المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني ما ورد في القرآن الكريم عن المداراة ومدلولاتها - المداراة وأثرها في العلاقات العامة بين الناس

[محمد بن سعد آل سعود]

الفصل: ‌المبحث الثاني ما ورد في القرآن الكريم عن المداراة ومدلولاتها

‌المبحث الثَّاني ما ورد في القرآن الكريم عن المداراة ومدلولاتها

القرآن الكريم كتاب هداية {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة / 16] .

وهو كلام الله ووحيه إلى نبيّه المصطفى - محمَّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، الَّذي ختم به النبوة، وقفّى به الرسل {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى / 52] .

وجاء القرآن الكريم في مضمونه شاملاً لما أراد الله بيانه لخلقه من أوامر ونواهٍ، وواجبات وحقوق {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام / 38] .

وهو {كِتَابٌ أُحْكِمَتْءَايَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود / 1] .

فهاتان الصفتان العظيمتان: الشمول، والتفصيل أكْسَبَتا معجزة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم الخالدة قوّة الحجّة، وسلامة المنطق، ورسوخ القاعدة، وإيجابية المفهوم، واستمرارية التطبيق، وصلاح النظام، وعدم الخشية من التبديل أو التحريف {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر / 9] .

فلا يجد العاقل السوي عند سماعه أو تلاوته إلاّ أن يُذعن ويستجيب.

ومن أعرض، وناوأ، فلمرض في قلبه، أو لجهله فحوى الخطاب، أو فيه شيء من المكابرة قد تَسَوَّرَ بصره فأعمى بصيرته.

وقصّ فيه من القَصص أحسنه عن الأمم السابقة في العصور الغابرة، ليتفكّر، ويتذكّر، ويعتبر إنسان العصر بمن مضى، وباد، وانقرض، من

ص: 279

الأمم، والدول، أكابر، وأصاغر، حَتَّى لا يغترّ أحد بقوّته، أو جبروته، أو سلطانه.

وللقرآن أساليب مختلفة باختلاف المناسبات، والوقائع، فهناك ما يتطلّب الجدل بالتي هي أحسن لتأليف القلوب، وما يصاحب ذلك من آيات باهرات، تُبْهت الفاسق، وتكسر طوق المعاند، والمكابر، وتزيد المؤمن إيمانًا راسخًا.

كقوله تعالى في وصف موقف إبراهيم الخليل عليه السلام مع النمرود: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْءَاتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة / 258] .

فالقوة بالمنطق غلبت القوّة بالجدل المتفرع عن الباطل.

ويظهر ضعف موقف الماديين عند الجدال بالحجّة على شكل زمجرة، وزعيق، ووعد، ووعيد.

وللباطل جولات يظهر الحقّ بعدها سيفًا يبتر علائقه. وعند مجادلة الجبابرة من أهل الظلم، والبغي في ظلمهم، وبغيهم، وجبروتهم، تظهر الحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن عند المؤمنين بوحدانية الله، وتظهر سِمة التعالي، والتطاول، والمكابرة عند الكافرين. ذلك لأنّ كلّ فريق ينطلق من قاعدته الَّتِي بنى عليها معتقده. فالمؤمن الراسخ الإيمان ذو قناعة تامة، واطمئنان قلبي لما سيؤول إليه أمره. والكافر فقد الحجّة السليمة فلجأ إلى القوّة، والأساس السليم يقوى على حمل صَرْحٍ سَليم. وما كان على جرفٍ هارٍ فإنّه ينهار.

والأنبياء والرسل من أكثر عباد الله المؤمنين حرصًا على هداية النّاس، ودعوتهم جميعًا إلى توحيد الله في العبادة. وتحذيرهم من كيد عدوهم الأوّل

ص: 280

إبليس اللعين وزمرته.

وقد غلب على أسلوب دعوتهم طابع الصبر، واللِّين. فهذا نوح عليه السلام يمكث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عامًا يدعوهم إلى إخلاص العبادة لله وحده، ويحذّرهم سوء العاقبة إن هم أعرضوا، ويعدهم بالثواب الجزيل إن هم أقبلوا.

