المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ثم إن يعرب بن قحطان جمع بنيه وأوصاهم فقال لهم - المنتخب في ذكر نسب قبائل العرب

[المغيري]

الفصل: ثم إن يعرب بن قحطان جمع بنيه وأوصاهم فقال لهم

ثم إن يعرب بن قحطان جمع بنيه وأوصاهم فقال لهم يا بني: أحفظوا مني خصالا عشراً تكن لكم ذكراً وذخراً، يا بني تعلموا العلم وتحلوا به، وأتركوا الحسد عنكم ولا تلتفتوا إليه، فإنه داعية إلى القطيعة فيما بينكم، وتجنبوا الشر وأهله، فإن الشر يجلب إليكم الأشرار. وأنصفوا الناس من أنفسكم لينصفوكم من أنفسهم. وإياكم والكبرياء، فإنها تبعد قلوب الناس عنكم، وعليكم بالتواضع؛ فإنه يقربكم من الناس ويحبيكم إليهم، واصفحوا عن المسيء؛ فإن الصفح عن المسيء يحسم العداوة ويزيد السؤدد، والسؤدد مع الفضل فضل وافر، والجاه الدخيل على أنفسكم جماله جمالكم، ولئن يسوء حال أحدكم خير له أن يسيء حال جاره، لا تفتقد الناس إلا المقتدى به، وانصروا الموالي فإنهم مواليكم في الحرب والسلم، وحقهم عليكم مثل حق أحدكم على سائركم، وإذا استشاركم أحد فأشيروا عليه بما تشيرون به على أنفسكم، فإنها أمانة ألقاها في أعناقكم؛ والأمانة كما تعلمون. وتمسكوا باصطناع الرجال؛ فإنه أجدى أن تسودوا بهم غيركم، وأحرى أن يزيدكم ذلك شرفاً وفخراً إلى آخر الدهر.

وذكر أن يشجب بن يعرب ولى الملك بعد أبيه، وثبت على هذه الوصية دون غيره من سائر اخوته وعشيرته، فساد الجميع بثباته على الوصية وحفظه إياها. قال بعض النسابين: سألت عن اخوة بنو يعرب، فقيل العمالقة الأولى من ولد إرم ابن سام بن نوح، والفئة الأخرى الذين هم سكان مكة ونواحيها من ولد يعرب واخوتهم طسم وجديس والحي من جرهم وعاد الصغرى. فكان يشجب بن يعرب قد سادها ولاء من اخوته وسائر عشيرته. ثم إن يشجب بن يعرب بن قحطان وصى بنيه فقال لهم: يا بني إني لم أسد اخوتي وعشيرتي إلا بحفظ وصية أبي يعرب بن قحطان، وبعملي بها، وبثباتي عليها؛ وإن أبي يعرب بن قحطان لم يسد اخوته وعشيرته إلا بحفظ وصية أبيه، وإن قحطان لم يسد اخوته وعشيرته إلا بحفظ وصية أبيه هود عليه السلام وحفظه إياها وعمله بها، فأقيموا على ما وجدتموني عليه فهو الذي شرفني. ثم قال كلاما شعرا ذكر فيه ابنه عبد شمس، وعبد شمس ابنه هو سبأ؛ لأنه أول من سبا السبي وأسر الأسارى وبنى مدينة سبأ وسد مأرب.

وقال صاحب التيجان: إنه غزا الأقطار؛ ويقال: إنه طاف فيما بين المشرق والمغرب، يضرب الأرض العاصية حتى فتحها. وبنى مدينة عين شمس بمصر وولي عليها ابنه بليون. وكان لسبأ عدة أولاد وأشهرهم حمير وكهلان اللذان منهما الأمتان العظيمتان، ومن بنيه مسروح ذكره في العقد الفريد؛ ومسروح هذا يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. وعد ابن حزم في ولده زيدان وابنه نجران، وبه سميت بلد نجران، وزاد السهيلي، ومن ولده وائل ومالك وذكروا أن سبأ ثبت على وصية أبيه يشجب وحفظها وعمل بها، فساد إخوته وعشيرته. وكان ملك الجميع وعمادهم. ويقال إنه أغار على بابل بالخيل ففتحها، وأخذ إتاوتها وضرب بالخيل والرجال في الأرض وكان لا يذكر له بلد قصدها وفتحها، وطاف مشارق الأرض ومغاربها وبذلك سمي سبأ.

وقد ذكره ابن جرير في تفسيره: قال حدثنا أبو كريب أبو أسامة؛ حدثنا الحسن أبو الحكم، حدثنا أبو سبرة النخعي، عن عروة بن مسيك القطيني رضى الله عنه أنه قال: يا رسول الله أخبرنا عن سبأ أرض هي أم امرأة؟ قال صلى الله عليه وسلم: " ليس بأرض ولا امرأة، ولكنه رجل من العرب، ولد له عشرة من الولد، فتيا من ستة، وتشاءم أربعة، فأما الذين تشاءموا فلخم وجذام وعاملة وغسان، وأما الذين تيامنوا فمنهم كندة والأشعريون والأزد ومذحج وأنمار، فقال علماء النسب منهم محمد بن إسحاق؛ إسمة في الأصل عبد الشمس بن يشجب بن يعرب ابن قحطان وهو أول من بشر برسول الله صلى الله عليه وسلم في زمانه المتقدم.

‌فصل

ص: 4

وذكر الهمداني في بعض كتبه أن سبأ جمع أهل مملكته ووجوه أهل بيته وعشيرته، وأجلس ابنه حمير عن يمينه، وأجلس ابنه كهلان عن شماله؛ ثم قال: أيها الناس اعطوني عهودكم ومواثيقكم إن بغت يميني على شمالي أن تمنعوها، أو شمالي على يميني أن تمنعوها، فأعطوه العهود والمواثيق على ذلك ثم قال لهم: إني لم أرد يميني وشمالي إلا حمير وكهلان، وإني لم آمن أن يختلفا بعدي في الأمور، ولم آخذ العهود والمواثيق عليكم إلا لتحولوا بعدي بين من يروم من هذين لصاحبه سوءاً وخلافاً، ويطلب أحدهما بعد أكثر مما يقسم له، إن حميراً كبر من كهلان وحقه أن يكون يميني، وكهلان أصغر من حمير وحقه أن يكون شمالي، وإن نصيب خمير من ملكي مثل نصيب يميني من بدني، وإن نصيب كهلان من ملكي مثل نصيب شمالي من بدني. فيا أيها الناس من يصلح لليمين من الملك فأدعوه لليمين، وانظروا ما يصلح للشمال من الملك فأدعوه للشمال، قال: فدفعوا لليمين السيف والقلم والسوط، وحكموا لليمين بذلك قالوا هذه ثلاثة أشياء تعمل بها اليمين، ولا تعمل بها الشمال دون اليمين في الرؤى، قال: ثم حكموا بأن صاحب السيف لا يصلح له إلا الثبات والوقوف في موضعه، وحكموا بأن صاحب القلم لا يكون إلا مدبراً فائقاً رائقاً، وحكموا أن صاحب السوط لا يكون إلا سائساً، ثم حكموا أن الوقوف والثبات والفتق والرتق والتدبير والرياضة والسياسة لا تكون إلا للملك الأعظم الراتب في دار المملكة ومكابدة الأعادي حيث كانوا، وحكموا أن الرأس يرد به البأس وتقهر به الحروب عند التلاقي، وتجشم به المدارك، وحكموا أن القوس ينال به المناوي والمناصي على البعد منها ثم حكموا بأن قيادة أعنة الخيل ومكابدة الأعادي حيث كانت، ورد البأس والقهر عند التلاقي، ومناوات الأعداء ومناصاتها لا تصلح إلا لصاحب الدولة الذّاب عنها، والرامي عن حوزتها، والساد لخللها، والقائم لحروبها، وإصلاح الثغور وسدها، وهو كهلان. فتقلد حمير الملك الراتب في دار المملكة وسلم إليه، وسمي يمينا لجلوسه عن يمين أبيه. وتقلد كهلان الأطراف والثغور وأعمالها وحروبها ومناوات الأعادي ومناصاتها حيث كانت. ولكهلان على حمير المعونة من المال والنجدة، ولحمير على كهلان الطاعة وكفاية ما تقلده. ثم إن حمير وكهلان لم يزالا على ذلك، وكذلك أولادهما من بعدهما وأولاد أولادهما. ثم إن حمير جمع بنيه. قال أبو محمد بن حزام كان له من الولد " الهميسع ومالك وزيد ووائل ومسروح ومعد يكرب وأوس ومرة ". وعاش فيما قال السهيلي ثلاثمائة سنة. وهو أول من توج بالذهب. وقال لبنيه في وصيته: يا بنيّ ما اجتمع اثنان متوازران متعاضدان على خمسة من أشتات الناس إلا غلباهما، وملكا أسرهم. وما أجتمع خمسة نفر متعاضدون متوازرون على عشرة من أشتات الناس إلا غلبوهم وملكوا أسرهم. وأيما عصابة غلبت أربعين رجلا يوشك أن يغلبوا المائتين، وغلاب المائتين حريون أن يغلبوا الألف. وما من رجل أطاعه واحد فقام له بالمجازاة إلا أطاعه عشرة، وما من رجل أطاعه عشرة فقام لهم بمجازاتهم إلا أطاعه مائة، وما من رجل أطاعه مائة فقام لهم بمجازاتهم إلا أطاعه ألف وما من رجل أطاعه ألف رجل إلا وقد ساد لا محالة، ومن ساد فقد ملك ومن ملك فقد أوتي المنتهى من أمله في دنياه.

