح عليه السلام ليلة الصلب وغيرها " إن نفسي حزينة حتى الموت "(مرقس 14/ 32 - 36).
ثم لما جزع ظهر له ملك من السماء ليقويه. (انظر لوقا 22/ 43).
ثم لما وضع - حسب الأناجيل - على الصليب جزع وقال: " إلهي إلهي، لم تركتني "(مرقس 15/ 34).
بل وتزعم الأناجيل أنه مات، فهل رب يموت؟ "فصرخ يسوع بصوت عظيم، وأسلم الروح"(مرقس 15/ 37)، وقبل أن يجيبنا أحدهم - ببرود - بأن الذي مات هو الناسوت، وأن اللاهوت لا يموت؛ فإني أذكر القارئ بأن الذي مات على الصليب هو ابن الله، وليس ابن الإنسان، "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به"(يوحنا 3/ 16).
ولا يجد الأسقف ترتليان في القرن الميلادي الثالث ما يدفع به هذه القاصمة إلا أن يقول: " لقد مات ابن الله! ذلك شيء غير معقول، لا لشيء، إلا لأنه مما لا يقبله العقل، وقد دفن من بين الموتى، وذلك أمر محقق، لأنه مستحيل "(1)، ومع ذلك يؤمن به ترتليان والنصارى من بعده.
وذكرت الأناجيل أيضاً تذلَله وخضوعه لله عز وجل وتضرعه بين يديه " وكان يصلي قائلاً: يا أبتاه، إن أمكن أن تعبر عني هذا الكأس، ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت"(متى 26/ 39). "وكان يصلّي هناك"(مرقس 1/ 35).
ويصور لوقا صلاته عليه السلام، فيقول:" جثا على ركبتيه وصلى"(لوقا 22/ 41). وذات يوم وقبل اختياره للتلاميذ " خرج إلى الجبل ليصلّي، وقضى الليل كله في الصلاة لله، ولما كان النهار دعا تلاميذه"(لوقا 6/ 12) فلمن كان الإله يصلي طوال الليل منفرداً؟ هل كان يصلي لنفسه؟ أم للآب الحال فيه؟ وهل تجوز عبادته وهو على هذه
(1) انظر: المسيح في القرآن والتوراة والإنجيل، عبد الكريم الخطيب، ص (343).
الحال؟ لِم نترك عبادة المعبود ونعبد العابد؟!
وكان يصلي متوارياً وصار عرقه كعبيط الدم، يقول لوقا:"وإذ كان في جهاد كان يصلّي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض، ثم قام من الصلاة وجاء إلى تلاميذه"(لوقا 22/ 44)، يقول يوحنا فم الذهب:"من ذا لا يتعجب عندما يرى الله جاثياً ومصلياً"(1).
ومن تضرعه واستغاثته بربه ما ذكره يوحنا عن حال المسيح عليه السلام عندما أحيا لعازر " ورفع يسوع عينيه إلى فوق وقال: أيها الآب أشكرك، لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع لي، ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت، ليؤمنوا أنك أرسلتني"(يوحنا 11/ 40 - 41).
والتضرع والعبادة نوع من دلائل العبودية لا يجوز نسبته إلى الله أو للمتحد معه.
ويتحدث بولس عن انتصار المسيح عليه السلام على الكل بما فيهم الموت، ثم يذكر خضوعه بعد ذلك لله، فيقول:"متى أخضع له الكل، فحينئذ الابن نفسه أيضاً سيخضع للذي أخضع له الكل (لله)، كي يكون الله الكل في الكل"(كورنثوس (1) 15/ 28).
وأخيراً، فإن مما يؤكد بشرية المسيح ما أخبر من أنه عليه السلام سيدخل الجنة التي وعدها الله عباده المؤمنين، ومنهم المسيح وتلاميذه، وأنه سيشرب في اليوم الآخر ويأكل معهم، حيث قال: "في بيت أبي منازل كثيرة
…
أنا أمضي لأعد لكم مكاناً
…
حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً " (يوحنا 14/ 2 - 3)، وقال: " إني من الآن لا أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم، حينما أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي" (متى 26/ 29).
(1) الرأي الصريح في طبيعة ومشيئة المسيح، القمّص غبريال عبد المسيح، ص (58).