الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نشأة التثليث في النصرانية
تؤمن سائر الفرق المسيحية الكبرى بأن الله واحد من حيث جوهره، لكنه ثالوث من حيث أقانيمه، فلكل أقنوم وظيفته واختصاصه، فالآب خلق العالم، والابن يفدي البشر ويكفر الذنوب، وأما الروح القدس فيتولى تثبيت قلب الإنسان على الحق وتحقيق الولادة الروحية الجديدة.
والحق أن كل ما يقوله النصارى من أدلة على التثليث لا يسوغ الاستدلال بها، لأن من تنسب إليهم هذه الأسفار لم يعلموا عن التثليث شيئاً.
فأول من أدخل تعبير (الثالوث) إلى النصرانية ترتليان (225م) الذي ستعتبره الكنيسة فيما بعد هرطوقياً، كما ذكر ذلك عنه قاموس الكتاب المقدس، (1) وقد لقيت هذه العقيدة معارضة كبيرة من الذين تسميهم اليوم الكنيسة بالهراطقة، وكانت موضع سجال عنيف بينهم، انعقدت لأجله المجامع، وصدرت فيه الحرمانات الكنسية، وحكم بالهرطقة على كثيرين من آباء الكنيسة "وكان معظم الذين حُكِم عليهم بالهرطقة من أفاضل وأعظم المعلمين"(2)، هؤلاء الأفاضل الذين قد يعتبرهم البعض اليوم في عداد الهراطقة رفضوا بعض الأفكار والفلسفات التي بدأت تسري في الكنيسة، وهم بالطبع لم يخالفوا الكتب المقدسة، إذ تخلو هذه الكتب من تقرير هذه العقائد، بل قد تدل على ضدها، وهذا في الحقيقة ما دفع المسيحيين الأوائل إلى التنكر لأفكار مسيحية مهمة كالتجسد وأزلية الابن وتساوي الأقانيم.
لكن هذه المعارضت تلاشت وتهاوت تبين مطارق الحرمانات الكنسية وسندان وعصا الامبرطورية الرومانية؛ التي دعت أو سهلت انعقاد العديد من المجامع الكنسية التي قررت أهم المسائل العقدية كألوهية المسيح والتثليث، فقد أصبح التثليث عقيدة رسمية في أعقاب مجمعين مهمين؛ قرر في الأول منهما (مجمع نيقية) تأليه المسيح، وفي الثاني (مجمع القسطنطينية) تم تأليه روح القدس.
أولاً: مجمع نيقية:
انعقد مجمع نيقية عام 325م بأمر من الامبرطور الوثني قسطنطين الذي كان قد أعلن قبل بضع سنوات قانون التسامح الديني في الامبرطورية، ورأى قسطنطين النزاعات بين الكنائس النصرانية تفتت شعب الامبرطورية وترهق كيان الدولة، فقرر الدعوة إلى مجمع عام تحضره الطوائف النصرانية المختلفة، وقد عقد المجمع بإشرافه الشخصي، وقام بافتتاحه، وحضره 318 أسقفاً من مختلف الكنائس المسيحية الشرقية، ولم يحضره من الغربيين إلا ثمانية فقط، واستمرت المداولات ثلاثة أشهر من غير أن يصل المجتمعون إلى رأي موحد.
(1) وقد خالفه كثيرون من آباء الكنيسة حينذاك، منهم سبيليوس وغيره، وقد انتصر التثليث على التوحيد بعد تنصر قسطنطين في القرن الرابع. وأما ما قبل ترتليان فليس للتثليث أي ذكر. انظر: اليهودية والمسيحية، محمد ضياء الرحمن الأعظمي، ص (411، 416)، طائفة الموحدين من المسيحيين عبر القرون، أحمد عبد الوهاب، ص (10).
(2)
تاريخ الفكر المسيحي، القس الدكتور حنا جرجس الخضري (3/ 21).
وقد كان المجتمعون على ثلاثة محاور رئيسة:
أ- موحدون منكرون لألوهية المسيح يتزعمهم آريوس الاسكندراني ومعه زهاء ألف من الأساقفة.
ب- القائلون بأن للمسيح وجوداً أزلياً مع الأب وأنه من ذات جوهره وإن مثّل أقنوماً مستقلاً عنه، وذكر هؤلاء بأن المسيح لو لم يكن كذلك لما صح أن يكون مخلصاً، ومن القائلين بهذا الرأي بابا روما الاسكندروس، والشاب الوثني المتنصر أثناسيوس الذي يقول عنه كتاب التربية الدينية المسيحية: "كلنا يعلم ما للقديس أثناسيوس الرسول من مكانة ممتازة في الكنيسة المقدسة على مر العصور
…
لقد حضر هذا القديس مع البابا الاسكندروس مجمع نيقية
…
فكان القديس أثناسيوس هو الجندي الصالح ليسوع المسيح، وكان للقديس أثناسيوس أيضاً الفضل في صياغة قانون الإيمان
…
وفي أواخر سنة 329م بطريركاً خليفة للبابا الكسندروس".
ج- وأراد بعضهم التوفيق بين الرأيين ومنهم أوسايبوس أسقف قيسارية، حيث قال بأن المسيح لم يخلق من العدم، بل هو مولود من الآب منذ الأزل، وعليه ففيه عناصر مشابهة لطبيعة الآب.
ولا يخفى أن هذا الرأي - الذي زعم التوفيق - لا يكاد يختلف عن رأي أثناسيوس، وقد مال الملك إلى هذا الرأي الذي مثله ثلاثمائة وثمانية عشر قساً، وخالف بقية المجتمعين الذين كانوا يشايعون آريوس أو مجموعات تتبنى آراء أضعف في المجمع، كالقائلين بألوهية مريم أو أن الآلهة ثلاثة صالح وطالح وعدل أو غير ذلك.
وقد أصدر القسس الثلاثمائة والثمانية عشر قرارات مجمع نيقية والتي كان من أهمها إعلان الأمانة التي تقرر ألوهية المسيح، كما أمر المجمع بحرق وإتلاف كل الكتب والأناجيل التي تعارض قراره،