يا بني: أطيعوا الأرشد منكم، ولا تعصوا الهميسع فإنه خليفتي عليكم وأميني فيما بينكم، وإنه لسيفكم، وما السنان لولا الرمح، بل وما الرمح لولا السنان. أنتم بالهميسع وله، والهميسع بكم ولكم. ثم إن الهميسع بن حمير ولي الملك بعد أبيه وحفظ وصيته وثبت عليها وعمل بها، وأجراهم على ما أجراهم عليه أبوه حمير، وسار فيهم سيرته، وكذلك الأيمن بن الهميسع ولي الملك بعد أبيه الهميسع وساد إخوته وعشيرته. ثم إن الأيمن لما ولى الملك بعد أبيه سار في الناس بسيرة أبيه وجده وحفظ جميع ما انتهى إليه من وصايا آبائهم وأسلافهم التي كانوا يعملون عليها، ويوصون بها. ويحفظونها لسياسة الملك، وصيانة الدولة. ثم ولى الملك بعد الأيمن ابنه زهير، ثم إن زهير لما ولى الملك بعد أبيه كان من أحسن الملوك سيرة. ثم إنه وصى ابنه عريب بن زهير، ولم يكن له غيره فقال له:

ص: 5

يا بني قد انتهى إليك ما كان من وصية جدك سبأ بن يشجب، وما أفترق عليه الاثنان يوم الوصية والقسمة، وهما: جداك حمير وكهلان فلا تجرين أمراً إلا ما جرى به عليه الاثنان من لدنهما إلى هذه الغاية. وأوصى بذلك من صلح لهذا الأمر من ولدك. فأوصيك بالثبات على ما وجدتني عليه من العدل في الرعية، والتجاوز عن المسيء، والبعد عن إيذاء العشيرة والتحبب إليها، فما المرء إلا بقومه وإن عزّ وعلا.

ثم إن عريب ولي الأمر بعد أبيه وثبت على وصيته وعمل بها وأجراهم عليه، ثم إنه وصى بنيه وكانوا أربعة: صباح ونجادة وأبرهة وقطن، فقال لهم: يا بني إني وجدت الشرف والسؤدد والعزة والنجدة والطاعة والملك يدور على ستة أشياء، يا بني وجدت السؤدد لا ينال إلا بالكرم، ولا السؤدد لمن لا كرم له، وإني وجدت العز في العدد حيث كان، ولا عز لمن لا عدد له، ولا عدد لمن لا عشيرة له، وإني وجدت النجدة في الأيادي ولا نجدة لمن لا أيادي له، وإني وجدت الطاعة في العدل ولا طاعة لمن لا عدل له، وإني وجدت الملك في إصطناع الرجال ولا ملك لمن لا اصطناع له، يا بني: احفظوا وصاتي ولا تعصوا قطنا أخاكم فإنه خليفتي عليكم، ووليّ الملك بعدي، قال ثم إن قطنا ولي الملك بعد أبيه وسار في الناس بسيرته وسيرة أسلافه وقلّد الملك في حياته ابنه الغوث، فقال له يا بني: إني لم أقلدك الملك رغبة عنه ولكني أردت أن أقف على سيرتك في الناس وسياستك في الملك، وأن أعلم كيف طاعتهم لك، كي لا أخرج من الدنيا ولي غصة من ذلك في أمرك وأمر الناس. يا بني أوصيك باخوانك أن تفعل لهم ما فعلت لك، وأن تبذل لهم نصيحتك، وتخفض لهم جناحك، وأسألك أن تفعل بعشيرتك ما سألتك أن تفعل لإخوانك، فما الراحة إلا في الأصابع، والساعد بالعضد.ثم إن الغوث بن قطن ولي الملك في حياة أبيه وبعد وفاته دهرا طويلا، وكان من أحسن الناس سيرة وأثبتهم على سنن آبائه وأجداده، ثم إن ابنه وائل بن الغوث ولي الملك بعده وكانت وصية الغوث لإبنه وائل هذه: يا بني إن الملك دار بناها الله تعالى لأسلافك فعمروها بالعدل والإحسان، وكذلك ورثتها ممن قبلي وكذلك اخلفها لك بعدي بعمارتها؛ فأعمرها بما كان يعمرها أسلافك. وأعلم أن الدار دار ما بنيت حيطانها وشيدت أركانها، ولم يقع في شيء من بنائها ثلمة، فإن الثلمة يتبعها مثلها. فأوصيك بالرعية خيراً. ثم إن وائل بن الغوث بن قطن ولي الملك بعد أبيه وساس الملك سياسةً حمدها أهل زمانه، وكذلك ابنه عبد شمس بن وائل ولي الملك بعد أبيه فسار في الناس بسيرة أسلافه وأجداده، وعبد شمس هذا جد بلقيس بنت الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو بن معاوية بن شداد بن قطاط بن عمرو بن عبد شمس. فما من هؤلاء أحد إلا ملك ما ملك عبد شمس وأبوه من قبله، وأخبارهم تطول على الشرح. وعمرو بن معاوية المعروف بابن علاف بن شداد بن المقطاط. ثم انتقل الملك من هؤلاء إلى حمير الأصغر وهو زرعة بن كعب بن سهل بن عمرو بن قيس ابن معاوية بن يشجب بن عبد شمس بن وائل بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بم الهميسع بن حمير الأكبر. وذكر أن زرعة حسنت سيرته في الناس حين ولي الملك وكذلك ابنه شداد بن زرعة، وإن زرعة وصى ابنه شداداً فقال له: يا بني: لو كان ملك يستغني بثاقب رأيه دون آراء الناس لفضل عقله وكمال معرفته وبارع أدبه وفطنته، وعلى ما تقدم من التجاريب لأسلافه مما حفظه ورواه وأحاط به من سنن الأوائل من آباءه وملوك قومه وسنن الماضين، لكنت أغنى الناس عن مشاركة الآراء ومشاركة الأقيال ووصية الموصين. على أنه لا بد للملك من معين يعينه في الرأي والأمر والنهي، ولا بد له من مشير يحمل عنه بعض ما يثقل عليه من ذلك، ولا بد للولد من وصية الوالد قلّت الوصية أو كثرت.

