المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالثما ورد في السنة، وآثار الصحابة والتابعين عن المداراة وكيف فهموها - المداراة وأثرها في العلاقات العامة بين الناس

[محمد بن سعد آل سعود]

الفصل: ‌المبحث الثالثما ورد في السنة، وآثار الصحابة والتابعين عن المداراة وكيف فهموها

‌المبحث الثالث

ما ورد في السنّة، وآثار الصحابة والتابعين عن المداراة وكيف فهموها

؟!

(1)

فيما يتعلّق بالاستقرار العائلي الَّذي ينشده كلّ عاقل وسويّ تبرز جوانب كثيرة من (المداراة) في حياة الرعيل الأَوَّل من سلفنا الصالح، تشكل في مجموعها منهجًا قويمًا للمهتدين. قالت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَشْرَبُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، وَيَمْكُثُ عِنْدَهَا، فَوَاطَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ عَلَى أَيَّتُنَا دَخَلَ عَلَيْهَا فَلْتَقُلْ لَهُ: أَكَلْتَ مَغَافِيرَ 1؟ ، إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ.

قَالَ: " لا، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلاً عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ لا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا "2.

وهناك رواية أخرى للحدث تقول بأنه صلى الله عليه وسلم حرّم على نفسه جاريته مارية إرضاءً لحفصة عندما اختلى بها في ليلتها وفي غرفتها 3.

1 قال الكسائي وأبو عمرو: (المغافير) شيء شبيه بالصمغ يكون في الرِمث، وقيل:(المغافير) صمغ يسيل من شجر العُرفط حلو غير أن رائحته ليست بطيبة. غريب الحديث لأبي عبيد (2/256) ، واللسان (ع/ر/ف/ط) .

2 صحيح البخاري، كتاب الطلاق، باب لم تُحرم ما أحلَّ الله لك؟

وصحيح مسلم، كتاب الطلاق، (20) .

3 أخرجها النَّسائِي في كتاب عِشرة النساء، باب الغَيرة عن أنس. قال الألباني في صحيح سنن النَّسائِي:(3/831)، رقم (3695) : صحيح الإسناد، وانظر تفسير البغوي (8/162) .

ص: 293

هذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم كان اجتهادًا منه، حَتَّى أن ربّه جلّ وعلا عاتبه في ذلك في قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم / 1] .

والرسول صلى الله عليه وسلم من منطلق بشريته، وإنسانيته السوية يقع له مع أهل بيته من الخلافات، والمنازعات ما يمكن أن يقع بين أي ربّ أسرة مع أسرته.

وربما نغّص عليه ذلك النزاع، وأغضبه، ودفعه إلى اعتزال نسائه كلهن مدّة شهر من الزمان 1.

ولكنّه في كلّ الأحوال يبقى ذلك الإنسان الكريم، ذا الخلق العظيم. فلا يظلم، ولا يجور، ولا يقول إلا الحق.

وكان صلى الله عليه وسلم يحرص على إرضاء أزواجه وفق مفهوم ما شُرِع لهن على أزواجهن من حقوق، يأتي في مقدمتها حسن المعاشرة. بالتلطف إليهن، والعدل والمساواة بينهن، وتجنب ما يكدر عليهن صفو حياتهن.

وذلك ليشرِّع للنّاس ما يتَّبعونه من آداب، وأخلاق فيما بينهم. فتحريمه العسل كان لإرضاء من أثّر في نفسها تأخره عند جارتها وقتًا أطول مما يمكثه عند الأخريات. وحلْفه عليها ألاّ تخبر أحدًا كان مراعاة لشعور زوجاته الأخريات اللاتي لم يطَّلعن على الخبر أساسًا.

فإذا نظرنا إلى نوع الفعل الَّذي وقع منه صلى الله عليه وسلم وجدناه فعلاً لا تدخله شبهة

1 صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة (66) . . وكتاب النكاح، باب رقم (83) .

وصحيح مسلم، كتاب الصيام، رقم:(23، 24) .

ص: 294

التحريم، ولا حَتَّى الكراهة، فدلّ على أنه كان تنازلاً منه عن شهوة نفس في لذّة طعام يفضّله، وآثر عليه مرضاة أزواجه، ووئام أسرته.

ثمَّ إن قول الرجل: هذا حرامٌ عليَّ. لا يُحرم شيئًا، ويكون يمينًا توجب الكفّارة عند بعضهم. وهذا يؤيده قول الله تعالى بعد ذلك:{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم / 2] .

وهذا النوع من المداراة يقع من الحكيم من النّاس، عند معاملته من هم دونه في المسئولية والقدرة على تحمّل أعباء الحياة، كالزوجات، والأبناء.

(2)

وعن العلاقة بين الرَّجل والمرأة وخاصة الزوجان، نجد من السنّة النبوية ما يرشد، ويُعين على تفهم طبيعتها، ويحقّق لها قدرًا كبيرًا من الوئام.

ذلك أنّ نوعًا من المداراة يجب أن يتسلّح به أحد الطرفين مع الآخر.

قال الرسول صلى الله عليه وسلم: " الْمَرْأَةُ كَالضِّلَعِ إِنْ أَقَمْتَهَا كَسَرْتَهَا، وَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَفِيهَا عِوَجٌ "1.

