المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الطعن في الأفعال النبوية: - المستشرقون والسنة

[سعد المرصفي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌الفصل الأول: أضواء على الاسْتِشْرَاق والمُسْتَشْرِقِينَ:

- ‌مفهوم الاسْتِشْرَاق ونشأته:

- ‌مراحل كتابة المُسْتَشْرِقِينَ:

- ‌الغارة على المخطوطات والكتب العربية:

- ‌عقد المؤتمرات:

- ‌مرحلة جديدة:

- ‌مواكبة الاسْتِشْرَاق للغزو الاستعماري:

- ‌تسلل المُسْتَشْرِقِينَ إلى الدوائر العلمية واستعانتهم ببعض نصارى العرب:

- ‌دور الصهيونية في الاسْتِشْرَاق:

- ‌الغارة مستمرة:

- ‌معاول هدم:

- ‌إنكار نزول القرآن من عند الله:

- ‌التشكيك في صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌إنكار كون الإسلام ديناً من عند الله:

- ‌التشكيك في صِحَّةِ الحديث النبوي:

- ‌التشكيك في قيمة الفقه الإسلامي:

- ‌التشكيك في قُدرة اللغة العربية:

- ‌تشكيك المسلمين بقيمة تراثهم الحضاري:

- ‌إضعاف ثقة المسلمين بتراثهم:

- ‌أخطاء سببها الجهل بالعربية والبعد عن الحياة الإسلامية:

- ‌دوافع الإحن والعصبية:

- ‌الفصل الثاني: شُبُهَات حول‌‌ مفهوم السُنَّةوتدوينها:

- ‌ مفهوم السُنَّة

- ‌تمهيد:

- ‌مفهوم الحديث:

- ‌بين السُنَّة والحديث:

- ‌شُبُهَاتٌ مُتَهَافِتَةٌ:

- ‌تقليد:

- ‌مصطلح وثني:

- ‌تناقض وتهافت:

- ‌مزاعم المُسْتَشْرِقِينَ:

- ‌جَهْلٌ مُرَكَّبٌ:

- ‌الفصل الثالث: جهالات حول السند والمتن:

- ‌تمهيد:

- ‌مفهوم السند:

- ‌مكانة السند:

- ‌بداية استعمال الإسناد:

- ‌إلزام الرُواة بذكر الإسناد:

- ‌المُسْتَشْرِقُونَ والإسناد:

- ‌موقف عجيب:

- ‌مفهوم المَتْنِ:

- ‌المُسْتَشْرِقُونَ والمتن:

- ‌منهج نقد الأناجيل:

- ‌الطعن في الأفعال النبوية:

- ‌خاتمة:

- ‌أهم المراجع:

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌الطعن في الأفعال النبوية:

من تلوين القديسين من هذا الركام نشأ منهج (1) ، ولكنه ليس علميا بحتاً ، يمكن الاعتماد عليه اعتماداً كلياً ، ولإثبات هذا أذكر مثالاً واحداً:

يقول «بلتمان» : مثال آخر للطريق التي لعب بها التصور في تطوير المادة القديمة وإتقان القصة.

فيذكر لنا لُوقَا في الإصحاح 23: 39 - 43 استهزاء وكلام المُذنبين المصلوبين مع عيسى.

«وكان واحد من المذنبين المُعَلَّقين يجدف عليه قائلا: " إنْ كنت أنت المسيح فَخَلِّصْ نفسك وإيانا "، فأجاب الآخر وانتهره قائلا: " أولاً أنت تخاف اللَّه إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه

» بينما يذكر مرقس: 15 - 32: «وصلبوا معه لِصَّيْنِ ، واحد عن يمينه ، وآخر عن يساره

» واللذان صُلِبَا معه كانا يُعَيِّرَانِهِ. «فإنجيل مرقس أقدم من لُوقَا ، بالرغم من المصدر القديم ، يعطينا معلومات أقل من المصدر المتأخر ، ويرى بلتمان التفاصيل الموجودة في لوقا عبارة عن زيادة في تصوير القصة وإتقانها!»