ص: 6

وذكروا أن شداد بن زرعة وفي نسخة سداد بالسين المهملة مشتقة من السداد، ولي الملك دهر طويلاً لا يعصيه أحد من حمير ولا كهلان في ملكه، الذي أحاط له بأكثر الأرض ومن فيها، وأنه سار في الناس بسيرة آبائه وأجراهم على سنن أجداده، وحفظ وصايا الأوائل من أسلافه، وعمل بها وثبت عليها، إلى أن مات وانتقل الملك إلى عمه الحارث. وكان مالك بن حمير قد غلب أهل عمان عليها ملك بعده ابنه قضاعة ثم بعده ابنه إلحاف ثم ابنه مالك بن إلحاف ثم وقع الحرب بين مالك وبين السكسك بن وائل بن حمير، فغلب مالك على عمان وملك بعد السكسك يعفر ابنه ثم خلفه بعده ابنه النعمان، ويعفر يعرف بالعارف واستبد عليه من بني حمير ماران بن عوف بن حمير ويعرف بذي رياش وكان صاحب البحرين فنزل نجران، وأشتغل بحرب مالك بن إلحاف، ولما كبر النعمان حبس ذارياش وأستبد بأمره وطال عمره، وملك بعده ابنه أسحم، وعند ذلك اضطربت أمور حمير، وكان الملك طوائف، وكان بنو كهلان يداولون الملك مع بني حمير. وملك من شعوب قحطان من بني زيدان ابن يعرب بن أبين بن زهير المتقدم ذكره، وأبين هذا الذي تنسب له العرب باليمن، وملك منهم أيضاً عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حيران بن قطن المتقدم ذكره، ثم ملك بعده ابنه شداد المتقدم ذكره.

ص: 7

وقيل إنه شداد بن قطن الماطاط بن عمرو بن ذي هرم بن الهوار وبعده أخوه لقمان. ثم إخوته ذو شدد ويطوذ ومراثل. وبعضهم يقول ذو وائل وبعضهم يقول ذو مداثر، وهو الحارث جد الملوك التبابعة. واستقر الملك في بنيه من بعده، وسمي الرائش؛ لأنه قسم أرض اليمن سهلها وجبلها وأوديتها بين عشائره وأعانهم على عمارتها، وأخرج لهم المشغلات؛ فنعم الناس والعشائر، واستغنى بعضهم عن بعض وعن كثير مما كانوا محتاجين إليه مما في يده؛ فلهذا سموه الرائش واسمه الحارث، وهو أول ملك اخترع الدروع لأصحابه وألبسهم إياها، وذكر ابن سعيد عن مؤرخي الشرق ونقله أن الحارث الرائش الذي ملك بعده ابنه الصعب، وهو ذو القرنين بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر بن كعب بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن بكر بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سبأ ابن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود عليه السلام. وكان أسم ذي القرنين الصعب، ولي الملك بعد أبيه الرائش، وهو الذي مكن الله له في الأرض وبلغ مشارقها ومغاربها، وذكره الله في كتابه، وسار بين الصدفين، وسد السد على يأجوج ومأجوج خلاف ما يزعمه بعض أهل العلم والمؤرخين واللغويين من أنه الإسكندر الروماني فإن الإسكندر اليوناني باني الإسكندرية لم يسد سداً، وكان يلقب بذي القرنين، وهو غلط فاحش وبذلك روجوا على ضعاف العقول وعارضوا القرآن العظيم، بأنه لا يوجد سد، ويقال: إن المقدوني اليوناني أو الإسكندر الروماني لم يسد سداً، وإنما الذي أقام السدود ذو القرنين، واسمه الصعب بن الرائش وقد ذكر المصطفى الغلاييني في كتابه فقال: تلقيب الإسكندر المقدوني بذي القرنين قد استفاض على ألسنة كثيرة من الناس واللغويين والمفسرين والمؤرخين وهو غلط فاحش؛ فإن ذا كلمة عربية محض؛ وذو القرنين من ألقاب ملوك اليمن، وكان منهم ذو جدن وذو كلاع وذو نواس وذو نشاتير وذو رعين وغير ذلك من ألقابهم. وذو القرنين، وهو الذي مكن الله له في الأرض وعظم ملكه وبنى السد على يأجوج ومأجوج، وهو الصعب بن الرائش. وقد سئل ابن عباس رضي الله عنه عن ذي القرنين الذي ذكره الله في كتابه العزيز فقال: هو من حمير، وهذا يقوى أنه الصعب وأنه غير الإسكندر المقدوني باني الإسكندرية، هذا يوناني وهذا عربي، وكلاهما ملك ملكاً عظيماً، فأفهم هذا فإنه الحق الذي لا محيد عنه. وقد حققه أبو الفدا في تاريخه فراجعه عند ذكر الطبقة الثانية من ملوك الفرس، وكانت العرب قد ذكرته في أشعارها، ويفتخرون به ويعدونه في الملوك من قومهم، ويسمونه الصعب. ويؤخذ من أكثر الشعراء أن اسم ذي القرنين الصعب، عند العرب، ووقع ذكر ذي القرنين أيضا في كثير من أشعار العرب: في شعر امرئ القيس، وطرفة ودوس ومذحج وغيرهم، وفي كتاب نشر المحاسن اليمانية شيء كثير مما يطول نقله، هذه الأشعار إشارة تدل على أن ذا القرنين هو هذا وليس المقدوني. ثم ملك بعده ابنه أبرهة بن الصعب ذو القرنين المتقدم ذكره. وذكر أنه ثبت على وصية أبيه ذي القرنين وعمل بها وحفظها، وهو أول من نصب الأعلام، وبنى الأميال والعلامات على الطريق والمناهل؛ فلذلك سمي ذا المنار. وذكروا أنه ضرب في البلاد العاصية من شرقها وغربها ليفتحها ويأخذ إتاوتها وفي بعض الكتب، أن خراسان أخو فارس، وأخوهما كرمان والكرز الأكبر، وأبوهما يافث بن نوح عليه السلام، أما الروم الأولى فمن ولد إرم بن سام بن نوح ولإخوتهما الصقالبة والخزر واللات والكابل والصين والسند والهند وكل هؤلاء قد ملكها أبرهة بعد أبيه ذي القرنين الصعب. ثم إن أبرهة ذا المنار وصى أبنه عمراً ذا الأذعار فقال له: يا بني أن الملك زرع، والملك قيم ذلك الزرع، فإن أحسن القيم قيامه عليه في سقايته عند حاجته، وفي إبعاد غرائب النبات عنه، وبتعاهده إياه بالحماية عند المؤذيات من البهائم والطير، زكا حصاده، وحمده القيم، واستكرمت الأرض. وإن كان القيم غير ذلك، فلم يتفقد الزرع، ولم يتعهده بالحماية والحفظ أوهنه العطش، وأكلته الطيور، وداسته البهائم فلا الزرع نام، ولا الأرض معمورة، ولا القيم محمود. قال ثم إن عمراً ذا الأذعار ولى الملك بعد أبيه وخرج يتفقد الأعمال في شرق البلاد وغربها، فكان لا يسمع به قوم إلاولوا على أدبارهم خائفين مذعورين، فلذلك سمي ذا الأذعار

