الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْل الثَّانِي فِي الْمَذْهَب الْوَاجِب الإتباع
قَالَ الْفَصْل الثَّانِي إِن مَذْهَب الإمامية وَاجِب الإتباع لِأَنَّهُ أَحَق الْمذَاهب وَأصْدقهَا وَلِأَنَّهُم باينوا جَمِيع الْفرق فِي أصُول العقائد وَلِأَنَّهُم جازمون بالنجاة أخذُوا دينهم عَن المعصومين
وَغَيرهم اخْتلفُوا وتعددت آراؤهم وأهواؤهم فَمنهمْ من طلب الْأَمر لنَفسِهِ بِغَيْر حق وَتَابعه أَكثر النَّاس طلبا للدنيا كَمَا اخْتَار عمر بن سعد بن مَالك الَّذِي لما خير بَينه وَبَين قتال الْحُسَيْن مَعَ علمه بِأَن قتلته فِي النَّار فَإِنَّهُ قَالَ
(فوَاللَّه مَا أَدْرِي وَإِنِّي لصَادِق
…
أفكر فِي أَمْرِي على خطرين)
(أأترك ملك الرّيّ والري منيتي
…
أَو أصبح مأثوما بقتل حُسَيْن)
(وَفِي قَتله النَّار الَّتِي لَيْسَ دونهَا
…
حجاب ولي فِي الرّيّ قُرَّة عين)
وَبَعْضهمْ إشتبه عَلَيْهِ الْأَمر وَرَأى طَالب الدُّنْيَا فقلده وَقصر فِي النّظر فخفي عَلَيْهِ الْحق فَاسْتحقَّ الْمُؤَاخَذَة من الله تَعَالَى
وَبَعْضهمْ قلد لقُصُور فطنته وَرَأى الجم الْفَقِير فبايعهم وتوهم أَن الْكَثْرَة تَسْتَلْزِم الصَّوَاب وغفل عَن قَوْله تَعَالَى {وَقَلِيل مَا هم} وَبَعْضهمْ طلب الْأَمر لنَفسِهِ بِحَق وَبَايَعَهُ الأقلون الَّذين أَعرضُوا عَن زِينَة الدُّنْيَا وَأَخْلصُوا وَاتبعُوا مَا أمروا بِهِ من طَاعَة من يسْتَحق التَّقْدِيم فَوَجَبَ النّظر فِي الْحق واعتماد الْإِنْصَاف وَأَن يقر الْحق بمستقره فقد قَالَ تَعَالَى {أَلا لعنة الله على الظَّالِمين}
فَجعل المُصَنّف النَّاس بعد نَبِيّهم أَرْبَعَة أَصْنَاف فكذب فَإِنَّهُ لم يكن فِي الصَّحَابَة المعروفين أحد من هَذِه الْأَصْنَاف
أما طَالب الْأَمر بِغَيْر حق كَأبي بكر فِي زَعمه وَأما
طَالب الْأَمر بِحَق عَليّ فِي زَعمه فَهَذَا كذب عَلَيْهِمَا فَلَا عَليّ طلب الْأَمر لنَفسِهِ وَلَا أَبُو بكر
وَجعل الْقسمَيْنِ الآخرين إِمَّا مُقَلدًا للدنيا وَإِمَّا مُقَلدًا لقصوره فِي النّظر
فالإنسان يجب عَلَيْهِ أَن يعرف الْحق ويتبعه فَإِن الْيَهُود عرفُوا الْحق وَمَا تبعوه فهم مغضوب عَلَيْهِم وَأما النَّصَارَى فجهلوا الْحق وَضَلُّوا
وَهَذِه الْأمة خير الْأُمَم فَقَالَ تَعَالَى {كُنْتُم خير أمة} فَخَيرهَا الْقرن الأول الَّذِي يَلِيهِ بقوله صلى الله عليه وسلم خير النَّاس قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ وَهَؤُلَاء الرافضة يَقُولُونَ فيهم مَا قد علمْتُم ويجعلونهم أقل النَّاس علما وأتبعهم للهوى فَلَزِمَ من قَوْلهم أَن الْأمة ضلت بعد نبيها فَإِذا كَانَ فِي هَذَا حكايتك لما جرى عقيب نبيك فَكيف سَائِر مَا تنقله وتحتج بِهِ
وقولك تعدّدت آراؤهم بِعَدَد أهوائهم فحاشاهم من ذَلِك
أَتَدْرِي من تَعْنِي يَا جويهل عنيت الَّذين قَالَ الله فيهم {وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ} وَقَالَ {مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم} وَالثنَاء على الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار فِي غير آيَة وعَلى الَّذين يجيئون من بعدهمْ فَيَقُولُونَ {رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان} ويسألونه أَن لَا يَجْعَل فِي قُلُوبهم غلالهم
والرافضة لم يَسْتَغْفِرُوا لَهُم وَفِي قُلُوبهم الغل لَهُم
وروى الْحسن بن عمَارَة عَن الحكم عَن مقسم عَن ابْن عَبَّاس
قَالَ أَمر الله بالإستغفار لأَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يعلم أَنهم يقتتلون
وَقَالَ عُرْوَة عَن عَائِشَة أمروا أَن يَسْتَغْفِرُوا لأَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فسبوهم
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي سعيد قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا تسبوا أَصْحَابِي فَلَو أَن أحدكُم أنْفق مثل أحد ذَهَبا مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه
وَفِي مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة نَحوه مَرْفُوعا
وَفِي مُسلم عَن جَابر قَالَ قيل لعَائِشَة رضي الله عنها إِن نَاسا يتناولون أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَبَا بكر وَعمر فَقَالَت وَمَا تعْجبُونَ من هَذَا إنقطع عَنْهُم الْعَمَل فَأحب الله أَن لَا يقطع عَنْهُم الْأجر
وروى الثَّوْريّ عَن نسير بن ذعلوق سَمِعت ابْن عمر يَقُول لَا تسبوا أَصْحَاب مُحَمَّد فلمقام أحدهم سَاعَة يَعْنِي مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خير من عمل أحدكُم أَرْبَعِينَ سنة وَقَالَ تَعَالَى {لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة فَعلم مَا فِي قُلُوبهم فَأنْزل السكينَة عَلَيْهِم وأثابهم فتحا قَرِيبا}
أخبر سُبْحَانَهُ بِرِضَاهُ عَنْهُم وَبِأَنَّهُ علم مَا فِي قُلُوبهم وَكَانُوا ألفا وَأَرْبَعمِائَة فهم أَعْيَان من بَايع أَبَا بكر وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا
ثَبت عَنهُ فِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث جَابر بن عبد الله لَا يدْخل أحد مِمَّن بَايع تَحت الشَّجَرَة النَّار وَقَالَ تَعَالَى {لقد تَابَ الله على النَّبِي والمهاجرين وَالْأَنْصَار الَّذين اتَّبعُوهُ فِي سَاعَة الْعسرَة} يَعْنِي غَزْوَة تَبُوك وَقَالَ {إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا} وَقَالَ {والمؤمنون وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم أَوْلِيَاء بعض} فَأمر بِمُوَالَاتِهِمْ والرافضة تَبرأ مِنْهُم
وَقد قَالَ بعض الجهلة إِن قَوْله تَعَالَى {الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ} نزلت فِي عَليّ رضي الله عنه وَذكر فِي ذَلِك خيرا مَوْضُوعا وَأَنه تصدق بِخَاتمِهِ فِي الصَّلَاة فَنزلت
قيل لَا لِأَن الْآيَة صِيغَة جمع وَعلي وَاحِد
وَمن ذَلِك أَن الْوَاو لَيست فِي {وهم رَاكِعُونَ} وَاو الْحَال إِذْ لَو كَانَ كَذَلِك لتعين بالبدء إِعْطَاء الزَّكَاة فِي الصَّلَاة حَال الرُّكُوع
وَمِنْهَا أَن الْمَدْح إِنَّمَا يكون بِعَمَل وَاجِب أَو مُسْتَحبّ وإيتاء الزَّكَاة فِي نفس الصَّلَاة لَيْسَ كَذَلِك بالإتفاق وَإِن فِي الصَّلَاة شغلا
وَمِنْهَا أَن عليا لم يكن عَلَيْهِ زَكَاة زمن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَا
كَانَ لَهُ خَاتم أَو كَانَ لَهُ فالخاتم زَكَاة مَاذَا لِأَن أَكثر الْفُقَهَاء لَا يجوزون إِخْرَاج الْخَاتم فِي الزَّكَاة
وَفِي حَدِيثهمْ أَنه أعطَاهُ سَائِلًا والمدح فِي الزَّكَاة أَن يُخرجهَا إبتداء وعَلى الْفَوْر
وَمِنْهَا أَن الْكَلَام فِي سِيَاق النَّهْي عَن مُوالَاة الْكفَّار وَالْأَمر بموالاة الْمُؤمنِينَ والرافضة يعادون الْمُؤمنِينَ ويوالون الْمُنَافِقين مُشْركي التتار كَمَا شاهدنا وَقَالَ الله تَعَالَى لنَبيه {هُوَ الَّذِي أيدك بنصره وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَألف بَين قُلُوبهم} والرافضة تُرِيدُ أَن تفرق بَين قُلُوب خِيَار الْأمة بالأكاذيب
وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون} إِلَى قَوْله {ليكفر الله عَنْهُم أَسْوَأ الَّذِي عمِلُوا} فَهَذَا الصِّنْف هم أشرف الْأمة وَقد وعدهم بِأَنَّهُ يكفر عَنْهُم أَسْوَأ أَعْمَالهم وَعلي فعندهم مَعْصُوم فَقولُوا لم يدْخل فِي الْآيَة وَقَالَ {وعد الله الَّذين آمنُوا مِنْكُم وَعمِلُوا الصَّالِحَات ليَستَخْلِفنهم فِي الأَرْض} الْآيَة فَوَعَدَهُمْ الإستخلاف وَأخْبر بِرِضَاهُ عَنْهُم وبأنهم متقون وَبِأَنَّهُ أنزل السكينَة عَلَيْهِم وَهَذِه النعوت منطبقة على الصَّحَابَة الَّذين بَايعُوا أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان فَإِنَّهُ إِذْ ذَاك الزَّمَان حصل لَهُم الإستخلاف وتمكين الدّين والأمن بعد الْخَوْف إِلَى أَن قهروا فَارس وَالروم وافتتحوا الشَّام وَالْعراق ومصر وَالْمغْرب وخراسان وأذربيجان وَغير ذَلِك
فَلَمَّا قتل عُثْمَان وحصلت الْفِتْنَة لم يفتحوا شَيْئا بل طمع فيهم الرّوم وَغَيرهم وَحدثت الْبدع من الْخَوَارِج وَالرَّوَافِض والنواصب وأريقت الدِّمَاء فَأَيْنَ مَا بعد قَتله مِمَّا قبله فَإِن قيل فالمنافقون كَانُوا مُسلمين فِي الظَّاهِر قُلْنَا مَا كَانُوا متصفين بِخَير وَلَا كَانُوا مَعَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَلَا كَانُوا مَعَ الْمُؤمنِينَ قَالَ الله فيهم {وَلَئِن جَاءَ نصر من رَبك ليَقُولن إِنَّا كُنَّا مَعكُمْ أَو لَيْسَ الله بِأَعْلَم بِمَا فِي صُدُور الْعَالمين وليعلمن الله الَّذين آمنُوا وليعلمن الْمُنَافِقين} وَقَالَ {ويحلفون بِاللَّه إِنَّهُم لمنكم وَمَا هم مِنْكُم وَلَكنهُمْ قوم يفرقون} وَقَالَ {إِن الْمُنَافِقين فِي الدَّرك الْأَسْفَل من النَّار} أخبر تَعَالَى أَن الْمُنَافِقين لَيْسُوا من الْمُؤمنِينَ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ بل مذبذبين وَكَذَا ترى الرافضة
) فَلَمَّا لم يغره الله بهم وَلم يقتلهُمْ تقتيلا دلّ على أَنهم انْتَهوا وَمَا كَانَ مَعَه يَوْم الشَّجَرَة مِنْهُم إِلَّا الْجد بن قيس فَإِنَّهُ إختبأ خلف بعيره
فبالجملة كَانَ المُنَافِقُونَ مغمورين مقهورين مَعَ الصَّحَابَة وَلَا سِيمَا فِي آخر أَيَّام النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَبعد تَبُوك لِأَن الله تَعَالَى قَالَ فيهم {يَقُولُونَ لَئِن رَجعْنَا إِلَى الْمَدِينَة ليخرجن الْأَعَز مِنْهَا الْأَذَل} ثمَّ قَالَ الله {وَللَّه الْعِزَّة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمنِينَ وَلَكِن الْمُنَافِقين لَا يعلمُونَ}
فَتبين أَن الْعِزَّة للْمُؤْمِنين لَا لِلْمُنَافِقين فَعلم أَن الْعِزَّة وَالْقُوَّة كَانَت لأَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَأَن الْمُنَافِقين كَانُوا أَذِلَّة بَينهم
قَالَ تَعَالَى {يحلفُونَ بِاللَّه لكم ليرضوكم} {يحلفُونَ لكم لترضوا عَنْهُم} وَقَالَ {وَلَكنهُمْ قوم يفرقون}
هَذِه صِفَات الذَّلِيل المقهور وَأما السَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار فَمَا زَالُوا أعز النَّاس بعد نَبِيّهم وَقبل مَوته فَلَا يجوز أَن يكون الأعزاء من خَاصَّة أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم منافقين وَلَا أدلاء
بل هَذِه صفة الرافضة فشعارهم الذل ودثارهم النِّفَاق والتقية وَرَأس مَالهم الْكَذِب وَالْإِيمَان الْفَاجِرَة إِن لم يقعوا فِي الغلو والزندقة يَقُولُونَ بألسنتهم مَا لَيْسَ فِي قُلُوبهم ويكذبون على جَعْفَر الصَّادِق أَنه قَالَ التقية ديني وَدين آبَائِي وَقد نزه الله أهل الْبَيْت عَن ذَلِك وَلم يحوجهم إِلَيْهِ فَكَانُوا من أصدق النَّاس وأعظمهم إِيمَانًا فدينهم التَّقْوَى لَا التقية
فَأَما قَوْله تَعَالَى {لَا يتَّخذ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافرين أَوْلِيَاء من دون الْمُؤمنِينَ وَمن يفعل ذَلِك فَلَيْسَ من الله فِي شَيْء إِلَّا أَن تتقوا مِنْهُم تقاة} (فَهَذَا أَمر بالإتقاء من الْكفَّار لَا أَمر بِالْكَذِبِ والتقية وَالله قد أَبَاحَ لمن أكره على الْكفْر التَّكَلُّم بِهِ فَأهل الْبَيْت مَا أكرههم أحد على شَيْء حَتَّى إِن أَبَا بكر لم يكره أحدا مِنْهُم على بيعَته بل بَايعُوهُ لما أَرَادوا طَوْعًا مِنْهُم وَلَا كَانَ عَليّ وَلَا غَيره يذكرُونَ فضل الصَّحَابَة وَالثنَاء عَلَيْهِم خوفًا من أحد وَلَا أكرههم أحد بإتفاق النَّاس
وَقد كَانَ فِي زمن بني أُميَّة وَبني الْعَبَّاس خلق كثير دون عَليّ فِي الْإِيمَان وَالتَّقوى يكْرهُونَ من
الْخُلَفَاء أَشْيَاء فَلَا يمدحونهم وَلَا يثنون عَلَيْهِم وَلَا يحبونهم وَلَا كَانَ أُولَئِكَ يكرهونهم
ثمَّ إِن الْخُلَفَاء الرَّاشِدين كَانُوا أبعد عَن قهر النَّاس وعقوبتهم على طاعتهم من سَائِر الْخُلَفَاء ثمَّ هَؤُلَاءِ أسرى الْمُسلمين ملْء أَيدي النَّصَارَى وسائرهم يظهرون دينهم فَكيف يظنّ بعلي وبنيه أَنهم كَانُوا أَضْعَف دينا من الأسرى وَمن رعية مُلُوك الْجور وَقد علمنَا بالتواتر أَن عليا وبنيه مَا أكرههم أحد على ذكر فضل الْخُلَفَاء الثَّلَاثَة وَقد كَانُوا يَقُولُونَ ذَلِك وَيَتَرَحَّمُونَ عَلَيْهِم ويتكلمون بذلك مَعَ خاصتهم
فقولك فبعضهم طلب الْأَمر لنَفسِهِ بِغَيْر حق وَبَايَعَهُ أَكثر النَّاس للدنيا يُشِير إِلَى أبي بكر وَمن الْمَعْلُوم أَن أَبَا بكر لم يطْلب الْأَمر لنَفسِهِ بل قَالَ قد رضيت لكم إِمَّا عمر وَإِمَّا عبد الرَّحْمَن وَإِمَّا أَبَا عُبَيْدَة قَالَ عمر فوَاللَّه لِأَن أقدم فَتضْرب عنقِي أحب إِلَيّ من أَن أتأمر على قوم فيهم أَبُو بكر وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ عمر وَأَبُو عُبَيْدَة وَسَائِر الْمُسلمين وَبَايَعُوهُ لعلمهم بِأَنَّهُ خَيرهمْ وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَأْبَى الله والمؤمنون إِلَّا أَبَا بكر
ثمَّ هَب أَنه طلبَهَا وَبَايَعُوهُ فزعمك أَنه طلبَهَا وَبَايَعُوهُ للدنيا كذب ظَاهر فَإِنَّهُ مَا أَعْطَاهُم دنيا وَقد كَانَ أنْفق فِي حَيَاة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَقل مَا بِيَدِهِ وَالَّذين بَايعُوهُ فأزهد النَّاس فِي الدُّنْيَا قد علم القاصي والداني زهد عمر وَأبي عُبَيْدَة وَأسيد بن حضير وأمثالهم
ثمَّ لم يكن عِنْد موت النَّبِي صلى الله عليه وسلم بَيت مَال يبذله لَهُم
ثمَّ كَانَت سيرته ومذهبه التَّسْوِيَة فِي قسم الْفَيْء
وَكَذَلِكَ سيرة عَليّ فَلَو بَايعُوا عليا أَعْطَاهُم كعطاء أبي بكر مَعَ كَون قبيلته أشرف من بني تيم وَله عشيرة وَبَنُو عَم هم أشرف الصَّحَابَة من حَيْثُ النّسَب كالعباس وَأبي سُفْيَان وَالزُّبَيْر وَعُثْمَان ابْني عمته وأمثالهم
وَقد كلم أَبُو سُفْيَان عليا فِي ذَلِك ومت بشرفه فَلم يجبهُ عَليّ لعلمه وَدينه
فَأَي رياسة وَأي فَائِدَة دنيوية حصلت لجمهور الْأمة بمبايعة أبي بكر لَا سِيمَا وَهُوَ يُسَوِّي بَين كبار السَّابِقين وَبَين آحَاد الْمُسلمين فِي الْعَطاء وَبقول إِنَّمَا أَسْلمُوا لله وأجورهم على الله وَإِنَّمَا هَذَا الْمَتَاع بَلَاغ
فَأهل السّنة مَعَ الرافضة كالمسلمين مَعَ النَّصَارَى فَإِن الْمُسلمين يُؤمنُونَ بنبوة عِيسَى وَلَا
يغلون فِيهِ وَلَا ينالون مِنْهُ نيل الْيَهُود وَالنَّصَارَى تغلو فِيهِ حَتَّى تَجْعَلهُ إِلَهًا وتفضله على نَبينَا بل تفضل الحواريين على الْمُرْسلين
فَكَذَا الروافض تفضل من قَاتل مَعَ عَليّ كالأشتر وَمُحَمّد بن أبي بكر على أبي بكر وَعمر والسابقين
فالمسلم إِذا نَاظر النَّصْرَانِي لَا يُمكنهُ أَن يَقُول يَقُول فِي عِيسَى إِلَّا الْحق بِخِلَاف النَّصْرَانِي
فدع الْيَهُودِيّ يناظره فَإِنَّهُ لَا يقدر أَن يُجيب الْيَهُودِيّ عَن شبهته إِلَّا بِمَا يُجيب بِهِ الْمُسلم وَيَنْقَطِع فَإِنَّهُ إِذا أَمر بِالْإِيمَان بِمُحَمد ثمَّ قدح فِي نبوته بِأَمْر لم يُمكنهُ أَن يَقُول شَيْئا إِلَّا قَالَ لَهُ الْيَهُودِيّ فِي الْمَسِيح مَا هُوَ أعظم من ذَلِك فَإِن الْبَينَات لمُحَمد أعظم من الْبَينَات لعيسى وَبعده عَن الشُّبْهَة أعظم من بعد عِيسَى عَن الشُّبْهَة
وَمن هَذَا أَمر السّني مَعَ الرافضي فِي أبي بكر وَعلي فَإِن الرافضي لَا يُمكنهُ أَن يثبت إِيمَان عَليّ وعدالته ودخوله الْجنَّة إِن لم يثبت ذَلِك لأبي بكر وَعمر وَإِلَّا فَمَتَى أثبت ذَلِك لعَلي وَحده خذلته الْأَدِلَّة كَمَا أَن النَّصْرَانِي إِذا أَرَادَ إِثْبَات نبوة الْمَسِيح دون مُحَمَّد عليهما السلام لم تساعده الْأَدِلَّة
فَإِذا قَالَت لَهُ الْخَوَارِج الَّذين يكفرون عليا والنواصب الَّذين يفسقونه إِنَّه كَانَ ظَالِما طَالبا للدنيا والخلافة وَقَاتل بِالسَّيْفِ عَلَيْهَا وَقتل فِي ذَلِك ألوفا مؤلفة من الْمُسلمين حَتَّى عجز عَن إنفراده بالخلافة وتفرق عَلَيْهِ أَصْحَابه وَكَفرُوا بِهِ وقاتلوه يَوْم النهروان
فَهَذَا الْكَلَام إِن كَانَ فَاسِدا ففساد كَلَام الرافضي فِي أبي بكر أعظم فَسَادًا فَإِن كَانَ كلامكم فِي أبي بكر وَعمر مُتَوَجها فَهَذَا مثله وَأولى
وَلما ذهب أَبُو بكر بن الباقلاني فِي السفارة بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ عرفُوا قدره وخافوا أَن يمْتَنع من السُّجُود للْملك فأدخلوه من بَاب صَغِير ليدْخل محنيا فقطن لَهَا فَدخل مستدبرا بعجزه
وَلما أَرَادَ بَعضهم الْقدح فِي الْمُسلمين فَقَالَ مَا قيل فِي امْرَأَة نَبِيكُم يُرِيد شَأْن الْإِفْك فَقَالَ نعم ثِنْتَانِ رميتا بِالزِّنَا إفكا وكذبا مَرْيَم وَعَائِشَة فَأَما مَرْيَم فَجَاءَت بِولد وَهِي عذراء واما عَائِشَة فَلم تأت
بِولد مَعَ أَنه كَانَ لَهَا زوج
فبهت النَّصْرَانِي وَظهر أَن بَرَاءَة عَائِشَة أظهر من بَرَاءَة مَرْيَم
فَإِذا قلت يَا رَافِضِي إِن أَبَا بكر ومبايعيه طلبُوا الدُّنْيَا والرياسة مَعَ كَونه بُويِعَ بإختيارهم بِلَا سيف وَلَا عَصا واستوسق لَهُ الْأَمر فَلم يول أحدا من أَقَاربه وَلَا خلف لوَرثَته مَالا وَأنْفق مَالا كثيرا فِي سَبِيل الله وَأوصى إِلَى بَيت مَالهم مَا كَانَ لَهُم عِنْده وَهُوَ جرد قطيفة وَأمه وَبكر وَنَحْو ذَلِك حَتَّى قيل يَرْحَمك الله أَبَا بكر لقد أَتعبت الْأُمَرَاء بعْدك
وَمَا قتل مُسلم على إمارته بل قَاتل بِالْمُسْلِمين الْمُرْتَدين وَالْكفَّار فَلَمَّا احْتضرَ إستخلف على الْأمة الْقوي الْأمين العبقري عمر لَا لقرابة وَلَا لنسابة وَلَا لدُنْيَا بل اجْتهد للْمُسلمين فحمدت فراسته وشكر نظره بِالَّذِي إفتتح الْأَمْصَار وَنصب الدِّيوَان وملأ بَيت المَال وَعم النَّاس بِالْعَدْلِ مَعَ ملازمته لهدي صَاحبه وخشونة عيشه وَعدم تَوليته أَقَاربه ثمَّ ختم الله لَهُ بِالشَّهَادَةِ
فَإِن سَاغَ للرافضي أَن يَقُول كل ذَا طلب للرياسة وَالدُّنْيَا سَاغَ للناصبي نَظِير قَوْله فِي عَليّ إِنَّه كَانَ طَالبا للرياسة وَالدُّنْيَا فقاتل على الإمرة وَلم يُقَاتل الْكفَّار
وَلَا افْتتح مَدِينَة
فَإِن قلت كَانَ مرِيدا لوجه الله غير مداهن فِي أَمر الله مُجْتَهدا مصيبا وَغَيره كَانَ مخطئا قُلْنَا وَكَذَلِكَ من قبله كَانَ أبلغ وَأبْعد عَن شُبْهَة طلب الرياسة
وَأَيْنَ شُبْهَة أبي مُوسَى الَّذِي وَافق عمرا على عزل عَليّ وَمُعَاوِيَة ورد الْأَمر شُورَى من شُبْهَة عبد الله بن سبأ وَأَمْثَاله الَّذين يدعونَ عصمته أَو ألوهيته أَو نبوته
وكل هَذَا مِمَّا يبين عجز الرافضي عَن إِثْبَات إِيمَان عَليّ وعدالته مَعَ نفي ذَلِك عَمَّن قبله
فَإِن إحتج بِمَا تَوَاتر من إِسْلَامه وهجرته وجهاده فقد تَوَاتر مثل ذَلِك عَن أبي بكر
وَإِن قلت كَانُوا منافقين فِي الْبَاطِن معادين مفسدين للدّين بِحَسب إمكانهم أمكن الْخَارِجِي أَن يَقُول فِي عَليّ ذَلِك وَيَقُول كَانَ يحْسد ابْن عَمه والعداوة فِي الْأَهْل وَأَنه كَانَ يُرِيد فَسَاد دينه فَلَمَّا تمكن أراق الدِّمَاء وسلك التقية والنفاق وَلِهَذَا قَالَت الباطنية من أَتْبَاعه عَنهُ أَشْيَاء قد أَعَاذَهُ الله مِنْهَا كَمَا أعاذ الشَّيْخَيْنِ
ثمَّ مَا من آيَة يدعونَ أَنَّهَا مُخْتَصَّة بعلي إِلَّا أمكن إختصاصها بصاحبيه فباب الدَّعْوَى مَفْتُوح
وَإِن ادعوا ثُبُوت فَضله بالآثار فثبوت فضلهما أَكثر وَأَصَح وَهَذَا كمن أَرَادَ أَن يثبت فقه ابْن عَبَّاس دون عَليّ أَو فقه عمر دون بن مَسْعُود فَمَا لَهُ طَرِيق إِلَّا بالظلم وَالْجهل كدأب الرافضة
ثمَّ تمثيلك ذَلِك بِقصَّة عمر بن سعد لما خَيره عبيد الله بن زِيَاد بَين حَرْب الْحُسَيْن وَبَين عَزله من أقبح الْقيَاس فَإِن عمر بن سعد كَانَ طَالبا للرياسة مقدما على الْمحرم
مَعْرُوفا بذلك
أفيلزم من تمثيلك بِهِ أَن يكون السَّابِقُونَ بمثابته
وَهَذَا أَبوهُ سعد بن أبي وَقاص كَانَ من أزهد النَّاس فِي الْإِمَارَة وَالْولَايَة بعد مَا فتح الله على يَدَيْهِ الْأَمْصَار وَلما وَقعت الْفِتْنَة اعتزل النَّاس بالعقيق فِي قصره وجاءه ابْنه هَذَا فلامه وَقَالَ لَهُ النَّاس يتنازعون الْملك وَأَنت هُنَا فَقَالَ اذْهَبْ فَإِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول إِن الله يحب العَبْد التقي الْخَفي الْغَنِيّ
هَذَا وَلم يكن قد بَقِي أحد من أهل الشورى غَيره وَغير عَليّ رضي الله عنهما وَهُوَ الَّذِي فتح الْعرَاق وأذل جنود كسْرَى وَهُوَ أخر الْعشْرَة موتا
فَإِذا لم يحسن أَن يشبه بِابْنِهِ عمر أيشبه بِهِ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان هَذَا وهم لَا يجْعَلُونَ مُحَمَّد بن أبي بكر بِمَنْزِلَة أَبِيه بل يفضلون مُحَمَّدًا ويعظمونه ويتولونه لكَونه آذَى عُثْمَان وَكَانَ من خَواص أَصْحَاب عَليّ لِأَنَّهُ كَانَ ربيبه ويسبون أَبَاهُ أَبَا بكر ويلعنونه
فَلَو أَن النواصب فعلوا بعمر بن سعد مثل ذَلِك فمدحوه على قتل الْحُسَيْن لكَونه كَانَ من شيعَة عُثْمَان وَمن المنتصرين لَهُ وَسبوا أَبَاهُ سَعْدا لكَونه تخلف عَن الْقِتَال مَعَ مُعَاوِيَة والإنتصار لعُثْمَان هَل كَانَت النواصب لَو فعلت ذَلِك
إِلَّا من جنس الرافضة بل الرافضة شَرّ مِنْهُم فَإِن أَبَا بكر أفضل من سعد وَعُثْمَان كَانَ أبعد عَن إستحقاق الْقَتْل من الْحُسَيْن كِلَاهُمَا مظلوم شَهِيد رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
وَلِهَذَا كَانَ الْفساد الَّذِي حصل فِي الْأمة بقتل عُثْمَان أعظم من الْفساد الَّذِي حصل فِي الْأمة بقتل الْحُسَيْن
وَعُثْمَان من السَّابِقين الْأَوَّلين وَهُوَ خَليفَة مظلوم طلب مِنْهُ أَن يعْزل بِغَيْر حق فَلم يَنْعَزِل وَلم يُقَاتل عَن نَفسه حَتَّى قتل
وَالْحُسَيْن رضي الله عنه لم يكن مُتَوَلِّيًا وَإِنَّمَا كَانَ طَالبا للولاية حَتَّى رأى أَنَّهَا متعذرة وَطلب مِنْهُ أَن يستأسر ليحمل إِلَى يزِيد مأسورا فَلم يجب إِلَى ذَلِك وَقَاتل حَتَّى قتل مَظْلُوما شَهِيدا
فظلم عُثْمَان كَانَ أعظم وَصَبره وحلمه كَانَ أكمل وَكِلَاهُمَا مظلوم شَهِيد
وَلَو مثل ممثل طلب عَليّ وَالْحُسَيْن الْأَمر بِطَلَب الإسماعيلية كالحاكم وَأَمْثَاله وَقَالَ إِن عليا وَالْحُسَيْن كَانَا ظالمين طَالِبين للرياسة بِغَيْر حق بِمَنْزِلَة الْحَاكِم وَأَمْثَاله من مُلُوك بني عبيد أما كَانَ يكون كَاذِبًا مفتريا فِي ذَلِك لصِحَّة إِيمَان عَليّ وَالْحُسَيْن ودينهما ولنفاق هَؤُلَاءِ وإلحادهم
وَكَذَلِكَ من شبه عليا وَالْحُسَيْن بِبَعْض من قَامَ من الطالبيين أَو غَيرهم بالحجاز أَو الشرق أَو الغرب يطْلب الْولَايَة بِغَيْر حق وَيظْلم النَّاس فِي أَمْوَالهم وأنفسهم أما كَانَ يكون ظَالِما كَاذِبًا فالمشبه لأبي بكر وَعمر بعمر بن سعد أولى بِالْكَذِبِ وَالظُّلم ثمَّ إِن عمر بن سعد على بعده من الْخَيْر إعترف بكبير ذَنبه وباء بمعصيته وَهُوَ خير من الْمُخْتَار الْكذَّاب الَّذِي إدعى أَن جِبْرِيل يَأْتِيهِ بِالْوَحْي وَأظْهر الإنتصار للحسين وتتبع قاتليه فَهَذَا الشيعي شَرّ من عمر بن سعد وَمن الْحجَّاج الناصبي لِأَن الشيعي كذب على الله
وَرَسُوله وَقد ثَبت فِي صَحِيح مُسلم عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ سَيكون فِي ثَقِيف كَذَّاب ومبير فَكَانَ الْكذَّاب هُوَ الْمُخْتَار بن أبي عبيد وَكَانَ المبير هُوَ الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ
وَمن الْمَعْلُوم أَن عمر بن سعد أَمِير السّريَّة الَّتِي قتلت الْحُسَيْن مَعَ ظلمه وتقديمه الدُّنْيَا على الدّين لم يصل فِي الْمعْصِيَة إِلَى فعل الْمُخْتَار بن أبي عبيد الَّذِي أظهر الإنتصار للحسين وَقتل قَاتله بل كَانَ هَذَا أكذب وَأعظم ذَنبا من عمر بن سعد فَهَذَا الشيعي شَرّ من ذَلِك الناصبي بل وَالْحجاج بن يُوسُف خير من الْمُخْتَار بن أبي عبيد فَإِن الْحجَّاج كَانَ مبيرا كَمَا سَمَّاهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يسفك الدِّمَاء بِغَيْر حق وَالْمُخْتَار كَانَ كذابا يَدعِي الْوَحْي وإتيان جِبْرِيل إِلَيْهِ وَهَذَا الذَّنب أعظم من قتل النُّفُوس فَإِن هَذَا كفر وَإِن كَانَ لم يتب مِنْهُ كَانَ مُرْتَدا والفتنة أعظم من الْقَتْل
وَهَذَا بَاب مطرد لَا تَجِد احدا مِمَّن تذمه الشِّيعَة بِحَق أَو بَاطِل إِلَّا وَفِيهِمْ من هُوَ شَرّ مِنْهُ وَلَا تَجِد أحدا مِمَّن تمدحه الشِّيعَة إِلَّا وفيمن تمدحه الْخَوَارِج من هُوَ خير مِنْهُ
فَإِن الروافض شَرّ من النواصب وَالَّذين تكفرهم أَو تفسقهم الروافض هم أفضل من الَّذين تكفرهم أَو تفسقهم النواصب
وَأما أهل السّنة فيتولون جَمِيع الْمُؤمنِينَ ويتكلمون بِعلم وَعدل لَيْسُوا من أهل الْجَهْل وَلَا من أهل الْأَهْوَاء
ويتبرأون من طَرِيقه الروافض والنواصب جَمِيعًا ويتولون السَّابِقين الْأَوَّلين كلهم ويعرفون قدر الصَّحَابَة وفضلهم ومناقبهم ويرعون حُقُوق أهل الْبَيْت الَّتِي شرعها الله لَهُم وَلَا يرضون بِمَا فعله الْمُخْتَار وَنَحْوه من الْكَذَّابين وَلَا مَا فعل الْحجَّاج وَنَحْوه من الظَّالِمين ويعلمون مَعَ هَذَا مَرَاتِب السَّابِقين الْأَوَّلين فيعلمون أَن لأبي بكر وَعمر من التَّقَدُّم والفضائل مَا لم يشاركهما فِيهِ أحد من الصَّحَابَة لَا عُثْمَان وَلَا عَليّ وَلَا غَيرهمَا
وَهَذَا كَانَ مُتَّفقا عَلَيْهِ فِي الصَّدْر الأول إِلَّا أَن يكون خلاف شَاذ لَا يعبأ بِهِ حَتَّى إِن الشِّيعَة الأولى أَصْحَاب عَليّ لم يَكُونُوا يرتابون فِي تَقْدِيم أبي بكر وَعمر عَلَيْهِ كَيفَ وَقد ثَبت عَنهُ من وُجُوه متواترة أَنه كَانَ يَقُول خير هَذِه الْأمة بعد نبيها أَبُو بكر وَعمر
وَلَكِن كَانَت طَائِفَة من شيعَة عَليّ تقدمه على عُثْمَان وَهَذِه مَسْأَلَة أخْفى من تِلْكَ
وَلِهَذَا كَانَ أَئِمَّة أهل السّنة متفقين على تَقْدِيم أبي بكر وَعمر كَمَا هُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمَالك وَأحمد بن حَنْبَل
وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث بن سعد وَسَائِر أَئِمَّة الْمُسلمين من أهل الْفِقْه والْحَدِيث والزهد وَالتَّفْسِير من الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين
وَأما عُثْمَان وَعلي فَكَانَ طَائِفَة من أهل الْمَدِينَة يتوقفون فيهمَا وَهِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن مَالك
وَكَانَ طَائِفَة من الْكُوفِيّين يقدمُونَ عليا وَهِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن سُفْيَان الثَّوْريّ ثمَّ قيل إِنَّه رَجَعَ عَن ذَلِك لما اجْتمع بِهِ أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَقَالَ من قدم عليا على عُثْمَان فقد أزرى بالمهاجرين وَالْأَنْصَار
وَسَائِر أَئِمَّة السّنة على تَقْدِيم عُثْمَان وَهُوَ مَذْهَب جَمَاهِير أهل الحَدِيث وَعَلِيهِ يدل النَّص وَالْإِجْمَاع والإعتبار
وَأما مَا يحْكى عَن بعض الْمُتَقَدِّمين من تَقْدِيم جَعْفَر أَو تَقْدِيم طَلْحَة أَو نَحْو ذَلِك فَذَلِك فِي أُمُور مَخْصُوصَة لَا تَقْدِيمًا عَاما وَكَذَلِكَ مَا ينْقل عَن بَعضهم فِي عَليّ
وَأما قَوْله وَبَعْضهمْ إشتبه الْأَمر عَلَيْهِ وَرَأى لطَالب الدُّنْيَا مبايعا فقلده وَبَايَعَهُ وَقصر فِي نظره فخفي عَلَيْهِ الْحق فَاسْتحقَّ الْمُؤَاخَذَة من الله تَعَالَى بِإِعْطَاء الْحق لغير مُسْتَحقّه قَالَ وَبَعْضهمْ قلد لقُصُور فطنته وَرَأى الجم الْغَفِير فتابعهم وتوهم أَن الْكَثْرَة تَسْتَلْزِم الصَّوَاب وغفل عَن قَوْله تَعَالَى {وَقَلِيل مَا هم} {وَقَلِيل من عبَادي الشكُور}
فَيُقَال لهَذَا المفتري الَّذِي جعل الصَّحَابَة الَّذين بَايعُوا أَبَا بكر ثَلَاثَة أَصْنَاف أَكْثَرهم طلبُوا الدُّنْيَا وصنف قصروا فِي النّظر وصنف عجزوا عَنهُ لِأَن الشَّرّ إِمَّا أَن يكون لفساد الْقَصْد وَإِمَّا أَن يكون للْجَهْل وَالْجهل إِمَّا أَن يكون لتفريط فِي النّظر وَإِمَّا أَن يكون لعجز عَنهُ
وَذكر أَنه كَانَ فِي الصَّحَابَة وَغَيرهم من قصر فِي النّظر حِين بَايع أَبَا بكر وَلَو نظر لعرف الْحق وَهَذَا يُؤَاخذ على تفريطه بترك النّظر الْوَاجِب
وَفِيهِمْ من عجز عَن النّظر فقلد الجم الْغَفِير يُشِير بذلك إِلَى سَبَب مبايعة أبي بكر
فَيُقَال لَهُ هَذَا من الْكَذِب الَّذِي لَا يعجز عَنهُ أحد
والرافضة قوم بهت
فَلَو طلب من هَذَا المفتري دَلِيل على ذَلِك لم يكن لَهُ ذَلِك دَلِيل
وَالله تَعَالَى قد حرم القَوْل بِغَيْر علم فَكيف إِذا
كَانَ الْمَعْرُوف ضد مَا قَالَه فَلَو لم نَكُنْ نَحن عَالمين بأحوال الصَّحَابَة لم يجز أَن نشْهد عَلَيْهِم بِمَا لَا نعلم من فَسَاد الْقَصْد وَالْجهل بالمستحق قَالَ تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم إِن السّمع وَالْبَصَر والفؤاد كل أُولَئِكَ كَانَ عَنهُ مسؤولا} وَقَالَ تَعَالَى {هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ حاججتم فِيمَا لكم بِهِ علم فَلم تحاجون فِيمَا لَيْسَ لكم بِهِ علم} فَكيف إِذا كُنَّا نعلم أَنهم كَانُوا أكمل هَذِه الْأمة عقلا وعلما ودينا وَقد قَالَ ابْن مَسْعُود إِن الله نظر فِي قُلُوب الْعباد فَوجدَ قلب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم خير قُلُوب الْعباد فاصطفاه لنَفسِهِ
ثمَّ نظر فِي قُلُوب الْعباد فَوجدَ قُلُوب أَصْحَابه خير قُلُوب الْعباد فجعلهم وزراء نبيه يُقَاتلُون على دينه فَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن وَمَا رَآهُ الْمُسلمُونَ سَيِّئًا فَهُوَ عِنْد الله سيء وَقد رأى أَصْحَاب مُحَمَّد أَن يستخلفوا أَبَا بكر
وَعَن ابْن مَسْعُود قَالَ من كَانَ مِنْكُم مستنا فَليَسْتَنَّ بِمن قد مَاتَ فَإِن الْحَيّ لَا تؤمن عَلَيْهِ الْفِتْنَة أُولَئِكَ أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم كَانُوا وَالله أفضل هَذِه الْأمة وأبرها قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا
قوم إختارهم الله لصحبة نبيه وَإِقَامَة دينه فاعرفوا لَهُم فَضلهمْ واتبعوهم فِي آثَارهم وتمسكوا بِمَا اسْتَطَعْتُم من أَخْلَاقهم وَدينهمْ فَإِنَّهُم كَانُوا على الْهدى الْمُسْتَقيم رَوَاهُ ابْن بطة بِإِسْنَاد عَن قَتَادَة
وروى هُوَ وَغَيره عَن زر بن حُبَيْش
فَهَذَا بضد مَا إدعاه هَذَا الْجَاهِل عَلَيْهِم من طلب الدُّنْيَا وَالْجهل وَالْعجز والتفريط بل لَهُم كَمَا الْعلم وَحسن الْقَصْد وهم خير الْقُرُون وَلَكِن ياما فعل الْجَهْل والرفض بأَهْله فنحمد الله على الْعَافِيَة فَإِن الرَّفْض مأوى شَرّ الطوائف كالنصيرية والإسماعيلية والملاحدة الطرقية وَأهل الْجَبَل والبوادي والقرامطة مَا بَينهم وَبَين الْعلم مُعَاملَة
قَالَ ابْن الْقَاسِم
سُئِلَ مَالك عَن أبي بكر وَعمر فَقَالَ مَا رَأَيْت أحدا مِمَّن أهتدي بِهِ يشك فِي تقديمهما
ثمَّ قلت وَبَعْضهمْ تَعْنِي عليا طلب الْأَمر لنَفسِهِ بِحَق وَبَايَعَهُ الأقلون فَهَذَا بَاطِل بِلَا ريب اتّفقت السّنة والشيعة على أَن عليا لم يدع إِلَى مبايعته إِلَّا بعد مقتل عُثْمَان وَلَا بَايعه أحد إِلَّا ذَلِك الْوَقْت أَكثر مَا يُقَال كَانَ فيهم من يخْتَار مبايعته
قَالَ وَإِنَّمَا كَانَ مَذْهَبنَا وَاجِب الإتباع لِأَنَّهُ أَحَق الْمذَاهب وَأصْدقهَا وأخلصها عَن شوائب الْبَاطِل وَأَعْظَمهَا تَنْزِيها لله وَلِرَسُولِهِ وأوصيائه إعتقدنا أَن الله هُوَ الْمَخْصُوص بالقدم وَأَنه لَيْسَ بجسم وَلَا فِي مَكَان وَإِلَّا لَكَانَ مُحدثا إِلَى أَن قَالَ وَأَنه غير مرئي بالحواس وَلَا فِي جِهَة وَأَن أمره وَنَهْيه حَادث لإستحالة أَمر الْمَعْدُوم وَنَهْيه وَأَن الْأَئِمَّة معصومون كالأنبياء من الصَّغَائِر والكبائر أخذُوا الْأَحْكَام عَن جدهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلم يلتفتوا إِلَى الرَّأْي وَالْقِيَاس والإستحسان
فَيُقَال مَا ذكرته لَا تعلق لَهُ بِالْإِمَامَةِ بل نقُول فِي مَذْهَب الإمامية من يُنكر هَذَا فَإِن هَذَا طَرِيقه الْعقل وَتعين الإِمَام طَرِيقه السّمع
ثمَّ مَا فِي هَذَا من حق فَأهل السّنة يَقُولُونَ بِهِ وَمَا فِيهِ من بَاطِل فمردود وغالبه قَوَاعِد الْجَهْمِية والمعتزلة ومضمونه أَن الله لَيْسَ لَهُ علم وَلَا قدرَة وَلَا حَيَاة وَأَنه لَا يتَكَلَّم وَلَا يرضى وَلَا يسْخط وَلَا يحب وَلَا يبغض
وَأما أهل السّنة فيثبتون لله مَا أثْبته لنَفسِهِ من الصِّفَات وينفون عَنهُ مماثلة الْمَخْلُوقَات إِثْبَات بِلَا تَشْبِيه وتنزيه بِلَا تَعْطِيل {لَيْسَ كمثله شَيْء} ردا
على المشبهة {وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} ردا على المعطلة
وَالله منزه عَن مُشَاركَة العَبْد فِي خَصَائِصه وَإِذا اتفقَا فِي مُسَمّى الْوُجُود وَالْعلم وَالْقُدْرَة فَهَذَا الْمُشْتَرك مُطلق كلي فِي الذِّهْن لَا وجود لَهُ فِي الْخَارِج وَالْمَوْجُود فِي الْأَعْيَان مُخْتَصّ لَا إشتراك فِيهِ
وَهنا زل خلق حَيْثُ توهموا أَن الإتفاق فِي مُسَمّى هَذِه الْأَشْيَاء يُوجب أَن يكون الْوُجُود الَّذِي للرب هُوَ الْوُجُود الَّذِي للْعَبد فظنت طَائِفَة أَن لفظ الْوُجُود يُقَال للإشتراك اللَّفْظِيّ وكابروا عُقُولهمْ
فَإِن هَذِه الْأَسْمَاء عَامَّة قَابِلَة للتقسيم كَمَا يُقَال الْوُجُود يَنْقَسِم إِلَى وَاجِب وممكن وقديم وحادث
وَاللَّفْظ الْمُشْتَرك كَلَفْظِ المُشْتَرِي الْوَاقِع على الْكَوْكَب وعَلى الْمُبْتَاع لَا يَنْقَسِم مَعْنَاهُ وَلَكِن يُقَال لفظ المُشْتَرِي يُقَال على كَذَا وعَلى كَذَا
وَطَائِفَة ظنت أَنَّهَا إِذا سمت هَذَا اللَّفْظ وَنَحْوه مشككا لكَون الْوُجُود بِالْوَاجِبِ أولى مِنْهُ بالممكن نجت من هَذِه الشُّبْهَة
وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن تفاضل الْمَعْنى الْمُشْتَرك الْكُلِّي لَا يمْنَع أَن يكون مُشْتَركا بَين إثنين
وَطَائِفَة ظنت أَن من قَالَ الْوُجُود متواطيء عَام فَإِنَّهُ يَقُول وجود الْخَالِق زَائِد على حَقِيقَته وَمن قَالَ حَقِيقَته هِيَ وجوده
قَالَ إِنَّه مُشْتَرك إشتراكا لفظيا
فَأصل خطأ النَّاس توهمهم أَن هَذِه الْأَسْمَاء الْعَامَّة يكون مسماها الْمُطلق الْكُلِّي هُوَ بِعَيْنِه ثَابتا فِي هَذَا الْمعِين وَهَذَا الْمعِين وَلَيْسَ كَذَلِك فَإِن مَالا يُوجد فِي الْخَارِج لَا يُوجد مُطلقًا كليا وَلَا يُوجد إِلَّا معينا مُخْتَصًّا وَهَذِه الْأَسْمَاء إِذا سمي الله تَعَالَى بهَا كَانَ مسماها مُخْتَصًّا بِهِ وَإِذا سمي بهَا العَبْد كَانَ مسماها مُخْتَصًّا بِهِ
فَإِذا قيل قد إشتركا فِي مُسَمّى الْوُجُود فَلَا بُد أَن يتَمَيَّز أَحدهمَا عَن الآخر بِمَا يَخُصُّهُ وَهُوَ الْمَاهِيّة والحقيقة
قيل إشتراكا فِي الْوُجُود الْمُطلق الذهْنِي لَا إشتراكا فِي مُسَمّى الْمَاهِيّة والحقيقة والذات وَالنَّفس
فالغلط نَشأ من جِهَة أَخذ الْوُجُود مُطلقًا وَأخذ الْحَقِيقَة مُخْتَصَّة
وكل وَاحِد مِنْهُمَا يُمكن أَخذه مُطلقًا ومختصا فالمطلق مسَاوٍ للمطلق والمختص مسَاوٍ للمختص فالوجود الْمُطلق مُطَابق للْحَقِيقَة الْمُطلقَة والوجود الْمُخْتَص مُطَابق لحقيقتة المختصة والمسمى بِهَذَا وَهَذَا وَاحِد وَإِن تعدّدت جِهَة التَّسْمِيَة كَمَا يُقَال هَذَا هُوَ ذَاك فالمشار إِلَيْهِ وَاحِد لَكِن بِوَجْهَيْنِ مُخْتَلفين
وَالْمَقْصُود أَن إِثْبَات الصِّفَات والأسماء لله لَا يسْتَلْزم أَن يكون الْخَالِق مماثلا لخلقه وَلَا مشتبها لَهُم فَهُوَ تَعَالَى مَوْصُوف بِصِفَات الْكَمَال اللَّازِمَة لذاته وَهِي قديمَة أزلية وَاجِبَة بقدم الْمَوْصُوف ووجوبه
وَهَذَا حق لَا مَحْذُور فِيهِ فإثبات الْأَسْمَاء دون الصِّفَات سفسطة فِي العقليات وقرمطة فِي السمعيات
قَالَ الْجُمْهُور هَذَا خطأ وبدعة أَعنِي هَذَا التَّقْسِيم فَالَّذِي عَلَيْهِ أهل الْحق من السّنة أَنه تَعَالَى لَا يُوصف بالجسمية أصلا بل وَلَا فِي فطْرَة الْعَرَب العرباء جَاهِلِيَّتهَا وإسلاميتها أَن الله جسم أبدا تَعَالَى الله عَن ذَلِك
وقولك لَيْسَ بجسم فالجسم فِيهِ إِجْمَال قد يُرَاد بِهِ الْمركب الَّذِي كَانَت أجزاؤه مفرقة فَجمعت أَو مَا يقبل التَّفْرِيق والإنفصال أَو الْمركب من مَادَّة وَصُورَة
وَالله منزه عَن ذَلِك كُله
وَقد يُرَاد بالجسم مَا يشار إِلَيْهِ أَو مَا يرى أَو مَا تقوم بِهِ الصِّفَات فَالله يشار إِلَيْهِ فِي الدُّعَاء وبالقلوب والعيون وَيرى فِي الْآخِرَة عيَانًا وَتقوم بِهِ الصِّفَات
فَإِن أردْت لَيْسَ بجسم هَذَا الْمَعْنى قيل لَك هَذَا الْمَعْنى الَّذِي قصدت نَفْيه بِهَذَا اللَّفْظ
معنى ثَابت بِصَحِيح الْمَنْقُول وصريح الْمَعْقُول وَأَنت لم تقم دَلِيلا على نَفْيه
وَأما اللَّفْظ فبدعة نفيا وإثباتا فَمَا فِي النُّصُوص وَلَا فِي قَول السّلف إِطْلَاق لفظ الْجِسْم على الله وَلَا نَفْيه وَكَذَلِكَ لفظ الْجَوْهَر والمتحيز
وَكَذَلِكَ قَوْلك لَا فِي مَكَان قد يُرَاد بِالْمَكَانِ مَا يحوي الشَّيْء ويحيط بِهِ وَيحْتَاج إِلَيْهِ وَقد يُرَاد بِهِ مَا فَوق الْعَالم وَإِن يكن أمرا مَوْجُودا فَالْأول الله منزه عَنهُ وَالثَّانِي فَنعم الله فَوق خلقه
وَإِذا لم يكن إِلَّا خَالق أَو مَخْلُوق فالخالق بَائِن من الْمَخْلُوق
فَهُوَ الظَّاهِر لَيْسَ فَوْقه شَيْء وَهُوَ فَوق سماواته فَوق عَرْشه بَائِن من خلقه كَمَا دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة واتفقت عَلَيْهِ الْأَئِمَّة
وقولك وَإِلَّا لَكَانَ مُحدثا أَي لَو كَانَ جسما أَو فِي مَكَان لَكَانَ مُحدثا فَمَا الدَّلِيل على مَا إدعيت فكأنك إكتفيت بِالدَّلِيلِ الْمَشْهُور لسلفك الْمُعْتَزلَة من أَنه لَو كَانَ جسما لم يخل عَن الْحَرَكَة والسكون وَمَا لم يخل عَن الْحَوَادِث فحادث لإمتناع حوادث لَا أول لَهَا
وَيَقُولُونَ لَو قَامَ بِهِ علم وحياة وقدرة وَكَلَام لَكَانَ جسما
وَالْجَوَاب إِنَّه
عنْدك حَيّ عليم قدير وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ بجسم مَعَ أَنَّك لَا تعقل حَيا عَالما قَادِرًا إِلَّا جسما
فَإِن كَانَ قَوْلك حَقًا أمكن لَهُ حَيَاة وَعلم وقدرة وَأَن يكون مباينا للْعَالم عَالِيا عَلَيْهِ وَلَيْسَ بجسم فَإِن قلت لَا أَعقل مباينا عَالِيا إِلَّا جسما قيل لَك وَلَا يعقل حَيّ عليم قدير إِلَّا جسم
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ لَيْسَ إِذا كَانَ هَذَا الْحَادِث لَيْسَ بدائم وَهَذَا لَيْسَ بدائم بَاقٍ يجب أَن يكون نوع الْحَوَادِث لَيْسَ دائمة بَاقِيَة
وَأَيْضًا فَإِن ذَلِك يسْتَلْزم حُدُوث الْحَوَادِث بِلَا سَبَب وَذَلِكَ مُمْتَنع فِي صَرِيح الْعقل
وَلَكِن على النَّاس أَن يُؤمنُوا بِاللَّه وَرَسُوله ويصدقوه ويطيعوه فَهَذَا أصل السَّعَادَة كلهَا قَالَ الله تَعَالَى {كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك لتخرج النَّاس من الظُّلُمَات إِلَى النُّور بِإِذن رَبهم إِلَى صِرَاط الْعَزِيز الحميد} فَالله سُبْحَانَهُ بعث الرُّسُل بِمَا يَقْتَضِي الْكَمَال من إِثْبَات أَسْمَائِهِ وَصِفَاته المقدسة على وَجه التَّفْصِيل وَالنَّفْي على طَرِيق الْإِجْمَال للنقص والتمثيل
فالرب تَعَالَى مَوْصُوف بنعوت الْكَمَال الَّتِي لَا غَايَة فَوْقهَا منزه عَن النَّقْص بِكُل وَجه مُمْتَنع أَن يكون لَهُ مثل فِي شَيْء من صِفَات الْكَمَال
وَقد أخبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن فِي الْجنَّة مَا لم يخْطر على قلب بشر فَإِذا كَانَ هَذَا فِي الْمَخْلُوق فَمَا الظَّن بالخالق
وَقَالَ ابْن عَبَّاس لَيْسَ فِي الدُّنْيَا مِمَّا فِي الْجنَّة إِلَّا الْأَسْمَاء
فَإِذا كَانَ هَذَانِ المخلوقان متفقين فِي الإسم مَعَ أَن بَينهمَا فِي الْحَقِيقَة تباينا لَا يعرف قدره فِي الدُّنْيَا فَمن الْمَعْلُوم أَن مَا يَتَّصِف بِهِ الرب من صِفَات الْكَمَال أعظم مباينة لما يَتَّصِف بِهِ العَبْد
إِلَى أَن قَالَ شَيخنَا فَمَا ثَبت عَن الرَّسُول وَجب الْإِيمَان بِهِ وَمَا لم يثبت عَنهُ فَلَا يجب الحكم فِيهِ بِنَفْي وَلَا إِثْبَات حَتَّى يعلم مُرَاد الْمُتَكَلّم وَتعلم صِحَة نَفْيه وإثباته
فَالْكَلَام فِي
الْأَلْفَاظ المجملة بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَات دون الإستفصال يُوقع فِي الْجَهْل والضلاك والقيل والقال
وَقد قيل أَكثر إختلاف الْعُقَلَاء من جِهَة الإشتراك فِي الْأَسْمَاء
ومثبتو الْجِسْم ونفاته موجودون فِي الشِّيعَة وَفِي السّنة
وَأول مَا ظهر إِطْلَاق لفظ الْجِسْم من مُتَكَلم الرافضة هِشَام بن الحكم كَذَلِك نقل ابْن حزم وَغَيره
قَالَ الْأَشْعَرِيّ فِي مقالات الإسلاميين إختلف الروافض فِي التجسيم وهم سِتّ فرق فَالْأولى الهشامية أَصْحَاب هِشَام بن الحكم يَزْعمُونَ أَن معبودهم جسم وَله نِهَايَة وحد طوله كعرضه وعمقه وَأَنه نور سَاطِع كالسبيكة يتلألأ كاللؤلؤة المدروة ذُو لون وَطعم وريح ومجسه
الْفرْقَة الثَّانِيَة زَعَمُوا أَنه لَيْسَ بِصُورَة وَلَا كالأجسام وَإِنَّمَا يذهبون فِي قَوْلهم إِنَّه جسم إِلَى أَنه مَوْجُود وينفون عَنهُ الْأَجْزَاء والأبعاض ويزعمون أَنه على الْعَرْش بِلَا مماسة وَلَا كَيفَ
الْفرْقَة الثَّالِثَة من الرافضة يَزْعمُونَ أَنه على صُورَة الْإِنْسَان وَيمْنَعُونَ أَن يكون جسما
الْفرْقَة الرَّابِعَة أَصْحَاب هِشَام بن سَالم الجواليقي يَزْعمُونَ أَنه على صُورَة الْإِنْسَان وَيُنْكِرُونَ أَن يكون لَحْمًا ودما وَيَقُولُونَ هُوَ نور يتلألأ وَأَنه ذُو حواس خمس وَله يَد وَرجل وأنف وفم وَعين وَسَائِر حواسه مُتَغَايِرَة
وَحكى أَبُو عِيسَى الْوراق أَن
هِشَام بن سَالم كَانَ يزْعم أَن لرَبه وفرة سَوْدَاء وَأَن ذَلِك نور أسود
الْفرْقَة الْخَامِسَة يَزْعمُونَ أَن لَهُ ضِيَاء خَالِصا ونورا كالمصباح من حَيْثُ مَا جِئْته يلقاك بِأَمْر وَاحِد وَلَيْسَ بِذِي صُورَة وَلَا إختلاف فِي الْأَجْزَاء
الْفرْقَة السَّادِسَة من الرافضة يَزْعمُونَ أَنه لَيْسَ بجسم وَلَا صُورَة وَلَا يَتَحَرَّك وَلَا يسكن وَلَا يماس وَقَالُوا فِي التَّوْحِيد بقول الْمُعْتَزلَة
قَالَ الْأَشْعَرِيّ وَهَؤُلَاء قوم من متأخريهم فَأَما أوائلهم فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ بِمَا حكيناه عَنْهُم من التَّشْبِيه وَلَقَد طول شَيخنَا هُنَا إِلَى الْغَايَة وَأَطْنَبَ وأسهب وَاحْتج بِمَسْأَلَة الْقدر والرؤية وَالْكَلَام إِلَى أَن قَالَ
وَأما قَوْله إِن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام معصومون من الْخَطَأ والسهو والصغائر من أول الْعُمر إِلَى آخِره فَيُقَال الإمامية متنازعون فِي هَذَا
قَالَ الْأَشْعَرِيّ فِي المقالات اخْتلف الروافض فِي الرَّسُول هَل يجوز أَن يَعْصِي ففرقة قَالَت يجوز ذَلِك وَأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم عصى فِي أَخذ الْفِدَاء يَوْم بدر
قَالُوا وَالْأَئِمَّة لَا يجوز عَلَيْهِم ذَلِك فَإِن الرَّسُول إِذا عصى جَاءَهُ الْوَحْي وَرجع وَالْأَئِمَّة لَا يُوحى إِلَيْهِم فَلَا يجوز عَلَيْهِم سَهْو وَلَا غلط قَالَ بِهَذَا هِشَام بن الحكم فَنَقُول إتفق الْمُسلمُونَ على أَنهم معصومون فِيمَا يبغلونه فَلَا
يقرونَ على سَهْو فِيهِ وَبِهَذَا يحصل الْمَقْصُود من الْبعْثَة
أما وجوب كَونه قبل النُّبُوَّة لَا يُذنب وَلَا يخطيء فَلَيْسَ فِي النُّبُوَّة مَا يسْتَلْزم هَذَا فَمن إعتقد أَن كل من لم يكفر وَلم يقتل وَلم يُذنب أفضل من كل من آمن بعد كفره واهتدى بعد ضلاله وَتَابَ بعد ذنُوبه فَهُوَ مُخَالف لما علم بالإضطرار من الدّين
فَمن الْمَعْلُوم أَن السَّابِقين أفضل من أَوْلَادهم الَّذين ولدُوا فِي الْإِسْلَام وَهل يشبه أَبنَاء الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار بآبائهم عَاقل وَأَيْنَ الْمُنْتَقل بِنَفسِهِ من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان وَمن السَّيِّئَات إِلَى الْحَسَنَات بنظره وإستدلاله وَصَبره وتوبته ومفارقته عاداته ومعاداته لرفاقه إِلَى من وجد أَبَوَيْهِ وأقاربه وَأهل بَلَده على دين الْإِسْلَام وَنَشَأ فِي الْعَافِيَة قَالَ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه إِنَّمَا ينْقض عرى الْإِسْلَام من لم يعرف الْجَاهِلِيَّة
وَقد وعد الله من تَابَ من الموبقات وآمن وَعمل صَالحا بِأَن يُبدل سيئاتهم حَسَنَات
وَجُمْهُور الْأمة مِمَّن يَقُول بِجَوَاز الصَّغَائِر على الْأَنْبِيَاء عليهم السلام يَقُولُونَ هم معصومون من الْإِقْرَار عَلَيْهَا فَمَا يزدادون بِالتَّوْبَةِ إِلَّا كمالا
فالنصوص والْآثَار وَإِجْمَاع السّلف مَعَ الْجُمْهُور
والمنكرون لذَلِك يَقُولُونَ فِي تَحْرِيف الْقُرْآن مَا هُوَ من جنس قَول أهل الْبُهْتَان كَقَوْلِهِم فِي {ليغفر لَك الله مَا تقدم من ذَنْبك} أَي ذَنْب آدم {وَمَا تَأَخّر} ذَنْب أمتك فَأَما آدم فنبي كريم فوقعوا فِيمَا فروا مِنْهُ فنفوا الذَّنب عَن نَبينَا وألصقوه بِآدَم
ثمَّ إِن آدم تَابَ الله عَلَيْهِ قبل أَن يهْبط إِلَى الأَرْض وَقبل أَن يُولد نوح وَإِبْرَاهِيم وَالله يَقُول {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} فَكيف يُضَاف ذَنْب هَذَا إِلَى ذَنْب هَذَا ثمَّ إِن هَذِه الْآيَة لما نزلت قَالَ أَصْحَابه يَا رَسُول الله هَذَا لَك فَمَا لنا فَأنْزل الله {هُوَ الَّذِي أنزل السكينَة فِي قُلُوب الْمُؤمنِينَ ليزدادوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانهم} ثمَّ كَيفَ يَقُول من لَهُ مسكة عقل إِن الله غفر ذنُوب أمته جَمِيعهَا
وَقد علم أَن مِنْهُم
من يدْخل النَّار بذنوبه
فَأَيْنَ الْمَغْفِرَة
وَأما قَوْلك إِن هَذَا يَنْفِي الوثوق بهم وَيُوجب التنفير فَلَيْسَ بِصَحِيح بل إِذا أعترف الْكَبِير بِمَا هُوَ عَلَيْهِ من الْحَاجة إِلَى تَوْبَته
ومغفرة الله وَرَحمته
دلّ ذَلِك على صدقه وتواضعه وَبعده من الْكبر وَالْكذب
بِخِلَاف من يَقُول مَالِي حَاجَة إِلَى شَيْء من هَذَا فَمَا صدر مني مَا يحوجني إِلَى مغْفرَة وَلَا تَوْبَة
فَإِن مثل هَذَا إِذا عرف من رجل نسبه النَّاس إِلَى الْكبر وَالْجهل وَالْكذب
وَثَبت أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لن يدْخل أحد مِنْكُم الْجنَّة بِعَمَلِهِ قَالُوا وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله قَالَ وَلَا أَنا إِلَّا أَن يتغمدني الله برحمة مِنْهُ وَفضل
وَثَبت عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ اللَّهُمَّ إغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي فِي أَمْرِي وَمَا أَنْت أعلم بِهِ مني اللَّهُمَّ أَغفر لي هزلي وجدي
وخطأي وعمدي
وكل ذَلِك عِنْدِي مُتَّفق عَلَيْهِ
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم كل بنى آدم خطاء
وَخير الْخَطَّائِينَ التوابون
وَمَا ذكرته من عدم الوثوق والتنفير يحصل مَعَ الْإِصْرَار والإكثار
لَا مَعَ ندور الذُّنُوب المتبوعة بِكَثْرَة الإستغفار وَالتَّوْبَة
أما من إدعي الْبَرَاءَة والسلامة
فَمَا أحوجه إِلَى الرُّجُوع إِلَى الله وَالتَّوْبَة والإنابة
وَمَا علمنَا أَن بني إِسْرَائِيل وَلَا غَيرهم قَدَحُوا فِي نَبِي من الْأَنْبِيَاء بتوبته فِي أَمر من الْأُمُور
إِلَى أَن قَالَ فَأَما مَا تَقوله الرافضة من أَن النَّبِي قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا لَا يَقع مِنْهُ خطأ وَلَا ذَنْب صَغِير
وَكَذَلِكَ الإثني عشر فَهَذَا مِمَّا انفردوا بِهِ عَن الْأمة كلهَا وَقد كَانَ دَاوُد عليه السلام بعد التَّوْبَة خيرا مِنْهُ قبل الْخَطِيئَة
وَقَالَ بعض الْمَشَايِخ لَو لم تكن التَّوْبَة أحب الْأَشْيَاء إِلَيْهِ مَا ابتلى بالذنب أكْرم الْخلق عَلَيْهِ
وَلِهَذَا تَجِد التائب الصَّادِق أثبت على الطَّاعَة وَأَشد حذرا من الذُّنُوب من كثير مِمَّن لم يبتل بذنب فَمن جعل التائب الَّذِي إجتباه الله وهداه منقوصا فَهُوَ جَاهِل
وقولك وَالْأَئِمَّة معصومون كالأنبياء فَهَذِهِ خَاصَّة الرافضة الإمامية الَّتِي مَا شركهم فِيهَا أحد إِلَّا من هُوَ شَرّ مِنْهُم كالإسماعيلية الْقَائِلين بعصمة بني عبيد المنتسبين إِلَى مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر قَالُوا بِأَن الْإِمَامَة بعد جَعْفَر فِي مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل دون مُوسَى بن جَعْفَر وهم ملاحدة زنادقة
وَأما قَوْلك لَا يجوز على الْأَنْبِيَاء سَهْو فَمَا علمت أحدا قَالَه
وَأما أَخذ المعصومين عَن جدهم فَيُقَال أَولا الْقَوْم إِنَّمَا تعلمُوا حَدِيث جدهم من الْعلمَاء وَهَذَا متواتر فعلي بن الْحُسَيْن يروي عَن أبان بن عُثْمَان عَن أُسَامَة بن زيد وَمُحَمّد ابْن عَليّ يروي عَن جَابر وَغَيره
وَثَانِيا فَمَا فيهم من أدْرك النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَّا عَليّ وولداه
وَهَذَا عَليّ يَقُول إِذا حدثتكم عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فوَاللَّه لِأَن أخر من السَّمَاء إِلَى الأَرْض أحب إِلَيّ من أَن أكذب عَلَيْهِ
وَإِذا حدثتكم فِيمَا بيني وَبَيْنكُم فَإِن الْحَرْب خدعة وَلِهَذَا كَانَ يَقُول القَوْل وَيرجع عَنهُ
وَكتب الشِّيعَة مَمْلُوءَة بالروايات الْمُخْتَلفَة عَن الْأَئِمَّة
وقولك إِنَّكُم تتناقلون ذَلِك خلفا عَن سلف إِلَى أَن تتصل الرِّوَايَة بِأحد المعصومين فَإِن كَانَ مَا تَقول حَقًا فالنقل عَن الْمَعْصُوم الْوَاحِد كَاف فَأَي حَاجَة فِي كل زمَان إِلَى مَعْصُوم وَإِذا كَانَ النَّقْل كَافِيا مَوْجُودا فَأَي فَائِدَة فِي المنتظر الَّذِي لَا ينْقل عَنهُ كلمة وَإِن لم يكن النَّقْل كَافِيا فَأنْتم فِي نُقْصَان وَجَهل من أَرْبَعمِائَة وَسِتِّينَ سنة
ثمَّ الْكَذِب من الرافضة على هَؤُلَاءِ يتجاوزون بِهِ الْحَد لَا سِيمَا على جَعْفَر الصَّادِق حَتَّى كذبُوا عَلَيْهِ كتاب الجفر والبطاقة وَكتاب إختلاج الْأَعْضَاء وَأَحْكَام الرعود والبروق وَمَنَافع الْقُرْآن وَصَارَت هَذِه معايش للطرقية فَكيف يَثِق الْقلب بِنَقْل من كثر مِنْهُم الْكَذِب إِن لم يعلم صدق النَّاقِل وإتصال السَّنَد وَقد تعدى شرهم إِلَى غَيرهم من أهل الْكُوفَة وَأهل
الْعرَاق حَتَّى كَانَ أهل الْمَدِينَة يتوقون أَحَادِيثهم
وَكَانَ مَالك يَقُول نزلُوا أَحَادِيث أهل الْعرَاق منزلَة أَحَادِيث أهل الْكتاب لَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تكذبوهم
وَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن ابْن مهْدي يَا أَبَا عبد الله سمعنَا فِي بلدكم أَرْبَعمِائَة حَدِيث فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَنحن فِي يَوْم وَاحِد نسْمع هَذَا كُله
فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن من أَيْن لنا دَار الضَّرْب الَّتِي عنْدكُمْ دَار الضَّرْب تضربون بِاللَّيْلِ وتنفقون بِالنَّهَارِ
وَمَعَ هَذَا إِنَّه كَانَ فِي الْكُوفَة وَغَيرهَا من الثِّقَات الأكابر كثير
وَمن كَثْرَة الْكَذِب الَّذِي كَانَ أَكْثَره فِي الشِّيعَة صَار الْأَمر يشْتَبه على من لَا يُمَيّز بَين هَذَا وَهَذَا بِمَنْزِلَة الرجل الْغَرِيب إِذا دخل إِلَى بلد نصف أَهله كذابون خوانون فَإِنَّهُ يحترس مِنْهُم حَتَّى يعرف الصدوق الثِّقَة وبمنزلة الدَّرَاهِم الَّتِي كثر فِيهَا الْغِشّ يحترس عَن الْمُعَامَلَة بهَا من لَا يكون نقادا
وَلِهَذَا كره لمن لَا يكون لَهُ نقد وتمييز النّظر فِي الْكتب الَّتِي يكثر فِيهَا الْكَذِب فِي الرِّوَايَة
والضلال فِي الآراء ككتب الْبدع
وَكره تلقي الْعلم من الْقصاص وأمثالهم الَّذين يكثر الْكَذِب فِي كَلَامهم وَإِن كَانُوا يَقُولُونَ صدقا كثيرا
فالرافضة أكذب من كل طَائِفَة بإتفاق أهل الْمعرفَة بأحوال الرِّجَال
وقولك فَلم يلتفتوا إِلَى القَوْل بِالرَّأْيِ والإجتهاد وحرموا الْقيَاس فالشيعة فِي ذَا كالسنة فيهم أهل رَأْي وَأهل قِيَاس وَفِي السّنة من لَا يرى ذَلِك
والمعتزلة البغداديون لَا يَقُولُونَ بِالْقِيَاسِ وَخلق من الْمُحدثين يذمون الْقيَاس
وَأَيْضًا فَالْقَوْل بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاس خير من الْأَخْذ بِمَا يَنْقُلهُ من عرف بِالْكَذِبِ نقل غير مُصدق عَن قَائِل غير مَعْصُوم
وَلَا ريب أَن الإجتهاد فِي تَحْقِيق الْأَئِمَّة الْكِبَار لمناط الْأَحْكَام وتنقيحها وتخريجها خير من
التَّمَسُّك بِنَقْل الرافضة عَن العسكريين فَإِن مَالِكًا وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأَبا حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وأمثالهم رضي الله عنهم أعلم من العسكريين بدين الله وَالْوَاجِب على مثل العسكريين أَن يتعلموا من الْوَاحِد من هَؤُلَاءِ
وَمن الْمَعْلُوم أَن عَليّ بن الْحُسَيْن وَأَبا جَعْفَر وجعفر بن مُحَمَّد كَانُوا هم الْعلمَاء الْفُضَلَاء وَأَن من بعدهمْ لم يعرف عَنهُ من الْعلم مَا عرف عَن هَؤُلَاءِ وَمَعَ هَذَا فَكَانُوا يتعلمون من عُلَمَاء زمانهم ويرجعون إِلَيْهِم
قَالَ أما بَاقِي الْمُسلمين فقد ذَهَبُوا كل مَذْهَب فَقَالَ بَعضهم وهم جمَاعَة من الأشاعرة إِن القدماء كَثِيرُونَ مَعَ الله وَهِي الْمعَانِي الَّتِي يثبتونها مَوْجُودَة فِي الْخَارِج كالقدرة وَالْعلم وَغير ذَلِك فجعلوه مفتقرا فِي كَونه عَالما إِلَى ثُبُوت معنى هُوَ الْعلم وَفِي كَونه قَادِرًا إِلَى ثُبُوت معنى هُوَ الْقُدْرَة وَغير ذَلِك
وَلم يَجْعَلُوهُ قَادِرًا لذاته وَلَا عَالما لذاته وَلَا حَيا لذاته بل لمعان قديمَة يفْتَقر فِي هَذِه الصِّفَات إِلَيْهَا
وَاعْترض شيخهم فَخر الدّين الرَّازِيّ عَلَيْهِم بِأَن قَالَ النَّصَارَى كفرُوا بِأَن قَالُوا القدماء ثَلَاثَة والأشاعرة أثبتوا قدماء تِسْعَة
فَيُقَال الْكَلَام على هَذَا من وُجُوه
أَحدهَا أَن هَذَا كذب على الأشعرية لَيْسَ فيهم من يَقُول إِن الله كَامِل بِغَيْرِهِ وَلَا قَالَ الرَّازِيّ مَا ذكرته بل ذكره الرَّازِيّ عَمَّن اعْترض بِهِ واستهجن الرَّازِيّ ذكره وَهُوَ إعتراض قديم من إعتراضات نفاة الصِّفَات الْجَهْمِية ذكره الإِمَام أَحْمد فِي الرَّد على الْجَهْمِية ثمَّ قَالَ لَا نقُول إِن الله لم يزل وَقدرته وَلم يزل ونوره
بل نقُول لم يزل الله بقدرته ونوره لَا مَتى قدر وَلَا كَيفَ قدر
فَقَالُوا لَا تَكُونُونَ مُوَحِّدين حَتَّى تَقولُوا كَانَ الله وَلَا شَيْء
فَقُلْنَا نَحن نقُول قد كَانَ الله وَلَا شَيْء وَلَكِن إِذا قُلْنَا إِن الله لم يزل بصفاته كلهَا أَلَيْسَ إِنَّمَا تصف إِلَهًا وَاحِدًا بِجَمِيعِ صِفَاته وضربنا لَهُم فِي ذَلِك مثلا فَقُلْنَا أخبرونا عَن هَذِه النَّخْلَة أَلَيْسَ لَهَا جذع وكرب
وليف وسعف وخوص وجمار وَاسْمهَا إسم وَاحِد وَسميت نَخْلَة بِجَمِيعِ صفاتها فَكَذَلِك الله وَله الْمثل الْأَعْلَى بِجَمِيعِ صِفَاته إِلَه وَاحِد لَا نقُول إِنَّه كَانَ فِي وَقت من الْأَوْقَات وَلَا يقدر حَتَّى خلق قدرَة وَلَا كَانَ وَلَا يعلم حَتَّى خلق لنَفسِهِ علما وَالَّذِي لَا يقدر وَلَا يعلم عَاجز جَاهِل وَلَكِن نقُول لم يزل الله عَالما قدارا مَالِكًا لَا مَتى وَلَا كَيفَ الثَّانِي أَن يُقَال هَذَا القَوْل الْمَذْكُور لَيْسَ قَول الأشعرية كلهم وَإِنَّمَا هُوَ قَول مثبتي الْحَال مِنْهُم الَّذين يَقُولُونَ إِن العالمية حَال معطلة بِالْعلمِ فيجعلون الْعلم يُوجب حَالا آخر لَيْسَ هُوَ الْعلم بل هُوَ كَونه عَالما وَهَذَا قَول الباقلاني وَالْقَاضِي أبي يعلى وَأول قولي أبي الْمَعَالِي
وَأما جُمْهُور مثبتة الصِّفَات فَيَقُولُونَ إِن الْعلم هُوَ كَونه عَالما وَيَقُولُونَ لَا يكون عَالما إِلَّا بِعلم وَلَا قَادِرًا إِلَّا بقدرة أَي يمْتَنع أَن يكون عَالما من لَا علم لَهُ أَو قَادِرًا من لَا قدرَة لَهُ أَو حَيا من لَا حَيَاة لَهُ فَإِن وجود اسْم الْفَاعِل بِدُونِ الْمصدر مُمْتَنع وَهَذَا كَمَا لَو قيل مصل بِلَا صَلَاة وصائم بِلَا صِيَام وناطق بِلَا نطق
فَإِذا قيل لَا يكون مصل إِلَّا بِصَلَاة لم يكن المُرَاد أَن هُنَا شَيْئَيْنِ أَحدهمَا الصَّلَاة وَالثَّانِي حَال مُعَلل بِالصَّلَاةِ بل الْمُصَلِّي لَا بُد أَن يكون لَهُ صَلَاة
وهم أَنْكَرُوا قَول نفاة الصِّفَات الَّذين يَقُولُونَ هُوَ حَيّ لَا حَيَاة لَهُ وعالم علم لَهُ وقادر لَا قدرَة لَهُ
فَمن قَالَ هُوَ حَيّ عليم قدير بِذَاتِهِ وَأَرَادَ بذلك أَن ذَاته مستلزمة لِحَيَاتِهِ وَعلمه وَقدرته لم يحْتَج فِي ذَلِك إِلَى غَيره
وَمن تدبر كَلَام هَؤُلَاءِ وجدهم مضطرين إِلَى إِثْبَات الصِّفَات وَأَنَّهُمْ لَا يُمكنهُم أَن يفرقُوا بَين قَوْلهم وَقَول المثبتة بفرق مُحَقّق لأَنهم أثبتوا كَونه تَعَالَى حَيا وَكَونه عَالما وَكَونه قَادِرًا وَلَا يجْعَلُونَ هَذَا هُوَ هَذَا وَلَا هَذَا هُوَ هَذَا وَلَا هَذِه الْأُمُور هَذِه الذَّات فقد أثبتوا مَعَاني زَائِدَة على الذَّات الْمُجَرَّدَة فقولك أثبتوا قدماء كَثِيرَة لفظ مُجمل يُوهم أَنهم أثبتوا آلِهَة غير الله فِي الْأَزَل وأثبتوا
مَعَ الله غَيره وَهَذَا بهتان عَلَيْهِم
وَإِنَّمَا أثبتوا صِفَات قَائِمَة بِهِ قديمَة بقدمه فَهَل يُنكر هَذَا إِلَّا مخذول مسفسط وَاسم الله يتَنَاوَل الذَّات المتصفة بِالصِّفَاتِ لَيْسَ هُوَ اسْما للذات الْمُجَرَّدَة
وقولك يجعلونه مفتقرا فِي كَونه عَالما إِلَى ثُبُوت معنى هُوَ الْعلم فَهَذَا يرد على مثبتة الْحَال وَأما الْجُمْهُور فعندهم كَونه عَالما هُوَ الْعلم
وَبِتَقْدِير أَن يُقَال كَونه عَالما مفتقر إِلَى الْعلم الَّذِي هُوَ لَازم لذاته لَيْسَ فِي هَذَا إِثْبَات فقر لَهُ إِلَى غير ذَاته فَإِن ذَاته مستلزمة للْعلم وَالْعلم مُسْتَلْزم لكَونه عَالما فذاته هِيَ الْمُوجبَة لهَذَا فالعلم كَمَال وَكَونه عَالما كَمَال فَإِذا أوجبت ذَاته هَذَا وَهَذَا كَانَ كَمَا لَو أوجبت الْحَيَاة وَالْقُدْرَة
وقولك لم يَجْعَلُوهُ عَالما لذاته قَادِرًا لذاته إِن أردْت أَنهم لم يَجْعَلُوهُ عَالما قَادِرًا لذات مُجَرّدَة عَن الْعلم وَالْقُدْرَة كَمَا يَقُول نفاة الصِّفَات إِنَّه ذَات مُجَرّدَة عَن الصِّفَات فَهَذَا حق لِأَن الذَّات الْمُجَرَّدَة عَن الْعلم وَالْقُدْرَة لَا حَقِيقَة لَهَا فِي الْخَارِج وَلَا هِيَ الله
وَإِن أردْت أَنهم لم يَجْعَلُوهُ عَالما قَادِرًا لذاته المستلزمة للْعلم وَالْقُدْرَة فَهَذَا غلط عَلَيْهِم بل نفس ذَاته الْمُوجبَة لعلمه وَقدرته هِيَ الَّتِي أوجبت كَونه عَالما قَادِرًا وأوجبت علمه وَقدرته فَإِن هَذِه الْأُمُور متلازمة
وقولك فجعلوه مُحْتَاجا نَاقِصا فِي ذَاته كَامِلا بِغَيْرِهِ كَلَام بَاطِل فَإِنَّهُ هُوَ الذَّات الموصوفة بِالصِّفَاتِ اللَّازِمَة لَهَا وَمَا فِي الْخَارِج ذَات مُجَرّدَة عَن صِفَات وَلَيْسَت صِفَات الله غير الله
وَقَول الْقَائِل إِن النَّصَارَى قد كفرُوا بِأَن قَالُوا القدماء ثَلَاثَة
والأشاعرة
أثبتوا قدماء تِسْعَة
وَالنَّصَارَى لم يكفرهم الله بقَوْلهمْ القدماء ثَلَاثَة بل بقَوْلهمْ {إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة وَمَا من إِلَه إِلَّا إِلَه وَاحِد} فَبين تَعَالَى أَنهم كفرُوا بِأَن قَالُوا الله ثَالِث ثَلَاثَة آلِهَة وَلم يقل وَمَا من قديم إِلَّا قديم وَاحِد ثمَّ أتبع ذَلِك بكشف حَال الآخرين فَقَالَ {مَا الْمَسِيح ابْن مَرْيَم إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل وَأمه صديقَة كَانَا يأكلان الطَّعَام} والإله يطعم وَلَا يطعم
