الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: أضواء على الاسْتِشْرَاق والمُسْتَشْرِقِينَ:
مفهوم الاسْتِشْرَاق ونشأته:
يطلق لفظ الاسْتِشْرَاق على طلب معرفة ودراسة اللغات والآداب الشرقية، ويطلق لفظ المُسْتَشْرِقِ على الدارس للغات الشرق وفنونه وحضارته، وعليه فَالاسْتِشْرَاقُ دراسة يقوم بها غير الشَرْقِيِّينَ لتُراث الشرق، هذا من حيث المفهوم الواسع.
والذي يعنينا كما يقول الدكتور محمود حمدي زقزوق (1) -: هو «المعنى الخاص لمفهوم الاسْتِشْرَاق الذي يعني الدراسات الغربية المتعلِّقة بالشرق الإسلامي في لغاته وآدابه وتاريخه وعقائده وتشريعاته وحضارته بوجه عام، وهذا هو المعنى الذي ينصرف إليه الذهن في عالمنا العربي والإسلامي، عندما يطلق لفظ استشراق أو مستشرق، وهو الشائع أيضاً في كتابات المُسْتَشْرِقِينَ المَعْنِيِّينَ» .
وقد حظي الإسلام واللغة العربية باهتمام المُسْتَشْرِقِينَ الذين أَوْلَوْا هذين الموضوعين عنايتهم أَيَّمَا عناية، وشملوهما باهتمام دون غيرهما من سائر الموضوعات، وهذا مِمَّا يلفت النظر في - المقدمة - إلى معرفة أسباب هذه العناية - كما سيأتي - وحسبنا هنا أنْ نذكر قول «جون تاكلي»:«يجب أنْ نستخدم كتابهم - أي القرآن الكريم - وهوأمضى سلاح في الإسلام، ضِدَّ الإسلام نفسه، لنقضي عليه تماماً، يجب أنْ نُري هؤلاء الناس أنَّ الصحيح في القرآن ليس جديداً، وأنَّ الجديد فيه ليس صحيحاً!» ويقول «جِبْ» : «إنَّ الاسلام مَبْنِيٌّ على الأحاديث أكثر مِمَّا هو مَبْنِيٌّ على القرآن، ولكننا إذا حذفنا الأحاديث الكاذبة لم يبق من الإسلام شيء» (2)!.
(1)" الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ": ص 18.
(2)
" التبشير والاستعمار ": ص 40 نقلاً عن المرْجِعَيْنِ الأَصْلِيَيْنِ.
ولخَّصَ «بلغراف» عداءهم للقرآن في كلمته المشهورة: «متى توارى القرآنُ، ومدينة مكة عن بلاد العرب، يمكننا حينئذٍ أنْ نرى العربي يتدرَّج في سبل الحضارة التي لم يبعده عنها إلَاّ محمد وكتابه (1).
ولقد قُدِّرَ للقرآن الكريم أنْ يحتضن الإسلام واللغة العربية، كما قُدِّرَ للحديث النبوي ذلك، ومن ثم أصبحا أغنى المواضيع عند المُسْتَشْرِقِينَ على الإطلاق، واستأثرا باهتمامهم، فتوفَّروا عليهما، وبحثوا في كل ما قدروا عليه من علومهما، ودارت حولهما بحوثهم الأكاديمية بصورة تلفت النظر، وتسترعي الانتباه، وتستوقف الباحث المتأمل، ولا نكون غالين ولا مُتزيِّدين إذا قلنا: إنَّ القرآن والسُنَّة هما المحور الذي تدور حوله الدراسات الاستشراقية.
