المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَثِيبَ عَلَى هَذَا وَيُعَاقِبَ عَلَى هَذَا مَعَ - المنار المنيف في الصحيح والضعيف - ت أبي غدة

[ابن القيم]

الفصل: بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَثِيبَ عَلَى هَذَا وَيُعَاقِبَ عَلَى هَذَا مَعَ

بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَثِيبَ عَلَى هَذَا وَيُعَاقِبَ عَلَى هَذَا مَعَ فَرْضِ الاسْتِوَاءِ بَيْنَهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

وَهَذَا قَوْلُ مَنْ لَيْسَ لَهُ فِقْهٌ فِي أَسْمَاءِ الرَّبِّ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ وَلا فِقْهٌ فِي شَرْعِهِ وَأَمْرِهِ وَلا فِقْهٌ فِي أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَحَقَائِقِ الإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.

إِذَا عَرِفْتَ ذَلِكَ فَلا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الصَّلاةُ الَّتِي فَعَلَهَا فَاعِلُهَا عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ حَتَّى أَتَى بِسِوَاكِهَا الَّذِي هو مطهرة لمجاري الْقُرْآنِ وَذِكْرِ اللَّهِ وَمَرْضَاةٍ لِلرَّبِّ وَاتْبِاعٍ لِلسُّنَّةِ وَالْحِرْصِ عَلَى حِفْظِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي أَكْثَرُ النُّفُوسِ تُهْمِلُهَا وَلا تَلْتَفِتُ إِلَيْهَا حَتَّى كَأَنَّهَا غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ وَلا مَحْبُوبَةٍ لَكِنَّ هَذَا الْمُصَلِّي اعْتَدْهَا فَحَافَظَ عَلَيْهَا وَأَتَى بِهَا تَوَدُّدًا وَتَحَبُّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلا يَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ صَلاةُ هَذَا أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ سَبْعِينَ صَلاةً تَجَرَّدَتْ عَنْ ذَلِكَ وَاللَّهُ أعلم.

‌فصل -2

-

31-

وَأَمَّا الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ وَهِيَ تَفْضِيلُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ عَلَى مُجَرَّدِ الذَّكْرِ

ص: 34

بِسُبْحَانَ اللَّهِ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً فَإِنَّ مَا يَقُومُ بِقَلْبِ الذَّاكِرِ حِينَ يَقُولُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَتَنْزِيهِهِ وَتَعْظِيمِهِ مِنْ هَذَا الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ مِنَ الْعَدَدِ أَعْظَمُ مِمَّا يَقُومُ بِقَلْبِ الْقَائِلِ سُبْحَانَ اللَّهِ فَقَطْ.

وَهَذَا يُسَمَّى الذِّكْرَ الْمُضَاعَفَ وَهُوَ أَعْظَمُ ثَنَاءً مِنَ الذِّكْرِ الْمُفْرَدِ فَلِهَذَا كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُ وَهَذَا إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي مَعْرِفَةِ هَذَا الذِّكْرِ وَفِهْمِهِ فَإِنَّ قَوْلَ الْمُسَبِّحِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ يَتَضَمَّنُ إِنْشَاءً وَإِخْبَارًا عَمَّا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ مِنَ التَّسْبِيحِ عَدَدَ كُلِّ مَخْلُوقٍ كَانَ أَوْ هو كَائِنٍ إِلَى مَا لا نِهَايَةَ لَهُ.

فَتَضَمَّنَ الإخبار عن تنزيهه الرَّبِّ وَتَعْظِيمِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ هَذَا الْعَدَدَ الْعَظِيمَ الَّذِي لا يَبْلُغُهُ الْعَادُونَ وَلا يَحْصِيهِ الْمُحْصُونَ وَتَضَمَّنَ إِنْشَاءَ الْعَبْدِ لِتَسْبِيحٍ هَذَا شَأْنَهُ لا إِنَّ مَا أَتَى بِهِ الْعَبْدُ مِنَ التَّسْبِيحِ هَذَا قَدْرُهُ وَعَدَدُهُ بَلْ أَخْبَرَ أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ سبحانه وتعالى مِنَ التَّسْبِيحِ هُوَ تَسْبِيحٌ يَبْلُغُ هَذَا العدد الذي لو كَانَ فِي الْعَدَدِ مَا يَزِيدُ لِذِكْرِهِ فَإِنَّ تَجَدُّدَ الْمَخْلُوقَاتِ لا يَنْتَهِي عَدَدًا وَلا يُحْصَى الْحَاضِرُ.

وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَرِضَا نَفْسِهِ فَهُوَ يَتَضَمَّنُ أَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ أَحَدُهُمَا

ص: 35

أن يكون المراد تسبيحا هو وَالْعَظَمَةُ وَالْجَلالُ سِيَانٌ وَلِرِضَا نَفْسِهِ كَمَا أَنَّهُ فِي الأَوَّلِ مُخَبَّرٌ عَنْ تَسْبِيحٍ مُسَاوٍ لِعَدَدِ خَلْقِهِ وَلا رَيْبَ أَنَّ رِضَا نَفْسِ الرَّبِّ لا نهاية له فِي الْعَظَمَةِ وَالْوَصْفِ وَالتَّسْبِيحُ ثَنَاءٌ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ يَتَضَمَّنُ التَّعْظِيمَ وَالتَّنْزِيهَ.

فَإِذَا كَانَتْ أَوْصَافُ كَمَالِهِ وَنُعُوتُ جَلالِهِ لا نِهَايَةَ لَهَا وَلا غَايَةَ بَلْ هِيَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَجَلُّ كَانَ الثَّنَاءُ عَلَيْهِ بِهَا كَذَلِكَ إِذْ هُوَ تَابِعٌ لَهَا إِخْبَارًا وَإِنْشَاءً وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْتَظِمُ الْمَعْنَى الأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ عَكْسٍ.

وَإِذَا كَانَ إِحْسَانُهُ سُبْحَانَهُ وَثَوَابُهُ وَبَرَكَتُهُ وَخَيْرُهُ لا مُنْتَهَى لَهُ وَهُوَ مِنْ مُوجِبَاتِ رِضَاهُ وَثَمَرَتِهِ فَكَيْفَ بِصِفَةِ الرضا؟

32-

وَفِي الأَثَرِ: "إِذَا بَارَكْتُ لَمْ يَكُنْ لِبَرَكَتِي مُنْتَهَى" فَكَيْفَ بِالصِّفَةِ الَّتِي صَدَرَتْ عَنْهَا الْبَرَكَةُ؟

وَالرِّضَا يَسْتَلْزِمُ الْمَحَبَّةَ وَالإِحْسَانَ وَالْجُودَ وَالْبِرَّ وَالْعَفْوَ وَالصَّفْحَ وَالْمَغْفِرَةَ.

وَالْخُلُقُ يَسْتَلْزِمُ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ وَالإِرَادَةَ والحياة والحكمة وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي رِضَا نَفْسِهِ وَصِفَةِ خَلْقِهِ.

وَقَوْلُهُ: "وَزِنَةَ عَرْشِهِ" فِيهِ إِثْبَاتٌ لِلْعَرْشِ وَإِضَافَتُهُ إِلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ

ص: 36

وَتَعَالَى وَأَنَّهُ أَثْقَلُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الإِطْلاقِ إِذْ لَوْ كَانَ شَيْءٌ أثقل منه لَوُزِنَ بِهِ التَّسْبِيحُ وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ إِنَّ الْعَرْشَ لَيْسَ بِثَقِيلٍ وَلا خَفِيفٍ وَهَذَا لَمْ يَعْرِفُ الْعَرْشَ وَلا قَدَّرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ.

فَالتَّضْعِيفُ الأَوَّلُ لِلْعَدَدِ وَالْكِمِّيَّةِ وَالثَّانِي لِلصِّفَةِ وَالْكَيْفِيَّةِ وَالثَّالِثُ لِلْعِظَمِ وَالثُّقْلِ وَلَيْسَ لِلْمِقْدَارِ.

وَقَوْلُهُ: "وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ" هَذَا يَعُمُّ الأَقْسَامَ الثَّلاثَةَ وَيَشْمَلُهَا فَإِنَّ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ سبحانه وتعالى لا نِهَايَةَ لِقَدْرِهِ وَلا لِصِفَتِهِ وَلا لِعَدَدِهِ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} وقال تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .

وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ الْبَحْرُ مِدَادًا وَبَعْدُهُ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ تُمِدُّهُ كُلَّهَا مِدَادًا وَجَمِيعُ أَشْجَارُ الأَرْضِ أَقْلامًا وَهُوَ مَا قَامَ مِنْهَا عَلَى سَاقٍ مِنَ النَّبَاتِ وَالأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ وَغَيْرِ الْمُثْمِرَةِ وَتَسْتَمِدُّ بِذَلِكَ الْمِدَادَ لَفَنِيَتِ الْبِحَارُ وَالأَقْلامُ وكلمات الرب لا تفنى وَلا تَنْفَدُ فَسُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ عَدَدَ خَلْقِهِ وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ.

فَأَيْنَ هَذَا مِنْ وَصْفِ مَنْ يَصِفَهُ بِأَنَّهُ مَا تَكَلَّمَ وَلا يَتَكَلَّمُ وَلا يَقُومُ بِهِ كَلامٌ أَصْلا؟ وَقَوْلُ مَنْ وَصَفَ كَلامَهُ بِأَنَّهُ مَعْنَى واحد لا يَنْقَضِي وَلا يَتَجَزَّأُ

ص: 37