ص: 8

وهو أبو تبع الأول. وقال المسعودي: وملك خمسا وعشرين سنة، وغزا ديار المغرب، وسار إليه كيقالوس ابن كنعان ملك فارس، فبارزه وانهزمت جنود كيقالوس وأسره ذو الأذعار، ثم إن عمرا ذا الأذعار وصى ولديه تبع ورفيدة، فقال لهما غيركما يجهل الملك وسياسته ورعايته وصلاحه، وما يحتاج إليه الملك من المداراة والمحاباة والمناوى. وما الملك إلا رحى تدور على قطب، فإن جعل لها من ذلك قطبا آخر وقفت الرحى وما دارت وتعطلت أسبابها وانقطع رجاء أهلها. فهذا لتعلموا أن الملك لا يستوي لاثنين إلا أن يكون أحدهما المقتدى والآخر المقتدى به، وقد علمتما أن التاج لا يسع رأسين ولا يجتمعان في تاج أبدا، كما لا يصلح سيفان في غمد واحد، فأمر ابنه رفيدة بطاعة أخيه تبع، وهذا أول من ملك من التبابعة. ثم إن تبع ولى الملك بعد أبيه وقلد الوزارة لأخيه رفيدة، وكان إلى تبع ما يكون إلى الملك، وكان لرفيدة ما يكون إلى الوزير، فبقيا على ذلك دهرا طويلا على وصية أبيهما وسار الملك تبع في الناس سيرة أبيه ذي الأذعار، وبسط العدل والإحسان في الأرض ورزق الهيبة وأعطى من الطاعة ما لم يعط أحدا ممن قبله، قال وكانت مدائن ملوكهم صنعاء، والملوك من كهلان في مأرب على ثلاثة مراحل منها، وكان بمأرب السد الذي ضربته بلقيس ملكة من ملوكهم، وهو سد ما بين جبلين بني بالصخر والقار، فحفظت به ماء العيون والأمطار، وتركته فيه على قدر ما يحتاجون إليه في سقيهم، وهو الذي يسمى العرم، ويقال: إن الذي بناه حمير، وهو أبو القبائل اليمانية ويقال: إن الذي بناه لقمان بن سناد الأكبر، وقيل بناه سبأ بن يشجب بن يعرب، وهو الأليق. وأنه ساق إليه سبعين وادياً ومات قبل تمامه، فأتمه ملوك حمير من بعده. هؤلاء التبابعة عدة ملوكهم في عصور متتابعة وأحقاب متطاولة لا يضبطها الحصر. وكانوا متجاوزين ملوك اليمن إلى أبعد عنهم من العراق والهند والمغرب: ثم ولي الملك بعد تبع ابنه حسان، وهو ملك كرب، وهو الثاني من التبابعة: وذكر أنه وصى ابنه إفريقيس، فقال له: يا بني إن الملك صنعة، والملك صانع، فإن قام الصانع حق قيامه على صناعته، إستجادها الناس له، واستحكم أمره فيها فكسب لها المال والجاه وكانت له عدة وذخيرة. وإن استهان بها ولم يقم حق قيامه عليها، ذهبت الصنعة من يده، وتقطعت منافعها عنه، وأكتسب الذم لنفسه والحرمان. وكل نفس لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. ويقال: إن حسان هذا هو قاتل أخيه. وهو الذي يعرف بأقرن: توفي في أرض المغرب بعد أن ملك خمسين سنة وقد ملك الأقطار. ثم ولى الملك بعده ابنه إفريقيس، فلما استقر الملك له غزا بقبائل العرب بلاد المغرب، وبنى بها مدينة وسموها باسمه إفريقية. وساق البربر إليها من أرض كنعان، وقتل الملك جرجير. ويقال هو الذي سمى البربر بهذا الاسم؛ لأنه لما فتح بلاد الغرب وسمع رطانتهم قال ما هذا؟ ما أكثر بربرتهم! فسموا البربر وكلمة البربر في لغة العرب هي اختلاط أصوات غير مفهومة. ولما رجع من غزو المغرب، ترك هناك من قبائل حمير صنهاجة وكتامة، وهما بها إلى الآن. قال الطبري والجرجاني والمسعودي وابن الكلبي وجميع النسابين وهذا هو الثالث من التبابعة. ثم إفريقيس وصى أخاه أسعد أبا كرب الكامل، فقال: قد علمت ما وصانا به أبونا مما عهد إليه أبوه من وصايا الآباء والأجداد، وسياسة هذا الملك الذي أوتيناه دون غيرنا. فعليك بالتمسك بما وجدتني عليه من بث العدل واصطناع الرجال، ومكايدة العدو، والصفح عند الاقتدار، وسد الثغور، وصف الخلل. وأبو تبع الأول. وقال المسعودي: وملك خمسا وعشرين سنة، وغزا ديار المغرب، وسار إليه كيقالوس ابن كنعان ملك فارس، فبارزه وانهزمت جنود كيقالوس وأسره ذو الأذعار، ثم إن عمرا ذا الأذعار وصى ولديه تبع ورفيدة، فقال لهما غيركما يجهل الملك وسياسته ورعايته وصلاحه، وما يحتاج إليه الملك من المداراة والمحاباة والمناوى. وما الملك إلا رحى تدور على قطب، فإن جعل لها من ذلك قطبا آخر وقفت الرحى وما دارت وتعطلت أسبابها وانقطع رجاء أهلها. فهذا لتعلموا أن الملك لا يستوي لاثنين إلا أن يكون أحدهما المقتدى والآخر المقتدى به، وقد علمتما أن التاج لا يسع رأسين ولا يجتمعان في تاج أبدا، كما لا يصلح سيفان في غمد واحد، فأمر ابنه رفيدة بطاعة أخيه تبع، وهذا أول من ملك من التبابعة. ثم