فالتحذير، والتذكير، والإغراء، من أساليب الإمالة للقلوب السليمة إلى الأخذ بأسباب النجاة. من غير عنف، أو إكراه.

وإبراهيم عليه السلام كان من أكثر المناوئين له أبوه وقومه عند دعوته لهم إلى عبادة الله وحده لا يشركون به شيئًا، وقد لاقى في ذلك عنتًا شديدًا، وحرجًا بليغًا لوقوف أبيه مع المشركين ضدّ دعوته، حَتَّى قال له أبوه يومًا:{أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْءَالِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} [مريم / 46] .

فاستوحش إبراهيم عليه السلام من موقف أبيه آزر، ولكنه أبقى على شيء من البرِّ له عندما {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم / 7] .

غير أنّ هذا الموقف اللين لم يغير شيئًا من موقف أبيه واستمر في عدائه لدعوته.

عندها خشي عليه السلام أن ينقلب موقفه من أبيه وقومه من مفهوم المداراة إلى مفهوم المداهنة.

قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة / 114] .

تبيّن له من جهة الوحي أنّ أباه لن يؤمن، وأنّه يموت كافرًا.

فانقطع رجاؤه عنه، فقطع استغفاره له.

وهكذا يجب أن يكون موقف الداعية المؤمن من المناوئين لدعوته، صبرًا

ص: 281

على الأذى، ولينًا في الخطاب، ووضوحًا في البيان، والتذكير، والوعد، والوعيد. حَتَّى إذا سُدَّت المنافذ في وجهه، واستحكم الهوى على عقل عدوه، وأظهر مقاومة شرسة، تركه وما أراد، فقد أعذر إلى الله، وبرئت ذمّته، وأقام الحجّة على عدوّه.

ولإبراهيم الخليل عليه السلام في دعوته إلى الله موقف آخر مع عدو من أعداء دعوته الَّذي سنَّ لنفسه قانونًا يقضي بوجوب إحاطته بكل امرأة توصف بالحسن والجمال تدخل أرض مملكته ليستأثر بها لنفسه.

وجاءه خبر (سارة) زوج إبراهيم عليه السلام، وكانت أجمل نساء الأرض. قيل له: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلاّ لك. فأدرك الخليل عليه السلام أنّ الجبّار سيستدعيها إليه بالقهر، والجبروت، ولا طاقة له بردِّه، ومنعه عمّا أراد، فاتّفق مع زوجه أن تقول إذا سألوها عن صِلة القرابة بينهما أَنَّها أخته - وأراد بذلك أخوّة الإيمان - وفي ذلك تمويه على الكافر حَتَّى لا يقدم على قتله إذا عَلم أنّه زوجها، ليتخلّص منه، ويأمن شرَّ غيرته، ولكن ربّما حرص - الجبار - على استرضائه بوصفه أخًا لسارة طمعًا في زواجه منها عن طريق طلبها منه، ثمَّ يرجو مدافعته عنها.

وقيل: إنّ إبراهيم عليه السلام أراد دفع أعظم الضررين بارتكاب أخفّهما، وذلك أنّ اغتصاب الملك إياها واقع لا محالة، لكن إن علم أنّ لها زوجًا في الحياة حملته الغيرة على قتله وإعدامه، أو حبسه وإضراره، بخلاف ما إذا علم أنّ لها أخًا فإن الغيرة حينئذٍ تكون من قبل الأخ خاصة لا من قِبل الملك فلا يبالي به 1.

1 انظر فتح الباري لابن حجر (6/393) .

ص: 282

وصلة إبراهيم عليه السلام بربّه وثيقة، ومتينة، فأدرك عليه السلام أن لله في ذلك الأمر حكمة، وأنّ الله لن يمكّن عدوّه من وليّه، وأنّ العاقبة للمتّقين، وهو الحفيظ العليم.

وكان من قصّتهما أنّ الله أخزى الكافر، وأبطل كيده، وكبته، وحمى عرض نبيّه، وأخدمها الكافر (هاجر) أم إسماعيل عليه السلام 1.

