المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث في إمامة علي رضي الله عنه - المنتقى من منهاج الاعتدال

[شمس الدين الذهبي]

الفصل: ‌الفصل الثالث في إمامة علي رضي الله عنه

وَيَتُوب من الْكَذِب ثمَّ يدْخل الْجنَّة

وَقَوله إِن عليا شهد لَهَا فَرد شَهَادَته لكَونه زَوجهَا فَهَذَا مَعَ كَونه كذبا لَو صَحَّ لم يقْدَح إِذْ كَانَت شَهَادَة الزَّوْج مَرْدُودَة عِنْد أَكثر الْعلمَاء وَمن قبلهَا مِنْهُم لم يقبلهَا حتة يتم النّصاب إِمَّا بِرَجُل آخر أَو بإمرأة مَعَ امْرَأَة

وَأما الحكم بِشَهَادَة رجل وَامْرَأَة مَعَ عدم يَمِين الْمُدَّعِي فَهَذَا لَا يسوغ

وَقَوله إِنَّهُم رووا جَمِيعًا أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ عَليّ مَعَ الْحق وَالْحق يَدُور مَعَه حَيْثُ دَار وَلنْ يفترقا حَتَّى يردا عَليّ الْحَوْض من أعظم الْكَلَام كذبا وجهلا فَإِن هَذَا الحَدِيث لم يروه أحد عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا بِإِسْنَاد صَحِيح وَلَا ضَعِيف فَكيف يُقَال أَنهم جَمِيعًا رووا هَذَا الحَدِيث وَهل يكون أكذب مِمَّن يرْوى عَن الصَّحَابَة وَالْعُلَمَاء أَنهم رووا حَدِيثا والْحَدِيث لَا يعرف عَن أحد مِنْهُم أصلا بل هَذَا من أظهر الْكَذِب

وَلَو قيل رَوَاهُ بَعضهم وَكَانَ يُمكن صِحَّته لَكَانَ مُمكنا وَهُوَ كذب قطعا على النَّبِي صلى الله عليه وسلم وينزه عَنهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أما أَولا فَلِأَن الْحَوْض إِنَّمَا يردهُ عَلَيْهِ أشخاص أما الْحق فَلَيْسَ من الْأَشْخَاص الَّذين يردون الْحَوْض وَالْحق الَّذِي يَدُور مَعَ الشَّخْص ويدور الشَّخْص مَعَه فَهُوَ صفة لذَلِك الشَّخْص لَا يتعداه وَأَيْضًا فَالْحق لَا يَدُور مَعَ شخص غير النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَو دَار الْحق مَعَ عَليّ حَيْثُمَا دَار لوَجَبَ أَن يكون مَعْصُوما كالنبي صلى الله عليه وسلم وهم من جهلهم يدعونَ ذَلِك وَلَكِن من علم أَنه لم يكن بِأولى بالعصمة من أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَغَيرهم وَلَيْسَ فيهم من هُوَ مَعْصُوم علم كذبهمْ

وفتاويه من جنس فتاو ي أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان لَيْسَ هُوَ أولى بِالصَّوَابِ مِنْهُم وَلَا فِي أَقْوَالهم من الْأَقْوَال المرجوحة

ص: 300

أَكثر مِمَّا قَالَه وَلَا كَانَ ثَنَاء النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَرضَاهُ عَنهُ بأعظم من ثنائه عَلَيْهِم ورضائه عَنْهُم

بل لَو قَالَ الْقَائِل إِنَّه لَا يعرف من النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه عتب على عُثْمَان فِي شَيْء وَقد عتب على عَليّ فِي غير مَوضِع لما أبعد

فَإِنَّهُ لما أَرَادَ أَن يتَزَوَّج بنت أبي جهل واشتكته فَاطِمَة لأَبِيهَا وَقَالَت إِن النَّاس يَقُولُونَ إِنَّك لَا تغْضب لبناتك فَقَامَ خَطِيبًا وَقَالَ إِن بني هِشَام بن الْمُغيرَة استأذنوني أَن يزوجوا بنتهم عَليّ بن أبي طَالب وَإِنِّي لَا آذن ثمَّ لَا آذن ثمَّ لَا آذن إِلَّا أَن يُرِيد ابْن أبي طَالب أَن يُطلق ابْنَتي ويتزوج ابنتهم فَإِنَّمَا فَاطِمَة بضعَة مني يريبني مَا رابها وَيُؤْذِينِي مَا آذاها ثمَّ ذكر صهرا لَهُ من بني عبد شمس فَقَالَ حَدثنِي فصدقني ووعدني فوفي لي

وَهُوَ حَدِيث صَحِيح أَخْرجَاهُ فِي

ص: 201

الصَّحِيحَيْنِ

وَكَذَلِكَ لما طرقه وَفَاطِمَة لَيْلًا فَقَالَ أَلا تصليان فَقَالَ لَهُ عَليّ إِنَّمَا أَنْفُسنَا بيد الله إِن شَاءَ أَن يبعثنا بعثنَا

فَانْطَلق وَهُوَ يضْرب فَخذه وَيَقُول (وَكَانَ الْإِنْسَان أَكثر شَيْء جدلا)

وَأما الفتاوي قد أفتى أَن المتوفي عَنْهَا زَوجهَا وَهِي حَامِل تَعْتَد أبعد الْأَجَليْنِ

وَهَذِه الْفتيا كَانَ قد أفتى بهَا أَبُو السنابل بن بعكك على عهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كذب أَبُو السنابل

وأمثال ذَلِك كَثِيرَة

ثمَّ بِكُل حَال لَا يجوز أَن يحكم بِشَهَادَتِهِ وَحده كَمَا لَا يجوز لَهُ أَن يحكم لنَفسِهِ

وَإِن مَا ذكره عَن فَاطِمَة أَمر لَا يَلِيق بهَا وَلَا يحْتَج بذلك إِلَّا رجل جَاهِل يحْسب أَنه يمدحها وَهُوَ يجرحها

فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيمَا ذكر مَا يُوجب الْغَضَب عَلَيْهِ إِذا لم يحكم لَو كَانَ ذَلِك صَحِيحا إِلَّا بِالْحَقِّ الَّذِي لَا يحل لمُسلم أَن يحكم بِخِلَافِهِ

وَمن طلب أَن يحكم لَهُ بِغَيْر حكم الله وَرَسُوله فَامْتنعَ فَغَضب وَحلف أَن لَا يكلم الْحَاكِم وَلَا صَاحب الْحَاكِم لم يكن هَذَا مِمَّا يحمد عَلَيْهِ وَلَا مِمَّا يذم بِهِ الْحَاكِم بل هَذَا إِلَى أَن يكون جرحا

ص: 202

أقرب مِنْهُ إِلَى أَن يكون مدحا وَنحن نعلم أَن مَا يحْكى عَن فَاطِمَة وَغَيرهَا من الصَّحَابَة من القوادح كثير مِنْهَا كذب وَبَعضهَا كَانُوا فِيهِ متأولين وَإِذا كَانَ بَعْضهَا ذَنبا فَلَيْسَ الْقَوْم معصومين بل هم مَعَ كَونهم أَوْلِيَاء الله من أهل الْجنَّة لَهُم ذنُوب يغفرها الله لَهُم

وَكَذَلِكَ مَا ذكره من حَلفهَا أَنَّهَا لَا تكَلمه وَلَا صَاحبه حَتَّى تلقى أَبَاهَا وتشتكي إِلَيْهِ أَمر لَا يَلِيق أَن يذكر عَن فَاطِمَة رضي الله عنها فَإِن الشكوى إِنَّمَا تكون إِلَى الله تَعَالَى كَمَا قَالَ العَبْد الصَّالح (إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله) وَفِي دُعَاء مُوسَى عليه السلام اللَّهُمَّ لَك الْحَمد وَإِلَيْك المشتكى وَأَنت الْمُسْتَعَان وَبِك المستغاث

وَعَلَيْك التكلان وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لإبن عَبَّاس إِذا سَأَلت فاسأل الله وَإِذا استعنت فَاسْتَعِنْ بِاللَّه وَلم يقل سلني واستعن بِي وَقد قَالَ تَعَالَى (فَإِذا فرغت فانصب وَإِلَى رَبك فارغب)

وَمن الْمَعْلُوم أَن طَالبا إِذا طلب مَالا من ولي الْآمِر فَلم يُعْطه إِيَّاه لكَونه لَا يسْتَحقّهُ عِنْده وَهُوَ بِأَخْذِهِ لم يُعْطه لأحد من أَهله وَلَا أصدقائه بل أعطَاهُ لجَمِيع الْمُسلمين وَقيل إِن الطَّالِب غضب على الْحَاكِم كَانَ غَايَة ذَلِك أَنه غضب لكَونه لم يُعْطه مَالا وَقَالَ الْحَاكِم إِنَّه لغيرك لَا لَك فَأَي مدح للطَّالِب فِي هَذَا الْغَضَب وَلَو كَانَ مَظْلُوما مَحْضا لم يكن غَضَبه إِلَّا للدنيا

وَكَيف والتهمة عِنْد الْحَاكِم الَّذِي لَا يَأْخُذ لنَفسِهِ أبعد من التُّهْمَة عِنْد الطَّالِب الَّذِي يُرِيد أَن يَأْخُذ لنَفسِهِ فَكيف تحال التُّهْمَة على من لَا يَأْخُذ لنَفسِهِ مَالا وَلَا تحال على من يطْلب لنَفسِهِ المَال وَكَذَلِكَ الْحَاكِم يَقُول إِنَّمَا أمنع لله لِأَنِّي لَا يحل لي أَن آخذ المَال من مُسْتَحقّه فأدفعه إِلَى غير مُسْتَحقّه

والطالب

ص: 203

يَقُول إِنَّمَا أغضب لحظ قَلِيل من المَال

أَلَيْسَ من يذكر مثل هَذَا عَن فَاطِمَة ويجعله من مناقبها جَاهِلا اَوْ لَيْسَ الله قد ذمّ الْمُنَافِقين الَّذين قَالَ فيهم (وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات فَإِن أعْطوا مِنْهَا رَضوا وَإِن لم يُعْطوا مِنْهَا إِذا هم يسخطون

وَلَو أَنهم رَضوا مَا آتَاهُم الله وَرَسُوله وَقَالُوا حَسبنَا الله سيؤتينا الله من فَضله وَرَسُوله إِنَّا إِلَى الله راغبون) فَذكر قوما رَضوا أَن أعْطوا وغضبوا أَن لم يُعْطوا فذمهم بذلك

فَمن مدح فَاطِمَة بِمَا فِيهِ شبه من هَؤُلَاءِ إفلا يكون قادحا فِيهَا فقاتل الله الرافضة وانتصف لأهل الْبَيْت مِنْهُم فَإِنَّهُم ألصقوا فيهم من الْعَيْب والشين مَا لَا يخفى على ذِي عين

وَلَو قَالَ قَائِل فَاطِمَة لَا تطلب إِلَّا حَقّهَا لم يكن هَذَا بِأولى من قَول الْقَائِل أَبُو بكر لَا يمْنَع يَهُودِيّا وَلَا نَصْرَانِيّا حَقه فَكيف يمْنَع سيدة نسَاء الْعَالمين حَقّهَا فَإِن الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله عليه وسلم قد شهد لأبي بكر أَنه ينْفق مَاله لله فَكيف يمْنَع النَّاس أَمْوَالهم وَفَاطِمَة رضي الله عنها قد طلبت من النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَالا فَلم يُعْطهَا إِيَّاه كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَليّ رضي الله عنه فِي حَدِيث الْخَادِم لما ذهبت فَاطِمَة إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم تسأله خَادِمًا فَلم يُعْطهَا خَادِمًا وَعلمهَا التَّسْبِيح

وَإِذا جَازَ أَن تطلب من النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا يمْنَعهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِيَّاه وَلَا يجب أَن يُعْطِيهَا إِيَّاه جَازَ أَن تطلب ذَلِك من أبي بكر خَليفَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَعلم أَنَّهَا لَيست معصومة أَن تطلب مَالا يجب إعطاؤها إِيَّاه وَإِذا لم يجب عَلَيْهِ الْإِعْطَاء لم يكن مذموما بترك مَا لَيْسَ بِوَاجِب وَأَن كَانَ مُبَاحا

أما إِذا قَدرنَا أَن الْإِعْطَاء لَيْسَ بمباح فَإِنَّهُ يسْتَحق أَن يحمد على الْمَنْع

وَأما أَبُو بكر فَلم يعلم أَنه منع أحدا حَقه لَا فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلَا بعد مَوته

ص: 204

وَكَذَلِكَ مَا ذكره من إيصائها أَن تدفن لَيْلًا وَلَا يصلى عَلَيْهَا أحد مِنْهُم لَا يحكيه عَن فَاطِمَة ويحتج بِهِ إِلَّا رجل جَاهِل يطْرق على فَاطِمَة مَا لَا يَلِيق بهَا وَهَذَا لَو صَحَّ لَكَانَ بالذنب المغفور أولى مِنْهُ بالسعي المشكور فَإِن صَلَاة الْمُسلم على غَيره زِيَادَة خير يصل إِلَيْهِ وَلَا يضر أفضل الْخلق أَن يصلى عَلَيْهِ شَرّ الْخلق

وَهَذَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَيْهِ الْأَبْرَار والفجار والمنافقون وَهَذَا إِن لم يَنْفَعهُ لم يضرّهُ

وَهُوَ يعلم أَن فِي أمته منافقين وَلم ينْه أحدا من أمته عَن الصَّلَاة عَلَيْهِ بل قَالَ وَأمر النَّاس كلهم بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَام عَلَيْهِ مَعَ أَن فيهم الْمُؤمن وَالْمُنَافِق فَكيف يذكر فِي معرض الثَّنَاء عَلَيْهَا والإحتجاج لَهَا مثل هَذَا الَّذِي لَا يحكيه وَلَا يحْتَج بِهِ إِلَّا مفرط فِي الْجَهْل

وَلَو أوصى موص بِأَن الْمُسلمين لَا يصلونَ عَلَيْهِ لم تنفذ وَصيته فَإِن صلَاتهم عَلَيْهِ خير لَهُ بِكُل حَال

وَمن الْمَعْلُوم أَن إنْسَانا لَو ظلمه ظَالِم فأوصى بِأَن لَا يصلى عَلَيْهِ ذَلِك الظَّالِم لمن يكن هَذَا من الْحَسَنَات الَّتِي يحمد عَلَيْهَا وَلَا ذَلِك مِمَّا أَمر الله بِهِ رَسُوله فَمن يقْصد مدح فَاطِمَة وتعظيمها كَيفَ يذكر مثل هَذَا الَّذِي لَا مدح فِيهِ بل الْمَدْح فِي خِلَافه كَمَا دلّ على ذَلِك الْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع

وَأما قَوْله رووا جَمِيعًا أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ يَا فَاطِمَة إِن الله يغْضب لغضبك ويرضى لرضاك فَهَذَا كذب مِنْهُ مَا رووا هَذَا عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَلَا يعرف هَذَا فِي شَيْء من كتب الحَدِيث الْمَعْرُوفَة وَلَا الْإِسْنَاد مَعْرُوف عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا صَحِيح وَلَا حسن

وَنحن إِذا شَهِدنَا لفاطمة بِالْجنَّةِ وَبِأَن الله يرضى عَنْهَا فَنحْن لأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَسَعِيد وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف بذلك نشْهد ونشهد بِأَن الله تَعَالَى أخبر بِرِضَاهُ عَنْهُم فِي غير مَوضِع كَقَوْلِه تَعَالَى (وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ) وَقَوله تَعَالَى

ص: 205

(لقد رَضِي الله عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة) وَقد ثَبت أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم توفّي وَهُوَ عَنْهُم رَاض وَمن رضي الله عنه وَرَسُوله لَا يضرّهُ غضب أحد من خلقه كَائِنا من كَانَ وَلِأَن من رضي الله عنه يكون رِضَاهُ مُوَافقا لرضا الله فَهُوَ رَاض عَن الله بِحكم الله وَحكم الله مُوَافق لرضاه وَإِذا رَضوا بِحكمِهِ غضبوا لغضبه فَإِن من رَضِي بغضب غَيره لزم أَن يغْضب لغضبه فَإِن الْغَضَب إِذا كَانَ مرضيا لَك فعلت مَا هُوَ مرضِي لَك وَكَذَلِكَ الرب تَعَالَى وَله الْمثل الْأَعْلَى إِذا رَضِي عَنْهُم غضب لغضبهم إِذْ هُوَ رَاض بغضبهم

وَأما قَوْله رووا جَمِيعًا أَن فَاطِمَة بضعَة مني من آذاها آذَانِي وَمن آذَانِي آذَى الله فَإِن هَذَا الحَدِيث لم يرو بِهَذَا اللَّفْظ بل رُوِيَ بِغَيْرِهِ كَمَا ذكر فِي حَدِيث خطْبَة عَليّ لإبنة أبي جهل لما قَامَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا فَقَالَ إِن بني هِشَام بن الْمُغيرَة استأذنوني أَن ينكحوا ابنتهم عَليّ بن أبي طَالب وَإِنِّي لَا آذن ثمَّ لَا آذن ثمَّ لَا آذن

إِنَّمَا فَاطِمَة بضعَة مني يريبني مَا رابها وَيُؤْذِينِي مَا آذاها

إِلَّا أَن يُرِيد ابْن أبي طَالب أَن يُطلق ابْنَتي وينكح ابنتهم

وَفِي رِوَايَة إِنِّي أَخَاف أَن تفتتن فِي دينهَا

ثمَّ ذكر صهرا لَهُ من بني عبد شمس فَأثْنى عَلَيْهِ فِي مصاهرته إِيَّاه فَقَالَ حَدثنِي فصدقني ووعدني فوفى لي

وَإِنِّي لست أحل حَرَامًا وَلَا أحرم حَلَالا وَلَكِن وَالله لَا تَجْتَمِع بنت رَسُول الله وَبنت عَدو الله عِنْد رجل وَاحِد أبدا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم فِي الصَّحِيحَيْنِ من رِوَايَة عَليّ بن الْحُسَيْن زين العابدين والمسور بن مخرمَة

فسبب الحَدِيث خطْبَة عَليّ رضي الله عنه لإبنة أبي جهل وَالسَّبَب دَاخل فِي اللَّفْظ قطعا إِذْ اللَّفْظ الْوَارِد على السَّبَب لَا يجوز إِخْرَاج سَببه بل السَّبَب يجب دُخُوله بالإتفاق

وَقد قَالَ فِي الحَدِيث يريبني مَا رابها وَيُؤْذِينِي مَا آذاها وَمَعْلُوم قطعا أَن خطْبَة إبنة أبي جهل عَلَيْهَا رابها وآذاها وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم رابه ذَلِك وآذاه فَإِن كَانَ هَذَا وعيدا لاحقا بفاعله لزم أَن يلْحق هَذَا الْوَعيد عَليّ بن أبي طَالب

ص: 206

وَإِن لم يكن وعيدا لاحقا بفاعله كَانَ أَبُو بكر أبعد عَن الْوَعيد من عَليّ

وَإِن قيل إِن عليا تَابَ من تِلْكَ الْخطْبَة وَرجع عَنْهَا قيل فَهَذَا يَقْتَضِي أَنه غير مَعْصُوم

وَإِذا جَازَ أَن من راب فَاطِمَة وآذاها يذهب ذَلِك بتوبته جَازَ أَن يذهب بِغَيْر ذَلِك من الْحَسَنَات الماحية فَإِن مَا هُوَ أعظم من ذَلِك الذَّنب تذْهب بِهِ الْحَسَنَات الماحية وَالتَّوْبَة والمصائب المكفرة

وَذَلِكَ أَن هَذَا الذَّنب لَيْسَ من الْكفْر الَّذِي لَا يغفره الله إِلَّا بِالتَّوْبَةِ وَلَو كَانَ كَذَلِك لَكَانَ عَليّ وَالْعِيَاذ بِاللَّه قد ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم

وَمَعْلُوم أَن الله تَعَالَى نزه عليا من ذَلِك

والخوارج الَّذين قَالُوا إِنَّه ارْتَدَّ بعد موت النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يَقُولُوا أَنه ارْتَدَّ فِي حَيَاته إِذْ من ارْتَدَّ فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَلَا بُد أَن يعود إِلَى الْإِسْلَام أَو يقْتله النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهَذَا لم يَقع

وَإِذا كَانَ هَذَا الذَّنب هُوَ مِمَّا دون الشّرك فقد قَالَ تَعَالَى (إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء)

وَإِن قَالُوا بجهلهم إِن هَذَا الذَّنب كفر ليكفروا بذلك أَبَا بكر لَزِمَهُم تَكْفِير عَليّ وَاللَّازِم بَاطِل فالملزوم مثله

وهم دَائِما يعيبون أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان ويكفرونهم بِأُمُور قد صدر من عَليّ مَا هُوَ مثلهَا أَو أبعد عَن الْعذر مِنْهَا فَإِن كَانَ مأجورا أَو مَعْذُورًا فهم أولى بِالْأَجْرِ والعذر

وَإِن قيل بإستلزام الْأَمر الأخف فسقا أَو كفرا كَانَ إستلزام الأغلظ لذَلِك أولى

وَأَيْضًا فَيُقَال إِن فَاطِمَة رضي الله عنها إِنَّمَا عظم أذاها لما فِي ذَلِك من أَذَى أَبِيهَا فَإِذا دَار الْأَمر بَين أَذَى أَبِيهَا وأذاها كَانَ الإحتراز عَن أَذَى أَبِيهَا أوجب

وَهَذَا حَال أبي بكر وَعمر فَإِنَّهُمَا إحترزا أَن يؤذيا أَبَاهَا أَو يريباه بِشَيْء فَإِنَّهُ عهد عهدا وَأمر أمرا فخافا إِن غيرا عَهده وَأمره أَن يغْضب لمُخَالفَة أمره وَعَهده ويتأذى بذلك

وكل عَاقل يعلم أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذا حكم بِحكم وَطلبت فَاطِمَة أَو غَيرهَا مَا يُخَالف ذَلِك الحكم

ص: 207

كَانَ مُرَاعَاة حكم النَّبِي صلى الله عليه وسلم أولى فَإِن طَاعَته وَاجِبَة ومعصيته مُحرمَة وَمن تأذى لطاعته كَانَ مخطئا لتأذيه بذلك وَكَانَ الْمُوَافق لطاعته مصيبا فِي طَاعَته

وَهَذَا بِخِلَاف من آذاها لغَرَض بِعَيْنِه لَا لأجل طَاعَة الله وَرَسُوله

وَمن تدبر حَال أبي بكر فِي رعايته لأمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَنه إِنَّمَا قصد طَاعَة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لَا لأمر آخر علم أَن حَاله أكمل وَأفضل وَأَعْلَى من حَال عَليّ رضي الله عنه وَكِلَاهُمَا سيد كَبِير من أكَابِر أَوْلِيَاء الله الْمُتَّقِينَ وحزب الله المفلحين وَعباد الله الصَّالِحين وَمن السَّابِقين الْأَوَّلين وَمن أكَابِر المقربين الَّذين يشربون بالتسنيم وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بكر رضي الله عنه يَقُول وَالله لقرابة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أحب إِلَيّ من أَن أصل قَرَابَتي

وَقَالَ ارقبوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي أهل بَيته

رَوَاهُ البُخَارِيّ عَنهُ

لَكِن الْمَقْصُود أَنه لَو قدر أَن أَبَا بكر آذاها فَلم يؤذها لغَرَض نَفسه بل ليطيع الله وَرَسُوله ويوصل الْحق إِلَى مُسْتَحقّه وَعلي رضي الله عنه كَانَ قَصده أَن يتَزَوَّج عَلَيْهَا فَلهُ فِي أذاها غَرَض

بِخِلَاف أبي بكر

فَعلم أَن أَبَا بكر كَانَ أبعد أَن

ص: 208

يذم بأذاها من عَليّ

وَأَنه إِنَّمَا قصد طَاعَة الله وَرَسُوله بِمَا لَا حَظّ لَهُ فِيهِ بِخِلَاف عَليّ فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ حَظّ فِيمَا رابها بِهِ

وَأَبُو بكر كَانَ من جنس من هَاجر إِلَى الله وَرَسُوله وَهَذَا لَا يشبه من كَانَ مَقْصُوده امْرَأَة يَتَزَوَّجهَا

وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يُؤْذِيه مَا يُؤْذِي فَاطِمَة إِذا لم يُعَارض ذَلِك أَمر الله تَعَالَى فَإِذا أَمر الله تَعَالَى بِشَيْء فعله وَإِن تأذى من تأذى من أَهله وَغَيرهم فَهُوَ فِي حَال طَاعَة الله يُؤْذِي مَا يُعَارض طَاعَة الله وَرَسُوله

وَهَذَا الْإِطْلَاق كَقَوْلِه من أَطَاعَنِي فقد أطَاع الله وَمن أطَاع أَمِيري فقد أَطَاعَنِي

وَمن عَصَانِي فقد عصى الله وَمن عصى أَمِيري فقد عَصَانِي

ثمَّ قد بَين ذَلِك بقوله صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا الطَّاعَة الأولى فِي الْمَعْرُوف

فَقَوله من آذاها فقد آذَانِي يحمل على الآذى فِي الْمَعْرُوف بطرِيق الأولى وَالْأُخْرَى لِأَن طَاعَة أمرأئه فرض وضدها مَعْصِيّة كَبِيرَة

وَأما فعل مَا يُؤْذِي فَاطِمَة فَلَيْسَ هُوَ بِمَنْزِلَة مَعْصِيّة أَمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَإِلَّا لزم أَن يكون عَليّ فعل مَا هُوَ من مَعْصِيّة الله وَرَسُوله فَإِن مَعْصِيّة أمرائه مَعْصِيَته ومعصيته مَعْصِيّة الله

أما قَوْله لَو كَانَ هَذَا الْخَبَر صَحِيحا لما جَازَ لَهُ أَن يتْرك البغلة وَالسيف والعمامة عِنْد عَليّ حِين حكم لَهُ بهَا لما إدعاها الْعَبَّاس فَيُقَال وَمن نقل أَن أَبَا بكر وَعمر حكما بذلك لأحد أَو تركا ذَلِك عِنْد أحد على أَن يكون ملكا لَهُ فَهَذَا من أبين الْكَذِب عَلَيْهِمَا

بل غَايَة هَذَا أَن يتْرك عِنْد من ترك عِنْده كَمَا تركا صدقته عِنْد عَليّ وَالْعَبَّاس ليصرفاها فِي مصارفها الشَّرْعِيَّة

وَأما قَوْله ولكان أهل الْبَيْت الَّذين طهرهم الله فِي كِتَابه مرتكبين مَا لَا يجوز

ص: 209

فَيُقَال لَهُ أَولا إِن الله تَعَالَى لم يخبر أَنه طهر جَمِيع أهل الْبَيْت وإذهب عَنْهُم الرجس فَإِن هَذَا كذب على الله كَيفَ وَنحن نعلم أَن من بني هَاشم من لَيْسَ بمطهر من الذُّنُوب وَلَا أذهب عَنْهُم الرجس لَا سِيمَا عِنْد الرافضة لِأَن عِنْدهم كل من كَانَ من بني هَاشم يحب أَبَا بكر وَعمر رضي الله عنهم لَيْسَ بمطهر وَلِأَن إِنَّمَا قَالَ فِيهَا (إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت) وَقد تقدم أَن هَذَا مثل قَوْله (مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وَيتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ تشكرون) وَقَوله (يُرِيد الله ليبين لكم وَيهْدِيكُمْ سنَن الَّذين من قبلكُمْ وَيَتُوب عَلَيْكُم) وَنَحْو ذَلِك مِمَّا فِيهِ أَن الله يحب ذَلِك لكم ويرضاه لكم ويأمركم بِهِ فَمن فعله حصل لَهُ هَذَا المُرَاد المحبوب وَمن لم يَفْعَله لم يحصل لَهُ ذَلِك وَقد بسط هَذَا فِي غير الْموضع وَبَين أَن هَذَا ألزم لهَؤُلَاء الرافضة الْقَدَرِيَّة فَإِن عِنْدهم أَن إرداة الله بِمَعْنى أمره لَا بِمَعْنى أَنه يفعل مَا أَرَادَ فَلَا يلْزم إِذا أَرَادَ الله تَطْهِير أحد أَن يكون ذَلِك قد تطهر وَلَا يجوز عِنْدهم أَن يطهر أحد أحدا بل من أَرَادَ الله تَطْهِيره فَإِن شَاءَ طهر نَفسه وَإِن شَاءَ لم يطهرها وَلَا يقدر الله عِنْدهم على تَطْهِير أحد

وَأما قَوْله إِن الصَّدَقَة مُحرمَة عَلَيْهِم فَيُقَال لَهُ أَولا الْمحرم عَلَيْهِم صَدَقَة الْفَرْض وَأما صَدَقَة التَّطَوُّع فقد كَانُوا يشربون من الْمِيَاه المسبلة بَين مَكَّة وَالْمَدينَة وَيَقُولُونَ إِنَّمَا حرم علينا الْفَرْض وَلم يحرم علينا التَّطَوُّع

وَإِذا جَازَ أَن ينتفعوا بصدقات الْأَجَانِب الَّتِي هِيَ تطوع فإنتفاعهم بِصَدقَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم أولى وَأَحْرَى فَإِن هَذِه الْأَمْوَال لم تكن زَكَاة مَفْرُوضَة على النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهِي أوساخ النَّاس الَّتِي حرمت عَلَيْهِم وَإِنَّمَا هِيَ من الْفَيْء الَّذِي أفاءه الله على رَسُوله والفيء لَهُم وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم جعل مَا جعله الله لَهُ من الْفَيْء صَدَقَة وغايته أَن يكون ملكا للنَّبِي صلى الله عليه وسلم تصدق بِهِ على الْمُسلمين وَأهل بَيته أَحَق بِصَدَقَتِهِ فَإِن الصَّدَقَة على الْمُسلمين صَدَقَة وَالصَّدَََقَة على الْقَرَابَة صَدَقَة وصلَة

ص: 210

وَأما معارضته لحَدِيث جَابر رضي الله عنه فَيُقَال جَابر لم يدع حَقًا لغير ينتزع من ذَلِك الْغَيْر وَيجْعَل لَهُ وَإِنَّمَا طلب شَيْئا من بَيت المَال يجوز للْإِمَام أَن يُعْطِيهِ إِيَّاه وَلَو لم يعده بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَإِذا وعده بِهِ كَانَ أولى بِالْجَوَازِ فَلهَذَا لم يفْتَقر إِلَى بَيته وَلِهَذَا كَانَ أَبُو بكر وَعمر يعطيان عليا وَالْعَبَّاس وَبني هَاشم كَمَا أعطي جَابِرا من بَيت المَال

قَالَ الرافضي وسموه خَليفَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَمَا اسْتَخْلَفَهُ فِي حَيَاته وَلَا بعد وَفَاته وَلم يسموا عليا خَليفَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنه إستخلفه على الْمَدِينَة وَقَالَ لَهُ إِن الْمَدِينَة لَا تصلح إِلَّا بِي أَو بك

وَأمر أُسَامَة على جَيش فِيهِ أَبُو بكر وَعمر وَلم يعزله وَلم يسموه خَليفَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

وَلما تولى أَبُو بكر غضب أُسَامَة وَقَالَ إِنِّي أمرت عَلَيْك فَمن إستخلفك عَليّ فَمشى إِلَيْهِ هُوَ وَعمر حَتَّى إسترضياه

وَالْجَوَاب أَن الْخَلِيفَة مَعْنَاهُ الَّذِي يخلف غَيره كَمَا هُوَ الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة أَو أَن يكون من إستخلفه غَيره كَقَوْل الشِّيعَة وَبَعض الظَّاهِرِيَّة

فعلى الأول أَبُو بكر خَليفَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خَلفه بعد مَوته وَقَامَ مقَامه وَكَانَ أَحَق بهَا وَأَهْلهَا فَكَانَ هُوَ الْخَلِيفَة دون غَيره ضَرُورَة فَإِن الشِّيعَة وَغَيرهم لَا ينازعون فِي أَنه هُوَ صَار ولي الْأَمر بعده وَصَارَ خَليفَة لَهُ يُصَلِّي بِالْمُسْلِمين وَيُقِيم فيهم الْحُدُود وَيقسم عَلَيْهِم الْفَيْء ويغزو بهم

ص: 211

ويولي عَلَيْهِم الْعمَّال والأمراء وَغير ذَلِك من الْأُمُور الَّتِي يَفْعَلهَا وُلَاة الْأُمُور

فَهَذِهِ بإتفاق إِنَّمَا بَاشَرَهَا بعد مَوته صلى الله عليه وسلم أَبُو بكر فَكَانَ هُوَ الْخَلِيفَة للرسول صلى الله عليه وسلم فِيهَا قطعا

وعَلى الثَّانِي إِن بعض أهل السّنة يَقُولُونَ إستخلفه النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِنَصّ جلي أَو خَفِي وَدَعوى أُولَئِكَ للنَّص الْجَلِيّ أَو الْخَفي على أبي بكر أقوى وَأظْهر بِكَثِير من دَعْوَى الشِّيعَة للنَّص على عَليّ لِكَثْرَة النُّصُوص الثَّابِتَة الدَّالَّة على خلَافَة أبي بكر

وَإِن عليا لم يدل على خِلَافَته إِلَّا مَا يعلم أَنه كذب أَو يعلم أَنه لَا دلَالَة فِيهِ

وعَلى هَذَا التَّقْدِير فَلم يسْتَخْلف بعد مَوته أحدا إِلَّا أَبَا بكر فَلهَذَا كَانَ هُوَ الْخَلِيفَة فَإِن الْخَلِيفَة الْمُطلق هُوَ من خَلفه بعد مَوته أَو إستخلفه بعد مَوته وَهَذَانِ الوصفان لم يثبتا إِلَّا لأبي بكر فَلهَذَا كَانَ الْخَلِيفَة

وَأما إستخلافه عليا على الْمَدِينَة فَلَيْسَ خَاصّا بِهِ فقد إستخلف عَلَيْهَا ابْن أم مَكْتُوم وَعُثْمَان بن عَفَّان وَأَبا لبَابَة بن عبد الْمُنْذر وَهَذَا لَيْسَ هُوَ إستخلافا مُطلقًا وَلِهَذَا لم يقل فِي أحد من هَؤُلَاءِ إِنَّه خَليفَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَّا مَعَ التَّقْيِيد

وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ص: 212

إِنَّمَا شبه عليا بهَارُون فِي أصل الإستخلاف لَا فِي كَمَاله وَإِلَّا فإستخلاف مُوسَى لهارون كَانَ على بني إِسْرَائِيل إِذْ ذهب إِلَى الْمُنَاجَاة بِخِلَاف النَّبِي صلى الله عليه وسلم وعَلى أَنه كَانَ مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم غَالب النَّاس

وَأما قَوْله إِن الْمَدِينَة لَا تصلح إِلَّا بِي أَو بك فَهَذَا كذب مَوْضُوع فقد كَانَ عَليّ مَعَه فِي بدر وخيبر وحنين وَغير ذَلِك وَاسْتعْمل غَيره عَلَيْهَا

ص: 213

وَلم يكن أَبُو بكر فِي جَيش أُسَامَة بل كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إستخلفه فِي الصَّلَاة من أول مَرضه وامراء السَّرَايَا كأسامة وَغَيره لم يسموا خلفاء لأَنهم لَا خلفوا الرَّسُول بعد مَوته وَلَا خلفوه فِي كل شَيْء فِي حَيَاته

وَأما غضب أُسَامَة فكذب بَارِد لِأَن أُسَامَة كَانَ أبعد شَيْء عَن الْفرْقَة وَالْخلاف وَقد اعتزل الْقِتَال مَعَ عَليّ وَمَعَ مُعَاوِيَة ثمَّ لم يكن قرشيا وَلَا مِمَّن يصلح للخلافة بِوَجْه

ثمَّ لَو قدر أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أمره على أبي بكر ثمَّ مَاتَ واستخلف أَبُو بكر فَإلَى الْخَلِيفَة إِنْفَاذ الْجَيْش وحبسه وتأمير أُسَامَة وعزله وَهَذَا لَا يُنكره إِلَّا جَاهِل

وَالْعجب من هَؤُلَاءِ المفترين وَمن قَوْلهم إِن أَبَا بكر وَعمر مشيا إِلَيْهِ واسترضياه مَعَ قَوْلهم إنَّهُمَا قهرا عليا وَالْعَبَّاس وَبني هَاشم وَبني عبد منَاف وَلم يسترضوهم وَأي حَاجَة بِمن قهروا أَشْرَاف قُرَيْش أَن يسترضوا ضَعِيفا ابْن تسع عشرَة سنة لَا مَال لَهُ وَلَا رجال فَإِن قَالُوا إسترضياه لحب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِيَّاه وتوليته لَهُ قيل فَأنْتم تدعون أَنَّهُمَا بَدَلا عَهده ووصيته

ص: 214

قَالَ وَسموا عمر الْفَارُوق وَلم يسموا عليا بذلك مَعَ قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِيهِ هَذَا فاروق أمتِي

قُلْنَا مَا هَذَا بِأول حَدِيث كذبتموه وَلَا نَعْرِف لَهُ إِسْنَادًا الْبَتَّةَ

فَمَا محبتكم عليا إِلَّا من جنس محبَّة النَّصَارَى عِيسَى بن مَرْيَم أطروه وبالغوا وَلم يرْضوا لَهُ بالمنزلة الَّتِي جعلهَا الله لَهُ وَبِهَذَا يتَبَيَّن الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ مُسلم عَن عَليّ أَنه قَالَ لعهد النَّبِي الْأُمِّي إِلَى أَن لَا يحبني إِلَّا مُؤمن وَلَا يبغضني إِلَّا مُنَافِق فَإِن الرافضة لَا تحبه على مَا هُوَ عَلَيْهِ وَتبْغض نَعته من وَجه كَمَا كَانَ النَّصَارَى وَالْيَهُود يبغضون من صدق بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأقر بِهِ فموسى وَعِيسَى عليهما السلام مقران بذلك

وكما أَن عليا يحب أَبَا بكر وَعمر قطعا والرافضة يبغضون من أحبهما فهم داخلون فِي قَوْله صلى الله عليه وسلم لَا يبغضك إِلَّا مُنَافِق

وَهَكَذَا نجد كل من أحب شَيخا على صفة مَا هُوَ قَائِم بهما فِي نفس الْأَمر كمن إعتقد أَن شَيْخه يشفع فِي كل مريديه وَأَنه يرزقه وينصره ويفرج كربته ويعينه فِي الضرورات أَو أَنه يعلم المغيبات

وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا يبغض الْأَنْصَار رجل يُؤمن بِاللَّه الْيَوْم الآخر ودعا لأبي هُرَيْرَة وَأمه أَن يحببهما الله إِلَى عباده الْمُؤمنِينَ

وَقَالَ روى ابْن عمر قَالَ مَا كُنَّا نَعْرِف الْمُنَافِقين إِلَّا ببغضهم عليا فَهَذَا يعلم كل عَالم أَنه كذب إِذْ للنفاق عَلَامَات كَثِيرَة وَقد قَالَ عليه السلام آيَة النِّفَاق بغض الْأَنْصَار وَقَالَ آيَة الْمُنَافِق ثَلَاث وَقد قَالَ تَعَالَى فِي الْقُرْآن فِي صفة الْمُنَافِقين (وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات فَإِن أعْطوا مِنْهَا رَضوا)(وَمِنْهُم الَّذين يُؤْذونَ النَّبِي) صلى الله عليه وسلم (وَمِنْهُم من يَقُول أئذن لي وَلَا تفتني) وَمِنْهُم من يَقُول (أَيّكُم زادته هَذِه إِيمَانًا) وَذكر لَهُم سبحانه وتعالى فِي سُورَة بَرَاءَة وَغَيرهَا من العلامات وَالصِّفَات مَا لَا يسع هَذَا

ص: 215

الْموضع بَسطه بل لَو قَالَ كُنَّا نَعْرِف الْمُنَافِقين ببغض عَليّ لَكَانَ متجها كَمَا أَنهم يعْرفُونَ أَيْضا ببغض الْأَنْصَار بل وببغض أبي بكر وَعمر وببغض غير هَؤُلَاءِ فَإِن كل من أبْغض مَا يعلم أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم يُحِبهُ ويواليه وَأَنه كَانَ يحب النَّبِي صلى الله عليه وسلم ويواليه كَانَ بغضه شُعْبَة من شعب النِّفَاق وَالدَّلِيل يطرد وَلَا ينعكس

وَلِهَذَا كَانَ أعظم الطوائف نفَاقًا المبغضين لأبي بكر لِأَنَّهُ لم يكن فِي الصَّحَابَة أحب إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم مِنْهُ وَلَا كَانَ فيهم أعظم حبا للنَّبِي صلى الله عليه وسلم مِنْهُ فبغضه من أعظم آيَات النِّفَاق

وَلِهَذَا لَا يُوجد المُنَافِقُونَ فِي طَائِفَة أعظم مِنْهَا فِي مبغضيه كالنصيرية والإسماعيلية وَنَحْوهم

قَالَ وعظموا أَمر عَائِشَة على بَاقِي نسوانه صلى الله عليه وسلم وَقد كَانَ يكثر من ذكر خَدِيجَة

قُلْنَا أهل السّنة لم يجمعوا على أَن عَائِشَة أفضلهن وَحجَّة من فَضلهَا قَوْله عليه السلام فضل عَائِشَة على النِّسَاء كفضل الثَّرِيد يَعْنِي اللَّحْم وَالْخبْز على سَائِر الطَّعَام

وَقَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ رضي الله عنه قلت يَا رَسُول الله أَي النِّسَاء أحب إِلَيْك قَالَ عَائِشَة

قلت وَمن الرِّجَال قَالَ أَبوهَا

قلت ثمَّ من قَالَ عمر

وسمى رجَالًا

وَهَؤُلَاء يَقُولُونَ قَوْله لِخَدِيجَة مَا أبدلني الله خيرا مِنْهَا إِن صَحَّ فَمَعْنَاه مَا أبدلني خيرا لي مِنْهَا

فَإِن خَدِيجَة نفعته فِي أول الْإِسْلَام نفعا لم يقم غَيرهَا فِيهِ مقَامهَا فَكَانَت خيرا لَهُ من هَذَا الْوَجْه لكَونهَا نفعته وَقت الْحَاجة وَعَائِشَة صحبته فِي آخر

ص: 216

النُّبُوَّة وَكَمَال الدّين فَحصل لَهَا من الْعلم وَالْإِيمَان مَا لم يحصل لمن يدْرك إِلَّا أول النُّبُوَّة

فَكَانَت أفضل لهَذِهِ الزِّيَادَة فَإِن الْأمة إنتفعت بهَا أَكثر مِمَّا إنتفعت بغَيْرهَا وَبَلغت من الْعلم وَالسّن مَا لم يبلغهُ غَيرهَا فخديجة كَانَ خَيرهَا مَقْصُورا على نفس النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم تبلغ عَنهُ شَيْئا وَلم تنْتَفع بهَا الْأمة كَمَا إنتفعت بعائشة وَلِأَن الدّين لم يكن قد كمل حَتَّى تعلمه وَيحصل لَهَا من كمالاته مَا حصل لمن علم وآمن بِهِ بعد كَمَاله

وَمَعْلُوم أَن من إجتمع همه على شَيْء وَاحِد كَانَ أبلغ مِمَّن تفرق همه فِي أَعمال متنوعه فخديجة رضي الله عنها خير لَهُ من هَذَا الْوَجْه لَكِن أَنْوَاع الْبر لم تَنْحَصِر فِي ذَلِك أَلا ترى إِن من كَانَ من الصَّحَابَة أعظم إِيمَانًا وَأكْثر جهادا بِنَفسِهِ وَمَاله كحمزة وَعلي وَسعد بن معَاذ وَأسيد بن حضير وَغَيرهم وهم أفضل مِمَّن كَانَ يخْدم النَّبِي صلى الله عليه وسلم وينفعه فِي نَفسه أَكثر مِنْهُم كَأبي رَافع وَأنس بن مَالك وَغَيرهمَا

وَفِي الْجُمْلَة الْكَلَام فِي تَفْضِيل عَائِشَة وَخَدِيجَة لَيْسَ هَذَا مَوضِع إستقصائه لَكِن الْمَقْصُود هُنَا أَن أهل السّنة مجمعون على تَعْظِيم عَائِشَة ومحبتها وَأَن نِسَاءَهُ أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ اللواتي مَاتَ عَنْهُن كَانَت عَائِشَة أحبهنَّ إِلَيْهِ وأعظمهن حُرْمَة عِنْد الْمُسلمين

ص: 217

وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن النَّاس كَانُوا يتحرون بهداياهم يَوْم عَائِشَة لما يعلمُونَ من محبته إِيَّاهَا حَتَّى إِن نِسَاءَهُ غرن من ذَلِك وأرسلن إِلَيْهِ فَاطِمَة رضي الله عنها تَقول لَهُ نساؤك يسألنك الْعدْل فِي ابْنة أبي قُحَافَة فَقَالَ لفاطمة أَي بنية أما تحبين مَا أحب قَالَت بلَى

قَالَ فأحبي هَذِه الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضا أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ يَا عَائِشَة هَذَا جبرئيل يقْرَأ عَلَيْك السَّلَام

قَالَت وَعَلِيهِ السَّلَام وَرَحْمَة الله ترى مَالا نرى

وَلما أَرَادَ فِرَاق سوده بنت زَمعَة وهبت يَوْمهَا لعَائِشَة رضي الله عنها بِإِذْنِهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَت فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ يَقُول أَيْن أَنا الْيَوْم إستبطاء ليَوْم عَائِشَة ثمَّ اسْتَأْذن نِسَاءَهُ أَن يمرض فِي بَيت عَائِشَة رضي الله عنها فَمَرض فِيهِ وَفِي بَيتهَا توفّي بَين سحرها ونحرها وَفِي حجرها وَجمع بَين رِيقهَا وريقه

وَكَانَت رضي الله عنها مباركة على أمته حَتَّى قَالَ أسيد بن حضير لما أنزل الله آيَة التَّيَمُّم بِسَبَبِهَا مَا هِيَ بِأول بركتكم يَا آل أبي بكر مَا نزل بك أَمر تكرهينه إِلَّا جعل الله فِيهِ للْمُسلمين بركَة

وَقد كَانَت نزلت آيَة براءتها قبل ذَلِك لما رَمَاهَا أهل الْإِفْك فبرأها الله من فَوق سبع سموات وَجعلهَا من الصينات وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق

ص: 218

قَالَ وأذاعت سر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَعْنِي قَوْله تَعَالَى (وَإِذ أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا) وَثَبت فِي الصَّحِيح أَنَّهَا عَائِشَة وَحَفْصَة