وَقَالَ {يَا عِيسَى ابْن مَرْيَم أَأَنْت قلت للنَّاس اتخذوني وَأمي إِلَهَيْنِ من دون الله قَالَ سُبْحَانَكَ} فَلَيْسَ فِي الْكتاب وَالسّنة ذكر لفظ الْقَدِيم فِي أَسمَاء الله وَإِن كَانَ الْمَعْنى صَحِيحا
ثمَّ النَّصَارَى معترفون بِأَن مَرْيَم وَعِيسَى عليهما السلام ولدا وحدثا فَكيف يَقُولُونَ قديمان
ثمَّ إِن الَّذين أثبتوا الصِّفَات لَا يَقُولُونَ ان الله تَاسِع تِسْعَة قدماء بل اسْم الله عِنْدهم يتَضَمَّن الذَّات وَالصِّفَات وَلَا أطْلقُوا على الصِّفَات أَنَّهَا غير الله وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم من حلف بِغَيْر الله فقد أشرك وَثَبت فِي الصَّحِيح الْحلف بعزة الله وَعمر الله فالحلف بذلك لَيْسَ حلفا بِغَيْر الله
وَالصَّوَاب أَن الصِّفَات لَا تَنْحَصِر فِي ثَمَانِيَة كَمَا قَالَ بعض الأشعرية بل وَلَا تَنْحَصِر بِعَدَد
ثمَّ إِن النَّصَارَى أثبتوا ثَلَاثَة أقانيم إِنَّهَا ثَلَاثَة جَوَاهِر يجمعها جَوْهَر وَاحِد وَإِن كل وَاحِد مِنْهَا إِلَه يخلق ويرزق والمتحد بالمسيح هُوَ أقنوم الْكَلِمَة وَالْعلم وَهَذَا متناقض فَإِن المتحد إِن كَانَ صفة فالصفة لَا تخلق وَلَا ترزق وَلَا تفارق الْمَوْصُوف وَإِن كَانَ الصّفة هوالموصوف فَهُوَ الْجَوْهَر الْوَاحِد وَهُوَ الْأَب فَيكون الْمَسِيح هُوَ الْأَب وَلَيْسَ هَذَا قَوْلهم فَأَيْنَ هَذَا مِمَّن يَقُول الْإِلَه وَاحِد وَله الْأَسْمَاء الْحسنى الدَّالَّة على صِفَاته العلى وَلَا خَالق غَيره وَلَا معبود سواهُ
وَمِمَّا إفترته الْجَهْمِية على ابْن كلاب لما صنف كتابا فِي الرَّد عَلَيْهِم أَنهم وضعُوا على أُخْته حِكَايَة أَنَّهَا نَصْرَانِيَّة وَأَنه لما أسلم هجرته فَقَالَ لَهَا يَا أُخْتِي إِنِّي أُرِيد أفسد دين الْمُسلمين
فرضيت عَنهُ بذلك
ومقصود المفتري لهَذِهِ الْحِكَايَة أَن يَجْعَل قَوْله بِإِثْبَات الصِّفَات هُوَ قَول النَّصَارَى وَبَين الْقَوْلَيْنِ من الْفرق كَمَا بَين الْقدَم وَالْفرق
قَالَ الرافضي وَقَالَت الحشوية المشبهة إِن لله جسما لَهُ طول وَعرض وعمق وَيجوز عَلَيْهِ المصافحة وَأَن الصلحاء يعاينونه فِي الدُّنْيَا
وَحكي عَن دَاوُد أَنه قَالَ اعفوني
عَن الْفرج واللحية وسلوني عَمَّا وَرَاء ذَلِك
وَقَالَ معبودي جسم وَلحم وَدم وَله جوارح حَتَّى قَالُوا اشتكت عَيناهُ فعادته الْمَلَائِكَة وَبكى على الطوفان حَتَّى رمد
فَيُقَال هَذَا بِعَيْنِه قَول هِشَام بن الحكم الرافضي كَمَا قدمنَا نَقله الناقلون للمقالات عَنهُ مثل أبي عِيسَى الْوراق وزرقان وَابْن النوبختي والأشعري وَابْن حزم
والشهرستاني وَطَائِفَة وَقَالُوا أول من قَالَ إِنَّه جسم هِشَام بن الحكم
ونقلوا عَن بَيَان ابْن سمْعَان التَّمِيمِي أحد غلاة الشِّيعَة أَن الله على صُورَة الْإِنْسَان
وَأَنه يهْلك كُله إِلَّا
وَجهه
فَقتله خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي
ونقلوا عَن الْمُغيرَة بن سعيد أَن معبوده رجل من نور على رَأسه تَاج من نور وَله أَعْضَاء كَالرّجلِ وَله جَوف وقلب وَأَن حُرُوف أبي جاد على عدد أَعْضَائِهِ وَزعم أَنه يحيي الْمَوْتَى وأراهم نيرنجيات ومخاريق فَادعوا نبوته فَقتله خَالِد بن عبد الله
وَذكروا عَن المنصورية أَصْحَاب أبي مَنْصُور أَنه قَالَ آل مُحَمَّد هم السَّمَاء والشيعة هم الأَرْض وَأَنه عرج بِهِ إِلَى السَّمَاء فَمسح معبوده رَأسه ثمَّ قَالَ إذهب فَبلغ عني
وَيَمِين أَصْحَابه إِذا حلفوا لَا والكلمة
وَزعم أَن عِيسَى أول من خلق الله ثمَّ عَليّ
وَأَن الرُّسُل لَا تَنْقَطِع
وَزعم أَن الْجنَّة اسْم رجل وَالنَّار كَذَلِك
واستحل الْمَحَارِم وَالدَّم وَالْميتَة وَالْخمر وَأَن هَذِه أَسمَاء أَقوام حرم الله وَلَا يتهم
وَأسْقط الْفَرَائِض وَقَالَ هِيَ أَسمَاء رجال تجب ولايتهم
قَتله يُوسُف بن عمر
والنصيرية
يشبهون المنصورية
وَذكروا عَن الخطابية أَصْحَاب أبي الْخطاب بن أبي
زَيْنَب أَنهم يَزْعمُونَ أَن الْأَئِمَّة أَنْبيَاء مرسلون لَا يزَال مِنْهُم رسولان وَاحِد نَاطِق وَآخر صَامت
فالناطق مُحَمَّد والصامت عَليّ وعبدوا أَبَا الْخطاب ثمَّ خرج أَبُو الْخطاب على الْمَنْصُور فَقتله عِيسَى بن مُوسَى بِأَرْض الْكُوفَة
وهم يدينون بِشَهَادَة الزُّور لمن وافقهم
وَذكروا عَن البزيعية أَنهم يَقُولُونَ إِن جَعْفَر بن مُحَمَّد هُوَ الله وَأَن كل مُؤمن يُوحى إِلَيْهِ
قَالَ الْأَشْعَرِيّ وَقد قَالَ قوم بإلهية سلمَان الْفَارِسِي
قَالَ وَفِي النساك من الصُّوفِيَّة من يَقُول بالحلول وَأَن الْبَارِي يحل فِي الْأَشْخَاص وَأَنَّهُمْ إِذا رَأَوْا مَا يعجبهم قَالُوا مَا نَدْرِي لَعَلَّ الله حل فِيهِ
ومالوا إِلَى إطراح الْفَرَائِض وَزَعَمُوا أَن العَبْد إِذا وصل إِلَى معبوده سَقَطت عَنهُ الْوَاجِبَات
قَالَ وَمن الغالية من يزْعم أَن روح الْقُدس هُوَ الله كَانَت فِي النَّبِي ثمَّ فِي عَليّ ثمَّ فِي الْحسن إِلَى أَن ذكر المنتظر
قَالَ وَهَؤُلَاء آلِهَة
عِنْدهم كل وَاحِد إِلَه على التناسخ
وَمِنْهُم صنف يَزْعمُونَ أَن عليا هُوَ الله ويشتمون النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَيَقُولُونَ إِن عليا وَجه بِهِ ليبين أمره فَادّعى الْأَمر لنَفسِهِ
وَمِنْهُم من يَقُول إِن الله حل فِي خَمْسَة فِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَعلي وَالْحسن وَالْحُسَيْن وَفَاطِمَة رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ
وَلَهُم خَمْسَة أضداد أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَمُعَاوِيَة وَعَمْرو
وَمِنْهُم السبئية أَصْحَاب عبد الله بن سبأ يَزْعمُونَ أَن عليا لم يمت وَأَنه يرجع إِلَى الدُّنْيَا فَيمْلَأ الأَرْض عدلا وَكَانَ السَّيِّد الْحِمْيَرِي يَقُول برجعة الْأَمْوَات وَهُوَ الْقَائِل
(إِلَى يَوْم يؤوب النَّاس فِيهِ
…
إِلَى دنياهم قبل الْحساب)
وَمِنْهُم من يزْعم أَن الله وكل الْأُمُور إِلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فخلق الدُّنْيَا ودبرها ويزعمون أَن الْأَئِمَّة ينسخون الشَّرَائِع وتهبط عَلَيْهِم الْمَلَائِكَة بِالْوَحْي
وَمِنْهُم من يسلم على السَّحَاب وَيَقُول إِذا مرت سَحَابَة إِن عليا فِيهَا
وَذكر الْأَشْعَرِيّ أَشْيَاء سوى ذَلِك وَلم تكن حدثت النصيرية وَلَا الإسماعيلية بعد
وَمن قَول النصيرية
(أشهد أَلا إِلَه إِلَّا
…
حيدرة الأنزع البطين)
(وَلَا حجاب عَلَيْهِ إِلَّا
…
مُحَمَّد الصَّادِق الْأمين)
(وَلَا طَرِيق إِلَيْهِ إِلَّا
…
سلمَان ذُو الْقُوَّة المتين)
وَيَقُولُونَ إِن رَمَضَان أَسمَاء ثَلَاثِينَ رجلا
وَهَذِه المصائب أَبُو جادها الرَّفْض
وَأما مَا نقلت فَلَا يعرف عَن إِمَام مَعْرُوف بِالسنةِ وَلَا من الْفُقَهَاء وَلَا حفاظ الحَدِيث وَلَا مَشَايِخ الطّرق فَمَا علمنَا من قَالَ فيهم بالجسم والطول والعمق
وَاتَّفَقُوا على أَن الله لَا يرى فِي الدُّنْيَا بل فِي الْآخِرَة كَمَا ثَبت فِي الصِّحَاح قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَاعْلَمُوا أَن أحدا مِنْكُم لن يرى ربه حَتَّى يَمُوت
وَمن أَرَادَ أَن ينْقل مقَالَة عَن طَائِفَة فليسم الْقَائِل وَإِلَّا فَكل أحد يُمكنهُ الْكَذِب
وَأما لفظ الحشوية فَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على شخص معِين فَلَا يدْرِي من هم هَؤُلَاءِ وَإِن أردْت بالحشوية أهل الحَدِيث فاعتقادهم هُوَ السّنة الْمَحْضَة وَمَا ثَبت نَقله وَمَا فيهم من يعْتَقد وَله الْحَمد مَا قلت فَبَان كَذبك فِي هَذَا وَغَيره
وَأما لفظ المشبهة فَلَا ريب أَن أهل السّنة متفقون على تَنْزِيه الله عَن مماثلة الْخلق فالمشبهة هم الَّذين يمثلون صِفَاته بِصِفَات خلقه وَأهل السّنة يصفونَ الله بِمَا وصف بِهِ نَفسه
أَو رَسُوله من غير تَحْرِيف وَلَا تَعْطِيل وَلَا تكييف وَلَا تَمْثِيل
بل إِثْبَات بِلَا تَمْثِيل وتنزيه بِلَا تَعْطِيل
قَالَ الله تَعَالَى {لَيْسَ كمثله شَيْء} يرد على الممثلة {وَهُوَ السَّمِيع الْبَصِير} يرد على المعطلة
وينزهون الله عَن صِفَات النَّقْص مُطلقًا كالنوم وَالسّنة وَالنِّسْيَان وَالْعجز وَالْجهل وَنَحْو ذَلِك
ويصفونه بِصِفَات الْكَمَال الْوَارِدَة فِي الْكتاب وَالسّنة
وَلَكِن نفاة الصِّفَات يسمون كل من أثبت صفة مشبها حَتَّى إِن الباطنية يَقُولُونَ من سمى الله بأسمائه الْحسنى فَهُوَ مشبه وَيَقُولُونَ من قَالَ حَيّ عليم فقد شبهه بالأحياء الْعَالمين وَمن وَصفه بِأَنَّهُ سميع بَصِير فقد شبهه بالآدمي وَإِذا قَالَ هُوَ رؤوف رَحِيم فقد شبهه بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَالُوا لَا نقُول هُوَ مَوْجُود حَتَّى لَا نُشبههُ بِسَائِر الموجودات لاشتراكها فِي مُسَمّى الْوُجُود
وَقَالُوا لَا نقُول مَعْدُوم وَلَا حَيّ وَلَا ميت
فَقيل لَهُم فقد شبهوه بالممتنع بل جَعَلُوهُ فِي نَفسه مُمْتَنعا فَإِنَّهُ كَمَا يمْتَنع إجتماع النقيضين يمْتَنع إرتفاعهما فَرجع الْوَاجِب الْوُجُود إِلَى أَنه مُمْتَنع الْوُجُود
وَيُقَال للَّذين يَقُولُونَ لَا نقُول هَذَا وَلَا هَذَا عدم قَوْلكُم لَا يبطل الْحَقَائِق فِي أَنْفسهَا بل هَذَا نوع من السفسطة وَمن قَالَ لَا مَوْجُود وَلَا مَعْدُوم فقد جزم بعد الْجَزْم فالسفسطة أَنْوَاع ثَلَاثَة نفي الْحَقَائِق أَو الْوَقْف فِيهَا أَو جعلهَا تَابِعَة لظنون النَّاس
وَقد قيل بِنَوْع رَابِع وَهُوَ القَوْل بِأَن الْعَالم فِي سيلان فَلَا يثبت
وأصل ضلال هَؤُلَاءِ أَن لفظ التَّشْبِيه فِيهِ إِجْمَال فَمَا من شَيْئَيْنِ إِلَّا وَبَينهمَا قدر مُشْتَرك يتَّفق فِيهِ الشيئان فِي الذِّهْن وَلَا يجب تماثلهما فِيهِ بل الْغَالِب تفاضل الْأَشْيَاء فِي ذَلِك الْقدر الْمُشْتَرك فَإِذا قيل فِي الْمَخْلُوقَات حَيّ وَحي وَعَلِيم وَعَلِيم لم يلْزم تماثلهما فِي
الْحَيَاة وَالْعلم وَلَا أَن يكون نفس حَيَاة هَذَا وَعلمه حَيَاة الآخر وَعلمه وَلَا يَكُونَا مشتركين فِي مَوْجُود فِي الْخَارِج عَن الذِّهْن
وَكَانَ جهم لَا يُسَمِّي الله بإسم يتسمى بِهِ الْخلق إِلَّا بالقادر والخالق لِأَنَّهُ كَانَ جبريا يرى أَن العَبْد لَا قدرَة لَهُ
وَرُبمَا قَالُوا لَيْسَ بِشَيْء كالأشياء فقصدوا أَن حَقِيقَة التَّشْبِيه منتفية عَنهُ
وَتَحْقِيق هَذَا الْموضع بالْكلَام فِي معنى التَّشْبِيه والتمثيل والتمثيل قد نطق الْكتاب بنفيه فِي غير مَوضِع كَقَوْلِه {لَيْسَ كمثله شَيْء} {هَل تعلم لَهُ سميا} {وَلم يكن لَهُ كفوا أحد} {فَلَا تجْعَلُوا لله أندادا} {فَلَا تضربوا لله الْأَمْثَال}
وَأما الْجِسْم والجوهر والتحيز والجهة فَلَا نطق بهَا كتاب وَلَا سنة نفيا وَلَا إِثْبَاتًا وَلَا الصَّحَابَة والتابعون
فَأول من تكلم بذلك نفيا وإثباتا الْجَهْمِية والمعتزلة ومجسمة الرافضة والمبتدعة
فالنفاة نفوا هَذِه الْأَسْمَاء وأدخلوا فِي النَّفْي مَا أثْبته الله وَرَسُوله من صِفَاته كعلمه وَقدرته ومشيئته ومحبته وَرضَاهُ وغضبه وعلوه وَقَالُوا إِنَّه لَا يرى
وَلَا يتَكَلَّم بِالْقُرْآنِ وَلَا غَيره
والمثبتة أدخلُوا فِي ذَاك مَا نَفَاهُ الله وَرَسُوله حَتَّى أثبتوا رُؤْيَته فِي الدُّنْيَا بالأبصار وَأَنه يُصَافح ويعانق وَينزل عَشِيَّة عَرَفَة على جمل وَقَالَ بَعضهم إِنَّه ينْدَم ويبكي ويحزن وَذَلِكَ وصف للرب بِصِفَات يخْتَص بهَا الآدميون فَكل مَا اخْتصَّ بِهِ الْمَخْلُوق فَهُوَ صفة نقص تَعَالَى الله عَن النَّقْص أحد صَمد فالأحد يتَضَمَّن نفي الْمثل والصمد يتَضَمَّن جَمِيع صِفَات الْكَمَال
فالجسم فِي اللُّغَة الْجَسَد كَمَا ذكره الْأَصْمَعِي وَأَبُو زيد وَغَيرهمَا وَهُوَ الْبدن
قَالَ الله تَعَالَى {وَإِذا رَأَيْتهمْ تعجبك أجسامهم} وَقَالَ {وزاده بسطة فِي الْعلم والجسم} وَقَالَ {عجلا جسدا لَهُ خوار}
وَقد يُرَاد بِهِ الكثافة تَقول هَذَا أجسم من هَذَا
ثمَّ صَار الْجِسْم فِي إصطلاح أهل الْكَلَام أَعم من ذَلِك فسموا الْهَوَاء جسما وَإِن كَانَت الْعَرَب لَا تسمي
ذَلِك جسما
ثمَّ بَينهم نزاع فِيمَا يُسمى جسما وَهُوَ مركب من جَوَاهِر مُنْفَرِدَة متناهية كَمَا يَقُوله أَكثر الْقَائِلين بالجوهر الْفَرد وَإِمَّا متناهية كَمَا يَقُوله النظام وَالْتزم الطفرة الْمَعْرُوفَة بِهِ أَو هُوَ مركب من مَادَّة وَصُورَة كَقَوْل بعض المتفلسفة أَو لَيْسَ مركبا لَا من هَذَا وَلَا من هَذَا كَمَا يَقُوله الهشامية والكلابية والنجارية والضرارية وَكثير من الكرامية وَكثير من الْكتب لَيْسَ فِيهَا هَذَا القَوْل الثَّالِث
وَالصَّوَاب أَنه لَيْسَ مركبا من هَذَا وَلَا من هَذَا
وَيَنْبَنِي على هَذَا أَن مَا يحدثه الله من الْحَيَوَان والنبات والمعادن فَهِيَ أَعْيَان مخلوقة على قَول نفاة الْجَوْهَر الْفَرد فَأَما على قَول من يُثبتهُ فَإِنَّمَا يحدث أعراضا وصفات وَإِلَّا فالجواهر بَاقِيَة وَلَكِن اخْتلف تركيبها وَيَقُولُونَ لَا تستحيل حَقِيقَة إِلَى حَقِيقَة أُخْرَى وَلَا تنْقَلب الْأَجْنَاس بل الْجَوَاهِر يُغير الله تركيبها وَهِي بَاقِيَة
وَالْأَكْثَرُونَ يَقُولُونَ بإستحالة بعض الْأَجْسَام إِلَى بعض وإنقلاب جنس إِلَى جنس كَمَا تنْقَلب النُّطْفَة إِلَى علقَة والعلقة إِلَى مُضْغَة ثمَّ إِلَى عِظَام
وَهَذَا قَول الْفُقَهَاء والأطباء
فالنظار كلهم متفقون فِيمَا أعلم على أَن الْجِسْم يشار إِلَيْهِ وَإِن اخْتلفُوا فِي كَونه مركبا من الْأَجْزَاء المنفردة أَو من الْمَادَّة وَالصُّورَة أَو لَا من هَذَا وَلَا من هَذَا
وَقد تنَازع الْعُقَلَاء أَيْضا هَل يُمكن وجود مَوْجُود قَائِم بِنَفسِهِ لَا يشار إِلَيْهِ وَلَا يُمكن أَن يرى على ثَلَاثَة أَقْوَال فَقيل لَا يُمكن ذَلِك بل هُوَ مُمْتَنع
وَقيل هُوَ مُمْتَنع فِي المحدثات الممكنة الَّتِي تقبل الْوُجُود والعدم
وَقيل بل ذَلِك مُمكن فِي الْمُمكن وَالْوَاجِب وَهَذَا قَول بعض الفلاسفة مَا علمت قَالَه أحد من أهل الْملَل
ومثبتو ذَلِك يسمونها المجردات والمفارقات
وَأكْثر الْعُقَلَاء يَقُولُونَ وجود هَذِه فِي الأذهان لَا فِي الْأَعْيَان وَإِنَّمَا يثبت ذَلِك من وجود نفس الْإِنْسَان
الَّتِي تفارق بدنه
أما الْمَلَائِكَة فالمتفلسفة يَقُولُونَ هِيَ الْعُقُول والنفوس المجردات وَهِي الْجَوَاهِر الْعَقْلِيَّة
وَأما الْمُسلمُونَ وَغَيرهم من أهل الْملَل فيثبتون الْمَلَائِكَة وَأَنَّهُمْ مخلوقون من نور كَمَا صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث وهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَن ولدا سُبْحَانَهُ بل عباد مكرمون} وَقد ذكر الْمَلَائِكَة فِي غير مَوضِع
وَهَؤُلَاء يَقُولُونَ إِن جِبْرِيل هُوَ الْعقل الفعال أَو هُوَ مَا يتخيل فِي نفس النَّبِي من الصُّور الخيالية وَكَلَام الله كَمَا يُوجد فِي نفس النَّائِم
وَمن عرف مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول علم ضلال هَؤُلَاءِ وَأَنَّهُمْ أبعد عَن الْإِيمَان من الْمُشْركين
فَإِذا عرف تنَازع النظام فِي حَقِيقَة الْجِسْم فَلَا ريب أَن الله سُبْحَانَهُ لَيْسَ مركبا من الْأَجْزَاء المنفردة وَلَا من الْمَادَّة وَالصُّورَة وَلَا يقبل الإنقسام وَلَا التَّفْرِيق وَلَا الإنفصال وَلَا كَانَ مفرقا فَاجْتمع بل هُوَ أحد صَمد
والمعاني المعقولة من التَّرْكِيب كلهَا منتفية عَن الله تَعَالَى
لَكِن المتفلسفة وَمن وافقهم يزِيدُونَ على ذَلِك وَيَقُولُونَ إِذا كَانَ مَوْصُوفا بِالصِّفَاتِ كَانَ مركبا وَإِذا كَانَت لَهُ حَقِيقَة لَيست هِيَ مُجَرّد الْوُجُود كَانَ مركبا فَقَالَ لَهُم الْمُسلمُونَ المثبتون للصفات النزاع لَيْسَ فِي لفظ الْمركب فَإِن هَذَا اللَّفْظ يَقْتَضِي أَن غَيره رَكبه وَلَا يَقُول عَاقل إِن الله مركب لهَذَا الإعتبار
أما كَونه ذاتا مستلزمة لصفات الْكَمَال من الْعلم وَالْقُدْرَة والحياة فَهَذَا لَا يُسمى مركبا فِيمَا نعلم وَلَا عرف ذَلِك فِي اللُّغَة
وَإِنَّمَا الْمركب مَا كَانَت أجزاؤه مُتَفَرِّقَة فَجمع جمع إمتزاج أَو غير جمع إمتزاج كتركيب الْأَطْعِمَة والأشربة والأدوية والأبنية واللباس والحلية
ثمَّ إِن جَمِيع الْعُقَلَاء مضطرون إِلَى إِثْبَات مَعَاني مُتعَدِّدَة لله فالمعتزلي يسلم أَنه حَيّ عَالم قَادر
فكونه حَيا غير كَونه قَادِرًا
والفلسفي يَقُول إِنَّه عَاقل ومعقول وعقل ولذيذ ومتلذذ وَلَذَّة
وَقَالَ الطوسي
فِي شرح الإشارات الْعلم هُوَ الْمَعْلُوم وَمَعْلُوم فَسَاد هَذَا بِصَرِيح الْعقل وبمجرد تصَوره التَّام
وَلَيْسَ فرارهم إِلَّا من معنى التَّرْكِيب وَلَيْسَ لَهُم قطّ حجَّة على نفي مُسَمّى التَّرْكِيب بِجَمِيعِ هَذِه الْمعَانِي بل عمدتهم أَن الْمركب يفْتَقر إِلَى أَجْزَائِهِ وأجزاؤه غَيره والمفتقر إِلَى غَيره لَا يكون وَاجِبا بِنَفسِهِ بل يكون معلولا
وَهَذِه الْحجَّة جَمِيع ألفاظها معلولة
فَلفظ الْوَاجِب بِنَفسِهِ يُرَاد بِهِ الَّذِي لَا فَاعل لَهُ وَلَا لَهُ عِلّة فاعلة وَيُرَاد بِهِ الَّذِي لَا يحْتَاج إِلَى شَيْء مباين لَهُ وَيُرَاد بِهِ الْقَائِم بِنَفسِهِ الَّذِي لَا يحْتَاج إِلَى مباين لَهُ
فعلى الأول وَالثَّانِي فالصفات وَاجِبَة الْوُجُود وعَلى الثَّالِث فالذات الموصوفة هِيَ الْوَاجِبَة وَالصّفة وَحدهَا لَا يُقَال إِنَّهَا وَاجِبَة الْوُجُود وَلَا تنفك عَن الذَّات
فَقَوْلهم إِذا كَانَ لَهُ ذَات وصفات كَانَ مركبا والمركب مفتقر إِلَى أَجْزَائِهِ وأجزاؤه غَيره فَلفظ الْغَيْر مُجمل يُرَاد بِهِ المباين
فالغيران مَا جَازَ مُفَارقَة أَحدهمَا الآخر بِزَمَان أَو مَكَان أَو وجود
وَيُرَاد بالغيرين مَا لَيْسَ أَحدهمَا الآخر أَو مَا جَازَ الْعلم بِأَحَدِهِمَا مَعَ الْجَهْل بِالْآخرِ
وَهَذَا إصطلاح أَكثر الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم
وَأما السّلف كَالْإِمَامِ أَحْمد وَغَيره فَلفظ الْغَيْر عِنْدهم يُرَاد بِهِ هَذَا وَيُرَاد بِهِ هَذَا
وَلِهَذَا لم يطلقوا القَوْل بِأَن علم الله غَيره وَلَا أَنه لَيْسَ بِغَيْرِهِ فَلَا يَقُولُونَ هُوَ هُوَ وَلَا هُوَ غَيره لِأَن الْجَهْمِية يَقُولُونَ مَا سوى الله مَخْلُوق وَكَلَامه سواهُ فَيكون مخلوقا وَقد ثَبت فِي السّنة جَوَاز الْحلف بِالصِّفَاتِ كعزته وعظمته مَعَ قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم من حلف بِغَيْر الله فقد أشرك فَعلم أَن الصِّفَات لَا تدخل فِي مُسَمّى الْغَيْر عِنْد الْإِطْلَاق
وَإِذا أُرِيد بِالْغَيْر أَنه لَيْسَ هُوَ إِيَّاه فَلَا ريب أَن الْعلم غير الْعَالم وَالْكَلَام غير الْمُتَكَلّم وَيُرَاد بالإفتقار التلازم بِمَعْنى أَنه لَا يُوجد أَحدهمَا إِلَّا مَعَ الآخر وَإِن لم يكن أَحدهمَا مؤثرا فِي الآخر مثل الْأُبُوَّة والبنوة
والمركب قد عرف مَا فِيهِ من الإشتراك فَإِذا قيل لَو كَانَ عَالما لَكَانَ مركبا من ذَات وَعلم فَلَيْسَ المُرَاد بِهِ أَن الذَّات وَالْعلم كَانَا مفترقين فاجتمعا وتركبا وَلَا أَنه يجوز مُفَارقَة أَحدهمَا الآخر
بل المُرَاد أَنه إِذا كَانَ عَالما فهناك ذَات وَعلم قَائِم بهَا
وَقَوله والمركب مفتقر إِلَى أَجْزَائِهِ فمعلوم أَن إفتقار الْمَجْمُوع إِلَى أَبْعَاضه لَيْسَ بِمَعْنى أَن أَبْعَاضه فعلته أَو وجدت دونه أَو أثرت فِيهِ
بل بِمَعْنى أَنه لَا يُوجد إِلَّا بِوُجُود الْمَجْمُوع فَإِذا قيل الشَّيْء مفتقر إِلَى نَفسه بِهَذَا الْمَعْنى لم يكن هَذَا مُمْتَنعا بل هَذَا هُوَ الْحق فَإِن نفس الْوَاجِب لَا يَسْتَغْنِي عَن نَفسه
وَإِذا قيل هُوَ وَاجِب بِنَفسِهِ فَلَيْسَ المُرَاد أَن نَفسه أبدعت وُجُوبه بل المُرَاد أَن نَفسه مَوْجُودَة بِنَفسِهَا لم تفْتَقر إِلَى غير
وَإِذا قيل الْعشْرَة مفتقرة إِلَى الْعشْرَة لم يكن فِي هَذَا إفتقار لَهَا إِلَى غَيرهَا
وَإِذا قيل هِيَ مفتقرة إِلَى الْوَاحِد الَّذِي هُوَ جزؤها لم يكن إفتقارها إِلَى بَعْضهَا بأعظم من إفتقارها إِلَى الْمَجْمُوع الَّذِي هُوَ هِيَ
فكون الْمُبْدع مستلزما لصفاته فَهَذَا لم ينف حجَّة أصلا وَلَا هَذَا التلازم يَنْبَغِي أَن يُسمى فقرا
وَأَيْضًا فتسمية الصِّفَات الْقَائِمَة بالموصوف جُزْءا لَيْسَ هُوَ من اللُّغَة الْمَعْرُوفَة إِنَّمَا ذَا إصطلاح لَهُم وَلَو تنزلنا وسميناه بإصطلاحهم لم يكن فِيهِ مَحْذُور فَلَا عِبْرَة بتهويل الفلاسفة وأتباعهم
فَالَّذِينَ نفوا علمه بالأشياء قَالُوا لِئَلَّا يلْزم التكثير
وَالَّذين نفوا علمه بالجزئيات قَالُوا لِئَلَّا يلْزم التَّغَيُّر
فيهولون بِلَفْظ التكثير والتغير وهما لفظان مجملان منكران يوهمان أَنه يتكثر الْآلهَة وَأَن الرب يتَغَيَّر كَمَا يتَغَيَّر الْإِنْسَان وكما تَتَغَيَّر الشَّمْس إِذا اصفر لَوْنهَا وَلَا يدْرِي السَّامع أَنه عِنْدهم إِذا أحدث مَا لم يكن مُحدثا سموهُ تغيرا وَإِذا سمع دُعَاء عباده سموهُ تغيرا وَإِذا رأى مَا خلقه سموهُ تغيرا وَإِذا كلم مُوسَى سموهُ تغيرا وَإِذا رَضِي عَن الطائع سموهُ تغيرا
ثمَّ إِنَّهُم ينفون ذَلِك بِغَيْر دَلِيل أصلا كَمَا اعْترف بِهِ غير وَاحِد والأدلة الشَّرْعِيَّة والعقلية توجب ثُبُوت ذَلِك
فدعوى الْمُدَّعِي على اللُّغَة أَن مَا يشار إِلَيْهِ جسم مركب غير صَحِيح
وَجُمْهُور الْمُسلمين الْقَائِلين لَيْسَ بجسم يَقُولُونَ من قَالَ إِنَّه جسم وَأَرَادَ بذلك أَنه مَوْجُود أَو قَائِم بِنَفسِهِ وَنَحْو
ذَلِك أَو قَالَ إِنَّه جَوْهَر وَأَرَادَ بذلك أَنه قَائِم بِنَفسِهِ فَهُوَ مخطيء فِي اللَّفْظ لَا الْمَعْنى
أما إِذا قَالَ إِنَّه مركب من جَوَاهِر مُنْفَرِدَة فَفِي كفره تردد
ثمَّ الْقَائِلُونَ بِأَن الْجِسْم مركب من جَوَاهِر قد تنازعوا فِي مُسَمَّاهُ فَقيل الْجَوْهَر الْوَاحِد بِشَرْط إنضمام غَيره إِلَيْهِ يكون جسما كَقَوْل ابْن الباقلاني وَأبي يعلى وَغَيرهمَا وَقيل بل الجوهران فَصَاعِدا وَقيل بل أَرْبَعَة فَصَاعِدا وَقيل بل سِتَّة فَصَاعِدا وَقيل بل ثَمَانِيَة فَصَاعِدا وَقيل سِتَّة عشر وَقيل بل إثنان وَثَلَاثُونَ
فقد تبين أَن فِي هَذَا اللَّفْظ من المنازعات اللُّغَوِيَّة والإصطلاحية والعقلية والشرعية مَا يبين أَن الْوَاجِب الإعتصام بِالْكتاب وَالسّنة قَالَ الله تَعَالَى {واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا} وَقَالَ تَعَالَى {اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} وَقَالَ تَعَالَى {وَإِذا قيل لَهُم تَعَالَوْا إِلَى مَا أنزل الله وَإِلَى الرَّسُول رَأَيْت الْمُنَافِقين يصدون عَنْك صدودا}
قَالَ ابْن عَبَّاس تكفل الله لمن قَرَأَ الْقُرْآن وَعمل بِهِ أَن لَا يضل فِي الدُّنْيَا وَلَا يشقى فِي الْآخِرَة ثمَّ قَرَأَ {وَمن أعرض عَن ذكري فَإِن لَهُ معيشة ضنكا} الْآيَات
فَمَا أثْبته الله وَرَسُوله أَثْبَتْنَاهُ وَمَا نَفَاهُ الله وَرَسُوله نفيناه
فالنصوص نعتصم بهَا فِي الْإِثْبَات وَالنَّفْي لفظا وَمعنى أما أَلْفَاظ تنَازع فِيهَا من ابتدعها كالجسم والجوهر والتحيز والجهة والتركيب والتعين فَلَا تطلق نفيا وَلَا إِثْبَاتًا حَتَّى ينظر فِي مَقْصُود قَائِلهَا فَإِن أَرَادَ بِالنَّفْيِ أَو الْإِثْبَات معنى صَحِيحا مُوَافقا للنصوص صوب الْمَعْنى الَّذِي قَصده بِلَفْظِهِ وزجر عَن اللَّفْظ المبتدع الْمُجْمل
إِلَّا عِنْد الْحَاجة فِي محاورة الْخصم مَعَ قَرَائِن تبين المُرَاد بهَا مثل أَن يكون الْخطاب مَعَ من لَا يتم الْمَقْصُود مَعَه إِن لم يُخَاطب بهَا
وَأما أَن يُرَاد بهَا معنى بَاطِل فَهَذَا ضلال وَإِن أُرِيد بهَا حق وباطل عرف الْخصم وَفسّر لَهُ هَذَا من هَذَا
وَإِن اتّفق شخصان على معنى وتنازعا فِي دلائله فأقربهما إِلَى الصَّوَاب من وَافق اللُّغَة المنقولة
وَأما المتحيز فَفِي اللُّغَة مَا تحيز إِلَى غَيره كَقَوْلِه تَعَالَى {أَو متحيزا إِلَى فِئَة} وَهَذَا لَا بُد أَن يُحِيط بِهِ حيّز وجودي فالباري تَعَالَى لَا يُحِيط بِهِ شَيْء من مخلوقاته فَلَا يكون متحيزا فِي اللُّغَة
وَأما أهل الْكَلَام فإصطلاحهم فِي المتحيز أَعم من هَذَا يجْعَلُونَ كل جسم متحيزا والجسم عِنْدهم مَا يشار إِلَيْهِ فَتكون السَّمَاوَات وَالْأَرْض وَمَا فيهمَا متحيزا على إصطلاحهم لَا فِي اللُّغَة
ويريدون بالحيز أمرا مَعْدُوما وَالْمَكَان أمرا مَوْجُودا يُخَالف الحيز العدمي
فمجموع الْأَجْسَام لَيست فِي شَيْء مَوْجُود فَلَيْسَتْ فِي مَكَان وَالْفَخْر الرَّازِيّ يَجْعَل الحيز تَارَة مَوْجُودا وَتارَة مَعْدُوما وَقد علم بِالْعقلِ وَالنَّقْل أَن الله بَائِن من خلقه لِأَنَّهُ كَانَ قبل خلق السَّمَاوَات وَالْأَرْض فَلَمَّا خلقهَا إِمَّا أَن يكون قد دخل فِيهَا أَو دخلت فِيهِ وَكِلَاهُمَا مُمْتَنع فَتعين أَنه بَائِن عَنْهَا والنفاة يدعونَ أَنه لَيْسَ مباينا لخلقه وَلَا مداخلا لَهُ وَهَذَا مُمْتَنع فِي الْعُقُول لَكِن يدعونَ أَن القَوْل بإمتناع ذَلِك هُوَ من حكم الْوَهم لَا من حكم الْعقل
ثمَّ إِنَّهُم تناقضوا فَقَالُوا لَو كَانَ فَوق الْعَرْش لَكَانَ جسما لِأَنَّهُ لَا بُد أَن يتَمَيَّز مِمَّا يَلِي هَذَا الْجَانِب
فَقيل لَهُم مَعْلُوم بضرورة الْعقل أَن إِثْبَات مَوْجُود فَوق الْعَالم لَيْسَ بجسم أقرب إِلَى الْعقل من إِثْبَات قَائِم بِنَفسِهِ لَيْسَ بمباين للْعَالم وَلَا بمداخل لَهُ
وَكَذَلِكَ لفظ الْجِهَة يُرَاد بِهِ أَمر مَوْجُود كالفلك الْأَعْلَى وَيُرَاد بِهِ أَمر عدمي كَمَا وَرَاء الْعَالم فَإِذا أُرِيد بِهِ الثَّانِي أمكن أَن يُقَال كل جسم فِي جِهَة وَإِذا أُرِيد الأول إمتنع أَن يكون كل جسم فِي جسم آخر
فَمن قَالَ الْبَارِي فِي جِهَة وَأَرَادَ بهَا أمرا مَوْجُودا فَكل مَا سواهُ مَخْلُوق لَهُ فِي جِهَة بِهَذَا التَّفْسِير فَهَذَا مخطيء وَإِن أَرَادَ بالجهة أمرا عدميا وَهُوَ مَا فَوق الْعَالم وَقَالَ إِن الله فَوق الْعَالم فقد أصَاب وَلَيْسَ فَوق الْعَالم
مَوْجُود غَيره فَلَا يكون سُبْحَانَهُ فِي شَيْء من الموجودات
وَقد تنَازع المتكلمون فِي الْأَسْمَاء الَّتِي تسمى الله بهَا وَتسَمى بهَا عباده كالموجود والحي والعليم والقدير فَقَالَ بَعضهم هِيَ مقولة بالإشتراك اللَّفْظِيّ حذرا من إِثْبَات قدر مُشْتَرك بَينهمَا لِأَنَّهُمَا إِذا اشْتَركَا فِي مُسَمّى الْوُجُود لزم أَن يمتاز الْوَاجِب عَن الْمُمكن بِشَيْء آخر فَيكون مركبا وَهَذَا قَول بعض الْمُتَأَخِّرين كالشهرستاني والرازي فِي أحد قوليهما وكالآمدي مَعَ توقفه أَحْيَانًا وَنقل ذَلِك عَن الْأَشْعَرِيّ وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ وَهُوَ غلط عَلَيْهِمَا وَإِنَّمَا ذكرُوا ذَلِك عَنْهُمَا لِأَنَّهُمَا لَا يَقُولَانِ بالأحوال ويقولان وجود الشَّيْء عين حقيقتة فظنوا أَن من قَالَ ذَلِك يلْزمه أَن يَقُول إِن لفظ الْمُشْتَرك الْمَوْجُود يُقَال بالإشتراك اللَّفْظِيّ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ لَو كَانَ متواطئا لَكَانَ بَينهمَا قدر مُشْتَرك فيمتاز أَحدهمَا عَن الآخر بِخُصُوص حَقِيقَته والمشترك لَيْسَ هُوَ الْمُمَيز فَلَا يكون الْوُجُود الْمُشْتَرك هُوَ الْحَقِيقَة المميزة
والرازي والآمدي وَنَحْوهمَا ظنُّوا أَنه لَيْسَ فِي الْمَسْأَلَة إِلَّا هَذَا القَوْل وَقَول من يَقُول بِأَن اللَّفْظ متواطيء وَيَقُول وجوده زَائِد على حَقِيقَته كَمَا هُوَ قَول أبي هَاشم وَأَتْبَاعه من الْمُعْتَزلَة والشيعة أَو قَول ابْن سينا بِأَنَّهُ متواطيء مَعَ أَنه الْوُجُود الْمُفِيد لسلب الْأُمُور الثبوتية
وَذهب بعض الباطنية وغلاة الْجَهْمِية إِلَى أَن هَذِه الْأَسْمَاء حَقِيقَة فِي العَبْد مجَاز فِي الرب
قَالُوا هَذَا فِي الْحَيّ وَنَحْوه
وَذهب أَبُو الْعَبَّاس الناشيء إِلَى ضد ذَلِك
وَزعم ابْن حزم أَن أَسمَاء الله لَا تدل على الْمعَانِي فَلَا يدل عليم على علم وَلَا قدير على قدرَة بل هِيَ أَعْلَام مَحْضَة وكل هَذَا غلو فِي نفي التَّشْبِيه لزم مِنْهُ نفي صِفَات الرب وظنوا أَن ثُبُوت الكليات الْمُشْتَركَة بني فِي الْخَارِج
كَمَا غلط الرَّازِيّ فَظن أَنه إِذا كَانَ
هَذَا مَوْجُودا وَهَذَا مَوْجُودا والوجود شَامِل لَهما كَانَ بَينهمَا مَوْجُود مُشْتَرك كلى فِي الْخَارِج فَلَا بُد من مُمَيّز يُمَيّز هَذَا عَن هَذَا والمميز إِنَّمَا هُوَ الْحَقِيقَة فَيجب أَن يكون هُنَاكَ وجود مُشْتَرك وَحَقِيقَة مُمَيزَة
ثمَّ إِن هَؤُلَاءِ يتناقضون فيجعلون الْوُجُود يَنْقَسِم إِلَى وَاجِب وممكن كَمَا تَنْقَسِم سَائِر الْأَسْمَاء الْعَامَّة الْكُلية لَا كَمَا تَنْقَسِم الْأَلْفَاظ الْمُشْتَركَة كَلَفْظِ سُهَيْل الْمَقُول على الْكَوْكَب وعَلى ابْن عَمْرو إِذْ لَا يُقَال فِيهَا تَنْقَسِم إِلَى كَذَا وَكَذَا لَكِن يُقَال إِن هَذَا اللَّفْظ يُطلق على هَذَا وَهَذَا على هَذَا
وَهَذَا أَمر لغَوِيّ لَا تَقْسِيم عَقْلِي
وَهُنَاكَ تَقْسِيم عَقْلِي تَقْسِيم الْمَعْنى الَّذِي هُوَ مَدْلُول اللَّفْظ الْعَام
وَظن بعض النَّاس أَنه يخلص من هَذَا بِأَن جعل لفظ الْوُجُود مشككا لكَون الْوُجُود الْوَاجِب أكمل كَمَا يُقَال فِي لفظ السوَاد وَالْبَيَاض الْمَقُول على سَواد القار وَسَوَاد الحدقة وَبَيَاض الثَّلج وَبَيَاض العاج وَلَا ريب أَن الْمعَانِي الْكُلية قد تكون متفاضلة فِي مواردها وَتَخْصِيص هَذَا الْقسم بِلَفْظ المشكك أَمر إصطلاحي وَلِهَذَا كَانَ من النَّاس من قَالَ هُوَ نوع من المتواطيء لِأَن وَاضع اللُّغَة لم يضع اللَّفْظ بِإِزَاءِ التَّفَاوُت الْحَاصِل لأَحَدهمَا بل بِإِزَاءِ الْقدر الْمُشْتَرك
وَبِالْجُمْلَةِ فالنزاع فِي هَذَا لَفْظِي فالمتواطئة الْعَامَّة تتَنَاوَل المشككة فَأَما المتواطئة الَّتِي تتساوى مَعَانِيهَا فَهِيَ قسيم المشككة
فالجمهور على أَن هَذِه الْأَسْمَاء عَامَّة كُلية سَوَاء سميت متواطئة ومشككة لَيست ألفاظا مُشْتَركَة إشتراكا لفظيا فَقَط وَهَذَا مَذْهَب أهل السّنة والمعتزلة والأشعرية والكرامية وَلَقَد طول شَيخنَا ابْن تَيْمِية هُنَا وَمَا أبقى مُمكنا إِلَى أَن قَالَ
