الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ورجل واحد، وعلى هذا الأساس شبه الرسول صلى الله عليه وسلم المسلمين بـ «الجَسَدِ الوَاحِدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى» .
وإذا كان الإسلام في حقيقته عقيدة ونظامًا، فإن طبيعته تقتضيه أن يكون حكمًا، ذلك أن قيام العقيدة يقتضي قيام النظام الذي أعد لخدمتها، ولا يمكن أن يقوم النظام الإسلامي إلا في ظل حكم إسلامي يماشي النظام الإسلامي ويؤازره، إذ أن كل حكم غير إسلامي لا بد أن يؤدي إلى تعطيل النظام الإسلامي، وإذا كان قيام النظام الإسلامي يقتضي قيام حكم إسلامي فمعنى ذلك أن الحكم الإسلامي من مقتضيات الإسلام أو هو من طبيعة الإسلام.
الإِسْلَامُ دِينٌ وَدَوْلَةٌ:
والإسلام ليس دينًا فحسب وإنما هو دين ودولة وفي طبيعة الإسلام أن تكون له دولة، ولو حذفنا النصوص الصريحة التي أوردناها فيما سبق والتي توجب الحكم بما أنزل الله، لما غير ذلك شيئًا من طبيعة الإسلام التي تقتضي قيام الحكم الإسلامي والدولة الإسلامية، فكل أمر في القرآن وَالسُنَّةِ يقتضي تنفيذه قيام حكم إسلامي ودولة إسلامية لان تنفيذه كما يجب غير مأمون إلا في ظل حكم إسلامي خالص ودولة إسلامية تقوم على أمر الله. وقيام الإسلام نفسه في الحدود التي رسمها الله وبينها الرسول يقتضي قيام دولة إسلامية تقيم الإسلام في حدوده المرسومة، وذلك منطق لا يجحده إلا مكابر، إذ أن الإسلام لا يمكن أن يقوم على وجهه الصحيح في ظل دولة غير إسلامية لا يهمها أن يقام، ولا يضرها أن ينتقص منه، ولا
يمنعها شيء من تعطيله أو الانحراف به، وإنما يقوم الإسلام على وجهه الصحيح في ظل دولة تقوم على مبادئ الإسلام وتتقيد بحدوده.
وأكثر ما جاء به الإسلام لا يدخل تنفيذه في اختصاص الأفراد وإنما هو اختصاص الحكومات وهذا وحده يقطع بأن الحكم من طبيعة الإسلام ومقتضياته وأن الإسلام دين ودولة.
فالإسلام قد أتى بتحريم كثير من الأفعال، واعتبر اتيانها جريمة يعاقب عليها، وفرض لهذه الجرائم عقوبات، ومن هذه الجرائم القتل العمد وعقوبته القصاص:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178]. والسرقة عقوبتها قطع اليد: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]. والقذف وعقوبته الجلد: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4].ولا جدال في تحريم الأفعال واعتبارها جرائم وفرض العقوبات عليها إنما هو من مسائل الحكم ومن أخص ما تقوم به الدولة، ولو لم يكن الإسلام دينًا ودولة لما سلك هذا المسلك.
ولا شك أن القرآن لم يأت بالنصوص الخاصة بالجرائم عَبَثًا، وإنما جاء بها لتنفذ وتقام، وإذا كان القرآن قد أوجب على المسلمين إقامة هذه النصوص وتنفيذها، فقد أوجب عليهم أن يقيموا حكومة ودولة تسهر على إقامة هذه النصوص، وتعتبر تنفيذها بعض ما يجب عليها.
والإسلام يوجب المساواة بين الناس في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]، وفي قول الرسول صلى الله عليه وسلم:«النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ المُشْطِ الوَاحِدِ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إِلَاّ بِالتَّقْوَى» وأخذ الناس بالمساواة داخل في اختصاص الحكومات ولا يدخل في اختصاص الأفراد.
والقرآن يوجب العدالة في الحكم: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58]. والعدالة في الحكم من أخص شؤون الحكومات والدول.
والإسلام يحرم الاحتكار في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَاّ خَاطِئٌ» . ويحرم الربا في قوله: تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275]. ويحرم استغلال النفوذ والرشوة في قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188]. وتحريم الاحتكار والربا والاستغلال والرشوة من أول ما تعمل له الحكومات الصالحة ومن أهم اختصاصاتها.
والإسلام يفرض ضرائب على الأموال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَ} [التوبة: 103]. ويفرض في أموال الأغنياء حقوقًا للفقراء {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25]. ويحمل الثروات أحمالاً
من الضرائب التي تنفق في سبيل الله وعلى ذوي الحاجة على ما رأينا في فصل المال ويقيد من يدهم المال بقيود شتى، وكل هذا من أخص أعمال الحكومات في أقدم العهود وأحدثها بل هو أهم ما يقيم الحكومات ويسقطها.
والإسلام يوجب أن يكون الحكم شورى بقوله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]. وقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159]. وإقامة حكم الشورى تقتضي قيام حكم إسلامي ودولة إسلامية، ولو لم يكن الإسلام دينًا ودولة لما تعرض لشكل الحكومة وَبَيَّنَ نوعها.
والإسلام بعد ذلك قد جاء بنصوص يصعب حصرها تنظم صِلَاتَ الأفراد بالحكومات، وصلة الحكومات بالأفراد، وتنظم التصرفات والمعاملات من بيع وإيجار وهبة ووصية وزواج وطلاق إلى غير ذلك، وتنظم الإدارة والاقتصاد، وتحكم الفتن الداخلية والمنازعات الدولية، والسلم والحرب والصلح والمعاهدات، وتحكم كل شأن من شؤون الأفراد وشؤون الجماعات، وتقيم الجماعة على أساس من المساواة والتعاون والتضامن الاجتماعي، وهذه النصوص في مجموعها تكون دستورًا للحكم يَبُذُّ كل دستور وضعي عرف حتى الآن وتكون شريعة تحكم كل التصرفات هي أسمى ما عرف إلى اليوم من تشريعات، وكل هذه أمور لا يقوم عليها ولا يمكن أن يضطلع بها إلا الحكومات والدول، فإذا جاء بها الإسلام وأوجبها، فقد جاء بالحكومة وأوجب قيام الدولة، ما يجادل في ذلك عاقل ولا يستسيغ غيره عقل.
وإذا قلنا أن الإسلام دين ودولة، فقد يذهب الظن بالبعض إلى أن الإسلام يفرق بين الدين والدولة، وهذا ظن خاطئ، فإن الإسلام مزج بين الدين بالدولة، ومزج الدولة بالدين، حتى لا يمكن التفريق بينهما، وحتى أصبحت الدولة في الإسلام هي الدين، وأصبح الدين في الإسلام هو الدولة.
فالإسلام يقيم شؤون الدنيا كلها على أساس من الدين، ويتخذ من الدين سندًا للدولة ووسيلة لضبط شؤون الحكم وتوجيه الحكام والمحكومين.
والدولة المثالية في الإسلام هي الدولة التي تقيم أمور الدنيا بأمر الدين، فتأخذ رعاياها بما أمر الله، وتمنعهم عما نهى الله:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج: 41].
والدين في الإسلام ضروري للدولة، والدولة ضرورة من ضرورات الدين، فلا يقام بغير الدولة، ولا تصلح الدولة بغير الدين.