قَالَ وَقَالَ لَهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِنَّك تقاتلين عليا وَأَنت ظالمة لَهُ فخالفت أَمر الله (وَقرن فِي بيوتكن) وَخرجت فِي مَلأ تقَاتل عليا لِأَن الْمُسلمين أَجمعُوا على قتل عُثْمَان وَكَانَت هِيَ كل وَقت تَأمر بقتْله وَتقول اقْتُلُوا نعثلا

وَكَيف إستجاز طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعشرَة آلَاف من الْمُسلمين مطاوعتها على قتال عَليّ وَبِأَيِّ وَجه يلقون رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَالْوَاحد منا لَو تحدث مَعَ امْرَأَة غَيره واخرجها من بَيتهَا وسافر بهَا كَانَ أَشد النَّاس عَدَاوَة لَهُ وَكَيف طاوعوها وَلم ينصر أحد مِنْهُم بنت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر لما طلبت حَقّهَا قُلْنَا أما أهل السّنة فَإِنَّهُم قائمون بِالْقِسْطِ وَقَوْلهمْ عدل لَا يتناقض

وَأما الرافضة وَأهل الْبدع فذوو أهواء وتناقض

فَمن ذَلِك أَن أهل السّنة عِنْدهم أَن اهل بدر فِي الْجنَّة وَكَذَلِكَ أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ

وَيَقُولُونَ لَيْسَ من شرطهم سلامتهم عَن الْخَطَأ بل وَلَا عَن الذَّنب بل يجوزون أَن يُذنب الرجل مِنْهُم ذَنبا صَغِيرا أَو كَبِيرا وَيَتُوب مِنْهُ وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الْمُسلمين

وَلَو لم يتب مِنْهُ فالصغائر تمحي باجتباب الْكَبَائِر عِنْد جماهيرهم

بل وَعند الْأَكْثَرين مِنْهُم أَن الْكَبَائِر تمحي بِالْحَسَنَاتِ الَّتِي هِيَ أعظم مِنْهَا وبالمصائب المكفرة وَغير ذَلِك

وَإِذ كَانَ هَذ أصلهم فَيَقُولُونَ مَا ذكر عَن الصَّحَابَة من السَّيِّئَات كثير مِنْهُ كذب وَكثير مِنْهُ كَانُوا مجتهدين فِيهِ وَلَكِن لَا يعرف كثير من النَّاس وَجه إجتهادهم

وَمَا قدر أَنه كَانَ فِيهِ ذَنْب من الذُّنُوب لَهُم فَهُوَ مغْفُور لَهُم إِمَّا بتوبة وَإِمَّا بحسنات ماحية وَإِمَّا بمصائب مكفرة وَإِمَّا بِغَيْر ذَلِك

فَإِنَّهُ قد قَامَ الدَّلِيل الَّذِي يجب القَوْل بِمُوجبِه أَنهم

ص: 219

من أهل الْجنَّة فَامْتنعَ أَن يَفْعَلُوا مَا يُوجب النَّار لَا محَالة

وَإِذا لم يمت أحدهم على مُوجب النَّار لم يقْدَح ذَلِك فِي إستحقاقهم للجنة

وَنحن قد علمنَا أَنهم من اهل الْجنَّة وَلَو لم يعلم أَن أُولَئِكَ المعينين فِي الْجنَّة لم يجز لنا أَن نقدح فِي إستحقاقهم للجنة بِأُمُور لَا نعلم أَنَّهَا توجب النَّار فَإِن هَذَا لَا يجوز فِي آحَاد الْمُؤمنِينَ الَّذين لم يعلم أَنهم يدْخلُونَ الْجنَّة وَلَيْسَ لنا أَن نشْهد لأحد مِنْهُم بالنَّار لأمور مُحْتَملَة لَا تدل على ذَلِك فَكيف يجوز ذَلِك فِي خِيَار الْمُؤمنِينَ وَالْعلم بتفاصيل أَحْوَال كل وَاحِد مِنْهُم بَاطِنا وظاهرا وحسناته وسيئاته وإجتهاداته أَمر يتَعَذَّر علينا مَعْرفَته فَكَانَ كلامنا فِي ذَلِك كلَاما فِيمَا لَا نعلمهُ وَالْكَلَام بِلَا علم حرَام فَلهَذَا كَانَ الْإِمْسَاك عَمَّا شجر بَين الصَّحَابَة خيرا من الْخَوْض فِي ذَلِك بِغَيْر علم بِحَقِيقَة الْأَحْوَال إِذْ كَانَ كثير من الْخَوْض فِي ذَلِك أَو أَكْثَره كلَاما بِلَا علم وَهَذَا حرَام لَو لم يكن فِيهِ هوى ومعارضة الْحق الْمَعْلُوم فَكيف إِذا كَانَ كلَاما لهوى يطْلب فِيهِ دفع الْحق الْمَعْلُوم وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْقُضَاة ثَلَاثَة قاضيان فِي النَّار وقاض فِي الْجنَّة

رجل علم الْحق وَقضى بِهِ فَهُوَ فِي الْجنَّة وَرجل علم الْحق وَقضى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّار وَرجل قضى للنَّاس على جهل فَهُوَ فِي النَّار فَإِذا كَانَ هَذَا فِي قَضَاء بَين إثنين فِي قَلِيل المَال أَو كَثِيره فَكيف الْقَضَاء بَين الصَّحَابَة فِي أُمُور كَثِيرَة فَمن تكلم فِي هَذَا الْبَاب بِجَهْل أَو بِخِلَاف مَا يعلم كَانَ مستوجبا للوعيد وَلَو تكلم بِحَق بِقصد الْهوى لَا لوجه الله تَعَالَى أَو يُعَارض بِهِ حَقًا آخر لَكَانَ أَيْضا مستوجبا للذم وَالْعِقَاب

وَمن علم مَا دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن وَالسّنة من الثَّنَاء على الْقَوْم ورضا الله عَنْهُم وإستحقاقهم الْجنَّة وَأَنَّهُمْ خير هَذِه الْأمة الَّتِي هِيَ خير أمة أخرجت للنَّاس لم يُعَارض هَذَا الْمُتَيَقن الْمَعْلُوم بِأُمُور مشتبهة مِنْهَا مَا لَا يعلم صِحَّته وَمِنْهَا مَا يتَبَيَّن كذبه وَمِنْهَا مَا لَا يعلم كَيفَ وَقع وَمِنْهَا مَا يعلم عذر الْقَوْم فِيهِ

وَمِنْهَا مَا يعلم تَوْبَتهمْ مِنْهُ وَمِنْهَا مَا يعلم أَن لَهُم من الْحَسَنَات مَا يغمره

فَمن سلك سَبِيل أهل السّنة إستقام قَوْله وَكَانَ من أهل الْحق والإستقامة والإعتدال وَإِلَّا حصل فِي جهل وَنقص وتناقض كَحال هَؤُلَاءِ الضلال

ص: 220

وَأما قَوْله وأذاعت سر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلَا ريب أَن الله تَعَالَى يَقُول (وَإِذا أسر النَّبِي إِلَى بعض أَزوَاجه حَدِيثا فَلَمَّا نبأت بِهِ وأظهره الله عَلَيْهِ عرف بعضه وَأعْرض عَن بعض فَلَمَّا نبأها بِهِ قَالَت من أَنْبَأَك هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيم الْخَبِير) وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن عمر أَنَّهَا عَائِشَة وَحَفْصَة

فَيُقَال أَولا هَؤُلَاءِ عَمدُوا إِلَى نُصُوص الْقُرْآن الَّتِي فِيهَا ذكر ذنُوب يتأولون النُّصُوص بأنواع التأويلات

وَأهل السّنة يَقُولُونَ بل أَصْحَاب الذُّنُوب تَابُوا مِنْهَا وَرفع الله درجاتهم بِالتَّوْبَةِ

وَهَذِه الْآيَة لَيست بِأولى فِي دلالتها على الذَّنب من تِلْكَ الْآيَات فَإِن كَانَ تَأْوِيل ذَلِك سائغا كَانَ تَأْوِيل هَذِه كَذَلِك وَإِن كَانَ تاويل هَذِه بَاطِلا فَتَأْوِيل تِلْكَ أبطل

وَيُقَال ثَانِيًا بِتَقْدِير أَن يكون هُنَاكَ ذَنْب لعَائِشَة وَحَفْصَة فتكونان قد تابتا مِنْهُ وَهَذَا ظَاهر لقَوْله تَعَالَى (أَن تَتُوبَا إِلَى الله فقد صغت قُلُوبكُمَا) فدعاهما الله تَعَالَى إِلَى التَّوْبَة فَلَا يظنّ بهما أَنَّهُمَا لم تَتُوبَا مَعَ مَا ثَبت من علو درجتها وأنهما زوجتا نَبينَا فِي الْجنَّة وَأَن الله خيرهن بَين الْحَيَاة الدُّنْيَا وَزينتهَا وَبَين الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة فاختزن الله وَرَسُوله وَالدَّار الْآخِرَة وَلذَلِك حرم عَلَيْهِ أَن يسْتَبْدل بِهن غَيْرهنَّ وَحرم عَلَيْهِ أَن يتَزَوَّج عَلَيْهِنَّ وَاخْتلف فِي إِبَاحَة ذَلِك لَهُ بعد ذَلِك وَمَات عَنْهُن وَهن أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ بِنَصّ الْقُرْآن

ثمَّ قد تقدم أَن الذَّنب يَزُول عِقَابه بِالتَّوْبَةِ والحسنات الماحية والمصائب المكفرة

وَيُقَال ثَالِثا الْمَذْكُور عَن أَزوَاجه كالمذكور عَمَّن شهد لَهُ بِالْجنَّةِ من أهل بَيته وَغَيرهم من أَصْحَابه

فَإِن عليا لما خطب إبنة أبي جهل على فَاطِمَة وَقَامَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا فَقَالَ إِن بني هِشَام بن الْمُغيرَة استأذنوني أَن ينكحوا عليا إبنتهم وَإِنِّي لَا آذن ثمَّ لَا آذن ثمَّ لَا آذن إِلَّا أَن يُرِيد ابْن أبي طَالب أَن يُطلق إبنتي ويتزوج إبنتهم

فَإِن فَاطِمَة بضعَة مني يريبني مَا رابها وَيُؤْذِينِي مَا آذاها فَلَا يظنّ بعلى أَنه ترك الْخطْبَة فِي الظَّاهِر فَقَط بل تَركهَا بِقَلْبِه وَتَابَ

ص: 221

بِقَلْبِه عَمَّا كَانَ طلبه وسعى فِيهِ

وَكَذَلِكَ لما صَالح النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْمُشْركين يَوْم الْحُدَيْبِيَة وَقَالَ لأَصْحَابه انحروا واحلقوا رءؤسكم فَلم يقم أحد فَدخل مغضبا على أم سَلمَة فَقَالَت من أغضبك أغضبهُ الله فَقَالَ مَالِي لَا أغضب وَأَنا آمُر بِالْأَمر فَلَا يطاع فَقَالَت يَا رَسُول الله ادْع بهديك فانحره وَأمر الحلاق فليحلق رَأسك

وَأمر عليا أَن يمحو اسْمه فَقَالَ وَالله لَا أمحوك

فَأخذ الْكتاب من يَده ومحاه

وَمَعْلُوم أَن تَأَخّر عَليّ وَغَيره من الصَّحَابَة عَمَّا أمروا بِهِ حَتَّى غضب النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذا قَالَ الْقَائِل هَذَا ذَنْب كَانَ جَوَابه كجواب الْقَائِل إِن عَائِشَة أذنبت فِي ذَلِك

فَمن النَّاس من يتَأَوَّل وَيَقُول إِنَّمَا تَأَخَّرُوا متأولين لكَوْنهم كَانُوا يرجون تَغْيِير الْحَال بِأَن يدخلُوا مَكَّة وَآخر يَقُول لَو كَانَ لَهُم تَأْوِيل مَقْبُول لم يغْضب النَّبِي صلى الله عليه وسلم بل تَابُوا من ذَلِك التَّأَخُّر وَرَجَعُوا عَنهُ مَعَ أَن حسناتهم تمحو مثل هَذَا الذَّنب وَعلي دَاخل فِي هَؤُلَاءِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ

وَأما قَوْله تقاتلين عليا فكذب فَإِن عَائِشَة لم تقَاتل وَلم تخرج لقِتَال وَإِنَّمَا خرجت بِقصد الْإِصْلَاح بَين الْمُسلمين وظنت أَن فِي خُرُوجهَا مصلحَة للْمُسلمين

ثمَّ

ص: 222

تبين لَهَا فِيمَا بعد أَن ترك الْخُرُوج كَانَ أولى

فَكَانَت إِذا ذكرت خُرُوجهَا تبْكي حَتَّى تبل خمارها

وَهَكَذَا عَامَّة السَّابِقين ندموا على مَا دخلُوا فِيهِ من الْقِتَال فندم طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعلي رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ

وَلم يكن يَوْم الْجمل لهَؤُلَاء قصد فِي الْقِتَال وَلَكِن وَقع الإقتتال بِغَيْر إختيارهم

ص: 223

وَأما قَوْله وخالفت أَمر الله فِي قَوْله تَعَالَى (وَقرن فِي بيوتكن وَلَا تبرجن تبرج الْجَاهِلِيَّة الأولى) فَهِيَ رضي الله عنها لم تتبرج تبرج الْجَاهِلِيَّة الأولى وَالْأَمر بالإستقرار فِي الْبيُوت لَا يُنَافِي الْخُرُوج لمصْلحَة مَأْمُور بهَا كَمَا لَو خرجت لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة اَوْ خرجت مَعَ زَوجهَا فِي سفر فَإِن هَذِه الْآيَة نزلت فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقد سَافر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِهن بعد ذَلِك فِي حجَّة الْوَدَاع سَافر بعائشة رضي الله عنها وَغَيرهَا وأرسلها مَعَ عبد الرَّحْمَن أَخِيهَا فأردفها خَلفه وأعمرها من التَّنْعِيم

وَحجَّة الْوَدَاع كَانَت قبل وَفَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِأَقَلّ من ثَلَاثَة أشهر بعد نزُول هَذِه الْآيَة وَلِهَذَا كن أَزوَاج النَّبِي صلى الله عليه وسلم يحججن كَمَا حججن فِي خلَافَة عمر رضي الله عنه وَكَانَ عمر يُوكل بقطارهن عُثْمَان أَو عبد الرَّحْمَن بن عَوْف

وَإِذا كَانَ سفرهن لمصْلحَة جَائِزا فعائشة اعتقدت أَن ذَلِك السّفر مصلحَة للْمُسلمين فتأولت فِي هَذَا

وَهَذَا كَمَا أَن قَول الله تَعَالَى (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُم بَيْنكُم بِالْبَاطِلِ) وَقَوله (وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم) يتَضَمَّن قتل الْمُؤمنِينَ بَعضهم بَعْضًا كَمَا فِي قَوْله (وَلَا تلمزوا أَنفسكُم) وَقَوله (لَوْلَا إِذْ سمعتموه ظن الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَنْفسِهِم خيرا) وَكَذَلِكَ قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا فِي شهركم هَذَا فِي بلدكم هَذَا وَقَوله صلى الله عليه وسلم إِذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فِي النَّار قيل يَا رَسُول الله هَذَا الْقَاتِل فَمَا بَال الْمَقْتُول قَالَ كَانَ حريضا عَليّ قتل صَاحبه

فَلَو قَالَ قَائِل إِن عليا وَمن قَاتله قد التقيا بسيفيهما وَقد إستحلوا دِمَاء الْمُسلمين فَيجب أَن يلحقهم الْوَعيد

ص: 224

فَجَوَابه أَن الْوَعيد لَا يتَنَاوَل الْمُجْتَهد المتأول وَإِن كَانَ مخطئا فَإِن الله تَعَالَى يَقُول فِي دُعَاء الْمُؤمنِينَ (رَبنَا لَا تُؤَاخِذنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأنَا) قد فعلت

وَقد عَفا للْمُؤْمِنين عَن النسْيَان وَالْخَطَأ والمجتهد المخطيء مغْفُور لَهُ خطأه وَإِذا غفر خطأ هَؤُلَاءِ فِي قتال الْمُؤمنِينَ فالمغفرة لعَائِشَة لكَونهَا لم تقر فِي بَيتهَا إِذْ كَانَت مجتهدة أولى

وَأَيْضًا لَو قَالَ قَائِل إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن الْمَدِينَة تَنْفِي خبثها وتنصع طيبها وَقَالَ لَا يخرج أحد من الْمَدِينَة رَغْبَة عَنْهَا إِلَّا أبدلها الله خيرا مِنْهُ أخرجه فِي الْمُوَطَّأ وَقَالَ إِن عليا خرج مِنْهَا وَلم يقم بهَا كَمَا أَقَامَ الْخُلَفَاء قبله وَلِهَذَا لم تَجْتَمِع عَلَيْهِ الْكَلِمَة لَكَانَ الْجَواب إِن الْمُجْتَهد إِذا كَانَ دون عَليّ لم يتَنَاوَلهُ الْوَعيد فعلي أولى أَن لَا يتَنَاوَلهُ الْوَعيد لإجتهاده

وَبِهَذَا يُجَاب عَن خُرُوج عَائِشَة رضي الله عنها وَإِذا كَانَ الْمُجْتَهد مخطئا فالخطأ مغْفُور بِالْكتاب وَالسّنة

وَأما قَوْله خرجت تقَاتل عليا على غير ذَنْب فَهَذَا إفتراء عَلَيْهَا وَلَو قدر أَن الطَّائِفَتَيْنِ قصدتا الْقِتَال لَكَانَ هُوَ الْقِتَال الْمَذْكُور فِي قَوْله تَعَالَى (وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله فَإِن فاءت فأصلحوا بَينهَا بِالْعَدْلِ وأقسطوا إِن الله يحب المقسطين

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة فأصلحوا بَين أخويكم) فجعلهم مُؤمنين إخْوَة مَعَ الإقتتال

وَأما قَوْله أَجمعُوا على قتل عُثْمَان فَهَذَا كذب سمج فَإِن الْجُمْهُور لم يأمروا بقتْله وَلَا رضوه وَلم يكن أَكثر الْمُسلمين بِالْمَدِينَةِ بل كَانُوا بالأمصار من بلد الْمغرب إِلَى خُرَاسَان وَلم يدْخل خِيَار الْمُسلمين فِي ذَلِك وَإِنَّمَا قَتله طَائِفَة من المفسدين فِي الأَرْض من أوباش الْقَبَائِل ورءوس الشَّرّ

وَعَن عَليّ قَالَ اللَّهُمَّ الْعَن قَتله عُثْمَان فِي الْبر وَالْبَحْر والسهل والجبل

غَايَة مَا يُقَال إِنَّهُم لم ينصروه وفتروا عَن إعانته بِمَا

ص: 225

رَأَوْهُ وَمَا ظنُّوا أَن الْأَمر يبلغ إِلَى قَتله

وَمن الْمَعْلُوم أَن الْمُسلمين أَجمعُوا على بيعَة عُثْمَان

ص: 226

وَمَا أَجمعُوا على قَتله فَهَلا كَانَ الْإِجْمَاع على بيعَته يَا معشر الرافضة حَقًا لتيقن الْإِجْمَاع عَلَيْهَا وَأَيْضًا فإجماع النَّاس على بيعَة أبي بكر أعظم من إِجْمَاعهم على بيعَة عَليّ وعَلى قتل عُثْمَان فَإِنَّهُ مَا تخلف عَن أبي بكر إِلَّا جمَاعَة كسعد بن عبَادَة وَالله يغْفر لَهُ

وَقد قدمنَا أَن الرجل الْمَشْهُود لَهُ بِالْجنَّةِ قد يُذنب لإنتفاء الْعِصْمَة

وَمَا قَوْلك يَا جَاهِل إِن عُثْمَان قتل بِالْإِجْمَاع إِلَّا كَمَا قَالَ ناصبي قتل الْحُسَيْن بِإِجْمَاع الْمُسلمين لِأَن الَّذين قَاتلُوهُ وقتلوه لم يدفعهم أحد عَن ذَلِك فَلم يكن كذبه بأظهر من كذب الْمُدَّعِي الْإِجْمَاع على

ص: 227

قتل عُثْمَان فَإِن الْحُسَيْن لم يعظم إِنْكَار الْأمة لقَتله كَمَا عظم إنكارهم لقتل عُثْمَان وَلَا انتصر لَهُ جيوش كالجيوش الَّذين انتصروا لعُثْمَان وَلَا انتقم أعوانه من أعدائه كَمَا انتقم أعوان عُثْمَان من أعدائه وَلَا حصل بقتْله من الْفِتْنَة وَالشَّر وَالْفساد مَا حصل بقتل عُثْمَان

ص: 228

وَلَا كَانَ قَتله أعظم إنكارا عِنْد الله وَعند رَسُوله وَعند الْمُؤمنِينَ من قتل عُثْمَان فَإِن عُثْمَان من أَعْيَان السَّابِقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين من طبقَة عَليّ وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَهُوَ خَليفَة للْمُسلمين أَجمعُوا على بيعَته بل لم يشهر فِي الْأمة سَيْفا وَلَا قتل على ولَايَته أحدا وَكَانَ بغزو بِالْمُسْلِمين الْكفَّار بِالسَّيْفِ وَكَانَ السَّيْف فِي خِلَافَته كَمَا كَانَ فِي خلَافَة أبي بكر وَعمر مسلولا على الْكفَّار مكفوفا عَن أهل الْقبْلَة

ثمَّ إِنَّه طلب قَتله وَهُوَ خَليفَة

ص: 229

فَصَبر وَلم يُقَاتل دفعا عَن نَفسه حَتَّى قتل

وَلَا ريب أَن هَذَا أعظم أجرا وقتلته أعظم إِنَّمَا مِمَّن لم يكن مُتَوَلِّيًا فَخرج يطْلب الْولَايَة وَلم يتَمَكَّن حَتَّى قَاتله أعوان الَّذين طلب أَخذ الْأَمر مِنْهُم فقاتل عَن نَفسه حَتَّى قتل

وَلَا ريب أَن قتال الدَّافِع عَن نَفسه وولايته أقرب من قتال الطَّالِب لِأَن يَأْخُذ الْأَمر من غَيره وَعُثْمَان ترك الْقِتَال دفعا عَن ولَايَته فَكَانَ حَاله أفضل من حَال الْحُسَيْن وَقَتله أشنع من قتل الْحُسَيْن

كَمَا أَن الْحسن رضي الله عنه وَهُوَ لم يُقَاتل على الْأَمر بل أصلح بَين الْأمة بترك الْقِتَال مدحه النَّبِي صلى الله عليه وسلم على ذَلِك فَقَالَ إِن ابْني هَذَا سيد وسيصلح الله بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين

والمنتصرون لعُثْمَان مُعَاوِيَة وَأهل الشَّام والمنتصرون من قتلة الْحُسَيْن

ص: 230

الْمُخْتَار بن أبي عبيد الثَّقَفِيّ وأعوانه

وَلَا يشك عَاقل أَن مُعَاوِيَة رضي الله عنه خير من الْمُخْتَار فَإِن الْمُخْتَار كَذَّاب ادّعى النُّبُوَّة

وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ

ص: 231

يكون فِي ثَقِيف كَذَّاب ومبير فالكذاب هُوَ الْمُخْتَار والمبير هُوَ الْحجَّاج بن يُوسُف

ص: 232

وَهَذَا الْمُخْتَار كَانَ أَبوهُ رجلا صَالحا وَهُوَ أَبُو عبيد الثَّقَفِيّ الَّذِي قتل شَهِيدا فِي حَرْب الْمَجُوس وَأُخْته صَفِيَّة بنت أبي عبيد امْرَأَة عبد الله بن عمر امْرَأَة صَالِحَة وَكَانَ الْمُخْتَار رجل سوء

ص: 233

وَأما قَوْله إِن عَائِشَة كَانَت فِي كل وَقت تامر بقتل عُثْمَان وَتقول فِي كل وَقت اقْتُلُوا نعثلا قتل الله نعثلا وَلما بلغَهَا قَتله فرحت بذلك

فَيُقَال أَولا أَيْن النَّقْل الثَّابِت عَن عَائِشَة بذلك وَيُقَال ثَانِيًا إِن الْمَنْقُول عَن عَائِشَة يكذب ذَلِك وَيبين أَنَّهَا أنْكرت قَتله وذمت من قَتله ودعت على أَخِيهَا مُحَمَّد وَغَيره لمشاركتهم فِي ذَلِك

وَيُقَال ثَالِثا هَب أَن وَاحِدًا من الصَّحَابَة عَائِشَة أَو غَيرهَا قَالَ فِي ذَلِك كلمة على وَجه الْغَضَب

ص: 234

لإنكاره بعض مَا يُنكر فَلَيْسَ قَوْله حجَّة وَلَا يقْدَح فِي إِيمَان الْقَائِل وَلَا الْمَقُول لَهُ بل قد يكون كِلَاهُمَا وليا لله تَعَالَى من أهل الْجنَّة ويظن أَحدهمَا جَوَاز قتل الآخر بل و \ يظنّ كفره وَهُوَ مخطيء فِي هَذَا الظَّن كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَليّ وَغَيره فِي قصَّة حَاطِب ابْن أبي بلتعة وَكَانَ من أهل بدر وَالْحُدَيْبِيَة وَفِي حَدِيث عَليّ أَن حَاطِبًا كتب إِلَى الْمُشْركين بِمَكَّة يُخْبِرهُمْ بِبَعْض أَمر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لما أَرَادَ غَزْوَة الْفَتْح فَاطلع الله نبيه على ذَلِك فَقَالَ لعَلي وَالزُّبَيْر إذهبا حَتَّى تأتيا رَوْضَة خَاخ فَإِن بهَا ظَعِينَة مَعهَا كتاب

فَلَمَّا أَتَيَا بِالْكتاب قَالَ مَا هَذَا يَا حَاطِب فَقَالَ وَالله يَا رَسُول الله مَا فعلت هَذَا إرتدادا وَلَا رضَا بالْكفْر وَلَكِن كنت امْرَءًا مُلْصقًا فِي قُرَيْش وَلم أكن من أنفسهم وَكَانَ من مَعَك من الْمُهَاجِرين لَهُم بِمَكَّة قَرَابَات يحْمُونَ بهَا أَهْليهمْ فَأَحْبَبْت إِذْ فَاتَنِي ذَلِك أَن أَتَّخِذ عِنْدهم يدا يحْمُونَ بهَا قَرَابَتي

فَقَالَ عمر رضي الله عنه دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق

فَقَالَ إِنَّه شهد بَدْرًا وَمَا يدْريك أَن الله اطلع على أهل بدر فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُم فقد غفرت لكم وأنزال الله تَعَالَى فِي أول سُورَة الممتحنة (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء تلقونَ إِلَيْهِم بالمودة وَقد كفرُوا بِمَا جَاءَكُم من الْحق يخرجُون الرَّسُول وَإِيَّاكُم أَن تؤمنوا بِاللَّه ربكُم إِن كُنْتُم خَرجْتُمْ جهادا فِي سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إِلَيْهِم بالمودة وَأَنا أعلم بِمَا أخفيتم وَمَا أعلنتم وَمن يَفْعَله مِنْكُم فقد ضل سَوَاء السَّبِيل) الْآيَات

وَهَذِه الْقِصَّة مِمَّا اتّفق أهل الْعلم على صِحَّتهَا

وَهِي متواترة عِنْدهم مَعْرُوفَة عِنْد عُلَمَاء التَّفْسِير وعلماء الْمَغَازِي وَالسير والتواريخ وعلماء الْفِقْه وَغير هَؤُلَاءِ وَكَانَ عَليّ رضي الله عنه يحدث بِهَذَا الحَدِيث فِي خِلَافَته بعد الْفِتْنَة وروى ذَلِك عَنهُ كَاتبه عبيد الله بن أبي رَافع ليبين لَهُم أَن السَّابِقين مغْفُور لَهُم وَلَو جرى مِنْهُم مَا جرى

وَعُثْمَان وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر أفضل

ص: 235

بإتفاق الْمُسلمين من حَاطِب بن أبي بلتعة وَكَانَ حَاطِب مسيئا إِلَى مماليكه وَكَانَ ذَنبه فِي مكَاتبه الْمُشْركين وإعانتهم على النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابه أعظم من الذُّنُوب الَّتِي تُضَاف إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَعَ هَذَا فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عَن قَتله

وَكذب من قَالَ إِنَّه يدْخل النَّار لِأَنَّهُ شهد بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَة وَأخْبر بمغفرة الله لأهل بدر

وَمَعَ هَذَا فَقَالَ عمر رضي الله عنه دَعْنِي أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق فَسَماهُ منافقا واستحل قَتله وَلم يقْدَح ذَلِك فِي إِيمَان وَاحِد مِنْهُمَا وَلَا فِي كَونه من أهل الْجنَّة

وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيرهمَا فِي حَدِيث الْإِفْك لما قَامَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا على الْمِنْبَر يعْتَذر من رَأس الْمُنَافِقين عبد الله بن أبي ابْن سلول فَقَالَ من يعذرني من رجل بَلغنِي أَذَاهُ فِي أَهلِي وَالله مَا علمت على أَهلِي إِلَّا خيرا

وَلَقَد ذكرُوا رجلا مَا علمت عَلَيْهِ إِلَّا خيرا فَقَامَ سعد بن معَاذ سيد الْأَوْس وَهُوَ الَّذِي اهتز لمَوْته عرش الرَّحْمَن وَهُوَ الَّذِي كَانَ لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم بل حكم فِي حلفائه من بني قُرَيْظَة بِأَن يقتل مقاتلهم وتسبى ذَرَارِيهمْ وتغنم أَمْوَالهم

حَتَّى قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بِحكم الله من فَوق سَبْعَة أَرقعَة فَقَالَ يَا رَسُول الله نَحن نعذرك مِنْهُ إِن كَانَ من الْأَوْس ضربنا عُنُقه وَإِن كَانَ من أَصْحَابنَا من الْخَزْرَج أمرتنا فَفَعَلْنَا فِيهِ أَمرك

فَقَامَ سعد بن عبَادَة فَقَالَ كذبت لعَمْرو الله لَا تقتله وَلَا تقدر على قَتله

فَقَالَ أسيد بن حضير فَقَالَ كذبت لعَمْرو الله لنقتلنه فَإنَّك مُنَافِق تجَادل عَن الْمُنَافِقين

وكادت تثور فتْنَة بَين الْأَوْس والخزرج حَتَّى نزل النَّبِي صلى الله عليه وسلم وخفضهم

وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة من خِيَار السَّابِقين الْأَوَّلين وَقد قَالَ أسيد بن حضير لسعد بن عبَادَة إِنَّك مُنَافِق تجَادل عَن الْمُنَافِقين وَهَذَا مُؤمن ولي لله من أهل الْجنَّة وَذَاكَ مُؤمن ولي لله من أهل الْجنَّة فَدلَّ على أَن الرجل قد يكفر أَخَاهُ بالتأويل وَلَا يكون وَاحِد مِنْهُمَا كَافِرًا

ص: 236

وَقَول بعض الصَّحَابَة فِي مَالك بن الدخشم وودوا أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم دَعَا عَلَيْهِ فَيهْلك فَقضى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم صلَاته وَقَالَ أَلَيْسَ يشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله

وَلَيْسَ من شَرط الرجل الْكَبِير أَن لَا يُذنب وَلَا يخطيء بإجتهاد وَلَا نَحن ادعينا الْعِصْمَة فِي عُثْمَان

وَالْكَلَام فِي النَّاس يجب أَن يكون بِعلم وَعدل لَا بِجَهْل وظلم كَحال أهل الْبدع

فَإِن الرافضة يَعْمِدُونَ إِلَى أَقوام متقاربين فِي الْفَضِيلَة يُرِيدُونَ أَن يجْعَلُوا أحدهم مَعْصُوما من الذُّنُوب والخطايا وَالْآخر مأثوما فَاسِقًا أَو كَافِرًا فَيظْهر جهلهم وتناقضهم

كاليهودي أَو النَّصْرَانِي إِذا أَرَادَ أَن يثبت نبوة مُوسَى أَو عِيسَى مَعَ قدحه فِي نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ يظْهر عَجزه وجهله وتناقضه فَإِنَّهُ مَا من طَرِيق يثبت بهَا نبوة مُوسَى وَعِيسَى إِلَّا وَتثبت نبوة مُحَمَّد بِمِثْلِهَا أَو بِمَا هُوَ أقوى مِنْهَا

وَلَا من شُبْهَة تعرض فِي نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم إِلَّا وَتعرض فِي نبوة مُوسَى وَعِيسَى عليهما السلام بِمَا هُوَ مثلهَا أَو أقوى مِنْهَا

وكل من عمد إِلَى التَّفْرِيق بَين المتماثلين أَو مدح الشَّيْء وذم مَا هُوَ من جنسه أَو مَا هُوَ أولى بالمدح مِنْهُ أَو بِالْعَكْسِ أَصَابَهُ مثل هَذَا التَّنَاقُض وَالْعجز وَالْجهل

وَهَكَذَا أَتبَاع الْعلمَاء والمشايخ إِذا أَرَادَ أحدهم أَن يمدح متبوعه ويذم نَظِيره أَو يفضل أحدهم على الآخر بِمثل هَذَا الطَّرِيق

وَأما قَوْله إِنَّهَا سَأَلت من تولى الْخلَافَة فَقَالُوا عَليّ

فَخرجت لقتاله على دم عُثْمَان وَأي ذَنْب كَانَ لعَلي فِي ذَلِك

يُقَال لَهُ أَولا قَول الْقَائِل إِن عَائِشَة وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر إتهموا عليا بِأَنَّهُ قتل عُثْمَان وقاتلوه على ذَلِك كذب

بل إِنَّمَا طلبُوا القتلة الَّذين كَانُوا تحيزوا إِلَى عَليّ وهم يعلمُونَ أَن بَرَاءَة عَليّ من دم عُثْمَان كبراءتهم وَأعظم لَكِن

ص: 237

القتلة كَانُوا قد أووا إِلَيْهِ فطلبوا قتل القتلة وَلَكِن كَانُوا عاجزين عَن ذَلِك هم وَعلي لِأَن الْقَوْم كَانَت لَهُم قبائل يَذبُّونَ عَنْهُم والفتنة إِذا وَقعت عجز الْعُقَلَاء فِيهَا عَن دفع السُّفَهَاء فَصَارَ الأكابر رضي الله عنهم عاجزين عَن إطفاء الْفِتْنَة وكف أَهلهَا وَهَذَا شَأْن الْفِتَن كَمَا قَالَ تَعَالَى (وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة) وَإِذا وَقعت الْفِتْنَة لم يسلم من التلوث بهَا إِلَّا من عصمه الله

وَأَيْضًا فَقَوله أَي ذَنْب كَانَ لعَلي فِي قَتله تنَاقض مِنْهُ فَإِنَّهُ يزْعم أَن عليا مِمَّن يسْتَحل قَتله وقتاله وَمِمَّنْ ألب عَلَيْهِ وَقَامَ بذلك فَإِن عليا قد نسبه إِلَى قتل عُثْمَان كثير من شيعته وشيعة عُثْمَان هَؤُلَاءِ لتعصبهم لعُثْمَان وَهَؤُلَاء لتعصبهم لعَلي

وَأما جَمَاهِير الْإِسْلَام فيعلمون كذب الطَّائِفَتَيْنِ على عَليّ

والرافضة تَقول إِن عليا كَانَ مِمَّن يسْتَحل قتل عُثْمَان بل وَقتل أبي بكر وَعمر وَترى أَن الْإِعَانَة على قَتله من الطَّاعَات والقربات

ص: 238

فَكيف يَقُول من هَذَا إعتقاده أَي ذَنْب كَانَ لعَلي فِي ذَلِك وَإِنَّمَا يَلِيق هَذَا التَّنْزِيه لعَلي بأقوال أهل السّنة

لَكِن الرافضة من أعظم النَّاس تناقضا

وَأما قَوْله وَكَيف إستجاز طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَغَيرهمَا مطاوعتها على ذَلِك وَبِأَيِّ وَجه يلقون رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَعَ أَن الْوَاحِد منا لَو تحدث مَعَ امْرَأَة غَيره أَو أخرجهَا من منزلهَا أَو سَافر بهَا كَانَ أَشد النَّاس عَدَاوَة لَهُ فَيُقَال هَذَا من تنَاقض الرافضة وجهلهم فَإِنَّهُم يعظمون عَائِشَة فِي هَذَا الْمقَام طَعنا فِي طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَلَا يعلمُونَ أَن هَذَا إِن كَانَ مُتَوَجها فالطعن فِي عَليّ بذلك أوجه فَإِن طَلْحَة وَالزُّبَيْر كَانَا معظمين عَائِشَة موافقين لَهَا مؤتمرين بأمرها وهما وَهِي من أبعد النَّاس عَن الْفَوَاحِش والمعاونة عَلَيْهَا فَإِن جَازَ للرافضي أَن يقْدَح فيهمَا بقوله بِأَيّ وَجه يلقون رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَعَ أَن الْوَاحِد منا لَو تحدث مَعَ امْرَأَة غَيره حَتَّى أخرجهَا من منزلهَا وسافر بهَا إِلَخ كَانَ للناصبي أَن يَقُول بِأَيّ وَجه يلقى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من قَاتل امْرَأَته وسلط عَلَيْهَا أعوانه حَتَّى عقروا بهَا بَعِيرهَا وَسَقَطت من هودجها وأعداؤها حولهَا يطوفون بهَا كالمسبية الَّتِي أحَاط بهَا من يقْصد سباءها وَمَعْلُوم أَن هَذَا فِي مظنه الإهانة لأهل الرجل وَذَلِكَ أعظم من إخْرَاجهَا من منزلهَا وَهِي بِمَنْزِلَة الملكة المبجلة المعطمة الَّتِي لَا يَأْتِي إِلَيْهَا أحد إِلَّا بِإِذْنِهَا وَلم يكن طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَلَا غَيرهمَا من الْأَجَانِب يحملونها بل كَانَ فِي المعسكر من محارمها مثل عبد الله بن الزبير ابْن أُخْتهَا وخلوته بهَا ومسه لَهَا جَائِز بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع

وَكَذَلِكَ سفر الْمَرْأَة مَعَ ذِي محرمها جائظ بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع

وَهِي لم تُسَافِر إِلَّا مَعَ ذِي محرمها

وَأما الْعَسْكَر الَّذين قاتلوها فلولا أَنه كَانَ فِي الْعَسْكَر مُحَمَّد بن أبي بكر مد يَده إِلَيْهَا لمد يَده إِلَيْهَا الْأَجَانِب

وَلِهَذَا دعت عَائِشَة رضي الله عنها على من مد يَده إِلَيْهَا وَقَالَت يَد من هَذِه

ص: 239

أحرقها الله بالنَّار فَقَالَ أَي أُخْت فِي الدُّنْيَا قبل الْآخِرَة فَقَالَت فِي الدُّنْيَا قبل الْآخِرَة فاحرق بالنَّار بِمصْر

وَلَو قَالَ المشنع أَنْتُم تَقولُونَ إِن آل الْحُسَيْن سبوا لما قتل الْحُسَيْن

وَلم يفعل بهم إِلَّا من جنس مَا فعل بعائشة حَيْثُ استولى عَلَيْهَا وَردت إِلَى بَيتهَا وَأعْطيت نَفَقَتهَا وَكَذَلِكَ آل الْحُسَيْن إستولى عَلَيْهِم وردوا إِلَى أَهْليهمْ وأعطوا نَفَقَتهم فَإِن كَانَ هَذَا سبيا وإستحلالا للْحُرْمَة النَّبَوِيَّة فعائشة قد سبيت واستحلت حُرْمَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

وهم يشنعون ويزعمون أَن بعض أهل الشَّام طلب أَن يسترق فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن وَأَنَّهَا قَالَت لَاها لله حَتَّى نكفر بديننا

وَهَذَا إِن كَانَ وَقع فَالَّذِينَ طلبُوا من عَليّ أَن يسبوا من قاتهلم من أهل الْجمل وصفين ويغنموا أَمْوَالهم أعظم جرما وَكَانَ فِي ذَلِك لَو سبوا عَائِشَة وَغَيرهَا

ثمَّ إِن هَؤُلَاءِ الَّذين طلبُوا ذَلِك من عَليّ كَانُوا متدينين بِهِ مصرين عَلَيْهِ إِلَى أَن خَرجُوا على عَليّ وَقَاتلهمْ على ذَلِك

وَذَلِكَ الَّذِي طلب إسترقاق فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن وَاحِد مَجْهُول لَا شَوْكَة لَهُ وَلَا حجَّة وَلَا فعل هَذَا تدينا

وَلما مَنعه سُلْطَانه من ذَلِك إمتنع

فَكَانَ المستحلون لدماء الْمُسلمين وحرمهم وَأَمْوَالهمْ وَحُرْمَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي عَسْكَر عَليّ أعظم مِنْهُم فِي عَسْكَر بني أُميَّة

وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ بَين النَّاس

فَإِن الْخَوَارِج الَّذين مرقوا من عَسْكَر عَليّ رضي الله عنه هم شَرّ من شرار عَسْكَر مُعَاوِيَة رضي الله عنه وَلِهَذَا أَمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بقتالهم وَأجْمع الصَّحَابَة على قِتَالهمْ والرافضة أكذب مِنْهُم وأظلم وأجهل وَأقرب إِلَى الْكفْر والنفاق لكِنهمْ أعجز مِنْهُم وأذل وكلا الطَّائِفَتَيْنِ عَن عَسْكَر عَليّ

وَبِهَذَا وَأَمْثَاله ضعف عَليّ وَعجز عَن مقاومة من كَانَ بإزائه

وَالْمَقْصُود هُنَا أَن مَا يذكرُونَهُ من الْقدح فِي طَلْحَة وَالزُّبَيْر يَنْقَلِب مَا هُوَ أعظم

ص: 240

مِنْهُ فِي حق عَليّ

فَإِن أجابوا عَن ذَلِك بِأَن عليا كَانَ مُجْتَهدا فِيمَا فعل وَأَنه أولى بِالْحَقِّ من طَلْحَة وَالزُّبَيْر قيل نعم وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر كَانَا مجتهدين وَعلي وَإِن كَانَ أفضل مِنْهُمَا وَلَكِن إِن كَانَ فعل طَلْحَة وَالزُّبَيْر مَعَهُمَا ذَنبا فَفعل عَليّ أعظم ذَنبا

فَإِن قَالُوا هما أحوجا عليا إِلَى ذَلِك لِأَنَّهُمَا أَتَيَا بهَا فَمَا فعله عَليّ مُضَاف إِلَيْهِمَا لَا إِلَى عَليّ قيل وَهَكَذَا مُعَاوِيَة قيل لَهُ قتلت عمارا وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم تقتلك الفئة الباغية قَالَ أَو نَحن قَتَلْنَاهُ إِنَّمَا قَتله الَّذين جَاءُوا بِهِ حَتَّى جَعَلُوهُ تَحت سُيُوفنَا

فَإِن كَانَت هَذِه الْحجَّة مَرْدُودَة فحجة من احْتج بِأَن طَلْحَة وَالزُّبَيْر فعلا بعائشة مَا جرى عَلَيْهَا من إهانة عَسْكَر عَليّ لَهَا وإستيلائهم عَلَيْهَا مَرْدُودَة أَيْضا

وَإِن قبلت هَذِه الْحجَّة قبلت حجَّة مُعَاوِيَة رضي الله عنه

والرافضة وأمثالهم من أهل الْجَهْل وَالظُّلم يحتجون بِالْحجَّةِ الَّتِي تَسْتَلْزِم فَسَاد قَوْلهم وتناقضهم فَإِنَّهُ إِن احْتج بنظيرها عَلَيْهِم فسد قَوْلهم المنقوض بنظيرها وَإِن لم تحتج بنظيرها بطلت هِيَ فِي نَفسهَا لِأَنَّهُ لَا بُد من التَّسْوِيَة بَين المتماثلين

وَلَكِن منتهاهم مُجَرّد الْهوى الَّذِي لَا علم مَعَه (وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين)

وَأما قَوْله

كَيفَ أطاعها عشرَة آلَاف من الْمُسلمين وساعدوها على حَرْب أَمِير الْمُؤمنِينَ وَلم ينصر أحد مِنْهُم فَاطِمَة لما طلبت حَقّهَا من أبي بكر وَلَا شخص وَاحِد كَلمه بِكَلِمَة فَهَذَا من أعظم الْحجَج عَلَيْهِ

فَإِنَّهُ لَا يشك عَاقل أَن الْقَوْم كَانُوا يحبونَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ويعظمونه ويعظمون قرَابَته وبنته أَكثر وَأعظم مِمَّا يعظمون أَبَا بكر وَعمر

وَلَا يرتاب

ص: 241

عَاقل أَن الْعَرَب كَانَت تدين لبني عبد منَاف فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام أعظم مِمَّا تدين لبني تيم وَبني عدي

وَلِهَذَا لما تولى أَبُو بكر قَالَ أَبوهُ أَو قُحَافَة أرضيت بَنو مَخْزُوم وَبَنُو عبد شمس قَالُوا نعم قَالَ ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء

وَلِهَذَا جَاءَ أَبُو سُفْيَان إِلَى عَليّ فَقَالَ أرضيتم أَن يكون هَذَا الْأَمر فِي بني تيم فَقَالَ عَليّ يَا أَبَا سُفْيَان إِن الْإِسْلَام لَيْسَ كأمر الْجَاهِلِيَّة أَو كَمَا قَالَ

فَإِذا كَانَ الْمُسلمُونَ كلهم فيهم من قَالَ إِن فَاطِمَة مظلومة وَلَا إِن أَبَا بكر ظلمها وَلَو فَرضنَا أَنهم عاجزون عَن نصرها كَمَا زعمت فَلَا أقل من الْمقَال فَإِذا لم يَقع شَيْء من النُّصْرَة وَلَا القَوْل قَطعنَا بِأَنَّهَا لم تظلم

هَذَا وَأَبُو بكر لم يكن مُمْتَنعا من سَماع كَلَام أحد وَلَا كَانَ مَعْرُوفا بالجبروت وإتفاق الْكل مَعَ توفر دواعيهم عَليّ بغض فَاطِمَة مَعَ قيام الْأَسْبَاب الْمُوجبَة لمحبتها مِمَّا يعلم إمتناعه بِالضَّرُورَةِ

وَكَذَلِكَ عَليّ وَلَا سِيمَا وَجُمْهُور قُرَيْش وَالْأَنْصَار وَالْعرب لم يكن إِلَى عَليّ مِنْهُم وَلَا مِنْهُ إِلَيْهِم إساءة لَا فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا فِي الْإِسْلَام

وَأما عمر فَكَانَ أَشد على الْأَعْرَاب وَأكْثر عَدَاوَة لَهُم من عَليّ وَكَلَامهم فِيهِ وَفِي حِدته مَعْرُوفَة وَمَعَ هَذَا تولى عَلَيْهِم فَمَا مَاتَ إِلَّا وَكلهمْ يثنى عَلَيْهِ وتوجع الْكل لمصرعه

