المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام العلامة شمس الدين محمد - المنار المنيف في الصحيح والضعيف - ت أبي غدة

[ابن القيم]

الفصل: بسم الله الرحمن الرحيم قال الشيخ الإمام العلامة شمس الدين محمد

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ الإمام العلامة شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية الحنبلي الدمشقي تغمده الله تعالى برحمته وأسكنه فسيح جنته

‌فصل -1

-

1-

سُئِلْتُ عَنْ حَدِيثِ "صَلاةٌ بِسِوَاكٍ أَفْضَلُ مِنْ سَبْعِينَ صَلاةً بِغَيْرِ سِوَاكٍ" وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا التَّضْعِيفُ؟

2-

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ جُوَيْرِيَةَ "لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكَ أَرْبَعُ كَلِمَاتٍ لَوْ وُزِنْتُ بِمَا قُلْتُ مُنْذُ اليوم لوزنتهن"

3-

وحديث "صِيَامِ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يَقُومُ مَقَامَ صِيَامِ الشَّهْرِ"

4-

وَحَدِيثِ "مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فَقَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ" الْحَدِيثِ.

فَهَذَا السُّؤَالُ اشْتَمَلَ عَلَى أَرْبَعِ مَسَائِلٍ:

5-

الْمَسْأَلَةُ الأُولَى تَفْضِيلُ الصَّلاةِ بِالسِّوَاكِ عَلَى سَبْعِينَ صَلاةً بِغَيْرِهِ فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ

ص: 19

حَدِيثٌ لَمْ يَرِدْ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلا فِي الْكُتُبِ السِّتَّةِ وَلَكِنْ رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ خُزَيْمَةَ وَالْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِمَا وَالْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: "إِسْنَادُهُ غَيْرُ قَوِيٍّ".

6-

وَذَلِكَ أَنَّ مَدَارَهُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَلَمْ يُصَرِّحِ ابْنُ إِسْحَاقَ بِسَمَاعِهِ مِنْهُ بَلْ قَالَ ذَكَرَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تُفَضَّلُ الصَّلاةُ الَّتِي يُسْتَاكُ لَهَا عَلَى الصَّلاةِ الَّتِي لا يُسْتَاكُ لَهَا سَبْعِينَ ضِعْفًا"

هَكَذَا رَوَاهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ وابن خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ إِلا أَنَّهُ قال: "إن صح الخبر" قَالَ: "وَإِنَّمَا اسْتَثْنَيْتُ صِحَّةَ هَذَا الْخَبَرِ لأَنِّي خَائِفٌ أَنْ يَكُونَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ لَمْ يَسْمَعِ الْحَدِيثَ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَإِنَّمَا

ص: 20

دَلَسَهُ عَنْهُ وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ أَبِي: "إِذَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَذَكَرَ فُلانٌ فَلَمْ يَسْمَعْهُ" وَقَدْ أَخْرَجَهُ الحاكم فِي صَحِيحِهِ وَقَالَ: "هُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ" وَلَمْ يَصْنَعِ الْحَاكِمُ شَيْئًا فَإِنَّ مُسْلِمًا لَمْ يَرْوِ فِي كِتَابِهِ بِهَذَا الإِسْنَادِ حَدِيثًا وَاحِدًا وَلا احْتَجَّ بِابْنِ إِسْحَاقَ وَإِنَّمَا أَخْرَجَ لَهُ فِي الْمُتَابَعَاتِ وَالشَّوَاهِدِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ مِنْ شَرْطِ مُسْلِمٍ فَلا وَهَذَا وَأَمْثَالُهُ هُوَ الَّذِي شَانَ كِتَابَهُ وَوَضَعَهُ وَجَعَلَ تَصْحِيحَهُ دُونَ تَحْسِينِ غَيْرِهِ.

ص: 21

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: "هَذَا الْحَدِيثُ أَحَدُ مَا يَخَافُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَدْلِيسَاتِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ مُعَاوِيَةَ بْنِ يَحْيَى الصَّدَفِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَمُعَاوِيَةُ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ" وَقَالَ فِي شِعَبِ الإِيمَانِ: "تَفَرَّدَ بِهِ مُعَاوِيَةُ بْنُ يَحْيَى وَيُقَالُ إِنَّ ابْنَ إِسْحَاقَ أَخَذَهُ مِنْهُ" قَالَ: "وَيَرْوِي نَحْوَهُ عَنْ عُرْوَةَ

ص: 22

وَعَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَكِلاهُمَا ضَعِيفٌ".

