الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن الرُواة وتعريضهم للنقد، وقد صوَّرَ ابن سيرين موقف المُحَدِّثِينَ في تلك الحقبة أحسن تصوير بقوله:«لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الفِتْنَةُ قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ. فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُنّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنظَرُ إِلَى أَهْلِ البِدَعِ فَلَا يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ» (1).
ولا مُنافاة بين قول ابن سيرين وبين ما تقرَّرَ من أنَّ إلزام الرُواة بذكر الإسناد بدأ منذ عهد الصدِّيق رضي الله عنه - كما سبق - وقد حفظت لنا كتب الحديث ونقد الرجال كثيراً من الوقائع التي ألزم فيها الرُواة بذكر أسانيدهم والإفصاح عمَّن تلقُّوا عنهم (2).
المُسْتَشْرِقُونَ والإسناد:
ومع أنَّ المُسْتَشْرِقِينَ ليس لهم إسناد فيما يعتقدون أو يتَّبعون، فإنهم يضيفون إلى جهالاتهم السابقة مُفتريات حول الإسناد، يطول الحديث بذكرها، ومن أراد معرفة ذلك فليرجع إلى ما نقله الدكتور الأعظمي عن «كَيْتَانِي» و «شْبْرَنَجْر» (3)، و «هوروفتس» و «روبسون» و «شَاخْتْ» ، وموقف «روبسون» من تفسير «شَاخْتْ» للفتنة وكيف قرَّرَ «هوروفتس» ما رآهُ «روبسون» ، واتَّفَقَ مع «كَيْتَانِي» ، وتابعهم «سزكين» (5).
موقف عجيب:
ولا يفوتني أنْ أذكر هذا الموقف العجيب من الدكتور فؤاد سزكين حيث ذهب كما يقول الدكتور العمري إلى القول بأنَّ الإسناد بدأ يفقد مكانته منذ ألَّفَ البخاري " صحيحه "، فأكثر فيه التعاليق والفقرات اللغوية والتاريخية دون إسناد (6).
وقد كتب الدكتور العمري تحت عنوان: «ملاحظات واستدراكات على كتاب
(1)" مسلم بشرح النووي ": 1/ 84.
(2)
انظر " الوضع في الحديث ": 2/ 22 وما بعدها.
(3)
انظر " دراسات في الحديث النبوي ": ص 392 نقلاً عن المراجع غير العربية.
(4)
انظر المرجع السابق: ص 393.
(5)
انظر " بحوث في تاريخ السُنَّة المشرفة ": ص 50 نقلاً عن المراجع غير العربية.
(6)
" بحوث في تاريخ السُنَّة المشرفة ": ص 56، وانظر " تاريخ التراث العربي ": 1/ 249 الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة. ط 1971.
" تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين» كما ذكر هو في آخر كتابه " بحوث في تاريخ السُنَّة المشرَّفة " غير أني لم أطَّلع عليه.
ويقول الدكتور سزكين (1): وشُهرة البخاري تقوم على كتابه " الجامع الصحيح " وهو ما يمْكِنُ أنْ نصفه - بعد دراسة عميقة ناقدة - بأنه مصادفة حسنة، وهناك بَوْنٌ شاسع بين المكانة الرفيعة التي زادت وتدعَّمتْ مع القرون التالية، والنقد اللاذع الحاد من بعض الشُرَّاح المَوْضُوعِيِّينَ!، الذين وجب عليهم أنْ يفعلوا ذلك أثناء شرحهم له في مواضع عديدة من النص، ومِمَّا يدعو إلى العجب أنَّ الأبحاث العلميَّة الحديثة التي يبدو أنها لم تعرف هذا على الإطلاق قد أخذت - دون نقد أو تمحيص - الصفات المنسوبة إلى الكتاب، رغم أنها غير صحيحة! والخطأ الأكبر الذي جَرَّ إلى أخطاء هو اعتبار كتاب البخاري أول كتاب «مُصَنَّفٍ» أُلِّفَ بهدف أنْ يهتدي المرء بمعونته في كل باب من أبواب الفقه، وفي كل مسألة فقهية (2). وقد أوضحت دراسة تطور علم الحديث أنَّ مجموعات البخاري ومعاصريه لا تمثِّلُ بأية حال من الأحوال بدايات كتب «المصنّف» وذلك لأنها ليست إلَاّ جمعاً مُلَخِّصًا للمؤلفات التي ظهرت ثماراً لتطوُّر استمرَّ قروناً من الزمن، ويبدو أنَّ البخاري قد استخدم كتب الحديث - وكثيراً من الكتب اللغوية والتاريخية والفقهية كذلك - دون انتقاء! ودون توفيق! الأمر الذي جعل الشُرَّاح المتأخِّرين يعجبون منه!، ويطلقون عليه «عاف من التقليد» ! وبالنسبة للأسانيد فإنَّ مصنّف البخاري " الجامع " لا يرقى إلى الكمال! فالأسانيد ناقصة في حوالي ربع المادة، وقد أطلق على هذا الأمر ابتداءً من القرن الرابع اسم «التعليق» وبهذا يفقد كتاب البخاري كثيراً من سِمَتِهِ مُصنَّفاً جامعاً شاملاً!، أما البخاري نفسه فقد برهن على أنه ليس عالم الحديث الذي طوَّرَ الإسناد إلى الكمال، كما زعم «كَيْتَانِي» ، بل هو أول من بدأ معه انهيار الإسناد!
وهذا موقف عجيب، فهو - كما أسلفنا - قد دحض شُبَهَ المُسْتَشْرِقِينَ حول الإسناد (3).
(1) المرجع السابق: ص 307.
(2)
انظر المرجع السابق، ففيه إشارة إلى جُولْدْتسِيهِرْ.
(3)
وانظر " محاضرات في تاريخ العلوم المحاضرة الثالثة ": ص 37 وما بعدها.