فطريق إبراهيم عليه السلام في التعامل مع الكافر الجبّار أخذ جانب المسايرة، والملاينة طريقًا لمداراة الجاهل، السفيه، الأحمق.

وإبراهيم عليه السلام كان غيورًا، حَتَّى قيل: بأنّه صنع تابوتًا لزوجه سارة يضعها فيه كلّما تنقّل بها ليُخْفِيها عن أعين النّاس!! .

فلو أبدى أدنى مقاومة لتصدى له الجبّار بجبروته، وجبابرته وقضى عليه، وعلى دعوته، ولكنّ الله سلَّم.

وما فعله إبراهيم عليه السلام حيال فعل الجبّار الغاشم جاء معناه في قول الله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران / 28] .

فقوله تعالى: {إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} معناه: إلاّ أن تخافوا من جهتهم أمرًا يجب اتقاؤه، أو تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم 2.

1 انظر صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، باب قول الله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} .

وصحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل إبراهيم الخليل.

2 انظر في هذا المعنى تفسير الطبري للآية (28) من سورة آل عمران.

ص: 283

وموقف يوسف عليه السلام مع إخوته الذين اتّهموه بالسرقة واتهموا شقيقه في قولهم: {إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ} [يوسف / 77] . كان موقفًا حكيمًا، يتّسم صاحبه ببعد النظر وقوّة الإرادة من التحكم في النّفس ورغباتها، عند أصعب ساعات الإثارة والطغيان.

فهو أمام تهمة خطيرة، مخلّة بالشرف، ومخالفة للمروءة، ومن أقرب النّاس إليه، وكان يستطيع أن ينتقم لنفسه منهم، وأن يوقع بهم أشدّ العقوبة لمكانته الاجتماعية المتميّزة عند ملك مصر.

وقبل ذلك ما فعلوا به من إلقائه في الجبِّ، وحرمانه من أبويه، وتصييره رقيقًا.

فقد سنحت الفرصة، وقد أصبح وزيرًا للملك، وبيده خزائن الأرض، وجاءه إخوته مع من جاء من الفقراء المعْوزين يطلبونه رزقًا بعد أن مسَّهم وأهلهم الضرُّ. ولكنه كان نبيًّا كريمًا، حكيمًا {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} [يوسف / 77] .

فقد كان عليه السلام واثقًا من ربّه، ومتحصّنًا بإيمانه، فلو أخذته العزة بالإثم لأمر من يفتك بهم، أو أن يطردهم شرّ طردة، وكان محقًا.

ولكنه أدرك عليه السلام بأنّ فقدهم سيزيد من ألم أبيه وحزنه، وأساه.

وأَدركَ أَيضًا أنّ للشيطان دورًا فيما وقع بينه وبين إخوته، فلا ينبغي أن يكون عونًا له على ما أراد.

فكظم غيظه، وعفا عنهم، بعد أن عرّفهم بخطئهم، وأَبَرَّ بوالديه، وجمع شمل أسرته.

وما كان ذلك ليتحقق لولا مشيئة الله، ثمَّ الصَّبر والملاينة، وشيء من

ص: 284

الحيلة، والحنكة، والختل.

فقد كان عليه السلام لطيف الحيلة فتوصل إلى بغيته بالرفق، والسهولة.

وموسى بني إسرائيل عليه السلام في دعوته فرعون وقومه إلى الإيمان بالله وحده، لاقى تعنتًا شديدًا من كافر عنيد، حكمه نافذ في قومه، بل نصّب نفسه ربًّا عليهم، وفرض عليهم عبادته {يَاأَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [القصص / 38] . وكفر بمعجزات موسى إليه، لم يعتبر بواحدة منها، بل زادته إصرارًا، وتعنتًا، وطغيانًا.

شأنه خطير، وشرّه مستطير، فهذا النوع من البشر عنيد، مكابر، ذو نفوذ، وسلطان واسِعَيْن، لا يتردد، ولا يتورّع عن فعل كلّ ما يمكِّنه من عدوه بكل الوسائل، والطرق.

