المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ال‌ ‌تمهيد الحمد لله الَّذي هدى الإنسان النَّجدين: إمّا شاكرًا، وإمّا كفورًا. - المداراة وأثرها في العلاقات العامة بين الناس

[محمد بن سعد آل سعود]

الفصل: ال‌ ‌تمهيد الحمد لله الَّذي هدى الإنسان النَّجدين: إمّا شاكرًا، وإمّا كفورًا.

ال‌

‌تمهيد

الحمد لله الَّذي هدى الإنسان النَّجدين: إمّا شاكرًا، وإمّا كفورًا. وركّب فيه من الحواس ما مكّنه من الاتصال بغيره من المخلوقات، والتّفريق بينها في المعاملة.

وربطه ببني جنسه بمجموعة كبيرة من الأخلاق، والسلوك، والمبادئ الَّتِي تنظّم نوع العلاقة بين الطرفين. وتجعل كلّ طرف يتوقّف عند حدود محدّدة، تحفظ عليهم كرامتهم، وتصون إنسانيتهم، وتحفظ لهم حقوقهم، ومكتسباتهم.

وللمعاملة بين الإنسان والإنسان قواعد ثابتة من التقدير، والاحترام المتبادل، والخوف المشترك على الذات. فكما تدين تدان.

والله جعل النّاس سواسية، أكرمهم عنده أتقاهم يوم القيامة. وفي الحياة الدنيا يتميّز بعضهم عن بعض بما تُستجمع به التقوى، من يقين بالمعبود، وإخلاص في العبادة، وأداء للحقوق، ما كان منها لله، وما كان منها للعباد.

والعمل بأشكاله المتعددة، المختلفة نوع من المعاملة بين النّاس، تَحسُن، أو تسوء تبعًا لأخلاقهم.

فينزع المحسن إلى الإحسان، وينزع المسيء إلى الإساءة. وكلا الطرفين يظن جلب الأفضل لنفسه.

وفي العيش في مجتمع واحد يحتاج الإنسان لتحقيق أهدافه إلى وسائط، ووسائل مختلفة، فيبذل من فكره، وجَهده الكثير، الكثير.

فمنهم من لا يتورّع عن اتخاذ الوسائل أيًّا كان نوعها، ونتائجها لتحقيق غاياته، حتى ولو أَضرَّ بغيره من أفراد مجتمعه. ومنهم من يقف عند حدود الله،

ص: 263

حتى ولو خسر تحقيق غايته. وحاجة الإنسان لغيره لا ينفكّ يطلبها ما دبَّ على الأرض. ويطلبها غيره منه، في أكثر أحواله، وحينه.

ولمّا كان الإنسان منّا يعتريه الضّعف، ويظهر منه التقصير، فإنّه يلجأ - حينئذٍ - إلى الاحتيال على واقعه، محاولاً الخروج بما يظنّه خيرًا بأساليب، وأفاعيل شتى.

وإذا ضعف أمام حاجة نفسه، وشهواتها، ورغباتها، استهوته الشياطين حيران بين مُضي وإحجام.

ولا تنفك النّفس - الأمّارة بالسوء - تلح في الطلب حَتَّى يستحوذ على الإنسان شعور بالعجز عن مقاومتها، والحدُّ من تفلّتها، وغلوائها، فيقع في المحذور، ويتزعزع حينئذٍ كيانه الأخلاقي، ويساق إلى أغوار ساحقة، بغيضة من الدونية في تفكيره، وتحليله للأمور.

ومتى استطاع الإنسان سبيلاً إلى خلق التوازن بين متطلبات نفسه، وما يحكم الخلْق من ضوابط، ونواميس كونية، وشرائع سماوية، استطاع أن يحدَّ كثيرًا من سرعة انزلاقه فيما يخالف أمور الدين، والأخلاق. وقد أنزل الله إلى أمّة محمد صلى الله عليه وسلم شريعة سمحة، توافق طبائعهم الفطرية والمكتسبة في مجتمع إسلامي قائم على الحقّ المبين. فإن أخذ بها المسلم، وجعلها طوقًا في عنقه، كسب، وأكسب غيره الخير منه.

فعندما تضيق عليه السبل يعمل بقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح / 5 - 6] .

وعندما يستبطيء النتائج يعمل بقوله تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل / 126]

ص: 264

وإذا خاف على نفسه من ظالم، أو حاقد، أو حسود عمل بقوله تعالى:{فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة / 137] .

وإن خاف فقرًا على نفسه أو عياله، ذكر قوله تعالى:{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة / 28] .

وقوله تعالى: {. . . وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق / 2 - 3] .

وإن شعر من الشيطان عليه هيمنة، وزيَّن له سوء عمله، عمل بقوله تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصِّلت / 36] . لأنّه كما قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل / 99 - 100] .