ص: 9

إن تبع ولى الملك بعد أبيه وقلد الوزارة لأخيه رفيدة، وكان إلى تبع ما يكون إلى الملك، وكان لرفيدة ما يكون إلى الوزير، فبقيا على ذلك دهرا طويلا على وصية أبيهما وسار الملك تبع في الناس سيرة أبيه ذي الأذعار، وبسط العدل والإحسان في الأرض ورزق الهيبة وأعطى من الطاعة ما لم يعط أحدا ممن قبله، قال وكانت مدائن ملوكهم صنعاء، والملوك من كهلان في مأرب على ثلاثة مراحل منها، وكان بمأرب السد الذي ضربته بلقيس ملكة من ملوكهم، وهو سد ما بين جبلين بني بالصخر والقار، فحفظت به ماء العيون والأمطار، وتركته فيه على قدر ما يحتاجون إليه في سقيهم، وهو الذي يسمى العرم، ويقال: إن الذي بناه حمير، وهو أبو القبائل اليمانية ويقال: إن الذي بناه لقمان بن سناد الأكبر، وقيل بناه سبأ بن يشجب بن يعرب، وهو الأليق. وأنه ساق إليه سبعين وادياً ومات قبل تمامه، فأتمه ملوك حمير من بعده. هؤلاء التبابعة عدة ملوكهم في عصور متتابعة وأحقاب متطاولة لا يضبطها الحصر. وكانوا متجاوزين ملوك اليمن إلى أبعد عنهم من العراق والهند والمغرب: ثم ولي الملك بعد تبع ابنه حسان، وهو ملك كرب، وهو الثاني من التبابعة: وذكر أنه وصى ابنه إفريقيس، فقال له: يا بني إن الملك صنعة، والملك صانع، فإن قام الصانع حق قيامه على صناعته، إستجادها الناس له، واستحكم أمره فيها فكسب لها المال والجاه وكانت له عدة وذخيرة. وإن استهان بها ولم يقم حق قيامه عليها، ذهبت الصنعة من يده، وتقطعت منافعها عنه، وأكتسب الذم لنفسه والحرمان. وكل نفس لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. ويقال: إن حسان هذا هو قاتل أخيه. وهو الذي يعرف بأقرن: توفي في أرض المغرب بعد أن ملك خمسين سنة وقد ملك الأقطار. ثم ولى الملك بعده ابنه إفريقيس، فلما استقر الملك له غزا بقبائل العرب بلاد المغرب، وبنى بها مدينة وسموها باسمه إفريقية. وساق البربر إليها من أرض كنعان، وقتل الملك جرجير. ويقال هو الذي سمى البربر بهذا الاسم؛ لأنه لما فتح بلاد الغرب وسمع رطانتهم قال ما هذا؟ ما أكثر بربرتهم! فسموا البربر وكلمة البربر في لغة العرب هي اختلاط أصوات غير مفهومة. ولما رجع من غزو المغرب، ترك هناك من قبائل حمير صنهاجة وكتامة، وهما بها إلى الآن. قال الطبري والجرجاني والمسعودي وابن الكلبي وجميع النسابين وهذا هو الثالث من التبابعة. ثم إفريقيس وصى أخاه أسعد أبا كرب الكامل، فقال: قد علمت ما وصانا به أبونا مما عهد إليه أبوه من وصايا الآباء والأجداد، وسياسة هذا الملك الذي أوتيناه دون غيرنا. فعليك بالتمسك بما وجدتني عليه من بث العدل واصطناع الرجال، ومكايدة العدو، والصفح عند الاقتدار، وسد الثغور، وصف الخلل. ن تبع ولى الملك بعد أبيه وقلد الوزارة لأخيه رفيدة، وكان إلى تبع ما يكون إلى الملك، وكان لرفيدة ما يكون إلى الوزير، فبقيا على ذلك دهرا طويلا على وصية أبيهما وسار الملك تبع في الناس سيرة أبيه ذي الأذعار، وبسط العدل والإحسان في الأرض ورزق الهيبة وأعطى من الطاعة ما لم يعط أحدا ممن قبله، قال وكانت مدائن ملوكهم صنعاء، والملوك من كهلان في مأرب على ثلاثة مراحل منها، وكان بمأرب السد الذي ضربته بلقيس ملكة من ملوكهم، وهو سد ما بين جبلين بني بالصخر والقار، فحفظت به ماء العيون والأمطار، وتركته فيه على قدر ما يحتاجون إليه في سقيهم، وهو الذي يسمى العرم، ويقال: إن الذي بناه حمير، وهو أبو القبائل اليمانية ويقال: إن الذي بناه لقمان بن سناد الأكبر، وقيل بناه سبأ بن يشجب بن يعرب، وهو الأليق. وأنه ساق إليه سبعين وادياً ومات قبل تمامه، فأتمه ملوك حمير من بعده. هؤلاء التبابعة عدة ملوكهم في عصور متتابعة وأحقاب متطاولة لا يضبطها الحصر. وكانوا متجاوزين ملوك اليمن إلى أبعد عنهم من العراق والهند والمغرب: ثم ولي الملك بعد تبع ابنه حسان، وهو ملك كرب، وهو الثاني من التبابعة: وذكر أنه وصى ابنه إفريقيس، فقال له: يا بني إن الملك صنعة، والملك صانع، فإن قام الصانع حق قيامه على صناعته، إستجادها الناس له، واستحكم أمره فيها فكسب لها المال والجاه وكانت له عدة وذخيرة. وإن استهان بها ولم يقم حق قيامه عليها، ذهبت الصنعة من يده، وتقطعت منافعها عنه، وأكتسب الذم لنفسه والحرمان. وكل نفس لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. ويقال: إن حسان هذا هو قاتل أخيه. وهو الذي يعرف بأقرن: توفي في أرض المغرب بعد أن ملك خمسين سنة وقد ملك الأقطار. ثم ولى الملك بعده ابنه إفريقيس، فلما استقر الملك له غزا بقبائل العرب بلاد المغرب، وبنى بها مدينة وسموها باسمه إفريقية. وساق البربر إليها من أرض كنعان، وقتل الملك جرجير. ويقال هو الذي سمى البربر بهذا الاسم؛ لأنه لما فتح بلاد الغرب وسمع رطانتهم قال ما هذا؟ ما أكثر بربرتهم! فسموا البربر وكلمة البربر في لغة العرب هي اختلاط أصوات غير مفهومة. ولما رجع من غزو المغرب، ترك هناك من قبائل حمير صنهاجة وكتامة، وهما بها إلى الآن. قال الطبري والجرجاني والمسعودي وابن الكلبي وجميع النسابين وهذا هو الثالث من التبابعة. ثم إفريقيس وصى أخاه أسعد أبا كرب الكامل، فقال: قد علمت ما وصانا به أبونا مما عهد إليه أبوه من وصايا الآباء والأجداد، وسياسة هذا الملك الذي أوتيناه دون غيرنا. فعليك بالتمسك بما وجدتني عليه من بث العدل واصطناع الرجال، ومكايدة العدو، والصفح عند الاقتدار، وسد الثغور، وصف الخلل.

ص: 10

وذكروا أن أسعد الكامل ملك كرب، وهو الرابع من التبابعة وولى الملك بعد أخيه فسار في الناس سيرة الأوائل من آبائه وأجداده، وملك من البلاد ما لم يملكه غيره، وأعطى من العدل والعدة ما لم يعطه ملكا. وذكر أن أسعد مرض مرة وأشرف على الموت منها، وذلك بعد انصرافه من سفره الذي دخل فيه بحر الظلمات، وكان له ابن يقال له حسان الأصغر؛ سماه باسم أبيه، وذكروا أنه لم يملك ومات قبل أبيه، وهو الذي ذكره أبوه أسعد الكامل في شعره، وذكروا أن حسان مات قبل أبيه، فلم يكن أحق بالملك بعد أسعد الكامل من جده المعمر، الذي يعرف بقرمل؛ وهو تبع بن زيد بن رفيدة، وهو الخامس من التبابعة فقال له يوصيه ما من شيء إلا وله أصل وأساس، وأصل الملك والأساس الرجال، وأساس الرجال الإحسان إليها؛ ومن أحسن إلى الرجال أطاعته وسمعته له، ومن سمعت له الرجال وأطاعته دانت له البلاد ومن فيها، ومن دانت له البلاد من فيها فهو مالكها بعد الله، ومالكها لا يدوم له الملك فيها إلا بالعدل والإحسان، فإنه لا طاعة لمن لا عدل له، ولا ملك لمن لا إحسان له، ثم إنه حفظ وصيته وعمل بها فحسنت سيرته، وملك ما مالكه الأوائل من آبائه وأجداده، ثم إنه وصى ابنه ياسر وهو السادس من التبابعة، وقال يا بني: إن الملك مصباح، والملك واقد ذلك المصباح، فإن حفظه من ريح تطفئه أو ذبالة لا تسائغه، أو مستوقد يخونه، دام له ذلك المصباح وسلم ضياؤه ونوره، وإن بعد عنه ولم يقم به حق قيامه عليه، طفأه الريح، فإن سلم من الريح لم يسلم من احتراق الذبالة، ولا يأمن عند احتراق الذبالة في موقد المصباح، أن يظل المستوقد. فلا النور ساطع، ولا المستوقد صحيح؛ ولا الذبالة سالمة، ولا الواقد محمود. وياسر هذا المسمى بياسر النعم. ولى الملك بعد أبيه تبع بن زيد بن رفيدة بن عمر ذي الأذعار، وحفظ وصية أبيه تبع، وثبت عليها، وعمل بها، وسار بسيرة آبائه وأجداده في سياسة الملك فيما بينه وبين الناس، ولم يتعد سيرة أسلافه. وهو الذي وطئ أرض العراق وفارس والروم وفتح مدنها، وضرب مدينة الصفد ووادي جيحون، وكان ملكه مائة وستون سنة. وذكر بعض الرواة أنه ملك بلاد الروم واستعمل عليهم ماهان فهلك ماهان، وملك بعده ابناه قيوس وياسر. ثم إن ياسر ولى الملك بعد أبيه تبع، وثبت على وصيته وحفظها، وعمل بها، في سياسة الملك بينه وبين الناس، ولم يتعد سيرة أسلافه؛ وسنن أوائله. وأنه وصى ابنه شمر فقال له يا بني: دبر الملك، فإن التدبير ثباته؛ والإحسان سياسته؛ والعدل قوامه، والرجال عزه، والمال نجدته، والعشيرة عدته، فلا ملك لمن لا تدبير له؛ ولا ثبات لمن لا إحسان له، ولا إحسان لمن لا عدل له؛ ولا عدل لمن لا قوام له، ولا قوام لمن لا رجال له، ولا رجال لمن لا عدل له. وذكر أن شمر ذا الجناح ولي الملك بعد أبيه وكان من أعظم الملوك سلطاناً، وهو الذي يقال له تبع الأكبر، وهو الذي سار في بحر الظلمات بعد أسعد، ووصل منقطع الأرض، يطلب فيها ما طلب ذو القرنين. وأسعد هو الذي بنى مدينة سمرقند وإليه تنسب. وكتب على باب مرو الكتاب الذي يعرف. وله آثار أشتهر بها إلى اليوم. وكذلك كتب على باب الصين حين فتحها ومالكها، وكتب على باب بلاد المغرب الذي ليس وراءه إلا الرمل، الذي ترتطم أمواجه كأمواج البحور. وتجري كما تجري السيول في أوديتها، فلم يجد فيها مجازا. وعبر بعض أصحابه فلم يرجعوا، فأمر بصنم من نحاس فنصب على شفير الوادي وكتب في صدره بالخط المسند الحميري ليس وراءه مجاز؛ فلا أحد يتكلف فيذهب ويعطب انتهى.