يقول الدكتور محمود حمدي زقزوق (1): «ومن الصعب تحديد تاريخ مُعَيَّنٍ لبداية الاسْتِشْرَاق وإذا كان بعض الباحثين يشير إلى أنَّ الغرب النصراني يؤرِّخ لبدء وجود الاسْتِشْرَاق الرسمي بصدور قرار مجمع فيِنَّا الكَنَسِي في عام 1312 هـ بإنشاء عدد من كراسي اللغة العربية في عدد من الجامعات الأوربية (3)، ولكن الإشارة هنا إلى «الاسْتِشْرَاق الكَنَسِي» تدل على أنه كان هناك اسْتِشْرَاق غير رسمي قبل هذا التاريخ، فضلاً عن أنَّ هناك باحثين أُورُوبيِّينَ لا يعتمدون التاريخ المُشار إليه بداية للاِسْتِشْرَاقِ، ولذلك تتَّجه المحاولات في هذا الصدد لا إلى تحديد سَنَةٍ مُعَيَّنة لبداية الاسْتِشْرَاق، وإنما إلى تحديد فترة زمنية مُعَيَّنة على وجه التقريب، يمكن أنْ تُعَدَّ بدايةً للاِسْتِشْرَاقِ، وليس هناك شك في أنَّ الانتشار السريع للإسلام في المشرق والمغرب قد لفت بقوة أنظار رجالات اللَاّهوت النصراني إلى هذا الدين، ومن هنا بدأ اهتمامهم بالإسلام ودراسته .. وعلى الرغم من أنَّ الاسْتِشْرَاقَ يمتدُّ بجذوره إلى ما يقرب من ألف عام مضت، فإنَّ مفهوم مُسْتَشْرِق لم يظهر في أوربا إلَاّ في نهاية القرن الثامن عشر .. وأدرج مفهوم الاسْتِشْرَاق في قاموس الأكاديمية الفرنسية عام 1838 م
…
وعلى أية حال فإنَّ الدافع لهذه البدايات المُبَكِّرَةِ للاِسْتِشْرَاقِ كان
(1)" لمحات في الثقافة الإسلامية ": ص 174.
(2)
" الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ": ص 18 وما بعدها بتصرف.
(3)
انظر: " الاسْتِشْرَاق " إدوارد سعيد: ص 80.
يتمثل في ذلك الصراع الذي دار بين العالمين: الإسلامي والنصراني في الأندلس وصقليَّة، كما دفعت الحروب الصليبية بصفة خاصة إلى اشتغال الأوربيين بتعاليم الإسلام وعاداته، ولهذا يمكن القول بأنَّ تاريخ الاسْتِشْرَاق في مراحله الأولى هو تاريخ للصراع بين العالم النصراني الغربي في القرون الوسطى والشرق الإسلامي على الصعيدين: الديني والأيدلوجي ..
وقد نشأت الصلة بين الغرب خاصة والمسلمين عامة - كما يقول الدكتور عجيل النشمي (1) - منذ أنْ كان المسلمون في أسبانيا، وكانت أوثق الصلات بالمسلمين من فرنسا وإيطاليا وانجلترا، حيث إنَّ فرنسا عرفت المسلمين منذ أنْ اجتاح عبد الرحمن الغافقي بجيوشه جبال البرانس، واستولى على مدن كثيرة، إلى أنْ كانت موقعة بواتييه سنة 772.
وكانت هناك صلة في عهد الخليفة العباسي هارون الرشيد 809 ومراسلاته وهداياه مع الإمبراطور شارلمان 814 كان لها دور في توثيق الصِلَاتِ، ثم جاءت مرحلة الحروب الصليبية!
وهناك دوافع الحروب الصليبية التي يطول الحديث فيها، وكذلك الظواهر التي تَتَّسِمُ بها بحوث المُسْتَشْرِقِينَ، فنَّدَهَا المرحوم الدكتور مصطفى السباعي، فليرجع إليها من شاء (1).
وسارت فرنسا خطوات في احتلال شمال أفريقيا، وحملة نابليون على مصر، والانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان، وكل ذلك أثمر نتائج متعدِّدة متنوِّعة حضارية وثقافية وفكرية وعقائدية، ومن ثم كانت مدارس للدراسات الشرقية ومعاهد وجامعات ومجلَاّت.
ومعلوم أنَّ إيطاليا أعرق دول الغرب اتصالاً بالمسلمين وحضارتهم اتصالاً قوياً، ومن ثم عنيت جامعة بولونيا 1076 بعلوم العرب، وجامعة نابولي 1224 بثقافتهم، وجامعة روما 1248 بالآثار واللغة والآداب العربية والألسنة السامية،
(1)" المُسْتَشْرِقُونَ وَمَصَادِرِ التَشْرِيعِ الإِسْلَامِي ": ص 7 وما بعدها بتصرف.
(2)
انظر: " السُنَّة ومكانتها في التشريع الإسلامي ": ص 187 - 189.