وَإِذا تبين هَذَا فَقَوْل هَذَا المُصَنّف وأشباهه قَول المشبهة إِن أَرَادَ بالمشبهة
من أثبت من الْأَسْمَاء مَا يُسمى بِهِ الرب وَالْعَبْد فطائفتة وَجَمِيع النَّاس مشبهة وَإِن أَرَادَ بِهِ من جعل صِفَات الرب مثل صِفَات العَبْد فَهَؤُلَاءِ مبطلون ضالون وهم فيهم أَكثر مِنْهُم فِي غَيرهم وَأَنت تَتَكَلَّم بِأَلْفَاظ لَا تفهم مَعَانِيهَا وَلَا موارد إستعمالها وَإِنَّمَا تقوم بِنَفْسِك صُورَة تبنى عَلَيْهَا وكأنك وَالله أعلم عنيت بالحشوية المشبهة من بِبَغْدَاد وَالْعراق من الحنبلية دون غَيرهم وَهَذَا من جهلك فَإِنَّهُ لَيْسَ للحنبلية قَول إنفردوا بِهِ عَن غَيرهم من أهل السّنة وَالْجَمَاعَة بل كل مَا يَقُولُونَهُ قد قَالَه غَيرهم من طوائف أهل السّنة وَمذهب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة مَذْهَب قديم مَعْرُوف قبل أَن يخلق الله أَبَا حنيفَة ومالكا وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فَإِنَّهُ مَذْهَب الصَّحَابَة الَّذِي تلقوهُ عَن نَبِيّهم وَمن خَالف ذَلِك كَانَ مبتدعا عِنْد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة فَإِنَّهُم متفقون على أَن إِجْمَاع الصَّحَابَة حجَّة ومتنازعون فِي إِجْمَاع من بعدهمْ
وَأحمد بن حَنْبَل إِن كَانَ قد إشتهر بإمامة السّنة وَالصَّبْر فِي المحنة فَلَيْسَ ذَلِك لِأَنَّهُ إنفرد بقول أَو ابتدع قولا بل لِأَن السّنة الَّتِي كَانَت مَوْجُودَة مَعْرُوفَة قبله علمهَا ودعا إِلَيْهَا وصبر على مَا امتحن بِهِ ليفارقها وَكَانَ الْأَئِمَّة قبل قد مَاتُوا قبل المحنة فَلَمَّا وَقعت محنة الْجَهْمِية نفاة الصِّفَات فِي أَوَائِل الْمِائَة الثَّالِثَة على عهد الْمَأْمُون وأخيه المعتصم ثمَّ الواثق ودعوا النَّاس إِلَى التجهم وَإِبْطَال صِفَات الله وَهُوَ الْمَذْهَب الَّذِي ذهب إِلَيْهِ متأخروا الرافضة وَكَانُوا قد أدخلُوا مَعَهم من أدخلوه من وُلَاة الْأَمر فَلم يوافقهم أهل السّنة وَالْجَمَاعَة حَتَّى هددوا بَعضهم بِالْقَتْلِ وقيدوا بَعضهم وعاقبوهم بالرهبة وَالرَّغْبَة وَثَبت أَحْمد بن حَنْبَل على ذَلِك الْأَمر حَتَّى حبسوه مُدَّة ثمَّ طلبُوا أَصْحَابهم لمناظرته فانقطعوا مَعَه فِي المناظرة يَوْمًا بعد يَوْم
وَلما لم يَأْتُوا بِمَا يُوجب مُوَافَقَته لَهُم وَبَين خطأهم فِيمَا ذكرُوا من الْأَدِلَّة وَكَانُوا قد طلبُوا أَئِمَّة الْكَلَام من أهل الْبَصْرَة وَغَيرهم مثل أبي عِيسَى مُحَمَّد بن عِيسَى برغوث صَاحب حُسَيْن النجار وَأَمْثَاله وَلم تكن المناظرة مَعَ الْمُعْتَزلَة فَقَط بل كَانَت مَعَ جنس الْجَهْمِية من
الْمُعْتَزلَة والنجارية والضرارية وأنواع المرجئة فَكل معتزلي جهمي وَلَيْسَ كل جهمي معتزليا لَكِن جهم أَشد تعطيلا لِأَنَّهُ يَنْفِي الْأَسْمَاء وَالصِّفَات والمعتزلة تَنْفِي الصِّفَات
وَبشر المريسي كَانَ من كبار الْجَهْمِية وَكَانَ مرجئا لم يكن معتزليا وبسبب محنة الإِمَام أَحْمد كثر الْكَلَام والتدقيق والبحث فِي هَذِه الْأَشْيَاء وَرفع الله قدر الإِمَام أَحْمد وَأَتْبَاعه
وَلَكِن الرافضي أَخذ ينكت على كل طَائِفَة بِمَا ظن أَنه يُخرجهَا بِهِ من الْأُصُول وَالْفُرُوع وَظن أَن طائفته هِيَ السليمة من الْقدح وَقد اتّفق عقلاء الْمُسلمين على أَنه لَيْسَ فِي طوائف أهل الْقبْلَة أَكثر جهلا وضلالا وكذبا وبدعا وَأقرب إِلَى كل شَرّ وَأبْعد من كل خير من طائفته
وَلِهَذَا لما صنف الْأَشْعَرِيّ كِتَابه فِي المقالات ذكر أَولا مقالتهم وَختم بمقالة أهل السّنة والْحَدِيث وَذكر أَنه بِكُل مَا ذكر من أَقْوَال أهل السّنة والْحَدِيث يَقُول وَإِلَيْهِ يذهب
فتسميته لأهل الْآثَار وَالْإِثْبَات مشبهة كتسميتهم لمن أثبت خلَافَة الثَّلَاثَة ناصبيا بِنَاء على إعتقادهم أَنه لَا ولَايَة لعَلي إِلَّا بِالْبَرَاءَةِ من الثَّلَاثَة وَإِنَّمَا النصب هُوَ بغض أهل الْبَيْت ومعاداتهم
والتشبيه هُوَ جعل صِفَات الرب مثل صِفَات العَبْد
وَمن أَرَادَ أَن يمدح أَو يذم فَعَلَيهِ أَن يبين دُخُول الممدوح والمذموم فِي تِلْكَ الْأَسْمَاء الَّتِي علق الله وَرَسُوله بهَا الْمَدْح والذم
أما إِذا كَانَ الإسم لَيْسَ لَهُ أصل فِي الشَّرْع وَدخُول الدَّاخِل فِيهِ مِمَّا يُنَازع فِيهِ الْمدْخل بطلت كل من المقدمتين
وَالْكتاب وَالسّنة لَيْسَ فيهمَا لَفْظَة ناصبة وَلَا مشبهة وَلَا حشوية بل وَلَا فيهمَا لفظ رَافِضِي
فَنحْن إِذا قُلْنَا رافضة نذكرهُ للتعريف لدُخُول أَنْوَاع مذمومة بِالنَّصِّ فِيهِ فَبَقيَ علما على هَؤُلَاءِ الجهلة الَّذين عدموا الصدْق والتوفيق
وقولك دَاوُد الطَّائِي فجهل وَإِنَّمَا هُوَ الجواربي فقد قَالَ الْأَشْعَرِيّ وَقَالَ دَاوُد الجواربي وَمُقَاتِل بن سُلَيْمَان أَن الله جسم وَأَنه جثة وأعضاء على صُورَة الْإِنْسَان لحم وَدم وَشعر وَعظم لَهُ جوارح وأعضاء وَهُوَ مَعَ هَذَا لَا يُشبههُ شَيْء
وَقَالَ هِشَام بن سَالم الجواليقي أَنه على صُورَة الْإِنْسَان
وَأنكر أَن يكون لَحْمًا ودما وَأَنه نور يتلألأ وَأَنه ذُو حواس خمس سَمعه غير بَصَره وَكَذَلِكَ سَائِر حواسه وَله يَد وَرجل وَعين وفم وأنف وَأَن لَهُ وفرة سَوْدَاء
قلت الْأَشْعَرِيّ ينْقل هَذِه المقالات من كتب الْمُعْتَزلَة وَفِيهِمْ إنحراف عَن مقَاتل
فلعلهم زادوا عَلَيْهِ وَإِلَّا فَمَا أَظُنهُ يصل إِلَى هَذَا الْحَد وَقد قَالَ الشَّافِعِي من أَرَادَ التَّفْسِير فَهُوَ عِيَال على مقَاتل وَمن أَرَادَ الْفِقْه فَهُوَ عِيَال على أبي حنيفَة
وَأما دَاوُد الطَّائِي فَكَانَ فَقِيها زاهد عابدا مَا قَالَ شَيْئا من هَذَا الْبَاطِل وَلَا دخل فِي هَذَا
قَالَ وَذهب بَعضهم إِلَى أَن الله ينزل كل لَيْلَة جُمُعَة بشكل أَمْرَد رَاكِبًا على حمَار حَتَّى أَن بَعضهم بِبَغْدَاد وضع على سطحه معلفا يضع فِيهِ شَعِيرًا كل لَيْلَة جُمُعَة الْجَوَاز أَن ينزل الله على سطحه فيشتغل الْحمار بِالْأَكْلِ ويشتغل الرب بالنداء هَل من تائب قُلْنَا هَذَا وَأَمْثَاله إِمَّا كذب أَو وَقع لجَاهِل مغمور لَيْسَ بقول عَالم وَلَا مَعْرُوف وَقد صان الله عُلَمَاء السّنة بل وعامتهم من قَول هَذَا الهذيان الَّذِي لَا ينطلي على الصّبيان
ثمَّ لم يرو فِي ذَلِك شَيْء لَا بِإِسْنَاد ضَعِيف وَلَا بِإِسْنَاد مَكْذُوب وَلَا قَالَ أحد إِنَّه تَعَالَى ينزل لَيْلَة الْجُمُعَة إِلَى الأَرْض وَلَا أَنه فِي شكل أَمْرَد
وَهَذَا مثل حَدِيث الْجمل الأورق وَأَنه تَعَالَى ينزل عَشِيَّة عَرَفَة فيعانق المشاة ويصافح الركْبَان قبح الله من وَضعه
وَمَا أَكثر الْكَذِب فِي الْعَالم وَلَكِن تِسْعَة أعشاره أَو أقل أَو أَكثر بأيدي الرافضة
وَأما أَحَادِيث النُّزُول إِلَى سَمَاء الدُّنْيَا فمتواترة وَحَدِيث دنوه عَشِيَّة عَرَفَة فَأخْرجهُ مُسلم وَلَا نعلم كَيفَ ينزل وَلَا كَيفَ اسْتَوَى
قَالَ وَقَالَت الكرامية إِن الله فِي جِهَة فَوق وَلم يعلمُوا أَن كل مَا هُوَ فِي جِهَة فَهُوَ مُحدث مُحْتَاج إِلَى تِلْكَ الْجِهَة فَيُقَال لَهُ نعم هَذَا مَذْهَبهم وَمذهب كبار الشِّيعَة الْمُتَقَدِّمين وَأَنت لم تذكر حجَّة على إِبْطَاله
وَجُمْهُور الْخلق على أَن الله فَوق الْعَالم وَإِن كَانَ أحدهم لَا يلفظ بِلَفْظ الْجِهَة فهم مفطورون مجبولون على أَن معبودهم فَوق كَمَا قَالَ أَبُو جَعْفَر الْهَمدَانِي لأبي الْمَعَالِي مَا مَعْنَاهُ إِن الإستواء علم بِالسَّمْعِ وَلَو لم يرد بِهِ
لم نعرفه وَأَنت قد تتأوله فَدَعْنَا من هَذَا وَأخْبرنَا عَن هَذِه الضَّرُورَة الَّتِي نجدها فِي قُلُوبنَا فَإِنَّهُ مَا قَالَ عَارِف قطّ يَا الله إِلَّا وَقبل أَن ينْطق لِسَانه يجد فِي قلبه معنى يطْلب الْعُلُوّ لَا يلْتَفت يمنة وَلَا يسرة فَهَل عنْدك من حِيلَة فِي دفع هَذِه الضَّرُورَة عَن قُلُوبنَا فلطم الْمُتَكَلّم رَأَيْته صَوَابه رَأسه وَقَالَ حيرني الْهَمدَانِي يَعْنِي أَن الدَّلِيل على نفي الْفَوْقِيَّة نَظَرِي فَكيف يُعَارض ضَرُورَة الْفطر بل وتواتر النُّصُوص فَإِن دفع الضروريات بالنظريات غير مُمكن وَلَو قدح فِي الضروريات لَكَانَ ذَلِك قدحا فِي أساس النظريات وَهُوَ من بَاب قدح الْفَرْع فِي أَصله فَتبْطل الضروريات والنظريات
وَأَيْضًا فَإِن هَؤُلَاءِ قرروا ذَلِك بأدلة عقلية كَقَوْلِهِم كل موجودين إِمَّا متباينان وَإِمَّا متداخلان وَقَالُوا إِن الْعلم بذلك بضروري
وَقَالُوا إِثْبَات مَوْجُود لَا يشار إِلَيْهِ مُكَابَرَة للحس وَالْعقل
وَهَذَا الْقُرْآن ينْطق بالعلو فِي مَوَاضِع كَثِيرَة جدا حَتَّى قيل
إِنَّهَا نَحْو ثَلَاثمِائَة مَوضِع
وَالسّنَن ملأى بذلك وَكَلَام السّلف يَقْتَضِي إتفاقهم على ذَلِك
فَمن يُرِيد التشنيع على النَّاس وَدفع الدَّلَائِل القاطعة لَا بُد أَن يذكر حجَّة
فقولك إِن كل مَا هُوَ فِي جِهَة فَهُوَ مُحدث ومحتاج إِلَيْهَا إِنَّمَا يَسْتَقِيم إِذا كَانَت الْجِهَة أمرا ثبوتيا وجوديا وَكَانَت لَازِمَة لَهُ
فَلَا ريب أَن من قَالَ إِن الْبَارِي لَا يقوم إِلَّا بِمحل يحل فِيهِ لَا يَسْتَغْنِي عَنهُ فقد جعله مُحْتَاجا
وَهَذَا لم يقلهُ أحد وَلَا علمنَا أحدا قَالَ إِنَّه مُحْتَاج إِلَى شَيْء من مخلوقاته لِأَنَّهُ خلق الْعَرْش فَدلَّ على أَنه غَنِي عَنهُ قبل وَبعد وَإِذا كَانَ فَوْقه لم يجب أَن يكون مُحْتَاجا إِلَيْهِ
بل الله قد خلق الْعَالم بعضه فَوق بعض وَلم يَجْعَل عاليه مُحْتَاجا إِلَى سافله فالأرض فَوْقهَا الْهَوَاء والسحاب ثمَّ السَّمَاوَات ثمَّ الْعَرْش
وَنحن نعلم أَنه لَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَأَن الْقُوَّة الَّتِي فِي حَملَة الْعَرْش هُوَ خَالِقهَا
وَلَو احْتج عَلَيْك سلفك مثل عَليّ بن يُونُس القمي الرافضي الْقَائِل بِأَن الْعَرْش يحملهُ لم يكن عنْدك حجَّة فَإِنَّهُم يَقُولُونَ لم نقل إِنَّه مُحْتَاج إِلَيْهِ وَلَكِن قُلْنَا إِنَّه على كل شَيْء قدير وَإِذا جَعَلْنَاهُ قَادِرًا على أَن خلق شَيْئا يحملهُ كَانَ ذَلِك وَصفا لَهُ بِكَمَال الإقتدار لَا بِالْحَاجةِ
وَقد قدمنَا أَن لفظ الْجِهَة يُرَاد بِهِ أَمر مَوْجُود مَخْلُوق وَأمر مَعْدُوم
فَمن قَالَ إِنَّه تَعَالَى فَوق الْعَالم جَمِيعه لم يقل إِنَّه فِي جِهَة مَوْجُودَة إِلَّا أَن يُرَاد بالجهة الْعَرْش وَيُرَاد بِكَوْنِهِ فِيهَا أَنه عَلَيْهَا كَمَا جَاءَ أَنه فِي السَّمَاء أَي على السَّمَاء
وَهَؤُلَاء أخذُوا لفظ الْجِهَة بالإشتراك وأوهموا أَنه إِذا كَانَ فِي جِهَة كَانَ فِي شَيْء غَيره كَمَا يكون الْإِنْسَان فِي بَيته ثمَّ رتبوا على ذَلِك أَن يكون مُحْتَاجا إِلَى غَيره وَهَذِه مُقَدمَات بَاطِلَة
وَقَالُوا إِنَّه لَو كَانَ فِي جِهَة لَكَانَ جسما وكل جسم مُحدث لِأَن الْجِسْم لَا يَخْلُو من الْحَوَادِث فَهُوَ حَادث
وكل هَذِه مُقَدمَات متنازع فِيهَا فَمن النَّاس من يَقُول قد يكون فِي الْجِهَة من لَيْسَ بجسم
فَإِذا قيل لَهُ هَذَا خلاف الْمَعْقُول قَالَ هَذَا أقرب إِلَى الْعُقُول من مَوْجُود لَا دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه
وَمن النَّاس من لَا يسلم أَن كل جسم مُحدث كالكرامية وقدماء الشِّيعَة وَلَا يسلمُونَ أَن الْجِسْم لَا يَخْلُو من الْحَوَادِث
وَكثير من أهل الحَدِيث وَالْكَلَام والفلسفة
ينازعون فِي قَوْلهم إِن مَا لَا يَخْلُو عَن الْحَوَادِث فَهُوَ حَادث
قَالَ وَذهب الْأَكْثَر مِنْهُم إِلَى أَن الرب يفعل القبائح وَالْكفْر وَأَن جَمِيع ذَلِك وَاقع بِقَضَاء الله وَقدره وَأَن العَبْد لَا تَأْثِير لَهُ فِي ذَلِك وَأَن الله يُرِيد الْمعاصِي من الْكَافِر وَلَا يُرِيد مِنْهُ طَاعَة
قُلْنَا قد تقدم أَن مسَائِل الْقدر وَالتَّعْدِيل والتجوير لَيست ملزومة لمسائل الْإِمَامَة وَلَا لَازِمَة لَهَا وَأَنت تعيدها وتبدئها
فَإِن خلقا مِمَّن يقر بإمامة أبي بكر وَعمر قدرية وخلقا من الرافضة بعكس ذَلِك فَلَيْسَ أحد الْبَابَيْنِ مرتبطا بِالْآخرِ أصلا
وَالْمَنْقُول عَن أهل الْبَيْت فِي إِثْبَات الْقدر وَالصِّفَات لَا ينْحَصر
وَلَكِن متأخرو الرافضة جمعُوا إِلَى رفضهم التجهم وَالْقدر كصاحب هَذَا الْكتاب
وقولك عَنْهُم إِن العَبْد لَا تَأْثِير لَهُ فِي الْكفْر والمعاصي فَنقل بَاطِل بل جُمْهُور من أثبت الْقدر يَقُول إِن العَبْد فَاعل لفعله حَقِيقَة وَإِن لَهُ قدرَة واستطاعة
وَلَا يُنكرُونَ تَأْثِير الْأَسْبَاب الطبيعية بل يقرونَ بِمَا دلّ عَلَيْهِ الشَّرْع وَالْعقل من أَن الله يخلق السَّحَاب بالرياح وَينزل المَاء بالسحاب وينبت النَّبَات بِالْمَاءِ وَالله خَالق السَّبَب والمسبب
وَمَعَ أَنه خَالق السَّبَب فَلَا بُد لَهُ من سَبَب آخر يُشَارِكهُ وَلَا بُد لَهُ من معَارض يمانعه فَلَا يتم أَثَره مَعَ خلق الله لَهُ إِلَّا بِأَن يخلق الله السَّبَب الآخر ويزيل الْمَوَانِع وَلَكِن مَا قلته هُوَ قَول الْأَشْعَرِيّ وَمن وَافقه لَا يثبتون فِي الْمَخْلُوقَات قوى وَلَا طبائع وَيَقُولُونَ إِن الله فعل عِنْدهَا لَا بهَا وَيَقُولُونَ قدرَة العَبْد لَا تَأْثِير لَهَا فِي الْفِعْل
وأبلغ من ذَلِك قَول الْأَشْعَرِيّ إِن الله فَاعل فعل العَبْد وَإِن فعل العَبْد لَيْسَ فعله بل كسب لَهُ
وَإِنَّمَا هُوَ فعل الله فَقَط
وَجُمْهُور النَّاس وَالسّنة على خلاف قَوْله وعَلى أَن العَبْد فَاعل لفعله حَقِيقَة
وقولك يُرِيد الْمعاصِي من الْكَافِر هُوَ قَول طَائِفَة وهم الَّذين يجْعَلُونَ الْإِرَادَة نوعا وَاحِدًا ويجعلون المحنة وَالرِّضَا وَالْغَضَب بِمَعْنى الْإِرَادَة وَهُوَ أشهر قولي الْأَشْعَرِيّ وَقَول أَكثر أَصْحَابه
وَأما جُمْهُور السّنة فيفرقون بَين الْإِرَادَة والمحبة وَالرِّضَا وَيَقُولُونَ إِنَّه وَإِن كَانَ يُرِيد الْمعاصِي فَهُوَ لَا يُحِبهَا وَلَا يرضاها بل يبغضها والمحققون يَقُولُونَ الْإِرَادَة فِي الْقُرْآن نَوْعَانِ
إِرَادَة قدرية كونية وَإِرَادَة شَرْعِيَّة دينية
فالشرعية هِيَ المتضمنة للمحبة وَالرِّضَا والقدرية هِيَ الشاملة لجَمِيع الْحَوَادِث فَمَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن
قَالَ الله تَعَالَى {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا} وَقَالَ {إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم} فَهَذِهِ الْإِرَادَة تعلّقت بالإضلال والإغواء
وَأما الشَّرْعِيَّة فكقوله {يُرِيد الله ليبين لكم وَيهْدِيكُمْ سنَن الَّذين من قبلكُمْ} وَقَوله {مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج} {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} فَهَذِهِ غير تيك
قَالَ وَهَذَا يسْتَلْزم أَشْيَاء شنيعة مِنْهَا أَن يكون الله أظلم من كل ظَالِم لِأَنَّهُ يُعَاقب الْكَافِر على كفره وَهُوَ قدره عَلَيْهِ وَلم يخلق فِيهِ قدرَة على الْإِيمَان فَكَمَا أَنه يلْزم الظُّلم لَو عذبه على كَونه طوله وقصره يلْزم أَن يكون ظَالِما لَو عذبه على الْمعْصِيَة الَّتِي جعلهَا فِيهِ
فَيُقَال قد مر أَن الْجُمْهُور فِي تَفْسِير الظُّلم على قَوْلَيْنِ أَحدهمَا أَن الظُّلم مُمْتَنع لذاته غير مَقْدُور كَمَا صرح بِهِ الْأَشْعَرِيّ وَالْقَاضِي أَبُو بكر وَأَبُو الْمَعَالِي وَالْقَاضِي أَبُو يعلى وَابْن الزَّاغُونِيّ وَيَقُولُونَ إِنَّه غير قَادر على الْكَذِب وَالظُّلم والقبيح وَلَا يَصح وَصفه
بِشَيْء من ذَلِك
ودلالتهم على إستحالة وُقُوع ذَلِك مِنْهُ أَن الظُّلم والقبيح مَا شرع الله وجوب ذمّ فَاعله وذم الْفَاعِل لما لَيْسَ لَهُ فعله وَلنْ يكون كَذَلِك حَتَّى يكون متصرفا فِيمَا غَيره أملك بِهِ وبالتصرف فِيهِ مِنْهُ فَوَجَبَ إستحالة ذَلِك فِي حَقه من حَيْثُ لم يكن أَمر النَّاس بذمه وَلَا كَانَ مِمَّن يجوز دُخُول أَفعاله تَحت تَكْلِيف من نَفسه لنَفسِهِ وَلَا يكون فعله تَصرفا فِي شَيْء غَيره أملك بِهِ فَثَبت بذلك اسْتِحَالَة تصَوره فِي حَقه
وَحَقِيقَة قَول هَؤُلَاءِ أَن الذَّم إِنَّمَا يكون لمن تصرف فِي ملك غَيره وَمن عصى الْأَمر وَالله يمْتَنع أَن يَأْمُرهُ أحد وَيمْتَنع أَن يتَصَرَّف فِي ملك غَيره فَإِن الْأَشْيَاء لَهُ
وَهَذَا القَوْل يرْوى عَن إِيَاس ابْن مُعَاوِيَة قَالَ مَا خَاصَمت بعقلي كُله إِلَّا الْقَدَرِيَّة قلت أخبروني مَا الظُّلم قَالُوا أَن يتَصَرَّف الْإِنْسَان فِيمَا لَيْسَ لَهُ
قلت فَللَّه كل شَيْء
ثمَّ هَؤُلَاءِ يجوزون التعذيب لَا لجرم فَلَا يرد عَلَيْهِ الْمُعَارضَة بتعذيب الْقصير لقصره وَلَا الْأسود للونه لأَنهم يجوزون ذَلِك لمحض الْمَشِيئَة
القَوْل الثَّانِي أَن الظُّلم مَقْدُور لله منزه عَنهُ كتعذيب الْإِنْسَان بذنب غَيره كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمن يعْمل من الصَّالِحَات وَهُوَ مُؤمن فَلَا يخَاف ظلما وَلَا هضما} وَهَؤُلَاء يَقُولُونَ الْفرق بَين تَعْذِيب الْإِنْسَان على فعله الإختياري وَغير فعله الإختياري مُسْتَقر فِي فطر الْعُقُول
وَيَقُولُونَ الإحتجاج بِالْقدرِ على الذُّنُوب مِمَّا يعلم بُطْلَانه بِالْعقلِ فَإِن الظَّالِم لغيره لَو احْتج بِالْقدرِ لاحتج ظالمه بِالْقدرِ أَيْضا
فالإحتجاج على فعل الْمعاصِي بِالْقدرِ بَاطِل بإتفاق الْملَل والعقلاء وَإِنَّمَا يحْتَج بِهِ من اتبع هَوَاهُ كَمَا قيل أَنْت عِنْد الطَّاعَة
قدري وَعند الْمعْصِيَة جبري أَي مَذْهَب وَافق هَوَاك تمذهبت بِهِ
وَلَو كَانَ الْقدر حجَّة لفاعل الْفَوَاحِش لم يحسن أَن يلوم أحد أحدا وَلَا أَن يُعَاقب أحد أحدا
وَقد يعرض ذَلِك لكثير من المدعين الْحَقِيقَة من الْفُقَرَاء والصوفية والعامة وَغَيرهم فَيَشْهَدُونَ الْقدر ويعرضون عَن الْأَمر وَالنَّهْي
فَلَا عذر لأحد فِي ترك مَأْمُور وَلَا فعل مَحْظُور بِكَوْن ذَلِك مُقَدرا عَلَيْهِ بل لله الْحجَّة الْبَالِغَة على خلقه
فالمحتجون بِالْقدرِ على الْمعاصِي شَرّ من الْقَدَرِيَّة المكذبين بِالْقدرِ
وَمن ثمَّ اتهمَ بِالْقدرِ جمَاعَة لم يَكُونُوا قدرية لَكِن كَانُوا لَا يقبلُونَ الإحتجاج على الْمعاصِي بِالْقدرِ كَمَا قيل للْإِمَام أَحْمد كَانَ ابْن أبي ذِئْب قدريا فَقَالَ النَّاس كل من شدد عَلَيْهِم الْمعاصِي قَالُوا هُوَ قدري
وَلِهَذَا تَجِد الَّذين يشْهدُونَ الْقدر يُنكرُونَ على من أنكر الْمُنكر وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ قدر عَلَيْهِم
فَيُقَال لهَذَا وإنكار الْمُنكر أَيْضا بِقدر الله فنقضت قَوْلك بِقَوْلِك
وَمن جهلة مشايخهم من يَقُول أَنا كَافِر بِرَبّ يعْصى وَلَو قتلت سبعين نَبيا مَا كنت مخطئا
وَيَقُول آخر
(أَصبَحت منفعلا لما يختاره
…
مني ففعلي كُله طاعات)
وَمن النَّاس من يظنّ أَن إحتجاج آدم على مُوسَى بِالْقدرِ كَانَ من هَذَا الْبَاب وَهَذَا جهل فَإِن الْأَنْبِيَاء من أعظم النَّاس أمرا بِمَا أَمر الله بِهِ ونهيا عَمَّا نهى عَنهُ فَكيف يسوغ لأجد مِنْهُم أَن يَعْصِي الله بِالْقدرِ
وَأَيْضًا فَإِن آدم كَانَ قد تَابَ من الذَّنب وتيب عَلَيْهِ وَلَو كَانَ الْقدر حجَّة لَكَانَ حجَّة لإبليس وَفرْعَوْن وَغَيرهمَا وَلَكِن كَانَ ملام مُوسَى لآدَم لأجل الْمُصِيبَة الَّتِي لحقتهم بِسَبَب أكله وَلِهَذَا قَالَ لَهُ لماذا أخرجتنا وبنيك من
الْجنَّة وَالْعَبْد مَأْمُور أَن يرجع إِلَى الْقدر عِنْد المصائب
لَا عِنْد الذُّنُوب والمعايب فيصبر على المصائب وَيَتُوب من الذُّنُوب
قَالَ الله تَعَالَى {فاصبر إِن وعد الله حق واستغفر لذنبك} وَمَعْلُوم أَن الْأَفْعَال الإختيارية تكسب نفس الْإِنْسَان صِفَات محمودة وصفات مذمومة بِخِلَاف لَونه وقصره فَإِنَّهَا لَا تكسبه ذَلِك
قَالَ ابْن عَبَّاس إِن للحسنة نورا فِي الْقلب وضياء فِي الْوَجْه وسعة فِي الرزق وَقُوَّة فِي الْبدن ومحبة فِي قُلُوب الْخلق فَالله تَعَالَى جعل أَفعَال العَبْد سَببا لهَذَا وَهَذَا كَمَا جعل أكل السم سَببا للمرض وَالْمَوْت لَكِن قد يدْفع ذَلِك بالترياق كَمَا أَن السَّيِّئَات قد يدْفع مقتضاها بِالتَّوْبَةِ والأعمال الصَّالِحَة الماحية والمصائب المكفرة
وَإِذا قيل خلق الْفِعْل مَعَ حُصُول الْعقُوبَة عَلَيْهِ ظلم كَانَ بِمَنْزِلَة قَوْلك خلق السم ثمَّ حُصُول التّلف بِهِ ظلم
وَقد دلّت الدَّلَائِل اليقينية على أَن كل حَادث فَالله خالقه وَفعل العَبْد من جملَة الْحَوَادِث فَمَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن
وَإِذا قيل حدث الْفِعْل بِإِرَادَة العَبْد
قُلْنَا الْإِرَادَة أَيْضا حَادِثَة فَلَا بُد لَهَا من سَبَب
وَإِن شِئْت قلت الْفِعْل مُمكن فَلَا تَرْجِيح لوُجُوده على عَدمه إِلَّا بمرجح
وَكَون العَبْد فَاعِلا لَهُ حَادث مُمكن
فَلَا بُد لَهُ من مُحدث مُرَجّح
وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين حَادث وحادث
وَمن الْمَخْلُوقَات مَا قد يحصل بِهِ ضَرَر للْبَعْض كالأمراض والآلام
وَفِي ذَلِك حِكْمَة لله
فَإِذا كَانَ الْعقَاب على فعل العَبْد الإختياري لم يكن ظلما فالحادث بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرب لَهُ فِيهِ حِكْمَة يحسن لأجل تِلْكَ الْحِكْمَة وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى العَبْد عدل لِأَنَّهُ عُوقِبَ على فعله فَمَا ظلمه الله وَلَكِن هُوَ الظَّالِم
وَلَو عاقبه الْوَالِي وَقطع يَده ورد إِلَى رب المَال سَرقته لعد حَاكما بِالْعَدْلِ
وَلَو قَالَ لَهُ السَّارِق أَنا قدر على لم يكن هَذَا حجَّة لَهُ وَلَا مَانِعا لحكم الْوَالِي
فَإِذا اقْتصّ الله من الظَّالِم يَوْم الْقِيَامَة كَانَ عادلا وَلَا ينفع الظَّالِم قَوْله أَنْت
قدرت عَليّ وَلَيْسَ الْقدر بِعُذْر لَهُ
وَإِذا كَانَ الله هُوَ الْخَالِق لكل شَيْء فَذَاك لحكمة أُخْرَى لَهُ فِي الْفِعْل فخلقه حسن بِالنِّسْبَةِ لما فِيهِ من الْحِكْمَة
وَلَقَد أنكر الْأَئِمَّة على من قَالَ جبر الله الْعباد كالثوري وَالْأَوْزَاعِيّ والزبيدي وَأحمد بن حَنْبَل وَقَالُوا الْجَبْر لَا يكون إِلَّا من عَاجز كَمَا يجْبر الْأَب ابْنَته على خلاف مرادها وَالله تَعَالَى خَالق الْإِرَادَة وَالْمرَاد فَيُقَال جبل الله الْعباد كَمَا جَاءَت بِهِ السّنة وَلَا يُقَال جبر قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد الْقَيْس إِن فِيك لخلتين يحبهما الله الْحلم والأناة
فَقَالَ أخلقين تخلقت بهما أم جبلت عَلَيْهِمَا قَالَ بل جبلت عَلَيْهِمَا
فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي جبلني على خلتين يحبهما الله
فجهة خلق الله وَتَقْدِيره غير جِهَة أمره وتشريعه فَإِن أمره وتشريعه مَقْصُوده بَيَان مَا ينفع الْعباد إِذا فَعَلُوهُ وَمَا يضرهم
بِمَنْزِلَة أَمر الطَّبِيب الْمَرِيض بِمَا يَنْفَعهُ وحميته مِمَّا يضرّهُ
فَأخْبر الله على ألسن رسله بمصير السُّعَدَاء والأشقياء وَأمر بِمَا يُوصل إِلَى السَّعَادَة وَنهى عَمَّا يُوصل إِلَى الشقاوة
وَأما خلقه وَتَقْدِيره فَيتَعَلَّق بِهِ وبجملة الْمَخْلُوقَات فيفعل مَا لَهُ فِيهِ حِكْمَة مُتَعَلقَة بِعُمُوم خلقه وَإِن كَانَ فِي ضمن ذَلِك مضرَّة للْبَعْض
كَمَا أَنه ينزل الْغَيْث رَحْمَة وَحِكْمَة وَإِن كَانَ فِي ضمن ذَلِك ضَرَر للْبَعْض بِسُقُوط منزله أَو إنقطاعه عَن سَفَره أَو تَعْطِيل معيشته
وَيُرْسل الرُّسُل رَحْمَة وَحِكْمَة وَإِن كَانَ فِي ضمن ذَلِك أَذَى قوم وَسُقُوط رياستهم
فَإِذا قدر على الْكَافِر كفره قدره لما فِي ذَلِك من الْحِكْمَة والمصلحة الْعَامَّة وعاقبه لإستحقاقه ذَلِك بِفِعْلِهِ الإختياري وَلما فِي عُقُوبَته من الْحِكْمَة والمصلحة الْعَامَّة
وَقِيَاس أَفعاله تَعَالَى على أفعالنا خطأ ظَاهر لِأَن السَّيِّد يَأْمر عَبده بِأَمْر لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ ولغرضه فَإِذا أثابه على ذَلِك كَانَ من بَاب الْمُعَاوضَة وَلَيْسَ هُوَ الْخَالِق لفعل الْمَأْمُور
وَالله غَنِي عَن الْعباد إِنَّمَا أَمرهم بِمَا يَنْفَعهُمْ ونهاهم عَمَّا يضرهم أَمر إرشاد وَتَعْلِيم فَإِن أعانهم على فعل الْمَأْمُور فقد تمت نعْمَته وَإِن خذل وَلم يعن العَبْد حَتَّى فعل الذَّنب كَانَ لَهُ فِي ذَلِك حِكْمَة أُخْرَى وَإِن كَانَت مستلزمة تألم هَذَا فَإِنَّمَا يألم بأفعاله الَّتِي من شَأْنهَا أَن تورثه نعيما أَو عذَابا وَإِن ذَلِك الإيراث بِقَضَاء الله وَقدره فَلَا مُنَافَاة بَين هَذَا وَهَذَا
بَقِي الْكَلَام فِي نفس تِلْكَ الْحِكْمَة الْكُلية فَهَذِهِ لَيْسَ على النَّاس مَعْرفَتهَا ويكفيهم التَّسْلِيم لمن قد عرفُوا حكمته وَرَحمته وَقدرته
فَمن الْمَعْلُوم مَا لَو علمه كثير من النَّاس لضرهم علمه فحكمته أكبر من الْعُقُول قَالَ تَعَالَى {لَا تسألوا عَن أَشْيَاء إِن تبد لكم تَسُؤْكُمْ}
وَهَذِه الْمَسْأَلَة مَسْأَلَة غايات أَفعَال الله تَعَالَى وَنِهَايَة حكمته ولعلها أجل الْمسَائِل الإلهية وَمَا ضلت الْقَدَرِيَّة إِلَّا من جِهَة قِيَاس الله بخلقه فِي عدلهم وظلمهم كَمَا ضلت الجبرية الَّذين لَا يجْعَلُونَ لأفعال الله حِكْمَة وَلَا ينزهونه عَن ظلم وَدين الله بَين الغالي فِيهِ والجافي عَنهُ
وقولك عَنْهُم وَلم يخلق فِيهِ قدرَة على الْإِيمَان فَهَذَا قَالَه من يَقُول
إِن الْقُدْرَة لَا تكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل فَمن لم يفعل شَيْئا لم يكن قَادِرًا عَلَيْهِ وَلَكِن لَا يكون عَاجِزا عَنهُ
وَلَيْسَ ذَا قَول جُمْهُور السّنة بل يثبتون للْعَبد قدرَة هِيَ منَاط الْأَمر وَالنَّهْي غير الْقُدْرَة الْمُقَارنَة للْفِعْل وَتلك الْقُدْرَة تكون مُتَقَدّمَة على الْفِعْل بِحَيْثُ تكون لمن لم يطع كَمَا قَالَ الله تَعَالَى (وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من إستطاع إِلَيْهِ سَبِيلا) فَأوجب الْحَج على المستطيع فَلَو لم يسْتَطع إِلَّا من حج لم يكن الْحَج إِلَّا على من
حج وَلَا عُوقِبَ أحد على ترك الْحَج وَقَالَ {فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم} فَأوجب التَّقْوَى بِحَسب الإستطاعة فَلَو كَانَ من لم يتق الله لم يسْتَطع التَّقْوَى لم يكن قد أوجب التَّقْوَى إِلَّا على من اتَّقى
وَأهل السّنة متفقون على أَن لله على عَبده الْمُطِيع نعْمَة دينية خصّه بهَا دون الْكَافِر وَأَنه أَعَانَهُ على الطَّاعَة قَالَ تَعَالَى {وَلَكِن الله حبب إِلَيْكُم الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبكُمْ وَكره إِلَيْكُم الْكفْر والفسوق والعصيان}
وَعند الْقَدَرِيَّة هَذَا التحبب والتزين عَام فِي كل الْخلق وَالْآيَة تَقْتَضِي أَنه خَاص بِالْمُؤْمِنِينَ
وَقَالَ تَعَالَى {فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ} الْآيَة وَقَالَ {أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس} وَقَالَ {بل الله يمن عَلَيْكُم أَن هدَاكُمْ للْإيمَان} وَقد أمرنَا الله أَن نقُول {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} وَالدُّعَاء إِنَّمَا يكون لمستقبل غير حَاصِل وَهَذِه الْهِدَايَة غير الْهدى الَّذِي هُوَ بَيَان الرَّسُول وتبليغه قَالَ الله {وَلَوْلَا فضل الله عَلَيْكُم وَرَحمته مَا زكا مِنْكُم من أحد أبدا وَلَكِن الله يُزكي من يَشَاء} وَقَالَ تَعَالَى {وجعلناهم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا} وَقَالَ {وجعلناهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار} وَهَذَا كثير جدا
وَمِمَّا ورد فِي الإستطاعة قَوْله تَعَالَى {وَمن لم يسْتَطع مِنْكُم طولا أَن ينْكح الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات} وَقَالَ {وسيحلفون بِاللَّه لَو استطعنا لخرجنا مَعكُمْ} وَقَالَ {فَمن لم يسْتَطع فإطعام سِتِّينَ مِسْكينا} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لعمران ابْن حُصَيْن صل قَائِما فَإِن لم تستطع فقاعدا فَإِن لم تستطع فعلى جنب فَإِنَّمَا نفى إستطاعة لَا فعل مَعهَا فالإستطاعة الْمَشْرُوطَة فِي الشَّرْع أخص من الإستطاعة الْمَعْلُومَة بِالْعقلِ فَإِن الشَّارِع ييسر على عباده وَيُرِيد بهم الْيُسْر فالمريض يَسْتَطِيع الْقيام مَعَ تَأَخّر برئه فَهَذَا فِي الشَّرْع غير مستطيع لأجل حُصُول الضَّرَر عَلَيْهِ وَإِن كَانَ قد تسمى مستطيعا
فالشارع لَا ينظر فِي الإستطاعة الشَّرْعِيَّة إِلَى مُجَرّد الْإِمْكَان بل يُرَاعِي لَوَازِم ذَلِك فَإِذا كَانَ الشَّارِع قد اعْتبر فِي المكنة عدم الْمفْسدَة الراجحة فَكيف يُكَلف مَعَ الْعَجز وَلَكِن هَذِه الإستطاعة مَعَ بَقَائِهَا إِلَى حِين الْفِعْل لَا تَكْفِي فِي وجود الْفِعْل إِذْ لَو كفت لَكَانَ التارك كالفاعل بل لَا بُد من إِحْدَاث إِعَانَة أُخْرَى تقارن هَذِه مثل جعل الْفَاعِل مرِيدا فَإِن الْفِعْل لَا يتم إِلَّا بقدرة وَإِرَادَة والإستطاعة الْمُقَارنَة للْفِعْل تدخل فِيهَا الْإِرَادَة الجازمة بِخِلَاف الْمَشْرُوطَة فِي التَّكْلِيف فَإِنَّهُ لَا يشْتَرط فِيهَا الْإِرَادَة فَالله يَأْمر بِالْفِعْلِ من لَا يُريدهُ لَكِن لَا يَأْمر بِهِ من يعجز عَنهُ كَمَا أَن السَّيِّد يَأْمر عَبده بِمَا لَا يُريدهُ وَلَا يَأْمُرهُ بِمَا يعجز عَنهُ وَإِذا اجْتمعت الْإِرَادَة الجازمة وَالْقُوَّة التَّامَّة لزم وجود الْفِعْل
وَمن قَالَ الْقُدْرَة لَا تكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل يَقُول كل كَافِر وفاسق قد كلف مَا لَا يُطَاق وَلَيْسَ هَذَا الْإِطْلَاق قَول جُمْهُور أَئِمَّة السّنة بل يَقُولُونَ أوجب الله الْحَج على المستطيع حج أَو لم يحجّ وَأوجب صِيَام الشَّهْرَيْنِ فِي الْكفَّار كفر أَو لم يكفر وَأوجب الْعِبَادَة على الْقَادِر دون الْعَاجِز فعل أَو لم يفعل