7-

وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْوَاقِدِيِّ قَالَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَحْيَى الأَسْلَمِيُّ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله تعالى عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ السِّوَاكِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ سَبْعِينَ رَكْعَةً قَبْلَ السِّوَاكِ" وَلَكِنَّ الْوَاقِدِيَّ لا يُحْتَجُّ بِهِ.

8-

وَرَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ قِيرَاطٍ قال حدثنا خراج بْنُ فَضَالَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلاةٌ بِسِوَاكٍ خَيْرٌ مِنْ سَبْعِينَ صلاة بغير سواك " وَهَذَا الإِسْنَادُ غَيْرُ قَوِيٍّ.

فَهَذَا حَالُ هَذَا الْحَدِيثِ وَإِنْ ثَبَتَ فَلَهُ وَجْهٌ حَسَنٌ وَهُوَ أَنَّ الصَّلاةَ بِالسِّوَاكِ سُنَّهٌ وَالسِّوَاكُ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ.

9-

وَقَدْ أَكَّدَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم شَأْنَهُ وَقَالَ: "لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ".

10-

وَأَخْبَرَ "أَنَّهُ مَطْهَرَةٌ لِلْفَمِّ مَرْضَاةٌ لِلرَّبِّ".

ص: 23

11-

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

12-

وَفِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ عَنِ التَّمِيمِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ السِّوَاكِ فَقَالَ: "مَا زَالَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنَا بِهِ حَتَى خَشَيْنَا أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِ فِيهِ".

13-

وَفِي لَفْظٍ: "أَمَرْتُ بِالسِّوَاكِ حَتَى خَشَيْتُ أَنْ ينزل علي به وحي".

14-

وَقَالَ ابْنَ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ما لي أَرَاكُمْ تَأْتُونِي قَلْحًا؟ اسْتَاكُوا، لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَفَرَضْتُ عَلَيْهِمِ السِّوَاكَ كَمَا فَرَضْتُ عَلَيْهِمِ الْوُضُوءَ".

15-

وَقَالَ: "عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصُّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءُ اللِّحْيَةِ وَالسِّوَاكُ" الْحَدِيثَ فَجَعَلَ السِّوَاكَ مِنَ الْفِطْرَةِ.

ص: 24

16-

وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَنْظَلَهَ بْنِ أَبِي عَامِرٍ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِالْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلاةٍ طَاهِرًا وَغَيْرَ طَاهِرٍ فَلَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَمَرَ بِالسِّوَاكِ لِكُلِّ صَلاةٍ".

17-

وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: أُمِرْنَا بِالسِّوَاكِ وَقَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا قَامَ يُصَلِّي أَتَاهُ الْمَلَكُ فَقَامَ خَلْفَهُ يَسْتَمِعُ الْقُرْآنَ وَيَدْنُو فَلا يَزَالُ يَسْتَمِعُ وَيَدْنُو حَتَى يَضَعَ فَاهُ عَلَى فِيهِ فَلا يَقْرَأُ آيَةً إِلا كَانَتْ فِي جَوْفِ الْمَلَكِ".

18-

وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ رَغْبَتِهِ فِي السِّوَاكِ يَسْتَاكُ إِذَا قَامَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ وَإِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ وإذا صلى.

ص: 25

19-

وَاسْتَاكَ عِنْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ فِي السِّيَاقِ.

20-

وَقَالَ سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنهما قَالَ: "كَانَ السِّوَاكُ مِنْ أُذُنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَوْضِعَ

ص: 26

الْقَلَمِ مِنْ أُذُنِ الْكَاتِبِ".

21-

وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيِّ عَنِ ابْنِ عباس رضي الله تعالى عَنْهُمَا قال: "كان رسول الله صلىالله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي ركعتين رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَسْتَاكُ" وَهَذَا فِي صَلاةِ اللَّيْلِ.

22-

وَلَمَّا بَاتَ ابْنُ عَبَّاسٍ عِنْدَ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ قَالَ: "فَقَامَ صلى الله عليه وسلم فتوضأ وصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين" الْحَدِيثُ وَكَانَ يَسْتَاكُ لِكُلِّ رَكْعَتَيْنِ".