قال ابن حجر:

وفي الحديث الندب إلى المداراة لاستمالة النفوس وتألف القلوب. وفيه سياسة النساء بأخذ العفو منهن، والصبر على عوجهن، وإن من رام تقويمهن فاته الانتفاع بهن. . . مع أنه لا غنى للإنسان عن امرأة يسكن إليها، ويستعين

1 رواه البخاري في كتاب النكاح، باب المداراة مع النساء.

ومسلم، في الرضاع، رقم (63، 65) .

ص: 295

بها على معاشه. فكأنه قال: الاستمتاع بها لا يتم إلاّ بالصبر عليها 1.

(3)

وفي بعض المواطن قد يضطر المسلم فيها إلى إخفاء الحقيقة من باب (المداراة) ، بمجاوزة الصدق طلبًا للسلامة، ودفعًا للضرر عن نفسه، أو أُمَّتِهُ، أو الابقاء على وئام أسرته.

وقد يُعدُّ ذلك كذبًا، ولكن الشارع رخص فيه على سبيل التورية والتعريض في ثلاثة مواطن:

الحرب، وحديث الرجل لامرأته، والإصلاح بين النّاس 2، وبيان ذلك كما يلي:

أ - القائد في الحرب يوهم سامعه أنه ينوي التوجه إلى الشمال بينما يتّجه إلى الجنوب، حَتَّى يربك عدوه، ويضيِّع عليه فرصة الاستعداد للمواجهة، فيفاجأ بالهجوم، فتضعف عنده الروح المعنوية، فيمنى بالهزيمة، وقد سمّى النبي صلى الله عليه وسلم الحرب خَدْعة 3. قيل: معناها: الأمر باستعمال الحيلة مهما أمكن ولو مرّة، وإلاّ فقاتل.

وقيل: معناها: الحرب الجيدة لصاحبها الكاملة في مقصودها إنما هي المخادعة لا المواجهة، وذلك لخطر المواجهة وحصول الظفر مع المخادعة بغير خطر 4.

1 فتح الباري (9/254) .

2 صحيح مسلم، كتاب البر، باب تحريم الكذب وبيان المباح منه، حديث (101) ، وصحيح البخاري، كتاب الصلح، باب ليس الكاذب الَّذي يصلح بين النّاس.

3 صحيح البخاري، كتاب الجهاد، باب الحرب خدعة.

4 فتح الباري لابن حجر (6/158) .

ص: 296

قال ابن العربي: الكذب في الحرب من المستثنى الجائز بالنص رفقًا بالمسلمين لحاجتهم إليه، وليس للعقل فيه مجال، ولو كان تحريم الكذب بالعقل ما انقلب حلالاً 1.

ب - والأسير من المسلمين عند الأعداء سيستنطقونه بطرق شتى: أخبار قومه، وعددهم، وعدّتهم، وخططهم، وتوجهاتهم. فإن ذهب يخبرهم بالحقيقة هلك، وأهلك قومه، بل عليه مداراتهم بالختل، والحيلة، وقلب الحقائق، وإن تعرض للأذى تحمّل ذلك.

ج- والمرأة الَّتِي لا ترضى إلا بالزيادة، ولا تقنع بما عندها والتي يتقنعها الشك في تصرفات زوجها وتعصف بها الغيرة ينعكس ذلك على تصرفاتها في بيتها مع زوجها، وعيالها: ضجر، وانفعال يؤديان في الغالب إلى تقصير في الواجبات الزوجية، فتنشأ بسبب ذلك الخلافات، وتتكدر النفوس. مما يهدد دعائم الأسرة بالانهيار، والفُرقة.

فدور الرجل في مثل هذه الحالة وغيرها يتمثل في مداراتها، واستمالتها بالحديث الَّلين، والوعود الواسعة، واللطف معها، والإحسان إليها، حَتَّى إذا سكنت نفسها، واطمأنت عادت إلى إحسانها له، مبتهجة، راضية، ووجد هو في قربها السكينة، والمودة.

1 شرحه لسنن الترمذي، كتاب البر (26) .

ص: 297

وجاء في الحديث: " أَلا إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ، وَإِنَّكَ إِنْ أردت إِقَامَةَ الضِّلْعِ كسرْتها. فَدَارِهَا تَعِشْ بِهَا "1. وكسرها طلاقها.

فوصف المرأة بالضِلع بجامع الاعوجاج فيهما. ففي الضِلع حقيقة، وفي المرأة مجاز. ووصف للضِلع في خِلْقَتِه، ووصف للمرأة في خُلُقِها.

قال ابن العربي: والغالب من النساء قلّة الرضى، والصبر، فهن يَنْشُزْنَ على الرجال كثيرًا، ويكفرن العشير، فلذلك سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم المنتزعات أنفسهن من النكاح منافقات 2.

د - الإصلاح بين النّاس نوع من التعاون على البر والتقوى بين المسلمين، فإذا نزغ الشيطان بين مسلمَيْن، وأدى ذلك إلى نزاع بينهما، وخصومة تجر إلى

1 رواه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب الطلاق، باب في مداراة النساء (5/275) ، والترمذي في الطلاق، باب ما جاء في مداراة النساء، والحاكم في المستدرك (4/174)، وقال: صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذَّهبيّ. كلّهم عن سمرة بن جندب.

وفي المعنى انظر: صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب المداراة مع النساء.

ومسلم، كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء.

2 عارضة الأحوذي (3/135) ، طبعة 1415 هـ.