وَمَا لَا يُطَاق يُفَسر بشيئين بِمَا لَا يُطَاق للعجز عَنهُ فَهَذَا مَا كلفه أحد
أَو بِمَا لَا يُطَاق للإشتغال بضده فَهَذَا الَّذِي وَقع بِهِ التَّكْلِيف كَمَا فِي أَمر الْعباد بَعضهم لبَعض فَإِنَّهُم يفرقون بَين هَذَا وَهَذَا فَلَا يَأْمر السَّيِّد عَبده الْأَعْمَى بنقط الْمَصَاحِف ويأمره عَبده الْقَاعِد أَن يقوم وَالْفرق بَينهمَا ضَرُورِيّ
قَالَ الرافضي وَمِنْهَا إفحام الْأَنْبِيَاء وإنقطاع حجتهم لِأَن النَّبِي إِذا قَالَ للْكَافِرِ آمن بِي وصدقني يَقُول لَهُ قل لِرَبِّك يخلق فِي الْإِيمَان وَالْقُدْرَة المؤثرة حَتَّى أفعل وَإِلَّا فَكيف تكلفني الْإِيمَان وَلَا قدرَة لي عَلَيْهِ بل خلق فِي الْكفْر وَأَنا
لَا أتمكن من مقاهرته
فَيَنْقَطِع النَّبِي وَلَا يتَمَكَّن من جَوَابه
فَيُقَال هَذَا مقَام يكثر الْخَوْض فِيهِ وَكثير من البطالين إِذا أَمر بِمَا يجب عَلَيْهِ تعلل بِالْقدرِ وَقَالَ حَتَّى يقدرني الله على ذَلِك وَكَذَا إِذا نهي قَالَ قد قضي عَليّ بذلك أَي جبلة فِي
والإحتجاج بِالْقدرِ حجَّة داحضة لَا يعْذر بهَا العَبْد وَلِهَذَا لما قَالَ الْمُشْركُونَ {لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء} قَالَ الله تَعَالَى {قل هَل عنْدكُمْ من علم فتخرجوه لنا إِن تتبعون إِلَّا الظَّن وَإِن أَنْتُم إِلَّا تخرصون قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} فَإِن هَؤُلَاءِ علمُوا بفطرهم أَن حجتهم داحضة فَإِن أحدهم لَو ظلم الآخر فِي مَاله أَو فجر بامرأته أَو قتل وَلَده أَو كَانَ مصرا على الظُّلم فَنَهَاهُ النَّاس فَقَالَ لَو شَاءَ الله لم أفعل لم يقبلُوا مِنْهُ هَذِه الْحجَّة وَلَا هُوَ يقبلهَا من غَيره ولوجبت عُقُوبَته وَإِنَّمَا يحْتَج بهَا المحتج دفعا للوم بِلَا وَجه وَلَو كَانَ الإحتجاج بِالْقدرِ عذرا لما حصل فرق بَين الطائع والعاصي فَأثْبت الله عَلَيْهِم الْحجَّة بقوله {قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة} ثمَّ أثبت الْقدر بقوله {فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ} وَكِلَاهُمَا حق
قَالَ وَمِنْهَا تَجْوِيز أَن يعذب الله سيد الْمُرْسلين على طَاعَته ويثيب إِبْلِيس على مَعْصِيَته لِأَنَّهُ يفعل لَا لغَرَض فَيكون فَاعل الطَّاعَة سَفِيها لِأَنَّهُ يتعجل بالتعب فِي الإجتهاد فِي الْعِبَادَة وَإِخْرَاج مَاله فِي عمَارَة الْمَسَاجِد والربط وَالصَّدقَات من غير نفع يحصل لَهُ لِأَنَّهُ قد يُعَاقِبهُ على ذَلِك وَلَو فعل عوض ذَلِك مَا يتلذذ بِهِ من الْمعاصِي قد يثيبه وَهَذَا يُؤَدِّي إِلَى خراب الْعَالم وإضطراب الدّين
فَيُقَال هَذَا بَاطِل لم ينْقل أحد مِنْهُم أَن الله يعذب أنبياءه وَلَا أَنه قد يعذبهم بل اتَّفقُوا على أَنه يثيبهم لَا محَالة لِأَنَّهُ وعد بذلك وَهُوَ لَا يخلف الميعاد
بل من النَّاس من يَقُول علمت إثابتهم بِالسَّمْعِ وَمِنْهُم
من قَالَ بِالْعقلِ
وَقَالَ تَعَالَى {أم حسب الَّذين اجترحوا السَّيِّئَات أَن نجعلهم كَالَّذِين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} وَهَذَا إستفهام إِنْكَار على من يظنّ ذَلِك
فَعلم أَن التَّسْوِيَة بَين أهل الطَّاعَة وَأهل الْكفْر مِمَّا يعلم بُطْلَانه وَإِن ذَلِك من الحكم السيء الَّذِي تنزه الله عَنهُ وَقَالَ تَعَالَى {أم نجْعَل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات كالمفسدين فِي الأَرْض أم نجْعَل الْمُتَّقِينَ كالفجار} {أفنجعل الْمُسلمين كالمجرمين مَا لكم كَيفَ تحكمون}
وقولك مِنْهَا تَجْوِيز تَعْذِيب الْأَنْبِيَاء إِن أردْت أَنهم يَقُولُونَ إِنَّه قَادر على ذَلِك فَأَنت لَا تنَازع فِي الْقُدْرَة وَإِن أردْت أَنا نشك هَل يَفْعَله أَو لَا يَفْعَله فمعلوم أَنا لَا نشك بل نقطع بِدُخُول أَنْبيَاء الله وأوليائه جنته وبدخول إِبْلِيس وَحزبه النَّار وَإِن أردْت أَن من قَالَ يفعل لَا لحكمة يلْزمه تَجْوِيز هَذَا فَهَذَا قَول لبَعض الْمُتَكَلِّمين لَكِن أَكثر أهل السّنة لَا يَقُولُونَ ذَلِك
ثمَّ الْكل متفقون على أَن وجود الطَّاعَة نَافِع وَعدمهَا مُضر
قَالَ
وَمِنْهَا أَنه لَا يتَمَكَّن أحد من تَصْدِيق نَبِي لِأَن التَّوَصُّل إِلَى ذَلِك إِنَّمَا يتم بمقدمتين إِحْدَاهمَا أَن الله فعل المعجز على يَد النَّبِي لأجل التَّصْدِيق وَالثَّانيَِة أَن كل من صدقه الله فَهُوَ صَادِق
فكلا المقدمتين لَا تتمّ على قَوْلهم
لِأَنَّهُ إِذا إستحال أَن يفعل لغَرَض إستحال أَن تظهر المعجزات لأجل التَّصْدِيق وَإِذا كَانَ فَاعِلا للقبيح ولأنواع الضلال والمعاصي وَالْكذب جَازَ أَن يصدق الْكذَّاب فَلَا يَصح الإستدلال على صدق نَبِي وَلَا نَذِير
قُلْنَا قد تقدم أَن أَكثر أهل السّنة المثبتين للقدر وَغَيرهم يَقُولُونَ إِن الله يفعل لحكمة فَهَذَا القَوْل وضده لَا يخرج عَن أَقْوَال السّنة
وَأَيْضًا فَلَا نسلم أَن تَصْدِيق النَّبِي لَا يُمكن إِلَّا بطرِيق الإستدلال بالمعجزات بل الطّرق الدَّالَّة على صدقه مُتعَدِّدَة غير المعجزات وَمن قَالَ لَا طَرِيق إِلَّا ذَلِك فعلى النَّافِي الدَّلِيل
ثمَّ إِن دلَالَة المعجزة على الصدْق دلَالَة ضَرُورِيَّة
لَا تحْتَاج إِلَى نظر فَإِن إقتران المعجزة بِدَعْوَى النُّبُوَّة يُوجب علما ضَرُورِيًّا أَن الله أظهرها لصدقه كَمَا أَن من قَالَ لملك من الْمُلُوك إِن كنت أرسلتني إِلَى هَؤُلَاءِ فانقض عادتك وقم واقعد ثَلَاث مَرَّات فَفعل ذَلِك الْملك علمنَا بِالضَّرُورَةِ أَنه فعل ذَلِك لأجل تَصْدِيقه
وقولك إِذا كَانَ فَاعِلا للقبيح جَازَ أَن يصدق الْكذَّاب قُلْنَا مَا فِي الْمُسلمين من يَقُول إِن الله يفعل قبيحا
وَمن قَالَ أَنه خَالق أَفعَال الْعباد يَقُول ذَلِك الْفِعْل قَبِيح مِنْهُم لَا مِنْهُ كَمَا أَنه ضار لَهُم لَا لَهُ
ثمَّ الْآخرُونَ يَقُولُونَ إِن ذَلِك الْفِعْل مفعول لَهُ وَهُوَ فعل للْعَبد
وَأما نفس خرق الْعَادة فَلَيْسَتْ فعلا للعباد حَتَّى يُقَال إِنَّهَا قبيحة مِنْهُم
وتصديق الْكذَّاب إِنَّمَا يكون بإخباره أَنه صَادِق سَوَاء كَانَ ذَلِك بقول أَو فعل يجْرِي مجْرى القَوْل وَذَلِكَ مُمْتَنع مِنْهُ لِأَنَّهُ صفة نقص وَالله منزه عَن النَّاقِص
قَالَ وَمِنْهَا أَنه لَا يَصح أَن يُوصف الله أَنه غَفُور حَلِيم عَفْو لِأَن وَصفه بِهَذَا إِنَّمَا يثبت لَو كَانَ مُسْتَحقّا لعقاب الْفُسَّاق بِحَيْثُ إِذا أسْقطه عَنْهُم كَانَ غَفُورًا عفوا وَإِنَّمَا يسْتَحق الْعقَاب إِذا كَانَ الْعِصْيَان من العَبْد لَا من الله
فَنَقُول الْجَواب من وُجُوه
أَحدهَا أَن كثيرا من أهل السّنة يَقُول لَا نسلم أَن وَصفه بِهَذِهِ إِنَّمَا يثبت لَو كَانَ مُسْتَحقّا بل الْوَصْف بهَا يثبت إِذا كَانَ قَادِرًا على الْعقَاب مَعَ قطع النّظر عَن الإستحقاق فيفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُرِيد
الثَّانِي أَن قَول الْقَائِل يسْتَحق الْعقَاب يَعْنِي بِهِ أَن عِقَابه للعصاة عدل مِنْهُ أَو يَعْنِي بِهِ أَنه مُحْتَاج إِلَى ذَلِك
أما الأول فمتفق عَلَيْهِ فعفوه ومغفرته بِفضل وإحسان مِنْهُ وَهَذَا يَقُول بِهِ من يَقُول إِنَّه خَالق أفعالهم والقائلون بِأَنَّهَا أَفعَال لَهُ كسب لَهُم متفقون على أَن الْعقَاب عدل مِنْهُ
الثَّالِث أَن يُقَال الْمَغْفِرَة وَالْعَفو وَالرَّحْمَة إِمَّا أَن يُوصف بهَا مَعَ كَون الْعقَاب قبيحا
على قَول من يَقُول بذلك وَإِمَّا أَن لَا يُوصف بهَا إِلَّا إِذا كَانَ الْعقَاب سائغا
فَإِن كَانَ الأول لزم أَن لَا يكون غفارًا لمن تَابَ وآمن وَعمل صَالحا ثمَّ اهْتَدَى لِأَن عِقَاب هَؤُلَاءِ قَبِيح وَالْمَغْفِرَة لَهُم وَاجِبَة عِنْد أهل هَذَا القَوْل وَيلْزم أَن لَا يكون رحِيما وَلَا غَفُورًا للأنبياء وَيلْزم أَن لَا يكون رحِيما غَفُورًا لمن ظلم ثمَّ بدل حسنا بعد سوء
وَقد ثَبت أَنه غفار للتوابين رَحِيم بِالْمُؤْمِنِينَ فَعلم أَنه مَوْصُوف بالمغفرة وَالرَّحْمَة مُطلقًا
الرَّابِع أَن الْعِصْيَان من العَبْد بِمَعْنى أَنه فَاعله عِنْد الْأَكْثَر وَبِمَعْنى أَنه كاسبه عِنْد الْبَعْض
وَبِهَذَا القَوْل يسْتَحق الْآدَمِيّ أَن يُعَاقب الظَّالِم فإستحقاق الله عِقَاب الظَّالِم أولى بذلك
وَأما كَونه خَالِقًا لذَلِك فَذَاك أَمر يعود إِلَيْهِ وَله فِيهِ حِكْمَة عِنْد الْجُمْهُور الْقَائِلين بالحكمة أَو لمحض الْمَشِيئَة عِنْد من لَا يُعلل بالحكمة
قَالَ وَمِنْهَا أَنه يلْزم تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق لِأَنَّهُ تَكْلِيف الْكَافِر بِالْإِيمَان وَلَا قدرَة لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَبِيح عقلا وَقَالَ تَعَالَى {لَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا} فَالْجَوَاب أَن المثبتين للقدر لَهُم فِي قدرَة العَبْد قَولَانِ أَحدهمَا أَن قدرته لَا تكون إِلَّا مَعَ الْفِعْل وعَلى هَذَا فالكافر الَّذِي قد سبق فِي علم الله أَنه لَا يُؤمن لَا يقدر على الْإِيمَان أبدا
الثَّانِي أَن الْقُدْرَة الْمَشْرُوطَة فِي التَّكْلِيف تكون قبل الْفِعْل وبدونه وَإِلَى حِين وُقُوعه
وَالْقُدْرَة المستلزمة للْفِعْل فَلَا بُد أَن تكون مَعَه
وأصل قَوْلهم أَن الله خص الْمُؤمن بِنِعْمَة يَهْتَدِي بهَا لم يُعْطهَا الْكَافِر وَأَن العَبْد لَا بُد أَن يكون قَادِرًا حِين الْفِعْل خلافًا لمن زعم أَنه لَا يكون قَادِرًا إِلَّا قبل الْفِعْل وَأَن النِّعْمَة على الْكَافِر وَالْمُؤمن سَوَاء إِلَى أَن قَالَ وعَلى قَول جُمْهُور السّنة الْقَائِلين بِأَن الْكَافِر يقدر على الْإِيمَان يبطل
هَذَا الْإِيرَاد وعَلى قَول الآخرين فيلتزمونه
وَأي الْقَوْلَيْنِ كَانَ الصَّوَاب فَهُوَ غير خَارج عَن أَقْوَال أهل السّنة
وَأَيْضًا فتكليف مَا لَا يُطَاق كتكليف الزَّمن الْمَشْي وتكليف الْآدَمِيّ الطيران فَغير وَاقع فِي الشَّرِيعَة عِنْد جَمَاهِير أهل السّنة المثبتين للقدر وَلَيْسَ فِيمَا ذكره مَا يَقْتَضِي لُزُوم وُقُوع هَذَا
وَأما مَا لَا يُطَاق للإشتغال بضده كإشتغال الْكَافِر بالْكفْر الصَّاد عَن الْإِيمَان وكالقاعد فِي حَال قعوده فَإِن إشتغاله بالقعود يمْنَع أَن يكون قَائِما والإرادة الجازمة لأحد الضدين تنَافِي إِرَادَة الآخر وتكليف الْكَافِر الْإِيمَان من هَذَا الْبَاب وَمثل هَذَا لَا نسلم أَنه قَبِيح عقلا بل الْعُقَلَاء متفقون على أَن أَمر الْإِنْسَان وَنَهْيه بِمَا لَا يقدر عَلَيْهِ حَال الْأَمر وَالنَّهْي لإشتغاله بضده إِذا أمكن أَن يتْرك ذَلِك الضِّدّ وَيفْعل الْمَأْمُور بِهِ مُمكن سَائِغ
الْخَامِس أَن تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق إِذا فسر بِأَنَّهُ الْفِعْل الَّذِي لَيْسَ لَهُ قدرَة عَلَيْهِ تقارن مقدورها كَانَ دَعْوَى إمتناعه بِهَذَا التَّفْسِير مورد نزاع فَيحْتَاج نَفْيه إِلَى دَلِيل
قَالَ وَمِنْهَا أَن تكون أفعالنا الإختيارية الْوَاقِعَة بِحَسب قصودنا ودواعينا مثل حركتنا يمنة ويسرة كالأفعال الإضطرارية مثل حَرَكَة النبض وحركة الْوَاقِع من شَاهِق وَالْفرق بَينهمَا ضَرُورِيّ
قُلْنَا هَذَا يلْزم من يَقُول العَبْد لَا قدرَة لَهُ على أَفعاله الإختيارية وَلَيْسَ هَذَا قَول إِمَام مَعْرُوف وَلَا طَائِفَة من السّنة والمثبتة للقدر إِلَّا مَا يحْكى عَن الجهم بن صَفْوَان وغلاة المثبتة أَنهم سلبوا العَبْد قدرته وَقَالُوا حركته كحركة الْأَشْجَار
وَأَشد الطوائف قربا من هَؤُلَاءِ الْأَشْعَرِيّ وَهُوَ مَعَ هَذَا يثبت للْعَبد قدرَة محدثة وَيَقُول الْفِعْل كسب العَبْد لكنه يَقُول لَا تَأْثِير لقدرته فِي إِيجَاد الْمَقْدُور
فَمَا أثْبته من الْكسْب لَا يعقل
وَنحن لَا ننكر أَن بعض أهل السّنة قد يخطيء لَكِن لَا يتفقون على الْخَطَأ كَمَا تتفق الإمامية على الْخَطَأ بل كل مَسْأَلَة خَالَفت فِيهَا الإمامية أهل السّنة فَالصَّوَاب فِيهَا مَعَ أهل السّنة
فالجمهور على أَن العَبْد لَهُ قدرَة حَقِيقَة وَهُوَ فَاعل حَقِيقَة وَالله خَالق فعله لقَوْله تَعَالَى {خَالق كل شَيْء} وَقَالَ تَعَالَى عَن إِبْرَاهِيم {رَبنَا واجعلنا مُسلمين لَك} وَقَالَ {رب اجْعَلنِي مُقيم الصَّلَاة وَمن ذريتي} وَقَالَ تَعَالَى {وجعلناهم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا} وَقَالَ {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْن مَا كنت} وَقَالَ {وجعلناهم أَئِمَّة يدعونَ إِلَى النَّار} وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} أثبت مَشِيئَة العَبْد وَأخْبر أَنَّهَا لَا تكون إِلَّا بِمَشِيئَة الرب تَعَالَى وَقد أخبر أَن الْعباد يَفْعَلُونَ ويعملون ويؤمنون ويكفرون ويصدقون ويكذبون فِي مَوَاضِع جمة وَأَن لَهُم قُوَّة واستطاعة
وشناعاته تلْزم من لَا يفرق بَين فعل الرب ومفعوله أَو يَقُول إِن أَفعَال الْعباد فعل الله أَو يَقُول لَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَات قوى وَلَا طبائع وَقد دلّت النُّصُوص على ذَلِك والعقول قَالَ تَعَالَى {سقناه لبلد ميت فأنزلنا بِهِ المَاء فأخرجنا بِهِ من كل الثمرات} وَقَالَ {فأحيا بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا} وَقَالَ تَعَالَى {يهدي بِهِ الله من اتبع رضوانه} وَقَالَ {يضل بِهِ كثيرا وَيهْدِي بِهِ كثيرا} وَقَالَ {أولم يرَوا أَن الله الَّذِي خلقهمْ هُوَ أَشد مِنْهُم قُوَّة} وَقَالَ
{خَلقكُم من ضعف ثمَّ جعل من بعد ضعف قُوَّة} وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لأشج عبد الْقَيْس إِن فِيك لخصلتين يحبهما الله الْحلم والأناة
إِلَى أَن قَالَ شَيخنَا فأفعال الْعباد حَادِثَة بعد أَن لم تكن فَحكمهَا حكم سَائِر الْحَوَادِث وَهِي مُمكنَة من الممكنات فَحكمهَا حكم سَائِر الممكنات فَمَا من دَلِيل اسْتدلَّ بِهِ على أَن بعض
الْحَوَادِث الممكنات مخلوقة لله تَعَالَى إِلَّا وَهُوَ يدل على أَن أفعالنا مخلوقة لله تَعَالَى فَإِنَّهُ قد علم أَن الْمُحدث لَا بُد لَهُ من مُحدث وَهَذِه مُقَدّمَة ضَرُورِيَّة عِنْد الْجُمْهُور وَكَذَلِكَ الْمُمكن لَا بُد لَهُ من مُرَجّح تَامّ فَإِذا كَانَ فعل العَبْد حَادِثا فَلَا بُد لَهُ من مُحدث وَإِذا قيل الْمُحدث هُوَ العَبْد يكون العَبْد صَار مُحدثا لَهُ بعد أَن أم لم يكن فَهُوَ أَيْضا أَمر حَادث فَلَا بُد لَهُ من مُحدث إِذْ لَو كَانَ العَبْد لم يزل مُحدثا لَهُ لزم دوَام ذَلِك الْفِعْل الْحَادِث وَإِذا كَانَ إحداثه لَهُ حَادِثا من فَلَا بُد لَهُ من مُحدث وَإِذا قيل الْمُحدث إِرَادَة العَبْد قيل فإرادته أَيْضا حَادِثَة لَا بُد لَهَا من مُحدث
وَإِن قيل حدثت بِإِرَادَة من العَبْد قيل وَتلك الْإِرَادَة لَا بُد لَهَا أَيْضا من مُحدث فَأَي مُحدث فرضته فِي العَبْد فَالْقَوْل فِيهِ كالقول فِي الْحَادِث الأول
وَإِن جعلته قَدِيما أزليا كَانَ هَذَا مُمْتَنعا لِأَن مَا يقوم بِالْعَبدِ لَا يكون قَدِيما
وَإِن قلت هُوَ وصف العَبْد وَهِي قدرته المخلوقة فِيهِ وَالْقَوْل فِيهَا كالقول فِي الْإِرَادَة فَلَا بُد أَن يكون الْمُرَجح التَّام من الله تَعَالَى
ودقق الْعَلامَة شَيخنَا النّظر هُنَا واستوعب وسَاق تسلسل الْحَوَادِث
قَالَ المُصَنّف وَمِنْهَا أَنه لَا يبْقى فرق بَين من أحسن غَايَة الْإِحْسَان عمره وَبَين من أَسَاءَ غَايَة الْإِسَاءَة عمره وَلم يحسن منا شكر الأول وذم الثَّانِي لِأَن الْفِعْلَيْنِ صادران من الله تَعَالَى
فَيُقَال هَذَا بَاطِل
فَإِن إشتراك الْفِعْلَيْنِ فِي كَون الرب خلقهما لَا يسْتَلْزم إشتراكهما فِي الحكم فَإِن جَمِيع مَا سوى الله مُشْتَرك فِي كَون الله خلقه قَالَ تَعَالَى {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير وَلَا الظُّلُمَات وَلَا النُّور} الْآيَة وَالله خَالق الْجنَّة وَالنَّار وخالق الْعَالم وَالْجَاهِل وخالق الْعَسَل والسم واللذة والألم وخالق آدم وإبليس
وَإِذا كَانَ الشَّرْع وَالْعقل متطابقين على أَن مَا جعل الله فِيهِ مَنْفَعَة ومصلحة يجب مدحه وَإِن كَانَ جمادا فَكيف لَا يكون من جعله محسنا غَايَة الْإِحْسَان إِلَى الْخلق
أَحَق بالمدح
وَكَذَلِكَ فِي جَانب الشَّرّ
والقدري يَقُول لَا يكون العَبْد مَحْمُودًا على إحسانه وَلَا مذموما على إساءته إِلَّا بِشَرْط أَلا يكون الله جعله محسنا إِلَيْنَا وَلَا من بِهِ علينا إِذا فعل الْخَيْر وَلَا ابتلانا بِهِ إِذا فعل الشَّرّ
وَحَقِيقَة قَوْلهم إِنَّه حَيْثُ يشْكر العَبْد لَا يشْكر الرب وَحَيْثُ يشْكر الرب لَا يشْكر العَبْد وَأَنه لَا منَّة لله علينا فِي تَعْلِيم الرَّسُول وتبليغه إِلَيْنَا وَالله تَعَالَى يَقُول {لقد من الله على الْمُؤمنِينَ إِذْ بعث فيهم رَسُولا من أنفسهم} الْآيَة
وَيَقُول لَا تكون لله نعْمَة على عباده بإستغفار الْمَلَائِكَة لَهُم وَتَعْلِيم الْعلمَاء وَعدل الْوُلَاة عَلَيْهِم وَيَقُولُونَ لَا يقدر الله أَن يَجْعَل الْمُلُوك عادلين وَلَا جائرين وَلَا يقدر أَن يصير أحدا محسنا إِلَى أحد وَلَا مسيئا إِلَى أحد وعَلى لَازم قَوْلهم لَا يسْتَحق الله أَن يشْكر بِحَال لِأَن الشُّكْر إِنَّمَا يكون على النعم الدِّينِيَّة أَو الدُّنْيَوِيَّة أَو الأخروية فالدنيوية عِنْدهم وَاجِبَة على الله والدينية فَمَا فعلهَا بِنَا وَلَا يقدر أَن يَجْعَل أحدا مُؤمنا وَلَا يهدي أحدا وَلَا يَجْعَل برا وَلَا تقيا وَلَا يقدره على خير أصلا
وَأما النعم الأخروية فالجزاء وَاجِب عَلَيْهِ
فَالْحَمْد لله الَّذِي هدَانَا للحق وجنبنا هَذِه الضلالات فالمقرون بِالْقدرِ يمدحون المحسن ويذمون الْمُسِيء مَعَ إتفاقهم على أَن الله خَالق الْفِعْلَيْنِ
فَقَوله يلْزمهُم أَن لَا يفرقُوا بَين هَذِه وَهَذَا لُزُوم مَالا يلْزم وَغَايَة الْأَمر أَن يكون الله جعل هَذَا مُسْتَحقّا للمدح وَالثَّوَاب وَهَذَا مُسْتَحقّا للذم وَالْعِقَاب فَإِذا كَانَ كَذَلِك لم يمْتَنع أَن يمدح ذَا ويذم ذَا
قَالَ
وَمِنْهَا التَّقْسِيم الَّذِي ذكره مولَايَ الإِمَام مُوسَى الكاظم وَقد سَأَلَهُ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله تَعَالَى ومُوسَى صبي فَقَالَ الْمعْصِيَة مِمَّن فَقَالَ إِمَّا من العَبْد اَوْ من الله أَو مِنْهُمَا
فَإِن كَانَت من الله قالله أنصف من أَن يظلم عَبده ويؤاخذه بِمَا لَا يفعل
وَإِن كَانَت مِنْهُمَا فَهُوَ شَرِيكه وَالْقَوِي أولى بإنصاف عَبده الضَّعِيف وَإِن كَانَت من العَبْد
وَحده فَعَلَيهِ وَقع الْأَمر وإلبه يتَوَجَّه الذَّم
فَقَالَ أَبُو حنيفَة ذُرِّيَّة بَعْضهَا من بعض فَيُقَال مَا ذكرت بسندها فنعلم صِحَّتهَا ولعلها كذب فَإِن أَبَا حنيفَة مقرّ بِالْقدرِ وَقد رد على الْقَدَرِيَّة فِي الفقة الْأَكْبَر فَكيف يستصوب قَول من يَقُول إِن الله لم يخلق أَفعَال الْعباد ثمَّ مُوسَى بن جَعْفَر وَسَائِر عُلَمَاء أهل الْبَيْت مثبتون الْقدر وَكَذَلِكَ قدماء الشِّيعَة وَإِنَّمَا قَالُوا بِالْقدرِ فِي دولة بني بويه حِين خالطوا الْمُعْتَزلَة
وَأَيْضًا فَهَذَا الْكَلَام المحكي عَن مُوسَى بن جَعْفَر يَقُوله أصاغر الْقَدَرِيَّة وصبيانهم وَهُوَ مَعْرُوف من حِين حدثت الْقَدَرِيَّة قبل أَن يُولد مُوسَى بن جَعْفَر
والقدرية حدثوا زمن ابْن الزبير وَعبد الْملك وَقَول الْقَائِل الْمعْصِيَة مِمَّن لفظ مُجمل فَإِن الْمعْصِيَة وَالطَّاعَة عمل وَعرض قَائِم بِغَيْر فَلَا بُد لَهُ من مَحل يقوم بِهِ وَهِي قَائِمَة بِالْعَبدِ لَا محَالة وَلَيْسَت قَائِمَة بِاللَّه تبارك وتعالى بِلَا ريب
وَمَعْلُوم أَن كل مَخْلُوق يُقَال هُوَ من الله بِمَعْنى أَنه خلقه بَائِنا عَنهُ لَا بِمَعْنى أَنه قَامَ بِهِ واتصف بِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وسخر لكم مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْض جَمِيعًا مِنْهُ} وَقَوله تَعَالَى {وَمَا بكم من نعْمَة فَمن الله}
قَالَ وَمِنْهَا أَنه يلْزم أَن يكون الْكَافِر مُطيعًا بِكُفْرِهِ لِأَنَّهُ فعل مَا هُوَ مُرَاد الله فَهَذَا مَبْنِيّ على أَن الطَّاعَة هَل هِيَ مُوَافقَة لِلْأَمْرِ أَو مُوَافقَة للإرادة وَهِي مَبْنِيَّة على أَن الْأَمر هَل يسْتَلْزم الْإِرَادَة أم لَا وَقد قدمنَا أَن الله خَالق أَفعَال الْعباد بإرادته وَقد يخلق مالم يَأْمر بِهِ
وَأجْمع الْعلمَاء أَن الرجل لَو حلف ليقضينه حَقه فِي غَد إِن شَاءَ الله فَخرج الْغَد وَلم يقضه مَعَ قدرته على الْقَضَاء لم يَحْنَث
وَلَو كَانَت مَشِيئَة الله بِمَعْنى أمره لحنث لِأَنَّهُ مَأْمُور
بذلك وَكَذَلِكَ سَائِر الْحلف على فعل مَأْمُور إِذا علقه بِالْمَشِيئَةِ قَالَ الله تَعَالَى {وَلَو شَاءَ رَبك لآمن من فِي الأَرْض كلهم جَمِيعًا} مَعَ أَنه قدر أَمرهم بِالْإِيمَان فَعلم أَن الْأَمر غير الْمَشِيئَة
كَذَلِك قَوْله {وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا} دَلِيل على أَنه أَرَادَ إضلاله وَهُوَ لم يَأْمُرهُ بالضلالة
وَقد ذكرنَا أَن الْإِرَادَة وَردت بمعنيين إِرَادَة قدرية وَإِرَادَة شَرْعِيَّة فَهَذِهِ متضمنة للمحبة وَالرِّضَا لَا الأولى
قَالَ وَمِنْهَا أَنه يلْزم نِسْبَة السَّفه إِلَيْهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَأْمر الْكَافِر بِالْإِيمَان وَلَا يُريدهُ مِنْهُ
قُلْنَا قد قَررنَا أَن الْإِرَادَة نَوْعَانِ إِرَادَة الْخلق وَإِرَادَة الْأَمر
قَالَ وَمِنْهَا أَنه يلْزم أَن نستعيذ بإبليس من الله وَلَا يحسن قَوْله تَعَالَى {فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان} لأنههم نزهوا إِبْلِيس وَالْكَافِر عَن الْمعاصِي وأضافوها إِلَى الله فَيكون شرا على عَبده من إِبْلِيس
تَعَالَى الله عَن ذَلِك
فَيُقَال
هَذَا كَلَام سَاقِط فإمَّا أَن يكون لأبليس فعل أَو لَا فَإِن لم يكن لَهُ فعل امْتنع أَن يستعاذ بِهِ فَإِنَّهُ لَا يفعل شَيْئا فَلَا يعيذ حِينَئِذٍ أحدا وَإِن كَانَ لَهُ فعل بَطل تنزيهه عَن الْمعاصِي فَسقط الإعتراض بِهِ على قَول من أثبت الْقدر أَو نَفَاهُ
وَيُقَال إِنَّمَا تحسن الإستعاذة بإبليس لَو كَانَ يُمكنهُ أَن يعيذهم من الله سَوَاء كَانَ الله خَالِقًا لأفعال الْعباد أَو لَا وَهَؤُلَاء الْقَدَرِيَّة كالمصنف وَأَمْثَاله مَعَ قَوْلهم إِن إِبْلِيس يفعل مَا لَا يقدره الله وَيفْعل بِغَيْر إِرَادَة الله وَأَن الله لَا يقدر على أَن يُغير أحدا من عمل إِلَى عمل لَا من خير إِلَى شَرّ وَلَا من شَرّ إِلَى خير وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه كَانَ يَقُول أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عُقُوبَتك وبل وَبِك مِنْك فاستعاذ بِبَعْض صِفَاته
وأفعاله من بعض حَتَّى استعاذ بِهِ مِنْهُ فَكيف يمْتَنع أَن يستعاذ بِهِ من بعض مخلوقاته ثمَّ أهل السّنة لَا يُنكرُونَ أَن يكون دُعَاء العَبْد لرَبه وإستعاذته بِهِ سَببا لنيل الْمَطْلُوب وَدفع المرهوب وَالله أرْحم لِعِبَادِهِ من الوالدة بِوَلَدِهَا فيستعاذ بِهِ من شَرّ أَسبَاب الشَّرّ الَّتِي قَضَاهَا بِحِكْمَتِهِ
فَمن قَالَ بالحكمة وَالْعلَّة يَقُولُونَ خلق إِبْلِيس كَمَا خلق الْحَيَّات والعقارب وَالنَّار لما فِي خلقه ذَلِك من الْحِكْمَة وامرنا أَن ندفع الضَّرَر عَنَّا بِكُل مَا نقدر عَلَيْهِ وَمن أعظم الْأَسْبَاب إستعاذتنا بِهِ حِكْمَة وَرَحْمَة
وَمن لَا يَقُول بِالْعِلَّةِ وَالْحكمَة فَإِنَّهُ يَقُول خلق إِبْلِيس الضار لِعِبَادِهِ وَجعل إستعاذتنا طَرِيقا إِلَى دفع ضَرَره كَمَا جعل إطفاء النَّار طَرِيقا إِلَى دفع حريقها والترياق طَرِيقا إِلَى دفع السم فَهُوَ خَالق النافع والضار وأمرنا بِمَا ينفعنا ثمَّ إِن أعاننا كَانَ محسنا وَإِلَّا فَلهُ أَن يفعل مَا شَاءَ
وَقَوله نزهوا إِبْلِيس وَالْكَافِر من الْمعاصِي فَهَذَا فِرْيَة فَإِنَّهُم متفقون على أَن العَاصِي هُوَ المتصف بالمعصية والمذموم عَلَيْهَا وَأَن الْأَفْعَال يُوصف بهَا من قَامَت بِهِ لَا من خلقهَا وَأَن إِضَافَة الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف بهَا الَّذِي قَامَت بِهِ من إِضَافَة الْمَخْلُوق إِلَى خالقه
ثمَّ أَخذ القدري يسهب فِي هذيانه وغيه فَقَالَ وَمِنْهَا أَنه لَا يبقي وثوق بوعد الله ووعيده لأَنهم جوزوا إِسْنَاد الْكَذِب فِي الْعَالم إِلَيْهِ فَجَاز أَن يكذب فِي إخباراته كلهَا فتنتفي فَائِدَة بعثة الرُّسُل
قلت الْفرق بَين الْخَالِق وَبني الْفَاعِل مَعْلُوم بَين الْعُقَلَاء فَإِذا خلق الله لغيره حَرَكَة لم يكن هُوَ المتحرك وَإِذا خلق للرعد صَوتا لم يكن هُوَ المصوت وَإِذا خلق الألوان فِي النَّبَات وَالْحَيَوَان لم يكن هُوَ المتصف بِتِلْكَ الألوان وَإِذا خلق فِي غَيره علما وحياة وقدرة لم تكن تِلْكَ الْمَخْلُوقَات فِي غَيره صِفَات لَهُ وَإِذا خلق فِي غَيره عمى وصمما لم يكن هُوَ الْمَوْصُوف بالعمى والصمم وَإِذا خلق فِي غَيره صوما وطوافا وخشوعا لم يكن هُوَ الصَّائِم وَلَا الطَّائِف وَلَا الخاشع
أما قَوْله تَعَالَى (وَمَا رميت إِذْ رميت وَلَكِن الله رمى) مَعْنَاهُ مَا أصبت إِذْ حذفت وَلَكِن
الله هُوَ الَّذِي أصَاب فَمِنْهُ الْحَذف بِالْيَدِ وَمن من الله الإيصال إِلَى الْعَدو كلهم وَلَيْسَ المُرَاد بذلك مَا يَظُنّهُ بعض النَّاس أَنه لما خلق الرَّامِي وَالرَّمْي كَانَ هُوَ الرَّامِي فِي الْحَقِيقَة فَإِن ذَلِك لَو صَار فِي كل فعل لَكُنْت تَقول مَا مشيت إِذْ مشيت وَلَكِن الله مَشى وَمَا ركبت إِذْ ركبت وَلَكِن الله ركب وَمَا لَا نِهَايَة لَهُ وَبطلَان ذَلِك مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ وَلِهَذَا يرْوى أَن عُثْمَان كَانُوا يرمونه بِالْحِجَارَةِ لما حصر فَقَالَ
علام ترمونني فَقَالُوا مَا رميناك وَلَكِن الله رماك فَقَالَ إِن الله لَو رماني لأصابني وَلَكِن أَنْتُم ترمونني فتخطئونني
الْوَجْه الآخر أَنهم يجوزون أَنه تَعَالَى يخلق الْقُدْرَة على الْكَذِب مَعَ علمه بِأَن صَاحبهَا يكذب وَكَذَا الْقُدْرَة على الظُّلم وَالْفُحْش
وَمَعْلُوم أَن الْوَاحِد منا يجْرِي تَمْكِينه من القبائح وإعانته عَلَيْهَا مجْرى فعله لَهَا فَمن أعَان غَيره على الْكَذِب وَالظُّلم كَانَ الْفَاعِل قَالَ تَعَالَى {وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} فَإِن قَالُوا إِنَّمَا أعطَاهُ الْقُدْرَة ليطيع لَا ليعصي قيل إِذا كَانَ عَالما بِأَنَّهُ يَعْصِي كَانَ بِمَنْزِلَة من أعْطى آخر سَيْفا لِيُقَاتل بِهِ الْكفَّار مَعَ علمه بِأَنَّهُ يقتل نَبيا وَهَذَا لَا يجوز فِي حَقنا فتعالى الله عَن ذَلِك
الثَّالِث أَن يُقَال لَيْسَ كل مَا كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ وَهُوَ مُمكن نشك فِي وُقُوعه بل نعلم أَنه لَا يفعل أَشْيَاء مَعَ أَنه قَادر عَلَيْهَا وَهِي مُمكنَة فَلَا يقلب الْبَحْر زئبقا وَالْجِبَال ياقوتا وَعلمنَا بِأَنَّهُ تَعَالَى منزه عَن الْكَذِب وَأَنه مُمْتَنع عَلَيْهِ قطعا
الرَّابِع نَحن نعلم بِأَنَّهُ مَوْصُوف بِصِفَات الْكَمَال وَأَن كل كَمَال ثَبت لموجود فَهُوَ أَحَق بِهِ وكل نقص منزه عَنهُ
ونعلم أَن الْحَيَاة وَالْعلم وَالْقُدْرَة صِفَات كَمَال فَهُوَ أَحَق بهَا وَكَذَلِكَ الصدْق كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمن أصدق من الله حَدِيثا} وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن أصدق الْكَلَام كَلَام الله
الْخَامِس أَن كَلَامه قَائِم بِذَاتِهِ غيرمخلوق عِنْد أهل السّنة فَإِن الْكَلَام صفة
كَمَال فَلَا بُد أَن يَتَّصِف بهَا سَوَاء قَالُوا إِنَّه لَا يتَعَلَّق بمشيئته وَقدرته وَهُوَ معنى قَائِم بِالنَّفسِ أَو حُرُوف اَوْ أصوات قديمَة أَو قَالُوا إِنَّه مُتَعَلق بمشيئته وَأَنه تكلم بعد أَن لم يكن متكلما أَو أَنه لم يزل متكلما إِذا شَاءَ
وَالْكذب صفة نقص كالصمم والبكم والعمى وَمَعَ أَنه يخلق خلقه متصفين بذلك وَلَا يقوم بِهِ فَكَذَلِك يخلق الْكَذِب فِي الْكَاذِب وَلَا يقوم بِهِ
السَّادِس أَن هَذَا السُّؤَال وَارِد عَلَيْكُم فَإِنَّكُم تَقولُونَ يخلق فِي غَيره كلَاما يكون كَلَامه مَعَ كَونه قَائِما بِغَيْرِهِ وَهُوَ مَخْلُوق وَأَن الْكَلَام الَّذِي يتَكَلَّم بِهِ الْعباد لَيْسَ هُوَ كَلَامه وَلَا مخلوقا لَهُ فَإِذا كَانَ هَذَا صدقا وَهَذَا صدقا فَلَا بُد أَن يعترفوا أَن هَذَا كَلَامه وَهَذَا لَيْسَ بِكَلَامِهِ
وقولك وَجَاز إرْسَال الْكذَّاب فَنَقُول لَا ريب أَن الله يُرْسل الْكذَّاب كَقَوْلِه {ألم تَرَ أَنا أرسلنَا الشَّيَاطِين على الْكَافرين تؤزهم أزا} وَكَقَوْلِه {بعثنَا عَلَيْكُم عبادا لنا} لَكِن لَا يكون ذَا إِلَّا مَقْرُونا بِمَا يبين كذبهمْ كَمَا فِي مثل مُسَيْلمَة وَالْأسود الْعَنسِي وَلَيْسَ فِي إرسالهم مَا يمْنَع التَّمْيِيز بَين الصَّادِق والكاذب
وَإِذا خلق من يَدعِي النُّبُوَّة وَهُوَ كَاذِب فَإِن قَالُوا يجوز إِظْهَار أَعْلَام الصدْق عَلَيْهِ كَانَ هَذَا مَمْنُوعًا وَهُوَ بَاطِل بالإتفاق وَإِن قَالُوا لَا لم يكن مُجَرّد إدعاء النُّبُوَّة بِلَا علم على الصدْق ضارا فَإِن مدعي الطِّبّ أَو أَنه صانع بِلَا علم يدل على صدقه لم يلْتَفت إِلَيْهِ فَكيف مدعي النُّبُوَّة
وَإِن قَالُوا إِذا جوزتم عَلَيْهِ أَن يخلق الْكَذِب فِي الْكذَّاب فجوزوا عَلَيْهِ أَن يظْهر على يَدَيْهِ أَعْلَام الصدْق قيل هَذَا مُمْتَنع
لِأَن أَدِلَّة الصدْق تَسْتَلْزِم الصدْق إِذْ الدَّلِيل مُسْتَلْزم للمدلول وَإِظْهَار أَعْلَام الصدْق على الْكذَّاب مُمْتَنع لذاته
وَإِن قَالُوا جوزوا أَن يظْهر على يَدَيْهِ خارق قُلْنَا نعم فَنحْن نجوز ذَلِك لمُدعِي الإلهية كالدجال وَيجوز الخارق لمُدعِي النُّبُوَّة لَكِن على وَجه لَا يدل على صدقه كالساحر والكاهن