قال هشام الكلبي: وقد ذكر ذلك دعبل بن علي الخزاعي إذ يقول في شعره:

وهم سمروا سمرقند بأسمرهم

وهم غرسوا بأيديهم دفينا

وهم كتبوا الكتاب بباب مرو

وباب الصين كانوا الكاتبينا

ص: 11

قال: ثم إن تبع ولي الملك، وهو أبو كرب، وهو أول من بشر برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد سبأ، وبعد أسعد الكامل، وحج وطاف البيت أسبوعاً، ونحر البدن وكسا الكعبة وجعل لها بابا، ومغلاقاً، وذكر أن تبع هذا هو الذي رتب الملوك، وأبناء الملوك من قومه في قبائل الغرب والعجم، ومدائنها وأمصارها فكان لكل قبيلة من العرب ملك من حمير، وكهلان، يسمع له ويطاع، ثم جمع الملوك، وأبناء الملوك، والأقيال وأبناء الأقيال، وقال لهم: أيها الناس إن الدهر نفذ أكثره، ولم يبق إلا أقله، وإن الكثير إذا قل فهو إلى النقصان أرى منه إلى الزيادة، وإنكم لتسلكون طريق الآباء والأجداد وتصيرون إلى ما صاروا إليه.وكل يوم يمر على المرء من حياته ولكل زمان أهل؛ ولكل دائرة سبب. هذه الفترة من عز فيها يعز بظهور نبي يعز الله به دينه، ويخصه بالكتاب المبين على إياس من المرسلين، ورحمة للمؤمنين، وحجة على الكافرين.

فليكن ذلك عندكم وعند أبنائكم قرناً فقرنا، وجيلاً فجيلا؛ لتتوقعوا ظهوره وتؤمنوا به وتجتهدوا في نصرته، على كافة الأحياء، حتى يفيء الناس إلى أمر الله تعالى.

وذكروا أن الملوك وأبناء الملوك من حمير وكهلان، لم تزل تتوقع ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوصي بالطاعة له، والإيمان به، والجهاد معه، والقيام بنصرته من ذلك العصر إلى ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانوا له حين بعث من أحرص الناس على نصرته وطاعته، فمنهم من سمع وصدق، ومنهم من رآه ونصره، وجاهد في سبيل الله دونه، حتى أتاه اليقين، نطق بذلك الكتاب المبين في قوله جل شأنه:(والذين تبوءوا لدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم) إلى آخر الآية وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه) إلى آخر الآية.

ويقال: إنهم همدان ونجيب، وذكروا أن يوسف ذا النواس لما انتقل إليه الملك ظهر له الحسد من بعض قومه، وبلغه عنهم قوارض يلفظون بها في أمره، فأقبل إليهم وقال أيها الناس ما من رئيس حقد فأفلح، ولا من رام أمراً أستعجل فيه فنجح. وكاف بمن يقول ملك يوسف ذو نواس هذا الأمر وليس من ورثته ولا من أبناء من حازه قبله، ليس الأمر كما ذكر وزعم الزاعم. ولكن للملك أساس من حازه حاز الملك. ويقال ذو نواس هذا الذي خد الأخدود، وكان يدين باليهودية وكانت اليمن تدين باليهودية من عصر تبع، وحدثت النصرانية في نجران، وفي بعض اليمن حين أتاهم فيمون، وهذا سببه وخبره يطول شرحه.

وذكروا ان ذارعين وأسمه بريم بن زيد، ويقال إنه من كهلان، وإنه ولي الملك وأحسن السيرة، وملك ملكا عظيما ويقال: إنه أقبل على أهل بيته وولده وكان قد عمر طويلا حتى ضعف بصره، وكل سمعه، وقال لهم: يا بني إني قد حفظت وصايا الأوائل من أسلافي، وملكت ملك آبائي وأجدادي، وأفادني الكبر والشيب من الأدب والزيادة في المعرفة ما يصلح به المرء دنياه ومعيشته وما يحيي المآثر والمكارم أكثر مما ورثني الآباء والأجداد. وذكروا أن بنيه وبني عمه حفظوا هذه الوصية وعملوا بها، وكانت سيرتهم محمودة، وذكروا أن ذا الأنفار لما ولى الملك وساسه أقبل على عشيرته. فقال الاثنان وإن قرب أمرهما أمثل من الواحد، وإن عظم أمره. اجتمعوا تعزوا ولا تفرقوا تذلوا.

وذكروا أن حول بن حرب بن ذي نفار ولي الملك، وساس على سنن الأوائل من أسلافه وأجداده، واسمه عامر، وذكروا أنه أقبل على بنيه واخوته، فقال لهم: ما كل موص بالغ فيما يوصى كل ما يريد. إن البلاغة دليل لإصابة مواقع الحكم. يا بني: أطيعوا الأشد منكم تعزوا، ولا تعصوا أمره فتذلوا، واجتمعوا تهابوا، ولا تتفرقوا وتعاونوا، وأنصفوا الناس واعدلوا فيما يعرض عليكم من أمورهم تحمدوا، وحسنوا أخلاقكم معهم تسودوا، وإن الشرف مع الحمد حيث كان، والعز مع الإنصاف حيث استبان، والطاعة مع السؤدد.

وذكروا أن مناخ حفظ الوصية وعمل بها، وأجرى الناس على عاداتهم، واستدام له الأمر. ثم دعا اخوته وقومه من بني عبد شمس فقال لهم: إن المرء لا يسود إلا بكرمه، ولا ينال منتهى العز إلا بقومه، ولا يرزق محبة الناس إلا بالإحسان إليهم، ولا ينال الملك إلا ببذل المال للخاصة والعامة، ولا يدوم له الملك إلا بعدله وإحسانه.