وَهَذَا مَا يبين أَن الْأَمر على نقيض مَا تَقوله الرافضة وَأَن الْقَوْم كَانُوا يعلمُونَ أَن فَاطِمَة لم تكن مظلومة أصلا

ثمَّ كَيفَ يقْتَصّ الْقَوْم لعُثْمَان حَتَّى سفكت دِمَاؤُهُمْ وَلَا ينتصرون للرسول صلى الله عليه وسلم وَأهل بَيته وَكَيف يُقَاتلُون مَعَ مُعَاوِيَة حَتَّى سفكت دِمَاؤُهُمْ مَعَه وَقد اخْتلف عَلَيْهِ بَنو عبد منَاف وَلَا يُقَاتلُون مَعَ عَليّ رضي الله عنه حَتَّى تسفك دِمَاؤُهُمْ وَبَنُو عبد منَاف مَعَه فالعباس بن عبد الْمطلب أكبر بني هَاشم وَأَبُو سُفْيَان بن حَرْب أكبر بني أُميَّة وَكِلَاهُمَا

ص: 242

كَانَا يميلان إِلَى عَليّ فَلم لَا قَاتل النَّاس مَعَه إِذْ ذَاك وَالْأَمر فِي أَوله والقتال إِذْ ذَاك لَو كَانَ حَقًا مَعَ عَليّ أولى وَولَايَة عَليّ أسهل فَإِنَّهُ لَو عرض نفر قَلِيل مِنْهُم وَقَالُوا عَليّ هُوَ الْوَصِيّ كَمَا ادَّعَت الرافضة وَنحن لَا نُبَايِع إِلَّا لَهُ وَلَا نعصي نَبينَا صلى الله عليه وسلم وَلَا نقدم الظَّالِمين أَو الْمُنَافِقين من بني تيم على بني هَاشم لأستجاب جُمْهُور النَّاس بل عامتهم لَا سِيمَا وَأَبُو بكر لَيْسَ عِنْده رَغْبَة وَلَا رهبة

ثمَّ هَب أَن عمر وَجَمَاعَة كَانُوا مَعَه فَمَا هم بِأَكْثَرَ وَلَا أعز من الَّذين كَانُوا مَعَ طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَمُعَاوِيَة وَمَعَ هَذَا فقد قَاتلهم عَليّ

إِنَّه لَو كَانَ الْحق كَمَا تَقوله الرافضة لَكَانَ أَبُو بكر وَعمر وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من شرار أهل الأَرْض وأعظمهم جهلا وظلما حَيْثُ عَمدُوا بعد موت نَبِيّهم صلى الله عليه وسلم فبدلوا وظلموا وكل هَذَا مِمَّا يعلم بالإضطرار فَسَاده من دين الْإِسْلَام وَهُوَ مِمَّا يبين أَن الَّذِي ابتدع مَذْهَب الرافضة كَانَ زنديقا ملحدا عدوا لدين الْإِسْلَام وَأَهله وَلم يكن من أهل الْبدع المتأولين كالخوارج والقدرية وَإِن كَانَ قَول الرافضة راج بعد ذَلِك على قوم فيهم إِيمَان لفرط جهلهم

ص: 243

ثمَّ يُقَال وَأي دَاع كَانَ للْقَوْم حَتَّى نصروا عَائِشَة على عَليّ وَلَا ينْصرُونَ فَاطِمَة على أبي بكر وَلَو كَانَ قيامهم للرئاسة وَالدُّنْيَا لَكَانَ قيامهم مَعَ أشرف الْعَرَب وهم بَنو هَاشم أولى

وَلِهَذَا قَالَ صَفْوَان بن أُميَّة الجُمَحِي يَوْم حنين

وَالله لِأَن يربنِي رجل من قُرَيْش أحب إِلَيّ من أَن يربنِي رجل من ثَقِيف

فصفوان رَأس الطُّلَقَاء لِأَن يربه رجل من بني عبد منَاف أحب إِلَيْهِ من أَن يربه رجل من بني تيم وهلا قدمُوا الْعَبَّاس فَإِنَّهُ كَانَ أقرب إِلَى أغراضهم من أبي بكر إِذا فرضتم أَن قيامهم للدنيا فَدلَّ ذَلِك على أَنهم وضعُوا الْحق فِي نصابه وأقروه فِي إهابه وَأتوا إِلَيْهِ من بَابه

قَالَ وسموها أم الْمُؤمنِينَ وَلم يسموا غَيرهَا بذلك

قُلْنَا هَذَا بهتان وَاضح لكل أحد وَجَهل مِنْك

بل مَا زَالَت الْأمة قَدِيما وحديثا يسمون أَزوَاج النَّبِي صلى الله عليه وسلم أُمَّهَات الْمُؤمنِينَ اتبَاعا لنَصّ تسميتهم بِالْقُرْآنِ سوى الرافضة وَمَا يُنكر هَذَا إِلَّا من يَقُول الْحُسَيْن لَيْسَ بإبن فَاطِمَة كَمَا قَالَ بعض النصيرية وَمَا كَانَ الْحسن وَالْحُسَيْن أَوْلَاد عَليّ بل أَوْلَاد سُلَيْمَان الْفَارِسِي

وَمِنْهُم من قَالَ لَيْسَ أَبُو بكر وَعمر مدفونين عِنْد النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن ورقية وَأم كُلْثُوم ليستا بِنْتي النَّبِي صلى الله عليه وسلم بل بِنْتا خَدِيجَة

ص: 244

من غَيره

قَالَ وَلم يسموا أخاها مُحَمَّد بن أبي بكر خَال الْمُؤمنِينَ وَسموا مُعَاوِيَة خَال الْمُؤمنِينَ

قُلْنَا هَذَا إِنَّمَا يَقُوله جهلة السّنة نكاية فِيكُم وَإِلَّا فَلَا فرق

وَقد تنَازع الْعلمَاء فِي إخوتهن هَل يُقَال لأَحَدهم خَال الْمُؤمنِينَ فجوز ذَلِك بَعضهم وَلَو جَوَّزنَا ذَلِك لاتسع الْخرق ولكثر أخوال الْمُؤمنِينَ وخالاتهم ولقيل فِي أبي بكر وَعمر جد الْمُؤمنِينَ ولحرم التَّزَوُّج بخالات الْمُؤمنِينَ وَهَذَا لَا يَقُوله بشر وَذَلِكَ أَنه لم يثبت لأزواجه صلى الله عليه وسلم أَحْكَام النّسَب وَإِنَّمَا ثَبت لَهُنَّ الْحُرْمَة والإسم وَتَحْرِيم نِكَاحهنَّ دون الْمَحْرَمِيَّة

وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا بعض السّنة فِي مُعَاوِيَة خَاصَّة لما رَأَوْا من إستحلال الرافضة لَعنه وتكفيره فَهَلا ذكرت من هُوَ أفضل من مُعَاوِيَة وَمُحَمّد بن أبي بكر وَهُوَ عبد الله بن عمر وَكَانَ سَبَب إختصاص مُحَمَّد بن أبي بكر بعلي لِأَنَّهُ ربيبه وَابْن زَوجته فَإِن عليا تزوج بِأُمِّهِ أَسمَاء بنت عُمَيْس بعد أبي بكر ثمَّ إِنَّه جلده عُثْمَان فِي حد فَبَقيَ فِي نَفسه عَلَيْهِ حَتَّى خرج عَلَيْهِ

ثمَّ إِنَّه ولي مصر من جِهَة عَليّ فَذهب إِلَيْهَا فحاربوه ثمَّ قتل وأحرق فَحصل لَهُ

ص: 245

خير وتكفير رَحمَه الله تَعَالَى والرافضة تغلو فِي تَعْظِيمه على عَادَتهم الْفَاسِدَة فِي أَنهم يمدحون رجال الْفِتْنَة الَّذين قَامُوا على عُثْمَان ويبالغون فِي مدح من قَاتل مَعَ عَليّ حَتَّى يفضلون مُحَمَّد بن أبي بكر على أَبِيه أبي بكر فيلعنون أفضل الْأمة بعد نبيها ويمدحون ابْنه الَّذِي لَيْسَ لَهُ صُحْبَة وَلَا سَابِقَة وَلَا فَضِيلَة ويتناقضون بذلك فِي تَعْظِيم الْأَنْسَاب فَإِن كَانَ الرجل لَا يضرّهُ كفر أَبِيه أَو فسقه لم يضر نَبينَا وَلَا إِبْرَاهِيم وَلَا عليا كفر آبَائِهِم وَإِن ضرهم لَزِمَهُم أَن يقدحوا فِي مُحَمَّد بن أبي بكر بِأَبِيهِ وهم يعظمونه وَابْنه الْقَاسِم بن مُحَمَّد وَابْن ابْنه عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم خير عِنْد الْمُسلمين مِنْهُ

وَلَا يذكرونهما بِخَير لِكَوْنِهِمَا ليسَا من رجال الْفِتْنَة

وَأما قَوْله وَعظم شَأْنه فَإِن أَرَادَ عظم نسبه فالنسب عِنْدهم لَا حُرْمَة لَهُ لقدحهم فِي أَبِيه وَأُخْته

وَأما أهل السّنة فَإِنَّمَا يعظمون النَّاس بالتقوي لَا بِمُجَرَّد النّسَب قَالَ تَعَالَى (إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم)

وَإِن أَرَادَ عظم شَأْنه بسابقيته وهجرته ونصرته فَهُوَ لَيْسَ من الصَّحَابَة لَا من الْمُهَاجِرين وَلَا من الْأَنْصَار

وَإِن أَرَادَ بِعظم شَأْنه أَنه كَانَ من أعظم النَّاس وأدينهم فَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك وَلَيْسَ هُوَ معدودا من أَعْيَان الْعلمَاء وَالصَّالِحِينَ الَّذين فِي طبقته

وَإِن أَرَادَ بذلك شرفة فِي الْمنزلَة

ص: 246

لكَونه كَانَ لَهُ جاه ومنزلة ورياسة فمعاوية كَانَ أعظم جاها ورياسة ومنزلة مِنْهُ بل مُعَاوِيَة خير مِنْهُ وأدين وأحلم وَأكْرم فَإِن مُعَاوِيَة رضي الله عنه روى الحَدِيث وَتكلم فِي الْفِقْه وَقد روى أهل الحَدِيث حَدِيثه فِي الصِّحَاح والمساند وَغَيرهَا وَذكر بعض الْعلمَاء فَتَاوِيهِ وأقضيته

وَأما مُحَمَّد بن أبي بكر فَلَيْسَ لَهُ ذكر فِي الْكتب الْمُعْتَمدَة فِي الحَدِيث وَالْفِقْه

وَأما قَوْله وَأُخْت مُحَمَّد وَأَبوهُ أعظم من أُخْت مُعَاوِيَة وأبيها فَيُقَال هَذِه الْحجَّة بَاطِلَة على الْأَصْلَيْنِ وَذَلِكَ أَن أهل السّنة يفضلون الرجل إِلَّا بِنَفسِهِ فَلَا ينفع مُحَمَّدًا قربه من أبي بكر وَعَائِشَة وَلَا يضر مُعَاوِيَة رضي الله عنه أَن يكون ذَلِك أفضل نسبا مِنْهُ

وَهَذَا أصل مَعْرُوف لأهل السّنة

كَمَا لَا يضر السَّابِقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار الَّذين أَنْفقُوا من قبل الْفَتْح وقاتلوا كبلال وصهيب وخباب وأمثالهم أَن يكون من تَأَخّر عَنْهُم من الطُّلَقَاء وَغَيرهم كَأبي سُفْيَان بن حَرْب وابنيه مُعَاوِيَة وَيزِيد وَأبي سُفْيَان ابْن الْحَارِث بن عبد الْمطلب وَرَبِيعَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب وَعقيل بن أبي طَالب وَنَحْوهم أعظم نسبا مِنْهُم فَإِن هَؤُلَاءِ من بني عبد منَاف أشرف قُرَيْش بَيْتا وَأُولَئِكَ لَيْسَ لَهُم نسب شرِيف وَلَكِن فَضلهمْ بِمَا فضل الله بِهِ من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل على الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا فَكيف على من بعد هَؤُلَاءِ

وَأما الرافضة فَإِنَّهُم إِن اعتبروا النّسَب لَزِمَهُم أَن يكون مُحَمَّد بن أبي بكر عِنْدهم شَرّ النَّاس نسبا لقبح قَوْلهم فِي أَبِيه وَأُخْته

فعلي أصلهم لَا يجوز تفضيله بِقُرْبِهِ مِنْهُمَا

وَإِن ذكرُوا ذَلِك من طَرِيق الْإِلْزَام

ص: 247

لأهل السّنة فهم يفضلون من فَضله الله حَيْثُ قَالَ (إِن أكْرمكُم عِنْد الله أَتْقَاكُم) ثمَّ قَالَ إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لعن مُعَاوِيَة الطليق ابْن الطليق وَقَالَ إِذا رَأَيْتُمُوهُ على منبري فَاقْتُلُوهُ

وسموه كَاتب الْوَحْي وَلم يكْتب لَهُ كلمة من الْوَحْي بل كَانَ يكْتب لَهُ رسائل

قُلْنَا هَذَا الحَدِيث لَيْسَ فِي شَيْء من كتب الْإِسْلَام وَهُوَ عِنْد الْحفاظ كذب وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي الموضوعات

ثمَّ قد صعد الْمِنْبَر من هُوَ شَرّ من مُعَاوِيَة وَمَا أَمر بقتْله

وَأما قَوْلك الطليق بن الطليق فَمَا هَذَا بِصفة ذمّ فَإِن الطُّلَقَاء غالبهم حسن إسْلَامهمْ كالحارث بن هِشَام وَابْن أَخِيه عِكْرِمَة وَسُهيْل بن عَمْرو وَصَفوَان بن أُميَّة

ص: 248

وَيزِيد بن أبي سُفْيَان وَحَكِيم بن حزَام وأمثالهم وَكَانُوا من خِيَار الْمُسلمين وَمُعَاوِيَة مِمَّن حسن إِسْلَامه وولاه عمر بعد أَخِيه يزِيد وَلم يكن عمر وَالله مِمَّن يحابي وَلَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم وَلَا كَانَ يحب أَبَا سُفْيَان وَقد حرص على قَتله لما جَاءَ بِهِ الْعَبَّاس وَلَو كَانَ مِمَّن يحابي لوَلِيّ أَقَاربه من بني عدي ثمَّ إِن مُعَاوِيَة بَقِي على دمشق وَغَيرهَا عشْرين سنة أَمِير وَعشْرين سنة خَليفَة ورعيته يحبونه لإحسانه وَحسن سياسته وتأليفه لقُلُوبِهِمْ حَتَّى إِنَّهُم قَاتلُوا مَعَه عليا وَعلي أفضل من أَمْثَاله وَأولى بِالْحَقِّ مِنْهُ وَهَذَا يعْتَرف بِهِ غَالب جند مُعَاوِيَة وَلَكنهُمْ قَاتلُوا مَعَ مُعَاوِيَة لظنهم أَن عَسْكَر عَليّ فِيهِ قتلة عُثْمَان وَفِيه ظلمَة وَلِهَذَا لم يبدأوا بِالْقِتَالِ حَتَّى بدأهم أُولَئِكَ فقاتلوهم دفعا لصيالهم عَلَيْهِم وقتال الصَّائِل جَائِز

وَلِهَذَا قَالَ الأشتر النَّخعِيّ إِنَّهُم ينْصرُونَ علينا لأَنا نَحن بدأناهم بِالْقِتَالِ وَعلي كَانَ عَاجِزا عَن قهر الظلمَة من العسكرين وَلم يكن أمراؤه وأعوانه يوافقونه على كثير مِمَّا يامر بِهِ وَأَعْوَان مُعَاوِيَة يوافقونه

قَالَ وَقَاتل عليا وَعلي عِنْدهم رَابِع الْخُلَفَاء إِمَام حق وكل من قَاتل إِمَام حق فَهُوَ بَاغ ظَالِم

قُلْنَا نعم والباغي قد يكون متأولا مُعْتَقدًا أَنه على حق وَقد يكون بغيه مركبا من تَأْوِيل وشهوة وشبهة وَهُوَ الْغَالِب

وعَلى كل تَقْدِير فَهَذَا لَا يرد وَإِنَّا لَا ننزه هَذَا الرجل وَلَا من هُوَ أفضل مِنْهُ عَن الذُّنُوب والحكاية مَشْهُورَة عَن الْمسور بن مخرمَة أَنه خلا بِمُعَاوِيَة فَطلب مِنْهُ مُعَاوِيَة أَن يُخبرهُ بِمَا ينقمه عَلَيْهِ فَذكر الْمسور أمورا فَقَالَ يَا مسور أَلَك سيئات قَالَ نعم

قَالَ أترجو أَن

ص: 249

يغفرها الله قَالَ نعم

قَالَ فَمَا جعلك أَرْجَى لرحمة الله مني وَإِنِّي مَعَ ذَلِك وَالله مَا خيرت بَين الله وَبَين سواهُ إِلَّا اخْتَرْت الله على مَا سواهُ

وَوَاللَّه لما أليه من الْجِهَاد وَإِقَامَة الْحُدُود وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر أفضل من عَمَلك

وَأَنا على دين يقبل الله من أَهله الْحَسَنَات ويتجاوز لَهُم عَن السَّيِّئَات

ثمَّ إِن قَالَت لكم الْخَوَارِج والنواصب مَا الدَّلِيل على عَدَالَة عَليّ وإيمانه مالكم حجَّة إِلَّا مَا تَوَاتر من إِسْلَامه وعبادته

فَإِن قَالُوا لكم فقد تَوَاتر ذَلِك من أبي بكر وَعمر أَيْضا وَطَائِفَة مِمَّن تقدحون فِي إِيمَانهم فَمَا الْفرق بَيْننَا وَبَيْنكُم فَإِن احتججتم بالظواهر القرآنية فَهِيَ متناولة لهَؤُلَاء وَهَؤُلَاء وَأَنْتُم أخرجتم جمَاعَة كَبِيرَة وَنحن أخرجنَا وَاحِدًا وَإِن قَالُوا بِمَا جَاءَ عَن الصَّحَابَة من فضائله قُلْنَا فقد ورد أَيْضا فَضَائِل أُولَئِكَ فاقبلوا الْكل وَإِن طعنتم فِي الصَّحَابَة فَردُّوا الْكل

فَإِن احتججتم بمبايعة النَّاس لَهُ قُلْنَا من الْمَعْلُوم أَن مبايعة النَّاس للثَّلَاثَة قبله أعظم وَأكْثر فَإِن أهل الشَّام مَا بَايعُوهُ وَلَا أَكثر أهل مصر

ثمَّ النواصب يَقُولُونَ بل عَليّ الْبَاغِي قَاتل على الْأمان وَبَدَأَ بِالْقِتَالِ وَسَفك دِمَاء الْأمة وَكَانَ السَّيْف فِي دولته مسلولا على الْأمة مكفوفا عَن الْمُشْركين

ثمَّ الْخَوَارِج تقدح فِي الطَّائِفَتَيْنِ مَعًا وَعَمْرو بن عبيد وَجَمَاعَة من الْمُعْتَزلَة يَقُولُونَ فسق أَحدهمَا لَا بِعَيْنِه

قلت يَعْنِي يَوْم الْجمل

وَأما يَوْم صفّين فَقَالَ عَمْرو بن عبيد وواصل ابْن عَطاء وَأَبُو الْهُذيْل العلاف أصَاب فِي قتال مُعَاوِيَة

نَقله ابْن حزم

وَخلق من الْخَوَارِج قَالُوا كَانَ الْحق مَعَ عَليّ فَلَمَّا حكم الْحكمَيْنِ كفر

فَإِن قيل هَؤُلَاءِ بغاة لِأَن النَّبِي

ص: 250

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لعمَّار تقتلك الفئة الباغية قُلْنَا الْخَيْر صَحِيح وَقد تكلم فِيهِ بَعضهم وَبَعْضهمْ تَأَوَّلَه على أَن الْبَاغِي الطَّالِب وَهَذَا لَا شَيْء

وَأما السّلف كَأبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد وَغَيرهم فَيَقُولُونَ لم يُوجد شَرط قتال الطَّائِفَة الباغية فَإِن الله يَأْمر بقتالها إبتداء بل أَمر إِذا اقْتتلَتْ طَائِفَتَانِ أَن يصلح بَينهمَا ثمَّ إِن بَغت إِحْدَاهمَا قوتلت

وَلِهَذَا كَانَ هَذَا الْقِتَال عِنْد أَحْمد وَمَالك قتال فتْنَة

وَأَبُو حنيفَة يَقُول لَا يجوز قتال الْبُغَاة حَتَّى يبدأوا بِقِتَال الإِمَام وَهَؤُلَاء لم يبدأوه

ثمَّ أهل السّنة تَقول الإِمَام الْحق لَيْسَ مَعْصُوما وَلَا يجب على الْإِنْسَان أَن يُقَاتل مَعَه كل من خرج عَن طَاعَته وَلَا أَن يُعْطِيهِ الْإِنْسَان فِيمَا يعلم أَن مَعْصِيّة وَأَن يتْركهُ أولى

ص: 251

وعَلى هَذَا ترك جمَاعَة من الصَّحَابَة الْقِتَال مَعَ عَليّ لأهل الشَّام

وَالَّذين قَاتلُوهُ لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يَكُونُوا عصاة أَو مجتهدين مخطئين أَو مصيبين

وعَلى كل تَقْدِير فَهَذَا لَا يقْدَح فِي إِيمَانهم وَلَا يمنعهُم الْجنَّة بقوله تَعَالَى (وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله فَإِن فاءت فأصلحوا بَينهمَا بِالْعَدْلِ وأقسطوا إِن الله يحب المقسطين

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة فأصلحوا بَين أخويكم) فسماهم إخْوَة

وَأما قَوْلك لم يكْتب لَهُ كلمة من الْوَحْي فدعوى كنظائرها

قَالَ وَكَانَ بِالْيمن يَوْم الْفَتْح يطعن على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَكتب إِلَى أَبِيه أبي سُفْيَان يعيره بِالْإِسْلَامِ وَيَقُول أَصَبَوْت إِلَى دين مُحَمَّد وَكتب إِلَيْهِ هَذِه الأبيات

(يَا صَخْر لَا تسلمن طَوْعًا فتفضحنا

بعد الَّذين ببدر أَصْبحُوا فرقا)

(جدي وخالي وَعم الْأُم يالهم

قوما وحَنْظَلَة المهندي لنا أرقا)

(فالموت أَهْون من قَول الوشاة لنا

خلى ابْن هِنْد عَن الْعُزَّى لقد فرقا)

وأهدر النَّبِي صلى الله عليه وسلم دَمه فَلَمَّا لم يجد مأوى صَار إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم مضطربا فأظهر الْإِسْلَام قبل موت النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَة أشهر وَطرح نَفسه على الْعَبَّاس إِلَى أَن قَالَ وَعَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم يطلع عَلَيْكُم رجل يَمُوت على غير سنتي فطلع مُعَاوِيَة وَقَامَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا فَأخذ مُعَاوِيَة بيد ابْنه يزِيد وَخرج فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لعن الله الْقَائِد والمقود إِلَى أَن قَالَ وَبَالغ فِي محاربة على وَقتل جمعا من خِيَار الصَّحَابَة

ص: 252

وَلعن عَليّ على الْمِنْبَر وَاسْتمرّ ثَمَانِينَ سنة حَتَّى قطعه عمر بن عبد الْعَزِيز

وسم الْحسن وَقتل ابْنه مولَايَ الْحُسَيْن وَنهب وسبى وَكسر أَبوهُ ثنية النَّبِي صلى الله عليه وسلم وأكلت أمه كبد حَمْزَة فَيُقَال سُبْحَانَ من خلق الْكَذِب وَسلمهُ إِلَى الرافضة

فَأَما أَبُو سُفْيَان فَإِنَّهُ أسلم قبل دُخُول النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَكَّة بمر الظهْرَان لَيْلَة نزل بهَا وَقَالَ الْعَبَّاس إِن أَبَا سُفْيَان يحب الشّرف فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن وَمن دخل الْمَسْجِد فَهُوَ آمن وَمن ألْقى السِّلَاح فَهُوَ آمن

وَأَبُو سُفْيَان كَانَ عِنْده من دَلَائِل النُّبُوَّة مَا سَمعه

ص: 253

من هر قل قبل إِسْلَامه بأشهر وَمَا كَانَ عِنْده من أُميَّة بن أبي الصَّلْت

لَكِن الْحَسَد

ص: 254

مَنعه من الْإِيمَان حَتَّى أدخلهُ الله عَلَيْهِ وَهُوَ كَارِه

بِخِلَاف مُعَاوِيَة فَإِنَّهُ لم يعرف عَنهُ شَيْء من ذَلِك وَلَا عَن أَخِيه يزِيد

وَهَذَا الشّعْر كذب عَلَيْهِ قطعا

ثمَّ لَا يجوز الطعْن على من تَأَخّر إِسْلَامه كصفوان بن أُميَّة

ص: 255

والْحَارث بن هِشَام

ص: 256

ثمَّ نفس هَذَا الشّعْر يدل على وَضعه فَإِنَّهُ لَا يشبه نفس الصَّحَابَة

وَإِسْلَام مُعَاوِيَة عَام الْفَتْح بإتفاق النَّاس

ثمَّ قد تقدم قَوْلك إِنَّه من الْمُؤَلّفَة قُلُوبهم والمؤلفة إِنَّمَا أَعْطَاهُم النَّبِي صلى الله عليه وسلم من غَنَائِم حنين وَكَانَت بعد الْفَتْح بأيام فَلَو كَانَ هَارِبا لم يكن من الْمُؤَلّفَة وَقد قَالَ قصرت عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم على الْمَرْوَة بمشقص وَهَذَا وَالله أعلم كَانَ فِي عمرته عليه السلام من الْجِعِرَّانَة فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان

وَأما قَوْله وَقد روى عبد الله بن عمر قَالَ أتيت النَّبِي صلى الله عليه وسلم فسمتعه يَقُول

ص: 257

يطلع عَلَيْكُم رجل يَمُوت على غير سنتي فطلع مُعَاوِيَة وَقَامَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا فَأخذ مُعَاوِيَة بيد ابْنه يزِيد وَخرج وَلم يسمع الْخطْبَة فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لعن الله الْقَائِد والمقود أَي يَوْم يكون للْأمة مَعَ مُعَاوِيَة ذِي الْإِسَاءَة

فَالْجَوَاب عَلَيْهِ أَولا نَحن نطالب بِصِحَّة هَذَا الحَدِيث فَإِن الإحتجاج بِالْحَدِيثِ لَا يجوز إِلَّا بعد ثُبُوته

وَيُقَال ثَانِيًا هَذَا الحَدِيث من الْكَذِب الْمَوْضُوع بإتفاق أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ وَلَا يُوجد فِي شَيْء من دواوين الحَدِيث الَّتِي يرجع إِلَيْهَا فِي معرفَة الحَدِيث وَلَا لَهُ إِسْنَاد مَعْرُوف

وَهَذَا المحتج بِهِ لم يذكر لَهُ إِسْنَادًا

ثمَّ من جَهله أَن يرْوى مثل هَذَا عَن عبد الله بن عمر وَعبد الله بن عمر من أبعد النَّاس عَن ثلب الصَّحَابَة وأروى النَّاس لمناقبهم وَقَوله فِي مدح مُعَاوِيَة مَعْرُوف ثَابت عَنهُ حَيْثُ يَقُول مَا رَأَيْت بعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أسود من مُعَاوِيَة

قيل لَهُ وَلَا أَبُو بكر وَعمر فَقَالَ كَانَ أَبُو بكر وَعمر خيرا مِنْهُ وَمَا رَأَيْت بعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أسود من مُعَاوِيَة

قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل السَّيِّد الْحَلِيم يَعْنِي مُعَاوِيَة

وَكَانَ مُعَاوِيَة كَرِيمًا حَلِيمًا

ثمَّ إِن خطب النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم تكن وَاحِدَة بل كَانَ يخْطب فِي الْجمع والأعياد وَالْحج وَغير ذَلِك وَمُعَاوِيَة وَأَبوهُ يَشْهَدَانِ الْخطب كَمَا يشهدها الْمُسلمُونَ كلهم أفتراهما فِي كل خطْبَة كَانَا يقومان ويمكنان من ذَلِك هَذَا قدح فِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَفِي سَائِر الْمُسلمين إِذْ يمكنون إثنين دَائِما يقومان وَلَا يحْضرَانِ الْخطْبَة وَلَا الْجُمُعَة وَإِن كَانَا يَشْهَدَانِ كل خطْبَة فَمَا بالهما يمتنعان عَن سَماع خطية وَاحِدَة قبل أَن يتلكم بهَا ثمَّ من الْمَعْلُوم من سيرة مُعَاوِيَة أَنه كَانَ من أحلم النَّاس وأصبرهم على من يُؤْذِيه وَأعظم النَّاس تأليفا لمن يعاديه فَكيف ينفر عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنه أعظم الْخلق مرتبَة فِي الدّين وَالدُّنْيَا وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهِ فِي كل أُمُوره فَكيف لَا يصبر على سَماع كَلَامه وَهُوَ بعد الْملك يسمع كَلَام من

ص: 258

يشتمه فِي وَجهه فلماذا لم يسمع كَلَام النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَكَيف يتَّخذ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَاتبا من هُوَ فِي هَذِه الْحَالة

وَقَوله إِنَّه أَخذ بيد ابْنه يزِيد فمعاوية لم يكن لَهُ يَوْمئِذٍ ابْن اسْمه يزِيد

وَأما ابْنه يزِيد الَّذِي تولى الْملك وَجرى فِي خِلَافَته مَا جرى فَإِنَّمَا ولد فِي خلَافَة عُثْمَان بإتفاق أهل الْعلم وَلم يكن لمعاوية ولد على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

قَالَ الْحَافِظ أَبُو الْفضل بن نَاصِر خطب مُعَاوِيَة رضي الله عنه فِي زمن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَلم يُزَوّج لِأَنَّهُ كَانَ فَقِيرا وَإِنَّمَا تزوج فِي زمن عمر رضي الله عنه وَولد لَهُ فِي يزِيد فِي زمن عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه سنة سبع وَعشْرين من الْهِجْرَة

ثمَّ نقُول ثَالِثا هَذَا الحَدِيث يُمكن معارضته بِمثلِهِ من جنسه بِمَا يدل ع لى فضل مُعَاوِيَة رضي الله عنه

قَالَ الشَّيْخ أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ فِي كتاب الموضوعات قد تعصب قوم مِمَّن يَدعِي السّنة فوضعوا فِي فضل مُعَاوِيَة رضي الله عنه أَحَادِيث ليغيظوا الرافضة وتعصب قوم من الرافضة فوضعوا فِي ذمه أَحَادِيث وكلا الْفَرِيقَيْنِ على الْخَطَأ الْقَبِيح

ص: 259

وَأما محاربته عليا فلأمور لَا تخرجه عَن الْإِسْلَام وَإِن كَانَ عَليّ أقرب إِلَى الْحق وَأولى بِهِ مِنْهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ تمرق مارقة على حِين فرقة من الْمُسلمين تقتلهم أولى الطَّائِفَتَيْنِ بِالْحَقِّ فَهَؤُلَاءِ المارقة هم الَّذين خَرجُوا على عَليّ وقاتلوه يَوْم النهروان فَدلَّ الحَدِيث على أَن عليا وطائفته أقرب إِلَى الْحق من طَائِفَة مُعَاوِيَة

وَفِي البُخَارِيّ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ فِي الْحسن إِن ابْني هَذَا سيد وَإِن الله سيصلح بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُؤمنِينَ فمدح الْحسن بالإصلاح الَّذِي جرى على الْجَمَاعَة من الفئتين وسماهما مُؤمنين

وَهَذَا يدل أَيْضا على أَن الْإِصْلَاح بَينهمَا هُوَ الْمَحْمُود لَا الْقِتَال الَّذِي جرى

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم سَتَكُون فتْنَة الْقَاعِد فِيهَا خير من الْقَائِم الحَدِيث

وَقَالَ يُوشك أَن يكون خير مَال الْمُسلم غنم يتبع بهَا شعف الْجبَال ومواقع الْقطر يفر بِدِينِهِ من الْفِتَن

وَالَّذين رووا أَحَادِيث الْقعُود فِي الْفِتْنَة والتحذير مِنْهَا كسعد بن أبي وَقاص وَمُحَمّد بن مسلمة وَأُسَامَة لم يقاتلوا إِلَّا مَعَ عَليّ وَلَا مَعَ مُعَاوِيَة

ثمَّ الَّذين قَاتلُوا مَعَ عَليّ أخف جرما من الَّذين قتلوا عُثْمَان صبرا وَأَنت تمدحهم وترضى فعلهم يَا جَاهِل

فَإِن قلت إِن عُثْمَان فعل أَشْيَاء أنْكرت عَلَيْهِ قيل فعل عَليّ أَشْيَاء أخرت هَؤُلَاءِ عَن مبايعته فَرضِي الله عَن الرجلَيْن

ثمَّ إِن عليا بَادر بعزل مُعَاوِيَة وَكَانَ لَا بَأْس بِهِ فِي ولَايَته محببا إِلَى رَعيته

وَقد

ص: 260

اسْتعْمل عَليّ من هُوَ دون مُعَاوِيَة كزياد بن أَبِيه

وَقد كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أفضل من عَليّ وَاسْتعْمل أَبَا سُفْيَان على نَجْرَان وَمَات رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأَبُو سُفْيَان أَمِير عَلَيْهَا

وَكَانَ كثير من أُمَرَاء النَّبِي صلى الله عليه وسلم على الْأَعْمَال من بني أُميَّة فَإِنَّهُ اسْتعْمل على مَكَّة عتاب بن أسيد بن أبي الْعَاصِ بن أُميَّة وَاسْتعْمل خَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ وَأَبَان بن سعيد بن الْعَاصِ

وولاه عمر رضي الله عنه وَلَا يتهم لَا فِي دينه وَلَا فِي سياسته وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ خِيَار أئمتكم الَّذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عَلَيْهِم وَيصلونَ عَلَيْكُم

وشرار أئمتكم الَّذين تبغضونهم ويبغضونكم وتعلنونهم ويلعنونكم قَالُوا وَمُعَاوِيَة كَانَت رَعيته يحبونه وَهُوَ يُحِبهُمْ وَيصلونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَيْهِم

وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق لَا يضرهم من خالفهم وَلَا من خذلهم قَالَ مَالك بن يخَامر سَمِعت معَاذًا يَقُول هم بِالشَّام

قَالُوا وَهَؤُلَاء كَانُوا عَسْكَر مُعَاوِيَة

وَفِي صَحِيح مُسلم عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لَا يزَال أهل الغرب ظَاهِرين حَتَّى تقوم السَّاعَة

قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل أهل الغرب

ص: 261

هُوَ أهل الشَّام

وَقد بسطنا هَذَا فِي مَوضِع آخر

وَهَذَا النَّص يتَنَاوَل عَسْكَر مُعَاوِيَة

قَالُوا وَمُعَاوِيَة أَيْضا كَانَ خيرا من كثير مِمَّن استنابه عَليّ فَلم يكن يسْتَحق أَن يعْزل ويولي من هُوَ دونه فِي السياسة فليت عليا تألف مُعَاوِيَة وَأقرهُ على الشَّام وحقن الدِّمَاء

فَإِذا قيل إِن عليا كَانَ مُجْتَهدا فِي ذَلِك قيل وَعُثْمَان كَانَ مُجْتَهدا فِيمَا فعل

وَأَيْنَ الإجتهاد فِي تَخْصِيص بعض النَّاس بِولَايَة أَو إِمَارَة أَو مَال من الإجتهاد فِي سفك الْمُسلمين بَعضهم دِمَاء بعض حَتَّى ذل الْمُؤْمِنُونَ وعجزوا عَن مقاومة الْكفَّار حَتَّى طمعوا فيهم وَفِي الإستيلاء عَلَيْهِم وَلَا ريب أَنه لَو لم يكن قتال بل كَانَ مُعَاوِيَة مُقيما على سياسة رَعيته وَعلي مُقيما على سياسة رَعيته لم يكن فِي ذَلِك من الشَّرّ أَكثر مِمَّا حصل بالإقتتال فَإِنَّهُ بالإقتتال لم تزل هَذِه الْفرْقَة وَلم يجتمعوا على إِمَام بل سفكت الدِّمَاء وقويت الْعَدَاوَة والبغضاء وضعفت الطَّائِفَة الَّتِي كَانَت أقرب إِلَى الْحق وَهِي طَائِفَة عَليّ وصاروا يطْلبُونَ من الطَّائِفَة الْأُخْرَى من المسالمة مَا كَانَت تِلْكَ تطلبه إبتداء

وَمَعْلُوم أَن الْفِعْل الَّذِي تكون مصْلحَته راجحة على مفسدته يحصل بِهِ من الْخَيْر أعظم مِمَّا يحصل بِعَدَمِهِ

وَهنا لم يحصل بالإقتتال مصلحَة بل كَانَ الْأَمر مَعَ عدم الْقِتَال خيرا وَأصْلح مِنْهُ بعد الْقِتَال وَكَانَ عَليّ وَعَسْكَره أَكثر وَأقوى وَمُعَاوِيَة وَأَصْحَابه أقرب إِلَى مُوَافَقَته ومسالمته ومصالحته

فَإِذا كَانَ مثل هَذَا الإجتهاد مغفورا لصَاحبه فإجتهاد عُثْمَان أَن يكون مغفورا أولى وَأَحْرَى وَأما مُعَاوِيَة وأعوانه فَيَقُولُونَ إِنَّمَا قاتلنا عليا قتال دفع عَن أَنْفُسنَا وبلادنا

ص: 262

فَإِنَّهُ بدأنا بِالْقِتَالِ فدفعناه بِالْقِتَالِ وَلم نبتدئه بذلك وَلَا اعتدينا عَلَيْهِ

فَإِذا قيل لَهُم هُوَ الإِمَام الَّذِي كَانَت تجب طَاعَته عَلَيْكُم ومبايعته وَأَن لَا تشقوا عَصا الْمُسلمين قَالُوا مَا نعلم أَنه إِمَام تجب طَاعَته

لِأَن ذَلِك عِنْد الشِّيعَة إِنَّمَا يعلم بِالنَّصِّ وَلم يبلغنَا عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم نَص بإمامته وَوُجُوب طَاعَته

وَلَا ريب أَن عذرهمْ فِي هَذَا ظَاهر فَإِنَّهُ لَو قدر أَن النَّص الْجَلِيّ الَّذِي تدعيه الإمامية حق فَإِن هَذَا قد كتم وأخفي فِي زمن أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان رضي الله عنهم فَلم يجب أَن يعلم مُعَاوِيَة وَأَصْحَابه مثل ذَلِك لَو كَانَ حَقًا فَكيف إِذا كَانَ بَاطِلا

وَأما قَوْله إِن مُعَاوِيَة قتل جمعا كثيرا من خِيَار الصَّحَابَة فَيُقَال الَّذين قتلوا من الطَّائِفَتَيْنِ

قتل هَؤُلَاءِ من هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء من هَؤُلَاءِ

وَأكْثر الَّذين كَانُوا يختارون الْقِتَال من الطَّائِفَتَيْنِ لم يَكُونُوا يطيعون عليا وَلَا مُعَاوِيَة

وَكَانَ عَليّ وَمُعَاوِيَة رضي الله عنهما أطلب لكف الدِّمَاء من أَكثر المقتتلين لَكِن غلبا فِيمَا وَقع

والفتنة إِذا ثارت عجز الْحُكَمَاء عَن إطفاء نارها

وَكَانَ فِي العسكرين مثل الأشتر النَّخعِيّ وهَاشِم بن عتبَة المرقال وَعبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد وَأبي الْأَعْوَر

ص: 263

السّلمِيّ وَنَحْوهم من المحرضين على الْقِتَال قوم ينتصرون لعُثْمَان غَايَة الإنتصار وَقوم

ص: 264

ينفرون عَنهُ وَقوم ينتصرون لعَلي وَقوم ينفرون عَنهُ

ثمَّ قتال أَصْحَاب مُعَاوِيَة مَعَه لم يكن لخُصُوص مُعَاوِيَة بل كَانَ لأسباب أُخْرَى

وقتال الْفِتْنَة مثل قتال الْجَاهِلِيَّة لَا تنضبط مَقَاصِد أَهله وإعتقاداتهم كَمَا قَالَ الزُّهْرِيّ وَقعت الْفِتْنَة وَأَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون فَأَجْمعُوا أَن كل دم أَو مَال أَو فرج أُصِيب بِتَأْوِيل الْقُرْآن فَإِنَّهُ هدر

أنزلوهم منزلَة الْجَاهِلِيَّة

وَأما مَا وَقع من لعن عَليّ فَإِن التلاعن وَقع من الطَّائِفَتَيْنِ فَكَانَ هَؤُلَاءِ يلعنون رُءُوس هَؤُلَاءِ فِي دُعَائِهِمْ وَهَؤُلَاء يلعنون رُءُوس هَؤُلَاءِ

والقتال بِالْيَدِ أعظم من التلاعن وَهَذَا كُله سَوَاء كَانَ ذَنبا أَو إجتهادا مخطئا أَو مصيبا فَإِن مغْفرَة الله وَرَحمته تتَنَاوَل ذَلِك بِالتَّوْبَةِ والحسنات الماحية والمصائب المكفرة وَغير ذَلِك

وَمن العجيب أَن الرافضة تنكرسب عَليّ وتسب الثَّلَاثَة قبله أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان وتكفرهم وَمُعَاوِيَة وَحزبه مَا كفرُوا عليا إِنَّمَا كفرته الْخَوَارِج المارقون من الدّين وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا تسبوا أَصْحَابِي فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أنْفق أحدكُم مثل أحد ذَهَبا مَا أدْرك مد أحدهم وَلَا نصيفه

ص: 265

قَالَ وسم مُعَاوِيَة الْحسن فَهَذَا قيقل وَلم يثبت فَيُقَال إِن امْرَأَته سمته وَكَانَ مطلاقا رضي الله عنه فلعلها سمته لغَرَض وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال وَقد قيل إِن أَبَاهَا الْأَشْعَث بن قيس أمرهَا بذلك فَإِنَّهُ كَانَ يتهم بالإنحراف فِي الْبَاطِن عَن عَليّ وَابْنه الْحسن

وَإِذا قيل إِن مُعَاوِيَة أَمر أَبَاهَا كَانَ هَذَا ظنا مَحْضا وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ إيَّاكُمْ وَالظَّن فَإِن الظَّن أكذب الحَدِيث

وَبِالْجُمْلَةِ فَمثل هَذَا لَا يحكم بِهِ فِي الشَّرْع بإتفاق الْمُسلمين فَلَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ أَمر ظَاهر لَا مدح وَلَا ذمّ

ثمَّ إِن الْأَشْعَث بن قيس مَاتَ سنة أَرْبَعِينَ وَقيل سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَلِهَذَا لم يذكر فِي الصُّلْح الَّذِي كَانَ بَين مُعَاوِيَة وَالْحسن بن عَليّ فِي الْعَام الَّذِي كَانَ يُسمى عَام الْجَمَاعَة وَهُوَ عَام أحد وَأَرْبَعين وَكَانَ الْأَشْعَث حما الْحسن بن عَليّ فَلَو كَانَ شَاهدا لَكَانَ يكون لَهُ ذكر فِي ذَلِك وَإِذا كَانَ قد مَاتَ قبل الْحسن بِنَحْوِ عشر سِنِين فَكيف يكون هُوَ الَّذِي أَمر ابْنَته

وَأما يزِيد فَلم يَأْمر بقتل الْحُسَيْن بإتفاق أهل النَّقْل وَلَكِن كتب إِلَى ابْن زِيَاد أَن يمنعهُ عَن ولَايَة الْعرَاق وَالْحُسَيْن رضي الله عنه كَانَ يظنّ أَن أهل الْعرَاق ينصرونه

ص: 266

ويوفون لَهُ بِمَا كتبُوا إِلَيْهِ فَأرْسل إِلَيْهِم ابْن عَمه مُسلم بن عقيل فَلَمَّا قتلوا مُسلما وغدروا

ص: 267

بِهِ وَبَايَعُوا ابْن زِيَاد أَرَادَ الرُّجُوع فَأَدْرَكته السّريَّة الظالمة فَطلب أَن يذهب إِلَى يزِيد أَو يذهب إِلَى الثغر أَو يرجع إِلَى بَلَده فَلم يمكنوه من ذَلِك حَتَّى يستأسر لَهُم وَلَكِن هُوَ رضي الله عنه أَبى أَن يسلم نَفسه وَأَن ينزل على حكم عبيد الله بن زِيَاد وَقَاتل حَتَّى قتل شَهِيدا مَظْلُوما رضي الله عنه

وَلما بلغ ذَلِك يزِيد أظهر التوجع وَظهر الْبكاء فِي دَاره وَلم يسب لَهُم حريما أصلا بل جهزهم وَأَعْطَاهُمْ وبعثهم إِلَى وطنهم

وَكَانَ مُعَاوِيَة وصّى يزِيد برعاية حق الْحُسَيْن وإجلاله

وَقَوله إِن أَبَا سُفْيَان كسر ثنية النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَإِنَّمَا كسرهَا عتبَة بن أبي وَقاص

ولاكت هِنْد كبد حَمْزَة ولفظتها ثمَّ من الله عَلَيْهَا بِالْإِسْلَامِ وَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يكرمها أَنَّهَا حماته قَالَ الله تَعَالَى (قل للَّذين كفرُوا إِن ينْتَهوا يغْفر لَهُم مَا قد سلف) وَفِي مُسلم من حَدِيث عَمْرو بن الْعَاصِ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ الْإِسْلَام

ص: 268

يهدم مَا كَانَ قبله وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ لما أسلمت هِنْد أم مُعَاوِيَة رضي الله عنهما قَالَت وَالله يَا رَسُول الله مَا كَانَ على ظهر الأَرْض أهل خباء أحب إِلَيّ أَن يذلوا من أهل خبائك ثمَّ مَا أصبح الْيَوْم على ظهر الأَرْض أهل خباء أحب إِلَى أَن يعزوا من أهل خبائك

قَالَ الرافضي وَسموا خَالِدا سيف الله عنادا لأمير الْمُؤمنِينَ الَّذِي هُوَ أَحَق بِهَذَا مِنْهُ وَقَالَ فِيهِ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم عَليّ سيف الله وَسَهْم الله

وَقَالَ عَليّ على الْمِنْبَر أَنا سيف الله على أعدائه وخَالِد لم يزل عدوا للرسول مُكَذبا لَهُ وَهُوَ كَانَ السَّبَب فِي قتل الْمُسلمين يَوْم أحد

وَلما تظاهر بِالْإِسْلَامِ بَعثه النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى بني جذيمة فخانه وَخَالف أمره وَقتل الْمُسلمين فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأ إِلَيْك مِمَّا صنع خَالِد