وخلاصة القول أنَّ هذا المنهج وجد للبحث في منطقة مجهولة مظلمة ذات أشواك ، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، ولكن هيات هيات! حيث لا يمكن الاعتماد على نتائجه بحال ، فكيف يمكن تطبيقه على نقد الأحاديث النبوية ، وشَتَّانَ شَتَّانَ ما بين الثَّرَى وَالثُرَيَا!

‌الطعن في الأفعال النبوية:

ولم يقف الأمر عند حَدِّ الشُبُهَات المتهافتة التي أثاروها حول المفهوم والتدوين ، وجهالاتهم حول السند والمَتْنِ - كما أسلفنا - فقد كتبوا في " دائرة المعارف " جهالات تحمل التهافت ، يضيق المقام عن ذكرها (2) ، ونقل الأستاذ أحمد أمين بصورة غير رسمية كثيراً من آراء اليهودي المجري جُولْدْتْسِيهرْ (3) ، كما نقل

(1) انظر: المرجع السابق: 101.

(2)

انظر: " دائرة المعارف ": 29013 وما بعدها.

(3)

انظر " السنة ومكانتها ": ص 189 وما بعدها.

ص: 54

الدكتور علي حسن عبد القادر ملخص شُبَهِ هذا المُسْتَشْرِق (1).

ومع أننا قد ذكرنا في تعريف السُنَّة أنها أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله

الخ، وأنَّ الحديث مُرادِفٌ لها عند غالب المُحَدِّثِينَ والأصوليِّين، باعتبار أنَّ في كل منها إضافة قول أو فعل

الخ، فإننا نجد «شَاخْتْ» يقول عن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم:«كانت أفعاله تعتبر بَشَرِيَّةً، بَحْتَةً، حتى ما مَسَّ منها أمور الدين، فكانت بهذا لا تعتبر معصومة عن الخطأ، وقد نقدت هذه الأفعال أكثر من مَرَّةٍ» ! (2).

وهذا قول متهافت، لأَنَّ سُنَّة النبي صلى الله عليه وسلم حُجَّةٌ في التشريع، وقد تضافرت الأدلة على ذلك من الكتاب والسُنَّة والإجماع.

أما الكتاب فحسبنا أنْ نقرأ قول الحق تبارك وتعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} (3).

والكتاب والسُنَّة صنوان أو توأمان، عليهما تتوقَّفُ حقيقة الإيمان، ومنهما تُسْتَمَدُّ أحكام الأفعال التي يباشرها الإنسان، ومنزلة السُنَّة من الكتاب منزلة البَيَانِ من المُبَيّن، قال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (4).

هذا إلى ما تضيفه السُنَّة إلى القرآن من شؤون الدين وأحكامه، قال - جَلَّ شَأْنُهُ -:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (5).

(1) انظر " نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ": ص 126، ومن أراد المزيد فليرجع إلى " السُنَّة ومكانتها ": ص 78، 196، 203، 219، 228، 232، 233، وزعم شَاخْتْ في " أصول الفقه ": ص 3، ودعوى جُولْدْتسِيهِرْ في " العقيدة والشريعة ": ص 51، و " المُسْتَشْرِقُونَ وَمَصَادِرِ التَشْرِيعِ الإِسْلَامِي ": ص 105، و " دائرة المعارف ": 13/ 403 - 404، و " دراسات في الحديث النبوي ": ص 416، 456، 457، و " التمييز ": ص 82، و " السُنَّة قبل التدوين ": ص 187، 194، 254، 255، 499، 500.

(2)

" المُسْتَشْرِقُونَ وَمَصَادِرِ التَشْرِيعِ الإِسْلَامِي ": ص 106 نقلاً عن " العقيدة والشريعة ": ص 252 وما بعدها بتصرف، و " المنتَقَى من دراسات المُسْتَشْرِقِينَ "، المحاضرة الأولى: ص 90 وما بعدها.