وقد واجه من يدعوه إلى دعوة تناقض كلّ مبادئه، وتُسفِّه كلّ أمانيه، وأحلامه، فأخذ يتخبّط في أقواله، وأفعاله {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف / 51 - 54] .

إنّ طاغيةً هذا شأنه لن يكون سبيل دعوته إلى ما يخالف معتقده أمرًا سهلاً لبشر لولا عناية، ومشيئة الله. فانتدب الله إليه موسى وأخاه هارون عليهما السلام {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه / 42 - 44] .

وخطّ لهما أسلوب دعوته، قال تعالى: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى. اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى

ص: 285

وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات / 15 - 19] .

قال النسفي:

بدأ مخاطبته بالاستفهام الَّذي معناه العرض.

كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا؟

وأردفه الكلام الرقيق ليستدعيه باللطف في القول ويستنزله بالمداراة من عتوِّه 1.

ولقد بذل موسى وأخوه هارون عليهما السلام وسْعَيْهما في دعوة فرعون وقومه المشركين إلى الإيمان بالله وحده، ولكن ذلك الجهد المضني، وعدم التواني في الدعوة منهما لم يجديا نفعًا مع طاغية أعمى الهوى، والشيطان، وشهوة النفس بصره، وبصيرته.

فتدخلت القدرة الإلهية في التخلّص منه بإغراقه في اليمّ {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَءَامَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِيءَامَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَءَايَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْءَايَاتِنَا لَغَافِلُونَ} [يونس / 90 - 92] .

فالمداراة بالملاينة من موسى وأخيه هارون عليهما السلام لفرعون وقومه المشركين هي من باب إقامة الحجّة عليهم {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَءَايَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه / 134] .

1 انظر تفسير النسفي: 4/330.

ص: 286

وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء / 165] .

فكان فرعون مدارئًا، وموسى عليه السلام مداريًا. وكان موسى عليه السلام والمؤمنون معه محكومين، وفرعون كان حاكمًا، فاقتضت الحكمة أن يراعي المحكوم الحاكم المستبد اتقاء سطوته، وجبروته للإبقاء على الداعي، ودعوته لاستمرارهما مع الآخرين، بلا إفراط ولا تفريط، وإنما مداراة، وحنكة حَتَّى إذا أقام عليهم الحجة تركهم، وشأنهم يواجهون مصيرهم المحتوم، وقد برأت ذمّة الداعية إن شاء الله.

ومحمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بذل في دعوته إلى توحيد الله جهده، وطاقته بأساليب، وطرق مختلفة يظهر عليها طابع الحكمة، والرويَّة، والشفقة، والإحسان، والصبر الجميل، والموعظة بالتي هي أحسن.

فهو رسول الله إلى الثقلين، بخلاف من سبقه من الرسل والأنبياء، فقد كان كلّ نبي يبعث في قومه خاصة.

مما جعل مهمته صلى الله عليه وسلم من أشقّ المهام، وأصعبها. إلاّ أنّ الله عز وجل أمدّه بعونه، وتوفيقه، وعصمه من الخطأ، أو الزلل، ورسم له طريق الدعوة فيما أنزل عليه من قرآن، تكفَّل بحفظه عز وجل عن الزيادة، والنقصان، فكان معجزته الخالدة، فيه البيان، والإرشاد لطريق الدعوة والهداية.

قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران / 159] .

ففي هذه الآية الكريمة أبرز صفات الداعية وأهمّها: أن يكون الداعية ليِّن الجانب مع القساة، والمتعنّتين، ممن تسوقهم قلّة درايتهم إلى استخدام ألفاظ

ص: 287

نابية في مخاطبتهم إياه.

أو ممن تدفعهم العصبية إلى طلب أمر من الأمور من باب التّعنّت.

وأن يكون الداعية رقيق القلب يحسن معرفة الجوانب الإنسانية عند مخاطبيه، فيراعي الفروق الفردية بينهم في الوعي والإدراك، ومعرفة عواقب الأمور. فلو كان ممن يأخذ هذا بجريرة هذا، ويحكم على هذا في صورة هذا لوقع في قلوبهم شيء من الكراهية له، ولربما تردد الضعيف في إيصال مظلمته إليه خشية إغضابه، وحنقه عليه، فتضيع بذلك حقوقٌ لمستحقيها، وتتفتح دروبٌ من الشرّ لمنتحليها.