والحديث أَخرَجه النَّسائِي في كتاب الطلاق، باب ما جاء في الخلع عن أبي هُرَيْرة يرفعه:" المنتزعات، والمختلعات هنَّ المنافقات "، قال الألباني في صحيح سنن النَّسائِي (2/730 ـ 731) : صحيح.

وانظر مسند الإمام أَحمد (2/414) .

ص: 298

هجر، وقطيعة، ثمَّ سعى طرف ثالث بينهما بالصلح، واختلق لذلك كلامًا حسنًا على لسان أحدهما يقوله في الآخر، يثني عليه، ويتمنى زوال أسباب الخلاف بينهما.

فإنّ من شأن ذلك أن يزيل ما علق في نفس كلّ منهما نحو الآخر من كراهية، ويجعله يعيد النظر في موقفه من الآخر، فإذا التقيا تعاتبا، وإذا تعاتبا تصافيا. وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله:" لَيْسَ الْكَاذِبُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، ويَقُولُ خَيْرًا، وَيَنْمِي خَيْرًا "1.

(4)

وفي مشهد آخر يستحوذ على اهتمام المسلم في علاقته مع الآخرين، وما يجب عليه من حقّ الضيافة والتكريم، وفق شريعته السمحة، تبرز بعض صور (المداراة) من مجاملة، ولين جانب، واستمالة للقلوب لكسب ودّها.

قالت عائشة رضي الله عنها إنَّ رَجُلاً اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ:" بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ وَبِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ ".

فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي وَجْهِهِ وَانْبَسَطَ إِلَيْهِ.

فَلَمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ:

يَا رَسُولَ اللَّهِ حِينَ رَأَيْتَ الرَّجُلَ قُلْتَ لَهُ كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ تَطَلَّقْتَ فِي وَجْهِهِ، وَانْبَسَطْتَ له؟!!

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " يَا عَائِشَةُ مَتَى عَهِدْتِنِي فاحشًا؟ إِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ

1 رواه البخاري في الصلح، باب ليس الكاذب الَّذي يصلح بين النّاس، ومسلم في البر والصلة، باب تحريم الكذب وبيان ما يباح منه، كلاهما عن أمّ كلثوم بنت عقبة بن أبي مُعَيْطٍ أخت عثمان بن عفان لأمه.

ص: 299

اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فحشه " 1،

قال ابن حجر: وهو عند الحارث بن أبي أسامة من حديث صفوان بن عسّال نحو حديث عائشة، وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إنّه منافق أداريه عن نفاقه، وأخشى أن يُفسد عليَّ غيره "2.

أوضحت رواية ابن عسّال المعنى الَّذي من أجله قال الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال للرجل، ثمَّ الَّذي فعله معه بعد رؤيته من تطلق وجهه، وانبساطٍ له.

فقد عَلِم عن طريق الوحي حقيقته، وكان يعلم صلى الله عليه وسلم أنّ له أتباعًا يطيعونه ويُصْغُون لحديثه.

فلو أغلظ له النبي صلى الله عليه وسلم، أو صدَّه عن لقائه، لأوغر صدور أتباعه عليه، وحملهم على العصيان والكفر. ودور الرسول صلى الله عليه وسلم يرتكز على دعوة النّاس بالتي هي أحسن. وقد قال الله في حقّه:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران / 159] .

فالحديث - كما قال ابن حجر - أَصل في المداراة 3.

1 صحيح البخاري، كتاب الأدب، باب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشًا ولا متفحّشًا. ومسلم في البر، باب مداراة من يتقى فحشه.

2 فتح الباري: (10/529) .

وانظر: بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث للهيثمي. كتاب الأدب، باب في مداراة النّاس، حديث (800)(2/792) .

3 فتح الباري: (10/454) .

ص: 300

وهو كذلك، فالداعية عليه أن يتحلى بأنواع الصبر، ويداري في دعوته أصناف النّاس، بلطيف الكلام، وحسن التصرف.

قال الخطابي: يجمع هذا الحديث عِلْمًا، وأدبًا، وليس قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته بالأمور الَّتِي يَسِمُهم بها، ويضيفها إليهم من المكروه غِيبةً وإثمًا، كما يكون ذلك من بعضهم في بعض. بل الواجب عليه أن يبيِّن ذلك، ويفصح به، ويعرِّف النّاس أمره، فإن ذلك من باب النصيحة، والشفقة على الأمّة. ولكنَّه لِمَا جُبِلَ عليه من الكرم، وأُعْطِيَهُ من حسن الخلق، أظهر له من البشاشة ولم يَجْبَهَهُ بالمكروه، لتقتدي به أمّته في اتقاء شر من هذا سبيله، وفي مداراته ليسلموا من شرِّه، وغائلته 1.

وقال القاضي عياض:

وأما إلانة القول له بعد أن دخل فعلى سبيل التألُّفِ له ولأمثاله على الإسلام 2.

(5)

وفي إطار المصلحة العامة يستشعر المخلصون شعورًا قويًا بالمسئولية تجاه أمّتهم، وما يعنيها من الإخلاص والأمانة. يدفعهم إلى ذلك إيمان بالله واليوم الآخر. فيساير أحدهم عدوّه - وهو منه على حذر - ليحقق لأمّته ما يحفظ عليها أمْنها، وسلامتها، وكرامتها، دون المساس بأصل المعتقد وجوهره. ظهر شيء من هذا في وثيقة صلح الحديبية الَّتِي كُتبت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي مكّة، حين رفض مندوبهم سهيل بن عمرو أن

1 أعلام الحديث (3/2179 ـ 2180) .