ص: 27

23-

وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: "كَانَ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ يَشْهَدُ الصَّلَوَاتِ فِي الْمَسْجِدِ وَسِوَاكُهُ عَلَى أُذُنِهِ مَوْضِعُ الْقَلَمِ مِنْ أُذُنِ الْكَاتِبِ لا يَقُومُ إِلَى الصَّلاةِ إِلا اسْتَنَّ" وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

24-

وَفِي الْمُوَطَّأِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ السَّبَّاقِ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عَلَيْكُمْ بِالسِّوَاكِ ".

25-

وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الله بن عمرو بْنِ حَلْحَلَةَ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "السِّوَاكُ وَاجِبٌ وَغُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ".

26-

وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ وَسِوَاكٌ وَيَمِسُّ مِنَ الطِّيبِ مَا قَدِرَ عَلَيْهِ".

وَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنُ السِّوَاكِ وَفَضْلِهِ وَحُصُولِ رِضَا الرَّبِّ بِهِ وَإِكْثَارِ

ص: 28

النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الأُمَّةِ فِيهِ وَمُبَالَغَتِهِ فِيهِ حَتَّى عِنْدَ وَفَاتِهِ وَقَبْضِ نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ تَكُونَ الصَّلاةُ الَّتِي يَسْتَاكُ لَهَا أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ سَبْعِينَ صَلاةً.

وَإِذَا كَانَ ثَوَابُ السَّبْعِينَ أَكْثَرَ فَلا يَلْزَمُ مِنْ كَثْرَةِ الثَّوَابِ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ الأَكْثَرُ ثَوَابًا أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعَمَلِ الَّذِي هو أقل منه بل قد يَكُونُ الْعَمَلُ الأَقَلُّ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ الْكَثِيرُ أَكْثَرَ ثَوَابًا.

27-

وَهَذَا كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "دَمُ عَفْرَاءَ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ دَمِ سَوْدَاوَيْنِ " يَعْنِي فِي الأُضْحِيَةِ وَكَذَلِكَ ذَبْحُ الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الصَّدَقَةِ بِأَضْعَافِ أَضْعَافِ ثَمَنِهَا وَإِنْ كَثُرَ ثَوَابُ الصَّدَقَةِ.

وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ سُورَةٍ بِتَدَبُّرٍ وَمَعْرِفَةٍ وَتَفَهُّمٍ وَجَمْعِ الْقَلْبِ عَلَيْهَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى من قراءة ختمة سردا وهذا وَإِنْ كَثُرَ ثَوَابُ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَكَذَلِكَ صَلاةُ رَكْعَتَيْنِ يُقْبِلُ الْعَبْدُ فِيهِمَا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ وَيُفْرِغُ قَلْبَهُ

ص: 29

كُلَّهُ لِلَّهِ فِيهِمَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى من مئتي رَكْعَةٍ خَالِيَةٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كثر ثوابهما عَدَدًا.

28-

وَمِنْ هَذَا سَبِقَ دِرْهَمٌ مِئَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ

29-

وَلِهَذَا قَالَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم: "إِنَّ اقْتِصَادًا فِي سَبِيلٍ وَسُنَّةٍ خَيْرٌ مِنَ اجْتِهَادٍ فِي خِلافِ سَبِيلٍ وَبِدْعَةٍ".

فَالْعَمَلُ الْيَسِيرُ الْمُوَافِقُ لِمَرْضَاةِ الرَّبِّ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مِنَ الْعَمَلِ الْكَثِيرِ إِذَا خَلا عَنْ ذَلِكَ أَوْ عَنْ بَعْضِهِ

وَلِهَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وَقَالَ: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} وقال {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} فهو سبحانه وتعالى إنما خلق السموات والأرض والموت والحياة وزين الأرض بما

ص: 30

عليها ليبلو عباده أيهم أحسن عملا لا أَكْثَرُ عَمَلا.

وَالْعَمَلُ الأَحْسَنُ هُوَ الأَخْلَصُ وَالأَصْوَبُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَرْضَاتِهِ وَمَحَبَّتِهِ دُونَ الأَكْثَرِ الْخَالِي مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ سبحانه وتعالى يُحِبُّ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ بِالأَرْضَى لَهُ وَإِنْ كَانَ قَلِيلا دُونَ الأَكْثَرِ الَّذِي لا يُرْضِيهِ وَالأَكْثَرُ الَّذِي غَيْرُهُ أَرْضَى لَهُ مِنْهُ وَلِهَذَا يَكُونُ الْعَمَلانِ فِي الصُّورَةِ وَاحِدًا وَبَيْنَهُمَا فِي الْفَضْلِ بَلْ بَيْنَ قَلِيلٍ أَحَدُهُمَا وَكَثِيرُ الآخَرِ فِي الْفَضْلِ أَعْظَمُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ.