فَأَما تَسْمِيَة عَليّ سيف الله فَلم يَصح وَلَا عَرفْنَاهُ فِي كتاب

وَأما تَسْمِيَة خَالِد سيف الله فَلَيْسَ هُوَ مُخْتَصًّا بِهِ بل هُوَ سيف من سيوف الله سَله على الله الْمُشْركين كَمَا صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ فِيهِ ذَلِك من حَدِيث حميد بن هِلَال عَن أنس أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم نعى زيدا وجعفرا وَابْن رَوَاحَة وَعَيناهُ تَذْرِفَانِ قَالَ ثمَّ أَخذ الرَّايَة سيف من سيوف الله حَتَّى فتح الله عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يمْنَع أَن يكون غَيره سَيْفا لله بل هُوَ يتَضَمَّن أَن سيوف الله مُتعَدِّدَة وَلَا ريب أَن خَالِدا قتل من الْكفَّار أَكثر مِمَّا قتل غَيره وَكَانَ سعيدا فِي حروبه وَأسلم قبل الْفَتْح وَهَاجَر

وَمن حِين أسلم كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يؤمره

وَلَقَد انْقَطع فِي يَده يَوْم مُؤْتَة تِسْعَة أسياف

أخرجه البُخَارِيّ

ص: 269

وَلَا ريب أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم تَبرأ من فعله ببني جذيمة

وَلَكِن مَا عَزله

وَلَا ريب أَن عليا من سيوف الله فَمن نازعك فِي ذَا وَهُوَ أفضل من خَالِد فَإِن لَهُ من الْعلم وَالْبَيَان والسابقة وَالْإِيمَان والمشاهد مَا لَا يخفى

ثمَّ السَّيْف خاصيته الْقِتَال وَعلي كَانَ الْقِتَال بعض فضائله وخَالِد كَانَ أخص نعوته الْقِتَال وَبِه تقدم فَلهَذَا عبر عَنهُ بِأَنَّهُ سيف من سيوف الله

وَهَذَا الْبَراء بن مَالك قتل مائَة رجل مبارزة سوى من شرك فِي قَتله وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم صَوت أبي طَلْحَة فِي الْجَيْش خير من فِئَة وَقَالَ إِن لكل نَبِي حواريا وحواري الزبير

والرافضة متناقضون فَإِنَّهُم يَقُولُونَ عَليّ النَّاصِر لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم الَّذِي لولاه لما قَامَ دينه

ثمَّ يصفونه بِالْعَجزِ والتقية الْمنَافِي لذَلِك

وَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أرسل خَالِدا بعد الْفَتْح إِلَى بني جذيمة فَلم يحسنوا أَن يَقُولُوا أسلمنَا فَقَالُوا صبأنا صبأنا فَلم يقبل ذَلِك وَقَالَ لَيْسَ ذَلِك بِإِسْلَام فَقَتلهُمْ فَأَخْطَأَ فِي إجتهاده

ثمَّ أرسل النَّبِي صلى الله عليه وسلم عليا بِمَال فَأَعْطَاهُمْ نصف الدِّيات وَضمن لَهُم مَا تلف حَتَّى ميلغة الْكَلْب

وحاشا خَالِدا أَن يكون معاندا للنَّبِي صلى الله عليه وسلم بل كَانَ مُطيعًا لَهُ وَإِن أَخطَأ فِي هَذِه الْمرة كَمَا أَخطَأ أُسَامَة بن زيد فِي قتل ذَلِك الرجل الَّذِي قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَقتل السّريَّة لصَاحب الْغَنِيمَة الَّذِي قَالَ أَنا مُسلم فَنزلت فيهم (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيل الله فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقولُوا لمن ألْقى إِلَيْكُم السَّلَام لست مُؤمنا) الْآيَة

قَالَ وَلما سَار لقِتَال أهل الْيَمَامَة قتل مِنْهُم ألفا وَمِائَتَيْنِ مَعَ تظاهرهم بِالْإِسْلَامِ

ص: 270

وَقتل مَالك بن نُوَيْرَة وَهُوَ مُسلم وعرس بإمرأته

وَسموا بني حنيفَة أهل الرِّدَّة لأَنهم منعُوا الزَّكَاة أَبَا بكر إِذا لم يعتقدوا إِمَامَته فسموا مَانع الزَّكَاة مُرْتَدا وَلم يسموا من اسْتحلَّ دِمَاء الْمُسلمين ومحاربة أَمِير الْمُؤمنِينَ مُرْتَدا مَعَ قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَا عَليّ حربك حَرْبِيّ فمحارب الرَّسُول كَافِر بِالْإِجْمَاع

فَيُقَال الله أكبر على هَؤُلَاءِ الْمُرْتَدين المفترين أَتبَاع أهل الرِّدَّة الَّذين برزوا بمعاداة الله وَرَسُوله وَكتابه وَدينه ومرقوا من الْإِسْلَام ونبذوه وَرَاء ظُهُورهمْ وشاقوا الله وَرَسُوله وعباده الْمُؤمنِينَ وتولوا أهل الرِّدَّة والشقاق فَإِن هَذَا الْفَصْل وَأَمْثَاله مِمَّا يُحَقّق أَن الرافضة المتعصبين على أبي بكر كالمرتدين الَّذين قَاتلهم الصّديق وَذَلِكَ أَن أهل الْيَمَامَة آمنُوا بمسيلمة الْكذَّاب الَّذِي صنف قُرْآنًا وَفعل العظائم فَبعث أَبُو بكر الصّديق الَّذِي من أفضل أَعماله عِنْد الله تَعَالَى قِتَاله هَؤُلَاءِ الْكَفَرَة جَيْشًا من أفضل الصَّحَابَة وَعَلَيْهِم خَالِد سيف الله على رغم أَنْفك يُقَاتلُون مُسَيْلمَة بعد أَن قَاتلُوا طليحة الْأَسدي الَّذِي تنبأ أَيْضا وَأتبعهُ أهل نجد ثمَّ أسلم طليحة وَصلح أمره وَاسْتشْهدَ فِي حَرْب مُسَيْلمَة مثل زيد بن الْخطاب وثابت بن قيس وَأسيد بن حضير وَسَالم ومولاه أَبُو حُذَيْفَة وَأَبُو دُجَانَة

وَقُرْآن مُسَيْلمَة ضحكة مثل يَا ضفدع بنت ضفدعين نقي كم تنقين لَا المَاء تكدرين وَلَا الشَّارِب تمنعين رَأسك فِي المَاء وذنبك فِي الطين

إِن الأَرْض بَيْننَا

ص: 271

وَبَين قُرَيْش وَلَكِن نِصْفَيْنِ وَلَكِن قُريْشًا قوم لَا يعدلُونَ

وَمثل قَوْله والطاحنات طحنا والعاجنات عَجنا والخابزات خبْزًا واللاقمات لقما

وَمثل والفيل وَمَا أَدْرَاك مَا الْفِيل لَهُ زلوم طَوِيل إِن ذَلِك من خلق رَبنَا الْجَلِيل

وَلما سمع أَبُو بكر هَذَا الْكَلَام قَالَ وَيْلكُمْ أَيْن يذهب بكم إِن هَذَا كَلَام لم يخرج من إل وَفِي الْجُمْلَة فَأمر مُسَيْلمَة الْكذَّاب وإدعاؤه النُّبُوَّة وَاتِّبَاع بني حنيفَة لَهُ بِالْيَمَامَةِ وقتال الصّديق لَهُم على ذَلِك أَمر متواتر مَشْهُور قد علمه الْخَاص وَالْعَام كتواتر أَمْثَاله وَلَيْسَ هَذَا من الْعلم الَّذِي تفرد بِهِ الْخَاصَّة بل علم النَّاس بذلك أظهر من علمهمْ بِقِتَال الْجمل وصفين فقد ذكر عَن بعض أهل الْكَلَام أَنه أنكر الْجمل وصفين وَهَذَا الْإِنْكَار وَإِن كَانَ بَاطِلا فَلم نعلم أحدا أنكر قتال أهل الْيَمَامَة وَأَن مُسَيْلمَة الْكذَّاب إدعى النُّبُوَّة وَأَنَّهُمْ قَاتلُوهُ على ذَلِك

لَكِن هَؤُلَاءِ الرافضة لجحدهم هَذَا وجهلهم بِهِ بِمَنْزِلَة إنكارهم كَون أبي بكر وَعمر دفنا عِنْد النَّبِي صلى الله عليه وسلم وإنكارهم مُوالَاة أبي بكر وَعمر للنَّبِي صلى الله عليه وسلم ودعواهم أَنه نَص على عَليّ بالخلافة

بل مِنْهُم من يُنكر أَن تكون زَيْنَب ورقية وَأم كُلْثُوم من بَنَات النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَمِنْهُم من

ص: 272

يَقُول إِن الصَّحَابَة بعجوا بطن فَاطِمَة حَتَّى طرحت وهدموا سقف بَيتهَا على من فِيهِ فهم يَعْمِدُونَ إِلَى الْأُمُور الثَّابِتَة المتواترة فينكرونها وَإِلَى الْأُمُور المعدومة أَو المختلقة فيثبتونها فَلهم أوفر نصيب من قَوْله تَعَالَى (وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بِالْحَقِّ لما جَاءَهُ) فتراهم يُؤمنُونَ وَالله بِالْكَذِبِ ويكذبون بِالْحَقِّ وَهَذَا حَال الْمُرْتَدين

وهم يدعونَ أَن أَبَا بكر وَعمر وَمن اتبعهما ارْتَدُّوا عَن الْإِسْلَام وَقد علم الْخَاص وَالْعَام أَن أَبَا بكر هُوَ الَّذِي قَاتل الْمُرْتَدين فيالله كَيفَ نخاطب من يزْعم أَن أهل الْيَمَامَة مظلومون مُسلمُونَ

وَقَوله إِنَّهُم سموا بني حنيفَة مرتدين لأَنهم لم يحملوا الزَّكَاة إِلَى أبي بكر فَهَذَا من أظهر الْكَذِب وأبينه فَإِنَّهُ إِنَّمَا قَاتل بني حنيفَة لكَوْنهم آمنُوا بمسيلمة الْكذَّاب وإعتقدوا نبوته وَأما مانعو الزَّكَاة فَكَانُوا قوما آخَرين غير بني حنيفَة وَهَؤُلَاء كَانَ قد وَقع لبَعض الصَّحَابَة شُبْهَة فِي جَوَاز قِتَالهمْ واما بَنو حنيفَة فَلم يتَوَقَّف أحد فِي وجوب قِتَالهمْ

وَأما قَوْلك وَلم يسموا من اسْتحلَّ دِمَاء الْمُسلمين ومحاربة أَمِير الْمُؤمنِينَ مُرْتَدا مَعَ أَنهم سمعُوا قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَا عَليّ حَرْبِيّ حربك وسلمي سلمك ومحارب رَسُول الله

ص: 273

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَافِر بِالْإِجْمَاع فَيُقَال دَعوَاهُم أَنهم سمعُوا هَذَا الحَدِيث من النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَو عَنهُ كذب عَلَيْهِم فَمن الَّذِي نقل عَنْهُم أَنهم سمعُوا ذَلِك وَهَذَا الحَدِيث لَيْسَ فِي شَيْء من كتب الحَدِيث الْمَعْرُوفَة وَلَا روى بِإِسْنَاد مَعْرُوف بل هُوَ كذب مَوْضُوع على النَّبِي صلى الله عليه وسلم بإتفاق أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ

ثمَّ عَليّ لم يكن قِتَاله يَوْم الْجمل وصفين بِأَمْر من النَّبِي صلى الله عليه وسلم بل بإجتهاده قَالَ يُونُس عَن الْحسن عَن قيس بن عباد قَالَ قلت لعَلي أخبرنَا عَن مسيرك هَذَا أَعهد عهد إِلَيْك رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أم رأى رَأَيْته قَالَ مَا عهد إِلَيّ شَيْئا وَلَكِن رأى رَأَيْته

فَلَو كَانَ محَارب عَليّ مُحَاربًا لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم مُرْتَدا لَكَانَ عَليّ حكم فيهم بسيرة الْمُرْتَدين بل تَوَاتر عَنهُ يَوْم الْجمل أَنه مَا اتبع مدبرهم وَلم يُجهز على جريحهم وَلَا غنم أَمْوَالهم وَلَا سبى ذَرَارِيهمْ

وَهَذَا مِمَّا أنكرهُ عَلَيْهِ الْخَوَارِج وقاوا إِن كَانُوا مُؤمنين فَلم قاتلتهم وَإِن كَانُوا كفَّارًا فَلم حرمت نِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ

فَبعث ابْن عَمه ابْن الْعَبَّاس يناظرهم فَقَالَ لَهُم قد كَانَت عَائِشَة فيهم فَإِن قُلْتُمْ إِنَّهَا لَيست أمنا كَذبْتُمْ الْقُرْآن وَإِن قُلْتُمْ هِيَ أمنا واستحللتم سبيهَا وَوَطئهَا كَفرْتُمْ

وَكَانَ يَقُول فِي أَصْحَاب الْجمل إِخْوَاننَا بغوا علينا طهرهم السَّيْف

وَنقل عَنهُ أَنه صلى على قَتْلَى الطَّائِفَتَيْنِ

ثمَّ إِن كَانَ أهل صفّين مرتدين كَيفَ جَازَ للْإِمَام الْمَعْصُوم عنْدكُمْ وَهُوَ الْحسن أَن ينزل عَن الْخلَافَة ويسلمها إِلَى مُرْتَد ثمَّ الله قد سماهم مُؤمنين فِي قَوْله (وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا) وَقَالَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم إِن ابْني هَذَا سيد وسيصلح

ص: 274

الله بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين

فَلَو قَالَت لَهُم النواصب أخزاهم الله فعلي اسْتحلَّ الدِّمَاء وَقَاتل بِرَأْيهِ على رياسته وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم سباب الْمُسلم فسوق وقتاله كفر وَقَالَ لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض فَمَاذَا تردون عَلَيْهِم

وَأعلم أَن طَائِفَة من الْفُقَهَاء الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة والحنبلية جعلُوا قتال مانعي الزَّكَاة وقتال الْخَوَارِج من قتال الْبُغَاة وَجعلُوا قتال الْجمل وصفين من ذَلِك

وَهَذَا القَوْل خطأ وَخلاف نَص أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد وَغَيرهم ومخالف للسّنة فَإِن الْخَوَارِج أَمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بقتالهم

ص: 275

وَاتفقَ على ذَلِك الصَّحَابَة

وَأما قتال الْجمل وصفين فَهُوَ قتال فتْنَة لَيْسَ فِيهِ أَمر الرَّسُول وَلَا إِجْمَاع من الصَّحَابَة وَأهل صفّين لم يبدأوا عليا بِقِتَال ثمَّ أَبُو حنيفَة وَغَيره لَا يجوزون قتال الْبُغَاة إِلَّا أَن يبدأوا الإِمَام

وَأَبُو حنيفَة وَأحمد وَمَالك لَا يجوزون للْإِمَام قتال من قَامَ بِالْوَاجِبِ إِذا كَانَت طَائِفَة ممتنعة وَقَالَت لَا نُؤَدِّي زكاتنا إِلَى فلَان

فَيجب الْفرق بَين قتال الْمُرْتَدين وقتال الْخَوَارِج المارقين

أما قتال مانعى الزَّكَاة فآكد من قتال الْخَوَارِج إِذا كَانُوا لم يخرجوها بِالْكُلِّيَّةِ وَلم يقرُّوا بهَا

وَأما قتال الْبُغَاة الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن فنوع ثَالِث غير هَذَا وَهَذَا فَإِنَّهُ تَعَالَى لم يَأْمُرنَا بِقِتَال الْبُغَاة ابْتِدَاء بل بالإصلاح وَلَيْسَ هَذَا حكم الْمُرْتَدين وَلَا الْخَوَارِج

وقتال الْجمل وصفين هَل هُوَ من قتال الْبُغَاة أَو من قتال الْفِتْنَة الَّتِي الْقَاعِد فِيهَا خير من الْقَائِم فَمن قعد من الصَّحَابَة وَجُمْهُور أهل الحَدِيث يَقُولُونَ هُوَ قتال فتْنَة

ص: 277

وَقَوله تَعَالَى (فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا) يَعْنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ المقتتلتين لَا طَائِفَة مُؤمنَة لم تقَاتل فَإِن هَذِه لَيْسَ فِي الْآيَة أَمر بقتالها فَإِن كَانَ قَوْله (فَإِن بَغت) بعد الْإِصْلَاح فَهُوَ أوكد وَإِن كَانَ بعد الإقتتال حصل الْمَقْصُود

فأصحاب مُعَاوِيَة إِن كَانُوا قد بغوا إِذْ لم يبايعوا عليا فَمَا فِي الْآيَة أَمر بقتالهم

وَلَو قَدرنَا أَنهم بغوا بعد الْقِتَال فَمَا وجد أحد يصلح بَين الطَّائِفَتَيْنِ

قلت لَكِن سماهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم بغاة فِي قَوْله لعمَّار تقتلك الفئة الباغية وَهَذِه مبَاحث لَا ترجع إِلَى تفكيرهم بِوَجْه

وَمِمَّا يبين كذب هَذَا القَوْل أَنه لَو كَانَ حَرْب عَليّ حَربًا للرسول وَالله قد تكفل بنصر رَسُوله كَمَا قَالَ (إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا)(وَلَقَد سبقت كلمتنا لعبادنا الْمُرْسلين إِنَّهُم لَهُم المنصورون) لوَجَبَ

ص: 277

أَن يغلب محَارب الرَّسُول وَمَا كَانَ الْأَمر كَذَلِك بِخِلَاف الْخَوَارِج فَإِنَّهُم من جنس الْمُحَاربين لله وَرَسُوله فاقتصر عَلَيْهِم وَقد قَالَ تَعَالَى (إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله) يَعْنِي قطاع الطَّرِيق وَمَعَ هَذَا فَلَا نكفرهم بذلك وَلَو كفرناهم لقتلناهم وَلَا بُد

قَالَ وَقد أحسن بعض الْفُضَلَاء حَيْثُ يَقُول شَرّ من إِبْلِيس من لم يسْبقهُ فِي سالف طَاعَة وَجرى مَعَه فِي ميدان مَعْصِيّة قَالَ وَلَا شكّ بَين الْعلمَاء أَن إِبْلِيس كَانَ أعبد الْمَلَائِكَة وَكَانَ يحمل الْعَرْش وَحده سِتَّة آلَاف سنة ثمَّ استكبر وَلعن

وَمُعَاوِيَة لم يزل فِي الْإِشْرَاك وَعبادَة الْأَصْنَام إِلَى أَن أسلم ثمَّ استكبر عَن طَاعَة الله فِي نصب أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ إِمَامًا فَكَانَ شرا من إِبْلِيس

فَنَقُول هَذَا الْكَلَام فِيهِ من الْجَهْل والضلال وَالْخُرُوج عَن دين الْإِسْلَام وكل دين بل وَعَن الْعقل الَّذِي يكون لكثير من الْكفَّار مَا لَا يخفى على من تدبره

فَإِن إِبْلِيس أكفر الْكَفَرَة وَمن كفر فَإِنَّمَا هُوَ من أَتْبَاعه وقتلاه فَكيف يكون أحد شرا مِنْهُ وَقَول الْقَائِل شَرّ من إِبْلِيس من لم يسْبقهُ إِلَى طَاعَة هَذَا يَقْتَضِي أَن كل من عصى الله فَهُوَ شَرّ من إِبْلِيس

ثمَّ نقُول إِن أحدا من الْبشر لَا يجْرِي مَعَ إِبْلِيس فِي ميدان مَعْصِيَته كلهَا وَلَا يتَصَوَّر أَن بشرا يُسَاوِيه فِي مَعْصِيَته لِأَنَّهُ عاند ربه كفاحا ثمَّ تفرغ لإغواء الْخلق إِلَى يَوْم الْقِيَامَة

ثمَّ عِبَادَته الْمُتَقَدّمَة حبطت بِكُفْرِهِ

وَأَيْضًا فَمن الَّذين قَالَ إِن إِبْلِيس كَانَ أعبد الْمَلَائِكَة وَأَنه حمل الْعَرْش وَحده وَأَنه كَانَ طَاوس الْمَلَائِكَة وَأَنه مَا ترك فِي السَّمَاء رقْعَة وَلَا فِي الأَرْض بقْعَة إِلَّا وَله فِيهَا سَجْدَة وركعة هَذَا مبناه على النَّقْل وَلم تأت آيَة وَلَا حَدِيث بذلك

ثمَّ يفترى ويكذب وَيَقُول لَا شكّ بَين الْعلمَاء فَهَذَا إِن كَانَ قَالَه بعض الوعاظ أَو المصنفين فِي الرَّقَائِق أَو بعض من ينْقل فِي التَّفْسِير من الْإسْرَائِيلِيات مَا لَا أصل لَهُ

ص: 278

فَمثل هَذَا لَا يحْتَج بِهِ فِي جرزة بقل فَكيف يحْتَج بِهِ فِي جعل إِبْلِيس خيرا من كل من عصى الله من بني آدم وَيجْعَل الصَّحَابَة من هَؤُلَاءِ الَّذين إِبْلِيس خير مِنْهُم فَمَا وصف الله وَلَا رَسُوله إِبْلِيس بِخَير قطّ وَلَا كَانَ من حَملَة الْعَرْش فضلا عَن أَن يحملهُ وَحده هَذِه خرافة وهذيان

ثمَّ إِبْلِيس حَبط عمله وَمُعَاوِيَة مُحي كفره بإيمانه كَغَيْرِهِ من الصَّحَابَة فَمَا خطأك فِي زعمك ارتداد مُعَاوِيَة وَعُثْمَان وصفوة الصَّحَابَة الْمَشْهُود لَهُم بِالْجنَّةِ إِلَّا كخطأ الْخَوَارِج فِي تكفيرهم عليا

وعَلى زعمك يكون مَا زَالَ عَليّ مَغْلُوبًا مَعَ الْمُرْتَدين وَيكون الْحسن قد خلع نَفسه وَسلم الْأَمر لمرتد وعَلى زعمك يكون نصر الله لخَالِد أعظم من نَصره عليا وَمَا كل من عصى الله يكون مستكبرا عَن طَاعَته

قَالَ وَتَمَادَى بَعضهم فِي التعصب حَتَّى إعتقد إِمَامَة يزِيد وَمَعَ مَا صدر عَنهُ من قتل الْحُسَيْن وسبى نِسَائِهِ فِي الْبِلَاد على الْجمال بِغَيْر قتب وزين العابدين مغلول

فَيُقَال لم نعتقد أَنه من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين كَمَا قَالَه بعض الجهلة من الأكراد وكما قيل هُوَ نَبِي فَهَؤُلَاءِ نظراء من إدعى نبوة عَليّ أَو إلهيته

ص: 279

وَحكي عَن بعض أَتبَاع بني أُميَّة أَن الْخَلِيفَة تقبل مِنْهُ الْحَسَنَات ويتجاوز لَهُ عَن السَّيِّئَات

فَهَؤُلَاءِ مَعَ ضلالهم أقل ضلالا مِمَّن يعْتَقد عصمَة المنتظر الَّذِي يَقُولُونَ إِنَّه فِي السرداب من أَرْبَعمِائَة وَخمسين سنة وَهُوَ مَعْدُوم

ص: 280

وَقد ذهبت المرجئة وهم خلائق إِلَى أَن التَّوْحِيد لَا يضر مَعَه شَيْء وَنحن نقُول خلَافَة النُّبُوَّة ثَلَاثُونَ سنة ثمَّ صَارَت ملكا كَمَا ورد فِي الحَدِيث

وَإِن عنيت بإعتقاد إِمَامَة يزِيد أَنه كَانَ ملك وقته وَصَاحب السَّيْف كأمثاله من المروانية والعباسية فَهَذَا أَمر مُتَيَقن وَحكم يزِيد على حوزة الْإِسْلَام سوى مَكَّة فَإِنَّهُ غلب عَلَيْهَا ابْن الزبير وَامْتنع عَن بيعَة يزِيد وَلم يدع إِلَى نَفسه حَتَّى بلغه موت يزِيد

ص: 281

فكون الْوَاحِد من هَؤُلَاءِ إِمَامًا بِمَعْنى أَنه كَانَ سُلْطَانا وَمَعَهُ السَّيْف يُولى

ص: 282

ويعزل وَيُعْطِي وَيحرم وَيحكم وَينفذ وَيُقِيم الْحُدُود ويجاهد الْكفَّار وَيقسم الْأَمْوَال

ص: 283

أَمر مَشْهُور متواتر لَا يُمكن جَحده وَهَذَا معنى كَونه إِمَامًا وَخَلِيفَة وسلطانا كَمَا أَن إِمَام الصَّلَاة هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ فَإِذا رَأينَا رجلا يُصَلِّي بِالنَّاسِ كَانَ القَوْل بِأَنَّهُ إِمَام أمرا مشهودا محسوسا لَا تمكن المكابرة فِيهِ

وَأما كَونه برا أَو فَاجِرًا مُطيعًا أَو عَاصِيا فَذَاك أَمر آخر

فَأهل السّنة إِذا اعتقدوا إِمَامَة الْوَاحِد من هَؤُلَاءِ يزِيد أَو عبد الْملك أَو الْمَنْصُور أَو غَيرهم كَانَ بِهَذَا الإعتبار

وَمن نَازع فِي هَذَا فَهُوَ شَبيه بِمن نَازع فِي ولَايَة أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَفِي ملك كسْرَى وَقَيْصَر وَالنَّجَاشِي وَغَيرهم

وَأما كَون الْوَاحِد من هَؤُلَاءِ مَعْصُوما فَلَيْسَ هَذَا إعتقاد أحد من الْعلمَاء

وَكَذَلِكَ كَونه عادلا لَهُ كل أُمُوره مُطيعًا فِي جَمِيع أَفعاله لَيْسَ هَذَا إعتقاد أحد من الْمُسلمين

وَكَذَلِكَ وجوب طَاعَته فِي كل مَا يَأْمر بِهِ وَإِن كَانَ مَعْصِيّة لله لَيْسَ هُوَ إعتقاد أحد من الْمُسلمين

وَلَكِن مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أَن هَؤُلَاءِ يشاركون فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِم فِيهِ من طَاعَة الله فنصلي خَلفهم الْجُمُعَة وَالْعِيدَيْنِ وَغَيرهمَا من الصَّلَوَات الَّتِي يقيمونها هم لِأَنَّهَا لَو لم تصل خَلفهم أفْضى إِلَى تعطليها

ونجاهد مَعَهم الْكفَّار

ونحج مَعَهم الْبَيْت الْعَتِيق

ويستعان بهم فِي الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَإِقَامَة الْحُدُود

فَإِن الْإِنْسَان لَو قدر أَن يحجّ فِي رفقه لَهُم ذنُوب وَقد جَاءُوا يحجون لم يضرّهُ هَذَا شَيْئا

وَكَذَلِكَ الْغَزْو وَغَيره من الإعمال الصَّالِحَة إِذا فعلهَا الْبر وشاركه فِي ذَلِك الْفَاجِر لم يضرّهُ ذَلِك شَيْئا فَكيف إِذا لم يُمكن فعلهَا إِلَّا على هَذَا الْوَجْه ويستعان بهم أَيْضا فِي الْعدْل فِي الحكم وَالْقسم فَإِنَّهُ لَا يُمكن عَاقِلا أَن يُنَازع فِي أَنهم كثيرا مَا يعدلُونَ فِي حكمهم وقسمهم ويعاونون على الْبر وَالتَّقوى

ص: 284

وَلَا يعاونون على الْإِثْم والعدوان فَإِذا غلب على الْأَمر خَليفَة كيزيد وَعبد الْملك والمنصور فإمَّا أَن يُقَال يجب مَنعه من الْأَمر وقتاله وَهَذَا رَأْي فَاسد يُؤَدِّي إِلَى سفك الدِّمَاء وَإِن كَانَ الْخَارِج دينا وَقل من خرج على إِمَام ذِي سُلْطَان إِلَّا كَانَ مَا تولد على فعله من الشَّرّ أعظم مِمَّا تولد من الْخَيْر كَالَّذِين خَرجُوا على يزِيد فِي الْمَدِينَة وكإبن

ص: 285

الْأَشْعَث الَّذِي خرج على عبد الْملك فِي الْعرَاق وكإبن الْمُهلب الَّذِي خرج على أَبِيه بخراسان وكأبي مُسلم صَاحب الدعْوَة الَّذِي خرج عَلَيْهِم بخراسان أَيْضا وكالذين خَرجُوا على الْمَنْصُور بِالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَة وَغَايَة هَؤُلَاءِ إِمَّا أَن يغلبوا وَإِمَّا أَن يغلبوا ثمَّ يَزُول ملكهم فَلَا يكون لَهُم عَاقِبَة

فَإِن عبد الله بن عَليّ العباسي وَأَبا مُسلم قتلا خلقا كثيرا وَكِلَاهُمَا قَتله أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور

وَأما أهل الْحرَّة وَابْن الْأَشْعَث وَابْن الْمُهلب فهزموا وَهزمَ أَصْحَابهم فَلَا أَقَامُوا دينا وَلَا أَبقوا دنيا

وَالله تَعَالَى لَا يَأْمر بِأَمْر لَا يحصل بِهِ صَلَاح الدّين وَصَلَاح الدُّنْيَا

وَإِن كَانَ فَاعل ذَلِك من عباد الله الْمُتَّقِينَ وَمن أهل الْجنَّة فليسوا أفضل من عَليّ وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَعَائِشَة وَغَيرهم وَمَعَ هَذَا لم يحْمَدُوا مَا فَعَلُوهُ من الْقِتَال وهم أعظم قدرا عِنْد الله وَأحسن نِيَّة من غَيرهم

وَكَذَلِكَ أهل الْحرَّة كَانَ فيهم من أهل الْعلم وَالدّين خلق وَكَذَلِكَ أَصْحَاب ابْن الْأَشْعَث كَانَ فيهم خلق من أهل الْعلم وَالدّين وَالله يغْفر لَهُم كلهم

وَقد قيل لِلشَّعْبِيِّ فِي فتْنَة ابْن الْأَشْعَث أَيْن كنت يَا عَامر قَالَ كنت حَيْثُ يَقُول الشَّاعِر

(عوى الذِّئْب فاستأنست بالذئب إِذْ عوى

وَصَوت إِنْسَان فكدت أطير)

أصابتنا فتْنَة لم نَكُنْ فِيهَا بررة أتقياء وَلَا فجرة أقوياء

وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يَقُول إِن الْحجَّاج عَذَاب الله فَلَا تدافعوا عَذَاب الله بِأَيْدِيكُمْ وَلَكِن عَلَيْكُم بالإستكانة والتضرع فَإِن الله يَقُول (وَلَقَد أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لرَبهم وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)

وَكَانَ طلق بن حبيب يَقُول اتَّقوا الْفِتْنَة بالتقوى

فَقيل لَهُ أجمل لنا التَّقْوَى

فَقَالَ أَن تعْمل بِطَاعَة الله على نور من الله ترجو رَحْمَة الله

وَأَن تتْرك مَعْصِيّة الله على نور من الله تخَاف عَذَاب الله

رَوَاهُ أَحْمد وَابْن أبي الدُّنْيَا

وَكَانَ أفاضل

ص: 286

الْمُسلمين ينهون عَن الْخُرُوج والقتال فِي الْفِتْنَة كَمَا كَانَ عبد الله بن عمر وَسَعِيد بن الْمسيب وَعلي بن الْحُسَيْن وَغَيرهم ينهون عَام الْحرَّة عَن الْخُرُوج على يزِيد

وكما كَانَ الْحسن وَمُجاهد وَغَيرهمَا ينهون عَن الْخُرُوج فِي فتْنَة ابْن الْأَشْعَث وَلِهَذَا اسْتَقر أَمر أهل السّنة على ترك الْقِتَال فِي الْفِتْنَة للأحاديث الصَّحِيحَة الثَّابِتَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وصاروا يذكرُونَ هَذَا فِي عقائدهم ويأمرون بِالصبرِ على جور الْأَئِمَّة وَترك قِتَالهمْ وَإِن كَانَ قد قَاتلهم فِي الْفِتْنَة خلق كثير من أهل الْعلم وَالدّين

وَبَاب قتال أهل الْبَغي وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر يشْتَبه بِالْقِتَالِ فِي الْفِتْنَة وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع بَسطه

وَمن تَأمل الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة الثَّابِتَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْبَاب واعتبرا أَيْضا أولي الْأَبْصَار علم أَن الَّذِي جَاءَت بِهِ النُّصُوص النَّبَوِيَّة خير الْأُمُور

وَلِهَذَا لما أَرَادَ الْحُسَيْن رضي الله عنه أَن يخرج إِلَى أهل الْعرَاق لما كاتبوه كتبا كَثِيرَة أَشَارَ عَلَيْهِ أفاضل أهل الْعلم وَالدّين كإبن عمر وَابْن عَبَّاس عَبَّاس وَأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام أَن لَا يخرج وَغلب على ظنهم أَنه يقتل حَتَّى أَن بَعضهم قَالَ أستودعك الله من قَتِيل وَقَالَ بَعضهم لَوْلَا الشناعة لأمسكتك ومنعتك من الْخُرُوج

وهم بذلك قاصدون نصيحته طالبون لمصلحته ومصلحة الْمُسلمين

وَالله وَرَسُوله إِنَّمَا يَأْمر بالصلاح لَا بِالْفَسَادِ لَكِن الرَّأْي يُصِيب تَارَة ويخطيء أُخْرَى

فَتبين أَن الْأَمر على مَا قَالَه أُولَئِكَ إِذْ لم يكن فِي الْخُرُوج مصلحَة لَا فِي دين وَلَا فِي دنيا بل تمكن أُولَئِكَ الظلمَة الطغاة من سبط رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَتَلُوهُ مَظْلُوما شَهِيدا وَكَانَ فِي خُرُوجه وَقَتله من الْفساد مَا لم يحصل لَو قعد فِي بَلَده فَإِن مَا قَصده من تَحْصِيل الْخَيْر وَدفع الشَّرّ لم يحصل مِنْهُ شَيْء بل زَاد الشَّرّ بِخُرُوجِهِ وَقَتله وَنقص الْخَيْر

ص: 287

بذلك وَصَارَ سَببا لشر عَظِيم وَكَانَ قتل الْحُسَيْن مِمَّا أوجب الْفِتَن كَمَا كَانَ قتل عُثْمَان مِمَّا أوجب الْفِتَن

وَهَذَا كُله مِمَّا يبين أَن مَا أَمر بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم من الصَّبْر على جور الْأَئِمَّة وَترك قِتَالهمْ وَالْخُرُوج عَلَيْهِم هُوَ أصلح الْأُمُور للعباد فِي المعاش والمعاد وَأَن من خَالف ذَلِك مُتَعَمدا أَو مخطئا لم يحصل بِفِعْلِهِ صَلَاح بل فَسَاد وَلِهَذَا أثنى النَّبِي صلى الله عليه وسلم على الْحسن بقوله إِن ابْني هَذَا سيد وسيصلح الله بِهِ بَين فئتين عظيمتين من الْمُسلمين وَلم يثن على أحد لَا بِقِتَال فِي فتْنَة وَلَا بِخُرُوج على الْأَئِمَّة وَلَا نزع يَد من طَاعَة وَلَا بمفارقة الْجَمَاعَة

وَقد ثَبت فِي البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أول جَيش يغزون الْقُسْطَنْطِينِيَّة مغْفُور لَهُم فَأول من غزا الْقُسْطَنْطِينِيَّة جَيش بَعثهمْ مُعَاوِيَة وَعَلَيْهِم ابْنه يزِيد وَفِيهِمْ من سَادَات الصَّحَابَة أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ فحاصروها

ثمَّ الْفِتَن كَالْجمَلِ وصفين والحرة ومقتل الْحُسَيْن ووقعة مرج راهط وقتلة التوابين بِعَين الْورْد وفتنة ابْن الْأَشْعَث وأضعاف ذَلِك مِمَّا يطول ذكره وَأعظم من ذَلِك فتْنَة عُثْمَان وَلِهَذَا جَاءَ فِي الحَدِيث الْمَرْفُوع الَّذِي رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد فِي الْمسند وَغَيره ثَلَاث من نجا مِنْهُنَّ فقد نجا موتى وَقتل خَليفَة مضطهد بِغَيْر حق والدجال

وَأما قَوْله السَّبي وَالْحمل على الْجمال بِلَا أقتاب فَهَذَا من الْكَذِب الْوَاضِح مَا استحلت أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم سبي هاشمية وَإِنَّمَا قَاتلُوا الْحُسَيْن خوفًا مِنْهُ وَمن أَن يزِيل عَنْهُم الْملك

فَلَمَّا اسْتشْهد فرغ الْأَمر وَبعث بآله إِلَى الْمَدِينَة

وَلَكِن جهل الرافضة إِلَيْهِ الْمُنْتَهى

وَلَا ريب أَن قتل الْحُسَيْن من أعظم الذُّنُوب وفاعله والراضي بِهِ مُسْتَحقّ للعقاب

لَكِن لَيْسَ قَتله بأعظم من قتل أَبِيه وَقتل زوج أُخْته عمر وَقتل زوج خَالَته عُثْمَان

ص: 288

قَالَ وَأنزل فِي الْحسن وَالْحُسَيْن (قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى) فَهَذَا بَاطِل فَإِن الْآيَة مَكِّيَّة بِلَا ريب نزلت قبل أَن يتَزَوَّج عَليّ بفاطمة رضي الله عنهما وَقبل أَن يُولد لَهُ الْحسن وَالْحُسَيْن

فَإِن عليا إِنَّمَا تزوج فَاطِمَة بِالْمَدِينَةِ بعد الْهِجْرَة فِي الْعَام الثَّانِي وَلم يدْخل بهَا إِلَّا بعد غَزْوَة بدر فِي شهر رَمَضَان سنة إثنتين وَقد تقدم الْكَلَام على الْآيَة الْكَرِيمَة وَأَن المُرَاد بهَا مَا بَينه ابْن عَبَّاس رضي الله عنها من أَنه لم تكن قَبيلَة من قُرَيْش إِلَّا وَبَينهَا وَبَين رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قرَابَة فَقَالَ (لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى) إِلَّا أَن تودوني فِي الْقَرَابَة الَّتِي بيني وَبَيْنكُم

رَوَاهُ البُخَارِيّ وَغَيره

قَالَ وَتوقف جمَاعَة فِي لعنته يَعْنِي يزِيد مَعَ أَنه عِنْدهم ظَالِم وَقد قَالَ تَعَالَى (أَلا لعنة الله على الظَّالِمين) وَقد سَأَلَ مهنا أَحْمد بن حَنْبَل عَن يزِيد فَقَالَ هُوَ الَّذِي فعل مَا فعل

وَقَالَ لَهُ وَلَده صَالح إِن قوما ينسبوننا إِلَى تولي يزِيد فَقَالَ يَا بني وَهل يوالي يزِيد أحد يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَقَالَ لم لَا تلعنه قَالَ وَكَيف لَا ألعن من لَعنه الله قَالَ تَعَالَى (فَهَل عسيتم إِن توليتم أَن تفسدوا فِي الأَرْض وتقطعوا أَرْحَامكُم أُولَئِكَ الَّذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أَبْصَارهم) فَهَل يكون فَسَاد أعظم من نهب الْمَدِينَة وَسبي أَهلهَا وَقتل سَبْعمِائة من قُرَيْش وَالْأَنْصَار وَقتل عشرَة آلَاف مِمَّن لم يعرف من عبد أَو حر حَتَّى وصلت الدِّمَاء إِلَى قبر

ص: 289

رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وامتلأت الرَّوْضَة

ثمَّ ضرب الْكَعْبَة بالمنجنيق وهدمها وأحرقها

وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِن قَاتل الْحُسَيْن فِي تَابُوت من نَار عَلَيْهِ نصف عَذَاب أهل النَّار

وَقد قَالَ صلى الله عليه وسلم إشتد غضب الله وغضبي على من أراق دم أَهلِي وَآذَانِي فِي عِتْرَتِي

فَيُقَال القَوْل فِي لعنة يزِيد كالقول فِي لعنة أَمْثَاله من الْمُلُوك وَالْخُلَفَاء وَغَيرهم

وَيزِيد خير من غَيره كالمختار الَّذِي انتقم من قتلة الْحُسَيْن فَإِنَّهُ ادّعى أَن جِبْرِيل ينزل عَلَيْهِ

وَخير من الْحجَّاج

وَمَعَ هَذَا فَيُقَال غَايَة يزِيد وَأَمْثَاله من الْمُلُوك أَن يَكُونُوا فساقا فلعنة الْفَاسِق الْمعِين لَيست مَأْمُورا بهَا إِنَّمَا جَاءَت السّنة بلعنة الْأَنْوَاع مثل لعن الله السَّارِق يسرق الْبَيْضَة فتقطع يَده

لعن الله آكل الرِّبَا وموكله

لعن الله الْمُحَلّل والمحلل لَهُ

لعن الله الْخمر وعاصرها وَغير ذَلِك

وَذهب طَائِفَة من الْفُقَهَاء إِلَى جَوَاز لعنة الْمعِين وَقيل إِنَّه لَا يجوز كَمَا قَالَ ذَلِك طَائِفَة أُخْرَى وَالْمَعْرُوف عَن أَحْمد كَرَاهِيَة لعن الْمعِين وَأَنه يَقُول كَمَا قَالَ الله تَعَالَى (أَلا لعنة الله على الظَّالِمين)

وَفِي البُخَارِيّ أَن رجلا كَانَ يَدعِي خمارا وَكَانَ يشرب الْخمر وَكَانَ يُؤْتِي بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فيضربه

فَقَالَ رجل لَعنه الله مَا أَكثر مَا يُؤْتى بِهِ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا تلعنه فَإِنَّهُ يحب الله وَرَسُوله فَنهى صلى الله عليه وسلم عَن لعنة هَذَا الْمعِين مَعَ كَونه لعن شَارِب الْخمر مُطلقًا

وَمن الْمَعْلُوم أَن كل مُسلم لَا بُد أَن يحب الله وَرَسُوله إِلَّا أَن يكون منافقا فَذَاك مَلْعُون

وَمن جوز لعنة الْمعِين لفسقه يَقُول ألعنه وأصلي عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مُسْتَحقّ للعقاب فيلعن ومستحق للثَّواب من وَجه الْإِسْلَام فَيصَلي عَلَيْهِ

وَهَذَا مَذْهَب الصَّحَابَة وَسَائِر أهل السّنة والكرامية والمرجئة وَمذهب كثير من الشِّيعَة الَّذين يَقُولُونَ إِن الْفَاسِق لَا يخلد فِي النَّار

وَقَالَت الْخَوَارِج والمعتزلة وَبَعض الشِّيعَة يخلد وَأَجْمعُوا على أَنه إِذا تَابَ لم يخلد

وَالَّذِي يلعن يزِيد وَنَحْوه يحْتَاج إِلَى ثُبُوت أَنه فَاسق ظَالِم وَأَن لعنة الْفَاسِق الظَّالِم الْمعِين جَائِزَة وَإِلَى أَن يزِيد مَاتَ وَلم يتب مِمَّا اجترم

ثمَّ الْعَذَاب قد يرْتَفع مُوجبه لمعارض رَاجِح كحسنات

ص: 290

ماحية ومصائب مكفرة وَقد قَالَ تَعَالَى (إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء) وَقد صَحَّ أَن أول جَيش يَغْزُو الْقُسْطَنْطِينِيَّة مغْفُور لَهُم وَأول جَيش غَزَاهَا كَانَ أَمِيرهمْ يزِيد وَنحن نعلم أَن أَكثر الْمُسلمين لَا بُد لَهُم من ظلم فَإِن فتح هَذَا الْبَاب سَاغَ أَن يلعن أَكثر موتى الْمُسلمين وَالله تَعَالَى أَمر بِالصَّلَاةِ على موتى الْمُسلمين لم يَأْمر بلعنتهم

ثمَّ الْكَلَام فِي لعنة الْأَمْوَات أعظم من لعنة الْحَيّ وَقد صَحَّ عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لَا تسبوا الْأَمْوَات فَإِنَّهُم قد أفضوا إِلَى مَا قدمُوا

وَأما نقلك عَن أَحْمد فالثابت عَنهُ من رِوَايَة ابْنه صَالح أَنه قَالَ وَمَتى رَأَيْت أَبَاك يلعن أحدا وَنقل عَنهُ لعنته من رِوَايَة مُنْقَطِعَة لَيست ثَابِتَة عَنهُ

وَقَوله تَعَالَى (أُولَئِكَ الَّذين لعنهم الله) لَا يدل على لعن معِين وَلَو كَانَ كل ذَنْب لعن فَاعله يلعن الْمعِين الَّذِي فعله للعن جُمْهُور النَّاس وَهَذَا بِمَنْزِلَة الْوَعيد الْمُطلق لَا يسْتَلْزم ثُبُوته فِي حق الْمعِين إِلَّا إِذا وجدت شُرُوطه وانتفت موانعه وَهَكَذَا اللَّعْن

هَذَا بِتَقْدِير أَن يكون يزِيد فعل مَا يقطع بِهِ الرَّحِم

ثمَّ إِن هَذَا تحقق فِي كثير من بني هَاشم الَّذين تقاتلوا من العباسيين والطالبيين فَهَل يلعن هَؤُلَاءِ كلهم وَكَذَلِكَ من ظلم قرَابَة لَهُ لَا سِيمَا وَبَينه وَبَينه عدَّة آبَاء أيلعنه بِعَيْنِه ثمَّ إِذا لعن هَؤُلَاءِ لعن كل من شَمله أَلْفَاظه وَحِينَئِذٍ فيلعن جُمْهُور الْمُسلمين

وَقَوله تَعَالَى (فَهَل عسيتم إِن توليتم أَن تفسدوا فِي الأَرْض وتقطعوا أَرْحَامكُم أُولَئِكَ الَّذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أَبْصَارهم) وَعِيد عَام فِي كل من فعل ذَلِك فقد فعل بَنو هَاشم بَعضهم بِبَعْض أعظم مِمَّا فعل يزِيد فَإِن قلت بِمُوجبِه لعنت مَا شَاءَ الله من العباسيين والعلويين وَغَيرهم

ص: 291

من الْمُؤمنِينَ

ولإبن الْجَوْزِيّ كتاب فِي إِبَاحَة لعن يزِيد يرد فِيهِ على عبد المغيث الْحَرْبِيّ فَإِنَّهُ كَانَ ينْهَى عَن ذَلِك وَقيل إِن الْخَلِيفَة النَّاصِر لما بلغه نهي الشَّيْخ عبد المغيث عَن ذَلِك قَصده وَسَأَلَهُ عَن ذَلِك وَعرف عبد المغيث أَنه الْخَلِيفَة وَلم يظْهر أَنه يُعلمهُ فَقَالَ أَنا قصدي كف الْأَلْسِنَة عَن لعن خلفاء الْمُسلمين وولاتهم وَإِلَّا لَو فتحنا هَذَا الْبَاب لَكَانَ خليفتنا أَحَق باللعن لفعله العظائم وَجعل يعدد مظالم الْخَلِيفَة حَتَّى قَالَ لَهُ ادْع لي يَا شيخ وَذهب