2 فتح الباري لابن حجر (10/454) .

ص: 301

يُكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، وطلب أن يكتب بدلها باسمك اللهم، ووافقه الرسول صلى الله عليه وسلم على ما طلب.

واعترض سهيل على الكاتب قوله: ((هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله قائلاً: والله لو كنّا نعلم أنّك رسول الله ما صددناك عن البيت. ولكن اكتب: محمد بن عبد الله. فوافقه الرسول صلى الله عليه وسلم على طلبه.

وطلب سهيل أن يُنَصَّ في الوثيقة على ما يلي:

لا يأتيك منّا رجل - وإن كان على دينك - إلاّ رددته إلينا. فوافقه الرسول صلى الله عليه وسلم على طلبه 1.

قال الخطابي:

في ذلك باب من العلم فيما يجب من استعمال الرفق في الأمور، ومداراة النّاس فيما لا يلحق دين المسلم به ضرر، ولا يبطل معه لله سبحانه حقّ.

وذلك أن معنى: باسمك اللهم، هو معنى: باسم الله الرحمن الرحيم، وإن كان فيها زيادة ثناء.

وكذلك المعنى في تركه أن يكتب: محمد رسول الله واقتصاره على أن يكتب: محمد بن عبد الله.

لأنّ انتسابه إلى أبيه عبد الله لا ينفي نبوته، ولا يسقط رسالته.

وفي إجابته صلى الله عليه وسلم إياهم إلى أن يرد إلى الكفار من جاءه منهم مسلمًا، دليل

1 صحيح البخاري، كتاب الصلح، باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان فلان بن فلان. وصحيح مسلم، كتاب الجهاد، رقم (93) .

ص: 302

على جواز أن يقرَّ الإمام - فيما يصالح عليه العدو - ببعض ما فيه الضَّيم على أهل الدين، إذا كان يرجو لذلك فيما يستقبله عاقبة حميدة، سيما إذا وافق ذلك زمان ضعف المسلمين عن مقاومة الكفار، وخوفهم الغلبة منهم 1.

(6)

وإِذا تَعرَّض المؤمن إلى ما يهدد وجوده على الأرض بسبب معتقده، ووقع في قبضة عدوّه الَّذي ساومه بين الكفر أو الاستئصال - وهو قادر - فإِنَّ (المداراة) من المؤمن لمثل هذا الطاغية، في مثل هذا الموقف لا تطعن في صحّة إيمانه. . . ذكر أبو عبيدة بن محمّد بن عمَّار بن ياسر قال:

أخذ المشركون عمّار بن ياسر، فلم يَدَعُوه حَتَّى سبَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذَكَرَ آلهتهم بخير، ثمَّ تركوه.

فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما وراءك؟ " قال: شَرٌّ يا رسول الله، والله ما تُرِكْتُ حَتَّى نِلْتُ منك، وذكرتُ آلهتهم بخير.

قال: " فكيف تجد قلبك؟ ".

قال: أجده مطمئنًا بالإيمان.

قال: " فإن عادوا فعُدْ "2.

وشروط الإكراه أربعة:

1 معالم السنن (3/203) ، وأعلام الحديث (2/1336 ـ 1341) .

2 أخرجه الحاكم في المستدرك (2/357)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذَّهبيّ. وانظر تفسير الطبري (14/122) ، وتفسير القرطبي (10/180) .

ص: 303

1 -

أن يكون فاعله قادرًا على إيقاع ما يهدد به، والمأمور عاجزًا عن الدفع ولو بالفرار.

2 -

أن يغلب على ظنّه أنه إذا امتنع أوقع به ذلك.

3 -

أن يكون ما هدّده به فوريًا.

4 -

أن لا يظهر من المأمور ما يدل على اختياره، كمن أكره على الزنا فأولج، وأمكنه أن ينزع ويقول: أنزلت، فيتمادى حَتَّى ينزل.

ولا فرق بين الإكراه على القول والفعل عند الجمهور ويُسْتَثْنَى من الفعل ما هو محرم على التأبيد كقتل النفس بغير حقّ 1.

ولعل ذلك يندرج تحت قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران / 28] .

قال النسفي:

لا يوالي المسلم الكافر. والمحبة في الله والبغض في الله باب عظيم في الإيمان.

{إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} إلاّ أن تخافوا من جهتهم أمرًا يجب اتقاؤه، أي: إلاّ أن يكون للكافر عليك سلطان فتخافه على نفسك، ومالك فحينئذٍ يجوز لك إظهار الموالاة، وإبطان المعاداة 2.

1 فتح الباري لابن حجر (12/311) .

2 انظر تفسيره (1/152 ـ 153) فقد رواه من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس.

ص: 304

وروى الطبري عن ابن عبّاس قوله:

نهى الله سبحانه المؤمنين أن يلاطفوا الكفّار أو يتّخذوهم وليجة من دون المؤمنين، إلاّ أن يكون الكفّار عليهم ظاهرين، فيظهرون لهم اللطف، ويخالفونهم في الدين 1.