وإن رأى الإنسان من نفسه عُجْبًا، وتعاليًا على النّاس، واستخفافًا بحقوقهم، واحتقارًا لشئونهم تذكّر قول الله تعالى:{وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً. كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء / 38] .

وقوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص / 83] .

وإن همَّ بفعل معصية، وسعى لتحقيقها تذكّر قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الإحسان:" أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ "1.

1 أَخرَجه البخاريّ في كتاب الإيمان، باب سؤال جبريل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الإِسلام والإحسان.ومسلم في كتاب الإيمان، باب الإِسلام والإيمان والإحسان، كلاهما عن أبي هُرَيْرة رضي الله عنه.

ص: 265

وقول الله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا} [النساء / 108] .

هذه البصائر العظيمة، ومثلها كثير في القرآن والسنّة أعلامُ خيرٍ مضيئة، لا يضل من استنار بنورها، وعمل بمقتضاها.

والسؤال: كيف يتفاوت المسلمون في سلوكهم، وأخلاقهم وهم أمّة رسول واحد، وينهلون من معين كتاب واحد؟!! .

والجواب:

(1)

أن التفاوت بينهم مردّه إلى فقههم في الدين ومعرفة الدليل، وإخلاص النيّة في القول والعمل لله وحده. قال ابن القيّم: ((يتفاوتون في معرفة النصوص، والاطلاع عليها، كما يتفاوتون أَيضًا في فهمها، فمنهم من يفهم من الآية حكمًا أو حكمين، ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر، ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرّد اللفظ دون سياقه، ودون إيمائه، وإشارته، وتنبيهه. ومنهم من يضم إلى النص نصًّا آخر متعلّقًا به فيفهم من اقترانه به قدرًا زائدًا على ذلك النص بمفرده.

ص: 266

وهذا مشروط بفهم يؤتيه الله عبده)) 1.

(2)

وما يزال الإنسان يتعلّم، ويرقى في العلم حَتَّى يصبح علمه خيرًا له، إن جاء وفق ما شرع الله على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أو وبالاً عليه إن كان اتباعًا لهوى، أو اقتداء بمبتدع.

(3)

ووعي الإنسان، وإدراكه، وحسن تقبّله للعلم مما يعطي الله عباده، أو يمنعه، بيَّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية بن أبي سفيان يرفعه:" مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَاللَّهُ يُعْطِي "2.

فالأمانة الَّتِي تحمّلها الرسول صلى الله عليه وسلم البلاغ للجميع بما أوحى الله إليه، بلا تمييز بينهم، ولا تقصير في حقِّ أحدهم، ولا تخصيص لأحد دون آخر. فقسمته في البشارة، والنذارة، بين النّاس، قسمة عدل، وإنصاف، وفيها تجرّد مطلق عن هوى، أو عصبية، ثمَّ الله يعطي فهم هذه الشريعة، بمفرداتها، ومجموعها، لمن يشاء من عباده، وأراد له الخير، ويمنعه عمّن يشاء بعدله، وحكمته.

(4)

ويتأثّر الإنسان بما حوله، وبمن حوله في سلوكه، وأخلاقه منذ مراحل تكوين شخصيته المبكّرة، مما يشكّل في مجموعه - غالبًا - محور شخصية هذا المخلوق في مستقبل أيام حياته. ومصداق ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:" مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ "3.

1 أعلام الموقعين (1/268) .

2 أخرجه البخاري في كتاب العلم، باب من يرد الله به خيرًا، ومسلم في الزكاة، باب النهي عن المسألة، كلاهما عن معاوية بن أبي سفيان.

3 رواه البخاري في صحيحه كتاب الجنائز، باب إذا أسلم الصبي فمات هل يُصلى عليه، ومسلم في كتاب القدر (22، 23، 24) ، باب معنى كلّ مولد يولد على الفطرة. . كلاهما عن أبي هُرَيْرة رضي الله عنه.

ص: 267

قال الخطابي: إنّ كلّ مولود من البشر إنما يولد في أوّل مبدأ الخلق، وأصل الجبلَّة على الفطرة السليمة، والطبع المتهيء لقبول الدِّين. فلو تُرك عليها، وخُلِّي وسوْمَها لاستمر على لزومها، ولم ينتقل عنها إلى غيرها.

وذلك أنّ هذا الدين بادٍ حسنه في العقول، ويُسْره في النفوس.

وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره، ويؤثره عليه لآفة من آفات النشوء، والتقليد.

ولما سلم المولود من تلك الآفات لم يعتقد غيره، ولم يختر عليه سواه.