وَأما فعله بِأَهْل الْحرَّة فَإِنَّهُم لما خلعوه وأخرجوا نوابه وحاصروا

ص: 292

عشيرته أرسل إِلَيْهِم مرّة بعد مرّة يطْلب الطَّاعَة فامتنعوا وصمموا فَجهز

ص: 293

إِلَيْهِم مُسلم بن عقبَة المري وَأمره أَن ينذرهم ويهددهم فَإِن أَبَوا قَاتلهم فَإِذا ظهر عَلَيْهِم

ص: 294

أنهب الْمَدِينَة ثَلَاثًا وَهَذِه من كبائره وَلِهَذَا قيل لِأَحْمَد أنكتب الحَدِيث عَن يزِيد فَقَالَ لَا وَلَا كَرَامَة أَو لَيْسَ هُوَ الَّذِي فعل بِأَهْل الْمَدِينَة مَا فعل لَكِن لم يقتل جَمِيع الْأَشْرَاف وَلَا بلغ الْقَتْلَى عشرَة آلَاف وَلَا وصلت الدِّمَاء إِلَى الْمَسْجِد بل وَلَا كَانَ الْقَتْل فِي الْمَسْجِد بل بِظَاهِر الْمَدِينَة

وَلَكِن ديدنكم أَنكُمْ لَا تنقلون صدقا وَإِن كَانَ صدقا طرزتموه بكذب

وَأما الْكَعْبَة فَلم تقصد بإهانة وَإِنَّمَا قصدُوا ابْن الزبير

وَلم يهدم يزِيد الْكَعْبَة وَلَا أحرقها بإتفاق الْمُسلمين

وَلَكِن طارت إِلَى الأستار شرارة من نَار من امْرَأَة فاحترقت الْكَعْبَة

ص: 295

فَهَدمهَا ابْن الزبير وأعادها أحسن مِمَّا كَانَت على الْوَجْه الَّذِي وَصفه النَّبِي صلى الله عليه وسلم

وَأما خبر قَاتل الْحُسَيْن فِي تَابُوت من نَار فَهُوَ من كذب من لَا يستحي من المجازفة فَهَل يكون على وَاحِد نصف عَذَاب أهل النَّار مَا بَقِي لإبليس ولفرعون ولقتلة الْأَنْبِيَاء وَلأبي جهل فقاتل عمر وَعُثْمَان وَعلي أعظم جرما من قَاتل الْحُسَيْن بل هَذَا الغلو الزَّائِد يُقَابل بغلو الناصبة الَّذين يَزْعمُونَ أَن الْحُسَيْن من الْخَوَارِج الَّذين شَقوا الْعَصَا وَأَنه يجوز قَتله لقَوْله صلى الله عليه وسلم من أَتَاكُم وأمركم على رجل وَاحِد يُرِيد أَن يفرق جماعتكم فاضربوا عُنُقه كَائِنا من كَانَ أخرجه مُسلم

وَأهل السّنة يَقُولُونَ قتل مَظْلُوما شَهِيدا وقاتلوه ظلمَة معتدون وَأَحَادِيث قتل الْخَارِج لم تتناوله فَإِنَّهُ لم يفرق الْجَمَاعَة وَلم يقتل إِلَّا وَهُوَ طَالب للرُّجُوع أم الْمُضِيّ إِلَى يزِيد دَاخِلا فِيمَا دخل فِيهِ سَائِر النَّاس معرضًا عَن تَفْرِيق الْكَلِمَة

وَكَذَلِكَ الحَدِيث لم يَصح وَلَا ينْسبهُ إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَّا جَاهِل فَإِن العاصم لدم الْحُسَيْن من الْإِيمَان وَالتَّقوى أعظم من مُجَرّد الْقَرَابَة فقد قَالَ صلى الله عليه وسلم لَو أَن فَاطِمَة سرقت لَقطعت يَدهَا فقد أخبر عَن أعز أَهله عَلَيْهِ بِحكم الله الَّذِي لَا فرق فِيهِ بَين الشريف والدني فَلَو زنا الْعلوِي الْمُحصن رجم وَلَو قتل قتل

قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْمُسلمُونَ تتكفأ دِمَاؤُهُمْ

وَكَذَلِكَ إِيذَاء الرَّسُول فِي عترته وصحابته وسنته من العظائم

ص: 296

قَالَ فَلْينْظر الْعَاقِل أَي الْفَرِيقَيْنِ احق بالأمن الَّذِي نزه الله وَمَلَائِكَته وأنبياءه وأئمته ونزه الشَّرْع عَن الْمسَائِل الرَّديئَة وَمن يبطل الصَّلَاة بإهمال الصَّلَاة على أئمتهم وَيذكر أَئِمَّة غَيرهم أم الَّذِي فعل ضد ذَلِك

فَنَقُول مَا ذكرته من التَّنْزِيه إِنَّمَا هُوَ تَعْطِيل وتنقيص لله وَلِرَسُولِهِ وَذَلِكَ قَول نفاة الصِّفَات يتَضَمَّن وَصفه تَعَالَى بسلب صِفَات الْكَمَال الَّتِي يشابه فِيهَا الجمادات والمعدومات

فَإِذا قَالُوا لَا تقوم بِهِ حَيَاة وَلَا علم وَلَا قدرَة وَلَا كَلَام وَلَا مَشِيئَة وَلَا حب وَلَا بغض وَلَا رضَا وَلَا سخط وَلَا يرى وَلَا يفعل بِنَفسِهِ فعلا وَلَا يقدر أَن يتَصَرَّف بِنَفسِهِ كَانُوا قد شبهوه بالجمادات المنقوصات فَكَانَ تنقصيا وتعطيلا

وَإِنَّمَا التَّنْزِيه أَن ينزه عَن النقائص المنافية للكمال فينزه عَن الْمَوْت وَالنَّوْم وَالسّنة وَالْعجز وَالْجهل وَالْحَاجة كَمَا نزه نَفسه فِي كِتَابه وتنزه عَن أَن يكون لَهُ فِيهَا مثل

وَأما الْأَنْبِيَاء فَإِنَّكُم سلبتم مَا لَهُم من الْكَمَال وعلو الدَّرَجَات بِحَقِيقَة التَّوْبَة والإستغفار والإنتقال من كَمَال إِلَى مَا هُوَ أكمل مِنْهُ وكذبتم بِمَا أخبر الله بِهِ من ذَلِك وحرفتم الْآيَات وظننتم أَن إنتقال الْآدَمِيّ من الْجَهْل إِلَى الْعلم وَمن الضلال إِلَى الْهدى وَمن الغي إِلَى الرشد نقص وَلم تعلمُوا أَن الَّذِي يَذُوق الْخَيْر وَالشَّر ويعرفهما يكون حبه للخير وبغضه للشر أعظم مِمَّن لَا يعرف إِلَّا الْخَيْر كَمَا قَالَ عمر إِنَّمَا تنقض عرى

ص: 297

الْإِسْلَام عُرْوَة عُرْوَة إِذا نَشأ فِي الْإِسْلَام من لَا يعرف الْجَاهِلِيَّة

وَأما تَنْزِيه الْأَئِمَّة فَمن الفضائح الَّتِي يستحي من ذكرهَا لَا سِيمَا إِمَام لَا ينْتَفع بِهِ فِي دين وَلَا دنيا أَو هُوَ شَيْء مَعْدُوم

فَأَما تَنْزِيه الشَّرْع فقد مر أَن أهل السّنة مَا اتَّفقُوا على مَسْأَلَة رَدِيئَة بِخِلَاف الرافضة

ثمَّ بِالضَّرُورَةِ يعلم أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يَأْمر بِالصَّلَاةِ على عَليّ وَلَا على الإثني عشر لَا فِي صَلَاة وَلَا فِي خَارِجهَا معينا وَأَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ مَا فعلوا ذَلِك فِي صَلَاة قطّ فَمن أوجب الصَّلَاة على الإثني عشر فِي صلَاته أَو أبطل الصَّلَاة بإهمال الصَّلَاة عَلَيْهِم فقد بدل الدّين

فَإِن قيل المُرَاد أَن يُصَلِّي على آل مُحَمَّد قيل فَيدْخل فيهم بَنو هَاشم وَأُمَّهَات الْمُؤمنِينَ

والإمامية يذمون بني الْعَبَّاس

وَالْعجب من هَؤُلَاءِ الرافضة يدعونَ تعيظم آل مُحَمَّد وهم سعوا فِي مَجِيء التتار حَتَّى قتلوا خلقا من آل مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم من بني على وَبني الْعَبَّاس وَسبوا نِسَاءَهُمْ وَأَوْلَادهمْ وَقتلُوا ألف ألف وَثَمَانمِائَة ألف

وَفِي الصَّحِيح

ص: 298

قَالُوا يَا رَسُول الله كَيفَ نصلي عَلَيْك قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صلي على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد وأزواجه وَذريته

الحَدِيث

وَاتفقَ الْمُسلمُونَ على أَن آل الْعَبَّاس من ذَوي القربي وَكَذَا بني الْحَارِث بن عبد الْمطلب وَأَنَّهُمْ من آل مُحَمَّد الَّذين تحرم عَلَيْهِم الصَّدَقَة

وَعند بعض الْمَالِكِيَّة والحنبلية آل مُحَمَّد أمته

وَعند طَائِفَة من الصُّوفِيَّة هم الأتقياء من أمته

ثمَّ جُمْهُور الْفُقَهَاء لَا يوجبون الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَآله فِي الصَّلَاة وَمن أوجب الصَّلَاة على آل عُمُوما لم يجوز الإقتصار على بعض الْآل

وَكَذَلِكَ إبطا الصَّلَاة بِالصَّلَاةِ على خَليفَة من الْخُلَفَاء معِين قَول بَاطِل فَلَو دَعَا لمُعين أَو عَلَيْهِ لم تبطل صلَاته عِنْد أَكثر الْعلمَاء فقد قنت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَدْعُو لقوم ويلعن آخَرين بِأَسْمَائِهِمْ

ص: 299

‌الْفَصْل الثَّالِث فِي إِمَامَة عَليّ رضي الله عنه

قَالَ الرافضي إِن الإمامية لما رَأَوْا فَضَائِل أَمِير الْمُؤمنِينَ وكمالاته لَا تحصى قد رَوَاهَا الْمُوَافق والمخالف وَرَأَوا الْجُمْهُور قد نقلوا عَن غَيره مطاعن وَلم ينقلوا فِي عَليّ طَعنا اتَّبعُوهُ وجعلوه إِمَامًا لَهُم وَتركُوا غَيره

فَنَذْكُر مِنْهَا شَيْئا يَسِيرا مِمَّا هُوَ صَحِيح عِنْدهم ليَكُون حجَّة عَلَيْهِم يَوْم الْقِيَامَة

فَمن ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو الْحسن الأندلسي فِي الْجمع بَين الصِّحَاح السِّتَّة عَن أم سَلمَة أَن قَوْله تَعَالَى (إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت) نزلت فِي بَيتهَا وَهِي جالسة عِنْد الْبَاب فَقلت يَا رَسُول الله أَلَسْت من أهل الْبَيْت فَقَالَ إِنَّك إِلَى خير إِنَّك من أَزوَاج النَّبِي صلى الله عليه وسلم

قَالَت وَفِي الْبَيْت عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن فجللهم بكساء وَقَالَ اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أهل بَيْتِي فَأذْهب عَنْهُم الرجس وطهرهم تَطْهِيرا

فَنَقُول الْأَحَادِيث الثَّابِتَة فِي الْفَضَائِل لأبي بكر وَعمر أَكثر وَأعظم من الْفَضَائِل الثَّابِتَة لعَلي

ثمَّ أَكثر الْأَحَادِيث الَّتِي أوردهَا وَذكر أَنَّهَا فِي مُعْتَمد قَول الْجُمْهُور من أبين الْكَذِب على عُلَمَاء الْجُمْهُور وَمَا صَحَّ مِنْهَا لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على فضل عَليّ على أبي بكر وَغير عَليّ فِيهَا مشارك

وَأما فَضَائِل الشَّيْخَيْنِ فخصائص لَهما وَلَا سِيمَا فَضَائِل أبي بكر فَإِن عامتها خَصَائِص لم يشركهُ فِيهَا غَيره وَأما مَا ذكره من المطاعن فَلَا يُمكنهُ أَن يُوَجه على الثَّلَاثَة من مطْعن إِلَّا وَجه الناصبي على عَليّ مثله

وَأما قَوْله إِنَّهُم جَعَلُوهُ إِمَامًا لَهُم حَيْثُ نزهه الْمُخَالف والموافق وَتركُوا غَيره حَيْثُ يرْوى فِيهِ من يعْتَقد إِمَامَته من المطاعن مَا يطعن فِي إِمَامَته فَيُقَال هَذَا كذب بَين فَإِن عليا رضي الله عنه لم ينزهه المخالفون بل القادحون فِي عَليّ طوائف مُتعَدِّدَة وهم أفضل

ص: 200

من القادحين فِي أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان

والقادحون فِيهِ أفضل من الغلاة فِيهِ

فَإِن الْخَوَارِج متفقون على كفره وهم عِنْد الْمُسلمين كلهم خير من الغلاة الَّذين يَعْتَقِدُونَ إلهيته أَو نبوته

بل هم وَالَّذين قَاتلُوهُ من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ خير عِنْد جَمَاهِير الْمُسلمين من الرافضة الإثني عشرِيَّة الَّذين اعتقدوه إِمَامًا مَعْصُوما

وَأَبُو بكر وَعمر رضي الله عنهما لَيْسَ فِي الْأمة من يقْدَح فيهمَا إِلَّا الرافضة

والخوارج المكفرون لعَلي يوالون أَبَا بكر وَعمر ويترضون عَنْهُمَا

والمروانية الَّذين ينسبون عليا إِلَى الظُّلم وَيَقُولُونَ إِنَّه لم يكن خَليفَة يوالون أَبَا بكر وَعمر مَعَ أَنَّهُمَا ليسَا من أقاربهما

فَكيف يُقَال مَعَ هَذَا إِن عليا نزهه الْمُوَافق والمخالف بِخِلَاف الْخُلَفَاء الثَّلَاثَة وَمن الْمَعْلُوم أَن المنزهين لهَؤُلَاء أعظم وَأكْثر وَأفضل وَأَن القادحين فِي عَليّ حَتَّى بالْكفْر والفسوق والعصيان طوائف مَعْرُوفَة وهم أعلم من الرافضة وأدين والرافضة عاجزون مَعَهم علما ويدا فَلَا يُمكن الرافضة أَن تقيم عَلَيْهِم حجَّة تقطعهم بهَا وَلَا كَانُوا مَعَهم فِي الْقِتَال منصورين عَلَيْهِم

وَالَّذين قَدَحُوا فِي عَليّ رضي الله عنه جَعَلُوهُ كَافِرًا وظالما لَيْسَ فيهم طَائِفَة مَعْرُوفَة بِالرّدَّةِ عَن الْإِسْلَام

بِخِلَاف الَّذين يمدحونه ويقدحون فِي الثَّلَاثَة كالغالية الَّذين يدعونَ إلهيته من النصيرية

ص: 301

وَغَيرهم وكالإسماعيلية الْمَلَاحِدَة الَّذين هم شَرّ من النصيرية وكالغالية الَّذين يدعونَ نبوته فَإِن هَؤُلَاءِ كفار مرتدون كفرهم بِاللَّه وَرَسُوله ظَاهر لَا يخفى على عَالم بدين الْإِسْلَام

فَمن اعْتقد فِي بشر الإلهية أَو اعْتقد بعد مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم نَبيا فَهَذِهِ المقالات

ص: 302

وَنَحْوهَا مِمَّا يظْهر كفر أَهلهَا لمن يعرف الْإِسْلَام أدنى معرفَة بِخِلَاف من يكفر عليا ويلعنه من الْخَوَارِج وَمِمَّنْ قَاتله ولعنه من أَصْحَاب مُعَاوِيَة وَبني مَرْوَان وَغَيرهم فَإِن هَؤُلَاءِ كَانُوا مقرين بِالْإِسْلَامِ وشرائعه يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وَيَصُومُونَ رَمَضَان ويحجون الْبَيْت الْعَتِيق ويحرمون مَا حرم الله وَرَسُوله وَلَيْسَ فيهم كفر ظَاهر بل شَعَائِر الْإِسْلَام وشرائعه ظَاهِرَة فيهم معظمة عِنْدهم وَهَذَا أَمر يعرفهُ كل من عرف أَحْوَال الْإِسْلَام فَكيف يَدعِي مَعَ هَذَا أَن جَمِيع الْمُخَالفين نزهوه دون الثَّلَاثَة

بل إِذا اعْتبر الَّذين كَانُوا يبغضونه ويوالون عُثْمَان وَالَّذين كَانُوا يبغضون عُثْمَان وَيُحِبُّونَ عليا وجد هَؤُلَاءِ خيرا من أُولَئِكَ من وُجُوه مُتعَدِّدَة وَلَو تخلى أهل السّنة عَن مُوالَاة عَليّ رضي الله عنه لم يكن فِي المتولين لَهُ من يقدر أَن يُقَاوم المبغضين لَهُ من الْخَوَارِج والأموية والمروانية فَإِن هَؤُلَاءِ طوائف كَثِيرَة

وَمَعْلُوم أَن شَرّ الَّذين يبغضونه هم الْخَوَارِج الَّذين كفروه واعتقدوا أَنه مُرْتَد عَن الْإِسْلَام وَاسْتَحَلُّوا قَتله تقربا إِلَى الله تَعَالَى حَتَّى قَالَ شَاعِرهمْ عمرَان بن حطَّان

(يَا ضَرْبَة من تقى مَا أَرَادَ بهَا

إِلَّا ليبلغ من ذِي الْعَرْش رضوانا)

(إِنِّي لأذكره يَوْمًا فأحسبه

أوفى الْبَريَّة عِنْد الله ميزانا)

فعارضه شَاعِر أهل السّنة فَقَالَ

(يَا ضَرْبَة من شقي مَا أَرَادَ بهَا

إِلَّا ليبلغ من ذِي الْعَرْش خسرانا)

(إِنِّي لأذكره يَوْمًا فألعنه

لعنا وألعن عمرَان بن حطانا)

وَهَؤُلَاء الْخَوَارِج كَانُوا موجودين فِي زمن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ يناظرونهم ويقاتلونهم وَالصَّحَابَة اتَّفقُوا على وجوب قِتَالهمْ وَمَعَ هَذَا فَلم يكفروهم وَلَا كفرهم عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ

ص: 303

وَأما الغالية فِي عَليّ رضي الله عنه فقد اتّفق الصَّحَابَة وَسَائِر الْمُسلمين على كفرهم وكفرهم عَليّ بن أبي طَالب نَفسه وحرقهم بالنَّار وَأما الْخَوَارِج فَلم يقاتلهم عَليّ حَتَّى قتلوا وَاحِدًا من الْمُسلمين وأغاروا على أَمْوَال النَّاس فَأَخَذُوهَا

فَأُولَئِك حكم فيهم عَليّ وَسَائِر الصَّحَابَة بِحكم الْمُرْتَدين وَهَؤُلَاء لم يحكموا فيهم الْمُرْتَدين

وَهَذَا مِمَّا يبين أَن الَّذين زَعَمُوا أَنهم والوه دون أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان يُوجد فيهم من الشَّرّ وَالْكفْر بإتفاق على وَجَمِيع الصَّحَابَة مَا لَا يُوجد فِي الَّذين عادوه وكفروه وَتبين أَن جنس المبغضين لأبي بكر وَعمر شَرّ عِنْد عَليّ وَجَمِيع الصَّحَابَة من جنس المبغضين لعَلي

وَحَدِيث الكساء صَححهُ التِّرْمِذِيّ

وَأما مُسلم فَأخْرجهُ من حَدِيث عَائِشَة قَالَت خرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذَات غَدَاة وَعَلِيهِ مرط مرحل من شعر أسود فجَاء الْحسن وَالْحُسَيْن فأدخلهما مَعَه ثمَّ جَاءَت فَاطِمَة فَأدْخلهَا ثمَّ جَاءَ عَليّ فَأدْخلهُ ثمَّ قَالَ (إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس) الْآيَة

وَهَذَا الحَدِيث قد شركه فِيهِ فَاطِمَة وَحسن وحسين رضي الله عنهم فَلَيْسَ هُوَ من خَصَائِصه

وَمَعْلُوم أَن الْمَرْأَة لَا تصلح للْإِمَامَة فَعلم أَن هَذِه الْفَضِيلَة لَا تخْتَص بالأئمة بل يشركهم فِيهَا غَيرهم

ومضمونه الدعْوَة بِأَن يذهب الله عَنْهُم الرجس ويطهرهم تَطْهِيرا وَالصديق قد أخبر الله عَنهُ بِأَنَّهُ (الأتقى الَّذِي يُؤْتِي مَاله يتزكى) وَمَا دخل عَليّ فِي الأتقى حِينَئِذٍ لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ مَال حِينَئِذٍ بل دخل فِيهَا إِذْ فتحت خَيْبَر وَصَارَ ذَا مَال

قَالَ وَفِي قَوْله تَعَالَى (إِذْ نَاجَيْتُم الرَّسُول فقدموا بَين يَدي نَجوَاكُمْ صَدَقَة) قَالَ عَليّ مَا عمل بِهَذِهِ الْآيَة غَيْرِي

فَيُقَال الْأَمر بِالصَّدَقَةِ لم يكن وَاجِبا على الْمُسلمين حَتَّى يَكُونُوا عصاة بِتَرْكِهِ وَإِنَّمَا أَمر بهَا من أَرَادَ النَّجْوَى فاتفق أَنه لم يرد النَّجْوَى حِينَئِذٍ إِلَّا عَليّ فَتصدق لأَجلهَا وَهَذَا كوجوب الْهَدْي لمن أَرَادَ الْمُتْعَة

ص: 304

ووجوبه على من أحْصر وَوُجُوب الْفِدْيَة على من بِهِ أَذَى وَوُجُوب الْكَفَّارَة على من حنث

ثمَّ لم تطل مُدَّة الْأَمر بِالصَّدَقَةِ عِنْد النَّجْوَى فَمَا اتّفق ذَلِك إِلَّا لعَلي رضي الله عنه فَتصدق بِدِرْهَمَيْنِ أَو نَحْوهمَا

وَهَذَا أَبُو بكر قد تصدق مرّة بِمَالِه كُله وأتى بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ مَا أبقيت لأهْلك قَالَ الله وَرَسُوله

قَالَ وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ افتخر طَلْحَة بن شيبَة من بني عبد الدَّار وَالْعَبَّاس وَعلي فَقَالَ طَلْحَة معي مَفَاتِيح الْبَيْت وَلَو أَشَاء بت فِيهِ

وَقَالَ الْعَبَّاس أَنا صَاحب السِّقَايَة وَلَو أَشَاء لبت فِي الْمَسْجِد

وَقَالَ عَليّ لقد صليت إِلَى الْقبْلَة سِتّ أشهر قبل النَّاس وَأَنا صَاحب الْجِهَاد

فَنزلت (أجعلتم سِقَايَة الْحَاج وَعمارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كمن آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وجاهد فِي سَبِيل الله)

فَيُقَال هَذَا اللَّفْظ لَا يعرف فِي شَيْء من كتب الحَدِيث الْمُعْتَمدَة بل دلالات الْكَذِب عَلَيْهِ ظَاهِرَة

مِنْهَا أَن طَلْحَة بن شيبَة لَا وجود لَهُ وَإِنَّمَا خَادِم الْكَعْبَة هُوَ شيبَة بن عُثْمَان بن أبي طَلْحَة وَهَذَا مِمَّا يبين لَك أَن الحَدِيث لم يَصح

ثمَّ فِيهِ قَول الْعَبَّاس لَو أَشَاء بت فِي الْمَسْجِد فَأَي كَبِير أَمر فِي مبيته فِي الْمَسْجِد حَتَّى يتبجح بِهِ ثمَّ فِيهِ قَول عَليّ

ص: 305

صليت سِتَّة أشهر قبل النَّاس فَهَذَا مِمَّا يعلم بُطْلَانه بِالضَّرُورَةِ فَإِن بَين إِسْلَامه وَإِسْلَام زيد وَأبي بكر وَخَدِيجَة يَوْم أَو نَحوه فَكيف يُصَلِّي قبل النَّاس بِسِتَّة أشهر وَأَيْضًا فَلَا يَقُول أَنا صَاحب الْجِهَاد وَقد شَاركهُ فِيهِ عدد كثيرا جدا فَهَذَا الحَدِيث مَوْضُوع

وَيرد عَلَيْهِ مَا فِي صَحِيح مُسلم عَن النُّعْمَان بن بشير قَالَ كنت عِنْد مِنْبَر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رجل لَا أُبَالِي أَن لَا أعمل عملا بعد الْإِسْلَام إِلَّا أَن أَسْقِي الْحَاج

وَقَالَ آخر مَا أُبَالِي أَن لَا أعمل عملا فِي الْإِسْلَام إِلَّا أَن أعمر الْمَسْجِد الْحَرَام وَذكر آخر الْجِهَاد وَقَالَ هُوَ أفضل مِمَّا قُلْتُمْ فزجرهم عمر وَقَالَ لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم عِنْد مِنْبَر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة وَلَكِن إِذا صليت الْجُمُعَة دخلت فاستفتيته فِيمَا اختلفتم فِيهِ

فَأنْزل الله تَعَالَى (أجعلتم سِقَايَة الْحَاج وَعمارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كمن آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وجاهد فِي سَبِيل الله) فَهَذَا لَيْسَ من خَصَائِص عَليّ إِذْ الَّذين آمنُوا وَجَاهدُوا كثير وَقد قَالَ تَعَالَى (الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا فِي سَبِيل الله بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم أعظم دَرَجَة عِنْد الله) وَلَا ريب أَن جِهَاد أبي بكر بِمَالِه وَنَفسه أبلغ من جِهَاد عَليّ غَيره كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح إِن أَمن النَّاس علينا فِي صحبته وَذَات يَده أَبُو بكر وَقَالَ صلى الله عليه وسلم مَا نَفَعَنِي مَال مَا نَفَعَنِي مَال أبي بكر وَأَبُو بكر كَانَ مُجَاهدًا بِلِسَانِهِ وَيَده وَهُوَ أول من دَعَا إِلَى الله وَأول من أوذي فِي الله بعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأول من دَافع عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَكَانَ مشاركا لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي هجرته وجهاده حَتَّى كَانَ هُوَ وَحده مَعَه فِي الْعَريش يَوْم بدر وَحَتَّى إِن أَبَا سُفْيَان يَوْم أحد لم يسْأَل إِلَّا عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأبي بكر وَعمر لما قَالَ أفيكم مُحَمَّد فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا تجيبوه

فَقَالَ أفيكم ابْن أبي قُحَافَة فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا تجيبوه

فَقَالَ أفيكم ابْن الْخطاب فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا تجيبوه

فَقَالَ أما هَؤُلَاءِ فقد كفيتموهم

فَلم يملك عمر نَفسه فَقَالَ كذبت يَا عَدو الله إِن الَّذِي عددت أَحيَاء وَقد أبقى الله لَك مَا يحزنك

ص: 306

ذكره البُخَارِيّ وَغَيره

قَالَ الرافضي وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل أَن أنسا قَالَ لسلمان سل النَّبِي صلى الله عليه وسلم من وَصِيَّة فَسَأَلَهُ فَقَالَ يَا سلمَان من كَانَ وصّى مُوسَى قَالَ يُوشَع

قَالَ فَإِن وصيي ووارثى عَليّ قُلْنَا هَذَا الحَدِيث كذب مَوْضُوع بإتفاق أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ لَيْسَ هُوَ فِي مُسْند الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل وَأحمد قد صنف كتابا فِي فَضَائِل الصَّحَابَة ذكر فِيهِ فضل أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة وَذكر فِيهِ مَا روى فِي ذَلِك من صَحِيح وَضَعِيف للتعريف بذلك وَلَيْسَ كل مَا رَوَاهُ يكون صَحِيحا

ثمَّ إِن فِي هَذَا

ص: 307

الْكتاب زيادات من رِوَايَة ابْن عبد الله وزيادات من رِوَايَة الْقطيعِي عَن شُيُوخه وَهَذِه الزِّيَادَات الَّتِي زَادهَا الْقطيعِي غالبها كذب كَمَا سَيَأْتِي ذكر بَعْضهَا

وشيوخ الْقطيعِي يروون عَمَّن فِي طبقَة أَحْمد

وَهَؤُلَاء الرافضة جهال إِذا رَأَوْا فِيهِ حَدِيثا ظنُّوا أَن الْقَائِل لذَلِك أَحْمد بن حَنْبَل وَيكون الْقَائِل لذَلِك هُوَ الْقطيعِي وشيوخ الْقطيعِي الَّذين يروون عَمَّن فِي طبقَة أَحْمد

وَكَذَلِكَ فِي الْمسند زيادات زَادهَا ابْنه عبد الله لَا سِيمَا فِي مُسْند عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه فَإِنَّهُ زَاد زيادات كَثِيرَة فَالْحَدِيث من كذب الدجاجلة وَلَا حدث بِهِ وَالله أَحْمد فَهَذَا مُسْنده بل وَهَذَا الْكتاب الَّذِي صنفه فِي فَضَائِل الصَّحَابَة

قَالَ وَعَن يزِيد بن أبي مَرْيَم عَن عَليّ قَالَ انْطَلَقت أَنا وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَيْنَا الْكَعْبَة فَصَعدَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على مَنْكِبي فَذَهَبت لأنهض فَرَأى منى ضعفا فَنزل وَجلسَ لي فَصَعدت على مَنْكِبه فَنَهَضَ بِي حَتَّى صعدت على الْبَيْت وَعَلِيهِ تِمْثَال نُحَاس فَجعلت أزاوله ثمَّ قذفت بِهِ فتكسر وانطلقنا نَسْتَبِق حَتَّى تَوَارَيْنَا قُلْنَا إِن صَحَّ هَذَا فَمَا فِيهِ شَيْء من خَصَائِص الْأَئِمَّة فقد كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي وَهُوَ حَامِل أُمَامَة بنت

ص: 308

أبي الْعَاصِ على مَنْكِبَيْه وَسجد مرّة فجَاء الْحسن فارتحله فَإِذا كَانَ يحمل الطفلة والطفل لم يكن فِي حمله لعَلي مَا يُوجب أَن يكون ذَلِك من خَصَائِصه وَإِنَّمَا حمله لعجز عَليّ عَن حمله فَهَذَا يدْخل فِي مَنَاقِب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وفضيلة من يحمل النَّبِي صلى الله عليه وسلم أعظم من فَضِيلَة من يحملهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَمَا حمله يَوْم أحد من حمله من الصَّحَابَة مثل طَلْحَة بن عبيد الله فَإِن هَذَا نفع النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَذَاكَ نَفعه النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَمَعْلُوم أَن نَفعه بِالنَّفسِ وَالْمَال أعظم من إنتفاع الْإِنْسَان بِنَفس النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَمَاله

قَالَ وَعَن ابْن أبي ليلى قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الصديقون ثَلَاثَة حبيب النجار وَمُؤمن آل فِرْعَوْن وَعلي وَهُوَ أفضلهم

قُلْنَا وَهَذَا كذب

وَقد ثَبت أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وصف أَبَا بكر بِأَنَّهُ صديق وَصَحَّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود مَرْفُوعا لَا يزَال الرجل يصدق ويتحرى الصدْق حَتَّى يكْتب عِنْد الله صديقا فالصديقون بِهَذَا كثير وَقَالَ تَعَالَى فِي مَرْيَم وَهِي امْرَأَة (وَأمه صديقَة)

قَالَ وَعَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لعَلي أَنْت مني وَأَنا مِنْك قُلْنَا نعم أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث الْبَراء لما تنَازع عَليّ وجعفر وَزيد فِي ابْنة حَمْزَة فَقضى بهَا لخالتها وَكَانَت تَحت جَعْفَر وَقَالَ أَنْت مني وَأَنا مِنْك وَقَالَ لجَعْفَر اشبهت خلقي وَخلقِي وَقَالَ لزيد أَنْت أخونا ومولانا لَكِن هَذَا اللَّفْظ قد قَالَه النَّبِي صلى الله عليه وسلم لطائفة من أَصْحَابه وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي مُوسَى أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي الْأَشْعَرِيين هم مني وَأَنا مِنْهُم

قَالَ وَعَن عَمْرو بن مَيْمُون قَالَ لعَلي عشر فَضَائِل لَيست لغيره قَالَ لَهُ النَّبِي

ص: 309

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَأَبْعَثَن رجلا لَا يخزيه الله أبدا يحب الله وَرَسُوله وَيُحِبهُ الله وَرَسُوله فاستشرف لَهَا من استشرف فَقَالَ أَيْن عَليّ بن أبي طَالب قَالُوا هُوَ أرمد فِي الرَّحَى يطحن وَمَا كَانَ أحد يطحن فجَاء وَهُوَ أرمد لَا يكَاد أَن يبصر قَالَ فنفث فِي عَيْنَيْهِ ثمَّ هز الرَّايَة ثَلَاثًا وَأَعْطَاهَا إِيَّاه فجَاء بصفية بنت حييّ

قَالَ ثمَّ بعث أَبَا بكر بِسُورَة بَرَاءَة فَبعث عليا خَلفه وَقَالَ لَا يذهب بهَا إِلَّا رجل هُوَ مني وَأَنا مِنْهُ

وَقَالَ لبني عَمه أَيّكُم يواليني فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة قَالَ وَعلي جَالس مَعَهم فَأَبَوا فَقَالَ عَليّ أَنا أواليك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة قَالَ فَتَركه ثمَّ أقبل على رجل رجل مِنْهُم فَقَالَ أَيّكُم يواليني فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَأَبَوا فَقَالَ عَليّ أَنا أواليك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة فَقَالَ أَنْت ولي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة

قَالَ وَكَانَ عَليّ أول من أسلم من النَّاس بعد خَدِيجَة

قَالَ وَأخذ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثَوْبه فَوَضعه على عَليّ وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن فَقَالَ (إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا) قَالَ وشرى عَليّ نَفسه وَلبس ثوب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ثمَّ نَام مَكَانَهُ وَكَانَ الْمُشْركُونَ يرمونه بِالْحِجَارَةِ

وَخرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِالنَّاسِ فِي غزَاة تَبُوك فَقَالَ لَهُ عَليّ أخرج مَعَك فَقَالَ لَا فَبكى عَليّ فَقَالَ لَهُ أما ترْضى أَن تكون مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى إِلَّا أَنَّك لست بِنَبِي لَا يَنْبَغِي أَن أذهب إِلَّا وَأَنت خليفتي

وَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنْت وليي فِي كل مُؤمن بعدِي

قَالَ وسد أَبْوَاب الْمَسْجِد إِلَّا بَاب عَليّ

قَالَ وَكَانَ يدْخل الْمَسْجِد جنبا وَهُوَ طَرِيقه لَيْسَ لَهُ طَرِيق غَيره

وَقَالَ لَهُ من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ

وَعَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَرْفُوعا أَنه بعث أَبَا بكر فِي بَرَاءَة إِلَى مَكَّة فَسَار لَهَا ثَلَاثًا ثمَّ قَالَ لعَلي الْحَقْهُ فَرده وَبَلغهَا أَنْت فَفعل فَلَمَّا قدم أَبُو بكر على النَّبِي صلى الله عليه وسلم بَكَى وَقَالَ يَا رَسُول الله حدث فِي شَيْء قَالَ لَا وَلَكِن أمرت أَن لَا يبلغهَا إِلَّا أَنا أَو رجل مني

قُلْنَا هَذَا الْخَبَر مُرْسل لَو ثَبت عَن عَمْرو بن مَيْمُون

وَمِنْه أَلْفَاظ مُنكرَة مِنْهَا

ص: 310

لَا يَنْبَغِي أَن أذهب إِلَّا وَأَنت خليفتي فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم اسْتخْلف غَيره غير مرّة

وَكَذَلِكَ قَوْله سدوا الْأَبْوَاب إِلَّا بَاب عَليّ فَإِنَّهُ من وضع الشِّيعَة

فَإِن فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ إِن أَمن النَّاس عَليّ فِي مَاله وصحبته أَبُو بكر وَلَو كنت متخذا خَلِيلًا لأتخذت أَبَا بكر خَلِيلًا وَلَكِن أخوة الْإِسْلَام ومودته

لَا يبْقين فِي الْمَسْجِد خوخة إِلَّا سدت إِلَّا خوخة أبي بكر

وَرَوَاهُ ابْن عَبَّاس فِي الصَّحِيحَيْنِ

وَمِنْه قَالَ أَنْت وليي فِي كل مُؤمن بعدِي فَهَذَا مَوْضُوع بإتفاق أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ

وَبَاقِي الحَدِيث لَيْسَ هُوَ من خَصَائِصه مثل كَونه يحب الله وَرَسُوله وإستخلافه على الْمَدِينَة وَكَونه بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى

وَمثل كَون بَرَاءَة لَا يبلغهَا إِلَّا هاشمي إِذا كَانَت الْعَادة جَارِيَة بِأَنَّهُ لَا ينْقض العهود إِلَّا رجل من قَبيلَة المطاع

ص: 311

قَالَ وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَخطب خوارزم أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ يَا عَليّ لَو أَن عبدا عبد الله مثل مَا قَامَ نوح فِي قومه وَكَانَ لَهُ مثل أحد ذَهَبا فأنفقه فِي سَبِيل الله وَحج ألف مرّة على قَدَمَيْهِ ثمَّ قتل بَين الصفاة والمروة مَظْلُوما ثمَّ لم يوالك لم يشم رَائِحَة الْجنَّة وَلم يدخلهَا

فَيُقَال أَخطب خوارزم هَذَا لَهُ مُصَنف فِي هَذَا الْبَاب فِيهِ من المكذوبات مَا لَا يُوصف وَهَذَا وَالله مِنْهَا

قَالَ وَقَالَ رجل لسلمان مَا أَشد حبك لعَلي

قَالَ سَمِعت نَبِي الله يَقُول من أحبه فقد أَحبَّنِي

وَعَن أنس مَرْفُوعا خلق الله من نور وَجه عَليّ سبعين ألف ملك يَسْتَغْفِرُونَ لَهُ ولمحبيه إِلَى يَوْم الْقِيَامَة

وَعَن ابْن عمر قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من أحب عليا قبل الله مِنْهُ صلَاته وصيامه وقيامه واستجاب دعاءه أَلا وَمن أحب عليا أعطَاهُ الله بِكُل عرق من بدنه مَدِينَة فِي الْجنَّة أَلا وَمن أحب آل مُحَمَّد أَمن الْحساب وَالْمِيزَان والصراط أَلا وَمن مَاتَ على حب آل مُحَمَّد فَأَنا كفيله فِي الْجنَّة مَعَ الْأَنْبِيَاء وَمن

ص: 312

أبْغض آل مُحَمَّد جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة مَكْتُوبًا بَين عَيْنَيْهِ آيس من رَحْمَة الله

وَعَن ابْن عمر سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقد سُئِلَ بِأَيّ لُغَة خاطبك رَبك لَيْلَة الْمِعْرَاج قَالَ خاطبني بلغَة عَليّ فألهمني أَن قلت يَا رب أَنْت خاطبتني أم عَليّ فَقَالَ يَا مُحَمَّد أَنا شَيْء لَيْسَ كالأشياء لَا أقاس بِالنَّاسِ وَلَا أوصف بالأشياء خلقتك من نوري وخلقت عليا من نورك فاطلعت على سرائر قَلْبك فَلم أجد إِلَى قَلْبك أحب من عَليّ خاطبتك بِلِسَانِهِ كَيْمَا يطمئن قَلْبك

وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَو أَن الرياض أَقْلَام وَالْبَحْر مداد وَالْجِنّ حِسَاب وَالْإِنْس كتاب مَا أحصوا فَضَائِل عَليّ

وَقَالَ إِن الله جعل الْأجر على فَضَائِل عَليّ لَا يُحْصى فَمن ذكر فَضِيلَة من فضائله فقرأها غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا تَأَخّر وَالنَّظَر إِلَى وَجهه عبَادَة وَذكره عبَادَة لَا يقبل الله إِيمَان عبد إِلَّا بولايته والبراءة من أعدائه

وَعَن حَكِيم بن حزَام مَرْفُوعا لمبارزة على عَمْرو بن ود يَوْم الخَنْدَق أفضل من عمل أمتِي إِلَى يَوْم الْقِيَامَة

قُلْنَا هَذِه الْأَحَادِيث وَالله الْعَظِيم كذب يلعن الله من افتراها وَلعن من لَا يحب عليا

وَأَنت قد قدمت أَنَّك لَا تذكر إِلَّا مَا هُوَ صَحِيح عندنَا فَمن أَيْن جِئْت بِهَذِهِ الخرافات وَلَكنَّا تَيَقنا بِأَن الرافضة أَجْهَل الطوائف وأكذبهم وَأَنت زعيمهم وعالمهم وَهَذَا حالك

قَالَ وَعَن سعد بن أبي وَقاص أَن مُعَاوِيَة أمره بسب على فَأبى فَقَالَ مَا يمنعك قَالَ ثَلَاث قالهن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لِأَن تكون لي وَاحِدَة مِنْهُنَّ أحب إِلَى من حمر النعم سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول لعَلي وَقد خَلفه فِي بعض مغازيه فَقَالَ تخلفني مَعَ النِّسَاء وَالصبيان فَقَالَ أما ترْضى أَن تكون مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى إِلَّا أَنه لَا نَبِي بعدِي

وسمعته يَقُول لَأُعْطيَن الرَّايَة رجلا يحب الله وَرَسُوله وَيُحِبهُ الله وَرَسُوله فتطاول لَهَا النَّاس فَقَالَ ادعوا لي عليا فَأَتَاهُ وَبِه رمد فبصق فِي عَيْنَيْهِ وَدفع إِلَيْهِ الرَّايَة

ص: 313

فَفتح الله عَلَيْهِ وأنزلت هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة (فَقل تَعَالَوْا نَدع أبناءنا وأبناءكم) فَدَعَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عليا وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن فَقَالَ هَؤُلَاءِ أَهلِي

قُلْنَا أما هَذَا فَصَحِيح رَوَاهُ مُسلم وسقته بجهلك بَين الموضوعات كمن نظم درة بَين بعر

وَلَكِن هَذِه المناقب لَيست من خَصَائِصه فَإِنَّهُ اسْتخْلف جمَاعَة على الْمَدِينَة وتشبيهه بهَارُون لَيْسَ بأعظم من تَشْبِيه أبي بكر بإبراهيم وَعِيسَى وتشبيه عمر بِنوح ومُوسَى

فَإِن هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة أفضل من هَارُون وكل من أبي بكر وَعمر شبه بإثنين لَا بِوَاحِد فَكَانَ هَذَا التَّشْبِيه أعظم من تَشْبِيه عَليّ مَعَ أَن إستخلاف عَليّ لَهُ فِيهِ أشباه وأمثال من الصَّحَابَة وَهَذَا التَّشْبِيه لَيْسَ لهذين فِيهِ شَبيه فَلم يكن الإستخلاف من الخصائص وَلَا

ص: 314

التَّشْبِيه بِنَبِي فِي بعض أَحْوَاله من الخصائص

وَفِي الحَدِيث رد على النواصب الَّذين لَا يتولونه وَلَا يحبونه وعَلى الْخَوَارِج الَّذين كفروه لَكِن هَذَا لَا يتم على قَول الرافضة الَّذين جعلُوا النُّصُوص الدَّالَّة على فضل الصَّحَابَة كَانَت قبل ردتهم فَإِن الْخَوَارِج كَذَا تَقول فِي عَليّ وَهَذَا بَاطِل لِأَن الله لَا يحب وَلَا يرضى عَمَّن يعلم أَنه يَمُوت كَافِرًا

وَكَذَا المباهلة شَاركهُ فِيهَا ولداه

فَإِن قيل فَلم تمنى سعد وَاحِدَة مِنْهُنَّ قيل لِأَن شَهَادَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم لعَلي ظَاهرا وَبَاطنا بِالْإِيمَان وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِذا شهد لمُعين بِشَهَادَة كَانَت من أعظم مناقبه كَمَا صلى صلى الله عليه وسلم على ميت فَقَالَ اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ وارحمه وعافه واعف عَنهُ إِلَخ قَالَ عَوْف بن مَالك فتمنيت أَن أكون أَنا ذَلِك الْمَيِّت

وَهَذَا الدُّعَاء لم يكن مُخْتَصًّا بذلك الْمَيِّت

قَالَ وَعَن عَامر بن وَاثِلَة قَالَ قَالَ عَليّ يَوْم الشورى لأحتجن عَلَيْكُم بِمَا لَا يَسْتَطِيع أحد تَغْيِير ذَلِك

ثمَّ قَالَ أنْشدكُمْ بِاللَّه أفيكم أحد وحد الله قبلي قَالُوا اللَّهُمَّ لَا وَذكر الحَدِيث بِطُولِهِ وَفِيه فأنشدكم بِاللَّه هَل فِيكُم أحد سلم عَلَيْهِ فِي سَاعَة وَاحِدَة ثَلَاثَة آلَاف من الْمَلَائِكَة وَجِبْرِيل وميكال وإسرافيل حَيْثُ جِئْت بِالْمَاءِ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من القليب غَيْرِي قَالُوا اللَّهُمَّ لَا وَمِنْه مَا رَوَاهُ أَبُو عمر الزَّاهِد عَن ابْن عَبَّاس قَالَ لعَلي أَربع خِصَال لَيست لأحد من النَّاس غَيره هُوَ أول من صلى مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الَّذِي كَانَ مَعَه لِوَاؤُهُ فِي كل زحف وَهُوَ الَّذِي صَبر مَعَه يَوْم حنين وَهُوَ الَّذِي غسله وَأدْخلهُ قَبره

وَعَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ مَرَرْت لَيْلَة الْمِعْرَاج بِقوم تشرشر

ص: 315

أشداقهم فَقلت يَا جِبْرِيل من هَؤُلَاءِ قَالَ هَؤُلَاءِ قوم يقطعون النَّاس بالغيبة

قَالَ ومررت بِقوم قد ضوضوا فَقلت لجبريل من هَؤُلَاءِ قَالَ الْكفَّار

ثمَّ عدلنا عَن الطَّرِيق فَلَمَّا انتهينا إِلَى السَّمَاء الرَّابِعَة رَأَيْت عليا يُصَلِّي فَقلت يَا جِبْرِيل من هَذَا عَليّ قد سبقنَا قَالَ لَا لَيْسَ هَذَا عليا بل إشتاقت الْمَلَائِكَة إِلَى رُؤْيَته لما سمعُوا مناقبه وخاصة قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم أما ترْضى أَن تكون مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى فخلق الله ملكا على صورته

وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ إِن الْمُصْطَفى قَالَ ذَات يَوْم أَنا الْفَتى ابْن الْفَتى أَخُو الْفَتى يَعْنِي عليا

وَهُوَ معنى قَول جِبْرِيل فِي يَوْم بدر وَقد عرج إِلَى السَّمَاء وَهُوَ فَرح وَهُوَ يَقُول لَا سيف إِلَّا ذُو الفقار وَلَا فَتى إِلَّا عَليّ

وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ رَأَيْت أَبَا ذَر وَهُوَ مُتَعَلق بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة وَهُوَ يَقُول من عرفني فقد عرفني أَنا أَبُو ذَر وَلَو صمتم حَتَّى تَكُونُوا كالأوتار وصليتم حَتَّى تَكُونُوا كالحنايا مَا نفعكم ذَلِك حَتَّى تحبوا عليا

فَيُقَال حَدِيث وَاثِلَة كذب بإتفاق الْحفاظ وَمَا قَالَ عَليّ يَوْم الشورى شَيْئا من ذَلِك بل قَالَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف لَئِن أَمرتك لتعدلن قَالَ نعم

قَالَ وَإِن بَايَعت عُثْمَان لتسمعن وتطيعن قَالَ نعم

وَقَالَ مثل ذَلِك لعُثْمَان

وَمكث ثَلَاثَة أَيَّام يشاور الْمُسلمين

وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فَبَاطِل فلواء النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَوْم أحد كَانَ مَعَ مُصعب بن عُمَيْر بإتفاق وَلِوَاؤُهُ يَوْم الْفَتْح كَانَ مَعَ الزبير أخرجه البُخَارِيّ

وَيَوْم حنين لم يكن أحد أقرب إِلَى بغلة النَّبِي صلى الله عليه وسلم من عَمه الْعَبَّاس وَأبي سُفْيَان بن الْحَارِث وَالْعَبَّاس آخذ بركابه

وَأما مَا ذكره عَن الْمِعْرَاج فكذب سمج وَفِيه مَا يبين وَضعه وَهُوَ أَن الكروبيين لما سمعُوا مناقبه وخاصة قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم أما ترْضى أَن تكون مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى اشتاقت إِلَى عَليّ فخلق لَهَا ملكا على صُورَة عَليّ

ص: 316

فالمعراج كَانَ بِمَكَّة من الْمَسْجِد الْحَرَام وَقَوله أما ترْضى قَالَه لَهُ فِي غَزْوَة تَبُوك وَهِي آخر الْغَزَوَات سنة تسع

وَكَذَا خبر لَا سيف إِلَّا ذُو الفقار وَلَا فَتى إِلَّا عَليّ كذب والفتى لَيْسَ من أَسمَاء الْمَدْح وَلَا الذَّم

بل هُوَ كَقَوْلِك الشَّاب والكهل وَقَول الْمُشْركين (سمعنَا فَتى يذكرهم) لم يقصدوا مدحه بذلك

وَحَدِيث مواخاة النَّبِي لعَلي وَأبي بكر لعمر من الأكاذيب وَإِنَّمَا آخى بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار

وَذُو الفقار سيف كَانَ لأبي جهل غنمه الْمُسلمُونَ يَوْم بدر فَلم يكن ذُو الفقار يَوْم بدر من سيوف الْمُسلمين روى أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ من رِوَايَة ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم نقل سَيْفه ذَا الفقار يَوْم بدر ثمَّ إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ بعد النُّبُوَّة كهلا وَقَول أبي ذَر لم يَصح مَعَ أَن حب عَليّ فرض كَمَا أَن حب أبي بكر فرض وَحب الْأَنْصَار فرض قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم آيَة الْإِيمَان حب الْأَنْصَار وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عَليّ أَنه لعهد النَّبِي الْأُمِّي إِلَى أَنه لَا يحبني إِلَّا مُؤمن وَلَا يبغضني إِلَّا مُنَافِق

قَالَ وَمِنْهَا مَا نَقله صَاحب الفردوس عَن معَاذ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم حب عَليّ حَسَنَة لَا تضر مَعهَا سَيِّئَة وبغضه سَيِّئَة لَا تَنْفَع مَعهَا حَسَنَة قُلْنَا كتاب الفردوس مُصَنفه شيرويه بن شهريار الديلمي الْمُحدث فِيهِ مَوْضُوعَات جمة هَذَا مِنْهَا وَلَا بقوله الْمُصْطَفى الْمَعْصُوم بل هَذَا الْمُؤمن الَّذِي يحب الله وَرَسُوله وَمَعَ ذَلِك تضره السَّيِّئَات وَيحد فِي الْخمر وَقد أَمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِضَرْب حمَار فِي الْخمر فَسَبهُ رجل فَقَالَ صلى الله عليه وسلم دَعه فَإِنَّهُ يحب الله

ص: 317

وَرَسُوله

وَأَيْضًا فقد كَانَ أَبُو طَالب يحب ابْنه عليا وضره الشّرك حَتَّى دخل النَّار

وَهَؤُلَاء الغلاة يَزْعمُونَ أَنهم يحبونه وهم من أهل النَّار

وَحب الرَّسُول أعظم من حب عَليّ وَيدخل خلق من محبيه النَّار ثمَّ يخرجُون بِشَفَاعَتِهِ

وَكَذَلِكَ الحَدِيث الَّذِي أوردهُ عَن ابْن مَسْعُود حب آل مُحَمَّد يَوْمًا خير من عبَادَة سنة مَوْضُوع

وَحَدِيث أَنا وَعلي حجَّة الله على خلقه كذب أَيْضا وَالله تَعَالَى يَقُول (لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة بعد الرُّسُل)

وَكَذَلِكَ قَوْله لَو اجْتمع النَّاس على حب عَليّ لم تخلق النَّار فقد رَأينَا من محبيه من الإسماعيلية وَغَيرهم خلقا من طَعَام النَّار

وَنحن نحبه ونخاف النَّار

ثمَّ خلق مِمَّن صدق الرُّسُل يدْخلُونَ الْجنَّة وَمَا عرفُوا عليا

وَكَذَلِكَ الحَدِيث الَّذِي ذكره فِي الْعَهْد الَّذِي عَهده الله فِي عَليّ وَأَنه راية الْهدى وَإِمَام الْأَوْلِيَاء والكلمة الَّتِي ألزمها لِلْمُتقين

فَصَاحب الْحِلْية قد روى فِي فَضَائِل الْأَرْبَعَة عدَّة مَوْضُوعَات وَإِنَّمَا كلمة التَّقْوَى لَا إِلَه إِلَّا الله

قَالَ الرافضي وَأما المطاعن فِي الْجَمَاعَة فقد نقل أتباعهم مِنْهَا كثيرا حَتَّى صنف الْكَلْبِيّ كتابا فِي مثالب الصَّحَابَة

قُلْنَا الْكَلْبِيّ وَابْنه هِشَام كذابان رافضيان

ص: 318

وَإِن مَا ينْقل عَن الصَّحَابَة من المثالب نَوْعَانِ أَحدهمَا إِمَّا كذب كُله وَإِمَّا محرف قد دخله من الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان مَا يُخرجهُ إِلَى الذَّم والطعن

وَأكْثر الْمَنْقُول من المطاعن الصَّرِيحَة هُوَ من هَذَا الْبَاب يَرْوِيهَا الكذابون المعروفون بِالْكَذِبِ مثل أبي مخنف لوط بن يحيى وَمثل هِشَام بن مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ وَلِهَذَا اسْتشْهد هَذَا الرافضي بِمَا صنفه هِشَام الْكَلْبِيّ فِي ذَلِك وَهُوَ من أكذب النَّاس وَهُوَ شيعي يرْوى عَن أَبِيه وَعَن أبي مخنف وَكِلَاهُمَا مَتْرُوك كَذَّاب

وَقَالَ الإِمَام أَحْمد فِي هَذَا الْكَلْبِيّ مَا ظنت أَن أحدا يحدث عَنهُ إِنَّمَا هُوَ صَاحب سمر وَنسب

وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ مَتْرُوك

وَقَالَ ابْن عدي هِشَام الْكَلْبِيّ الْغَالِب عَلَيْهِ الأسمار وَلَا أعرف لَهُ فِي الْمسند شَيْئا وَأَبُو أَيْضا كَذَّاب

وَقَالَ زَائِدَة وَاللَّيْث وَسليمَان التَّيْمِيّ هُوَ كَذَّاب

وَقَالَ يحيى لَيْسَ بِشَيْء

ص: 319

كَذَّاب سَاقِط

وَقَالَ ابْن حبَان وضوح الْكَذِب فِيهِ أظهر من أَن يحْتَاج إِلَى الإغراق فِي وَصفه

النَّوْع الثَّانِي مَا هُوَ صدق وَأكْثر هَذِه الْأُمُور لَهُم فِيهَا معاذير تخرجها عَن أَن تكون ذنوبا وتجعلها من موارد الإجتهاد الَّتِي إِن أصَاب الْمُجْتَهد فِيهَا فَلهُ أَجْرَانِ وَإِن أَخطَأ فَلهُ أجر

وَعَامة الْمَنْقُول الثَّابِت عَن الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من هَذَا الْبَاب وَمَا قدر من هَذِه الْأُمُور ذَنبا محققا فَإِن ذَلِك لَا يقْدَح فِيمَا علم من فضائلهم وسوابقهم وكونهم من أهل الْجنَّة لِأَن الذَّنب الْمُحَقق يرْتَفع عِقَابه فِي الْآخِرَة بِأَسْبَاب مُتعَدِّدَة مِنْهَا التَّوْبَة الماحية وَقد ثَبت عَن أَئِمَّة الإمامية أَنهم تَابُوا من الذُّنُوب الْمَعْرُوفَة عَنْهُم

وَمِنْهَا الْحَسَنَات الماحية للذنوب فَإِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات وَقد قَالَ تَعَالَى (إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ) وَمِنْهَا المصائب المكفرة وَمِنْهَا دُعَاء الْمُؤمنِينَ بَعضهم لبَعض وشفاعة نَبِيّهم

فَمَا من ذَنْب يسْقط بِهِ الذَّم وَالْعِقَاب عَن أحد من الْأمة إِلَّا وَالصَّحَابَة أَحَق بذلك فهم أَحَق بِكُل مدح وَنفي كل ذمّ مِمَّن بعدهمْ من الْأمة

وَنحن نذْكر قَاعِدَة جَامِعَة فِي هَذَا الْبَاب لَهُم ولسائر الْأمة فَنَقُول

لَا بُد أَن يكون مَعَ الْإِنْسَان أصُول كُلية يرد إِلَيْهَا الجزئيات ليَتَكَلَّم بِعلم وَعدل ثمَّ يعرف الجزئيات كَيفَ وَقعت وَإِلَّا فَيبقى فِي كذب وَجَهل بالجزئيات وَجَهل وظلم فِي الكليات فيتولد فَسَاد عَظِيم

وَالنَّاس قد تكلمُوا فِي تصويب الْمُجْتَهدين وتخطئتهم وتأثيمهم وَعدم تأثيمهم فِي مسَائِل الْفُرُوع وَالْأُصُول

وَنحن نذْكر أصولا جَامِعَة نافعة

الأَصْل الأول أَنه هَل يُمكن كل أحد أَن يعرف بإجتهاده الْحق فِي كل مَسْأَلَة فِيهَا نزاع وَإِذا لم يُمكنهُ فاجتهد واستفرغ وَسعه فَلم يصل إِلَى الْحق بل قَالَ مَا اعْتقد أَنه هُوَ الْحق فِي نفس الْأَمر وَلم يكن هُوَ الْحق فِي نفس الْأَمر هَل يسْتَحق أَن يُعَاقب أم لَا هَذَا أصل هَذِه الْمسَائِل

وَلِلنَّاسِ فِي هَذَا الأَصْل ثَلَاثَة أَقْوَال كل قَول عَلَيْهِ طَائِفَة من النظار الأول قَول من يَقُول إِن الله قد نصب على الْحق فِي كل مَسْأَلَة دَلِيلا يعرف بِهِ يُمكن كل من اجْتهد واستفرغ وَسعه أَن يعرف الْحق وكل من لم يعرف

ص: 320

الْحق فِي مَسْأَلَة أصولية أَو فروعية فَإِنَّمَا هُوَ لتَفْرِيطه فِيمَا يجب عَلَيْهِ لَا لعَجزه

وَهَذَا القَوْل هُوَ الْمَشْهُور عَن الْقَدَرِيَّة والمعتزلة وَهُوَ قَول طَائِفَة من أهل الْكَلَام غير هَؤُلَاءِ وَالْقَوْل الثَّانِي فِي أصل الْمَسْأَلَة أَن الْمُجْتَهد الْمُسْتَدلّ قد يُمكنهُ أَن يعرف الْحق وَقد يعجز عَن ذَلِك

لَكِن إِن عجز عَن ذَلِك فقد يُعَاقِبهُ الله وَقد لَا يُعَاقِبهُ وَهَذَا قَول الْجَهْمِية والأشعرية وَكثير من الْفُقَهَاء أَتبَاع الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَالْقَوْل الثَّالِث فِي هَذَا الأَصْل أَنه لَيْسَ كل من اجْتهد وَاسْتدلَّ يتَمَكَّن من معرفَة الْحق وَلَا يسْتَحق الْوَعيد إِلَّا من ترك مَأْمُورا أَو فعل مَحْظُورًا

وَهَذَا قَول الْفُقَهَاء وَالْأَئِمَّة وَهُوَ القَوْل الْمَعْرُوف عَن سلف الْأمة وَقَول جُمْهُور الْمُسلمين

وَهَذَا القَوْل يجمع الصَّوَاب من الْقَوْلَيْنِ

الأَصْل الثَّانِي قَول من يَقُول إِن الله لَا يعذب فِي الْآخِرَة إِلَّا من عَصَاهُ بترك الْمَأْمُور أَو فعل الْمَحْظُور وَالْأَصْل الَّذِي عَلَيْهِ السّلف وَالْجُمْهُور أَن الله لَا يُكَلف نفسا إِلَّا وسعهَا فالوجوب مَشْرُوط بِالْقُدْرَةِ والعقوبة لَا تكون إِلَّا على ترك مَأْمُور أَو فعل مَحْظُور بعد قيام الْحجَّة

وَقد ذكرنَا فِي غير هَذَا الْموضع حكم النَّاس فِي الْوَعْد والوعيد وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب وَأَن فَاعل السَّيِّئَات تسْقط عَنهُ عُقُوبَة جَهَنَّم بِنَحْوِ عشرَة أَسبَاب فَإِذا كَانَ هَذَا الحكم فِي الْمُجْتَهدين وَهَذَا الحكم فِي المذنبين حكما عَاما فِي جَمِيع الْأمة فَكيف فِي أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَإِذا كَانَ الْمُتَأَخّرُونَ من الْمُجْتَهدين والمذنبين ينْدَفع عَنْهُم الذَّم وَالْعِقَاب بِمَا ذكر من الْأَسْبَاب فَكيف بالسابقين الْأَوَّلين من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار

وَنحن نبسط هَذَا وننبه بالأدنى على الْأَعْلَى فَنَقُول كَلَام الذام للخلفاء ولغيرهم من الصَّحَابَة من رَافِضِي وَغَيره هُوَ من بَاب الْكَلَام فِي الْأَعْرَاض وَفِيه حق لله تَعَالَى لما يتَعَلَّق بِهِ من الْولَايَة والعداوة وَالْحب والبغض وَفِيه حق للآدميين أَيْضا

وَمَعْلُوم أَنا إِذا تكلمنا فِيمَن هُوَ دون الصَّحَابَة مثل الْمُلُوك الْمُخْتَلِفين على الْملك وَالْعُلَمَاء والمشايخ الْمُخْتَلِفين

ص: 321

فِي الْعلم وَالدّين وَجب أَن يكون الْكَلَام بِعلم وَعدل وَلَا بِجَهْل وظلم

فَإِن الْعدْل وَاجِب لكل أحد على كل أحد فِي كل حَال وَالظُّلم محرم مُطلقًا لَا يُبَاح قطّ بِحَال قَالَ تَعَالَى (وَلَا يجرمنكم شنآن قوم على أَلا تعدلوا اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى)

فَإِذا كَانَ البغض الَّذِي أَمر الله بِهِ قد نهى صَاحبه أَن يظلم من يبغضه فَكيف فِي بغض مُسلم بِتَأْوِيل وشبهة أَو بهوى نفس فَهُوَ أَحَق أَن لَا يظلم بل يعدل عَلَيْهِ

وَأَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَحَق من عدل عَلَيْهِم فِي القَوْل وَالْعَمَل وَالْعدْل مِمَّا اتّفق أهل الأَرْض على مدحه ومحبته وَالثنَاء على أَهله ومحبتهم

وَالظُّلم مِمَّا اتّفق على ذمه وتقبيحه وذم أَهله وبغضهم وَالْمَقْصُود أَن الحكم بِالْعَدْلِ وَاجِب مُطلقًا فِي كل زمَان وَمَكَان على كل أحد وَلكُل أحد وَالْحكم بِمَا أنزل الله على مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم هُوَ عدل خَاص وَهُوَ أكمل أَنْوَاع الْعدْل وأحسنها وَالْحكم بِهِ وَاجِب على النَّبِي وكل من اتبعهُ وَمن لم يلْتَزم حكم الله وَرَسُوله فَهُوَ كَافِر وَهَذَا وَاجِب على الْأمة فِي كل مَا تنازعت فِيهِ من الْأُمُور الإعتقادية والعملية قَالَ تَعَالَى (فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول) فالأمور الْمُشْتَركَة بَين الْأمة لَا يحكم فِيهَا إِلَّا الْكتاب وَالسّنة لَيْسَ لأحد أَن يلْزم النَّاس بقول عَالم وَلَا أَمِير وَلَا شيخ وَلَا ملك وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْقُضَاة ثَلَاثَة قاضيان فِي النَّار وقاضيان فِي الْجنَّة

فَمن علم الْحق وَقضى بِهِ فَهُوَ فِي الْجنَّة وَمن علم الْحق وَقضى بِخِلَافِهِ فَهُوَ فِي النَّار وَمن قضى للنَّاس على جهل فَهُوَ فِي النَّار

وَإِذا حكم بِعلم وَعدل فَإِذا اجْتهد فَأصَاب فَلهُ أَجْرَانِ وَإِذا اجْتهد فَأَخْطَأَ فَلهُ أجر كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم من وَجْهَيْن

وَإِذا وَجب فِيمَا شجر بَين الْمُؤمنِينَ أَن لَا يتَكَلَّم إِلَّا بِعلم وَعدل وَيرد ذَلِك إِلَى الله وَالرَّسُول فَذَاك فِي أَمر الصَّحَابَة أظهر والرافضة سلكوا فِي الصَّحَابَة مَسْلَك التَّفَرُّق فوالوا بَعضهم وغلوا فِيهِ وعادوا بَعضهم وغلوا فِي معاداته وَهَذَا كُله من التَّفَرُّق والتشيع الَّذِي نهى الله عَنهُ وَرَسُوله فَقَالَ تَعَالَى (إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شَيْء) وَقَالَ تَعَالَى (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِين تفَرقُوا وَاخْتلفُوا من بعد

ص: 322

مَا جَاءَهُم الْبَينَات وَأُولَئِكَ لَهُم عَذَاب عَظِيم

يَوْم تبيض وُجُوه وَتسود وُجُوه فَأَما الَّذين اسودت وُجُوههم أكفرتم بعد إيمَانكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون

وَأما الَّذين ابْيَضَّتْ وُجُوههم فَفِي رَحْمَة الله هم فِيهَا خَالدُونَ) قَالَ ابْن عَبَّاس تبيض وُجُوه أهل السّنة وَتسود وُجُوه أهل الْبِدْعَة وَفِي صَحِيح مُسلم عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِن الله يرضى لكم ثَلَاثًا أَن تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وَأَن تعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا وَأَن تناصحوا من ولاه الله أُمُوركُم

وَالله تَعَالَى قد حرم ظلم الْمُسلمين أحيائهم وأمواتهم وَحرم دِمَاءَهُمْ واموالهم وأعراضهم

وَقد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ فِي حجَّة الْوَدَاع إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا فِي شهركم هَذَا فِي بلدكم هَذَا

أَلا هَل بلغت أَلا ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب فَرب مبلغ أوعى من سامع وَقد قَالَ تَعَالَى (وَالَّذين يُؤْذونَ الْمُؤمنِينَ وَالْمُؤْمِنَات بِغَيْر مَا اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مُبينًا) فَمن آذَى مُؤمنا حَيا أَو مَيتا بِغَيْر ذَنْب يُوجب ذَلِك فقد دخل فِي هَذِه الْآيَة

وَمن كَانَ مُجْتَهدا لَا إِثْم عَلَيْهِ فَإِذا آذاه مؤذ فقد آذاه بِغَيْر مَا اكْتسب

وَمن كَانَ مذنبا وَقد تَابَ من ذَنبه أَو غفر لَهُ بِسَبَب آخر بِحَيْثُ لم يبْق عَلَيْهِ عُقُوبَة فآذاه مؤذ فقد آذاه بِغَيْر مَا اكْتسب وَقد قَالَ تَعَالَى (وَلَا يغتب بَعْضكُم بَعْضًا) وَثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ الْغَيْبَة ذكرك أَخَاك بِمَا يكره

قيل أَرَأَيْت إِن كَانَ فِي أخي مَا أَقُول قَالَ إِن كَانَ فِيهِ مَا تَقول فقد إغتبته وَإِن لم يكن فِيهِ فقد بَهته

فَمن رمى أحدا بِمَا لَيْسَ فِيهِ فقد بَهته فَكيف إِذا كَانَ ذَلِك فِي الصَّحَابَة وَمن قَالَ عَن مُجْتَهد إِنَّه تعمد الظُّلم أَو تعمد مَعْصِيّة الله وَرَسُوله وَمُخَالفَة الْكتاب وَالسّنة وَلم يكن كَذَلِك فقد بَهته

وَإِذا كَانَ فِيهِ ذَلِك فقد إغتابه

لَكِن يُبَاح من ذَلِك مَا أَبَاحَهُ الله وَرَسُوله وَهُوَ مَا يكون على وَجه الْقصاص وَالْعدْل وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ لمصْلحَة الدّين ونصيحة الْمُسلمين

فَالْأول قَول المشتكي الْمَظْلُوم فلَان ضَرَبَنِي

ص: 323

وَأخذ مَالِي وَمَنَعَنِي وَنَحْو ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى (لَا يحب الله الْجَهْر بالسوء من القَوْل إِلَّا من ظلم) وَقد نزلت فِيمَن ضاف قوما فَلم يقروه لِأَن قرى الضَّيْف وَاجِب كَمَا دلّت عَلَيْهِ الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فَلَمَّا منعُوهُ حَقه كَانَ لَهُ ذكر ذَلِك وَأما الْحَاجة مثل إستفتاء هِنْد بنت عتبَة كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح أَنَّهَا قَالَت يَا رَسُول الله إِن أَبَا سُفْيَان رجل شحيح لَا يعطيني وَبنى مَا يَكْفِينِي بِالْمَعْرُوفِ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم خذي مَا يَكْفِيك وولدك بِالْمَعْرُوفِ أَخْرجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَائِشَة فَلم يُنكر عَلَيْهَا قَوْلهَا وَهُوَ من جنس قَول الْمَظْلُوم

وَأما النَّصِيحَة فَمثل قَوْله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس لما استشارته فِيمَن خطبهَا فَقَالَت خطبني أَبُو جهم وَمُعَاوِيَة فَقَالَ صلى الله عليه وسلم أما مُعَاوِيَة فصعلوك لَا مَال لَهُ وَأما أَبُو جهم فَلَا يضع عَصَاهُ عَن عَاتِقه وَفِي لفظ يضْرب النِّسَاء إنكحي أُسَامَة فَلَمَّا إستشارته فِيمَن تتَزَوَّج ذكر مَا تحْتَاج إِلَيْهِ

وَكَذَلِكَ من إستشار رجلا فِيمَن يعامله

والنصيحة مَأْمُور بهَا وَلَو لم يشاوره فقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح الدّين النَّصِيحَة الدّين النَّصِيحَة ثَلَاثًا

قَالُوا لمن يَا رَسُول الله قَالَ لله ولكتابه وَلِرَسُولِهِ ولأئمة الْمُسلمين وعامتهم

وَكَذَلِكَ بَيَان أهل الْعلم لمن غلط فِي رِوَايَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَو تعمد الْكَذِب عَلَيْهِ أَو على من ينْقل عَنهُ الْعلم

وَكَذَلِكَ بَيَان من غلط فِي رَأْي رَآهُ فِي أَمر الدّين من الْمسَائِل العلمية والعملية

فَهَذَا إِذا تكلم فِيهِ الْإِنْسَان بِعلم وَعدل وَقصد النَّصِيحَة فَالله تَعَالَى يثيبه على ذَلِك لَا سِيمَا إِذا كَانَ الْمُتَكَلّم فِيهِ دَاعيا إِلَى بِدعَة فَهَذَا يجب بَيَان أمره للنَّاس فَإِن دفع شَره عَنْهُم أعظم من دفع شَرّ قَاطع الطَّرِيق

وَحكم الْمُتَكَلّم بإجتهاده فِي الْعلم وَالدّين حكم أَمْثَاله من الْمُجْتَهدين

ثمَّ قد يكون مُجْتَهدا مخطئا أَو مصيبا وَقد يكون كل من الرجلَيْن الْمُخْتَلِفين بِاللِّسَانِ أَو الْيَد مُجْتَهدا يعْتَقد الصَّوَاب مَعَه وَقد يكونَانِ جَمِيعًا مخطئين مغفورا لَهما كَمَا ذكرنَا نَظِير ذَلِك مِمَّا كَانَ يجْرِي بَين الصَّحَابَة

وَلِهَذَا ينْهَى عَمَّا شجر بَين هَؤُلَاءِ سَوَاء كَانُوا من الصَّحَابَة أَو من

ص: 324

بعدهمْ فَإِذا تشاجر مسلمان فِي قَضِيَّة وَمَضَت وَلَا تعلق للنَّاس بهَا وَلَا يعْرفُونَ حَقِيقَتهَا كَانَ كَلَامهم فِيهَا كلَاما بِلَا علم وَلَا عدل يتَضَمَّن أذاهم بِغَيْر حق وَلَو عرفُوا أَنَّهُمَا مذنبان أَو مخطئان لَكَانَ ذكر ذَلِك من غير مصلحَة راجحة من بَاب الْغَيْبَة المذمومة

لَكِن الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ أعظم حُرْمَة وَأجل قدرا وأنزه أعراضا وَقد ثَبت من فضائلهم خُصُوصا وعموما مَا لم يثبت لغَيرهم فَلهَذَا كَانَ الْكَلَام الَّذِي فِيهِ ذمهم على مَا شجر بَينهم أعظم إِثْمًا من الْكَلَام فِي غَيرهم

فَإِن قيل فَأنْتم فِي هَذَا الْمقَام تسبون الرافضة وتذمونهم وتذكرون عيوبهم

قيل ذكر الْأَنْوَاع المذمومة غير ذكر الْأَشْخَاص الْمعينَة فَإِنَّهُ قد ثَبت عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لعن أَنْوَاع كَثِيرَة وَقَالَ الله تَعَالَى (أَن لعنة الله على الظَّالِمين الَّذين يصدون عَن سَبِيل الله ويبغونها عوجا) فالقرآن وَالسّنة مملوءان من ذمّ الْأَنْوَاع المذمومة وذم أَهلهَا ولعنهم تحذيرا من ذَلِك الْفِعْل وإخبارا بِمَا يلْحق أَهله من الْوَعيد

ثمَّ الْمعاصِي الَّتِي يعرف صَاحبهَا أَنه عَاص يَتُوب مِنْهَا والمبتدع الَّذِي يظنّ أَنه على حق كالخوارج والنواصب الَّذين نصبوا الْعَدَاوَة وَالْحَرب لجَماعَة الْمُسلمين ابتدعوا بِدعَة وَكَفرُوا من لم يوافقهم عَلَيْهَا فَصَارَ بذلك ضررهم على الْمُسلمين أعظم من ضَرَر الظلمَة الَّذين يعلمُونَ أَن الظُّلم محرم والرافضة أَشد بِدعَة من الْخَوَارِج وهم يكفرون من لم تكن الْخَوَارِج تكفره كَأبي بكر وَعمر ويكذبون على النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَة كذبا مَا كذب أحد مثله والخوارج لَا يكذبُون لَكِن الْخَوَارِج كَانُوا أصدق وَأَشْجَع وأوفى بالعهد مِنْهُم فَكَانُوا أَكثر قتالا مِنْهُم وَهَؤُلَاء أكذب وأجبن وأعذر وأذل وهم يستعينون بالكفار على الْمُسلمين كَمَا جرى لجنكز خَان ملك التّرْك الْكفَّار فَإِن الرافضة أعانته على الْمُسلمين وَأما إعانتهم لهولاكو ابْن ابْنه لما جَاءَ إِلَى خُرَاسَان وَالْعراق وَالشَّام فَهَذَا أظهر وَأشهر من أَن يخفى على أحد فَكَانُوا بالعراق وخراسان من أعظم أنصار

ص: 325

بَاطِنا وظاهرا وَكَانَ وَزِير الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد الَّذِي يُقَال لَهُ ابْن العلقمي مِنْهُم فَلم يزل

ص: 326

يمكر بالخليفة وَالْمُسْلِمين وَيسْعَى فِي قطع أرزاق عَسْكَر الْمُسلمين وضعفتهم وَينْهى الْعَامَّة عَن قِتَالهمْ ويكيد أنواعا من الكيد حَتَّى دخلُوا فَقتلُوا من الْمُسلمين مَا يُقَال إِنَّه بضعَة عشر ألف ألف إِنْسَان أَو أَكثر أَو أقل وَلم ير فِي الْإِسْلَام مثل ملحمة التّرْك الْكفَّار

ص: 327

المسمين بالتتر وَقتلُوا الهاشميين وَسبوا نِسَاءَهُمْ من العباسيين وَغير العباسيين

فَهَل يكون مواليا لآل الرَّسُول صلى الله عليه وسلم من يُسَلط الْكفَّار على قَتلهمْ وَسَبْيهمْ وعَلى سَائِر الْمُسلمين وهم يكذبُون على الْحجَّاج وَغَيره أَنه قتل الْأَشْرَاف وَلم يقتل الْحجَّاج هاشميا قطّ مَعَ ظلمه وغشمه فَإِن عبد الْملك نَهَاهُ عَن ذَلِك وَإِنَّمَا قتل نَاسا من أَشْرَاف الْعَرَب غير بني هَاشم وَقد تزوج هاشمية وَهِي بنت عبد الله بن جَعْفَر فَمَا مكنه بَنو أُميَّة من ذَلِك وَفرقُوا بَينه وَبَينهَا وَقَالُوا لَيْسَ الْحجَّاج كفئا لشريفة هاشمية

والرافضة فيهم من هُوَ متعبد متورع زاهد لَكِن لَيْسُوا فِي ذَلِك مثل غَيرهم من أهل الْأَهْوَاء فالمعتزلة أَعقل مِنْهُم وَأعلم وأدين وَالْكذب والفجور فيهم أقل مِنْهُ فِي الرافضة

والزيدية من الشِّيعَة خير مِنْهُم وَأقرب إِلَى الصدْق وَالْعدْل وَالْعلم

وَلَيْسَ فِي أهل الْأَهْوَاء أصدق وَلَا أعبد من الْخَوَارِج وَمَعَ هَذَا فَأهل السّنة يستعملون مَعَهم الْعدْل والإنصاف وَلَا يظلمونهم فَإِن الظُّلم حرَام مُطلقًا كَمَا تقدم

بل أهل السّنة لكل طَائِفَة من هَؤُلَاءِ خير من بَعضهم لبَعض بل هم للرافضة خير وَأَعْدل من بعض الرافضة لبَعض

وَهَذَا مِمَّا يعترفون هم بِهِ وَيَقُولُونَ أَنْتُم تنصفوننا مَا لَا ينصف بَعْضنَا بَعْضًا

وَهَذَا لِأَن الأَصْل الَّذِي اشْتَركُوا فِيهِ أصل فَاسد مَبْنِيّ على جهل وظلم

وهم مشتركون فِي ظلم سَائِر الْمُسلمين فصاروا بِمَنْزِلَة قطاع الطَّرِيق المشتركين فِي ظلم النَّاس

وَلَا ريب أَن الْمُسلم الْعَالم الْعَادِل أعدل عَلَيْهِم وعَلى بَعضهم من بعض

والخوارج تكفر أهل الْجَمَاعَة وَكَذَلِكَ أَكثر الْمُعْتَزلَة يكفرون من خالفهم وَكَذَلِكَ أَكثر الرافضة

وَمن لم يكفر فسق وَكَذَلِكَ أَكثر أهل الْأَهْوَاء يبتدعون رَأيا ويكفرون من خالفهم فِيهِ

وَأهل السّنة يتبعُون الْحق من رَبهم الَّذِي جَاءَ بِهِ الرَّسُول وَلَا يكفرون من خالفهم فِيهِ بل هم أعلم بِالْحَقِّ وأرحم بالخلق كَمَا وصف الله بِهِ الْمُسلمين بقوله (كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس) قَالَ أَبُو هُرَيْرَة كُنْتُم خير النَّاس للنَّاس

وَأهل السّنة نقاوة الْمُسلمين

ص: 328

فهم خير النَّاس للنَّاس

وَقد علم أَنه كَانَ بساحل الشَّام جبل كَبِير فِيهِ أُلُوف من الرافضة يسفكون دِمَاء النَّاس وَيَأْخُذُونَ أَمْوَالهم

وَلما انْكَسَرَ الْمُسلمُونَ سنة غازان أخذُوا الْخَيل وَالسِّلَاح

ص: 329

وَالْأسَارَى وباعوهم للْكفَّار وَالنَّصَارَى بقبرص وَأخذُوا من مر بهم من الْجند وَكَانُوا أضرّ

ص: 330

على الْمُسلمين من جَمِيع الْأَعْدَاء وَحمل بعض أمرائهم راية النَّصَارَى وَقَالُوا لَهُ أَيّمَا خير

ص: 331

الْمُسلمُونَ أَو النَّصَارَى فَقَالَ بل النَّصَارَى

فَقَالُوا لَهُ مَعَ من تحْشر يَوْم الْقِيَامَة فَقَالَ مَعَ النَّصَارَى

وسلموا إِلَيْهِم بعض بِلَاد الْمُسلمين

وَمَعَ هَذَا فَلَمَّا إستشار بعض وُلَاة الْأَمر فِي غزوهم وكتبت جَوَابا مَبْسُوطا فِي غزوهم وذهبنا إِلَى ناحيتهم وَحضر عِنْدِي جمَاعَة مِنْهُم وَجَرت بيني وَبينهمْ مناظرات ومفاوضات يطول وصفهَا فَلَمَّا فتح الْمُسلمُونَ بلدهم وَتمكن الْمُسلمُونَ مِنْهُم نهيتهم عَن قَتلهمْ وَعَن سَبْيهمْ وأنزلناهم فِي بِلَاد الْمُسلمين مُتَفَرّقين لِئَلَّا يجتمعوا

فَمَا أذكرهُ فِي هَذَا الْكتاب فِي ذمّ الرافضة وَبَيَان كذبهمْ وجهلهم قَلِيل من كثير مِمَّا أعرفهُ مِنْهُم وَلَهُم شَرّ كثير لَا أعرف تَفْصِيله

ومصنف هَذَا الْكتاب وَأَمْثَاله من الرافضة إِنَّمَا نقابلهم بِبَعْض مَا فَعَلُوهُ بِأمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم سلفها وَخَلفهَا فَإِنَّهُم عَمدُوا إِلَى خِيَار أهل الأَرْض من الْأَوَّلين والآخرين بعد النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ وَإِلَى خير أمة أخرجت للنَّاس فافتروا عَلَيْهِم العظائم وَجعلُوا حسناتهم سيئات وَجَاءُوا إِلَى شَرّ من انتسب إِلَى الْإِسْلَام من أهل الْأَهْوَاء وهم الرافضة بأصنافها غاليها وإماميها وزيديها وَالله يعلم وَكفى بِاللَّه عليما لَيْسَ فِي جَمِيع الطوائف المنتسبة إِلَى الْإِسْلَام مَعَ بِدعَة وضلالة شَرّ مِنْهُم لَا أَجْهَل وَلَا أكذب وَلَا أظلم وَلَا أقرب إِلَى الْكفْر والفسوق والعصيان وَأبْعد عَن حقائق الْإِيمَان مِنْهُم فزعموا أَن هَؤُلَاءِ هم صفوة

ص: 332

الله من عباده فَإِن مَا سوى أمة مُحَمَّد كفار وَهَؤُلَاء كفرُوا الْأمة كلهَا أَو ضللوها سوى طائفتهم الَّتِي يَزْعمُونَ أَنَّهَا الطَّائِفَة المحقة وَأَنَّهَا لَا تَجْتَمِع على ضَلَالَة فجعلوهم صفوة بني آدم فَكَانَ مثلهم كمن جَاءَ إِلَى غنم كَثِيرَة فَقيل لَهُ أعطنا خير هَذِه الْغنم لنضحي بهَا فَعمد إِلَى شَرّ تِلْكَ الْغنم إِلَى شَاة عوراء عجفاء عرجاء مَهْزُولَة لَا نقى لَهَا فَقل هَذِه خِيَار هَذِه الْغنم لَا تجوز الْأُضْحِية إِلَّا بهَا وَسَائِر هَذِه الْغنم لَيست غنما وَإِنَّمَا هِيَ خنازير يجب قَتلهَا وَلَا تجوز الْأُضْحِية بهَا

وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ من حمى مُؤمنا من مُنَافِق حمى الله لَحْمه من نَار جَهَنَّم يَوْم الْقِيَامَة

وَهَؤُلَاء الرافضة إِمَّا مُنَافِق وَإِمَّا جَاهِل فَلَا يكون رَافِضِي وَلَا جهمي إِلَّا منافقا أَو جَاهِلا بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لَا يكون فيهم أحد عَالما بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم مَعَ الْإِيمَان بِهِ فَإِن مخالفتهم لما جَاءَ بِهِ الرَّسُول وكذبهم عَلَيْهِ لَا يخفى قطّ إِلَّا على مفرط فِي الْجَهْل والهوى

وشيوخهم المصنفون فيهم طوائف يعلمُونَ أَن كثيرا مِمَّا يَقُولُونَهُ كذب وَلَكِن يصنفون لَهُم رياستهم عَلَيْهِم

وَهَذَا المُصَنّف يتهمه النَّاس بِهَذَا وَلَكِن صنف لأجل أَتْبَاعه

فَإِن كَانَ أحدهم يعلم أَن مَا يَقُوله بَاطِل ويظهره وَيَقُول إِنَّه حق من عِنْد الله فَهُوَ من جنس عُلَمَاء الْيَهُود الَّذين (يَكْتُبُونَ الْكتاب بِأَيْدِيهِم ثمَّ يَقُولُونَ هَذَا من عِنْد الله ليشتروا بِهِ ثمنا قَلِيلا فويل لَهُم مِمَّا كتبت أَيْديهم وويل لَهُم مِمَّا يَكْسِبُونَ)

وَإِن كَانَ يعْتَقد أَنه حق دلّ ذَلِك على نِهَايَة جَهله وضلاله

وَلما قَالَ السّلف إِن الله أَمر بالإستغفار لأَصْحَاب مُحَمَّد فسبهم الرافضة كَانَ هَذَا كلَاما حَقًا

وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح لَا تسبوا أَصْحَابِي يَقْتَضِي تَحْرِيم سبهم

مَعَ أَن الْأَمر بالإستغفار للْمُؤْمِنين وَالنَّهْي عَن سبهم عَام فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن

ص: 333

مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ سباب الْمُسلم فسوق وقتاله كفر وَقد قَالَ تَعَالَى (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا يسخر قوم من قوم عَسى أَن يَكُونُوا خيرا مِنْهُم وَلَا نسَاء من نسَاء عَسى أَن يكن خيرا مِنْهُنَّ وَلَا تلمزوا أَنفسكُم وَلَا تنابزوا بِالْأَلْقَابِ بئس الِاسْم الفسوق بعد الْإِيمَان

وَمن لم يتب فَأُولَئِك هم الظَّالِمُونَ)

فقد نهى عَن السخرية واللمز والتنابز بِالْأَلْقَابِ واللمز الْعَيْب والطعن وَمِنْه قَوْله تَعَالَى (وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات) أَي يعيبك ويطعن عَلَيْك وَقَالَ تَعَالَى (ويل لكل همزَة لُمزَة) وَإِذا قَالَ الْمُسلم (رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذين سبقُونَا بِالْإِيمَان) يقْصد كل من سبقه من قُرُون الْأمة بِالْإِيمَان وَإِن كَانَ قد أَخطَأ فِي تَأْوِيل تَأَوَّلَه فَخَالف السّنة أَو أذْنب ذَنبا فَإِنَّهُ من إخوانه الَّذين سَبَقُوهُ بِالْإِيمَان فَيدْخل فِي الْعُمُوم وَإِن كَانَ من الثِّنْتَيْنِ وَالسبْعين فرقة

فَإِنَّهُ مَا من فرقة إِلَّا وفيهَا خلق كثير لَيْسُوا كفَّارًا بل مُؤمنين فيهم ضلال وذنب يسْتَحقُّونَ بِهِ الْوَعيد كَمَا يسْتَحقّهُ عصاة الْمُؤمنِينَ

وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم لم يخرجهم من الْإِسْلَام بل جعلهم من أمته وَلم يقل أَنهم يخلدُونَ فِي النَّار

فَهَذَا أصل عَظِيم يَنْبَغِي مراعاته فَإِن كثيرا من المنتسبين إِلَى السّنة فيهم بِدعَة من جنس بدع الرافضة والخوارج

وَأَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَليّ بن أبي طَالب وَغَيره لم يكفروا الْخَوَارِج الَّذين قاتلوهم بل أول مَا خَرجُوا عَلَيْهِ وتحيزوا بحروراء وَخَرجُوا

ص: 334

عَن الطَّاعَة وَالْجَمَاعَة قَالَ لَهُم عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه إِن لكم علينا أَن لَا نمنعكم من مَسَاجِدنَا وَلَا حقكم من الْفَيْء

ثمَّ أرسل إِلَيْهِم ابْن عَبَّاس فناظرهم فَرجع نَحْو نصفهم ثمَّ قَاتل الْبَاقِي وغلبهم وَمَعَ هَذَا لم يسب لَهُم ذُرِّيَّة وَلَا غنم لَهُم مَالا وَلَا سَار فيهم سيرة الصَّحَابَة فِي الْمُرْتَدين كمسيلمة وَأَمْثَاله وَعَن قيس بن مُسلم عَن طَارق بن شهَاب قَالَ كنت عِنْد عَليّ حِين فرغ من قتال أهل النهروان فَقيل لَهُ أمشركون هم قَالَ من الشّرك فروا

فَقيل أمنافقون قَالَ المُنَافِقُونَ لَا يذكرُونَ الله إِلَّا قَلِيلا

قيل فَمَا هم قَالَ قوم بغوا علينا فقاتلناهم فقد صرح عَليّ رضي الله عنه بِأَنَّهُم مُؤمنُونَ لَيْسُوا كفَّارًا وَلَا منافقين وَهَذَا بِخِلَاف مَا كَانَ يَقُوله بعض النَّاس كَأبي إِسْحَاق الإسفرايني وَمن اتبعهُ يَقُولُونَ لَا نكفر إِلَّا من يكفرنا

فَإِن الْكفْر لَيْسَ حَقًا لَهُم بل هُوَ حق لله وَلَيْسَ للْإنْسَان أَن يكذب على من يكذب عَلَيْهِ وَلَا أَن يفعل الْفَاحِشَة بِأَهْل من فعل الْفَاحِشَة بأَهْله لِأَن هَذَا حرَام لحق الله وَلَو سبّ النَّصَارَى نَبينَا لم يكن لنا أَن نسب الْمَسِيح

والرافضة إِذا كفرُوا أَبَا بكر وَعمر فَلَيْسَ لنا أَن نكفر عليا

روى سُفْيَان عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه الباقر قَالَ سمع على يَوْم الْجمل أَو يَوْم صفّين رجلا يغلو فِي القَوْل فَقَالَ لَا تَقولُوا إِلَّا خيرا إِنَّمَا هم قوم زَعَمُوا أَنا بغينا عَلَيْهِم وزعمنا أَنهم بغوا علينا فقاتلناهم وَعَن مَكْحُول أَن أَصْحَاب عَليّ سَأَلُوهُ عَمَّن قتل من أَصْحَاب مُعَاوِيَة مَا هم قَالَ هم الْمُؤْمِنُونَ وَعَن عبد الْوَاحِد بن أبي عون قَالَ مر عَليّ وَهُوَ متكيء على الأشتر على قَتْلَى صفّين فَإِذا حَابِس الْيَمَانِيّ مقتول فَقَالَ الأشتر إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون هَذَا حَابِس الْيَمَانِيّ مَعَهم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ عَلَيْهِ عَلامَة مُعَاوِيَة أما وَالله لقد عهدته

ص: 335

مُؤمنا

قَالَ عَليّ والآن هُوَ مُؤمن

قَالَ رووا عَن أبي بكر أَنه قَالَ على الْمِنْبَر أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ يعتصم بِالْوَحْي وَإِن لي شَيْطَانا يَعْتَرِينِي فَإِن اسْتَقَمْت فإعينوني وَإِن زِغْت فقوموني

فَكيف تجوز إِمَامَة من يَسْتَعِين بالرعية على تقويمه

قُلْنَا هَذَا من أكبر فضائله وأدلها على أَنه لم يكن طَالب رياسة وَلَا كَانَ ظَالِما فَقَالَ إِن اسْتَقَمْت على الطَّاعَة فَأَعِينُونِي عَلَيْهَا وَإِن زِغْت عَنْهَا فقوموني

كَمَا قَالَ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْت الله

فالشيطان الَّذِي يَعْتَرِيه يعتري غَيره فَإِنَّهُ مَا من أحد إِلَّا وَقد وكل بِهِ قرينه من الْجِنّ وقرينه من الْمَلَائِكَة والشيطان يجْرِي من ابْن آدم مجْرى الدَّم

فمقصوده بذلك أَنِّي لست مَعْصُوما وَصدق رضي الله عنه وَالْإِمَام لَيْسَ رَبًّا لرعيته حَتَّى يسْتَغْنى عَنْهُم بل يتعاونون على الْبر وَالتَّقوى كإمام الصَّلَاة إِن استقام تبعوه وَإِن سَهَا سبحوا بِهِ وقوموه

ثمَّ يُقَال إستعانة عَليّ برعيته وَحَاجته إِلَيْهِم كَانَت أَكثر من إستعانة أبي بكر وَكَانَ تَقْوِيم أبي بكر لرعيته وطاعتهم لَهُ