وَهَذَا الْفَضْلُ يَكُونُ بِحَسَبِ رِضَا الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بالعمل وقبوله له ومحبته له وفرحه به سبحانه وتعالى كما يفرح بتوبة التائب أعظم فرح ولا ريب أن تلك التوبة الصادقة أفضل وأحب إلى الله تعالى من أعمال كثير من التطوعات وإن زادت في الكثرة على التوبة.

ولهذا كان القبول مختلفا ومتفاوتا بِحَسَبِ رِضَا الرب سبحانه بالعمل، ولهذا كان القبول مختلفا ومتفوتا بِحَسَبِ رِضَا الرَّبِّ سُبْحَانَهُ بِالْعَمَلِ، فَقَبُولٌ: يُوجِبُ رِضَا اللَّهِ سبحانه وتعالى بِالْعَمَلِ، وَمُبَاهَاةَ الْمَلائِكَةِ بِهِ، وَتَقْرِيبَ عَبْدِهِ مِنْهُ. وَقَبُولٌ: يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ كَثْرَةَ الثَّوَابِ وَالْعَطَاءِ فَقَطْ.

كَمَنْ يَتَصَدَّقُ بِأَلْفِ دِينَارٍ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ -مَثَلا- بِحَيْثُ لَمْ يَكْتَرِثْ بِهَا، وَالأَلْفُ لَمْ تُنْقِصْهُ نَقْصًا يَتَأَثَّرُ بِهِ، بَلْ هِيَ فِي بَيْتِهِ بِمَنْزِلَةِ حَصَى لَقِيَهُ فِي دَارِهِ أَخْرَجَ مِنْهُ هَذَا الْمِقْدَارَ. إِمَّا لِيَتَخَلَّصَ مِنْ هَمِّهِ وَحِفْظِهِ، وَإِمَّا لِيُجَازَى عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ. وَآخَرُ عِنْدَهُ رَغِيفٌ وَاحِدٌ هُوَ قُوتُهُ، لا يَمْلُكُ غَيْرَهُ، فَآثَرَ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مَنْ هُوَ أَحْوَجُ منه إليه محبة لله وتقربا إِلَيْهِ وَتَوَدُّدًا وَرَغْبَةً فِي مَرْضَاتِهِ وَإِيثَارًا عَلَى نفسه.

ص: 31

فَيَا لِلَّهِ كَمْ بُعْدِ مَا بَيْنَ الصَّدَقَتَيْنِ فِي الْفَضْلِ وَمَحَبَّةِ الله وقبوله ورضاة؟ وقد قبل سبحانه هذه وهذه لكن قَبُولَ الرِّضَا وَالْمَحَبَّةِ وَالاعْتِدَادِ وَالْمُبَاهَاةِ شَيْءٌ وَقُبُولَ الثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ شَيْءٌ.

وَأَنْتَ تَجِدُ هَذَا فِي الشَّاهِدِ فِي مَلِكٍ تُهْدَى إِلَيْهِ هَدِيَّةٌ صَغِيرَةُ المقدار لكنه يُحِبُّهَا وَيَرْضَاهَا فَيُظْهِرُهَا لِخَوَاصِهِ وَحَوَاشِيهِ وَيَثْنِي عَلَى مُهْدِيهَا فِي كَلِمَاتٍ كَهَدِيَّةٍ كَثِيرَةِ الْعَدَدِ وَالْقَدْرِ جِدًّا لا تقع عِنْدَهُ مَوقِعًا وَلَكِنْ يَكُونُ فِي جُودِهِ لا يَضِيعُ ثَوَابُ مُهْدِيهَا بَلْ يُعْطِيهِ عَلَيْهَا أَضْعَافَهَا وَأَضْعَافَ أَضْعَافِهَا فَلَيْسَ قَبُولُهُ لِهَذِهِ الْهَدِيَّةِ مِثْلَ قُبُولِهِ لِلأُولَى.