(3)

[النساء: 80].

(4)

[النحل: 44].

(5)

[الحشر: 7].

ص: 55

فإنها تُضيف بما تقتضيه «ما» من معنى العموم أنَّ كل ما يقدِّمُهُ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأمَّة من أمور دينها فإنها مُكَلَّفَةٌ باعتباره والسير على سُنَنِهِ، ويؤكِّدُ ذلك المعنى قوله - جَلَّ شَأْنُهُ -:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} إلى قوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1).

وأما السُنَّة فقد كثرت الروايات في ذلك، وحسبنا أنْ نذكر ما رواه أبو داود وغيره بسند صحيح عن المقدام بن معد كرب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْكِتَابَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ

» الحديث. وفي رواية: «أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَنِّي، وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالاً اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ» (2).

يقول الشوكاني: «إنَّ ثبوت حُجِّيتها - أي السُنَّة - واستقلالها بتشريع الأحكام ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلَاّ من لا حَظَّ له في الإسلام» (3).

وأما الإجماع فقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على العمل بالسُنَّة النبوية، واقتفاء هُدَى النبي صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أو تقريراً، وقد سبق بيان منهج أبي بكر وغيره في التثبت، وكانت حياتهم صورة حَيَّة للعمل بالسُنَّة والتمسك بها والحث عليها والترغيب فيها.

أما خصوص فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنَّ كلام شَاخْتْ: «كانت أفعاله تعتبر بشرية، بَحْتَةً، حتى ما مَسَّ منها أمور الدين، فكانت بهذا لا تعتبر معصومة عن الخطأ، وقد نقدت هذه الأفعال أكثر من مَرَّةٍ» ! كلام مردود، لأَنَّ أفعال النبي صلى الله عليه وسلم تنحصر في

(1)[النساء: 64 - 65].

(2)

أبو داود: " السُنن "(4580)" عون المعبود "، و " الترمذي ": 42 - العلم (2664)، و " أحمد ": 4/ 130 - 132، و " ابن ماجه ": المقدمة (12)، و " الحاكم ": 1/ 109.

(3)

" إرشاد الفحول ": ص 23.

ص: 56

أقسام، هي:

- الفعل الجِبِلِّيُّ.

- الفعل العادي.

- الفعل الدنيوي.

- الفعل المعجز.

- الفعل الخاص.

- الفعل الامتثالي.

- الفعل المؤقَّت لانتظار الوحي.

- الفعل المُتَعَدِّي.

- الفعل المبتدأ المُجَرَّد (1).

يقول الدكتور عجيل النشمي (2): ومحل النزاع بين العلماء في القسم الأخير، وهو الفعل المبتدأ المُجرَّد، أما بقية الأفعال فلا خلاف في أنها تدلُّ على الحكم في حقنا، باعتبار حكمها بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فما فعله على وجه الإباحة فهو لنا مباح، وما لم نعلم حُكْمَهُ بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم حملناهُ على أدنى الاحتمالات، وهذه لمحة عن أهم هذه الأنواع:

الفعل الجِبِلِّيُّ: وهو الذي يفعله النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره بَشَراً لا يختلف في ذلك عن غيره من البشر، وهو على ضربين:

الأول: فعل يقع منه صلى الله عليه وسلم اضطراراً دون قصد منه لإيقاعه مطلقاً، كَتَألُّمِهِ من جُرْحٍ يصيبهُ، إلى غير ذلك من أمور، فهذا النوع لا حُكْمَ له شرعاً، لوقوعه دون قصد منه صلى الله عليه وسلم.

(1) " أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية: 1/ 216، وانظر: ص 185 وما بعدها، ففيه بيان حُجِيَّة الأفعال النبوية على الأحكام من حيث الجملة.

(2)

" المُسْتَشْرِقُونَ وَمَصَادِرِ التَشْرِيعِ الإِسْلَامِي ": ص 121 وما بعدها بتصرف.