(7)

وفيما يتعلّق ببعض أمور العبادة الَّتِي دارى الشارع فيها أحوال أصحابها لتأليف قلوبهم، ما رواه أبو سعيد الخدري قال:

جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ عِنْدَهُ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوْجِي صَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطَّلِ يَضْرِبُنِي إِذَا صَلَّيْتُ، وَيُفَطِّرُنِي إِذَا صُمْتُ، وَلا يُصَلِّي صَلاةَ الْفَجْرِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.

وَصَفْوَانُ عِنْدَهُ. فَسَأَلَهُ عَمَّا قَالَتْ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمَّا قَوْلُهَا يَضْرِبُنِي إِذَا صَلَّيْتُ، فَإِنَّهَا تَقْرَأُ بِسُورَتَيْنِ، وَقَدْ نَهَيْتُهَا.

فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لَوْ كَانَتْ سُورَةً وَاحِدَةً لَكَفَتِ النَّاسَ ".

وَأَمَّا قَوْلُهَا يُفَطِّرُنِي، فَإِنَّهَا تَنْطَلِقُ فَتَصُومُ، وَأَنَا رَجُلٌ شَابٌّ فَلا أَصْبِرُ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ: " لا تَصُومُ امْرَأَةٌ إِلا بِإِذْنِ زَوْجِهَا ".

وَأَمَّا قَوْلُهَا إِنِّي لا أُصَلِّي حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ قَدْ عُرِفَ لَنَا ذَاكَ، لا نَكَادُ نَسْتَيْقِظُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ.

قَالَ صلى الله عليه وسلم: " فَإِذَا اسْتَيْقَظْتَ فَصَلِّ "2.

1 انظر تفسيره (بتحقيق محمود وأحمد شاكر) ، ج6، ص313.

2 رواه أبو داود في سننه، كتاب الصيام، باب المرأة تصوم بغير إذن زوجها. صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2/466) ، رقم (2147) .

ص: 305

معروف أنّ لكلّ صلاة وقتين: وقتًا تبدأ فيه لا تصح قبله. ووقتًا تنتهي فيه لا تجوز بعده إلاّ بعذر، وتكون قضاءً.

فالذي ينام عن صلاة الفجر حَتَّى تطلع الشمس قد فاته وقتها الأصلي، فإن كان فعله هذا بدون تفريط منه، وأمرًا طارئًا، وله عذر، كفَّر عن فعلته بأدئها حين يستيقظ مباشرة. لقوله صلى الله عليه وسلم:"إِذَا رَقَدَ أَحَدُكُمْ عَنِ الصَّلاةِ أَوْ غَفَلَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرَى "1.

وحجّة صفوان في تأخيره لصلاة الفجر حَتَّى تطلع الشمس أنها عادة اعتادها هو وقومه، مما يدل على أن أمر تأخير صلاة الفجر قد تكرّر منه وربما ظنّ وأهل بيته أَنَّهم مرغمون بحكم العادة على فعل ذلك.

يقول الخطابي:

وقوله صلى الله عليه وسلم: " فإذا استيقظت فَصَلِّ " ثمَّ تَرْكُه التعنيف له في ذلك، أمر عجيب من لطف الله سبحانه بعباده، ومن لطف نبيّه، ورفقه بأمّته.

ويشبه أن يكون ذلك منه على معنى مَلَكَة الطبع، واستيلاء العادة، فصار كالشيء المعجوز عنه. وكان صاحبه في ذلك بمنزلة من يُغمى عليه، فعُذر فيه، ولم يُؤَنب عليه.

ويحتمل أن يكون ذلك إنما كان يصيبه في بعض الأوقات دون بعض، وذلك إذا لم يكن بحضرته من يوقظه، ويبعثه من المنام، فيتمادى به النوم حَتَّى

1 أَخرَجه مسلم في كتاب المساجد ـ باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها عن أنس بن مالك، حديث رقم (316) .

ص: 306

تطلع الشمس دون أن يكون ذلك منه في عامة الأوقات. فإنّه قد يبعد أن يبقى الإنسان على هذا في دائم الأوقات وليس بحضرته أحد يُصلح هذا القدر من شأنه، ولا يراعي مثل هذا من حاله.

ولا يجوز أن يُظن به الامتناع من الصلاة في وقتها. ذلك مع زوال العذر بوقوع التنبيه، والإيقاظ ممن يحضره، ويشاهده 1.

وإذا نظرنا إلى المسألة من منظور المداراة فإنّا نصنّفها في دائرة الملاينة، والرفق، والمسايرة من العالم للمتعلّم. لإعادة النظر فيما يأتي به المتعلّم من أمور في العبادة تخالف قواعدها، جهلاً من الفاعل أو تقصيرًا. وحرصًا من العالم على تعليمه إياها ونصحه بالتي هي أحسن، متدرجًا معه من صغار المسائل إلى كبارها حتَّى لا ينفر.

وهذا الموقف يشبه - مع الفارق - الَّذي اعتاد على فعل محرّم كشرب الخمر مثلاً. فليس من حسن التوجيه الطلب منه الكفّ عن ذلك في التوِّ واللَّحظة، ولكن بالتدرج، والمتابعة، والنصيحة، والتذكير بعواقب الأمور.

ونجد بحمد الله في كتاب الله العزيز ما يؤكد صحّة هذا النهج في الإصلاح والتربية.

قال عمر: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتِ آية الْبَقَرَةِ:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} آية / 219، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ. فَقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا. فَنَزَلَتِ الآية الَّتِي فِي النِّسَاءِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} آية / 43.

1 معالم السنن (2/828) .