السَّابِع أَن دَلَائِل النُّبُوَّة وَمَا بِهِ يعرف صدق النَّبِي لم يتخصص فِي الخوارق بل يتنوع كَمَا تتنوع معرفَة الْكَذِب
قَالَ وَمِنْهَا أَنه يلْزم تَعْطِيل الْحُدُود والزواجر عَن الْمعاصِي فَإِن الزِّنَا إِذا كَانَ وَاقعا بِإِرَادَة الله وَالسَّرِقَة إِذا صدرت عَن الله وإرادته هِيَ المؤثرة لم يجز للسُّلْطَان الْمُؤَاخَذَة عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يصد السَّارِق عَن مُرَاد الله فَلَو صد أَحَدنَا عَن مُرَاده لتألم وَيلْزم أَن يكون الرب مرِيدا للنقيضين لِأَن الْمعْصِيَة مُرَادة لَهُ والزجر عَنْهَا مُرَاد لَهُ
قُلْنَا قد مر مَا يبين هَذَا
ونقول مَا قدره وقضاه من ذَلِك هُوَ مَا وَقع دون مَا لم يكن وَمَا وَقع لم يقدر أحد أَن يردهُ وَإِنَّمَا يرد بالحدود والزواجر مَا لم يَقع بعد
فَمَا شَاءَ الله كَانَ وَمَا لم يَشَأْ لم يكن
فقولك يصد السَّارِق عَن مُرَاد الله كذب لِأَنَّهُ إِنَّمَا يصده عَمَّا لم يَقع وَمَا لم يَقع يردهُ الله
وَلِهَذَا لَو حلف ليسرقن هَذَا المَال إِن شَاءَ الله وَلم يسرقه لم يَحْنَث بِالْإِجْمَاع لِأَن الله لم يَشَأْ سَرقته
وَلَكِن الْقَدَرِيَّة لَا تكون عِنْدهم الْإِرَادَة إِلَّا بِمَعْنى الْأَمر فيزعمون أَن السّرقَة إِذا كَانَت مُرَادة كَانَت مَأْمُورا بهَا
وَقد تَيَقنا أَن الله لم يَأْمر بِالسَّرقَةِ وَمن قَالَ أَمر بهَا فقد كفر
وَأَيْضًا فَإِن من الْمَقْدُور بالإتفاق مَا يحسن رده وزواله كالمرض فَإِنَّهُ من فعل الله وَيحسن بِنَا دَفعه بالدتاوي والإجتناب لأسبابه فَفِي هَذَا إِزَالَة لمراد الله وَكَذَا إطفاء النَّار الَّتِي تُرِيدُ أَن تحرق وَإِقَامَة الْجِدَار الَّذِي يُرِيد أَن يَقع وَكَذَا رد الْبرد بالدفء وَالْحر بالظل فَيدْفَع مُرَاد بِمُرَاد وَالْكل من قدر الله وَقد قيل للنَّبِي صلى الله عليه وسلم أَرَأَيْت أدوية نتداوى بهَا
ورقي نسترقي بهَا وتقاة نتقيها هَل ترد من قدر الله شَيْئا قَالَ هِيَ من قدر الله وَقَالَ تَعَالَى (لَهُ مُعَقِّبَات من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله)
وقولك يلْزم أَن يكون مرِيدا للنقيضين كَلَام سَاقِط فَإِن النقيضين مَا لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَا يرتفعان أَو مَا لَا يَجْتَمِعَانِ وهما المتضادان
والزجر لَيْسَ عَمَّا وَقع وَأُرِيد بل عُقُوبَة على الْمَاضِي وزجر عَن الْمُسْتَقْبل
والزجر الْوَاقِع بإرادته إِن حصل مَقْصُوده لم يحصل المزجور عَنهُ فَلم يردهُ فَيكون المُرَاد الزّجر فَقَط وَإِن لم يحصل مَقْصُوده لم يكن زجرا تَاما بل يكون المُرَاد فعل هَذَا الزّجر وَفعل ذَاك كَمَا يُرَاد ضرب هَذَا لهَذَا بِالسَّيْفِ وحياة هَذَا وكما يُرَاد الْمَرَض الْمخوف الَّذِي قد يكون سَببا للْمَوْت وَيُرَاد مَعَه الْحَيَاة
قَالَ وَمِنْهَا قد تقدم بِالضَّرُورَةِ إستناد أفعالنا إِلَيْنَا ووقوعها بِحَسب إرادتنا فَإِذا أردنَا الْحَرَكَة يمنة لم تقع يسرة وَبِالْعَكْسِ وَالشَّكّ فِي ذَلِك سفسطة
فَيُقَال جُمْهُور أهل السّنة قَائِلُونَ بِهَذَا فَإِن أفعالنا مستندة إِلَيْنَا وَنحن محدثون لَهَا والنصوص بذلك كَثِيرَة فِي الْقُرْآن
فَاعْلَم أَن كَون العَبْد مرِيدا فَاعِلا بعد أَن لم يكن مرِيدا فَاعِلا أَمر حَادث فإمَّا أَن يكون لَهُ مُحدث أَو لَا فَإِن لم يكن لَهُ مُحدث لزم حُدُوث الْحَوَادِث بِلَا مُحدث وَإِن كَانَ لَهُ مُحدث فإمَّا أَن يكون العَبْد أَو الله فَإِن كَانَ العَبْد فَالْقَوْل فِي إحداثه لتِلْك الفاعلية كالقول فِي إحداثها وَيلْزم التسلسل وَهُوَ هُنَا بَاطِل لِأَن العَبْد كَانَ بعد أَن لم يكن فَيمْتَنع أَن تقوم بِهِ حوادث لَا أول لَهَا فَتعين أَن يكون الله هُوَ الْخَالِق لكَون العَبْد مرِيدا فَاعِلا فَأهل السّنة يَقُولُونَ بِهَذَا الْعلم الضَّرُورِيّ فَيَقُولُونَ العَبْد فَاعل وَالله خلقه فَاعِلا
وَإنَّهُ مُرِيد وَالله خلقه مرِيدا
قَالَ تَعَالَى {وَمَا تشاؤون إِلَّا أَن يَشَاء الله} وَقَالَ {رب اجْعَلنِي مُقيم الصَّلَاة}
فإرادة العَبْد ثَابِتَة لَكِن لَا تُوجد إِلَّا بِمَشِيئَة الله
وَمن زعم أَن الْإِرَادَة لَا تعلل كَانَ قَوْله لَا حَقِيقَة لَهُ لِأَن الْإِرَادَة أَمر حَادث فَلَا بُد لَهُ من مُحدث
وَقَالُوا إِن الْبَارِي يحدث إِرَادَة لَا فِي مَحل بِلَا سَبَب اقْتضى حدوثها وَلَا إِرَادَة فارتكبوا ثَلَاث محالات حُدُوث حَادث بِلَا إِرَادَة من الله وحدوث
حَادث بِلَا سَبَب حدث وَقيام الصّفة بِنَفسِهَا لَا فِي مَحل
فَإِن قيل كَيفَ يكون الله مُحدثا لَهَا وَالْعَبْد مُحدث لَهَا قيل إِحْدَاث الله لَهَا هُوَ خلقهَا فَيصير العَبْد فَاعِلا لَهَا بقدرته ومشيئته الَّتِي خلقت فِيهِ وكل من الإحداثين مُسْتَلْزم للْآخر فخلق الرب لفعل العَبْد يسْتَلْزم وجود الْفِعْل وَكَون العَبْد فَاعِلا لَهُ بعد أَن لم يكن يسْتَلْزم كَون الرب خَالِقًا لَهُ
قَالَ الإمامي وَالْقُرْآن مَمْلُوء من إِسْنَاد أَفعَال الْبشر إِلَيْهِم كَقَوْلِه {ادخُلُوا الْجنَّة بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} {من عمل صَالحا فلنفسه وَمن أَسَاءَ فعلَيْهَا} وَذكر آيَات
قُلْنَا هَذَا كُله حق وَالْقُرْآن أَيْضا مشحون بِمَا يدل على أَن أفعالنا حَادِثَة بِمَشِيئَة الله كَقَوْلِه (وَلَو شَاءَ الله مَا اقْتَتَلُوا)(وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا)(فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره)
فَلَا يجوز أَن تؤمن بِبَعْض الْكتاب وتكفر بِبَعْض وَلَو كَانَت الْمَشِيئَة بِمَعْنى الْأَمر لحنث من حلف وَقَالَ إِن شَاءَ الله وَقَالَ تَعَالَى (يضل بِهِ كثيرا وَيهْدِي بِهِ كثيرا)(وَاعْلَمُوا أَن الله يحول بَين الْمَرْء وَقَلبه)
قَالَ الإمامي فَقَالَ الْخصم الْقَادِر يمْتَنع أَن يرجح أحد مقدوريه من غير مُرَجّح وَمَعَ التَّرْجِيح يجب الْفِعْل فَلَا قدرَة
وَلِأَنَّهُ يلْزم أَن يكون الْإِنْسَان شَرِيكا لله وَلقَوْله (وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ)
فَقُلْنَا الْجَواب عَن الأول لمعارضة بِاللَّه فَإِنَّهُ قَادر فَإِن افْتَقَرت الْقُدْرَة إِلَى الْمُرَجح وَكَانَ الْمُرَجح مُوجبا للأثر لزم أَن يكون الله مُوجبا لَا مُخْتَارًا فليزم الْكفْر
وَالْجَوَاب عَن الثَّانِي أَي شركَة هُنَا وَالله هُوَ الْقَادِر على قهر العَبْد وإعدامه
وَالْجَوَاب عَن قَوْله تَعَالَى (وَالله خَلقكُم) أَنَّهَا إِشَارَة إِلَى الْأَصْنَام الَّتِي كَانُوا ينحتونها فَأنْكر عَلَيْهِم فَقَالَ
(أتعبدون مَا تنحتون وَالله خَلقكُم وَمَا تَعْمَلُونَ)
قَالَ شَيخنَا ابْن تَيْمِية رَحمَه الله تَعَالَى لم يذكر من ادلة أهل الْإِثْبَات إِلَّا يَسِيرا وَمَعَ هَذَا فالأدلة الثَّلَاثَة لَيْسَ لَهُم عَنْهَا جَوَاب صَحِيح
أما الأول فَإِن الْمُسْتَدلّ بذلك الدَّلِيل لَا يَقُول إِذا وَجب الْفِعْل فَلَا قدرَة فَإِن عَامَّة أهل السّنة يَقُولُونَ إِن العَبْد لَهُ قدرَة حَتَّى الجبرية لَكِن يَقُولُونَ لَا تَأْثِير لَهَا
وَقد مر أَن لَهَا تَأْثِيرا من جنس تَأْثِير الْأَسْبَاب فِي مسبباتها لَيْسَ لَهَا تَأْثِير الْخلق والإبداع
وَيُوجب هَذَا الدَّلِيل أَن الْقَادِر يمْتَنع أَن يرجح مقدوره إِلَّا بمرجح وَذَلِكَ الْمُرَجح لَا يكون من العَبْد فَتعين أَن يكون من الرب وَعند وجود الْمُرَجح التَّام يجب وجود الْفِعْل وَيمْتَنع عَدمه فَإِنَّهُ إِذا كَانَ بعد وجود الْمُرَجح يُمكن وجود الْفِعْل وَعَدَمه كَمَا كَانَ قبل الْمُرَجح كَانَ مُمكنا والممكن لَا يتَرَجَّح وجوده على عَدمه إِلَّا بمرجح تَامّ
وَأما مُعَارضَة ذَلِك بِفعل الله فَالْجَوَاب أَن هَذَا برهَان عَقْلِي يقيني واليقينيات لَا تعَارض وَلَا يُوجد لَهَا معَارض وَأَيْضًا فَإِن قدرَة الرب تفْتَقر إِلَى مُرَجّح لَكِن الْمُرَجح هُوَ إِرَادَة الله وَإِرَادَة الله لَا يجوز أَن تكون من غَيره بِخِلَاف إِرَادَة العَبْد
وَإِذا كَانَ الْمُرَجح إِرَادَة الله كَانَ فَاعِلا بإختياره لَا مُوجبا بِذَاتِهِ بِدُونِ إختياره وَحِينَئِذٍ فَلَا يلْزم الْكفْر ثمَّ نقُول مَا تَعْنِي بِقَوْلِك يلْزم أَن يكون الله مُوجبا بِذَاتِهِ أتعني بذلك أَن يكون مُوجبا للأثر بِلَا قدرَة وَلَا إِرَادَة أَو تَعْنِي بِهِ أَن يكون الْأَثر وَاجِبا عِنْد وجود الْمُرَجح الَّذِي هُوَ الْإِرَادَة مثلا مَعَ الْقُدْرَة فَإِن عنيت الأول لم نسلم التلازم فَإِن الْفَرْض أَنه قَادر وَأَنه مُرَجّح بمرجح
فَهُنَا شَيْئَانِ قدرَة وامر آخر وَقد فسرنا ذَلِك بالإرادة فَكيف يُقَال إِنَّه مُرَجّح بِلَا قدرَة وَلَا إِرَادَة
وَإِن أردْت أَنه يجب وجود الْأَثر إِذا حصلت الْإِرَادَة مَعَ الْقُدْرَة فَهَذَا حق وَهُوَ مَذْهَب الْمُسلمين فَمَا شَاءَ الله وجوده وَجب وجوده بمشيئته وَقدرته
وَمَا لم يَشَأْ وجوده إمتنع وجوده لعدم مَشِيئَته وَقدرته
فَالْأول وَاجِب بِالْمَشِيئَةِ وَالثَّانِي مُمْتَنع لعدمها
وَأما مَا يَقُوله الْقَدَرِيَّة من أَن الله يَشَاء مَا لَا يكون وَيكون مَا لَا يَشَاء فَهَذَا ضلال فَإِذا أَرَادَ حُدُوث مَقْدُور فإمَّا أَن يجب وجوده أَو لَا فَإِن وَجب حصل الْمَطْلُوب وَتبين وجود الْأَثر عِنْد الْمُرَجح وَسَوَاء سميت ذَا مُوجبا بِالذَّاتِ أَو لم تسمه
وَإِن لم يجب وجوده كَانَ مُمكنا قَابلا للوجود والعدم فَلَا بُد لَهُ من مُرَجّح وَهَكَذَا هَلُمَّ جرا
ثمَّ نقُول مَا ذكرته من الْحجَّة الْعَقْلِيَّة وَهُوَ إستناد أفعالنا الإختيارية إِلَيْنَا ووقوعها بِحَسب إختيارنا معَارض بِمَا لَيْسَ من أفعالنا كاللون فَإِن الْإِنْسَان يحصل اللَّوْن الَّذِي يُرِيد حُصُوله فِي الثَّوْب بِحَسب إختياره وَهُوَ مُسْتَند إِلَى صَنعته وَمَعَ هَذَا فَلَيْسَ اللَّوْن مَفْعُولا لَهُ
وَأَيْضًا فَمَا ينْبت من الزَّرْع وَالشَّجر قد يحصل بِحَسب إختياره وَهُوَ مُسْتَند إِلَى إزدراعه وَلَيْسَ الإنبات من فعله
فَلَيْسَ كل مَا اسْتندَ إِلَى العَبْد وَوَقع بِحَسب إختياره كَانَ مَفْعُولا لَهُ
وَهَذِه مُعَارضَة عقلية
وَأما قَوْله أَي شركَة هَا هُنَا فَيُقَال إِذا كَانَت الْحَوَادِث حَادِثَة بِغَيْر فعل الله وَلَا قدرته فَهَذِهِ مُشَاركَة لله صَرِيحَة وَلِهَذَا شبه هَؤُلَاءِ بالمجوس الَّذين يجْعَلُونَ فَاعل الشَّرّ غير فَاعل الْخَيْر فيجعلون لله شَرِيكا آخر وَلِهَذَا قَالَ ابْن عَبَّاس الْإِيمَان بِالْقدرِ نظام التَّوْحِيد وَقَول الْقَدَرِيَّة يتَضَمَّن الْإِشْرَاك والتعطيل فَإِنَّهُ يتَضَمَّن إِخْرَاج بعض الْحَوَادِث عَن أَن يكون لَهَا فَاعل ويتضمن إِثْبَات فَاعل مُسْتَقل غير الله وَهَاتَانِ شعبتان من شعب الْكفْر فَإِن أصل كل كفر التعطيل والشرك وَهَذَا كَمَا تَقول الفلاسفة من أَن الأفلاك تفعل بطرِيق الإستقلال وَأَنَّهَا هِيَ المحدثة للحوادث الَّتِي فِي الأَرْض
وَالْعجب إنكارهم على الْقَدَرِيَّة قَوْلهم مَا زَالَ الرب عاطلا عَن الْفِعْل حَتَّى أحدث الْعَالم وهم يَقُولُونَ مَا زَالَ وَلَا يزَال معطلا عَن الإحداث بل عَن الْفِعْل فَإِن مَا لزم ذَاته كالعقل والفلك لَيْسَ هُوَ
فِي الْحَقِيقَة فعلا لَهُ إِذْ الْفِعْل لَا يعقل إِلَّا شَيْئا بعد شَيْء فَأَما مَا لزم الذَّات فَهُوَ من بَاب الصِّفَات كلون الْإِنْسَان وَطوله فَإِنَّهُ يمْتَنع أَن يكون فعلا لَهُ بِخِلَاف حركاته فَإِنَّهَا فعل لَهُ
وَإِن قدر أَنه لم يزل متحركا كَمَا يُقَال فِي نفس الْإِنْسَان أَنَّهَا لم تزل تتحرك من حَال إِلَى حَال وَأَن الْقلب أَشد تقلبا من الْقدر إِذا استجمعت غليانا
فكون الْفَاعِل الَّذِي هُوَ فِي نَفسه يقوم بِهِ فعل يحدث شَيْئا بعد شَيْء مَفْعُولا بِخِلَاف مَا لزمَه لَازم يقارنه فِي الْأَزَل فَهَذَا لَا يعقل أَن يكون مَفْعُولا لَهُ
فَتبين أَنهم فِي الْحَقِيقَة لَا يثبتون للرب فعلا أصلا فهم معطلة حَقًا
وأرسطو وَأَتْبَاعه إِنَّمَا أثبتوا الْعلَّة الأولى من جِهَة كَونهَا عِلّة غائية لحركة الْفلك فَإِن حَرَكَة الْفلك عِنْدهم بالإختيار كحركة الْإِنْسَان فَلَا بُد لَهَا من مُرَاد فَيكون هُوَ مطلوبها فَقَالُوا إِن الْعلَّة الأولى هِيَ الَّتِى يَتَحَرَّك الْفلك لأَجلهَا أَي للتشبيه بهَا
بل غَايَة مَا يثبتونه أَن يكون شرطا فِي وجود الْعَالم فَهِيَ عِلّة لَهُ تحركه كَمَا يُحَرك المعشوق العاشق بِمَنْزِلَة الرجل الَّذِي إشتهى طَعَاما فَمد يَده إِلَيْهِ اَوْ رأى من يحب فَذَلِك المحبوب هُوَ المحرك لكَون المتحرك أحبه
وحيئنذ فَلَا يكونُونَ قد أثبتوا لحركة الْفلك مُحدثا أحدثها غير الْفلك كَمَا لم تثبت الْقَدَرِيَّة لأفعال الْحَيَوَان مُحدثا غير الْحَيَوَان فَلهَذَا كَانَ الْفلك عِنْدهم حَيَوَانا كَبِيرا
فَتبين أَن الفلاسفة قدرية فِي جَمِيع حوادث الْعَالم وَأَنَّهُمْ أصل الشَّرّ وَلِهَذَا يضيفون الْحَوَادِث إِلَى الطبائع الَّتِي فِي الْأَجْسَام كَمَا تَقول الْقَدَرِيَّة فِي الْحَيَوَان وَلَا يثبتون مُحدث الْحَوَادِث وغايتهم أَن جعلُوا الرب شرطا فِي وجود الْعَالم وَمِنْهُم من قَالَ الْفلك وَاجِب الْوُجُود لَكِن أثبتوا عِلّة إِمَّا غائية وَإِمَّا فاعلية وَعند التَّحْقِيق لَا حَقِيقَة لما أثبتوه فهم أَجْهَل النَّاس بِاللَّه
وَمن دخل فِي أهل الْملَل مِنْهُم كالفارابي وَابْن سينا ومُوسَى بن مَيْمُون الْيَهُودِيّ وَيحيى بن عدي النَّصْرَانِي وَمَتى فهم مَعَ إلحادهم أَسد عقلا ونظرا من أرسطو وَأَتْبَاعه الْمَشَّائِينَ
وَدخل بعض المتكلمة مَعَهم فِي الْبَاطِل وَخَرجُوا عَن الْحق كتوحيد الإلهية وَإِثْبَات حقائق أَسمَاء الله وَصِفَاته وَلم يعرفوا من التَّوْحِيد إِلَّا تَوْحِيد الربوبية وَهُوَ الْإِقْرَار بِأَن الله خَالق كل شَيْء وربه وَهَذَا تَوْحِيد أقرّ بِهِ الْمُشْركُونَ قَالَ تَعَالَى (وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلقهمْ ليَقُولن الله) وَقَالَ تَعَالَى (وَمَا يُؤمن أَكْثَرهم بِاللَّه إِلَّا وهم مشركون
وَإِنَّمَا التَّوْحِيد الْمَطْلُوب تَوْحِيد الإلهية المتضمن تَوْحِيد الربوبية وَإِن تَوْحِيد الله أَن يعبد وَحده فَلَا يخَاف إِلَّا هُوَ وَلَا يَدعِي إِلَّا هُوَ
وَالْعِبَادَة تجمع غَايَة الْحبّ والذل والتوحيد يتَضَمَّن إِثْبَات نعوت الْكَمَال لله وَالْإِخْلَاص لَهُ (وَمَا أمروا إِلَّا ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين)
وأصل الشّرك إِمَّا تَعْطِيل مثل تَعْطِيل فِرْعَوْن مُوسَى وَالَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه وَإِمَّا الْإِشْرَاك وَهُوَ كثير فِي الْأُمَم أَكثر من التعطيل وَأَهله خصوم جَمِيع الْأَنْبِيَاء وَفِي خصوم إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد صلى الله عليه وسلم معطلة ومشركة لَكِن التعطيل الْمَحْض للذات قَلِيل وَأما الْكثير فَهُوَ تَعْطِيل صِفَات الْكَمَال وَهُوَ مُسْتَلْزم لتعطيل الذَّات فَإِنَّهُم يصفونَ وَاجِب الْوُجُود بِمَا يجب أَن يكون مُمْتَنع الْوُجُود
ثمَّ إِن كل من كَانَ إِلَى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه وَالتَّابِعِينَ لَهُم بِإِحْسَان أقرب كَانَ أقرب إِلَى كَمَال التَّوْحِيد وَالْإِيمَان وَالْعقل والعرفان وكل من كَانَ عَنْهُم أبعد كَانَ عَن ذَلِك أبعد
فمتأخرو متكلمة الْإِثْبَات الَّذين خلطوا الْكَلَام بالفلسفة كالرازي والآمدي وَنَحْوهمَا هم دون أبي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ وَأَمْثَاله فِي تَقْرِير التَّوْحِيد وَإِثْبَات صِفَات الْكَمَال وَأَبُو الْمَعَالِي وَأَمْثَاله دون القَاضِي أبي بكر
ابْن الطّيب وَأَمْثَاله فِي ذَلِك وَهَؤُلَاء دون أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ فِي ذَلِك والأشعري فِي ذَلِك دون أبي مُحَمَّد بن كلاب وَابْن كلاب دون السّلف وَالْأَئِمَّة فِي ذَلِك
ومتكلمة أهل الْإِثْبَات الَّذين يقرونَ بِالْقدرِ هم خير فِي التَّوْحِيد وَإِثْبَات صِفَات الْكَمَال من الْقَدَرِيَّة من الْمُعْتَزلَة والشيعة وَغَيرهم لِأَن أهل الْإِثْبَات يثبتون لله كَمَال الْقُدْرَة وَكَمَال الْمَشِيئَة وَكَمَال الْخلق وَأَنه مُنْفَرد بذلك فَيَقُولُونَ إِنَّه وَحده خَالق كل شَيْء من الْأَعْيَان والأعراض وَلِهَذَا جعلُوا أخص صِفَات الرب تَعَالَى الْقُدْرَة على الإختراع
وَالتَّحْقِيق أَن الْقُدْرَة على الإختراع من جملَة خَصَائِصه لَيْسَ هِيَ وَحدهَا أخص صِفَاته
وَأُولَئِكَ يخرجُون أَحْوَال الْحَيَوَان عَن أَن تكون مخلوقة لَهُ وَحَقِيقَة قَوْلهم تَعْطِيل هَذِه الْحَوَادِث عَن خَالق لَهَا وَإِثْبَات شُرَكَاء لله يفعلونها وَكثير من مُتَأَخِّرَة الْقَدَرِيَّة يَقُولُونَ إِن الْعباد خالقون لَهَا وَلَكِن سلفهم يحترزون عَن ذَلِك
وَطول الشَّيْخ هُنَا بعبارات منطقية وبحوث دقيقة إِلَى أَن ذكر دَلِيل التمانع فِي قَوْله (لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا) فَقَالَ إِن دَلِيل التمانع أَنه لَو كَانَ للْعَالم صانعان لَكَانَ أَحدهمَا إِذا أَرَادَ أمرا وَأَرَادَ الآخر خِلَافه مثل أَن يُرِيد أَحدهمَا إطلاع الشَّمْس من مشرقها وَيُرِيد الآخر إطلاعها من مغْرِبهَا إمتنع أَن يحصل مرادهما إِذْ ذَلِك جمع بَين الضدين فَيلْزم أَن لَا يحصل مُرَاد وَاحِد مِنْهُمَا فَلَا يكون رَبًّا
وَكَذَا إِذا أَرَادَ أَحدهمَا تَحْرِيك شَيْء وَأَرَادَ الْأُخَر تسكينه
فَإِن قيل يجوز أَن تتفق الإرادتان فَنَقُول إِذا فرض ربان فإمَّا أَن يكون كل مِنْهُمَا قَادِرًا بِنَفسِهِ أَو لَا يكون قَادِرًا إِلَّا بِالْآخرِ
فَإِن لم يكن قَادِرًا إِلَّا بِالْآخرِ كَانَ هَذَا مُمْتَنعا لذاته مقتضيا للدور فِي الْعِلَل والفاعلين فَإِنَّهُ يسْتَلْزم أَن يكون كل مِنْهُمَا جعل الآخر قَادِرًا وَلَا يكون أَحدهمَا فَاعِلا حَتَّى يكون قَادِرًا
فاذا كَانَ كل مِنْهُمَا جعل الاخر قَادِرًا فقد جعله فَاعِلا وَيكون كل مِنْهُمَا جعل الآخر رَبًّا وَهَذَا مُمْتَنع من ربين واجبين بأنفسهما قديمين لِأَن هَذَا لَا يكون قَادِرًا رَبًّا فَاعِلا حَتَّى يَجعله الآخر كَذَلِك وَكَذَلِكَ الآخر وَهَذَا مُمْتَنع ضَرُورَة فالدور القبلي مُمْتَنع لذاته كالدور فِي الفاعلين والعلل فَيمْتَنع أَن يكون كل من الشَّيْئَيْنِ عِلّة للْآخر وفاعلا لَهُ أَو جُزْءا من الْعلَّة فَإِذا كَانَ كل مِنْهُمَا لَا يكون قَادِرًا أَو فَاعِلا إِلَّا بِالْآخرِ لزم أَن يكون كل مِنْهُمَا عِلّة فاعلة وَعلة لتَمام مَا بِهِ يصير الآخر قَادِرًا فَاعِلا وَذَلِكَ مُمْتَنع ضَرُورَة فَلَزِمَ أَن الرب لَا بُد أَن يكون قَادِرًا بِنَفسِهِ فَإِن أمكنه إِرَادَة خلاف مَا يُرِيد الآخر أمكن إختلافهما وَإِن لم يُمكنهُ أَن يُرِيد إِلَّا مَا يُرِيد الآخر لزم الْعَجز فَمَتَى فرض لُزُوم إتفاقهما أبدا كَانَ ذَلِك مُمْتَنعا لذاته وَقد يُمكن هَذَا فِي مخلوقين بِأَن يجعلهما ثَالِث قَادِرين فيكونان متعاونين كاليدين فَإِنَّهُ تحدث لَهما قُوَّة بإجتماعهما وَيمْتَنع ذَلِك فِي حالتين فَإِنَّهُ إِن كَانَ أَحدهمَا قَادِرًا على الإستقلال والإنفراد وَلم يشْتَرط فِي فعله معاونة الآخر أمكن أَحدهمَا أَن يفعل مَا لَا يُريدهُ الآخر أَو مَا يُرِيد خِلَافه وَإِن لم يكن قَادِرًا على الإنفراد إمتنع أَن يحصل لَهما عِنْد الإجتماع قُوَّة لما فِي
ذَلِك من الدّور لِأَن هَذَا لَا يقدر حَتَّى يقدر ذَاك وَلَا يقدر ذَاك حَتَّى يقدر هَذَا
وَإِذا قيل أَحدهمَا يقدر على مَا يُوَافقهُ عَلَيْهِ الآخر لم يكن قَادِرًا إِلَّا بموافقته
وَإِذا قيل يقدر على مَا يُخَالِفهُ الآخر فِيهِ كَانَ كل مِنْهُمَا مَانِعا الآخر من مقدوره فَلَا يكون وَاحِد مِنْهُمَا قَادِرًا
وَإِذا كَانَ كل مِنْهُمَا مَانِعا مَمْنُوعًا لزم مِنْهُ الْجمع بَين النقيضين
فيتبين إمتناع ربين سَوَاء
وَامْتنع وُقُوع مؤثرين تامين مستقلين يَجْتَمِعَانِ على أثر وَاحِد بِأَن يَقُول كل مِنْهُمَا إِنَّه خاط هَذَا الثَّوْب وَحده
وَهَذَا بِخِلَاف المشتركين على عمل فعل وَاحِد قَالَ تَعَالَى (وَمَا كَانَ مَعَه من إِلَه إِذا لذهب كل إِلَه بِمَا خلق ولعلا بَعضهم على بعض) فَذكر سُبْحَانَهُ وجوب إمتياز المفعولين وَوُجُوب قهر أَحدهمَا الآخر وَلَو إختلط مفعولهما لكانا كالحاملين خَشَبَة كل مِنْهُمَا مفتقر إِلَى الآخر حَال الإجتماع فَإِذا قدر أَن إِرَادَة هَذَا وَفعله مُقَارن لإِرَادَة الآخر وَفعله فالتقدير أَنه لَا يُمكنهُ أَن يُرِيد وَأَن يفعل إِلَّا مَعَ الآخر فَتكون إِرَادَته وَفعله مَشْرُوطًا بِإِرَادَة الآخر وَفعله فَيكون بِدُونِ ذَلِك عَاجِزا عَن الْإِرَادَة وَالْفِعْل فَيكون كل مِنْهُمَا عَاجِزا حَال الإنفراد
قَالَ الرافضي وَذَهَبت الأشاعرة إِلَى أَن الله يرى بِالْعينِ مَعَ أَنه مُجَرّد عَن الْجِهَات وَقد قَالَ تَعَالَى (لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار) وخالفوا الضَّرُورَة من أَن الْمدْرك بِالْعينِ يكون مُقَابلا أَو فِي حكمه
وَقَالُوا يجوز أَن يكون بَين أَيْدِينَا جبال شاهقة مُخْتَلفَة الألوان لَا نرَاهَا وأصوات هائلة لَا نسمعها وعساكر متحاربة بِحَيْثُ نمسهم ويمسوننا وَلَا نشاهد صورهم وحركاتهم وَيجوز أَن نشاهد أَصْغَر شَيْء كالذرة فِي الْمشرق وَنحن فِي الْمغرب
وَهَذِه سفسطة
قُلْنَا أما رُؤْيَته فِي الْآخِرَة بالأبصار فَهُوَ قَول السّلف وَالْأَئِمَّة وتواترت بِهِ الْأَحَادِيث
ثمَّ جُمْهُور الْقَائِلين بِالرُّؤْيَةِ يَقُولُونَ يرى عيَانًا مُوَاجهَة كَمَا هُوَ الْمَعْرُوف بِالْعقلِ قَالَ عليه السلام إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم عزوجل يَوْم الْقِيَامَة كَمَا ترَوْنَ الشَّمْس لَا تضَامون
فِي رُؤْيَته وَفِي لفظ كَمَا ترَوْنَ الشَّمْس وَالْقَمَر صحوا وَفِي لفظ هَل تضَارونَ فِي رُؤْيَة الشَّمْس صحوا لَيْسَ دونهَا سَحَاب قَالُوا لَا
قَالَ فَهَل تضَارونَ فِي رُؤْيَة الْقَمَر صحوا لَيْسَ دونه سَحَاب قَالُوا لَا
قَالَ فَإِنَّكُم ترَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ الشَّمْس وَالْقَمَر
وَالَّذين قَالُوا يرى بِلَا مُقَابلَة هم الَّذين يَقُولُونَ إِنَّه لَيْسَ فَوق الْعَالم فَلَمَّا كَانُوا مثبتين للرؤية نافين للعلو إحتاجوا إِلَى الْجمع بَين هَاتين الْمَسْأَلَتَيْنِ وَهُوَ قَول طَائِفَة من الأشعرية وأئمتهم يَقُولُونَ بِأَن الله فَوق الْعَرْش
والمعتزلة نفت الْفَوْقِيَّة والرؤية
فَإِذا عرضنَا وجود مَوْجُود لَا يشار إِلَيْهِ وَلَا يصعد إِلَيْهِ شَيْء وَلَا ينزل مِنْهُ أَمر وَلَا هُوَ دَاخل الْعَالم وَلَا خَارجه وَلَا ترفع الْأَيْدِي إِلَيْهِ على أَي الْفطر والعقول أنْكرت ذَلِك جدا
وَأما قَول الأشعرية فَقَالُوا إِنَّه تَعَالَى قَادر على أَن يخلق بحضرتنا مَا لَا نرَاهُ وَلَا نَسْمَعهُ من الْأَجْسَام والأصوات
وَأَن يرينا مَا بعد منا من الذَّر فَلَا يَقُولُونَ هَذَا وَاقع وتجويز وُقُوع الشَّيْء غير الشَّك فِي الْوُقُوع
قَالَ وَذَهَبت الأشعرية إِلَى أَن الله أمرنَا ونهانا فِي الْأَزَل وَلَا مَخْلُوق عِنْده قَائِلا يَا أَيهَا النَّاس اتَّقوا ربكُم يَا أَيهَا النَّبِي اتَّقِ الله يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اتَّقوا الله
وَلَو جلس شخص وَحده وَلَا غُلَام عِنْده فَقَالَ يَا غَانِم قُم يَا نجاح كل
قيل لمن تنادي فَيَقُول لِعبيد أشتريهم بعد سنة لنسب إِلَى الْحمق والسفه
قُلْنَا هَذَا قَول الْكلابِيَّة وهم طَائِفَة من الَّذين يَقُولُونَ الْقُرْآن مَخْلُوق كالمعتزلة لَا من يَقُول هُوَ كَلَام الله غير مَخْلُوق كالكرامية والسالمية وَالسَّلَف وَأهل الحَدِيث من أهل الْمذَاهب
الآربعة وَغَيرهم فَلَيْسَ فِي ذكر مثل هَؤُلَاءِ حُصُول مَقْصُود الرافضي
ثمَّ كثير من الرافضة يَقُول بِهِ وَهُوَ الثَّابِت عَن أَئِمَّة أهل الْبَيْت
ثمَّ إِن الْكلابِيَّة والأشعرية قَالُوا هَذَا لموافقتهم للمعتزلة فِي الأَصْل لإتفاقهم على صِحَة دَلِيل حُدُوث الْأَجْسَام فلزمهم القَوْل بحدوث مَا لَا يَخْلُو عَن الْحَوَادِث ثمَّ قَالُوا وَمَا تقوم بِهِ الْحَوَادِث لَا يَخْلُو مِنْهَا فَإِذا قيل الْجِسْم لم يخل من الْحَرَكَة والسكون قَالُوا والسكون الأزلي يمْتَنع زَوَاله لِأَنَّهُ مَوْجُود أزلي وكل مَوْجُود أزلي يمْتَنع زَوَاله
وكل جسم يجوز عَلَيْهِ الْحَرَكَة فَإِذا جَازَ عَلَيْهِ الْحَرَكَة وَهُوَ أزلي وَجب أَن تكون حركته ازلية لإمتناع زَوَال السّكُون الأزلي وَلَو جَازَ عَلَيْهِ الْحَرَكَة الأزلية لزم حوادث لَا أول لَهَا وَذَاكَ مُمْتَنع فَلَزِمَ أَنه تَعَالَى لَا تقوم بِهِ الْحَوَادِث
وَقد علمُوا قطعا أَن الْكَلَام يقوم بالمتكلم كَمَا يقوم الْعلم بالعالم وَالْحَرَكَة بالمتحرك وَأَن الْكَلَام الَّذِي يخلقه الله فِي غَيره لَيْسَ كلَاما لَهُ بل لذَلِك الْمحل فَلَمَّا ثَبت عِنْدهم أَن الْكَلَام لَا بُد أَن يقوم بالمتكلم وَقد وافقوا الْمُعْتَزلَة على أَن الْحَوَادِث لَا تقوم بالقديم لزم من الْأَصْلَيْنِ أَن يكون الْكَلَام قَدِيما قَالُوا وَقدم الْأَصْوَات مُمْتَنع لِأَن الصَّوْت لَا يبْقى زمانين فَتعين أَن يكون الْكَلَام الْقَدِيم معنى لَيْسَ بِحرف وَلَا صَوت وَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ معنى وَاحِدًا لِأَنَّهُ لَو زَاد على وَاحِد لم يكن لَهُ حد مَحْدُود وَيمْتَنع وجود مَعَاني لَا نِهَايَة لَهَا فهم يَقُولُونَ نَحن وافقناكم على إمتناع أَن يقوم بالرب مَا هُوَ مُرَاد لَهُ مَقْدُور وخالفناكم فِي كَون كَلَامه مخلوقا مُنْفَصِلا عَنهُ فلزمت المناقضة
فَإِن كَانَ الْجمع بَين هذَيْن مُمكنا لم نتناقض وَإِن تعذر لزم خطأنا فِي إِحْدَى الْمَسْأَلَتَيْنِ وَلم يتَعَيَّن الْخَطَأ فِيمَا خالفناكم فِيهِ بل قد نَكُون أَخْطَأنَا فِيمَا وافقناكم عَلَيْهِ من كَونه لَا يتَكَلَّم بمشيئته وَقدرته بِكَلَام يقوم بِهِ مَعَ أَن إِثْبَات هَذَا القَوْل هُوَ قَول جُمْهُور أهل
الحَدِيث وَطَوَائِف من الْمُتَكَلِّمين والكرامية والشيعة بل لَعَلَّه قَول أَكثر الطوائف
وَإِذا اضطررنا إِلَى مُوَافقَة إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ كَانَت موافقتنا لمن يَقُول إِن الرب يتَكَلَّم إِذا شَاءَ خير من موافقتنا لمن يَقُول إِن كَلَامه إِنَّمَا هُوَ مَا يخلقه فِي غَيره لظُهُور فَسَاده عقلا وَشرعا
وَوجه آخر أَن يُقَال الْخطاب لمعدوم لم يُوجد بعد وبشرط وجوده أقرب إِلَى الْعقل من مُتَكَلم لَا يقوم بِهِ كَلَامه وَمن كَون الرب مسلوبا صِفَات الْكَمَال فَمَا خلق الله عرضا فِي جسم إِلَّا كَانَ صفة للجسم لَا للخالق
وَأما خطاب من لم يُوجد بِشَرْط وجوده فَإِن الْمُوصي قد يُوصي بأَشْيَاء وَيَقُول أَنا آمُر الْوَصِيّ بعد موتِي أَن يعْمل كَذَا وَيعْمل كَذَا وَإِذا بلغ ولدى فلَان يكون هُوَ الْوَصِيّ وَأَنا آمره بِكَذَا وَكَذَا
بل يقف وَقفا يبْقى دهرا وَيَأْمُر النَّاظر الَّذِي لم يخلق بعد بأَشْيَاء
وَأما الْقَائِل يَا غَانِم يَا نجاح فَإِن قصد بِهِ خطاب حَاضر فَهَذَا قَبِيح وَإِن قصد بِهِ خطاب من سَيكون مثل أَن يَقُول قد أَخْبرنِي الصَّادِق أَن أمتِي تَلد غُلَاما وَيُسمى غانما فَإِذا وَلدته فَهُوَ حر وَقد جعلته وَصِيّا على أَوْلَادِي وَأَنا آمُرك يَا غَانِم بِكَذَا وَكَذَا لم يكن هَذَا مُمْتَنعا لِأَنَّهُ خطاب لحاضر فِي الْعلم وَإِن كَانَ مفقودا فِي الْعين
وَالْإِنْسَان يُخَاطب من يستحضره فِي نَفسه وَيذكر أَشْيَاء لَهُ وَيَقُول يَا فلَان أما قلت لَك كَذَا وروى عَن عَليّ كرم الله وَجهه وَرَضي عَنهُ أَنه لما مر بكربلاء قَالَ صبرا أَبَا عبد الله يَعْنِي الْحُسَيْن رضي الله عنه
وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم ذكر الدَّجَّال وَخُرُوجه وَقَالَ يَا عباد الله اثبتوا وَلم يُوجد بعد عباد الله أُولَئِكَ
قلت وَذَا كثير فِي الْقُرْآن من إخْبَاره تَعَالَى عَن نَفسه وَعَن عباده وَمَلَائِكَته بِصِيغَة الْمَاضِي بِمَا سَيكون بعد السَّاعَة كَقَوْلِه تَعَالَى (ونادى أَصْحَاب الْجنَّة أَصْحَاب النَّار)(وَقَالُوا الْحَمد لله الَّذِي أذهب عَنَّا الْحزن)(وَقَالَ الَّذين فِي النَّار لخزنة جَهَنَّم)
قَالَ الرافضي وَذهب من عدا الإمامية والإسماعيلية إِلَى أَن الْأَنْبِيَاء وَالْأَئِمَّة غير معصومين فجوزوا بعثة من يجوز عَلَيْهِ الْكَذِب والسهو وَالسَّرِقَة
فَيُقَال مَا ذكرته عَن الْجُمْهُور فِي تَجْوِيز ذَلِك على الْأَنْبِيَاء كذب فأنهم متفقون على عصمَة الْأَنْبِيَاء عليهم السلام فِي تَبْلِيغ الرسَالَة وطاعتهم وَاجِبَة إِلَّا عِنْد الْخَوَارِج وَالْجُمْهُور يجوزون عَلَيْهِم الصَّغَائِر وَأَنَّهُمْ لَا يقرونَ عَلَيْهَا
وَأما عصمَة الْأَئِمَّة فَنعم كَمَا قَالَ لم يقل بهَا إِلَّا من ذكر وناهيك بقول عرى عَن الْحجَّة
قَالُوا إِن الله لم يخل الْعَالم من أَئِمَّة معصومين لما فِي ذَلِك من الْمصلحَة واللطف
قُلْنَا فَهَذَا الْغَائِب المنتظر الْمَفْقُود لم يحصل بِهِ شَيْء من الْمصلحَة واللطف سَوَاء كَانَ مَيتا كَمَا نقُول أَو حَيا كَمَا تزعمه الإماميه
وَكَذَلِكَ أجداده تمّ يحصل بهم ذَلِك كَمَا حصل بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثمَّ لم يحصل بعده أحد من الإثني عشر لَهُ سُلْطَان إِلَّا عَليّ كرم الله وَجهه وَمن الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَن حَال اللطف والمصلحة الَّتِي كَانَ الْمُؤْمِنُونَ فِيهَا زمن الْخُلَفَاء الثَّلَاثَة أعظم مِمَّا كَانَ فِي زَمَانه من الْفرْقَة والفتنة والقتال وَالله قد أمرنَا بِالرَّدِّ عِنْد التَّنَازُع إِلَى الله وَالرَّسُول وَلَو كَانَ للنَّاس مَعْصُوم غير الرَّسُول لوجه الرَّد إِلَيْهِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن أَبَا ذَر قَالَ