ص: 336

أعظم من تَقْوِيم عَليّ لرعيته وطاعتهم لَهُ

فَإِن أَبَا بكر كَانَ إِذا نازعوه أَقَامَ عَلَيْهِم الْحجَّة حَتَّى يرجِعوا إِلَيْهِ كَمَا أَقَامَ الْحجَّة على عمر فِي قتال مانعي الزَّكَاة وَغير ذَلِك وَكَانُوا إِذا أَمرهم أطاعوه وَعلي رضي الله عنه لما ذكر قَوْله فِي أُمَّهَات الْأَوْلَاد وَأَنه اتّفق رَأْيه ورأي عمر على أَن لَا يبعن ثمَّ رأى أَن يبعن قَالَ لَهُ قاضيه عُبَيْدَة السَّلمَانِي رَأْيك مَعَ عمر فِي الْجَمَاعَة أحب إِلَيْنَا من رَأْيك وَحده فِي الْفرْقَة

وَكَانَ عَليّ يَقُول اقضوا كَمَا كُنْتُم تقضون فَإِنِّي أكره الْخلاف جتى يكون النَّاس جمَاعَة أَو أَمُوت كَمَا مَاتَ أَصْحَابِي وَكَانَت رَعيته كَثِيرَة الْمُخَالفَة لَهُ ويشيرون عَلَيْهِ فيخالفهم ثمَّ يتَبَيَّن لَهُ أَن الصَّوَاب قَوْلهم

وَكَانَ الْحسن أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَن لَا يخرج من الْمَدِينَة وَأَن لَا يعْزل مُعَاوِيَة

وَلَا يشك عَاقل أَن السياسة انتظمت لأبي بكر وَعمر مَا لم تنتظم لعَلي رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ

قَالَ وَقَالَ أقيلوني فلست بِخَيْرِكُمْ وَعلي فِيكُم

فَإِن كَانَت إِمَامَته حَقًا فإستقالته مَعْصِيّة وَإِن كَانَت بَاطِلَة لزم الطعْن

قُلْنَا هَذَا كذب وَلَا لَهُ إِسْنَاد

بل ثَبت عَنهُ أَنه قَالَ يَوْم السَّقِيفَة بَايعُوا أحد هذَيْن الرجلَيْن أَبَا عُبَيْدَة أَو عمر بن الْخطاب

فَقَالَ لَهُ عمر بل أَنْت سيدنَا وخيرنا وأحبنا إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

ثمَّ يُقَال فَهَلا اسْتخْلف عليا عِنْد الْمَوْت

وَللْإِمَام أَن يقتال لطلب الرَّاحَة من أعباء الإمرة

وتواضع الْمَرْء لَا يسْقط رتبته

ص: 337

قَالَ وَقَالَ عمر كَانَت بيعَة أبي بكر فلته وقى الله شَرها فَمن عَاد إِلَى مثلهَا فَاقْتُلُوهُ

قُلْنَا هَذَا القَوْل الْأَخير إفتراء وَكذب وَإِنَّمَا قَالَ وَلَيْسَ فِيكُم من تقطع إِلَيْهِ الْأَعْنَاق مثل أبي بكر

وَمَعْنَاهُ أَن بيعَة الصّديق بودر إِلَيْهَا من غير إنتظار وتريث لكَونه كَانَ مُتَعَيّنا

قَالَ وَقَالَ أَبُو بكر لَيْتَني كنت سَأَلت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هَل للْأَنْصَار فِي هَذَا الْأَمر حق قُلْنَا هَذَا كذب

ثمَّ نقُول هَذَا يقْدَح فِيمَا تَدعُونَهُ من النَّص على عَليّ إِذْ لَو كَانَ نَص صلى الله عليه وسلم على عَليّ لبطل حق الْأَنْصَار وَغَيرهم

قَالَ وَقَالَ عِنْد إحتضاره لَيْت أُمِّي لم تلدني يَا لَيْتَني كنت تبنة فِي لبنة

مَعَ أَنهم رووا أَنه مَا من محتضر إِلَّا وَيرى مَقْعَده من الْجنَّة وَالنَّار

قُلْنَا وَهَذَا عَنهُ بَاطِل بل قَالَ لما إحتضر وتمثلت عَائِشَة بقول الشَّاعِر

(لعمرك مَا يُغني الثراء عَن الْفَتى

إِذا حشرجت يَوْمًا وضاق بهَا الصَّدْر)

فكشف عَن وَجهه فَقَالَ لَيْسَ كَذَلِك وَلَكِن قولي (وَجَاءَت سكرة الْمَوْت بِالْحَقِّ ذَلِك مَا كنت مِنْهُ تحيد)

وَأما قَول لَيْت أُمِّي لم تلدني فَنقل عَنهُ أَنه قَالَه فِي صِحَّته وَمثل هَذَا نقل عَن جمَاعَة من السّلف قَالُوهُ خوفًا وهيبة وفرقا من الله وروى الإِمَام أَحْمد عَن أبي ذَر أَنه قَالَ وَالله لَوَدِدْت أَنِّي شَجَرَة تعضد وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود لَو وقفت بَين الْجنَّة وَالنَّار فَقيل لي أختر فِي أَيهمَا تكون أَو تكون رَمَادا لأخترت أَن أكون رَمَادا

ص: 338

قلت وَقد جَاءَ عَن عَليّ إِلَى الله أَشْكُو عجرى وبجري

قَالَ وَقَالَ لَيْتَني يَوْم بني سَاعِدَة ضربت بيَدي على يَد أحد الرجلَيْن فَكَانَ الْأَمِير وَكنت الْوَزير

قُلْنَا قَائِل هَذَا يَقُوله هضما لنَفسِهِ وتواضعا وخوفا من الله فَلَو كَانَ عِنْده نَص من الرَّسُول بعلي لَكَانَ فِي حَال خَوفه وإنابته ينقس بعلي وَلما ذكر الرجلَيْن إِذْ توليتهما مَعَ علمه بِالنَّصِّ على عَليّ كَمَا تَزْعُمُونَ إِضَاعَة للْإِمَامَة مِنْهُ وَكَانَ يكون وزيرا لظَالِم غَيره وَيبِيع آخرته بدنيا غَيره وَلَا يفعل هَذَا من يخَاف الله وينيب إِلَيْهِ

قَالَ وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي مرض مَوته مَرَّات أنفذوا جَيش أُسَامَة لعن الله المتخلف عَن جَيش أُسَامَة وَكَانَت الثَّلَاثَة مَعَه وَمنع أَبُو بكر عمر من ذَلِك

قيل هَذَا كذب عِنْد كل عَارِف بالسيرة فَكيف يُرْسل أَبَا بكر فِي جَيش أُسَامَة وَقد إستخلفه على الصَّلَاة فصلى بهم إثني عشر يَوْمًا بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر وَقد كشف الستارة يَوْم الْإِثْنَيْنِ وَقت الصُّبْح وهم يصلونَ خلف أبي بكر وَوَجهه كَأَنَّهُ ورقة مصحف وسر بذلك لما رَآهُمْ بِالصَّلَاةِ فَكيف يتَصَوَّر أَن يَأْمُرهُ بِالْخرُوجِ وَهُوَ يَأْمُرهُ بِالصَّلَاةِ بِالنَّاسِ

وَإِنَّمَا أنفذ جَيش أُسَامَة بعد موت الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أَبُو بكر غير أَنه استأذنه فِي أَن يَأْذَن لعمر بن الْخطاب فِي الْإِقَامَة لِأَنَّهُ ذُو رَأْي نَاصح لِلْإِسْلَامِ فَأذن لَهُ

وَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعضهم بترك الْغُزَاة فَإِنَّهُم خَافُوا أَن يطْمع النَّاس فِي الْجَيْش بِمَوْت النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَامْتنعَ أَبُو بكر وَقَالَ لَا أحل لِوَاء عقده النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ص: 339

قَالَ وَلم يول النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَبَا بكر عملا قطّ بل ولي عَلَيْهِ عَمْرو بن الْعَاصِ مرّة وَأُسَامَة أُخْرَى

وَلما أنفذه بِسُورَة بَرَاءَة رده بِوَحْي من الله

قُلْنَا هَذَا من أبين الْكَذِب

فَمن الْمَعْلُوم قطعا أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم اسْتعْمل أَبَا بكر على الْحَج عَام تسع فَكَانَ هَذَا من خَصَائِصه كَمَا أَن إستخلافه على الصَّلَاة من خَصَائِصه وَكَانَ عَليّ من رَعيته فِي الْحَج الْمَذْكُور فَإِنَّهُ لحقه فَقَالَ أَمِير أَو مَأْمُور قَالَ عَليّ بل مَأْمُور

وَكَانَ عَليّ يُصَلِّي خلف أبي بكر مَعَ سَائِر الْمُسلمين فِي هَذِه الْحجَّة بل خص بتبليغ سُورَة بَرَاءَة

وَأما قصَّة عَمْرو بن الْعَاصِ فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أرْسلهُ فِي سَرِيَّة وَهِي غَزْوَة ذَات السلَاسِل وَكَانَت إِلَى بني عذرة أخوال عَمْرو فَأمره رَجَاء أَن يطيعوه ويسلموا ثمَّ أردفه بِأبي عُبَيْدَة وَمَعَهُ أَبُو بكر وَعمر وَقَالَ لأبي عُبَيْدَة تطاوعا وَلَا تختلفا ثمَّ كَانُوا يصلونَ خلف عَمْرو مَعَ علم كل أحد أَن هَؤُلَاءِ خير من عَمْرو وتولية الْمَفْضُول لمصْلحَة تجوز كَمَا أَمر صلى الله عليه وسلم أُسَامَة ليَأْخُذ بثأر أَبِيه

ص: 340

قَالَ وَقطع سَارِقا وَلم يعلم أَن الْقطع لليد الْيُمْنَى

قُلْنَا من اظهر الْكَذِب أَن يجهل هَذَا أَبُو بكر

ثمَّ لَو قدر أَن أَبَا بكر كَانَ يُجِيز ذَلِك لَكَانَ سائغا لِأَن الْقُرْآن لَيْسَ فِي ظَاهره مَا يعين الْيَمين لَكِن تعْيين الْيَمين فِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود فَاقْطَعُوا أيمانهما وَبِذَلِك مَضَت السّنة وَلَكِن أَيْن النَّقْل بذلك عَن أبي بكر رضي الله عنه أَنه قطع الْيُسْرَى وَأَيْنَ الْإِسْنَاد الثَّابِت بذلك وَهَذِه كتب أهل الْعلم بالآثار مَوْجُودَة فَلَيْسَ فِيهَا ذَلِك وَلَا نقل أهل الْعلم بالإختلاف ذَلِك قولا مَعَ تعظيمهم لأبي بكر رضي الله عنه

قَالَ وأحرق الْفُجَاءَة السّلمِيّ بالنَّار مَعَ النَّهْي عَن ذَلِك

قُلْنَا إحراق عَليّ الزَّنَادِقَة بالنَّار أشهر فقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن عليا أُتِي بِقوم زنادقة فحرقهم فَبلغ ذَلِك ابْن عَبَّاس فَقَالَ لَو كنت أَنا لم أحرقهم لنهى النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن يعذب بِعَذَاب الله ولضربت أَعْنَاقهم لقَوْل النَّبِي صلى الله عليه وسلم من بدل دينه فَاقْتُلُوهُ

قَالَ وخفي عَلَيْهِ أَكثر أَحْكَام الشَّرِيعَة فَلم يعرف حكم الْكَلَالَة وَقَالَ أَقُول فِيهَا برأيي فَإِن كَانَ صَوَابا فَمن الله وَإِن كَانَ خطأ فمنى وَمن الشَّيْطَان

وَقضى فِي الْجد بسبعين قَضِيَّة وَهَذَا يدل على قصوره

قُلْنَا هَذَا بهتان عَظِيم كَيفَ يخفي عَلَيْهِ أَكثر الْأَحْكَام وَلم يكن من يقْضِي ويفتي بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَّا هُوَ وَلم يكن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَكثر مُشَاورَة لأحد مِنْهُ لَهُ ولعمر وَقد تقدم النَّقْل عَن مَنْصُور بن عبد الْجَبَّار السَّمْعَانِيّ وَذكر عَن غير وَاحِد الْإِجْمَاع على أَنه أعلم الْأمة وَهَذَا بَين فَإِن الْأمة لم تخْتَلف فِي ولَايَته فِي مَسْأَلَة إِلَّا فصلها بِعلم يُبينهُ لَهُم من الْكتاب وَالسّنة كَمَا بَين لَهُم موت النَّبِي

ص: 341

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَوْضِع دَفنه وثبتهم على الْإِيمَان وَقَرَأَ عَلَيْهِم الْآيَة وَبَين لَهُم قتال مانعي الزَّكَاة وَأَن الْخلَافَة فِي قُرَيْش

وَلَوْلَا علمه بالمناسك وَالصَّلَاة لما اسْتَعْملهُ عَلَيْهِمَا الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَعلم الْمَنَاسِك أدق مَا فِي الْعِبَادَات وَلم يسْتَخْلف غَيره لَا فِي حج وَلَا فِي صَلَاة وَكتابه فِي الصَّدَقَة أَخذه أنس من أبي بكر وَهُوَ أصح مَا روى فِيهَا وَعَلِيهِ اعْتمد الْفُقَهَاء وَفِي الْجُمْلَة لَا تعرف مَسْأَلَة من الشَّرِيعَة غلط فِيهَا بِخِلَاف غَيره

وَأما قَوْله لم يعرف حكم الْكَلَالَة فَيُقَال هَذَا من أعظم علمه فَإِن الرَّأْي الَّذِي رَآهُ عَلَيْهِ جَمَاهِير الْعلمَاء وَأخذُوا بقوله وَهُوَ أَنه من لَا ولد لَهُ وَلَا وَالِد

وَأما الْجد فَإِنَّمَا هَذَا قَضَاء عمر وَأما أَبُو بكر فَإِنَّهُ لم يخْتَلف قَوْله أَن جعله أَبَا وَهُوَ قَول بضعَة عشر صحابيا وَمذهب أبي حنيفَة وَبَعض الشَّافِعِيَّة والحنابلة وَهُوَ الْأَظْهر فِي الدَّلِيل وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد بقول زيد بن ثَابت

وَأما قَول عَليّ فِي الْجد فَلم يذهب إِلَيْهِ الْأَئِمَّة

فَلَمَّا أجمع الْمُسلمُونَ على أَن الْجد الْأَعْلَى أولى من الْأَعْمَام كَانَ الْجد الْأَدْنَى أولى من الْإِخْوَة

ثمَّ الْقَائِلُونَ بمشاركة الْإِخْوَة للْجدّ لَهُم أَقْوَال متناقضة

قَالَ فَأَي نِسْبَة لَهُ بِمن قَالَ سلوني قبل أَن تفقدوني سلوني عَن طرق السَّمَاء فَإِنِّي أعرف بهَا من طرق الأَرْض

قُلْنَا إِنَّمَا قَالَ عَليّ سلوني لأهل الْكُوفَة ليعلمهم الدّين فَإِن غالبهم كَانُوا جهلة

وَأما أَبُو بكر فَكَانَ الَّذين حول منبره أكَابِر الصَّحَابَة فَكَانَت رَعيته أعلم الْأمة وأدينها

وَأما الدّين كَانَ عَليّ يخاطبهم فهم من جملَة عوام النَّاس التَّابِعين وَكَانَ كثير مِنْهُم من شرار التَّابِعين وَلِهَذَا كَانَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ

ص: 342

يذمهم وَيَدْعُو عَلَيْهِم

وَكَانَ التابعون بِمَكَّة وَالْمَدينَة وَالشَّام وَالْبَصْرَة خيرا مِنْهُم وَقد جمعت الْفَتَاوَى المنقولة عَن الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة فوجدوا أصوبها وأدلها على علم صَاحبهَا أُمُور أبي بكر ثمَّ عمر والأمور الَّتِي وجد نَص يُخَالِفهَا عَن عمر أقل مِمَّا وجد عَن عَليّ وَأما أَبُو بكر فَلَا يكَاد يُوجد نَص يُخَالِفهُ وَكَانَ هُوَ الَّذِي يفصل الْأُمُور المشتبهة عَلَيْهِم وَلم يكن يعرف مِنْهُم إختلاف على عَهده

قَالَ قَالَ أَبُو البحتري رَأَيْت عليا صعد مِنْبَر الْكُوفَة وَعَلِيهِ مدرعة كَانَت لرَسُول الله صلى الله عليه وسلم مُتَقَلِّدًا سيف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم معتما بعمامته وَفِي إصبعه خَاتم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فكشف عَن بَطْنه فَقَالَ سلوني من قبل أَن تفقدوني فَإِنَّمَا بَين الجوانح مني علم جم

هَذَا سفط الْعلم هَذَا لعاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هَذَا مَا زقني رَسُول الله صلى الله عليه وسلم زقا من غير وَحي إِلَيّ فوَاللَّه لَو ثنيت وسَادَة فَجَلَست عَلَيْهَا لأفتيت أهل التَّوْرَاة بتوراتهم وَأهل الْإِنْجِيل بإنجيلهم حَتَّى تنطق التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل فَتَقول صدق عَليّ قد أفتاكم بِمَا أنزل الله فِي

قلت هَذَا كذب فَاحش وَعلي أعلم بِاللَّه من أَن يحكم بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل وَإِذا تحاكم إِلَيْهِ أهل الْكِتَابَيْنِ لم يجز لَهُ أَن يحكم بِغَيْر الْقُرْآن وَمن نسب عليا إِلَى أَن يحكم بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيل بَين الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَو يفتيهم بذلك ويمدحه بذلك

ص: 343

إِمَّا أَن يكون من أَجْهَل النَّاس بِالدّينِ وَبِمَا يمدح بِهِ صَاحبه وَإِمَّا أَن يكون زنديقا ملحدا أَرَادَ الْقدح فِي عَليّ بِمثل هَذَا الْكَلَام الَّذِي يسْتَحق صَاحبه الذَّم وَالْعِقَاب دون الْمَدْح وَالثَّوَاب

قَالَ وروى الْبَيْهَقِيّ بِسَنَدِهِ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ من أَرَادَ أَن ينظر إِلَى آدم فِي علمه وَإِلَى نوح فِي تقواه وَإِلَى إِبْرَاهِيم فِي حلمه وَإِلَى مُوسَى فِي هيبته وَإِلَى عِيسَى فِي عِبَادَته فَلْينْظر إِلَى عَليّ

قُلْنَا وَهَذَا خبر مُنكر فهاتوا إِسْنَاده إِن كُنْتُم صَادِقين وَيُقَال ثَانِيًا هَذَا الحَدِيث كذب مَوْضُوع على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِلَا ريب عِنْد أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ وَلِهَذَا لَا يذكرهُ أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ وَإِن كَانُوا حراصا على جمع فَضَائِل على كَالنَّسَائِيِّ فَإِنَّهُ قصد أَن يجمع فَضَائِل عَليّ فِي كتاب سَمَّاهُ الخصائص وَالتِّرْمِذِيّ قد ذكر أَحَادِيث مُتعَدِّدَة فِي فضائله وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيف بل مَوْضُوع وَمَعَ هَذَا لم يذكرُوا هَذَا وَنَحْوه

قَالَ وَقَالَ أَبُو عمر الزَّاهِد قَالَ أَبُو الْعَبَّاس لَا نعلم أحدا قَالَ بعد نبيه سلوني من شِيث إِلَى مُحَمَّد إِلَّا عليا فَسَأَلَهُ الأكابر أَبُو بكر وَعمر وأشباههما حَتَّى انْقَطع السُّؤَال ثمَّ قَالَ بعد هَذَا يَا كميل بن زِيَاد إِن هَا هُنَا علما جما لَو أصبت لَهُ حَملَة

وَالْجَوَاب أَن هَذَا النَّقْل إِن صَحَّ عَن ثَعْلَب فثعلب لم يذكر لَهُ إِسْنَادًا حَتَّى يحْتَج بِهِ وَلَيْسَ ثَعْلَب من أَئِمَّة الحَدِيث الَّذين يعْرفُونَ صَحِيحه من سقيمه حَتَّى يُقَال صَحَّ عِنْده بل من هُوَ أعلم من ثَعْلَب من الْفُقَهَاء يذكرُونَ أَحَادِيث كَثِيرَة لَا أصل لَهَا فَكيف ثَعْلَب وَهُوَ قد سمع هَذَا من بعض النَّاس الَّذين لَا يذكرُونَ مَا يَقُولُونَ عَن أحد وَعلي لم يَقُول هَذَا فِي

ص: 344

خلَافَة أبي بكر وَعمر وَلَا عُثْمَان بل قَالَ نَحوه بِالْكُوفَةِ فَكَانَ يَأْمُرهُم بِطَلَب الْعلم وَالسُّؤَال كَمَا فِي حَدِيث كميل بن زِيَاد وَلم يَصْحَبهُ إِلَّا بِالْكُوفَةِ فَإِنَّهُ قَالَ يَا كميل إِن هَاهُنَا لعلما لَو أصبت لَهُ حَملَة

وَأما أَبُو بكر فَلم يكن يسْأَله عليا عَن شَيْء وَأما عمر فَكَانَ يشاوره كَمَا يشاور غَيره

قَالَ وأهمل أَبُو بكر حُدُود الله فَلم يقْتَصّ من خَالِد بن الْوَلِيد حَيْثُ قتل مَالك بن نُوَيْرَة وَأَشَارَ عمر بقتْله فَلم يقبل

فَنَقُول إِن كَانَ ترك قتل قَاتل الْمَعْصُوم مِمَّا يُنكر على الْأَئِمَّة كَانَ هَذَا من أكبر حجج شيعَة عُثْمَان على عَليّ فَإِن عُثْمَان خير من أَمْثَال مَالك بن نُوَيْرَة وَقد قتل مَظْلُوما شَهِيدا وَعلي لم يقْتَصّ من قتلته وَلذَا امْتنع الشاميون من مبايعته

فَإِن عذرتموه فاعذروا أَبَا بكر فَإنَّا نعذرهما

وَكَذَلِكَ إنكاركم على عُثْمَان حَيْثُ لم يقْتَصّ من عبيد الله بن عمر بالهرمزان ثمَّ إِن عمر أَشَارَ عَلَيْهِ بإجتهاد مِنْهُ

قَالَ وَخَالف أَمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي تَوْرِيث بنته ومنعها فدك

قُلْنَا جَمِيع الْمُسلمين مَعَ أبي بكر فِيمَا فعل خلا جهلة الشِّيعَة وَذَلِكَ لرِوَايَة جمَاعَة من الصَّحَابَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لَا نورث

قَالَ وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ عَن عمر وَهُوَ فِي كتاب الْحِلْية أَنه لما احْتضرَ قَالَ يَا لَيْتَني كنت كَبْشًا لقومي فذبحوني فَهَل هَذَا إِلَّا مثل قَول الْكَافِر (يَا لَيْتَني كنت تُرَابا)

وَقَالَ ابْن عَبَّاس لما احْتضرَ عمر قَالَ لَو أَن لي ملْء الأَرْض ذَهَبا لأفتديت بِهِ من هول

ص: 345

المطلع

وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى (وَلَو أَن للَّذين ظلمُوا مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا وَمثله مَعَه لأفتدوا بِهِ) فَلْينْظر الْمنصف قَول الرجلَيْن عِنْد احتضارهما وَقَول على مَتى ألْقى الْأَحِبَّة مُحَمَّدًا وَحزبه

مَتى أَلْقَاهَا مَتى ينبعث أشقاها وَقَوله حِين قَتله فزت وَرب الْكَعْبَة وَالْجَوَاب أَن فِي هَذَا الْكَلَام من الْجَهَالَة مَا يدل على فرط جهل قَائِله

فَمَا نَقله عَن عَليّ قد نقل مثله عَمَّن هُوَ دونه بل قَالَه أَيْضا بعض الْخَوَارِج

وَقَالَ بِلَال عَتيق أبي بكر عِنْد الإحتضار وَامْرَأَته تَقول واحزناه وَهُوَ يَقُول واطرباه غَدا ألْقى الْأَحِبَّة مُحَمَّد وَحزبه

وَفِي البُخَارِيّ عَن الْمسور بن مخرمَة قَالَ لما طعن عمر جعل يألم فَقَالَ ابْن عَبَّاس وَكَأَنَّهُ يجزعه أَي يزِيل جزعه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَئِن كَانَ ذَلِك لقد صَحِبت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته ثمَّ فارقته وَهُوَ عَنْك رَاض

ثمَّ صَحِبت أَبَا بكر فأحسنت صحبته ثمَّ فارقته وَهُوَ عَنْك رَاض

ثمَّ صَحِبت الْمُسلمين فأحسنت صحبتهم وَلَئِن فَارَقْتهمْ لتفارقنهم وهم عَنْك راضون

فَقَالَ أما مَا ذكرت من صُحْبَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَرضَاهُ فَإِن ذَلِك من من الله من بِهِ عَليّ

وَأما مَا ذكرت من صُحْبَة أبي بكر وَرضَاهُ فَإِن ذَلِك من من الله من بِهِ عَليّ وَأما مَا ترى من جزعي فَهُوَ من أَجلك وَأجل أَصْحَابك

وَالله لَو أَن لي طلاع الأَرْض لأفتديت بِهِ من عَذَاب الله قبل أَن أرَاهُ

فقد مَاتَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنهُ رَاض وَمَات هُوَ ورعيته عَنهُ راضون مقرون بعدله وَالله عَنهُ رَاض وخشيته من الله وخوفه مِنْهُ لكَمَال علمه فَإِن الله تَعَالَى يَقُول (إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء) وَقد كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي ولصدره أزيز كأزيز أرجل من الْبكاء

وَفِي صَحِيح مُسلم أَنه لما قتل عُثْمَان بن مَظْعُون قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَالله مَا أَدْرِي وَأَنا رَسُول الله مَا يفعل بِي وَلَا بكم وَقَالَ لَو تعلمُونَ مَا أعلم لضحكتم قَلِيلا ولبكيتم كثيرا وَعَن أبي ذَر قَالَ

وددت أَنِّي شَجَرَة تعضد

وَأما

ص: 346

الْكَافِر فَإِنَّهُ يَقُول (يَا لَيْتَني كنت تُرَابا) فِي الْقِيَامَة وَكَذَلِكَ (لَو أَن لَهُم مَا فِي الأَرْض لأفتدوا بِهِ) يَوْم الْقِيَامَة

وَأما الدُّنْيَا فَمن جعل خوف الْمُؤمن من ربه كخوف الْكَافِر فِي الْآخِرَة فَهُوَ كمن جعل الظُّلُمَات كالنور والظل كالحرور

وَمن ولي الْأمة فَعدل عدلا يشْهد بِهِ عامتهم وَهُوَ فِي ذَلِك خَائِف وَجل من أَن يكون ظلم أفضل مِمَّن يَقُول كثير من رَعيته إِنَّه ظلم وَهُوَ فِي نَفسه مدل بِعَمَلِهِ

وبعدل عمر يضْرب الْمثل

قلت وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة عَن جَعْفَر الصَّادِق عَن أَبِيه عَن جَابر أَن عليا دخل على عمر وَهُوَ مسجي فَقَالَ صلى الله عَلَيْك

وَهَذَا من أصح الْأَخْبَار

وَقَالَ ابْن الْمُبَارك وَغَيره عَن عمر بن سعيد بن أبي حُسَيْن النَّوْفَلِي الْمَكِّيّ عَن ابْن أبي مليكَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ وضع عمر على سَرِيره فتكنفه جمَاعَة يدعونَ ويثنون فَلم يرعني إِلَّا رجل أَخذ بمنكبي فَإِذا عَليّ فترحم على عمر وَقَالَ مَا خلفت أحدا أحب إِلَى أَن ألْقى الله بِمثل عمله مِنْك وَهَذَا أَيْضا صَحِيح

قَالَ وَعَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مَرضه ائْتُونِي بدواه وبيضاء لأكتب لكم كتابا لَا تضلون من بعدِي

فَقَالَ عمر إِن الرجل ليهجر حَسبنَا كتاب الله

فَكثر اللَّغط فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أخرجُوا عني لَا يَنْبَغِي التَّنَازُع لدي

قَالَ ابْن عَبَّاس إِن الرزية كل الرزية مَا حَال بَيْننَا وَبَين كتاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم

وَقَالَ عمر لما مَاتَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَا مَاتَ مُحَمَّد وَلَا يَمُوت حَتَّى يقطع أَيدي رجال وأرجلهم

فَلَمَّا نَهَاهُ أَبُو بكر وتلا عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى (إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون) وَقَوله تَعَالَى (أَفَإِن مَاتَ أَو قتل انقلبتم) قَالَ كَأَنِّي مَا سَمِعت هَذِه الْآيَة

فَيُقَال أما عمر فقد ثَبت من علمه وفضله مَا لم يثبت لأحد غير أبي بكر قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد كَانَ فِي الْأُمَم قبلكُمْ محدثون فَإِن يكن فِي أمتِي أحد فعمر قَالَ ابْن وهب مَعْنَاهُ ملهمون

أخرجه مُسلم عَن عَائِشَة

ص: 347

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد كَانَ فِيمَن كَانَ قبلكُمْ من بني إِسْرَائِيل رجال يكلمون فان يكن فِي أمتِي مِنْهُم أحد فعمر أخرجه البُخَارِيّ من حَدِيث أبي هُرَيْرَة وَقَالَ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا أَنا نَائِم أتيت بقدح من لبن فَشَرِبت مِنْهُ حَتَّى أَنِّي لأرى الرّيّ يخرج من أظفاري ثمَّ أَعْطَيْت فضلى عمر

قَالُوا فَمَا أولته يَا رَسُول الله قَالَ الْعلم

أخرجه البُخَارِيّ

وَفِي الصَّحِيح عَن أبي سعيد قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بَينا أَنا نَائِم رَأَيْت النَّاس يعرضون على وَعَلَيْهِم قمص مِنْهَا مَا يبلغ الثدي وَمِنْهَا مَا يبلغ دون ذَلِك

وَمر عمر بن الْخطاب وَعَلِيهِ قَمِيص يجره

قَالُوا مَا أولت ذَلِك يَا رَسُول الله قَالَ الدّين

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن عمر قَالَ وَافَقت رَبِّي فِي ثَلَاث فِي مقَام إِبْرَاهِيم وَفِي الْحجاب وَفِي أسَارِي بدر

فَأَما قصَّة الْكتاب فقد جَاءَ مُبينًا فِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث عَائِشَة قَالَت قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي مَرضه ادّعى لي أَبَاك وأخاك حَتَّى أكتب كتابا فَإِنِّي أَخَاف أَن يتَمَنَّى متمن وَيَقُول قَائِل أَنا أولى ويأبى الله والمؤمنون إِلَّا أَبَا بكر

وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ قَالَت عَائِشَة وارأساه فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ذَاك لَو كَانَ وَأَنا حَيّ فأستغفر لَك وادعو لَك

فَقلت واثكلاه وَالله إِنِّي لأظنك تحب موتِي فَلَو كَانَ ذَلِك لظللت آخر يَوْمك معرسا بِبَعْض أَزوَاجك

فَقَالَ صلى الله عليه وسلم بل أَنا وارأساه لقد هَمَمْت أَن أرسل إِلَى أبي بكر وَابْنه فأعهد أَن يَقُول الْقَائِلُونَ أَو يتَمَنَّى المتمنون ويأبى الله والمؤمنون

وَفِي صَحِيح مُسلم عَن ابْن أبي مليكَة سُئِلت عَائِشَة رضي الله عنها من كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مستخلفا لَو اسْتخْلف قَالَت أَبُو بكر

قيل لَهَا فَمن بعده قَالَت عمر

ص: 348

قيل لَهَا من بعد عمر قَالَت أَبُو عُبَيْدَة

وَأما عمر فَاشْتَبَهَ عَلَيْهِ هَل كَانَ قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من شدَّة الْمَرَض أَو كَانَ من أَقْوَاله الْمَعْرُوفَة وَالْمَرَض جَائِز على الْأَنْبِيَاء

وَلِهَذَا قَالَ مَا لَهُ أَهجر فَشك فِي ذَلِك وَمَا جزم وَالشَّكّ يجوز على عمر إِذْ لَا مَعْصُوم بعد النَّبِي صلى الله عليه وسلم فجوز أَن يكون كَلَامه من وجع الْحمى وَلذَلِك ظن أَنه لم يمت حَتَّى تبين أَنه قد مَاتَ

وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ قد عزم على أَن يكْتب الْكتاب الَّذِي ذكره لعَائِشَة فَلَمَّا رأى أَن الشَّك قد وَقع علم أَن الْكتاب لَا يرفع الشَّك فَلم يبْق فِيهِ فَائِدَة وَعلم أَن الله يجمعهُمْ على مَا أَرَادَ كَمَا قَالَ ويأبى الله والمؤمنون إِلَّا أَبَا بكر

وَقَول ابْن عَبَّاس إِن الرزية كل الرزية مَا حَال بَين رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَبَين أَن يكْتب الْكتاب يَقْتَضِي أَن الْحَائِل كَانَ رزية وَهِي فِي حق من شكّ فِي خلَافَة أبي بكر أَو اشْتبهَ عَلَيْهِ الْأَمر فَإِنَّهُ لَو كتب كتابا لزال الشَّك

فَأَما من علم أَن خِلَافَته حق فَلَا رزية فِي حَقه وَللَّه الْحَمد وَمن توهم أَن هَذَا الْكتاب كَانَ بخلافة عَليّ فَهُوَ ضال بإتفاق عَامَّة النَّاس من عُلَمَاء السّنة والشيعة أما أهل السّنة فمتفقون على تَفْضِيل أبي بكر وتقديمه

وَأما الشِّيعَة الْقَائِلُونَ بِأَن عليا كَانَ هُوَ الْمُسْتَحق للْإِمَامَة فَيَقُولُونَ إِنَّه قد نَص على إِمَامَته قبل ذَلِك نصا جليا ظَاهرا مَعْرُوفا وَحِينَئِذٍ فَلم يكن يحْتَاج إِلَى كتاب

وَإِن قيل إِن الْأمة جحدت النَّص الْمَعْلُوم الْمَشْهُور فَلِأَن تكْتم كتابا حَضَره طَائِفَة قَليلَة أولى وَأَحْرَى

وَأَيْضًا فَلم يكن يجوز عِنْدهم تَأْخِير الْبَيَان إِلَى مرض مَوته وَلَا يجوز لَهُ ترك الْكتاب لشك من شكّ فَلَو كَانَ مَا يَكْتُبهُ فِي الْكتاب مِمَّا يجب بَيَانه وكتابته لَكَانَ

ص: 349

النَّبِي صلى الله عليه وسلم يُبينهُ ويكتبه وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول أحد فَإِنَّهُ أطوع الْخلق لَهُ فَعلم أَنه لما ترك الْكتاب لم يكن الْكتاب وَاجِبا وَلَا كَانَ فِيهِ من الدّين مَا تجب كِتَابَته حِينَئِذٍ إِذْ لَو وَجب لفعله

وَمَا مثل عمر بأعظم مِمَّن يُفْتِي وَيَقْضِي مُجْتَهدا بِأُمُور يكون النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد حكم بِخِلَافِهَا إِذْ الشَّك فِي الْحق أخف من الْجَزْم بنقيضه وَالْكل من الْخَطَأ المغفور فقد قضي عَليّ فِي الْحَامِل الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا أَنَّهَا تَعْتَد أبعد الْأَجَليْنِ مَعَ صِحَة خبر سبيعة وَلكنه لم يبلغهُ وَقضى فِي المفوضة أَن مهرهَا يسْقط بِالْمَوْتِ مَعَ قَضَاء الرَّسُول صلى الله عليه وسلم فِي بروع بِأَن لَهَا مهر نسائها وَأَرَادَ أَن ينْكح ابْنة أبي جهل حَتَّى غضب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَرجع عَن ذَلِك وأمثال هَذَا مِمَّا لم يقْدَح فِي عَليّ وَلَا غَيره من أولي الْعلم إِذا اجتهدوا وَقَالَ إِذا اخْتَارَتْ الْمَرْأَة زَوجهَا فَهِيَ طَلْقَة مَعَ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم خير نِسَاءَهُ وَلم يكن ذَلِك طَلَاقا والأمور الَّتِي كَانَ يَنْبَغِي لعَلي أَن يرجع عَنْهَا أعظم بِكَثِير من الْأُمُور الَّتِي كَانَ يَنْبَغِي لعمر أَن يرجع عَنْهَا مَعَ أَن عمر قد رَجَعَ عَن عَامَّة تِلْكَ الْأُمُور وَعلي عرف رُجُوعه عَن بَعْضهَا فَقَط كرجوعه عَن خطْبَة بنت أبي جهل وَأما بَعْضهَا كفتياه بِأَن الْحَامِل الْمُتَوفَّى عَنْهَا تَعْتَد أبعد الْأَجَليْنِ وَأَن المفوضة لَا مهر لَهَا إِذا مَاتَ الزَّوْج وَقَوله إِن المخيرة إِذا اخْتَارَتْ زَوجهَا فَهِيَ وَاحِدَة فَهَذِهِ لم يعرف إِلَّا بَقَاؤُهُ عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ

وَكَذَلِكَ مسَائِل كَثِيرَة ذكرهَا الشَّافِعِي فِي كتاب اخْتِلَاف عَليّ وَعبد الله وَذكرهَا مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي فِي كتاب رفع الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاة وأكثرها مَوْجُودَة فِي الْكتب الَّتِي تذكر فِيهَا أَقْوَال الصَّحَابَة إِمَّا بِإِسْنَاد أَو بِغَيْر إِسْنَاد مثل مُصَنف عبد الرَّزَّاق وَسنَن سعيد بن مَنْصُور ومصنف وَكِيع ومصنف أبي بكر بن أبي شيبَة

ص: 350

وَسنَن الْأَثْرَم ومسائل حَرْب وَعبد الله بن أَحْمد وَصَالح وأمثالهم مثل كتاب ابْن الْمُنْذر وَابْن جرير الطَّبَرِيّ وَابْن حزم وَغير هَؤُلَاءِ

قَالَ وَلما وعظت فَاطِمَة أَبَا بكر فِي فدك كتب لَهَا كتابا بهَا وردهَا عَلَيْهَا

فَخرجت من عِنْده فلقيها عمر فَحرق الْكتاب فدعَتْ عَلَيْهِ بِمَا فعله بِهِ أَبُو لؤلؤة

قُلْنَا هَذَا وَالله من أقبح الْكَذِب الَّذِي اختلقته الرافضة أفيعير عمر بِأَن أكْرمه الله بِالشَّهَادَةِ على يَد أبي لؤلؤة الْكَافِر بعد ثَلَاث عشرَة سنة من وَفَاة فَاطِمَة كَمَا أكْرم عليا بِالشَّهَادَةِ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ

قَالَ وعطل عمر الْحُدُود فَلم يحد الْمُغيرَة بن شُعْبَة قُلْنَا إِن جَمَاهِير الْعلمَاء على مَا فعله عمر فِي قصَّة الْمُغيرَة وَإِن الْبَيِّنَة إِذا لم تكمل حد الشُّهُود وَفعل ذَلِك بِحَضْرَة الصَّحَابَة عَليّ وَغَيره فأقروه عَلَيْهِ بِدَلِيل أَنه لما جلد الثَّلَاثَة أعَاد أَبُو بكرَة الْقَذْف وَقَالَ وَالله لقد زنا فهم عمر بجلده ثَانِيًا فَقَالَ لَهُ عَليّ إِن كنت جالده فارجم الْمُغيرَة

يَعْنِي يكون تكراره لِلْقَوْلِ بِمَنْزِلَة شَاهد آخر فَيتم النّصاب وَيجب الرَّجْم

وَهَذَا دَلِيل على رضَا عَليّ بحدهم لِأَنَّهُ مَا أنكرهُ وَعمر قد أَقَامَ الْحَد على ابْنه فِي الْخمر لما شرب بِمصْر بعد أَن كَانَ عَمْرو بن الْعَاصِ ضربه الْحَد لَكِن كَانَ ضربه سرا فِي الْبَيْت وَكَانَ النَّاس يضْربُونَ عَلَانيَة فَبعث عمر إِلَى عَمْرو يزجره ويتهدده لِأَنَّهُ حابي ابْنه ثمَّ طلبه فَضَربهُ

ص: 351

مرّة ثَانِيَة وَكَانَ لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم وعدله متواتر لَا يُنكره إِلَى رَافِضِي وَكَذَلِكَ لَا يُنكر على عَليّ فِي تَركه إِقَامَة الْحَد على قَتله عُثْمَان لِأَنَّهُ مُجْتَهد كعمر

قَالَ وَكَانَ يُعْطي أَزوَاج النَّبِي صلى الله عليه وسلم من بَيت المَال أَكثر مِمَّا يَنْبَغِي وَيُعْطِي عَائِشَة وَحَفْصَة فِي السّنة عشرَة آلَاف

قُلْنَا كَانَ مذْهبه التَّفْضِيل فِي الْعَطاء كَمَا كَانَ يُعْطي بني هَاشم أَكثر من غَيرهم وَيبدأ بهم وَيَقُول لَيْسَ أحد أَحَق بِهَذَا المَال من أحد وَإِنَّمَا هُوَ الرجل وعناؤه وَالرجل وبلاؤه وَالرجل وسابقته وَالرجل وَحَاجته

وَكَانَ يُعْطي ابْنه عبد الله أنقص مِمَّا يُعْطي أُسَامَة بن زيد فوَاللَّه مَا كَانَ عمر يتهم فِي تفضيله لمحاباة وَلَا صداقة

قَالَ وَغير حكم الله فِي المنفيين

قُلْنَا النَّفْي فِي الْخمر تعزيز يسوغ للْإِمَام فعله بإجتهاد وَقد ضرب الصَّحَابَة فِي الْخمر أَرْبَعِينَ وضربوا ثَمَانِينَ وَصَحَّ أَن عليا قَالَ وكل سنة

وَقد قَالَ الْعلمَاء الزِّيَادَة على أَرْبَعِينَ حد وَاجِب وَبِه يَقُول أَبُو حنيفَة وَمَالك وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد

وَقَالَ الشَّافِعِي الزَّائِد تَعْزِير وَللْإِمَام أَن يَفْعَله وَكَانَ عمر يحلق فِي الْخمر وينفي

وَصَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْأَمر بقتل الشَّارِب فِي الرَّابِعَة وَاخْتلف فِي نسخه

وَكَانَ عَليّ يحد أَكثر من الْأَرْبَعين وَقَالَ مَا أحد أقيم عَلَيْهِ الْحَد فَيَمُوت فأجد فِي نَفسِي إِلَّا شَارِب الْخمر فَإِنَّهُ لَو مَاتَ لوديته فَإِنَّهُ شَيْء فَعَلْنَاهُ بآرائنا

رَوَاهُ الشَّافِعِي وَاسْتدلَّ بِهِ على أَن الزِّيَادَة من بَاب التَّعْزِير الَّذِي يفعل بالإجتهاد

قَالَ وَكَانَ قَلِيل الْمعرفَة بِالْأَحْكَامِ أَمر برجم حَامِل حَتَّى نَهَاهُ عَليّ

قُلْنَا إِن كَانَت هَذِه الْقَضِيَّة وَقعت فَلَعَلَّ عمر لم يعلم يحملهَا وَالْأَصْل عدم الْحمل أَو غَابَ عَنهُ الحكم حَتَّى ذكره عَليّ فَكَانَ مَاذَا بِمثل هَذَا فيقدح فِي أَئِمَّة الْهدى وَعلي قد خَفِي عَلَيْهِ من السّنة أَضْعَاف هَذَا وَأدّى إجتهاده إِلَى أَن قتل يَوْم الْجمل وصفين نَحْو من تسعين ألفا فَهَذَا أعظم مرَارًا من خطأ عمر فِي قتل ولد زنا وَلم يقْتله وَللَّه الْحَمد

ص: 352

قَالَ وَأمر برجم مَجْنُونَة فَقَالَ لَهُ عَليّ إِن الْقَلَم رفع عَن الْمَجْنُون حَتَّى يفِيق فَأمْسك وَقَالَ لَوْلَا عَليّ لهلك عمر

قُلْنَا هَذِه الزِّيَادَة لَيست مَعْرُوفَة فَإِن كَانَ عمر لَا يعلم بخبرها فَلَا ضير أَو علم وَذهل أَو اجْتهد فَلهُ أُسْوَة بِغَيْرِهِ وَمَا هُوَ بمعصوم

قَالَ وَقَالَ فِي خطْبَة لَهُ من غالي بِمهْر امْرَأَة جعلته فِي بَيت المَال فَقَالَت لَهُ امْرَأَة كَيفَ تَمْنَعنَا مَا أَعْطَانَا الله فِي كِتَابه حِين قَالَ (وَآتَيْتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) فَقَالَ كل أحد أفقه من عمر

قُلْنَا هَذَا من كَمَال فَضله وتقواه حَيْثُ رَجَعَ إِلَى كتاب الله إِذْ تبين لَهُ وَأَنه يقبل الْحق حَتَّى من امْرَأَة ويتواضع ويعترف

وَمَا من شَرط الْأَفْضَل أَن لَا ينبهه الْمَفْضُول فقد قَالَ هدهد لِسُلَيْمَان (أحطت بِمَا لم تحط بِهِ) ورحل مُوسَى إِلَى الْخضر وَهُوَ دونه ليتعلم مِنْهُ

وَمَا كَانَ قد رَآهُ عمر فَهُوَ مِمَّا يَقع مثله للمجتهد الْفَاضِل فَإِن الصَدَاق فِيهِ حق لله لَيْسَ من جنس الثّمن وَالْأَجْر

قَالَ وَلم يحد قدامَة فِي الْخمر لِأَنَّهُ تَلا عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى (لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا إِذا مَا اتَّقوا وآمنوا) فَقَالَ لَهُ عَليّ لَيْسَ قدامَة من أهل هَذِه الْآيَة فَلم يدركم يحده فَقَالَ لَهُ عَليّ حَده ثَمَانِينَ

وَالْجَوَاب علم عمر فِي هَذَا أبين من أَن يحْتَاج إِلَى دَلِيل فقد جلد فِي الْخمر مَرَّات

وَالَّذِي نعرفه من الْقِصَّة مَا رَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق الْجوزجَاني عَن ابْن عَبَّاس أَن قدامَة بن مَظْعُون شرب الْخمر فَقَالَ لَهُ عمر مَا حملك على ذَلِك قَالَ إِن الله تَعَالَى يَقُول (لَيْسَ على الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات جنَاح فِيمَا طعموا إِذا مَا اتَّقوا) وَأَنا من الْمُهَاجِرين الْأَوَّلين فَقَالَ عمر أَجِيبُوهُ

ص: 353

فَسَكَتُوا فَقَالَ لإبن عَبَّاس أجبه فَقَالَ إِنَّمَا أنزلهَا الله عذرا للماضين لمن شربهَا قبل التَّحْرِيم

ثمَّ سَأَلَ عمر عَن الْحَد فِيهَا فَقَالَ عَليّ إِذا شرب هذي وَإِذا هذي افترى فاجلده ثَمَانِينَ فجلده عمر ثَمَانِينَ