ص: 307

فَكَانَ مُنَادِي رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَقَامَ الصَّلاةَ ينادي: لا يَقْرَبَنَّ الصَّلاةَ سَكْرَانُ. فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ. فقَالَ: اللَّهُمَّ بَيِّنَ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانًا شَافِيًا، فَنَزَلَتِ هذه الآية:{إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ. . .} [المائدة / 90]، فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ فلمّا بلغ {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قال عمر: انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا 1.

فعادة شرب الخمر كانت متأصلة في مجتمع مكة وغيره بين العرب حينذاك، وعنوان كرم، ودليل إكرام بينهم.

وللخمر تأثير على عقل الإنسان، يفقده التمييز بين الأمور، ويدفعه للخلط فيما يأتي من أفعال، وأقوال لها مساس بالمروءة.

وأمور العبادة الَّتِي نادى بها الإسلام بعد ذلك لا تصحّ من أحد إلاّ وفق قواعد محددة، بأركان، وشروط، وواجبات، تنضبط بانضباط فاعلها، إذا كان سويًا، عاقلاً، مدركًا.

والعقل في ذلك كلّه هو المحور الأساسي الَّذي تدور عليه قابلية التكاليف الشرعية، وهو مناطها.

فإذا كان متوقّدًا، يقظًا استطاع التفريق بين الحلال والحرام، أو انقاد - برضى وقبول - لمن يرشده إلى ذلك، ومن الآفات الَّتِي لها تأثير سلبي مباشر على العقل البشري: الخمر. أو كلّ ما خامر العقل، وستره.

1 أخرجه الترمذي في تفسير سورة المائدة. وأَبو داود في الأشربة، باب في تحريم الخمر. والنسائي في الأشربة، باب في تحريم الخمر.

قال الألباني في صحيح سنن أبي داود: صحيح (2/699) ، وانظر أسباب نزول القرآن، للواحدي (ص201) .

ص: 308

فكيف عالج الشارع الحكيم أمر استئصال عادة شرب الخمر بين المسلمين؟

لقد اتّبع أسلوب التدرج في ذلك، فبدأ بتذكيرهم بأن إثمها أكبر من نفعها.

ثمَّ وصفها بأنها رجس من عمل الشيطان.

وأخيرًا قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة / 91] .

قال الفاروق بعد سماعها: انتهينا، انتهينا. وقد قال قبل:((اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا)) 1.

وفي موقف آخر من مواقف الشارع الحكيم ما يوافق أسلوب الدعوة بالتي هي أحسن، بالرفق، واللين، مع المؤلفة قلوبهم، مارواه النسائي وغيره عن حكيم بن حزام قال:((بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا أَخِرَّ إلَاّ قائمًا)) 2.

قيل: معناه: أن لا يكون سجوده في الصلاة إلاّ خرورًا من قيامه. أي: لا

1 انظر سنن الترمذي، كتاب التفسير. وسنن أبي داود، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر. والنسائي في كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر. صححه الألباني في صحيح سنن النَّسائِي (3/1126) ، حديث رقم (5113) . والحاكم في المستدرك (2/278) وصححه.

2 أخرجه النسائي في كتاب التطبيق، باب كيف يخر للسجود، صحح إسناده الألباني. (صحيح سنن النسائي (1/234) .

وأحمد في مسنده (3/402) ، وأبو داود الطيالسي في مسنده رقم (1360) .

ص: 309

يركع؟!! .

والركوع في الصلاة من أركانها!؟ .

وسقوط شيء من الأركان في الصلاة يبطلها!؟ .

والصلاة الباطلة لا تجزيء صاحبها!!؟ .

إنّ معالجة الداعية الحكيم أمر المؤلفة قلوبهم تغلب عليه الدراية، وبعد النظر، والصبر، والروية.

فإنّ الإيمان بعد الكفر مباشرة لا يسلم صاحبه من التردد بين المضي والإحجام، والشك واليقين.

والكافر مادي الأفكار، يأخذ بحساب الربح والخسارة عند كل ما يخصه من أمور الحياة، فيقدم هذا، ويؤخر هذا، فإذا ما وعد بما لم يره من ثواب أو عقاب في عالم الغيب - إن هو أحسن أو أساء - أخذ الأمر مأخذ الاحتمال، فهو بين المتطلع إلى الفوز والنجاح، والنادم على ضياع فرصة اللذات، والشهوات.

ولكن يبقى عامل الخوف في نفسه من المجهول. ويرى ما يتقلّب فيه الإنسان من صحّة وعافية، ثمَّ ما يعقب ذلك من موت، وفناء، حقيقة لا مراء فيها.

فالخوف غريزة في المخلوق تدفعه أو تمنعه من فعل ما يريد أو التصرف حيال ما يشعر خطره على نفسه أو ماله أو أهله.

فمن استطاع من الدعاة أن يستغل آثار هذه الغريزة عند المسيء أو المنحرف، أو الضّال. ويوقظ في أنفسهم الشعور بخطورة أفعالهم، ومغبَّة أعمالهم، ثمَّ يبيِّن لهم محاسن الدين، وما وعد به أتباعه المهتدين. فإنّ النجاح حليفه إن شاء الله.