أَوْصَانِي خليلي أَن أسمع وَأطِيع وَإِن كَانَ عبدا حَبَشِيًّا مجدع الْأَطْرَاف وَلمُسلم عَن أم الْحصين أَنَّهَا سَمِعت النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي حجَّة الْوَدَاع يَقُول وَلَو اسْتعْمل عَلَيْكُم عبد أسود مجدع يقودكم بِكِتَاب الله فَاسْمَعُوا واطيعوا وللبخاري عَن أنس بِنَحْوِهِ
والإمامية وَغَيرهم يجوزون أَن يكون نواب الإِمَام غير معصومين وَأَن لَا يكون الإِمَام عَالما بعصمتهم
بِدَلِيل أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد ولى الْوَلِيد بن عقبَة ثمَّ أخبر بمحاربة الَّذين أرْسلهُ إِلَيْهِم
وَعلي كرم الله وَجهه وَرَضي عَنهُ كَانَ كثير من نوابه يخونونه وَفِيهِمْ من هرب عَنهُ
فاشتراط الْعِصْمَة فِي الْأَئِمَّة لَيْسَ بمقدور وَلَا مَأْمُور وَلم تحصل بِهِ مَنْفَعَة
قَالَ وهم يرَوْنَ القَوْل بِالْقِيَاسِ والرأي فأدخلوا فِي دين الله مَا لَيْسَ مِنْهُ وحرفوا أَحْكَام الشَّرِيعَة وأحدثوا مَذَاهِب أَرْبَعَة لم تكن فِي زمن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وأهملوا أقاويل الصَّحَابَة
فَالْجَوَاب إِن هَذَا وَارِد عَلَيْكُم فالزيدية تَقول بِالْقِيَاسِ
ثمَّ الْقيَاس خير من تَقْلِيد من لم يبلغ فِي الْعلم مبلغ الْمُجْتَهدين كَمَا لَك وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأبي عبيد وهم أعلم وأفقه من العسكريين وأمثالهما
ثمَّ قَوْله أدخلُوا فِي دين الله مَا لَيْسَ مِنْهُ وحرفوا فَهَذَا لَيْسَ فِي طَائِفَة أَكثر من الرافضة فَإِنَّهُم كذبُوا على الرَّسُول صلى الله عليه وسلم مَا لم يكذبهُ غَيرهم وردوا من الصدْق مَا لَا يُحْصى وحرفوا حَيْثُ قَالُوا (مرج الْبَحْرين) عَليّ وَفَاطِمَة (يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان) الْحسن وَالْحُسَيْن (فِي إِمَام مُبين) عَليّ (وَآل عمرَان على الْعَالمين) أل أبي طَالب وَسموا أَبَا طَالب عمرَان
(والشجرة الملعونة) بَنو أُميَّة (أَن تذبحوا بقرة) عَائِشَة (لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك) لَئِن أشركت بَين أبي بكر وَعمر وَنَحْو ذَلِك مِمَّا وجدته فِي كتبهمْ وَمن ثمَّ دخلت الإسماعيلية فِي تأويلات الْوَاجِبَات والمحرمات فهم أَئِمَّة التحريف
وَأما قَوْله واحدثوا مَذَاهِب أَرْبَعَة وأهملوا أقاويل الصَّحَابَة فَيُقَال لَهُ مَتى كَانَت مُخَالفَة الصَّحَابَة مُنْكرا عنْدكُمْ وَمن الَّذِي يُخَالف إِجْمَاع الصَّحَابَة نَحن أَو أَنْتُم وَمن الَّذِي كفرهم وضللهم إِن أهل السّنة لَا يتَصَوَّر أَن يتفقوا على مُخَالفَة إِجْمَاع الصَّحَابَة
وَأما الإمامية فَلَا ريب أَنهم متفقون على مُخَالفَة إِجْمَاع العترة النَّبَوِيَّة مَعَ مُخَالفَة إِجْمَاع الصَّحَابَة فَإِنَّهُ لم يكن فِي العترة النَّبَوِيَّة بني هَاشم على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي رضي الله عنهم من يَقُول بإمامة إثني عشر وَلَا بعصمة أحد بعد النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَا بِكفْر الْخُلَفَاء الثَّلَاثَة بل وَلَا من يطعن فِي إمامتهم بل وَلَا من
يُنكر الصِّفَات وَلَا من يكذب بِالْقدرِ
فلإمامية بِلَا ريب متفقون على مُخَالفَة العترة النَّبَوِيَّة مَعَ مخالفتهم لإِجْمَاع الصَّحَابَة
فَكيف يُنكرُونَ على من لَا يُخَالف إِجْمَاع الصَّحَابَة وَلَا إِجْمَاع العترة
وَأما الْمذَاهب فَإِن أَرَادَ أَنهم اتَّفقُوا على إحداثها مَعَ مُخَالفَة الصَّحَابَة فَهَذَا كذب عَلَيْهِم فَإِن الْأَرْبَعَة لم يَكُونُوا فِي وَقت وَاحِد وَلَا كَانَ فيهم من يُقَلّد الآخر وَلَا من أَمر النَّاس اتِّبَاعه بل كل مِنْهُم يَدْعُو إِلَى مُتَابعَة الْكتاب وَالسّنة وَيرد على صَاحبه وَإِن قلت إِن النَّاس اتبعُوا الآربعة فَهَذَا أَمر اتفاقي
وَأما الشِّيعَة فَكل مَا خالفوا فِيهِ الْجُمْهُور فهم مخطئون فِيهِ
وَالْأَرْبَعَة لم يخترعوا علما لم يكن بل جمعُوا الْعلم فأضيف ذَلِك إِلَى الْوَاحِد مِنْهُم كَمَا تُضَاف كتب الحَدِيث إِلَى من جمعهَا كالبخاري وَمُسلم وَأبي دَاوُد وكما تُضَاف الْقرَاءَات إِلَى من إختارها كنافع وَعَاصِم
ثمَّ لم يقل أهل السّنة إِن إِجْمَاع الْأَرْبَعَة حجَّة معصومة وَلَا إِن الْحق منحصر فِي قَوْلهم وَإِن مَا خرج عَنهُ بَاطِل
والمجتهدون يتنازعون ويختلفون فِي فهم كَلَام الرَّسُول ثمَّ الصحابه قد ثَبت عَنْهُم القَوْل بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاس كَمَا ثَبت عَنْهُم ذمّ مَا ذموه من الْقيَاس
فالمذموم مِنْهُ مَا عَارض النَّص وَكَذَلِكَ الْقيَاس الَّذِي لَا يكون فِيهِ الْفَرْع مشاركا للْأَصْل فِي منَاط الحكم
وَلَا شكّ أَن الْقيَاس فِيهِ فَاسد وَلَيْسَ ذَلِك يُوجب بطلَان جَمِيعه كَمَا أَن وجود الموضوعات فِي المرويات لَا يُوجب بطلَان جَمِيع الحَدِيث
قَالَ وذهبوا بِسَبَب ذَلِك إِلَى أُمُور شنيعة كإباحة الْبِنْت من الزِّنَا
وَسُقُوط
الْحَد عَمَّن نكح أمه وَأُخْته عَالما بِالتَّحْرِيمِ
وَعَن اللائط
وإلحاق نسب المشرقية بالمغربي فَإِذا زوج الرجل بنته وَهِي فِي الْمشرق بِرَجُل هُوَ وأبوها فِي الْمغرب وَلم يُفَارِقهُ لَحْظَة حَتَّى مَضَت لَهُ سِتَّة أشهر فَولدت الْبِنْت ألحق الْمَوْلُود بِالرجلِ
وَإِبَاحَة النَّبِيذ وَالْوُضُوء بِهِ مَعَ مشاركته الْخمر فِي الْإِسْكَار
وَالصَّلَاة فِي جلد الْكَلْب وعَلى الْعذرَة الْيَابِسَة وأباحوا الغصوب فَقَالُوا لَو دخل سَارِق طاحونا فطحن الْقَمْح ملك ذَلِك فَلَو جَاءَ الْملك فنازعه كَانَ ظَالِما فَلَو تقاتلا فَقتل السَّارِق كَانَ شَهِيدا وَلَو قتل اللص الْمَالِك كَانَ هدرا
وأوجبوا الْحَد على الزَّانِي إِذا كذب الشُّهُود وأسقطوه إِذا صدقهم فأسقطوا الْحَد مَعَ إجتماع الْإِقْرَار وَالْبَيِّنَة
وأباحوا أكل الْكَلْب واللواط بالعبيد وأباحوا الملاهي
وَالْجَوَاب مَا من مَسْأَلَة من هَذِه الْمسَائِل إِلَّا وَجُمْهُور السنه على خلَافهَا ثمَّ يُقَال وَأَنْتُم يُوجد فِيكُم معشر الرافضة إِمَّا إتفاقا وَإِمَّا إختلافا أَضْعَاف ذَلِك كَتَرْكِ الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وتعطلون الْمَسَاجِد وتعمرون الْمشَاهد الَّتِي على الْقُبُور
كَمَا
صنف مِنْكُم الْمُفِيد كتابا سَمَّاهُ مَنَاسِك حج الْمشَاهد وَفِيه الْكَذِب والشرك
وَمِنْهَا تَأْخِير صَلَاة الْمغرب
وَتَحْرِيم ذَبَائِح الكتابيين
وَتَحْرِيم نوع من السّمك
وَتَحْرِيم بَعضهم لُحُوم الْإِبِل
وجعلهم الْمِيرَاث كُله للْبِنْت دون الْعم
وَصَوْم بَعضهم بِالْعدَدِ لَا بِالْأَهِلَّةِ
وإحلال الْمُتْعَة
وَأَن الطَّلَاق الْمُعَلق بِشَرْط لَا يَقع مَعَ قصد إِيقَاعه عِنْد الشَّرْط وَأَنه لَا يَقع بِكِتَابَة وَيشْتَرط فِيهِ الْإِشْهَاد
فَأَما المخلوقة من الزِّنَا فمردة للشَّافِعِيّ رضي الله عنه وَلم يكن أَحْمد بن حَنْبَل رضي الله عنه يظنّ فِيهَا خلافًا بِحَيْثُ أَنه أفتى بقتل من يفعل ذَلِك
وَأما عقدَة على ذَوَات الْمَحَارِم فَأَبُو حنيفَة رضي الله عنه جعل ذَلِك شُبْهَة لدرء الْحَد لوُجُود صُورَة العقد
وَأكْثر السّلف يقتلُون اللائط وَقيل ذَلِك إِجْمَاع الصَّحَابَة وَهُوَ مَذْهَب مَالك رضي الله عنه وَأَصَح الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد وَأحد قولي الشَّافِعِي رضي الله عنه وَالْآخر هُوَ زنا وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد وَسُقُوط الْحَد من مُفْرَدَات أبي حنيفَة رضي الله عنه
وَكَذَا إِلْحَاق ولد المشرقية بِالَّذِي بالمغرب وَعِنْده أَن النّسَب يقْصد بِهِ الْمِيرَاث
وَهَذِه الشناعات إِن كَانَت بَاطِلا فجمهور الْأَئِمَّة على خلَافهَا وَإِن كَانَت حَقًا لم تخرج عَن قَول أهل السّنة وَأَبُو حنيفَة لم يَجْعَل الْأُبُوَّة لكَونه خلق من مَائه
ثمَّ يَا رَافِضِي مُنْذُ سَاعَة كنت تنكر الْقيَاس وَهنا تحتج بِهِ على أبي حنيفَة وَتقول فِي النَّبِيذ مَعَ مشاركته للخمر فِي الْإِسْكَار فَهَلا احتججت بِالنَّصِّ كل مُسكر خمر وكل خمر حرَام
وَأما جلد الْكَلْب المدبوغ فَقَالَت طَائِفَة من الْعلمَاء بِعُمُوم الحَدِيث أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر
فَلَو قيل لَك هَات دَلِيل التَّحْرِيم لوقفت
واما مَا قلت من مقاتلة الْغَاصِب وَالْمَالِك فكذب بل إِذا تنَازعا رفعا إِلَى الْحَاكِم
وَأما الْحَد مَعَ الشُّهُود فمأخذ أبي حنيفَة أَنه إِذا أقرّ سقط حكم الشَّهَادَة وَلَا يُؤْخَذ بِالْإِقْرَارِ إِلَّا بِأَرْبَع مَرَّات
وَأما
الْجُمْهُور فَيَقُولُونَ الْإِقْرَار يُؤَكد حكم الشَّهَادَة
وَأما اللواط بالعبيد فكذب مَا قَالَه وَكَأَنَّهُ قصد التشنيع فَإِن بعض الجهلة يرويهِ عَن مَالك إشتبه عَلَيْهِ بِمَسْأَلَة الحشوش وَلَا يخْتَلف مَذْهَب مَالك وَالْأَئِمَّة رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ أَن من إستحل المماليك يكفر
قَالَ الْوَجْه الثَّانِي فِي الدّلَالَة على وجوب إتباع مَذْهَب الإمامية مَا قَالَه شَيخنَا الْأَعْظَم خواجه نصير الدّين مُحَمَّد بن حسن الطوسي قدس الله روحه وَقد سَأَلته عَن الْمذَاهب فَقَالَ بحثنا عَنْهَا وَعَن حَدِيث سَتَفْتَرِقُ أمتِي على ثَلَاث وَسبعين فرقة فَوَجَدنَا الْفرْقَة النَّاجِية الإمامية لأَنهم باينوا جَمِيع الْمذَاهب
فَيُقَال لَا تنس أَنَّك قد كفرت من قَالَ إِن الله مُوجب بِالذَّاتِ وشيخك هَذَا مِمَّن يَقُول بِأَن الله مُوجب بِالذَّاتِ
وَيَقُول بقدم الْعَالم قَرَّرَهُ فِي شرح الإشارات لَهُ
وَقد كَانَ وَزِير الْمَلَاحِدَة الإسماعيلية بالألموت ثمَّ صَار منجما مسيرًا لهولاكو فَأَشَارَ عَلَيْهِ بقتل الْخَلِيفَة وَالْعُلَمَاء إِلَى غير ذَلِك من الطَّامَّات
وَأمر النصير وَأَتْبَاعه أشهر عِنْد الْمُسلمين
وَقد قيل إِنَّه إنصلح فِي أَوَاخِر عمره وَكَانَ يحافظ على الصَّلَوَات ويشتغل بتفسير الْبَغَوِيّ وبالفقه
وَأما قَوْله باينوا جَمِيع الْمذَاهب فهذيان وَكَذَا الْخَوَارِج باينوا جَمِيع الْمذَاهب وَكَذَا الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم
وَإِن عني أَنهم إختصوا بِجَمِيعِ أَقْوَالهم فَلَيْسَ كَذَلِك فقد وافقوا فِي التَّوْحِيد الْمُعْتَزلَة وَفِي الْقدر
ووافقوا الْجَهْمِية
ثمَّ بَينهم من الإختلاف مَالا يُوصف
وَمن الْعجب أَن هَذَا المُصَنّف الرافضي الْكذَّاب المفتري يذكر أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وَسَائِر السَّابِقين وَالتَّابِعِينَ وَسَائِر أَئِمَّة الْمُسلمين من أهل الْعلم وَالدّين بالعظائم الَّتِي يفتريها عَلَيْهِم هُوَ وإخوانه وَيَجِيء إِلَى من إشتهرت عِنْد الْمُسلمين محاربته لله وَرَسُوله يَقُول عَنهُ قَالَ شَيخنَا الْأَعْظَم وَيَقُول قدس الله روحه مَعَ شَهَادَته لَهُ بالْكفْر وَمَعَ لَعنه طَائِفَة خِيَار الْمُؤمنِينَ من الْأَوَّلين والآخرين وَهَؤُلَاء داخلون فِي معنى قَوْله تَعَالَى (وَيَقُولُونَ للَّذين كفرُوا هَؤُلَاءِ أهْدى من الَّذين آمنُوا سَبِيلا
أُولَئِكَ الَّذين لعنهم الله وَمن يلعن الله فَلَنْ تَجِد لَهُ نَصِيرًا)
وَيُقَال مباينتهم لجَمِيع الْمذَاهب هُوَ على فَسَاد قَوْلهم أدل مِنْهُ على صِحَة قَوْلهم فَإِن مُجَرّد إنفراد طَائِفَة عَن جَمِيع الطوائف بقول لَا يدل على أَنه هُوَ الصَّوَاب وإشتراك أُولَئِكَ فِي قَول لَا يدل على أَنه بَاطِل
قَالَ الرافضي الثَّالِث أَن الإماميه جازمون بِحُصُول النجَاة لَهُم ولأئمتهم قاطعون بذلك وَأهل السّنة لَا يجزمون بذلك
وَضرب لذَلِك مثلا ثمَّ قَالَ فمتابعة هَؤُلَاءِ أولى
وَالْجَوَاب أَن يُقَال إِن كَانَ أَتبَاع أئمته الَّذين تَدعِي لَهُم طَاعَة الْمُطلقَة صَوَابا وَأَن ذَلِك يُوجب لَهُم النجَاة كَانَ أَتبَاع خلفاء بني أُميَّة الَّذين كَانُوا يوجبون طَاعَة أئمتهم مُطلقًا وَيَقُولُونَ إِن ذَلِك يُوجب النجَاة مصيبين لأَنهم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن طَاعَة الْأَئِمَّة وَاجِبَة فِي كل شَيْء وان الإِمَام لَا يؤاخذه الله بذنب وَأَنَّهُمْ لَا ذَنْب لَهُم فِيمَا أطاعوا فِيهِ الإِمَام
بل أُولَئِكَ أولى بِالْحجَّةِ من الشِّيعَة لأَنهم كَانُوا مُطِيعِينَ أَئِمَّة أقامهم الله ونصبهم وأيدهم وملكهم
فَإِذا كَانَ من مَذْهَب الْقَدَرِيَّة إِن الله لايفعل إِلَّا مَا هُوَ الْأَصْلَح لِعِبَادِهِ كَانَ تَوْلِيَة أُولَئِكَ مصلحَة لِعِبَادِهِ
وَمَعْلُوم أَن اللطف والمصلحة الَّتِي حصلت بهم أعظم من اللطف والمصلحة الَّتِي حصلت بِإِمَام مَعْدُوم أوعاجز
وَلِهَذَا حصل لأتباع خلفاء بني أُمِّيّه من المصلحه فِي دينهم ودنياهم أعظم مِمَّا حصل لأتباع المنتظر فَإِن هَؤُلَاءِ لم يحصل لَهُم
إِمَام يَأْمُرهُم بِشَيْء مَعْرُوف وَلَا ينهاهم عَن شَيْء من الْمُنكر وَلَا يعينهم على شَيْء من مصلحَة دينهم وَلَا دنياهم
بِخِلَاف أُولَئِكَ فَإِنَّهُم إنتفعوا بأئمتهم مَنَافِع كَثِيرَة فِي دينهم ودنياهم أعظم مِمَّا انْتفع هَؤُلَاءِ بأئمتهم
فنبين أَنه إِن كَانَ حجَّة هَؤُلَاءِ المنتسبين إِلَى مشايعة عَليّ رضي الله عنه صَحِيحَة فحجة أُولَئِكَ المنتسبين إِلَى مشايعة عُثْمَان رضي الله عنه أولى بِالصِّحَّةِ
وَإِن كَانَت بَاطِلَة فَهَذَا أبطل مِنْهَا
فَإِذا كَانَ هَؤُلَاءِ الشِّيعَة متفقين مَعَ سَائِر أهل السّنة على أَن جزم أُولَئِكَ بنجاتهم إِذا إدعوا لتِلْك الْأَئِمَّة طَاعَة مُطلقَة خطأ وضلال فخطأ هَؤُلَاءِ وضلالهم إِذا جزموا بطاعتهم لمن يَدعِي أَنه نَائِب الْمَعْصُوم والمعصوم لَا عين لَهُ وَلَا أثر أعظم وَأعظم
فَإِن الشِّيعَة لَيْسَ لَهُم أَئِمَّة يباشرونهم بِالْخِطَابِ إِلَّا شيوخهم (الَّذين يَأْكُلُون أَمْوَالهم بِالْبَاطِلِ ويصدون عَن سَبِيل الله)
وَيُقَال قَوْله إِنَّهُم جازمون بِحُصُول النجَاة لَهُم دون أهل السّنة فَإِنَّهُ إِن أَرَادَ بذلك أَن كل وَاحِد مِمَّن إعتقد إعتقادهم يدْخل الْجنَّة وَإِن ترك الْوَاجِبَات وَفعل الْمُحرمَات فَلَيْسَ هَذَا قَول الإمامية وَلَا يَقُوله عَاقل
وَإِن أَرَادَ أَن حب عَليّ حَسَنَة لَا يضر مَعهَا سَيِّئَة فَلَا يضرّهُ ترك الصَّلَوَات وَلَا الْفُجُور بالعلويات وَلَا نيل أغراضهم بسفك دم بني هَاشم إِذا كَانَ يحب عليا
فَإِن قَالُوا الْمحبَّة الصادقة تَسْتَلْزِم الْمُوَافقَة عَاد الْأَمر إِلَى أَنه لَا بُد من أَدَاء الْوَاجِبَات وَترك الْمُحرمَات
وَإِن أَرَادَ بذلك أَنهم يَعْتَقِدُونَ أَن كل من إعتقد الإعتقاد الصَّحِيح وَأدّى الْوَاجِبَات وَترك الْمُحرمَات دخل الْجنَّة فَهَذَا إعتقاد أهل السّنة فَإِنَّهُم جزموا بالنجاة لكل من اتَّقى الله تَعَالَى كَمَا نطق بِهِ الْقُرْآن وَإِنَّمَا توقفوا فِي شخص معِين لعدم الْعلم بِدُخُولِهِ فِي الْمُتَّقِينَ فَإِذا علم أَنه مَاتَ على التَّقْوَى علم أَنه من أهل
الْجنَّة وَلِهَذَا يشْهدُونَ بِالْجنَّةِ لمن شهد لَهُ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَلَهُم فِيمَن استفاض فِي النَّاس حسن الثَّنَاء عَلَيْهِ قَولَانِ
فنبين أَنه لَيْسَ فِي الإمامية جزم مَحْمُود اختصوا بِهِ عَن أهل السّنة وَالْجَمَاعَة
فَإِن قَالُوا إِنَّمَا نحزم لكل شخص رَأَيْنَاهُ مُلْتَزما للواجبات عندنَا تَارِكًا للمحرمات بِأَنَّهُ من أهل الْجنَّة من غير أَن يخبرنا بباطنه مَعْصُوم
قيل هَذِه الْمَسْأَلَة لَا تتَعَلَّق بالإمامية بل إِن كَانَ إِلَى هَذَا طَرِيق صَحِيح فَهُوَ طَرِيق أهل السّنة وهم بسلوكه أحذق
وَإِن لم يكن هُنَاكَ طَرِيق صَحِيح إِلَى ذَلِك كَانَ ذَلِك قولا بِلَا علم وَلَا فَضِيلَة فِيهِ بل فِي عَدمه
فَفِي الْجُمْلَة لَا يدعونَ علما صَحِيحا إِلَّا واهل السّنة أَحَق بِهِ وَمَا ادعوهُ من الْجَهْل فَهُوَ نقص وَأهل السّنة أبعد عَنهُ
وَالْقَوْل بِكَوْن الرجل الْمعِين من أهل الْجنَّة قد يكون سَببه إِخْبَار الْمَعْصُوم وَقد يكون سَببه تواطؤ شَهَادَة الْمُؤمنِينَ الَّذين هم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض كَمَا فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه مر عَلَيْهِ بِجنَازَة فَأَثْنوا عَلَيْهَا خيرا فَقَالَ وَجَبت وَجَبت
وَمر عَلَيْهِ بِجنَازَة فَأَثْنوا شرا فَقَالَ وَجَبت وَجَبت
فَقَالُوا يَا رَسُول الله مَا قَوْلك وَجَبت وَجَبت قَالَ هَذِه الْجِنَازَة أثنيتم عَلَيْهَا خيرا فَقلت وَجَبت لَهَا الْجنَّة وَهَذِه الْجِنَازَة أثنيتم عَلَيْهَا شرا فَقلت وَجَبت لَهَا النَّار
أَنْتُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض
وَإِن أهل السّنة يجزمون بِحُصُول النجَاة لأئمتهم أعظم من جزم الرافضة وَذَلِكَ أَن أئمتهم بعد النَّبِي صلى الله عليه وسلم هم السَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وهم جازمون بِحُصُول النجَاة لهَؤُلَاء فَإِنَّهُم يشْهدُونَ أَن الْعشْرَة المبشرة فِي الْجنَّة وَيشْهدُونَ أَن الله تَعَالَى قَالَ لأهل بدر اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم بل يَقُولُونَ إِنَّه لَا يدْخل النَّار أحد بَايع تَحت الشَّجَرَة كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَهَؤُلَاءِ أَكثر من ألف وَأَرْبَعمِائَة إِمَام لأهل السّنة يشْهدُونَ أَنه لَا يدْخل النَّار مِنْهُم أحد وَهِي شَهَادَة بِعلم كَمَا دلّ على ذَلِك الْكتاب وَالسّنة
وَأهل السّنة يشْهدُونَ بالنجاة إِمَّا مُطلقًا وَإِمَّا معينا شَهَادَة مستندة إِلَى علم
وَأما الرافضة فَإِنَّهُم إِن شهدُوا شهدُوا بِمَا لَا يعلمُونَ وشهدوا بالزور الَّذِي يعلمُونَ أَنه كذب فهم كَمَا قَالَ الشَّافِعِي رَحمَه الله تَعَالَى مَا رَأَيْت قوما اشْهَدْ بالزور من الرافضة
وَإِن الإِمَام الَّذِي شهد لَهُ بالنجاة إِمَّا أَن يكون هُوَ المطاع فِي كل شَيْء وَإِن نازعه غَيره من الْمُؤمنِينَ أَو هُوَ مُطَاع فِيمَا يَأْمر بِهِ طَاعَة الله وَرَسُوله وَفِيمَا يَقُوله بإجتهاد إِذا لم يعلم أَن غَيره أولى مِنْهُ وَنَحْو ذَلِك
فَإِن كَانَ الإِمَام هُوَ الأول فَلَا إِمَام لأهل السّنة بِهَذَا الإعتبار إِلَّا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ لَيْسَ عِنْدهم من يجب أَن يطاع فِي كل شَيْء إِلَّا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وهم يَقُولُونَ كَمَا قَالَ مُجَاهِد وَالْحكم وَمَالك وَغَيرهم كل أحد يُؤْخَذ من قَوْله وَيتْرك إِلَّا
رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَيشْهدُونَ لإمامهم أَنه خير الْخَلَائق وَيشْهدُونَ بِأَن كل من ائتم بِهِ فَفعل مَا أَمر بِهِ وَترك مَا نهى عَنهُ دخل الْجنَّة وَهَذِه الشَّهَادَة بِهَذَا وَهَذَا هِيَ أتم من شَهَادَة الرافضة للعسكرين وأمثالهما بِأَن من أَطَاعَهُمَا دخل الْجنَّة
فَثَبت أَن إِمَام أهل السّنة أكمل وشهاداتهم لَهُ إِذا أطاعوه أكمل وَلَا سَوَاء وَإِن أَرَادوا بِالْإِمَامِ الإِمَام الْمُقَيد فَذَاك لَا يُوجب أهل السّنة طَاعَته إِن لم يكن مَا أَمر بِهِ مُوَافقا لأمر الإِمَام الْمُطلق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وهم إِذا أطاعوه فِيمَا أَمر الله بِطَاعَتِهِ فِيهِ فَإِنَّمَا هم مطيعون لله وَرَسُوله فَلَا يضرهم توقفهم فِي الإِمَام الْمُقَيد هَل هُوَ فِي الْجنَّة أم لَا كَمَا لَا يضر أَتبَاع الْمَعْصُوم إِذا أطاعوا نوابه مَعَ أَن نوابه قد يكونُونَ من أهل النَّار لَا سِيمَا ونواب الْمَعْصُوم عِنْدهم لَا يعلمُونَ أَنهم يأمرون بِمَا يَأْمر بِهِ الْمَعْصُوم لعدم الْعلم بِمَا يَقُوله مَعْصُوم
وَأما أَقْوَال الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فَهِيَ مَعْلُومَة فَمن أَمر بهَا فقد علم أَنه وافقها وَمن أَمر بِخِلَافِهَا علم أَنه خالفها وَمَا اخْتلف فِيهِ مِنْهَا فاجتهد فِيهِ نَائِبه فَهَذَا خير من طَاعَة نَائِب لمن يَدعِي لَهُ الْعِصْمَة وَلَا أحد يعلم بِشَيْء مِمَّا أَمر بِهِ هَذَا الْغَائِب المنتظر فضلا عَن الْعلم بِكَوْن نَائِبه مُوَافقا أَو مُخَالفا
فَإِن ادعوا أَن النواب عاملون بِأَمْر من قبلهم فَعلم عُلَمَاء الْأمة
بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أتم وأكمل من علم هَؤُلَاءِ بقول من يدعونَ عصمته
وَلَو طُولِبَ أحدهم بِنَقْل صَحِيح ثَابت بِمَا يَقُولُونَهُ عَن عَليّ أَو عَن غَيره لما وجدوا إِلَى ذَلِك سَبِيلا وَلَيْسَ لَهُم من الْإِسْنَاد وَالْعلم بِالرِّجَالِ الناقلين مالأهل السّنة
قَالَ الرافضي الرَّابِع أَنهم أخذُوا مَذْهَبهم عَن المعصومين وَقد كَانَ كرم وَجهه يُصَلِّي فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة ألف رَكْعَة مَعَ شدَّة إبتلائه بالحروب
وَكَانَ زين العابدين وَكَانَ الباقر وَعدد لَهُم مَنَاقِب بَعْضهَا مَكْذُوب
فَيُقَال لَا نسلم أَنكُمْ أَخَذْتُم مذهبكم عَن أهل الْبَيْت فأنكم تخالفون عليا وأئمة أهل بَيته فِي الْأُصُول وَالْفُرُوع فَإِنَّهُم يثبتون الصِّفَات وَالْقدر وَخِلَافَة الثَّلَاثَة وفضلهم إِلَى غير ذَلِك
وَلَيْسَ لكم أَسَانِيد مُتَّصِلَة حَتَّى نَنْظُر فِيهَا وَالْكذب فمتوفر عنْدكُمْ فَإِن ادعوا تَوَاتر نَص هَذَا على هَذَا وَنَصّ هَذَا على هَذَا كَانَ هَذَا مُعَارضا بِدَعْوَى غَيرهم مثل هَذَا التَّوَاتُر فَإِن سَائِر الْقَائِلين بِالنَّصِّ إِذا ادعوا مثل هَذِه الدَّعْوَى لم يكن بَين الدعويين فرق
ثمَّ هم محتاجون فِي مَذْهَبهم إِلَى مقدمتين إِحْدَاهمَا عصمَة من يضيفون الْمَذْهَب إِلَيْهِ وَالثَّانِي ثُبُوت ذَلِك النَّقْل عَنهُ
وَكِلَاهُمَا لَا دَلِيل لَهُم عَلَيْهِمَا
وَقد ثَبت لعَلي وبنيه من المناقب مَا لم يذكرهُ المُصَنّف وَذكر أَشْيَاء كذبا وجهلا مثل قَوْله نزل فِي حَقهم (هَل أَتَى)
وَهِي مَكِّيَّة بإتفاق وَعلي لم يدْخل بفاطمة إِلَّا بعد بدر وَولد لَهُ الْحسن فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة وَالْحُسَيْن فِي السّنة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة بعد نزُول (هَل أَتَى) بسنين كَثِيرَة
فَقَوْل الْقَائِل إِنَّهَا نزلت فيهم من الْكَذِب الَّذِي لَا يخفى على من لَهُ علم بنزول الْقُرْآن واحوال هَذِه السَّادة الأخيار
وَأما آيَة (وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا) فَلَيْسَ فِيهَا إِخْبَار بذهاب الرجس وبالطهارة بل فِيهَا الْأَمر لَهُم بِمَا يوجبهما وَذَلِكَ كَقَوْلِه تَعَالَى (مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم)(يُرِيد الله ليبين لكم وَيهْدِيكُمْ)(يُرِيد الله أَن يُخَفف عَنْكُم)
فالإرادة هُنَا متضمنة لِلْأَمْرِ والمحبة وَالرِّضَا لَيست هِيَ الملتزمة لوُقُوع المُرَاد وَلَو كَانَ كَذَلِك لتطهر كل من أَرَادَ الله طَهَارَته وَهَذَا على قَول شيعَة زَمَاننَا اوجه فَإِنَّهُم معتزلة يَقُولُونَ إِن الله يُرِيد مَالا يكون
فَقَوله تَعَالَى (يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس) إِذا كَانَ بِفعل الْمَأْمُور وَترك الْمَحْظُور كَانَ ذَلِك مُتَعَلقا بإرادتهم وبأفعالهم فَإِن فعلوا مَا أمروا بِهِ طهروا
وَمِمَّا يبين أَن ذَلِك مِمَّا أمروا بِهِ مِمَّا أخبر بِوُقُوعِهِ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أدَار الكساء على عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أهل بَيْتِي فَأذْهب عَنْهُم الرجس وطهركم تَطْهِيرا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث عَائِشَة وَرَوَاهُ أهل السّنَن من حَدِيث أم سَلمَة وَفِيه دَلِيل على أَنه تَعَالَى قَادِرًا على إذهاب الرجس والتطهير وَأَنه خَالق أَفعَال الْعباد ردا على المعتزلي
وَمَا يبين أَن الْآيَة متضمنة لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي قَوْله فِي سِيَاق الْكَلَام (يَا نسَاء النَّبِي من يَأْتِ مِنْكُن بِفَاحِشَة مبينَة إِلَى قَوْله وَلَا تبرجن تبرج الْجَاهِلِيَّة الأولى وأقمن الصَّلَاة وآتين الزَّكَاة وأطعن الله وَرَسُوله إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت ويطهركهم نتطهيرا
وَإِذ واذكرن مَا يُتْلَى فِي بيوتكن) فَهَذَا السِّيَاق
يدل على أَن ذَلِك أَمر وَنهي وَأَن الزَّوْجَات من أهل الْبَيْت فَإِن السِّيَاق إِنَّمَا هُوَ فِي مخاطبتهن
وَيدل الضَّمِير الْمُذكر على أَنه عَم غير زَوْجَاته كعلي وَفَاطِمَة وابنيهما كَمَا أَن مَسْجِد قبا أسس على التَّقْوَى ومسجده أَيْضا أسس على التَّقْوَى وَهُوَ اكمل فِي ذَلِك
فَلَمَّا نزلت (لمَسْجِد أسس على التَّقْوَى) تنَاول اللَّفْظ مَسْجِد قبا ولمسجده بطرِيق الأولى وَأَصَح الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد أَنَّهُنَّ من أهل بَيته
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى أَزوَاجه وَذريته
وَأما إِيجَاب الْمَوَدَّة فَثَبت أَن ابْن عَبَّاس سُئِلَ عَن الْآيَة فَقَالَ إِنَّه لم يكن بطن من قُرَيْش إِلَّا فِيهِ لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِنْهُم قرَابَة فَقَالَ تَعَالَى قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا أَن تودوني فِي الْقَرَابَة الَّتِي بيني وَبَيْنكُم
وَيدل على ذَلِك أَنه لم يقل إِلَّا الْمَوَدَّة لذِي الْقُرْبَى بل قَالَ فِي الْقُرْبَى
أَلا ترى أَنه لما أَرَادَ ذَوي قرَابَة قَالَ) {وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَأن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}
وَلَيْسَت موالاتنا لأهل الْبَيْت من أجر النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي شَيْء
وَهُوَ عليه السلام لَا يسألنا أجرا وَإِنَّمَا اجره على الله تَعَالَى (قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر)
ثمَّ إِن الْآيَة مَكِّيَّة وَلم يكن عَليّ تزوج بفاطمة بعد وَلَا ولد لَهما
وَزعم أَن عليا كَانَ يُصَلِّي فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة ألف رَكْعَة وَلم يَصح ذَلِك وَنَبِينَا صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يزِيد فِي اللَّيْل على ثَلَاث عشرَة رَكْعَة وَلَا يسْتَحبّ قيام كل اللَّيْل بل يكره قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ إِن لجسدك عَلَيْك حَقًا وَقد كَانَ عليه السلام يُصَلِّي فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة نَحْو أَرْبَعِينَ رَكْعَة وَعلي كَانَ أعلم بسننه وأتبع لهديه من أَن يُخَالِفهُ هَذِه الْمُخَالفَة لَو كَانَ ذَلِك مُمكنا فَكيف وَصَلَاة ألف رَكْعَة مَعَ الْقيام بِسَائِر الْوَاجِبَات غير مُمكن إِذْ عَلَيْهِ حُقُوق نَفسه من مصالحها ونومها واكلها وشربها وحاجتها ووضوئها ومباشرته أَهله وسراريه وَالنَّظَر لأولاده وَأَهله ورعيته مِمَّا يستوعب نصف الزَّمَان تَقْرِيبًا فالساعة الْوَاحِدَة لَا تتسع لثمانين رَكْعَة إِلَّا أَن تكون بِالْفَاتِحَةِ فَقَط وَبلا طمأنينة
وَعلي كرم الله وَجهه أجل من أَن يُصَلِّي صَلَاة الْمُنَافِقين الَّتِي هِيَ نقر وَلَا يذكر الله فِيهَا إِلَّا قَلِيلا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ
وَأما قَوْله وواخاه فموضوع فَإِنَّهُ عليه السلام لم يواخ أحدا وَلَا آخى بَين الْمُهَاجِرين بَعضهم من بعض بل مَعَ الْأَنْصَار
وَأما قَوْله وَجعله الله نفس رَسُوله حَيْثُ قَالَ (وأنفسنا وَأَنْفُسكُمْ) فَهَذَا خطأ وَإِنَّمَا هَذَا مثل قَوْله (لَوْلَا إِذْ سمعتموه ظن الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَنْفسِهِم خيرا) وَكَقَوْلِه تَعَالَى (فَاقْتُلُوا أَنفسكُم)(وَلَا تخرجُونَ أَنفسكُم من دِيَاركُمْ) فَالْمُرَاد بالأنفس الإخوان نسبا أَو دينا وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم للعلي أَنْت مني وَأَنا مِنْك وَقَالَ إِن الْأَشْعَرِيين إِذا أرملوا فِي الْغَزْو جمعُوا مَا كَانَ مَعَهم فِي ثوب ثمَّ قسموه بِالسَّوِيَّةِ فهم مني وَأَنا مِنْهُم وَقَالَ فِي جليبيب هَذَا مني وَأَنا مِنْهُ والخبران فِي الصَّحِيح
وَأما تَزْوِيج عَليّ بفاطمة ففضيلة لَهُ وَكَذَلِكَ تَزْوِيج عُثْمَان بأختيها فَضِيلَة لَهُ وَكَذَلِكَ تَزْوِيج النَّبِي صلى الله عليه وسلم بإبنة أبي بكر وإبنة عمر فَضِيلَة لَهما فالخلفاء الْأَرْبَعَة أصهاره صلى الله عليه وسلم وَرَضي عَنْهُم أَجْمَعِينَ
قَالَ وَله معجزات كَثِيرَة فَإِن عني الكرامات فعلي أفضل من كثير من ذَوي الكرامات
ثمَّ قَالَ حَتَّى ادعِي قوم فِيهِ الربوبية وقتلهم
قُلْنَا معجزات النَّبِي صلى الله عليه وسلم أعظم وَمَا ادعيت فِيهِ وَللَّه الْحَمد الربوبية
ثمَّ مدعُو ربوبية عَليّ عدد يسير فحرقهم ومكفروه أُلُوف من الْخَوَارِج فَمَا فيهمَا خير
والخوارج متقيدون بِالْإِسْلَامِ وَلَهُم تعبد وَالَّذين عبدوه زنادقة
قَالَ وَأخذ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَوْمًا بيد الْحُسَيْن وَولده إِبْرَاهِيم على فخده فَنزل جِبْرِيل فَقَالَ إِن الله لم يكن ليجمع لَك بَينهمَا فاختر فَقَالَ إِذا مَاتَ الْحُسَيْن بَكَيْت أَنا وَعلي وَفَاطِمَة وَإِذا مَاتَ إِبْرَاهِيم بَكَيْت أَنا فأختار موت إِبْرَاهِيم
فَمَاتَ بعد ثَلَاث
قلت هَذَا لَا يعرف لَهُ إِسْنَاد وَهُوَ كذب رَكِيك من أَحَادِيث الْجُهَّال فَلَيْسَ فِي جمع الله بَين إِبْرَاهِيم وَالْحُسَيْن أعظم مِمَّا فِي جمعه بَين الْحسن وَالْحُسَيْن
ثمَّ ذكر تَسْمِيَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَليّ بن الْحُسَيْن بزين العابدين