ثمَّ تمثل بأولاد اليهود، والنصارى في اتِّباعهم لآبائهم، والميل إلى أديانهم، فيزولون بذلك عن الفطرة السليمة، وعن المحجة المستقيمة 1.

(5)

غير أن للعقل في الإنسان دورًا بالغ الأهميّة في هدايته، عند اكتمال نضجه، وتحرّره من القيود غير الشرعية، والأوهام في العادات والتقاليد الموروثة، ويبقى على أصل خِلقته من السلامة من الآفات.

فمن النّاس من ينشأ كافرًا ثمَّ يهتدي بعقله - بعد إرادة الله - إلى الإيمان الحق، متدبّرًا لآيات الله في الكون، وفي نفسه.

فيتحوّل من حال إلى حال، ومن صفة إلى صفة.

والأمر نفسه يظهر في الأخلاق، والسلوك، فينشأ الإنسان على نمط منهما سيئاً ثم يهتدي بعد أن تزول عن عينيه غشاوة الضلال.

(6)

وإذا تكلّف إنسان سلوكاً معيّناً لتحقيق غايته، تكلّف نمطاً غريباً،

1 انظر كتابه أعلام الحديث (1/716) .

ص: 268

وشاقا من التعقّل والتفكير، لا يلبث أن يتلعثم صاحبه عند المواجهة، ويجنح إلى الإصاح عن حقيقة نواياه فتظهر للعيان، {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد / 30] .

فالَّذين تخلّفوا عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرّعوا بعورة بيوتهم {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا.وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا} [الأحزاب / 12 - 14] .

والَّذين تخلّفوا عن غزوة تبوك مدّعين الخوف على أنفسهم من الافتتان ببنات الروم، كشف الله زيف دعواهم بقوله تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة / 49] .

فالنفاق سلوك شاذ عن قاعدة البراءة للإنسان السوي. وإنما يكتسبه - بعضهم - لمرض في قلبه، وضعف في إرادته، وتخلخل في إيمانه.

ويَعْتَبِرُ أنّ ذلك السلوك منه نوع من حسن التّصرّف، والتَّعْمية على الآخرين لتحقيق الغاية. فيصبح له أسلوب حياة.

وصدق الله القائل: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف / 2 - 3] .

فمخالفة القول العمل، خلق مذموم، يفقد صاحبه احترام الآخرين. . .

والمعاملات، والمبادلات بين إنسان، وإنسان تقوم على حاجتهما الفطرية إلى إشباع رغباتهما، وتتحقق بتعاونهما معًا في قضائها.

وهوى النّفس، والشعور بالتميز عن الآخرين، والأَثرة تظهر في سلوك بعض النّاس عند تعاملهم. وهي أمور قد تجرُّ إلى صراع بين الطرفين، وانتحال الأسباب باللجوء إلى أنواع من الحيل، والالتواء في الأساليب.

ص: 269

ومن حكمة الباري عز وجل أن جعل كثيرًا من المصالح الدنيوية مرتبطًا بعضها ببعض، ومكمّلاً بعضها بعضًا، فلا يمكن لإنسان تحقيق مصلحة ذاتية من كثير من الأشياء إلاّ بمساعدة غيره. ولا يستطيع إنسان الاكتفاء ذاتيًا في جميع حاجاته في الحياة دون الاستعانة بغيره، سواء كان بطريق مباشر، أو غير مباشر.

وجعل الله النّاس على درجات متفاوتة، ومختلفة من الذكاء، والفطنة، فهم يتفاوتون أيضًا في الجمع والتحصيل، ولا يتّفقون في القدْر والنوع.

قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَاءَاتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام / 165] .

والضعيف يتودد إلى القوي لتحقيق منافعه الذاتية، والقوي يبذل من ماله، وسطوته ما يؤمن حصوله على حاجته، فينشأ من هذا الصراع في هذا المجال وغيره من مجالات الحياة المعيشية المختلفة، تَفَتُّق الأذهان عن البحث في شتى الطرق، والوسائل المؤدية إلى تأمين ما يحتاجه النّاس من تحقيق مصالحهم فيما بينهم. وهم في ذلك - يختلفون في الأسلوب، والنهج، ونوع الإرادة، ودرجة الصبر، وقوّة اليقين، وقدرة التحمّل. وعلى سبيل المثال:

أ - الإنسان كلما قَصَرَ حاجات نفسِه المعيشية على الضروري منها، عاش بعيدًا عن المهاترات الَّتِي تزري به، وحفِظ لقدْره، ولكرامته علوّ المكانة، ووفّر على نفسه الجهد والمشقّة في اللجوء إلى أكثر أساليب (المداراة) ، وقلَّل من فتن الدنيا عليه، وزخرفها، وزينتها.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة: " اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلا تُكْثِرِ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ "1.