ص: 57

الثاني: ما يفعله عن قصد وإرادة، ولكنها أفعال تدعو إليها ضرورته، من حيث هو بشر، كتناول الطعام والشراب

وهذا النوع كسابقه في الحكم، فهو خارج عن التكليف.

الفعل العادي: وهو ما فعله صلى الله عليه وسلم جَرْياً على عادة قومه ومألوفهم، مِمَّا لم يَدُلَّ على ارتباطه بالشرع، كبعض الأمور التي تتصل بالعناية بالبدن، أو العوائد الجارية بين الأقوام في المناسبات

وحكم هذا النوع كسابقه من الأفعال الجِبِليَّةِ، والأصل فيها جميعاً أنها تدلُّ على الإباحة لا غير، إلَاّ إذا ورد قول يأمر بها أو يُرَغِّبُ فيها، أو يظهر ارتباطها بالشرع بقرينة غير قولية، كتوجُّه الميت في قبره إلى القِبْلَةِ، فإنَّ ارتباط ذلك بالشرع لا خفاء فيه.

الفعل الدُنْيَويّ: وهو ما فعله صلى الله عليه وسلم بقصد تحصيل نفع في البدن أو المال أو نفع المسلمين في حياتهم عامَّة، كالأفعال الطبيَّة، وما يتعلَّقُ بالزراعة أو الصناعة أو التجارة أو تدبير أمور الحرب وغيرها، وهذا النوع لا يلزم فيه أنْ يكون الاعتقاد مُطابقاً للواقع، وليس في هذا حَطٌّ من قَدْرِهِ، لأَنَّ منصبه مُنْصَبٌّ على العلم بالأمور الشرعية.

الفعل الخاص: وهو ما فعله باعتباره خاصاً به، فهذا لا يشاركه فيه أحد كاختصاصه بالوصال في الصوم، والزيادة في النكاح على أربع، وغير ذلك، فهذا حُكْمُهُ خَاصٌّ به صلى الله عليه وسلم.

الفعل البياني: وهو الفعل الذي قصد به النبي صلى الله عليه وسلم بيان مُشكل في الأحكام الشرعية، وحكم هذا الفعل عند الأصوليِّين بحسب ما هو بيان له، فيرجع إلى المبين في معرفة حكمه، فإنْ كان الفعل بياناً لآية دالة على الوجوب دَلَّ على الوجوب

وهكذا إذا كان المبين ندباً أو إباحة.

الفعل المبتدأ: الذي عرفت صفته الشرعية، من وجوب وندب وإباحة، فإنه تشريع للأُمَّة، فيثبت حكم ما فعله في حق المُكَلَّفِينَ.

أما ما فعله ابتداءً ولم تُعْرَفْ صِفته الشرعية، ولكن عُرِفَ أنَّ الفعلَ قصد القُرْبَة فيه، كقيامه ببعض العبادات دون مواظبة عليها، فإنَّ الفعل يكون مُسْتَحَبًّا في

ص: 58

حق الأُمَّة، أما إذا لم يعلم في الفعل قصد القُرْبَة، فإنَّ الفعل يكون دَالاًّ على إباحته في حق الأُمَّة، كالمُزارعة، والبيع ونحو ذلك.

وأخيراً وليس آخراً: تلك إشارات إلى شُبُهَات وجهالات ومُفتريات المُسْتَشْرِقِينَ، حول المفهوم والتدوين، والسند والمتن، والأفعال النبوية، أرجو أنْ تكون حافزاً للاستقصاء والتتبُّع، وأنْ يأتي اليوم الذي نقدم فيه إلى نقد ما عند هؤلاء وأولئك، وأنْ نُبَيِّنَ لهم ما في ذلك من تهافت، وننتقل من الدفاع إلى الهجوم، قاصدين وجه الحق، ولعله قد آن الأوان للتفكير في الدعوة الجادَّة إلى ذلك، كما سيأتي في التوصيات.

***

ص: 59