ص: 12

وذكروا أن الهدهاد بن شرحبيل ولى الملك بعد أبيه، وأنه خرج ذات يوم للقنص، فرأى غزالة يطاردها ذئب وقد أضافها إلى ضيق ليس للغزالة منه مخلص، فحمل الهدهاد على الذئب فطرده عن الغزالة، وانفرد لها يطلبها لينظر أين ينتهي ما بها، فسار في أثر الغزالة وانقطع عن أصحابه، فبينما هو كذلك إذ ظهرت عليه مدينة عظيمة فيها من كل شيء والإبل والخير وأنواع الفواكه. فوقف دونها متعجبا، إذ أقبل رجل من أهل البلد التي ظهرت له فسلم عليه ورحب به، ثم قال للهدهاد: أيها الملك أراك متعجبا لما ظهرت لك، فقال له الهدهاد هو ذاك ما قلت، ما هذه المدينة ومن ساكنها؟ فقال هذه مأرب، سميت بأسم قومك. وهي مدينة العرم، حي من الجن، قال فبينما هو معه في الكلام، إذ مرت بهم امرأة لم ير الراءون أحسن منها وجها، ولا أكمل منها خلقا، ولا أظهر منها صباحا، ولا أطيب رائحة. فأفتتن بها الهدهاد وعلم ملك الجن أنه قد هواها وشغف بها. فقال له: يا بن شرحبيل إن كنت قد هويتها فأنا أزوجكها، فجزاه الهدهاد خيرا، وقال له ومن لي بذلك؟ فقال له الجنى: أنا لك بما عرضت من تزويجي إياها منك، وتوفيقي بينكما على أيسر الأحوال وأتمها، فهلا عرفتها؟ فقال الهدهاد وما رأيتها قبل يومي هذا، قال الجني: هي الغزالة التي خلصتها من الذئب، وسنكافئك على جميل فعلك بأن نحبوك بها، فتأهب للدخول عليها، فأنا أزوجك بها بشهادة الله تعالى وشهادة ملائكته، فإذا أردت ذلك فاقدم علينا بخاصة قومك وملوكهم وأهل بيتك، يشهدون إملاكها ووليمتها، وميعادك شهر رجب الآتي، قال فانصرف الهدهاد بن شرحبيل وغابت عنه المدينة، فإذا أصحابه يجدون في البحث عنه فقالوا له: أين كنت؟ فنحن في طلبك مذ فارقتنا، ولم نترك شيئا من هذه الفلوات إلا قلبناها وطلبناك فيها، فقال لهم لم أبعد عنكم وأقبل يسير معهم وهو ينشد شعراً:

عجائب الدهر لا تفنى أوابدها

والمرء ما عاش ما يخلو من العجب

ما كنت أحسب أن الأرض يعمرها

غير الأعاجم في الآفاق والعرب

وكنت أخبر بالجن الجفاة ولا

أرد أخبارها إلا إلى الكذب

حتى رأيت مقاصير مشيدة

للجن مضروبة الأبواب والحجب

يحفها الزرع والماء المحيط بها

مع المواقير من نخل ومن عنب

ومن جمادى ويأتي بعده رجب

وسوف أسرى على الميعاد من رجب

حتى أوافي خير الجن من عرم

ذاك بن صعب الفتى المعروف باليلب

ثم خرج الهدهاد بن شرحبيل على ميعاد أصهاره من الجن مع خاصة قومه وخدمه، حتى وافاهم فوجد هو ومن معه قصراً بنوه لهم في فلاة من الأرض، محفوفا بالنخيل والأعناب والزرع والفواكه، تجرى فيه الماء الجارية فتعجب القوم من ذلك عجبا شديدا، ورأوا ملكا عظيما، فنزلوا معه في القصر على فرش لم يروا مثله، وقربت لهم الموائد عليها من طبقات المأكولات وألوانها، التي لم يأكلوا قط أطيب منها طعما، ولا أزكى منها رائحة، وشربوا من شراب لم يشربوا قط أهضم منه ولا ألذ، ولا أمرأ منه ولا أخف. فمكثوا معه ثلاثة أيام، وزفت إلى الهدهاد امرأته واسمها الحرورى بنت يلب بن الصعب العرم ملك الجن، وأذن الهدهاد لقومه وخاصته بالانصراف إلى مواضعهم،0 ثم مكث الملك مع الحروريين زمانا وولدت له بلقيس، وصار القصر الذي بناه له الجن دار مملكته، وتوفى أبوها الملك الهدهاد ولم تبق أمها بعده إلا قليل، وبقيت بلقيس مع أخوالها من الجن، وجلس في الملك ابن عم أبيها شمر بن غش، وسمع له الناس وأطاعوا، ثم أرسل إلى بلقيس يخطبها فأجابته إلى ذلك على أنه لا يخالفها في شيء تريده أو في شيء تكرهه، فضمن لها بذلك وتزوجها.

ص: 13

وذكروا أنه لما رأى من كفايتها ورعايتها للملك وحفظها وحسن قيامها به، كان لا يأمر ولا ينهي أحدا غيرها على الرسم الذي جرى لها، ثم أنه مات وما أحد درى بموته إلا في أيام سليمان بن داود عليه السلام. وقصتها مع نبي الله مشهورة، ثم انتقل الملك من رهط بلقيس إلى زرعة بن كعب وهو حمير الأصغر، أبوه عبد شمس، وعبد شمس هو سبأ الأصغر. وذكروا أن زيدا ذا الكلاع لما ولى الملك أقبل على بنيه وإخوته وبني عمه فقال لهم: معاشر الجماعة من إخوتي وولدي وبني عمي، لو كان الملك دام لأحد، لدام لأسلافكم الذين ملكوا البلاد وأحسنوا السيرة في أهلها، وأخذوا للضعيف من القوي، وأمنوا السبل، وأذلوا الجبابرة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وعمروا الأرض: شرقها وغربها، وعندكم أخبارهم، وما أنا بأعلمكم لأقص عليكم من أخبارهم ومآثرهم ومفاخرهم ما تجتزون به عما بعده. ثم ذكروا أنه أصبح ولي الملك، وهو ممن أجمعت عليه حمير وكهلان بطاعته له واتباعهم إياه، وقبولهم منه في الأمر والنهي والحرب والسلم. وذكروا أنه وصى بنيه، فقال لهم: يا بني إن حمير وكهلان لم تجتمع طاعتها لي، واتباعها إياي، وقبولها مني، لأني من أشرفها بيتا، ولا أحق بالملك فيها دون غيري، ولكنها وزنت الرجال المشهورة، فرأتني من أرجحها رأيا عند الأمر والنهي، فقلدتني أمرها، وآثرتني بالملك على غيري.

فهذه وصايا من تقدم من الملوك اختصارا، وأما التبابعة فلم يكن لهم ضبط، وقد ضاع أكثر أخبارهم، وقد ذكر أبو سعيد ونقله من كتب مؤرخي الشرق أن أول ملوك التبابعة: الحارث وهو الرائش، ثم ابنه الصعب ذو القرنين، ثم ابنه أبرهة ذو المنار، ثم عمرو ذو الأذعار.

قال في التيجان: إن حمير خلعوه وملكوا شرحبيل، ثم الهدهاد، ثم ابنته بلقيس، ثم ملك بن عمرو، ثم شمر مرعش وسمي مرعش لارتعاشه، وهو الذي خرب بلاد سمرقند؛ ثم ملك بعده صيفي بن شمر، ثم أخوه إفريقيس، ثم انتقل الملك إلى بني كهلان، وكانوا بمأرب. وملوك حمير في صنعاء. ثم صار الملك لحي عمرو بن عامر، ثم اجتمعت حمير بعد خراب السد على أبي كرب أسعد بن صيفي فخرج لملوك الطوائف وغلبهم، ثم ابنه حسان الذي قتل طسم وجديس ومنازلهم في جو اليمامة، ثم قتله أخوه عمرو، ثم بعده أخوه عبد الكلال، وملك بعده تبع بن حسان، ثم وليعة بن مرشد، ثم الصباح بن وليعة، ثم أبرهة بن الصباح، وكانت له سيرة وقصص. ومن بعده ذو قيعان، ومن بعده الحنيفة ذو شناتر، ومن بعده ذو نواس، ثم قتلته الحبشة واستولت على اليمن. ثم استخلصها منهم سيف ابن ذي يزن، وكنيته أبو مرة بن أسلم بن زيد بن الغوث بن سعد ابن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن شداد بن حمير بن سبأ بن كعب بن زيد بن سهل بن عمران بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود عليه السلام. ثم إن سيف لما استخلصها من الحبشة بمساعدة كسرى له، استقر له الملك، ووفدت إليه العرب يهنئونه بالملك، وكان من أمره لما وفد عليه عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن أبي مناف، فاستأذن عبد المطلب له ولمن معه بالوصول إليه، فأذن لهم بالدخول، فدخلوا على سيف بن ذي يزن، فقيل له: إن كنت ممن تكلم بين يدي الملوك فقد أذنت لك، فقام عبد المطلب بين يديه وحوله الملوك، وأبناء الملوك، وعن يمينه وعن شماله الأقيال وأبناء الأقيال فقال عبد المطلب: إن الله قد أحلك أيها الملك محلا رفيعاً صعباً منيعاً شامخاً باذخاً، وأنبتك منبتاً طابت أرومته، وعزت جرثومته، وثبت أصله، وبسق فرعه في أكرم معدن، وأطيب موطن، وأنت بيت العز، ورأس العرب، الذي إياهم قاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي يلجأ إليه العباد، وربيعها الذي تخصب به البلاد. سلفك خير سلف، وأنت لنا خير خلف. فلن يخمد ذكر من أنت سلفه، ولن يهلك من أنت خلفه.