30-

وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم: "لَوْ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُ مِنِّي سَجْدَةً وَاحِدَةً لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الْمَوْتِ" إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الْقَبُولَ الْخَاصَّ وَإِلا فَقَبُولُ الْعَطَاءِ وَالْجَزَاءِ حَاصِلٌ لأَكْثَرِ الأَعْمَالِ.

وَالْقَبُولُ لَهُ أَنْوَاعٌ قَبُولُ رِضَا وَمَحَبَّةٍ وَاعْتِدَادٍ وَمُبَاهَاةٍ وَثَنَاءٍ عَلَى الْعَامِلِ بِهِ بَيْنَ الْمَلأ الأَعْلَى وَقَبُولُ جَزَاءٍ وَثَوَابٍ وَإِنْ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَ الأَوَّلِ وَقَبُولُ إِسْقَاطٍ لِلْعِقَابِ فَقَطْ وَإِنْ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ ثَوَابٌ وَجَزَاءٌ كَقَبُولِ صَلاةِ مَنْ لَمْ يُحْضِرْ قَلبَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ صَلاتِهِ إِلا مَا عَقِلَ مِنْهَا فَإِنَّهَا تُسْقِطُ الْفَرْضَ وَلا يُثَابُ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ صَلاةِ الآبِقِ وَصَلاةِ مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ فَإِنَّ الْبَعْضَ قَدْ حَقَّقَ أَنَّ صَلاةَ هَؤُلاءِ لا تقبل

ص: 32

ومع هذا فلا يؤمرون بالإعادة يعني أن عدم قبول صَلاتُهُمْ إِنَّمَا هُوَ فِي حُصُولِ الثَّوَابِ لا فِي سُقُوطِهَا مِنْ ذمتهم.

وَالأَعْمَالُ تَتَفَاضَلُ بِتَفَاضُلِ مَا فِي الْقُلُوبِ مِنَ الإِيمَانِ وَالْمَحَبَّةِ وَالتَّعْظِيمِ وَالإِجْلالِ وَقَصْدِ وَجْهِ الْمَعْبُودِ وَحْدِهِ دُونَ شَيْءٍ مِنَ الْحُظُوظِ سِوَاهُ حَتَّى لِتَكُونَ صُورَةُ الْعَمَلَيْنِ وَاحِدَةً وَبَيْنَهُمَا فِي الْفَضْلِ مَا لا يحصيه إلا الله تعالى وتتفاضل أيضا بتجريد المتابعة فبين العملين من الفضل بحسب ما يتفاضلان به في المتابعة فتتفاضل الأعمال بحسب تجريد الإخلاص والمتابعة تفاضلا لا يَحْصِيهِ إِلا اللَّهُ تَعَالَى.

وينضاف هَذَا إِلَى كَوْنِ أَحَدِ الْعَمَلَيْنِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ فِي نَفْسِهِ مِثَالِهِ الْجِهَادُ وَبَذْلُ النَّفْسِ لِلَّهِ تَعَالَى هُوَ مِنْ أَحَبِّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَيَقْتَرِنُ بِتَجْرِيدِ الإِخْلاصِ وَالْمُتَابَعَةِ وَكَذَلِكَ الصَّلاةُ وَالْعِلْمُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ إِذَا فَضَّلَ الْعِلْمَ فِي نَفْسِهِ وَفَضَّلَ قَصْدَ صَاحِبِهِ وَإِخْلاصِهِ وَتَجَرَّدَتْ مُتَابَعَتُهُ لَمْ يُمْتَنَعْ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ الْوَاحِدُ أَفْضَلَ من سبعين بل وسبع مئة مِنْ نَوْعِهِ

فَتَأَمَّلَ هَذَا فَإِنَّهُ يُزِيلُ عَنْكَ إِشْكَالاتٍ كَثِيرَةً وَيُطْلِعُكَ عَلَى سِرِّ الْعَمَلِ وَالْفَضْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ يَضَعُ فَضْلَهُ مَوَاضِعَهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالشَّاكِرِينَ.

وَلا تَلْتَفِتُ إِلَى مَا يَقُولُهُ مَنْ غَلِظَ حِجَابُ قَلْبِهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُتَكَلِّفِينَ إِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلانِ مُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ جميع الوجوه لا تفاضل بَيْنَهُمَا وَيَثِيبُ اللَّهُ عَلَى أَحَدِهِمَا أضعاف أَضْعَافَ مَا يَثِيبُ عَلَى الآخَرِ

ص: 33