1 أخرجه الترمذي في الزهد، باب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الألباني في صحيح سنن التِّرمذيّ (2/266) : حسن.

ص: 270

ب - وأمّا الَّذي لا يتورّع عن اتخاذ أي وسيلة لتحقيق غاياته فإِنَّه يُكَيِّف أفعاله وفق مصالحه الذاتية، وتكون علاقاته مع الآخرين محكومة بالمصالح الخاصة به، فهو في سعي دائب، وشغف وتعلّق بظاهر الحياة وزخرفها، ولسان حاله يقول: إذا مت ظمآن فلا نزل القطر.

وأمّا الَّذي يُداري، ويُتدارى منه، يأخذ بحق، ويعطي بعدل، يرغب في الزيادة، ويخاف من المشتبهات فيها، يملك من الإرادة ما يجعله يسيطر على رغبات نفسه - غالبًا عِند تجاوزها حدود الله.

فهو يحرص على المباحات عند التفتيش عن الوسائل، ويتتبع الرخص عند الدفاع عن نفسه، وإقناعه لها.

فشهوة حبّ التملك تغالبه عند استرساله في تصور الأمور، وتحليلها.

فالأوّل يغلب عليه الزهد، والقناعة، الَّلذان ملأا جوانح نفسه بالرضا بما قسم الله له.

والثاني غلبه هواه، وطوَّعته نفسه، وسيَّره الشيطان.

فالهوى أعمى بصيرته، والنفس أطغته، والشيطان زيّن له عمله فرآه حسنًا. فنفسه سوّلَت له فعل تحقيق شهواتها، ففعل، حَتَّى إذا ذُكِّر، أو تذكّر سوء العاقبة، علم أنّ الله غفور رحيم. وأطنب في التسويف، وتشدَّق بقوله: ليس إنسانًا معصومًا، ثمَّ تغلبه نفسه على ما تعوّد منها.

ثمَّ هو ينقم على كلّ من يفضله بمالٍ، أو جاه، أو عيال، فلا ينسب التقصير إلى نفسه، بل إلى سوء طالع، وشحّ الفرص في الحياة.

وما أن تلوح له فرصة منها حَتَّى يبادر إلى اقتناصها غير مبال بالنتائج، فالحلال ما وقع في يده، والحرام ما استعصى عليه.

ص: 271

وأما الثالث فهو الأنموذج الأقرب للإصلاح، والصلاح، خيره قريب، وخوفه شديد من سوء العاقبة، وتردده بين الصحيح والأصح جعله يميّز بين ما هو حرام وما هو حلال وما بينهما من مشتبهات الأمور.

وإذا ما غلبته نفسه - أحيانًا - على فعل المتشابه من الأقوال، والأفعال، يسترجع، ويندم.

وفي مجتمع يعجُّ بالمفارقات الطبقية، والاعتبارات الذاتية للألقاب، والسمات الشخصية، والمكانة الاجتماعية، والأصول العرقية، يكون مجتمعًا قابلاً لشتى الأفكار، والمناحي، والاتجاهات.

فمن كل نوع تجد أنموذجًا، وأفرادًا، ولكل شرب تجد صادرًا وواردًا، وخاصة ما يتعلّق بجانب (المداراة) سلوكًا يُتَوصَّل به إلى تحقيق الغاية.

وفي هذا البحث أحاول الوصول - إن شاء الله - إلى شيء من معرفة بعض ما يتعلّق (بالمداراة) بالاستعانة بما ورد في القرآن من آيات، وفي السنّة من أحاديث، وآثار الصحابة، والتابعين. ففي مجموع ذلك ما ينير الطريق للباحث، ويكشف زيوف ما جدّ على مسألة (المداراة) عند المتأخرين الّذين {خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَءَاخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة / 102] .

و (المداراة) سلوك لا يمكن أن يسلم منه إنسان سوي، فربما كان أمرًا يجري منه مجرى الغرائز فيه الَّتِي لا تنتهي عن الطلب حَتَّى تنال إرواءها.

هذا على اعتبار أن حاجات الإنسان ومتطلباته في الحياة الدنيا لا تنتهي، وإن كانت تقلّ وتكثر بين إنسان وآخر وفقًا لدرجة التحمّل، والصبر لديه، وتقييمه لفرص الحياة.

فالوقوف على سلبيات، وإيجابيات (المداراة) يُسَهِّل الانتفاع بما هو صالح، وطرح ما هو فاسد منها، أو الحدّ من الفاسد بترويض النّفس على

ص: 272

القناعة بالقليل الصالح عن الكثير الفاسد الَّذي يضر بالدين، والأخلاق والمروءة.

وقد قيل: من ابتغى الخير اتقى الشر.

وقال الباري جلّ وعلا: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء / 36] .

وأسأل الله السداد.

ص: 273