وأن يعفو عمن أساء، ويستغفر له إن كان ما وقع منه جهلاً، أو قصورًا في التفكير.

فإنّ مثل هذه الأفعال الحسنة وغيرها مما يقرّب المدعو إلى الداعية. ثمَّ يصل أمر الداعية إلى ذروته في الفاعلية عندما يُشعر المدعوين بقدْرهم، وقيمتهم الفكرية حين يشاورهم في الأمور الَّتِي لها مساس بدينهم، ودنياهم.

حينئذٍ يترسخ الولاء من التابع للمتبوع، ويستشعر الجميع أهميّة الرأي، والمشورة، فيتوحد بذلك المصير، ويصبح مشتركًا.

وفي توجيه آخر ينهى الله نبيه محمّدًا صلى الله عليه وسلم من التعرض لآلهة المناوئين لدعوته، والمجاهرين بتكذيبه {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام / 108] .

فطالما أنهم لا يميزون بين الحق والباطل فيما يقولون ويفعلون، ويخضعون لأهوائهم، وشهواتهم في تحديد رغباتهم، فعليكم أن تمسكوا عن ذكر آلهتهم بما يكرهون، حَتَّى لا يدفعهم ذلك عصبية وجهلاً إلى سبّ الله جلّ وعلا عدوانًا وظلمًا.

ص: 288

قال ابن العربي:

هذا يدل على أنّ للمحقِّ أن يكفّ عن حقّ جائز يكون له إذا أدّى ذلك إلى ضرر يكون في الدين 1.

ويشبه ذلك حضور مجالس السفهاء، والتعقيب على تصرفاتهم، والتشنيع عليهم، ووعدهم، ووعيدهم بما جاء في الشريعة من أحكام على مثل أفعالهم.

فإن أحد السفهاء قد يفلت لسانه بكلمات تنال من المشرِّع، أو تنقص من قدر الإسلام أو المسلمين، وربما تعرّض الداعية نفسه إلى السخرية، والأذى المادي، والمعنوي. فالكف عن التنديد بصنيعهم مباشرة بالقول أو الفعل نوع من المداراة، والمسايرة اللتين تمتصان الكثير من غلوائهم، حَتَّى إذا عادت إليهم عقولهم بالتفكير المجرد في عواقب الأمور، استطاع حينئذٍ الموجهون توجيههم الوجهة الصحيحة.

ومحاولة توجيه النصيحة للفرد بعيدًا عن سماع الآخرين ومعرفتهم. فالنصيحة في الجماعة نوع من التوبيخ يأبى كثير من النّاس سماعه.

وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل/125] .

فقوله تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قال الزمخشري: بالطريقة الَّتِي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق، واللين من غير فظاظة، ولا تعنيف 2.

وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ

1 أحكام القرآن (2/744) .

2 الكشاف (2/349) .

ص: 289

الْمُسْلِمِينَ. وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ. وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت / 33 - 35] .

في هذه الآيات توجيه حميد، ومنهج دعوة قويم.

فإن الداعي لا يخلو من مناوئين لدعوته. وأولئك المناوئون يكون لهم أنصار مؤيِّدون لهم قد غفلوا عن معرفة حقائق الأمور، وملابساتها. فهم يأتمرون بأوامر زعمائهم، ويقضون بقضائهم. فإن أخذ الداعية بكل سيئة تصدر عنهم، وأراد مقابلة السيئة بالسيئة أكفهرَّ وجه دعوته، وزين الشيطان حينئذٍ للطرفين وسائل الانتقام، والفتك بالآخر.

فيتضخم بذلك مجال الشرِّ، ويتّسع، ويضيق بالمقابل مجال الخير حَتَّى الاختناق.

ومحصّل هذا: خوف، وتشرد، وقتل، وفرقة.