ص: 310

فالذي اشترط عند بيعته ألَاّ يخرَّ إلاّ قائمًا، علم الرسول صلى الله عليه وسلم من لسان حاله أنه بعد أن يدخل في الإسلام، ويتعلّم من أمور الدين ما يفتح الله به عليه فسيعلم أن الركوع ركن في الصلاة، وأن تركه متعمدًا أو ناسيًا يبطلها، وأن الصلاة الباطلة لا تفيد صاحبها، وهي عامود الدين.

وهذا الموقف يشبه موقف وفد ثقيف عندما اشترطوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليهم ولا جهاد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" سيصَّدقون، ويجاهدون إذا أسلموا "1.

وقد يجد الداعية نفسه أمام موقف يرتكب فيه أحدهم معصية، لا يقدر على دفعها في حينها لتعطل لغة الحوار بين الطرفين، فالآثم في حالة من اللاوعي لا تجعله يدرك حقيقة ما يقول، ولا يقدر أن يميّز بين إنسان وآخر في المعاملة. لتأثر عقله بما تعاطاه من مسكر أو مخدر.

والداعية في حالة أدرك معها حقيقة صاحبه، فتراجع في نفسه عن صياغة ألفاظ النصيحة، أو التنديد بما يراه، فترك المكان، تجنبًا لأي نوع من المهاترات أو المناوشات ليحفظ قدره، وهيبته، ويتجنب الحماقة في الفعل أو القول.

قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:

1 أخرجه أحمد في مسنده عن جابر (3/341) ، وفي سنده ابن لهيعة، اخْتَلَطَ بعد احتراقِ كتبه. وللحديث شاهد أَخرَجه أبو داود في كتاب الخراج، باب ما جاء في خبر الطائف. قال: حدّثنا الحسن بن الصباح، حدّثنا إِسماعيل بن عبد الكريم، حدّثني إِبراهيم بن عقيل عن أبيه عن وهب قال: سألت جابرًا. . .

قال الألباني: إِسناد صحيح، رجاله كلّهم ثقات (السلسلة الصحيحة) :(1888) .

ص: 311

كَانَتْ لِي شَارِفٌ 1 مِنْ نَصِيبِي مِنَ الْمَغْنَمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْطَانِي شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ. فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَبْتَنِيَ بِفَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاعَدْتُ رَجُلاً صَوَّاغًا مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنْ يَرْتَحِلَ مَعِيَ فَنَأْتِيَ بِإِذْخِرٍ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَهُ الصَّوَّاغِينَ، وَأَسْتَعِينَ بِهِ فِي وَلِيمَةِ عُرْسِي.

فَبَيْنَا أَنَا أَجْمَعُ لِشَارِفَيَّ مَتَاعًا مِنَ الأَقْتَابِ 2، وَالْغَرَائِرِ 3، وَالْحِبَالِ، وَشَارِفَيَّ مُنَاخَتَانِ إِلَى جَنْبِ حُجْرَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ. أقبلت فَإِذَا أنا بشَارِفَيَّ قَدِ أُجِبَّتْ أَسْنِمَتُهُمَا، وَبُقِرَتْ خَوَاصِرُهُمَا، وَأُخِذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا. فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ حِينَ رَأَيْتُ ذَلِكَ الْمَنْظَرَ، وقُلْتُ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟

فَقَالُوا: فَعَلَه حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَهُوَ فِي الْبَيْتِ فِي شَرْبٍ 4 مِنَ الأَنْصَارِ. غنّت قينة فقالت في غنائها:

أَلا يا حَمزُ للشُرُفِ النِّواء 5

وهُنَّ مُعَقَّلاتٍ بالفِنَاء

ضَعِ السِّكِّينَ في الّلبَّاتِ منها

فضرِّجْهُنَّ حمزةُ بالدِّماءِ

1 الناقة المسنة.

2 جمع قَتَب، وهو رحل صغير على قدر السَّنام.

3 الغرائر واحدها غِرارة: التي للتِّبْن.

(الشَّرْب) بالفتح جمع (شارب)[الصحاح] .

(النواء) السمان.

ص: 312

وأَطْعِم مِن شَرائِحِهَا كَبابًا

مُلَهْوَجَةً على وَهَجِ الصِّلاءِ

فأَنتَ أبا عُمارة المرَجَّى

لِكَشْفِ الضُّرِّ عَنَّا والبَلاءِ 1

فوثب إلى السيف فاجْتَبَّ أسنمتهما، وبقر خواصرهما، وأخذ من أكبادهما.

قال عليّ: فَانْطَلَقْتُ حَتَّى أَدْخُلَ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ.

قال: فَعَرَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الَّذي أتيت له، فقال:"مَا لَكَ؟! ".

فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ. عَدَا حَمْزَةُ عَلَى نَاقَتَيَّ فَأَجتبَّ أَسْنِمَتَهُمَا، وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا، وَهَا هُوَ ذَا فِي بَيْتٍ مَعَهُ شَرْبٌ.

فَدَعَا رسول الله صلى الله عليه وسلم بِرِدَائِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ يَمْشِي، فَاتَّبَعْتُ أثره أَنَا وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِي هو فِيهِ، فَاسْتَأْذَنَ، فأُذن له، فَإِذَا هُمْ شَرْبٌ.

فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلُومُ حَمْزَةَ فِيمَا فَعَلَ. فَإِذَا حَمْزَةُ ثَمِل مُحْمَرَّةٌ عَيْنَاهُ.