ص: 14

أيها الملك نحن أهل حرم الله وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجنا من كشف الكرب الذي فدحنا: فنحن وفد الرزية. فقال وأيهم أنت أيها المتكلم؟ فقال أنا عبد المطلب بن هاشم، فقال أنت ابن أختنا؟ قال نعم. فقال أدن مني يا عبد المطلب. ثم أقبل عليه وعلى القوم، فقال: أهلا ومرحباً ومستناخاً سهلاً، وملكاً رحباً يعطى عطاء جزيلاً. وقد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فأنتم الليل والنهار، لكم الكرامة ما أقمتم، والإكرام ما ظعنتم، ثم ظعنوا إلى دار الضيافة فأقاموا شهراً لا يصلون إليه ولا يأذن لهم بالانصراف، ثم أنتبه لهم أنتباهاً فأرسل إلى عبد المطلب فأدناه، وأخلى مجلسه ثم قال: يا عبد المطلب إني مفض إليك من سري على أمر، لو كان غيرك لم أبح به له، ولكن وجدتك معدناً ولذا سأطلعك عليه، فليكن عندك مطوياً، حتى يأذن الله فيه.

إني وجدت في الكتاب المكنون، والعلم المخزون، الذي اخترناه لأنفسنا دون غيرنا، خبراً جسيماً، وخطراً عظيماً، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاء للناس عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة، فقال له عبد المطلب: ما هو أيها الملك؛ مثلك من سرّ فبرّ، ما هو فداك أهل الوبر والمدر، زمراً بعد زمر؟.

فقال الملك:

ص: 15

إذا ولد بتهامة، غلام له علامة، كانت له الإمامة، ولكم به الزعامة، إلى يوم القيامة، قال له عبد المطلب: أبيت اللعن؛ لقد أبت بخير ما آب به وافد قوم، فإن رأى الملك أن يخبرني بإفصاح، فقد أوضح لي بعض الإيضاح، قال هذا حينه الذي يولد فيه، اسمه محمد، بين كتفيه شامة، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه، والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً، يعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، ويضرب بهم الناس عن عرض، ويستبيح لهم كرائم الأرض، ويعبد الرحمن، ويدحر الشيطان، ويكسر الأوثان، ويخمد النيران، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله، قال فخر عبد المطلب ساجداً، فقال له أرفع رأسك، فهل حسست من أمره شيئاً، قال نعم أيها الملك، كان لي أبن وأنا به معجب، فزوجته بكريمة من كرائم قومي، أسمها آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فجاءت بغلام سميته محمداً، مات أبوه وأمه، فكفلته أنا وربما غداً عمه، بين كتفيه شامة، وفيه كل ما ذكرت من العلامات، قال ورب البيت والحجب، والعلامات على النصب، فإنك يا عبد المطلب جده غير كذب، وإن الذي قلت لك ما قلت، فأحفظ ابنك وأحذر عليه من اليهود، فإنهم أعداؤه، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً، واطوِ ما ذكرت دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمناً أن تدخلهم النفاسة، من أن تكون لك الرياسة، فيغلون لك الغوائل، وينصبون لك الحبائل، وهم فاعلون ذلك وأبناؤهم، ولولا أن الموت مجتاحي قبل مبعثه، لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير إليه بيثرب دار مملكته، فإني أجد في الكتاب الناطق، والعلم السابق، أن يثرب مقام أمره، وفيها أهل نصرته، وموضع قبره، ولولا أني أقيه الآفات، وأتقي عليه العاهات، لأعلنت على حداثتي من أمره، ولكني صارف لك ذلك بغير تقصير بمن معك، ثم أمر لكل رجل بمائة من الإبل، وعشرة أعبد، وعشرة إماء، وعشرة أرطال فضة، وكرش مملوء من العنبر، وأمر لعبد المطلب أضعاف ما أعطى القوم، ثم قال ائتني بخبره، وما يكون من أمره عند رأس الحول، فمات سيف بن ذي يزن قبل أن يحول الحول، وكان عبد المطلب يقول: أيها الناس لا يغبطني أحد منكم بجزيل عطاء الملك، فإنه إلى نفاذ، ولكن تغبطوني بما يبقى لي ولعقبي من بعدي شرفه وفخره، فإذا قيل له وما ذاك؟ قال ستعلمون بعد، وكانت حمير بطون وأفخاذ، قال في العقد الفريد: كان لحمير بن سبأ من الولد: مالك والهميسع وزيد وأوس وعرين ووائل ودرمي وعمر كرب ومسروح ومرة رهط معد يكرب بن نعمان. ومن بطون حمير بني معدان بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن يعرب. وملحان بطن وهو: ملحان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن شمس بن وائل رهط عامر الشعبي الفقيه. قال: وعد ملحان وشيعان في همدان، فمن كان منهم في اليمن فهو حميري، ومن بطون حمير: بنو شرعب وهو شرعب بن قيس بن جشم بن عبد شمس وإليه تنسب الرماح الشرعبية، ومن بطون حمير الدروز، ويقال لهم الأزر، ويقال لهم رمدد، فمنهم بنو فهيد، وعبد المكلال وذو الكلاع، وهو يزيد بن النعمان ومنهم ذو رعين بن عمرو، وذو أصبح بطن وهم من أصبح ابن مالك بن زيد بن الغوث. ومنهم أبرهة بن الصباح كان ملك تهامة، وأبنه شمس قتل مع علي رضي الله عنه يوم صفّين، ومنهم رشد بن عريب بن أبرهة بن الصباح، كان سيد حي بالشام في زمن معاوية، ومنهم زيد بن معرض الشاعر، ومن بني أصبح الإمام مالك، إمام دار الهجرة الأصبحي رحمة الله، ومن بطون حمير: ذو يزن ومنهم النعمان بن قيس بن سيف بن ذي يزن. وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أشترى حلية ببضع وعشرين قلوصاً، فأعطاها إلى ذي يزن، وإلى ذي يزن تنسب الرماح اليزنية، ومن بطون حمير: ذو جدن، وهو العلس بن الحارث بن زيد بن الغوث. ومن ولده علقمة بن شرحبيل ذو قيعان بطن من حمير، وهم من بني عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن معاوية، ومنهم شعيب بن ذي هدم صلى الله عليه وسلم الذي قتله قومه فسلط الله عليهم بختنصر فقتلهم، فلم يبق منهم أحد، ويقال نزلت فيهم هذه الآية:(فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون) إلى قوله: (خامدين) قال فلما شرعت فيهم سيوف بختنصر، نودوا بصوت هائل من السماء ياثارات الأنبياء، وكان قبر شعيب النبي في جبل يقال له طين ليس في اليمن جبل فيه ملح غيره، وفيه نبي الرس من قحطان من العرب، ومن بطون حمير الأقرع

ص: 16