ومنهج الإسلام، ومبادئه السامية: الإصلاح، والوئام، وإخراج النّاس من الظلمات إلى النور. وتحقيق ذلك يتطلب الصبر والأناة، والموعظة الحسنة، والصفح عن المسيء بجهالة. ومقابلتها بما أمكن من الإحسان، حَتَّى إذا اجتمع الصفح والإحسان، وبذل الاستطاعة فيه، كانت حسنة مضاعفة بإزاء سيئة، وهذه قضية قوله تعالى:{بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} والمداراة محثوث عليها ما لم تُؤد إلى ثلم دينٍ وإزراء بمروءة.

والحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما، فخذ بالحسنة الَّتِي هي أحسن من أختها إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة الَّتِي ترد عليك من بعض أعدائك. ومثال ذلك:

رجل أساء إليك إساءة، فالحسنة أن تعفو عنه. والتي هي أحسن أن تحسن

ص: 290

إليه مكان إساءته إليك.

مثل: أن يذمّك فتمدحه، ويقتل ولدك فتفتدي ولده من يد عدوه. فإنّك إذا فعلت ذلك انقلب عدوك المشاق مثل الولي الحميم مصافاة لك.

وعن ابن عباس {بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الصبر عند الغضب، والحلم عند الجهل، والعفو عند الإساءة 1.

وقوله تعالى: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} [المزمل / 9] . خطاب لنبينا صلى الله عليه وسلم أن يجانب الَّذِين ناوءوا دعوته من مشركي مكة وغيرها بقلبه، وهواه، ويخالفهم مع حسن المخالقة، والمداراة، والإغضاء، وترك المكافأة 2.

وفي توجيه عام للنّاس يقول الله تعالى في حقّ الوالدين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا. وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء / 23 - 24] .

1 ذكره البخاري في صحيحه معلّقًا بصيغة الجزم، في كتاب التفسير،ن سورة حم السجدة، وأَخرَجه الطبري في تفسيره (24/119 ـ 120) من طريق عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس.

قال الإمام النحاس: ((وهو صحيح عن ابن عباس، والذي يطعن في إسناده يقول: ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، وإنما أخذ التفسير عن مجاهد وعكرمة. وهذا القول لا يوجب طعنًا، لأنه أخذه عن رجلين ثقتين، وهو في نفسه ثقة صدوق)) . انظر: (الناسخ والمنسوخ) للنحاس: 1/461) .

2 الكشاف (4/640) بتصرف.

ص: 291

فالإنسان في نموه يمر خلال حياته بمراحل مختلفة، تبدأ بالضعف، وتنتهي بالضعف. ففي المرحلة الأولى يتولى رعايته أبواه أو أحدهما. وفي المرحلة الأخيرة يتولى رعايته أبناؤه.

غير أن مرحلة الضعف الأولى يعقبها قوة وعنفوان.

ومرحلة الضعف الثانية تتطور إلى ضعف، وضعف شديد يفقد معه الإنسان الكثير من نشاطه، وحيويته فيكون فيها محتاجًا لمن يساعده على قضاء كثير من شئونه في الحياة، فيبرز حينئذ دور الأبناء فيكون منهم البِرّ بوالديهما الَّذي يتمثل في طاعتهما في غير معصية الله، ورعايتهما، والصبر على ذلك. هنا يمكن للمداراة أن يكون لها دورٌ محوريٌّ في تلك العلاقة الظاهر في المجاملة، والأثرة، والتنازل، والملاينة، والرفق، والملاطفة، وحسن العشرة، والمداخلة في الأمور بسهولة، وبالرضى، والقبول من الفاعل.

ومن لم يوفق إلى فعل ذلك مع أبويه أو أحدهما فهو من المحرومين الأشقياء. كما بيّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ"، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ، أَحَدَهُمَا، أَوْ كِلَيْهِمَا، ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ "1.

وهكذا يمضي الشارع الحكيم في بيانه الرائع، المحكَم آخذًا بأيدي المؤمنين إلى ما فيه صلاحهم في الدارين.

1 صحيح مسلم، كتاب البرّ، باب رغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما عند الكبر فلم يدخل الجنّة، عن أبي هُرَيْرة رضي الله عنه (ح/2551) .

ص: 292