فَنَظَرَ حَمْزَةُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ، فَنَظَرَ إِلَى رُكْبَتِيه، ثُمَّ صَعَّدَ النَّظَرَ فَنَظَرَ إِلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: وهَلْ أَنْتُمْ إِلَاّ عَبِيدُ أبي؟!!

فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَدْ ثَمِلَ، فَنَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ الْقَهْقَرَى، فخرج،

1 الشعر لعبد الله بن السائب المخزومي. [انظر فتح الباري لابن حجر (6/200) .

ص: 313

وَخَرَجْنَا. وذلك قبل تحريم الخمر 1.

(القهقرى) المشي إلى الخلف.

قال ابن حجر:

وكأنّه فعل ذلك خشية أن يزداد عبث حمزة في حال سكره، فينتقل من القول إلى الفعل، فأراد أن يكون ما يقع من حمزة بمرأى منه ليدفعه إن وقع منه شيء 2.

وقال الخطابي:

إنّ هذا إنما كان من حمزة قبل تحريم الخمر.

لأنّ حمزة قُتل يوم أُحُدٍ، وكان تحريم الخمر بعد غزوة أُحُد، فكان معذورًا في قوله، غير مؤاخذ به. وكان الحرج عنه زائلاً إذ كان سببه الَّذي دعاه إليه مباحًا، كالنائم، والمغْمَى عليه، يجري على لسانه الطلاق، والقذف، فلا يُؤاخذ بهما 3.

وهكذا فإنّ العاقل لا ينبغي له أن يخاطب السكران في حال سكره، ولا أن يقيم عليه الحد - إن كان ممن يملك ذلك - إلاّ بعد أن يفيق من سكره، حَتَّى يكون وقع الجَلْد عليه محسوسًا عنده، ورادعًا له بعد ذلك.

1 أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب فرض الخمس. ومسلم في الأشربة، باب تحريم الخمر.

2 فتح الباري (6/201) .

3 معالم السنن (3/390) .

ص: 314

وفي حياة المسلم من المواقف ما يستدعي المسايرة، والمجاملة وإن كان فيه ما ينغص عليه، ويظنه ظاهريًا خسارة لا ربحًا، ولكن الإيمان القوي بحكمة المشرِّع وسلامة التشريع، يدفع صاحبه إلى الامتثال، ويسوغ له أمر الطاعة.

قال جابر بن عَتيك: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سَيَأْتِيكُمْ رُكَيْبٌ مُبْغَضُونَ، فَإِنْ جَاءُوكُمْ فَرَحِّبُوا بِهِمْ، وَخَلُّوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَبْتَغُونَ، فَإِنْ عَدَلُوا فَلأَنْفُسِهِمْ، وَإِنْ ظَلَمُوا فَعَلَيْهَا. وَأَرْضُوهُمْ، فَإِنَّ تَمَامَ زَكَاتِكُمْ رِضَاهُمْ، وَلْيَدْعُوا لَكُمْ "1.

قال الخطابي:

(رُكيب) تصغير (ركب) وهو جمع (راكب) .

وإنما عنى به السعاة إذا أقبلوا يطلبون صدقات الأموال.

فجعلهم مُبغضين لأنّ الغالب في نفوس أرباب الأموال بغضهم، والتكرّه لهم، لما جُبلت عليه القلوب من حبّ المال، وشدّة حلاوته في الصدر، إلاّ من عصمه الله ممن أَخلص النيّة، واحتسب فيها الأجر، والمثوبة 2. فقد وجَّه إلى مداراتهم، والتلطف إليهم لقيامهم بما أوجب الله من حقّ للفقير على الغني.

ويُشبه هذا قول أحد الصحابة وهو أبو الدرداء: إِنَّا لَنَكْشِرُ فِي وُجُوهِ أَقْوَامٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ 3.

1 أخرجه أبو داود في سننه من كتاب الزكاة، باب رضا المصدَّق. قال الألباني في ضعيف سنن أبي داود (حديث رقم345) : ضعيف.

2 معالم السنن (2/245) .

3 رواه البخاري في كتاب الأدب، باب مداراة النّاس (تعليقًا) . والبيهقي في شعب الإيمان (6/266) . وابن أبي الدنيا في مداراة النّاس (ص36) .

ص: 315

و (التكشير) ظهور الأسنان عند الضحك.

فهل يُعدّ هذا نفاقًا؟

فقد ترد الشبهة فيه، ولكنه لا يصدق على من مثل أبي الدرداء رضي الله عنه، ومن يشبهه من المؤمنين.

فهو إذًا من المداراة وهي خفض الجناح، ولين الكلمة، وترك الإغلاظ في القول والرفق بالجاهل في التعليم، وبالفاسق في النهي عن فعله، والإنكار عليه بلطيف القول، والفعل، ولاسيما إذا اُحتِيج إلى تألُّفه.

روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنّ الله أمرني بمداراة النّاس كما أمرني بإقامة الفرائض "1.

وقد قيل: إنّ من ابتغاء الخير اتقاء الشَرِّ 2.

فإذا أراد الخير لنفسه جانب فعل الشرور، واتقى الأشرار.

1 أخرجه الديلمي في مسنده بسند ضعيف عن عائشة، (انظر فردوس الأخبار:(1/212) . قال الألباني في السلسة الضعيفة، حديث رقم (810) : ضعيف جدًّا.

2 انظر: كتاب مداراة النّاس، لابن أبي الدنيا، ص36 [تحقيق محمد خير رمضان يوسف] .

ص: 316