قُلْنَا هَذَا لَا أصل لَهُ وَلَا رَوَاهُ عَالم
وَأما ذكره أَبَا جَعْفَر وَأَنه أعلم أهل زَمَانه فَهَذِهِ دَعْوَى
فالزهري كَانَ فِي عصره وَهُوَ أعلم عِنْد النَّاس مِنْهُ
وَنقل تَسْمِيَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِيَّاه الباقر كذب
وَكَذَلِكَ حَدِيث تَبْلِيغ جَابر لَهُ السَّلَام هُوَ من الموضوعات عِنْد أهل الحَدِيث
ثمَّ قَالَ وجعفر بن مُحَمَّد نشر فقه الإمامية والمعارف والعقائد فها الْكَلَام يسْتَلْزم إِمَّا أَنه ابتدع مَا لم يُعلمهُ من قبله وَإِمَّا أَن يكون من قبله قصر
بل الآفة وَقعت
من الْكَذَّابين على جَعْفَر ونسبوا إِلَيْهِ كتاب البطاقة وَكتاب الجفر وَكتاب الهفت واختلاج الْأَعْضَاء وَفِي النُّجُوم وَغير ذَلِك حَتَّى أَن قوما زَعَمُوا أَن رسائل إخْوَان الصَّفَا مَأْخُوذَة عَنهُ وَهِي معمولة بعده بِنَحْوِ مِائَتي سنة عِنْد ظُهُور دولة الباطنية الَّذين ملكوا مصر فأظهروا اتِّبَاع الشَّرِيعَة وَأَن لَهَا بَاطِنا مُخَالفا
وباطن أَمرهم الفلسفة وعَلى هَذَا وضعت هَذِه الرسائل وَضعهَا جمَاعَة وَقد ذكرُوا فِيهَا مَا استولى عَلَيْهِ النَّصَارَى من الشَّام
وَأما مُوسَى بن جَعْفَر فقد قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم ثِقَة إِمَام من أَئِمَّة الْمُسلمين
وَقَالَ ابْن سعد لَيْسَ لَهُ كَبِير رِوَايَة
وَأما من بعده فَلم يُؤْخَذ عَنْهُم من الْعلم مَا يذكر فِي أخبارهم وَلَا لَهُم فَتَاوَى بل لَهُم من الْفَضَائِل والمحاسن مَا هم لَهُ أهل
وَذكر أَن بشرا الحافي تَابَ على يَد مُوسَى وَهَذَا من كذب من لم يعرف الْأُمُور فَإِن مُوسَى أقدمه الرشيد الْعرَاق وحبسه
قَالَ وَكَانَ عَليّ بن مُوسَى أزهد النَّاس وأعلمهم
فَيُقَال من المصائب الَّتِي ابتلى بهَا ولد الْحُسَيْن إنتحال الرافضة إيَّاهُم وتعظيمهم لَهُم وإطراؤهم بالدعاوي والغلو
وَكَانَ عَليّ كَبِير الْقدر وَقد كَانَ فِي زَمَانه الشَّافِعِي وَغَيره مِمَّن هُوَ أعلم مِنْهُ ومعروف الْكَرْخِي وَأَبُو سُلَيْمَان الدَّارَانِي مِمَّن هُوَ أزهد مِنْهُ
وَقد وضعُوا عَلَيْهِ نسخا عَن آبَائِهِ
ثمَّ قَالَ
أَخذ عَنهُ فُقَهَاء الْجُمْهُور كثيرا
فَهَذَا بهت مَا أَخذ عَنهُ إِلَّا آحَاد النَّاس كَأبي الصَّلْت الْهَرَوِيّ
ثمَّ قَالَ فِي أثْنَاء كَلَامه إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن فَاطِمَة أحصنت فرجهَا فَحرم الله ذريتها على النَّار
وَهَذَا كذب واللاتي أحصن فروجهن لَا يحصيهن إِلَّا الله تَعَالَى وَمن ذريتهن الْبر والفاجر
ففضل فَاطِمَة لَيْسَ بِمُجَرَّد إِحْصَان فرجهَا
ثمَّ الرافضة تشهد على كثير من أَوْلَادهَا بالْكفْر والفسوق وهم أهل السّنة كَمَا رفضت الرافضة زيد بن عَليّ ونابذوه
ثمَّ ذكر الْمهْدي وَأَنه مُحَمَّد المنتظر
قُلْنَا ذكر ابْن جرير وَابْن قَانِع وَغَيرهمَا أَن
الْحسن بن عَليّ العسكري لم يعقب والإمامية تزْعم أَنه كَانَ لَهُ ولد دخل سرداب سامرا وَهُوَ صَغِير لَهُ سنتَانِ أَو ثَلَاث أَو خمس وَهَذَا لَو كَانَ مَوْجُودا مَعْلُوما لَكَانَ الْوَاجِب فِي حكم الله تَعَالَى أَن يكون فِي حضَانَة أمه وَنَحْوهَا من أهل الْحَضَانَة وَأَن يكون مَاله عِنْد
من يحفظه
فَكيف يكون من يسْتَحق الْحجر والحضانة مَعْصُوما إِمَامًا للْأمة ثمَّ هَذَا إِن قدر وجوده أَو عَدمه لَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي دين وَلَا علم وَلَا دنيا وَلَا حصل بِهِ لطف وَلَا مصلحَة
فَإِن قيل بِسَبَب ظلم النَّاس احتجب عَنْهُم قيل كَانَ الظُّلم فِي زمن آبَائِهِ وَمَا احتجبوا
ثمَّ الْمُؤْمِنُونَ بِهِ قد طبقوا الأَرْض فَهَلا إجتمع بهم فِي وَقت وَكَانَ يُمكنهُ أَن يأوي إِلَى بقْعَة فِيهَا شيعته فَمَا حصل بِهَذَا الْمَعْلُوم مصلحَة أصلا غير الإنتظار الطَّوِيل ودوام الْحَسْرَة والألم وَالدُّعَاء بالمستحيل لأَنهم يدعونَ لَهُ بِالْخرُوجِ والظهور من نَحْو أَرْبَعمِائَة وَخمسين سنة وَلَا يجابون
ثمَّ ذكر حَدِيث ابْن عمر يخرج فِي آخر الزَّمَان رجل من وَلَدي الحَدِيث
قُلْنَا ذَا حجَّة عَلَيْكُم فَإِن لَفظه يواطيء إسمه إسمي وإسم أَبِيه إسم أبي يَعْنِي إسمه مُحَمَّد بن عبد الله لَا مُحَمَّد بن الْحسن
ثمَّ قد رُوِيَ عَن عَليّ رضي الله عنه أَنه من ذُرِّيَّة الْحسن لَا الْحُسَيْن
ثمَّ قَالَ فَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة المعصومون الَّذين بلغُوا الْغَايَة فِي الْكَمَال وَلم يتخذوا مَا اتَّخذهُ غَيرهم من الْأَئِمَّة المشتغلين بِالْملكِ وأنواع الْمعاصِي والملاهي وَشرب الْخُمُور والفجور
قَالَت الإمامية فَالله يحكم بَيْننَا وَبَين هَؤُلَاءِ وَهُوَ خير الْحَاكِمين
وَمَا أحسن قَول بعض النَّاس
(إِذا شِئْت أَن ترضي لنَفسك مذهبا
…
وَتعلم أَن النَّاس فِي نقل أَخْبَار)
(فدع عَنْك قَول الشَّافِعِي وَمَالك
…
وَأحمد والمروي عَن كَعْب أَحْبَار)
(ووال أُنَاسًا قَوْلهم وحديثهم
…
روى جدنا عَن جبرئيل عَن الْبَارِي)
وَالْجَوَاب من وُجُوه أَحدهَا أَن دَعْوَى الْعِصْمَة فِي هَؤُلَاءِ لم يذكر عَلَيْهَا حجَّة إِلَّا مَا ادَّعَاهُ من أَنه يجب على الله أَن يَجْعَل للنَّاس إِمَامًا مَعْصُوما ليَكُون لطفا ومصلحة فِي التَّكْلِيف
وَقد تبين فَسَاد هَذِه الْحجَّة من وُجُوه أدناها أَن هَذَا أَي اللطف والمصلحة مَفْقُود لَا مَوْجُود فَإِنَّهُ لم يُوجد إِمَام مَعْصُوم حصل بِهِ لطف وَلَا مصلحَة
وَلَو لم يكن فِي الدَّلِيل على إنتفاء ذَلِك إِلَّا المنتظر الَّذِي قد علم بِصَرِيح الْعقل أَنه لم ينْتَفع بِهِ أحد لَا فِي دين وَلَا دنيا وَلَا حصل لأحد من الْمُكَلّفين بِهِ مصلحَة وَلَا لطف لَكَانَ هَذَا دَلِيلا على بطلَان قَوْلهم فَكيف مَعَ كَثْرَة الدَّلَائِل على ذَلِك
الثَّانِي أَن قَوْله كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ قد بلغ الْغَايَة فِي الْكَمَال هُوَ قَول مُجَرّد عَن الدَّلِيل
وَالْقَوْل بِلَا علم يُمكن كل أحد أَن يُقَابله بِمثلِهِ
وَإِذا ادّعى هَذَا الْكَمَال فِيمَن هُوَ أشهر فِي الْعلم وَالدّين من العسكريين وأمثالهما من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَسَائِر أَئِمَّة الْمُسلمين كَانَ ذَلِك أولى بِالْقبُولِ
وَمن طالع أَخْبَار النَّاس علم أَن الْفَضَائِل العلمية والدينية المتواترة عَن غير وَاحِد من الْأَئِمَّة أَكثر مِمَّا ينْقل عَن العسكريين وأمثالهما من الصدْق
الثَّالِث أَن قَوْله هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة إِن أَرَادَ بِهِ أَنهم كَانُوا ذَوي سُلْطَان وَقدره مَعَهم السَّيْف فَهَذَا كذب ظَاهر وهم لَا يدعونَ ذَلِك بل يَقُولُونَ إِنَّهُم عاجزون ممنوعون مغلوبون مَعَ الظَّالِمين لم يتَمَكَّن أحد مِنْهُم من الْإِمَامَة إِلَّا عَليّ بن أبي طَالب مَعَ أَن أمورا استصعبت عَلَيْهِ وَنصف الْأمة أَو أقل أَو أَكثر لم يبايعوه بل كثير مِنْهُم
قَاتلُوهُ وَقَاتلهمْ وَكثير مِنْهُم لم يقاتلوه وَلم يقاتلوا مَعَه وَكَانَ فيهم من فضلاء الْمُسلمين من لم يكن مَعَ عَليّ بل الَّذين تخلفوا عَن الْقِتَال مَعَه وَله كَانُوا أفضل مِمَّن قَاتل مَعَه
وَإِن أَرَادَ بِهِ أَنهم كَانَ لَهُم علم وَدين يسْتَحقُّونَ بِهِ أَن يَكُونُوا أَئِمَّة فَهَذِهِ الدَّعْوَى إِن صحت لَا توجب كَونهم أَئِمَّة يجب على النَّاس طاعتهم كَمَا أَن إستحقاق الرجل أَن يكون إِمَام مَسْجِد لَا يَجعله إِمَامًا وإستحقاقه أَن يكون قَاضِيا لَا يصيره قَاضِيا وإستحقاقه أَن يكون أَمِير حَرْب لَا يَجعله أَمِير حَرْب وَالصَّلَاة لَا تصح إِلَّا خلف من يكون إِمَامًا بِالْفِعْلِ لَا خلف من يَنْبَغِي أَن يكون إِمَامًا
وَكَذَلِكَ الحكم بَين النَّاس إِنَّمَا يفصله ذُو سُلْطَان وقدرة لَا من يسْتَحق أَن يُولى الْقَضَاء
وَكَذَلِكَ الْجند إِنَّمَا يُقَاتلُون مَعَ أَمِير عَلَيْهِم لَا مَعَ من لم يُؤمر وَإِن كَانَ يسْتَحق أَن يُؤمر
وَفِي الْجُمْلَة الْفِعْل مَشْرُوط بِالْقُدْرَةِ وكل من لَيْسَ لَهُ قدرَة وسلطان على الْولَايَة والإمارة لم يكن إِمَامًا وَإِن كَانَ إستحق أَن يَجْعَل لَهُ قدرَة حَتَّى يتَمَكَّن
فكونه يشرع أَن يُمكن أَو يجب أَن يُمكن لَيْسَ هُوَ نفس التَّمَكُّن
وَالْإِمَام هُوَ المتمكن الْقَادِر وَلَيْسَ فِي هَؤُلَاءِ من هُوَ كَذَلِك إِلَّا عَليّ كَمَا تقدم
الرَّابِع أَن يُقَال مَا تعنون بالإستحقاق أتعنون أَن الْوَاحِد من هَؤُلَاءِ كَانَ يجب أَن يُولى الْإِمَامَة دون سَائِر قُرَيْش أم تُرِيدُونَ أَن الْوَاحِد مِنْهُم من جملَة من يصلح للخلافة فَإِن أردتم الأول فَهُوَ مَمْنُوع مَرْدُود
وَإِن أردتم الثَّانِي فَذَلِك قدر مُشْتَرك بَينه وَبَين خلق كثير من قُرَيْش
الْخَامِس أَن يُقَال الإِمَام هُوَ من يَقْتَدِي بِهِ
وَذَلِكَ على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يرجع إِلَيْهِ فِي الْعلم وَالدّين بِحَيْثُ يطاع بإختيار الْمُطِيع لكَونه عَالما بِأَمْر الله عزوجل آمرا بِهِ فيطيعه الْمُطِيع لذَلِك وَإِن كَانَ عَاجِزا عَن إلزامهم الطَّاعَة
وَالثَّانِي أَن يكون صَاحب يَد وَسيف بِحَيْثُ يطاع طَوْعًا وَكرها قَادِرًا على إِلْزَام الْمُطِيع بِالطَّاعَةِ
وَقَوله تَعَالَى (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم) قد فسر أولو الْأَمر بذوي الْقُدْرَة كأمراء الْحَرْب وَفسّر بِأَهْل الْعلم وَالدّين
وَكِلَاهُمَا حق
وَهَذَانِ الوصفان كَانَا كَامِلين فِي الْخُلَفَاء الرَّاشِدين فَإِنَّهُم كَانُوا كَامِلين فِي الْعلم وَالْعدْل والسياسة وَالسُّلْطَان وَإِن كَانَ بَعضهم أكمل فِي ذَلِك من بعض فَأَبُو بكر وَعمر أكمل فِي ذَلِك من عُثْمَان وَعلي
وبعدهم لم يكمل أحد فِي هَذِه الْأُمُور إِلَّا عمر بن عبد الْعَزِيز
بل قد يكون الرجل أكمل فِي الْعلم وَالدّين مِمَّن يكون لَهُ سُلْطَان وَقد يكون أكمل فِي السُّلْطَان مِمَّن هُوَ أعلم مِنْهُ وأدين
وَهَؤُلَاء إِن أُرِيد بكونهم أَئِمَّة أَنهم ذَوُو سُلْطَان فَبَاطِل وهم لَا يَقُولُونَهُ
وَإِن أُرِيد بذلك أَنهم أَئِمَّة فِي الْعلم وَالدّين يطاعون مَعَ عجزهم عَن إِلْزَام غَيرهم بِالطَّاعَةِ فَهَذَا قدر مُشْتَرك بَين كل من كَانَ متصفا بِهَذِهِ الصِّفَات
ثمَّ إِمَّا أَن يُقَال قد كَانَ فِي أعصارهم من هُوَ أعلم مِنْهُم وأدين إِذْ الْعلم الْمَنْقُول عَن غَيرهم أَضْعَاف الْعلم الْمَنْقُول عَنْهُم وَظُهُور آثَار غَيرهم فِي الْأمة أعظم من ظُهُور آثَارهم فِي الْأمة
والمتقدمون مِنْهُم كعلي بن الْحُسَيْن وَابْنه أبي جَعْفَر وَابْنه جَعْفَر بن مُحَمَّد قد أَخذ عَنْهُم من الْعلم قِطْعَة مَعْرُوفَة وَأخذ عَن غَيرهم أَكثر من ذَلِك بِكَثِير كثير
وَأما من بعدهمْ فالعلم الْمَأْخُوذ عَنْهُم قَلِيل جدا وَلَا ذكر لأحد مِنْهُم فِي رجال أهل الْعلم الْمَشَاهِير بالرواية والْحَدِيث والفتيا وَلَا غَيرهم من الْمَشَاهِير بِالْعلمِ
وَمَا يذكر لَهُم من المناقب والمحاسن فَمثله يُوجد لكثير غَيرهم من الْأمة
وَأما أَن يُقَال أَنهم أفضل الْأمة فِي الْعلم وَالدّين
فعلى التَّقْدِيرَيْنِ فإمامتهم على هَذَا الإعتبار لَا يُنَازع فِيهَا أهل السّنة فَإِنَّهُم متفقون على أَنه يؤتم بِكُل أحد فِيمَا يَأْمر بِهِ من طَاعَة الله وَيَدْعُو إِلَيْهِ من دين الله ويفعله مِمَّا يُحِبهُ الله
فَمَا فعله هَؤُلَاءِ من الْخَيْر ودعوا إِلَيْهِ من الْخَيْر فَإِنَّهُم أَئِمَّة فِيهِ يَقْتَدِي بهم فِي ذَلِك قَالَ تَعَالَى (وَجَعَلنَا مِنْهُم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يوقنون) وَقد قَالَ تَعَالَى لإِبْرَاهِيم (إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا) وَلم يكن ذَلِك أَن جعله ذَا سيف يُقَاتل بِهِ جيمع النَّاس بل جعله بِحَيْثُ يجب على النَّاس أَتْبَاعه
سَوَاء أطاعوه أم عصوه
فَهَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة فِي الدّين أُسْوَة أمثالهم فَأهل السّنة مقرون بإمامة هَؤُلَاءِ فِيمَا دلّت الشَّرِيعَة على الأئتمام بهم فِيهِ كَمَا أَن هَذَا الحكم ثَابت لأمثالهم مثل أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب ومعاذ وَأبي الدَّرْدَاء وأمثالهم من السَّابِقين الْأَوَّلين وَمثل سعيد بن الْمسيب وَسليمَان بن يسَار وَعبيد الله بن عبد الله وَعُرْوَة بن الزبير وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن وخارجة بن زيد وَهَؤُلَاء فُقَهَاء الْمَدِينَة وَمثل عَلْقَمَة وَالْأسود بن زيد وَأُسَامَة وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمثل سَالم بن عبد الله ابْن عمر وَمثل هِشَام بن عُرْوَة وَعبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم وَالزهْرِيّ وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ وَأبي الزِّنَاد وَمثل مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث بن سعد وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَغَيرهم
لَكِن الْمَنْقُول الثَّابِت عَن بعض هَؤُلَاءِ من الحَدِيث والفتيا قد يكون أَكثر من الْمَنْقُول الثَّابِت عَن الآخر فَتكون شهرته لِكَثْرَة علمه أَو لقُوَّة حجَّته أَو نَحْو ذَلِك وَإِلَّا فَلَا يَقُول أهل السّنة إِن يحيى بن سعيد وَهِشَام بن عُرْوَة وَأَبا الزِّنَاد أولى بالإتباع من جَعْفَر بن مُحَمَّد وَلَا يَقُولُونَ إِن الزُّهْرِيّ وَيحيى بن أبي كثير وَحَمَّاد بن أبي سَلمَة وَسليمَان بن يسَار وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر أولى بالإتباع من أَبِيه أبي جَعْفَر الباقر وَلَا يَقُولُونَ إِن الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَعُرْوَة بن الزبير وَسَالم بن عبد الله أولى بالإتباع من عَليّ بن الْحُسَيْن بل كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ ثِقَة فِيمَا يَنْقُلهُ مُصدق فِي ذَلِك وَمَا بَينه من دلَالَة
الْكتاب وَالسّنة على أَمر من الْأُمُور هُوَ من الْعلم الَّذِي يُسْتَفَاد مِنْهُ فَهُوَ مُصدق فِي الرِّوَايَة والإسناد وَإِذا أفتى بِفُتْيَا وعارضه غَيره رد مَا تنازعوا فِيهِ إِلَى الله وَرَسُوله كَمَا أَمر الله بذلك وَهَذَا حكم الله وَرَسُوله بَين هَؤُلَاءِ جَمِيعهم وَكَذَا كَانَ الْمُسلمُونَ على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الرَّاشِدين رضي الله عنهم
السَّادِس أَن يُقَال قَوْله لم يتخذوا مَا اتَّخذهُ غَيرهم من الْأَئِمَّة المشتغلين بِالْملكِ والمعاصي كَلَام بَاطِل
وَذَلِكَ أَنه إِن أَرَادَ أَن أهل السّنة يَقُولُونَ إِنَّه يؤتم بهؤلاء الْمُلُوك فِيمَا يَفْعَلُونَهُ من مَعْصِيّة الله فَهَذَا كذب عَلَيْهِم فَإِن عُلَمَاء أهل السّنة المعروفين بِالْعلمِ عِنْد أهل السّنة متفقون على أَنه لَا يقْتَدى بِأحد فِي مَعْصِيّة الله وَلَا يتَّخذ إِمَامًا فِي ذَلِك
وَإِن أَرَادَ أَن أهل السّنة يستعينون بهؤلاء الْمُلُوك فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي طَاعَة الله ويعاونونهم على مَا يَفْعَلُونَهُ من طَاعَة الله فَيُقَال لَهُ إِن كَانَ إتخاذهم أَئِمَّة بِهَذَا الإعتبار محذورا فالرافضة أَدخل مِنْهُم فِي ذَلِك فَإِنَّهُم دَائِما يستعينون بالكفار والفجار على مطالبهم ويعاونون الْكفَّار والفجار على كثير من مآربهم وَهَذَا أَمر مشهود فِي كل زمَان وَمَكَان
وَلَو لم يكن إِلَّا صَاحب هَذَا الْكتاب منهاج الندامة وإخوانه فَإِنَّهُم يتخذون الْمغل وَالْكفَّار والفساق والجهال أَئِمَّة بِهَذَا الإعتبار
السَّابِع أَن يُقَال الْأَئِمَّة الَّذين هم مثل هَؤُلَاءِ الَّذين ذكرهم فِي كِتَابه وَادّعى عصمتهم لَيْسَ لَهُم سُلْطَان تحصل بِهِ مَقَاصِد الْإِمَامَة وَلَا يَكْفِي الإئتمام بهم فِي طَاعَة الله وَلَا فِي تَحْصِيل مَا لَا بُد مِنْهُ مِمَّا يعين على طَاعَة الله
فَإِذا لم يكن لَهُم ملك وَلَا سُلْطَان لم يُمكن أَن تصلى خَلفهم جُمُعَة وَلَا جمَاعَة وَلَا يكونُونَ أَئِمَّة فِي الْجِهَاد وَلَا فِي الْحَج وَلَا تُقَام بهم الْحُدُود وَلَا تفصل بهم الْخُصُومَات وَلَا يَسْتَوْفِي الرجل بهم حُقُوقه الَّتِي عِنْد النَّاس وَالَّتِي فِي بَيت المَال وَلَا يُؤمن بهم السَّبِيل فَإِن هَذِه الْأُمُور كلهَا تحْتَاج إِلَى قَادر يقوم بهَا وَلَا يكون قَادِرًا إِلَّا من لَهُ أعوان على ذَلِك
وَهَؤُلَاء لم يَكُونُوا قَادِرين على ذَلِك بل الْقَادِر على ذَلِك كَانَ غَيرهم فَمن طلب هَذِه الْأُمُور من إِمَام عَاجز كَانَ جَاهِلا ظَالِما وَمن اسْتَعَانَ عَلَيْهَا بِمن هُوَ قَادر عَلَيْهَا كَانَ مهتديا مُسَددًا
فَهَذَا يحصل مصلحَة دينه ودنياه وَالْأول تفوته مصلحَة دينه ودنياه
الثَّامِن أَن يُقَال دَعْوَى كَون جَمِيع الْخُلَفَاء كَانُوا مشتغلين بِمَا ذكره من الْخُمُور والفجور كذب عَلَيْهِم والحكايات المنقولة فِي ذَلِك فِيهَا مَا هُوَ كذب
وَقد علم أَن فيهم الْعدْل والزاهد كعمر بن عبد الْعَزِيز والمهتدي بِاللَّه وَأَكْثَرهم لم يكن مظْهرا لهَذِهِ
الْمُنْكَرَات من خلفاء بني أُميَّة وَبني الْعَبَّاس وَإِن كَانَ أحدهم قد يبتلى بِبَعْض الذُّنُوب وَقد يكون تَابَ مِنْهَا وَقد تكون لَهُ حَسَنَات كَثِيرَة تمحو تِلْكَ السَّيِّئَات وَقد يبتلى بمصائب تكفرها عَنهُ
فَفِي الْجُمْلَة الْمُلُوك حسناتهم كَثِيرَة وسيئاتهم وَالْوَاحد من هَؤُلَاءِ وَإِن كَانَ لَهُ ذنُوب ومعاص لَا تكون لآحاد الْمُؤمنِينَ فَلهم من الْحَسَنَات مَا لَيْسَ لآحاد الْمُسلمين من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ والهني عَن الْمُنكر وَإِقَامَة الْحُدُود وَجِهَاد الْعَدو وإيصال كثير من الْحُقُوق إِلَى مستحقيها وَمنع كثير من الظُّلم وَإِقَامَة كثير من الْعدْل وَنحن لَا نقُول إِنَّهُم كَانُوا سَالِمين من ذَلِك لَكِن نقُول وجود الظُّلم والمعاصي من بعض الْمُسلمين وُلَاة الْأُمُور وعامتهم لَا يمْنَع أَن يُشَارك فِيمَا يعمله من طَاعَة الله
وَأهل السّنة لَا يأمرون بموافقة وُلَاة الْأُمُور إِلَّا فِي طَاعَة الله لَا فِي مَعْصِيَته
وَلَا ضَرَر على من وَافق أحدا فِي طَاعَة الله إِذا إنفرد عَنهُ بِمَعْصِيَة لم يشركهُ فِيهَا
كَمَا أَن الرجل إِذا حج مَعَ النَّاس فَوقف مَعَهم وَطَاف لم يضرّهُ كَون بعض الْحجَّاج لَهُ مظالم وذنوب ينْفَرد بهَا
وَكَذَلِكَ إِذا شهد مَعَ النَّاس الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة ومجالس الْعلم وغزا مَعَهم لم يضرّهُ كَون بعض المشاركين لَهُ فِي ذَلِك لَهُ ذنُوب يخْتَص بهَا
فولاة الْأُمُور بِمَنْزِلَة غَيرهم يشاركون فِيمَا يَفْعَلُونَهُ من طَاعَة الله وَلَا يشاركون فِيمَا يَفْعَلُونَهُ من مَعْصِيّة الله
وَهَذِه كَانَت سيرة أهل الْبَيْت مَعَ غَيرهم
فَمن اتبعهم فِي ذَلِك فَهُوَ الْمُقْتَدِي بهم دون من تَبرأ من السَّابِقين الْأَوَّلين وَجُمْهُور أهل الْعلم وَالدّين وَظَاهر على عداوتهم الْكفَّار وَالْمُنَافِقِينَ كَمَا يَفْعَله من الرافضة الضَّالّين
التَّاسِع أَن يُقَال إِمَام قَادر يَنْتَظِم بِهِ أَمر النَّاس فِي أَكثر مصالحهم بِحَيْثُ يُؤمن بِهِ السَّبِيل ويقام بِهِ مَا يُقَام من الْحُدُود وَيدْفَع بِهِ مَا يدْفع من الظُّلم وَيحصل بِهِ مَا يحصل من جِهَاد الْعَدو ويستوفي بِهِ مَا يَسْتَوْفِي من الْحُقُوق خير من إِمَام مَعْدُوم لَا حَقِيقَة لَهُ
والرافضة يدعونَ إِلَى إِمَام مَعْصُوم وَلَيْسَ عِنْدهم فِي الْبَاطِن إِلَّا إِمَام مَعْدُوم وَفِي الظَّاهِر إِمَام كفور أَو ظلوم
فأئمة أهل السّنة وَلَو فرض مَا فرض فيهم من الظُّلم والذنُوب خير من الْأَئِمَّة الظاهرين الَّذين تعتمدهم الرافضة وَخير من إِمَام مَعْدُوم لَا حَقِيقَة لَهُ
وَأما الْأَئِمَّة الْبَاقُونَ الَّذين كَانُوا موجودين فَأُولَئِك يأتم بهم أهل السّنة كَمَا يأتمون بأمثالهم فهم وأمثالهم أَئِمَّة وَمن أئتم بهؤلاء وأمثالهم من سَائِر الْمُسلمين كَانَ خيرا مِمَّن أئتم بهم وحدهم فَإِن الْعلم رِوَايَة ودراية كلما كثر فِيهِ الْعلمَاء وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ كَانَ أقوى وَأولى بالإتباع
فَلَيْسَ عِنْد الشِّيعَة خير إِلَّا وَأهل السّنة يشركونهم فِيهِ وَالْخَيْر الَّذِي اخْتصَّ بِهِ أهل السّنة لَا يشركهم فِيهِ الشِّيعَة
الْعَاشِر أَن يُقَال مَا ذكره هَذَا الإمامي يُمكن كل وَاحِد من أهل السّنة أَن يُعَارضهُ بِمَا هُوَ أقوى مِنْهُ فَإِنَّهُ يُقَال عَن مثل سعيد بن الْمسيب وعلقمة وَالْأسود وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَمُحَمّد بن سِيرِين ومطرف بن الشخير وَمَكْحُول وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَعُرْوَة بن الزبير وَسَالم بن عبد الله وَمَا شَاءَ الله من التَّابِعين وتابعيهم هَؤُلَاءِ أَئِمَّة فِيمَا يُمكن الأئتمام فِيهِ بهم من الدّين وَعلي بن الْحُسَيْن وَابْنه وجعفر بن مُحَمَّد وَغَيرهم هم أَيْضا أَئِمَّة أهل السّنة وَالْجَمَاعَة بِهَذَا الإعتبار
فَلم تأتم الشِّيعَة بِإِمَام ذِي علم وزهد
إِلَّا وَأهل السّنة يأتمون بِهِ وبجماعة آخَرين يشاركونهم فِي الْعلم والزهد بل هم أعلم مِنْهُ وأزهد
وَمَا اتخذ أهل السّنة إِمَامًا من أهل الْمعاصِي إِلَّا وَقد اتَّخذت الشِّيعَة إِمَامًا من أهل الْمعاصِي شرا مِنْهُ
فَأهل السّنة أولى بالأئتمام بأئمة الظُّلم فِي غير مَا هم ظَالِمُونَ فِيهِ فهم خير من الشِّيعَة فِي الطَّرفَيْنِ
الْحَادِي عشر قَوْله قَالَت الإمامية فَالله يحكم بَيْننَا وَبَين هَؤُلَاءِ وَهُوَ خير الْحَاكِمين فَيُقَال للإمامية إِن الله حكم بَينهم فِي الدُّنْيَا بِمَا أظهره من الدَّلَائِل والبينات وَبِمَا يظْهر أهل الْحق عَلَيْكُم
فهم ظاهرون عَلَيْكُم بِالْحجَّةِ وَالْبَيَان وباليد وَاللِّسَان كَمَا أظهر دين نبيه على سَائِر الْأَدْيَان قَالَ تَعَالَى (هُوَ الَّذِي أرسل رَسُوله بِالْهدى وَدين الْحق لِيظْهرهُ على الدّين كُله) وَمن كَانَ دينه قَول أهل السّنة الَّذِي خالفتموهم فِيهِ فَإِنَّهُ ظَاهر عَلَيْكُم بِالْحجَّةِ وَاللِّسَان كظهور دين مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم على سَائِر الْأَدْيَان
وَلم يظْهر دين مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم قطّ على غَيره من الْأَدْيَان إِلَّا بِأَهْل السّنة كَمَا ظهر فِي خِلَافه أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رضي الله عنهم ظهورا لم يحصل لشَيْء من الْأَدْيَان
وَعلي رضي الله عنه مَعَ أَنه من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين وَمن سَادَات السَّابِقين الْأَوَّلين لم يظْهر فِي خِلَافَته دين الْإِسْلَام بل وَقعت الْفِتْنَة بَين أَهله وطمع فيهم عدوهم من الْكفَّار والنصاري وَالْمَجُوس بِالشَّام والمشرق
وَأما بعد عَليّ فَلم يعرف أهل علم وَدين وَلَا أهل يَد وَسيف نصر الله بهم الْإِسْلَام إِلَّا أهل السّنة
وَأما الرافضة فإمَّا أَن تعاون أَعدَاء الْإِسْلَام
وَإِمَّا أَن تمسك عَن نصر الطَّائِفَتَيْنِ
وَلَا ريب أَن الله تَعَالَى يحكم يَوْم الْقِيَامَة بَين السَّابِقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَبَين من عاداهم من الْأَوَّلين والآخرين كَمَا يحكم بَين الْمُسلمين وَالْكفَّار
الثَّانِي عشر أَن يُقَال هَذَا التظلم مِمَّن هُوَ إِن قُلْتُمْ مِمَّن ظلم عليا كَأبي بكر وَعمر على زعمكم فَيُقَال لكم الْخصم فِي ذَلِك عَليّ وَقد مَاتَ كَمَا مَاتَ أَبُو بكر وَعمر وَهَذَا أَمر لَا يتَعَلَّق بِنَا وَلَا بكم إِلَّا بطرِيق بَيَان الْحق وموالاة أَهله وَنحن نبين بالحجج الباهرة أَن أَبَا بكر وَعمر أولى بِالْعَدْلِ من كل أحد سواهُمَا من هَذِه الْأمة وَأبْعد عَن الظُّلم من كل من سواهُمَا وَأَن عليا لم يكن يعْتَقد أَنه إِمَام الْأمة دونهمَا كَمَا نذْكر هَذَا فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله
وَإِن قُلْتُمْ نتظلم من الْمُلُوك الَّذين منعُوا هَؤُلَاءِ حُقُوقهم من الْإِمَامَة فَهَذَا فرع على كَون هَؤُلَاءِ الإثني عشر كَانُوا يطْلبُونَ الْإِمَامَة أَو كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنهم أَئِمَّة الْأمة المعصومون وَهَذَا كذب على الْقَوْم
وَسَوَاء كَانَ صدقا أَو كذبا فَالله يحكم بَين الطَّائِفَتَيْنِ إِن كَانُوا مختصمين (قل اللَّهُمَّ فاطر السَّمَاوَات وَالْأَرْض عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة أَنْت تحكم بَين عِبَادك فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (
وَإِن كَانَ التظلم من بعض الْمُلُوك الَّذين بَينهم وَبَين هَؤُلَاءِ مُنَازعَة فِي ولَايَة أَو مَال فَلَا ريب أَن الله يحكم بَين الْجَمِيع
كَمَا يحكم بَين سَائِر المختصمين فَإِن نفس الشِّيعَة بَينهم من المخاصمات أَكثر مِمَّا بَين سَائِر طوائف أهل السّنة وَبَنُو هَاشم قد جرى بَينهم نوع من الحروب وَجرى بَين بني حسن وَبني حُسَيْن من الحروب مَا يجْرِي بَين أمثالهم فِي هَذِه الْأَزْمَان والحروب فِي الْأَزْمَان الْمُتَأَخِّرَة بَين بعض بني هَاشم وَبَين غَيرهم من الطوائف أَكثر من الحروب الَّتِي كَانَت فِي أول الزَّمَان بَين بعض بني أُميَّة وَبَعض بني هَاشم لَا لشرف نسب أُولَئِكَ فَإِن نسب بني هَاشم أشرف لَكِن لِأَن خير الْقُرُون هُوَ الْقرن الَّذِي بعث فِيهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ
فالخير فِي تِلْكَ الْقُرُون أَكثر وَالشَّر فِيمَا بعْدهَا
أَكثر
وَإِن كَانَ التظلم من أهل الْعلم وَالدّين الَّذين لم يظلموا أحدا وَلم يعاونوا ظَالِما وَلَكِن يذكرُونَ مَا يجب من القَوْل علما وَعَملا بالدلائل الكاشفة للحق فَلَا يشك من لَهُ أدنى عقل أَنه من شبه مثل مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَاللَّيْث بن سعد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وأمثالهم بِمثل هِشَام بن الحكم وَهِشَام بن سَالم وأمثالهما من شُيُوخ الرافضة إِنَّه لمن أظلم الظَّالِمين
وَكَذَلِكَ من شبه القدريين النغمى والكراجكي وأمثالهما بِمثل أبي عَليّ وَأبي هَاشم وَالْقَاضِي عبد الْجَبَّار وَأبي الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ إِنَّه لمن أظلم الظَّالِمين
وَهَؤُلَاء شُيُوخ الْمُعْتَزلَة دع مُحَمَّد هيضم وَأَمْثَاله وَالْقَاضِي أَبَا بكر بن الطّيب وَأَمْثَاله من متكلمة أهل الْإِثْبَات دع أهل الْفِقْه والْحَدِيث والتصوف كَأبي حَامِد الإسفرايني وَأبي زيد الْمروزِي وَأبي عبد الله بن بطة وَأبي بكر عبد الْعَزِيز وَأبي بكر الرَّازِيّ وَأبي الْحسن الْقزْوِينِي وَأبي مُحَمَّد بن أبي زيد وَأبي بكر الْأَبْهَرِيّ وَأبي الْحسن الدَّارَقُطْنِيّ وَأبي عبد الله
ابْن مَنْدَه وَأبي الْحُسَيْن بن مَيْمُون وَأبي طَالب الْمَكِّيّ وَأبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وأمثال هَؤُلَاءِ فَمَا من طَائِفَة من طوائف أهل السّنة على تنوعهم إِذا اعتبرتها إِلَّا وتحققتها أعلم وَأَعْدل وَأبْعد عَن الْجَهْل وَالظُّلم من طَائِفَة الروافض فَلَا يُوجد فِي أحد مِنْهُم معاونة ظَالِم إِلَّا وَهُوَ فِي الرافضة أَكثر وَلَا يُوجد فِي الشِّيعَة عدل عَن ظلم ظَالِم إِلَّا وَهُوَ فِي هَؤُلَاءِ أَكثر وَهَذَا أَمر يشْهد بِهِ العيان وَالسَّمَاع لمن لَهُ إعتبار وَنظر
وَلَا يُوجد فِي جَمِيع الطوائف أكذب مِنْهُم وَلَا أظلم مِنْهُم وَلَا أَجْهَل مِنْهُم
وشيوخهم يقرونَ بألسنتهم يَقُولُونَ يَا أهل السّنة أَنْتُم فِيكُم فتوة
لَو قَدرنَا عَلَيْكُم مَا عاملناكم بِمَا تعاملونا بِهِ عِنْد الْقُدْرَة علينا
الثَّالِث عشر أَن يُقَال هَذَا الشّعْر الَّذِي اسْتشْهد بِهِ وَاسْتَحْسنهُ هُوَ قَول جَاهِل فَإِن أهل السّنة متفقون على مَا روى جدهم عَن جِبْرِيل عَن الْبَارِي
بل هم يقبلُونَ مُجَرّد قَول الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ويؤمنون بِهِ وَلَا يسألونه من أَيْن علمت هَذَا لعلمهم بِأَنَّهُ مَعْصُوم (وَمَا ينْطق عَن الْهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى) وَإِنَّمَا سموا أهل السّنة لأتباعهم سنته صلى الله عليه وسلم
لَكِن الشَّأْن فِي معرفَة مَا رَوَاهُ جدهم فهم يطْلبُونَ ذَلِك من الثِّقَات الْأَثْبَات فَإِن كَانَ عِنْد العلويين علم شَيْء من ذَلِك إستفادوه مِنْهُم وَإِن كَانَ عِنْد غَيرهم علم شَيْء من ذَلِك إستفادوه مِنْهُ
وَأما مُجَرّد كَون جدهم روى عَن جِبْرِيل عَن الْبَارِي إِذا لم يَكُونُوا عَالمين بِهِ فَمَا يصنع لَهُم وَالنَّاس لم يَأْخُذُوا قَول مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَغَيرهم إِلَّا لكَوْنهم يسندون أَقْوَالهم إِلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَإِن هَؤُلَاءِ من أعلم النَّاس بِمَا جَاءَ بِهِ وأتبعهم لذَلِك وَأسد إجتهادا فِي معرفَة ذَلِك وَأَتْبَاعه
وَإِلَّا فَأَي غَرَض للنَّاس فِي تَعْظِيم هَؤُلَاءِ وَعَامة الْأَحَادِيث الَّتِي يَرْوِيهَا هَؤُلَاءِ يَرْوِيهَا أمثالهم وَكَذَلِكَ عَامَّة مَا يجيبون بِهِ من الْمسَائِل كَقَوْل أمثالهم وَلَا يَجْعَل أهل السّنة قَول وَاحِد من هَؤُلَاءِ مَعْصُوما يجب إتباعه بل إِذا تنازعوا فِي شَيْء ردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول
وَاعْتبر ذَلِك بِمَا تشاهده فِي زَمَانك من أهل الْعلم بِالْقُرْآنِ والْحَدِيث وَالْفِقْه فَإنَّك تَجِد كثيرا من بني هَاشم لَا يحفظ الْقُرْآن وَلَا يعرف من حَدِيث النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَّا مَا شَاءَ الله وَلَا يعرف مَعَاني ذَلِك
فَإِذا قَالَ هَذَا