فَإِن كَانَ عَليّ أَشَارَ بالثمانين فَإِن الَّذِي ثَبت فِي الصَّحِيح أَن عليا جلد أَرْبَعِينَ عِنْد عُثْمَان لما جلد الْوَلِيد بن عقبَة وَأَنه أضَاف الثَّمَانِينَ إِلَى عمر وَثَبت فِي الصَّحِيح أَن ابْن عَوْف أَشَارَ بالثمانين فَلم يكن جلد عمر مستفادا من عَليّ

وَقد ذكرنَا أَن عليا قَالَ لَو مَاتَ فِي جلد الْخمر أحد لوديته لِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يسنه لنا

قَالَ وَأرْسل إِلَى حَامِل يستدعيها فَأسْقطت خوفًا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ الصَّحَابَة نرَاك مؤدبا وَلَا شَيْء عَلَيْك

ثمَّ سَأَلَ عليا فَأوجب الدِّيَة على عَاقِلَته

قُلْنَا هَذِه من مسَائِل الْخلاف والإجتهاد وَمَا زَالَ عمر يشاور مثل عُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود وَزيد وَابْن عَبَّاس وَهَذَا من كَمَاله

وَقد أَتَى بِامْرَأَة أقرَّت بِالزِّنَا فاتفقوا على رَجمهَا فَقَالَ عُثْمَان أَرَاهَا تستهل بِهِ إستهلال من لَا يعلم أَن الزِّنَا محرم فَلم يحدها لكَونهَا جهلت التَّحْرِيم وَكَذَا لم يُعَاقب النَّبِي صلى الله عليه وسلم أُسَامَة لما قتل الَّذِي قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله لإعتقاده جَوَاز قَتله وَمن ذَلِك قتل خَالِد بني جذيمة وَقَتله مَالك بن نُوَيْرَة

قَالَ وتنازعت امْرَأَتَانِ فِي طِفْل وَلم يعلم الحكم وفزع فِيهِ إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ فاستد على الْمَرْأَتَيْنِ ووعظهما فَلم ترجعا فَقَالَ ائْتُونِي بِالْمِنْشَارِ أقده بَيْنكُمَا نِصْفَيْنِ فَقَالَت وَاحِدَة الله الله يَا أَبَا الْحسن قد سمحت لَهَا بِهِ

فَقَالَ على الله أكبر هُوَ ابْنك وَلَو كَانَ ابْنهَا لرقت عَلَيْهِ

قُلْنَا هَذِه قَضِيَّة لَا تعرف لعمر بل هِيَ مَعْرُوفَة لِسُلَيْمَان عليه السلام كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيح من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا وفيهَا

ص: 354

أَن الله فهم سُلَيْمَان من الحكم مَا لم يفهمهُ دَاوُد كَمَا قَالَ تَعَالَى (ففهمناها سُلَيْمَان) وَكَانَ سُلَيْمَان قد سَأَلَ الله حكما يُوَافق حكمه فَأعْطَاهُ وَمَا نعلم أَن سُلَيْمَان أفضل من دَاوُد وَقد جَاءَ أَن دَاوُد عليه السلام كَانَ أعبد الْبشر

قَالَ وَأمر برجم امْرَأَة ولدت لسِتَّة أشهر فَقَالَ لَهُ على إِن خاصمتك بِكِتَاب الله خصمتك إِن الله يَقُول (وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا) وَقَالَ تَعَالَى (والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ)

قُلْنَا كَانَ عمر يستشير الصَّحَابَة وَبِهَذَا مدح الله الْمُؤمنِينَ بقوله (وَأمرهمْ شُورَى بَينهم)

وَالنَّاس متنازعون فِي الْمَرْأَة إِذا ظهر بهَا حمل وَلم يكن لَهَا زوج وَلَا سيد وَلَا ادَّعَت شُبْهَة فمذهب مَالك أَنَّهَا ترْجم وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ لَا ترْجم فلعلها مستكرهة أَو حملت بِلَا وَطْء وَالْأول هُوَ الثَّابِت عَن الْخُلَفَاء الرَّاشِدين

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن عمر خطب فِي آخر عمره وَقَالَ الرَّجْم حق على من زنى إِذا قَامَت الْبَيِّنَة أَو كَانَ الْحَبل أَو الإعتراف

وَكَذَا اخْتلفُوا فِي الشَّارِب إِذا تقيأها

وَلَعَلَّ عمر جوز أَن تَلد امْرَأَة لدوّنَ سِتَّة أشهر وَرَآهُ من النَّادِر كَمَا وجد فِي النَّادِر من حملت أَربع سِنِين وَمن حملت سبع سِنِين وَفِي حد ذَلِك نزاع بَين الْعلمَاء

قَالَ وَكَانَ يضطرب فِي الْأَحْكَام فَقضى فِي الْجد بِمِائَة قَضِيَّة

وَالْجَوَاب أَن عمر أسعد الصَّحَابَة الْمُخْتَلِفين فِي الْجد بِالْحَقِّ

فَإِن الصَّحَابَة فِي الْجد مَعَ الْإِخْوَة على قَوْلَيْنِ أَحدهمَا أَن يسْقط الْإِخْوَة وَهَذَا قَول أبي بكر وَأبي مُوسَى وَأبي عَبَّاس وَطَائِفَة وَمذهب أبي حنيفَة وَابْن سُرَيج من الشَّافِعِيَّة وَأبي حَفْص الْبَرْمَكِي من الْحَنَابِلَة وَهُوَ الْحق فَإِن نِسْبَة بني الْإِخْوَة من الْأَب إِلَى الْجد كنسبة الْأَعْمَام بني الْجد إِلَى الْجد وَقد اتّفق الْمُسلمُونَ على أَن الْجد هُنَا أَب وَالْأَب أولى من الْأَعْمَام فَيجب أَن يكون أَبُو الْأَب أولى

ص: 355

من الْإِخْوَة

وَأَيْضًا فَإِن الْإِخْوَة لَو كَانُوا لكَوْنهم يدلون ببنوة الْأَب بِمَنْزِلَة الْجد لَكَانَ أَوْلَادهم وهم بَنو الْأُخوة كَذَلِك

أَلا ترى أَن ابْن الإبن أولى من الْجد فَكَانَ ابْنه بِمَنْزِلَتِهِ

وَأَيْضًا فَإِن الْجدّة كالأم فَيجب أَن يكون الْجد كَالْأَبِ وَلِأَن الْجد يُسمى أَبَا

وَهَذَا القَوْل هُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن عمر

القَوْل الثَّانِي أَن الْجد يقاسم الْإِخْوَة

وَهَذَا قَول عُثْمَان وَعلي وَزيد وَابْن مَسْعُود

وَلَكِن اخْتلفُوا فِي التَّفْصِيل إختلافا متباينا وَالْجُمْهُور على مَذْهَب زيد كمالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد

وَأما قَول عَليّ فِي الْجد فَلم يذهب إِلَيْهِ أحد من أَئِمَّة الْفُقَهَاء إِنَّمَا يذكر عَن ابْن أبي ليلى

وَإِن صَحَّ أَن عمر قضى فِيهَا بِمِائَة قَضِيَّة لم يرد الرَّاوِي أَنه قضى فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة بِمِائَة قَول إِذْ لَيْسَ ذَلِك بممكن وَلَيْسَ فِي مَسْأَلَة الْجد نزاع أَكثر مِمَّا فِي مَسْأَلَة الخرقاء أم وَأُخْت وجد وكل الْأَقْوَال فِيهَا سِتَّة فَعلم أَنه أَرَادَ مائَة حَادِثَة من حوادث الْجد لَكِن لم يخرج قَوْله عَن قَوْلَيْنِ أَو ثَلَاثَة

وَقَول عَليّ فِي الْجد مُخْتَلف أَيْضا والمسائل الَّتِي لعَلي فِيهَا أَقْوَال كَثِيرَة وَأهل الْفَرَائِض يعلمُونَ هَذَا مَعَ أَن الْأَشْبَه أَن هَذَا كذب فَإِن وجود جد وإخوة فِي الْفَرِيضَة قَلِيل جدا فِي النَّاس وَعمر إِنَّمَا تولى عشر سِنِين وَكَانَ قد أمسك عَن الْكَلَام فِي الْجد وَثَبت عَنهُ فِي الصَّحِيح أَنه قَالَ ثَلَاث وددت أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ بَينهُنَّ لنا الْجد والكلالة وأبواب من أَبْوَاب الرِّبَا

وَمن كَانَ متوقفا لم يحكم فِيهَا بِشَيْء

قَالَ وَكَانَ يفضل فِي الْغَنِيمَة وَالعطَاء وَأوجب الله التَّسْوِيَة

قُلْنَا أما الْغَنِيمَة فَلم يكن هُوَ يقسمها بل أُمَرَاء جيوشه القائمون بعد الْخمس ثمَّ يُرْسل إِلَيْهِ الْخمس

وَقد تنَازع الْعلمَاء هَل يفضل بعض الْغَانِمين لمصْلحَة وَذَلِكَ رِوَايَتَانِ عَن أَحْمد

وَإِلَى الْجَوَاز ذهب أَبُو حنيفَة لِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم نفل فِي بدايته الرّبع بعد الْخمس وَفِي رجعته

ص: 356

الثُّلُث بعد أَن خمس

وَفِي صَحِيح مُسلم أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أعْطى سَلمَة بن الْأَكْوَع سهم فَارس وراجل فِي غَزْوَة الغابة وَكَانَ رَاجِلا لِأَنَّهُ أَتَى من الْقَتْل وَالْغنيمَة وإرهاب الْعَدو بِمَا لم يَأْتِ بِهِ غَيره

وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ لَا يكون إِلَّا من خمس الْخمس

وَأَيْنَ مثل عمر الَّذِي ضرب الله الْحق على لِسَانه وَقَلبه وَكَانَ يَجْعَل النَّاس مَرَاتِب فِي الْعَطاء وَأَبُو بكر كَانَ يُسَوِّي وَهِي مَسْأَلَة إجتهاد

وَقَوله أوجب الله التَّسْوِيَة مُجَرّد دَعْوَى فَهُوَ لم يذكر على ذَلِك دَلِيلا وَلَو ذكر دَلِيلا لتكلمنا عَلَيْهِ كَمَا نتكلم فِي مسَائِل الإجتهاد

قَالَ وَقَالَ بِالرَّأْيِ والحدس وَالظَّن

قُلْنَا هَذَا لم يخْتَص بِهِ وَقد كَانَ عَليّ من أقولهم بِالرَّأْيِ فَمن ذَلِك سيره إِلَى صفّين فَقَالَ لم يعْهَد إِلَيّ فِيهِ نَبِي الله بِشَيْء وَلكنه رَأْي رَأَيْته

وَأما قِتَاله الْخَوَارِج فَكَانَ مَعَه فِيهِ حَدِيث

وَأما قتال الْجمل وصفين فَلم يرو أحد مِنْهُم فِيهِ نصا

إِلَّا الْقَاعِدُونَ فَإِنَّهُم رووا الْأَحَادِيث فِي ترك الْقِتَال فِي الْفِتْنَة

وَمَعْلُوم أَن الرَّأْي إِن لم يكن مذموما فَلَا لوم على من قَالَ بِهِ وَإِن كَانَ مذموما فَلَا رأى أعظم ذما من رأى أريق بِهِ دم أُلُوف مؤلفة من الْمُسلمين وَلم يحصل بِقَتْلِهِم مصلحَة للْمُسلمين لَا فِي دينهم وَلَا فِي دنياهم بل نقص الْخَيْر عَمَّا كَانَ وَزَاد الشَّرّ على مَا كَانَ

فَإِذا كَانَ مثل هَذَا الرَّأْي لَا يعاب بِهِ فرأي عمر وَغَيره فِي مسَائِل الْفَرَائِض وَالطَّلَاق أولى أَن لَا يعاب مَعَ أَن عليا شركهم فِي هَذَا الرَّأْي وامتاز بِرَأْيهِ فِي الدِّمَاء وَقد كَانَ ابْنه الْحسن وَأكْثر السَّابِقين الْأَوَّلين لَا يرَوْنَ الْقِتَال مصلحَة وَكَانَ هَذَا الرَّأْي أصلح من رَأْي الْقِتَال بالدلائل الْكَثِيرَة

وَمن الْمَعْلُوم أَن قَول على فِي الْجد وَغَيره من الْمسَائِل كَانَ بِالرَّأْيِ وَقد قَالَ اجْتمع رَأْيِي ورأي عمر على الْمَنْع من بيع أُمَّهَات الْأَوْلَاد

ص: 357

والآن فقد رَأَيْت أَن يبعن فَقَالَ لَهُ قاضيه عُبَيْدَة السَّلمَانِي رَأْيك مَعَ رَأْي عمر فِي الْجَمَاعَة أحب إِلَيْنَا من رَأْيك وَحدك فِي الْفرْقَة وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ من حَدِيث عُبَيْدَة عَن عَليّ قَالَ اقضوا كَمَا كُنْتُم تقضون فَإِنِّي أكره الإختلاف حَتَّى يكون للنَّاس جمَاعَة أَو أَمُوت كَمَا مَاتَ أَصْحَابِي رَوَاهُ ابْن سِيرِين عَن عُبَيْدَة فَكَانَ ابْن سِيرِين يرى أَن عَامَّة مَا يرْوى عَن عَليّ الْكَذِب

واما حَدِيث تقتيل النَّاكِثِينَ والقاسطين والمارقين فموضوع على النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقد قَالَ ابْن عمر مَا رَأَيْت عمر يَقُول لشَيْء إِنِّي لأراه كَذَا وَكَذَا إِلَّا كَانَ كَمَا يَقُول فالنصوص وَالْإِجْمَاع والإعتبار يدل على أَن رَأْي عمر أَجود من رَأْي عُثْمَان وَعلي وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر وَلِهَذَا كَانَت آثَار رَأْيه محمودة وَمَا يتمارى فِي كَمَال سيرته وَعلمه من لَهُ أدنى مسكة من إنصاف وَلَا يطعن على أبي بكر وَعمر إِلَّا جَاهِل غر اَوْ ملحد مُنَافِق توسل بالطعن فيهمَا إِلَى الطعْن فِي الرَّسُول وَدين الْإِسْلَام

وَهَذَا حَال من ابتدع الرَّفْض وَحَال الباطنية

وَإِذا قَالَ الرافضي عَليّ مَعْصُوم لَا يَقُول بِرَأْيهِ بل كل مَا قَالَه فَهُوَ مثل النَّص

قيل لَهُ نظيرك فِي الطّرف الآخر الْخَوَارِج الَّذين كفروه

قَالَ وَجعل بعده الْأَمر شُورَى وَخَالف فِيهِ من تقدمه وتأسف على سَالم مولى أبي حُذَيْفَة وَقَالَ لَو كَانَ حَيا لم يختلجني فِيهِ شكّ وأمير الْمُؤمنِينَ عَليّ حَاضر وَذكر فصلا طَويلا

وَالْجَوَاب أَن هَذَا الْكَلَام كُله لَا يخرج عَن قسمَيْنِ إِمَّا كذب فِي النَّقْل وَإِمَّا قدح فِي الْحق فَإِن مِنْهُ مَا هُوَ كذب مَعْلُوم الْكَذِب أَو غير مَعْلُوم الصدْق

وَمَا علم أَنه صدق فَلَيْسَ فِيهِ مَا يُوجب الطعْن على عمر رضي الله عنه بل ذَلِك مَعْدُود من فضائله ومحاسنه الَّتِي ختم الله لَهُ بهَا عمله

وَلَكِن هَؤُلَاءِ الْقَوْم لفرط جهلهم وهواهم يقلبون الْحَقَائِق فِي الْمَنْقُول والمعقول فَيَأْتُونَ إِلَى الْأُمُور الَّتِي وَقعت وَعلم أَنَّهَا

ص: 358

وَقعت فَيَقُولُونَ مَا وَقعت

وَإِلَى أُمُور مَا كَانَت وَيعلم أَنَّهَا مَا كَانَت فَيَقُولُونَ كَانَت

ويأتون إِلَى الْأُمُور الَّتِي هِيَ خير وَصَلَاح فَيَقُولُونَ هِيَ فَسَاد

وَإِلَى الْأُمُور الَّتِي هِيَ فَسَاد فَيَقُولُونَ هِيَ خير وَصَلَاح

فَلَيْسَ لَهُم عقل وَلَا نقل بل لَهُم نصيب من قَوْله تَعَالَى (وَقَالُوا لَو كُنَّا نسْمع أَو نعقل مَا كُنَّا من أَصْحَاب السعير)

وَأما قَول الرافضي وَجعل الْأَمر شُورَى بعده وَخَالف فِيهِ من تقدمه

فَالْجَوَاب أَن الْخلاف نَوْعَانِ خلاف تضَاد وَخلاف تنوع

فَالْأول مثل أَن يُوجب هَذَا شَيْئا ويحرمه الآخر

وَالنَّوْع الثَّانِي مثل الْقرَاءَات الَّتِي يجوز كل مِنْهَا وَإِن كَانَ هَذَا يخْتَار قِرَاءَة وَهَذَا يخْتَار قِرَاءَة كَمَا ثَبت فِي الصِّحَاح بل استفاض عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِن الْقُرْآن أنزل على سَبْعَة أحرف كلهَا شاف كَاف وَثَبت أَن عمر وَهِشَام بن حَكِيم بن حزَام اخْتلفَا فِي سُورَة الْفرْقَان فقرأها هَذَا على وَجه وَهَذَا على وَجه فَقَالَ لكليهما هَكَذَا أنزلت وَمن هَذَا الْبَاب تصرف ولي الْأَمر للْمُسلمين وَلِهَذَا اسْتَشَارَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَصْحَابه يَوْم بدر فَأَشَارَ عَلَيْهِ أَبُو بكر رضي الله عنه بِأخذ الْفِدَاء وَشبهه النَّبِي صلى الله عليه وسلم بإبراهيم وَعِيسَى وَأَشَارَ إِلَيْهِ عمر رضي الله عنه بِالْقَتْلِ وَشبهه صلى الله عليه وسلم بِنوح ومُوسَى وَلم يعب وَاحِدًا مِنْهُمَا بِمَا أَشَارَ عَلَيْهِ بِهِ بل مدحه وَشبهه بالأنبياء وَلَو كَانَ مَأْمُورا بِأحد الْأَمريْنِ حتما لما استشارهم فِيمَا يفعل ثمَّ إِن الإجتهاد يخْتَلف وَيكون جَمِيعه صَوَابا كَمَا أَن أَبَا بكر الصّديق رضي الله عنه كَانَ رَأْيه أَن يُولى خَالِد بن الْوَلِيد فِي حروبه وَكَانَ عمر يُشِير عَلَيْهِ بِأَن يعزله فَلَا يعزله وَيَقُول إِنَّه سيف سَله الله على الْمُشْركين

ثمَّ إِن عمر لما تولى عَزله وَولى أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح

وَمَا فعله كل مِنْهُمَا كَانَ أصلح فِي وقته فَإِن أَبَا بكر كَانَ فِيهِ لين وَعمر كَانَ فِيهِ شدَّة وَكَانَا على عهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم يستشيرهما

وروى عَنهُ أَنه قَالَ إِذا اتفقتما على شَيْء لم أخالفكما

وَثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ فِي بعض مغازيه إِن يطع الْقَوْم أَبَا بكر وَعمر يرشدوا

وَفِي رِوَايَة فِي الصَّحِيح

ص: 359

كَيفَ ترَوْنَ الْقَوْم صَنَعُوا حِين فقدوا نَبِيّهم وأرهقتهم صلَاتهم قُلْنَا الله وَرَسُوله أعلم

قَالَ أَلَيْسَ فيهم أَبُو بكر وَعمر إِن يطيعوهما فقد رشدوا ورشدت أمتهم وَإِن يعصوهما فقد غووا وغوت أمتهم قَالَهَا ثَلَاثًا

وَقد روى مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن عمر قَالَ لما كَانَ يَوْم بدر نظر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمُشْركين وهم ألف وَأَصْحَابه وهم ثَلَاثمِائَة وَتِسْعَة عشر رجلا فَاسْتقْبل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْقبْلَة ثمَّ مد يَدَيْهِ فَجعل يَهْتِف بربه اللَّهُمَّ انجز لي مَا وَعَدتنِي اللَّهُمَّ آتني مَا وَعَدتنِي اللَّهُمَّ إِنَّك إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة من أهل الْإِسْلَام لَا تعبد فِي الأَرْض

فَمَا زَالَ يَهْتِف بربه مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبلا الْقبْلَة حَتَّى سقط رِدَاؤُهُ عَن مَنْكِبَيْه فَأَتَاهُ أَبُو بكر فَأخذ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ على مَنْكِبَيْه ثمَّ الْتَزمهُ من وَرَائه وَقَالَ يَا نَبِي الله كَفاك مُنَاشَدَتك رَبك فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَك مَا وَعدك

فَأنْزل الله تَعَالَى {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ ربكُم فَاسْتَجَاب لكم أَنِّي مُمِدكُمْ بِأَلف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ} فأمده الله بِالْمَلَائِكَةِ

وَكَانَ السّلف متفقين على تَقْدِيم أبي بكر وَعمر حَتَّى شيعَة عَليّ رضي الله عنه

وروى ابْن بطة عَن شَيْخه الْمَعْرُوف بِأبي الْعَبَّاس بن مَسْرُوق حَدثنَا مُحَمَّد بن حميد حَدثنَا جرير عَن سُفْيَان عَن عبد الله بن زِيَاد بن حدير قَالَ قدم أَبُو إِسْحَاق السبيعِي الْكُوفَة قَالَ لنا شمر بن عَطِيَّة قومُوا إِلَيْهِ فَجَلَسْنَا إِلَيْهِ فتحدثوا

فَقَالَ أَبُو إِسْحَاق خرجت من الْكُوفَة وَلَيْسَ أحد يشك فِي فضل أبي بكر وَعمر وتقديمهما وقدمت الْآن وهم يَقُولُونَ وَيَقُولُونَ وَلَا وَالله مَا أَدْرِي مَا يَقُولُونَ وَعَن ضَمرَة عَن سعيد بن حسن قَالَ

ص: 360

سَمِعت لَيْث بن أبي سليم يَقُول أدْركْت الشِّيعَة الأولى وَمَا يفضلون على أبي بكر وَعمر أحدا

وَقَالَ أَحْمد بن حَنْبَل حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن خَالِد بن سَلمَة عَن مَسْرُوق قَالَ حب أبي بكر وَعمر وَمَعْرِفَة فضلهما من السّنة

ومسروق من أجل تَابِعِيّ الْكُوفَة وَكَذَلِكَ قَالَ طَاوس

وَقد روى ذَلِك عَن ابْن مَسْعُود

وَكَيف لَا تقدم الشِّيعَة الأولى أَبَا بكر وَعمر وَقد تَوَاتر عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه أَنه قَالَ خير هَذِه الْأمة بعد نبيها أَبُو بكر ثمَّ وَعمر

وَقد روى هَذَا عَنهُ من طرق كَثِيرَة قيل إِنَّهَا تبلغ ثَمَانِينَ طَرِيقا

وَقد روى البُخَارِيّ عَنهُ فِي صَحِيحه من حَدِيث الهمدانيين الَّذين هم أخص النَّاس بعلي حَتَّى كَانَ يَقُول

(وَلَو كنت بوابا على بَاب جنَّة

لَقلت لهمدان ادخلي بِسَلام)

فقد رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ وَهُوَ همداني عَن مُنْذر وَهُوَ همداني عَن مُحَمَّد بن الحنيفة قَالَ قلت لأبي يَا أَبَت من خير النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا بني أَو مَا تعرف فَقلت لَا

قَالَ أَبُو بكر

فَقلت ثمَّ من قَالَ عمر

وَهَذَا يَقُوله لإبنه بَينه وَبَينه لَيْسَ هُوَ مِمَّا يجوز أَن يَقُوله تقية

وَيَرْوِيه عَن أَبِيه خَاصَّة

وَقَالَهُ على الْمِنْبَر

وَعنهُ أَنه كَانَ يَقُول لَا أُوتِيَ بِأحد يُفَضِّلُنِي على أبي بكر وَعمر إِلَّا جلدته حد

ص: 361

المفترى

وَفِي السّنَن عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ اقتدوا بالذين من بعدِي أبي بكر وَعمر

وَلِهَذَا كَانَ أحد قولي الْعلمَاء وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد أَن قَوْلهمَا إِذا اتفقَا حجَّة لَا يجوز الْعُدُول عَنْهَا وَهَذَا أظهر الْقَوْلَيْنِ

كَمَا أَن الْأَظْهر أَن اتِّفَاق الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة أَيْضا حجَّة لَا يجوز خلَافهَا لأمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بإتباع سنتهمْ وَكَانَ نَبينَا صلى الله عليه وسلم مَبْعُوثًا بأعدل الْأُمُور وأكملها فَهُوَ الضحوك الْقِتَال وَهُوَ نَبِي الرَّحْمَة وَنَبِي الملحمة

بل أمته موصوفون بذلك فِي مثل قَوْله تَعَالَى (أشداء على الْكفَّار رحماء بَينهم) وَقَوله تَعَالَى (أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين) فَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يجمع بَين شدَّة هَذَا ولين هَذَا فيأمر بِمَا هُوَ الْعدْل وهما يطيعانه فَتكون أفعالهما على كَمَال الإستقامة فَلَمَّا قبض الله نبيه وَصَارَ كل مِنْهُمَا خَليفَة على الْمُسلمين خلَافَة نبوة كَانَ من كَمَال أبي بكر رضي الله عنه أَن يُولى الشَّديد ويستعين بِهِ ليعتدل أمره ويخلط الشدَّة باللين فَإِن مُجَرّد اللين يفْسد ومجرة الشدَّة تفْسد وَيكون قد قَامَ مقَام النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَكَانَ يَسْتَعِين بإستشارة عمر وبإستنانة خَالِد وَنَحْو ذَلِك

وَهَذَا من كَمَاله الَّذِي صَار بِهِ خَليفَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

وَلِهَذَا اشْتَدَّ فِي قتال أهل الرِّدَّة شدَّة برز بهَا على عمر وَغَيره حَتَّى روى أَن عمر قَالَ لَهُ يَا خَليفَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تألف النَّاس

فَقَالَ علام أتألفهم أَعلَى حَدِيث مفتري أم على شعر مفتعل وَقَالَ أنس خَطَبنَا أَبُو بكر عقيب وَفَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَإِنَّا لكالثعلب فَمَا زَالَ يشجعنا حَتَّى صرنا كالأسود

وَأما عمر رضي الله عنه فَكَانَ شَدِيدا فِي نَفسه فَكَانَ من كَمَاله إستعانته باللين ليعتدل أمره فَكَانَ يَسْتَعِين بِأبي عُبَيْدَة بن الْجراح وَسعد بن أبي وَقاص وَأبي عُبَيْدَة الثَّقَفِيّ والنعمان بن مقرن وَسَعِيد بن عَامر وأمثال هَؤُلَاءِ من أهل الصّلاح والزهد الَّذين هم أعظم زهدا وَعبادَة من مثل خَالِد بن الْوَلِيد وَأَمْثَاله

وَمن هَذَا الْبَاب أَمر الشورى فَإِن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه كَانَ كثير الْمُشَاورَة للصحابة فِيمَا لم يتَبَيَّن لَهُ فِيهِ أَمر الله وَرَسُوله فَإِن الشَّارِع نصوصه كَلِمَات جَوَامِع وقضايا كُلية وقواعد عَامَّة يمْتَنع أَن ينص على كل فَرد من جزئيات الْعَالم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة فَلَا بُد

ص: 362

من الإجتهاد فِي المعينات هَل تدخل فِي كَلِمَاته الجامعة أم لَا وَهَذَا الإجتهاد يُسمى تَحْقِيق المناط وَهُوَ مِمَّا اتّفق عَلَيْهِ النَّاس كلهم نفاة الْقيَاس ومثبتته فَإِن الله إِذا أَمر أَن يستشهد ذَوا عدل فكون الشَّخْص الْمعِين من ذَوي الْعدْل لَا يعلم بِالنَّصِّ الْعَام بل بإجتهاد خَاص

وَكَذَلِكَ إِذا أَمر أَن تُؤَدّى الْأَمَانَات إِلَى أَهلهَا وَأَن تولى الْأُمُور من يصلح لَهَا فكون هَذَا الشَّخْص الْمعِين صَالحا لذَلِك أَو راجحا على غَيره لَا يُمكن أَن تدل عَلَيْهِ النُّصُوص بل لَا يعلم إِلَّا بإجتهاد خَاص

والرافضي إِن زعم أَن الإِمَام يكون مَنْصُوصا عَلَيْهِ وَهُوَ مَعْصُوم فَلَيْسَ هُوَ أعظم من الرَّسُول ونوابه وعماله لَيْسُوا معصومين

وَلَا يُمكن أَن ينص الشَّارِع على كل مُعينَة وَلَا يُمكن النَّبِي وَلَا الإِمَام أَن يعلم الْبَاطِن فِي كل مُعينَة واما عَليّ رضي الله عنه فظهور الْأَمر فِي الجزئيات بِخِلَاف مَا ظَنّه كثير جدا

فَعلم أَنه لَا بُد من الإجتهاد فِي الجزئيات من المعصومين وَغير المعصومين

وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ إِنَّكُم تختصمون إِلَيّ وَلَعَلَّ بَعْضكُم أَن يكون أَلحن بحجته من بعض وَإِنَّمَا أقضى بِنَحْوِ مِمَّا أسمع فَمن قضيت لَهُ من حق أَخِيه شَيْئا فَلَا يَأْخُذهُ فَإِنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار

فَحكمه فِي الْقَضِيَّة الْمعينَة إِنَّمَا هُوَ بِاجْتِهَادِهِ وَلِهَذَا نهى الْمَحْكُوم لَهُ أَن يَأْخُذ مَا حكم لَهُ بِهِ إِذا كَانَ الْبَاطِن بِخِلَاف مَا ظهر

وَعمر رضي الله عنه إِمَام وَعَلِيهِ أَن يسْتَخْلف الْأَصْلَح للْمُسلمين فاجتهد فِي ذَلِك وَرَأى أَن هَؤُلَاءِ السِّتَّة أَحَق من غَيرهم وَهُوَ كَمَا رأى فَإِنَّهُ لم يقل أحد إِن غَيرهم أَحَق مِنْهُم وَجعل التَّعْيِين إِلَيْهِم خوفًا أَن يعين وَاحِدًا مِنْهُم وَيكون غَيره أصلح لَهُم فَإِنَّهُ ظهر لَهُ رُجْحَان السِّتَّة دون رُجْحَان التَّعْيِين وَقَالَ الْأَمر فِي التَّعْيِين إِلَى السِّتَّة يعينون وَاحِدًا مِنْهُم

وَهَذَا أحسن إجتهاد إِمَام عَادل نَاصح لَا هوى لَهُ رضي الله عنه

وَأَيْضًا فقد قَالَ تَعَالَى (وَأمرهمْ شُورَى بَينهم) وَقَالَ (وشاورهم فِي الْأَمر) فَكَانَ مَا فعله من الشورى مصلحَة وَمَا كَانَ فعله أَبُو بكر رضي الله عنه من تعْيين عمر هُوَ الْمصلحَة أَيْضا فَإِن أَبَا بكر تبين لَهُ من كَمَال عمر وفضله وإستحقاقه لِلْأَمْرِ

ص: 363

مَا لم يحْتَج مَعَه إِلَى الشورى وَظهر أثر هَذَا الرَّأْي الْمُبَارك الميمون على الْمُسلمين فَإِن كل عَاقل منصف يعلم أَن عُثْمَان اَوْ عليا أَو طَلْحَة أَو الزبير أَو سَعْدا أَو عبد الرحمن بن عَوْف لَا يقوم مقَام عمر فَكَانَ تعْيين عمر فِي الإستحقاق كتعيين أبي بكر فِي مُبَايَعَتهمْ لَهُ

وَلِهَذَا قَالَ عبد الله بن مَسْعُود أَفرس النَّاس ثَلَاثَة بنت صَاحب مَدين حَيْثُ قَالَت (يَا أَبَت اسْتَأْجرهُ إِن خير من اسْتَأْجَرت الْقوي الْأمين) وَامْرَأَة الْعَزِيز حَيْثُ قَالَت (عَسى أَن ينفعنا أَو نتخذه ولدا) وَأَبُو بكر حَيْثُ اسْتخْلف عمر

وَقَالَت عَائِشَة رضي الله عنها فِي خطبتها أبي وَمَا أبي وَالله لَا تعطوه الْأَيْدِي

ذَاك طود منيف وَفرع مديد

هَيْهَات كذبت الظنون

أنجح إِذْ أكديتم وَسبق إِذْ ونيتم سبق الْجواد إِذا استولى على الأمد

فَتى قُرَيْش ناشئا وكهفها كهلا يفك عانيها ويريش مملقها ويرأب شعبها حَتَّى جلبته قلوبها

ثمَّ استشرى فِي دينه فَمَا بَرحت شَكِيمَته فِي ذَات الله تَعَالَى

ص: 364

تشتد حَتَّى اتخذ بفنائه مَسْجِدا يحيى فِيهِ مَا أمات المبطلون

وَكَانَ رحمه الله غزير الدمعة وقيذ الجوانح شجي النشيج فتتقصف عَلَيْهِ نسوان مَكَّة وولدانها يسخرون مِنْهُ ويستهزئون بِهِ (الله يستهزيء بهم ويمدهم فِي طغيانهم يعمهون)

فأكبرت ذَلِك رجالات قُرَيْش فحنت لَهُ قسيها وفوقت لَهُ سهامها وانتبلوه غَرضا فَمَا فلوا لَهُ صفاة وَلَا قصفوا لَهُ قناة

وَمر على سيسائه حَتَّى إِذا ضرب الدّين بجرانه

ص: 365

وَألقى بركه ورست أوتاده وَدخل النَّاس فِيهِ أَفْوَاجًا وَمن كل فرقة أَرْسَالًا وأشتاتا اخْتَار الله لنَبيه صلى الله عليه وسلم مَا عِنْده

فَلَمَّا قبض الله نبيه ضرب الشَّيْطَان روقه وَمد طنبه وَنصب حبائله

فَظن رجال أَن قد تحققت أطماعهم ولات حِين الَّذِي يرجون وأنى وَالصديق بَين أظهرهم فَقَامَ حاسرا مشمرا فَجمع حَاشِيَته وَضم قطريه فَرد نشر الْإِسْلَام على غره وَلم شعثه بطبه وَأقَام أوده بثقافه فوقذ النِّفَاق بوطأته وانتاش الدّين بنعشه

فَلَمَّا أراح الْحق على أَهله وَقرر الرُّءُوس على كواهلها وحقن الدِّمَاء فِي أهبها أَتَتْهُ منيته فسد ثلمه بنظيره

ص: 366

فِي الرَّحْمَة وشقيقه فِي السِّيرَة والمعدلة ذَاك ابْن الْخطاب لله أم حفلت لَهُ وَدرت عَلَيْهِ لقد أوحدت بِهِ

فقبح الْكفْر وشرد الشّرك شذر مذر وبعج الأَرْض وبخعها فقاءت أكلهَا ولفظت خبيئها ترأمه ويصد عَنْهَا وتصدى لَهُ ويأباها ثمَّ ورع فِيهَا وودعها كَمَا صحبها

فأروني مَا تريبون وَأي يومي أبي تَنْقِمُونَ أيوم إِقَامَته إِذْ عدل فِيكُم أَو يَوْم ظعنه وَقد نظر لكم أَقُول قولي هَذَا وَأَسْتَغْفِر الله لي وَلكم

روى هَذِه الْخطْبَة جَعْفَر بن عون عَن أَبِيه عَن عَائِشَة وَهَؤُلَاء رُوَاة الصَّحِيحَيْنِ

وَأما عمر رضي الله عنه فَرَأى الْأَمر فِي السِّتَّة متقاربا

صَحَّ عَنهُ أَنه قَالَ إِن اسْتخْلف فقد اسْتخْلف من هُوَ خير مني يَعْنِي أَبَا بكر وَإِن أترك فقد ترك من هُوَ خير مني يَعْنِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم

وَالْخلاف مَا زَالَ فِي الْقرَاءَات وَالْفِقْه وَغير ذَلِك حَتَّى إِن الْعَالم الْوَاحِد يَقُول قَوْلَيْنِ مُخْتَلفين وَمَا زَالَت آراء الْكِبَار تخْتَلف

وَثَبت أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي بعض الْمَغَازِي إِن يطع الْقَوْم أَبَا بكر وَعمر يرشدوا وروى عَنهُ أَنه قَالَ لَهما لواتفقتما على شَيْء لم أخالفكما وَقَالَ اقتدوا باللذين من بعدِي أَبُو بكر وَعمر فَمَا فعله أَبُو بكر من إستخلافه عمر كَانَ الْمصلحَة لكَمَال عمر وشفوفه وإستحقاقه وَظهر أثر ذَلِك عِنْد كل عَاقل منصف

وَكَانَ مَا فعله عمر هُوَ الْمصلحَة فَإِنَّهُ لم يتَرَجَّح عِنْده أحد من السِّتَّة على البَاقِينَ ورآهم متقاربين وَفِي كل فَضِيلَة لَيست فِي الآخر وَترك التَّعْيِين خوفًا وورعا وَفعل من الْمصلحَة بِحَسب الْإِمْكَان

ثمَّ إِن الصَّحَابَة اجْتَمعُوا على عُثْمَان وَكَانَت ولَايَته أرجح مصلحَة وَأَقل مفْسدَة من غَيره وَالْوَاجِب أَن يقدم أَكثر الْأَمريْنِ مصلحَة وأقلهما مفْسدَة وَلَا يجب على الْخَلِيفَة أَن يسْتَخْلف بعد مَوته فَقَالَ الْأَمر شُورَى بَين هَؤُلَاءِ السِّتَّة الَّذين توفّي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْهُم رَاض

ص: 367

وَأما مَا زعمت من ذكر سَالم مولى أبي حُذَيْفَة فمعلوم أَن الصَّحَابَة يعلمُونَ الْإِمَامَة فِي قُرَيْش كَمَا استفاضت بذلك السّنَن وَذَلِكَ مِمَّا احْتَجُّوا بِهِ على الْأَنْصَار يَوْم السَّقِيفَة فَكيف يظنّ بعمر أَنه يُولى مولى فأبين يذهب عقلك بل من الْمُمكن أَنه كَانَ يوليه ولَايَة جزئية أَو يستشيره فَمن يُولى وَنَحْو ذَلِك من الْأُمُور الَّتِي يصلح لَهَا سَالم مولى أبي حُذَيْفَة فَإِن سالما كَانَ من خِيَار الصَّحَابَة

وقولك جمع بَين الْفَاضِل والمفضول فَهَذَا عنْدك وَأما عِنْدهم فَكَانُوا متقاربين وَلِهَذَا كَانُوا فِي الشورى مترددين

فَإِن قلت عَليّ هُوَ الْفَاضِل وَعُثْمَان الْمَفْضُول قيل لَك فَكيف أجمع الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار على تَقْدِيم مفضول وَقَالَ بعض الْعلمَاء من قدم عليا على عُثْمَان فقد أزرى بالمهاجرين وَالْأَنْصَار

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر قَالَ كُنَّا نفاضل على عهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَنَقُول أَبُو بكر ثمَّ عمر ثمَّ عُثْمَان وَفِي لفظ ثمَّ نَدع أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَلَا نفاضل بَينهم

فَهَذَا ينْقل مَا كَانَ عَلَيْهِ الصَّحَابَة على عهد نَبِيّهم وَظهر أثر ذَلِك فَإِنَّهُم بَايعُوا عُثْمَان من غير رَغْبَة وَلَا رهبة وَاتَّفَقُوا عَلَيْهَا وَكَانُوا كَمَا نعتهم الله (يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم) حَتَّى قَالَ ابْن مَسْعُود ولينا أعلانا ذَا فَوق وَلم نأل وَفِيهِمْ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَفِيهِمْ من النُّقَبَاء عبَادَة بن الصَّامِت وَأَمْثَاله وَفِيهِمْ مثل أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ وكل من هَؤُلَاءِ وَمن غَيرهم لَو تكلم بِالْحَقِّ لم يكن هُنَاكَ عذر يسْقطهُ عَنهُ فقد كَانَ يتَكَلَّم من يتَكَلَّم مِنْهُم على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي ولَايَة من يُولى وَهُوَ مُسْتَحقّ للولاية وَلَا يحصل لَهُم ضَرَر وَتكلم طَلْحَة وَغَيره فِي ولَايَة عمر لما اسْتَخْلَفَهُ أَبُو بكر وَتكلم أسيد بن حضير فِي ولَايَة أُسَامَة بن زيد على عهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقد كَانُوا يكلمون عمر فِيمَن يوليه ويعزله وَعُثْمَان بعد ولَايَته وَقُوَّة شوكته وَكَثْرَة أنصاره وَظُهُور بني أُميَّة كَانُوا يكلمونه فِيمَن يوليه وَيُعْطِيه مِنْهُم وَمن غَيرهم

ثمَّ فِي آخر الْأَمر لما

ص: 368

اشتكوا من بَعضهم عَزله وَلما اشتكوا من بعض من يَأْخُذ بعض المَال مَنعه فأجابهم إِلَى مَا طلبوه من عزل وَمنع من المَال وهم أَطْرَاف من النَّاس وَهُوَ فِي عزة ولَايَته فَكيف لَا يسمع كَلَام الصَّحَابَة أئمتهم وكبرائهم مَعَ عزتهم وقوتهم لَو تكلمُوا فِي ولَايَة عُثْمَان وَكَانَ فِي ولَايَته من الفتوحات والخيرات مَا لَا يُوصف

وَمَا حصل مِنْهُ من تأمير أَقَاربه وإكثار جوائزهم فقد حصل بعده من غَيره من إِيثَار بَعْص النَّاس بِولَايَة أَو مَال مُضَافا إِلَى مَا جرى من الْفِتْنَة

وَالصَّحَابَة مَا كَانُوا يسكتون كلهم على مضض أَلا تراهم تكلمُوا فِي عمر إِذْ اسْتَخْلَفَهُ أَبُو بكر وَتَكَلَّمُوا مَعَ الصّديق وَقَالُوا مَاذَا تَقول لِرَبِّك إِذا وقدمت عَلَيْهِ وَقد وليت علينا عمر فظا غليظا فَقَالَ أبالله ترهبونني أَقُول وليت عَلَيْهِم خير أهلك

قَالُوا هَذَا وَمن شَأْن النَّاس أَن يراعوا من ترشح للولاية فيحابونه خوفًا من أَن ينْتَقم بعد مِنْهُم فَكيف يحابون عُثْمَان وَهُوَ بعد مَا بِيَدِهِ أَمر فَدلَّ على أَنهم إِنَّمَا قدموه بإستحقاق

وَهَذَا شَيْء إِذا تدبره الْخَبِير إزداد بِهِ بَصِيرَة وعلما فَأَما الْجَاهِل وَصَاحب الْهوى فقد أعمى الله قلبه واما من كَانَ عَالما بِمَا وَقع وَهُوَ مستحضر للأدلة عَالم بطريقة النّظر فَإِنَّهُ يقطع بِمَا بَيناهُ

ص: 369

ثمَّ قَالَ وَطعن فِي كل وَاحِد مِمَّن إختاره للشورى وَأظْهر أَنه يكره أَن يتقلد أَمر الْمُسلمين بعد مَوته ثمَّ تقلده بِأَن جعل الْإِمَامَة فِي سِتَّة

فَيُقَال لم يطعن فيهم طعن من يرى غَيرهم أَحَق بِالْأَمر وَإِنَّمَا بَين عذره فِي عدم التَّعْيِين

ثمَّ قَالَ فناقض وَجعلهَا فِي أَرْبَعَة ثمَّ فِي ثَلَاثَة ثمَّ فِي وَاحِد

فَجعل إِلَى ابْن عَوْف الإختيار بعد أَن وَصفه بالضعف

فَيُقَال يَنْبَغِي لمن احْتج بالمنقول أَن يُثبتهُ أَولا

وَالثَّابِت فِي البُخَارِيّ لَيْسَ فِيهِ من هَذَا شَيْء بل فِيهِ مَا يدل على نقيض هَذَا وَأَن السِّتَّة هم الَّذين ردوا الْأَمر إِلَى الثَّلَاثَة ثمَّ الثَّلَاثَة جعلُوا الإختيار إِلَى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف بلَى قَالَ عمر فَإِن أَصَابَت سَعْدا الْخلَافَة وَإِلَّا فليستعن بِهِ من ولى فَإِنِّي لم أعزله عَن عجز وَلَا خِيَانَة

ثمَّ قَالَ أوصى الْخَلِيفَة من بعدِي بتقوى الله

وأوصيه بالمهاجرين الْأَوَّلين

ص: 370

الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ أَن يعرف لَهُم حَقهم وَأَن يحفظ لَهُم حرمتهم وَذكر الحَدِيث وَكَانَ عمر فِي حَيَاته لَا يخَاف أحدا

والرافضة تسميه فِرْعَوْن هَذِه الْأمة قَاتلهم الله

فَإِذا كَانَ فِي حَيَاته لَا يخَاف أحدا فَكيف يخَاف من تَقْدِيم عُثْمَان لَو أَرَادَ أَن يقدمهُ عِنْد مَوته وَالنَّاس كلهم مطيعوه وَأي غَرَض يكون لعمر فِي عُثْمَان دون عَليّ فقد أخرج من الْأَمر ابْنه وَلم يدْخل سعيد بن زيد فِي أهل الشورى وَهُوَ أقرب النَّاس إِلَيْهِ فلأي شَيْء يحابي كَمَا افتريتم عَلَيْهِ وَهُوَ فِي تِلْكَ الْحَال وَفِي آخر سَاعَة من الدُّنْيَا وَقت يسلم فِيهِ الْكَافِر ويخشع فِيهِ الْفَاجِر

فَلَو علم أَن لعَلي حَقًا دون غَيره بِنَصّ أَو بأولوية لقدمه تَوْبَة إِلَى الله أَو ابْتِغَاء رضوَان الله

وَلَيْسَ فِي الْعَادة أَن الرجل يفعل عِنْد لِقَاء الله مَا يعلم أَنه يُعَاقب عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَنْفَعهُ فِي دين وَلَا دنيا

وَلَو قدر أَنه كَانَ عدوا مبغضا للرسول فَلَا ريب أَنه بِسَبَب النَّبِي صلى الله عليه وسلم نَالَ من السَّعَادَة مَا نَالَ

ثمَّ إِن عمر كَانَ من أذكى خلق الله تَعَالَى ودلايل النُّبُوَّة من اظهر الْأُمُور فَهُوَ يعلم أَنه إِن اسْتمرّ على معاداته يعذب فِي الْآخِرَة وَلَيْسَ لَهُ وَقت الْمَوْت غَرَض فِي ولَايَة عُثْمَان وَنَحْوه فَكيف استفرغ وَسعه فِي عَدَاوَة بَيت نَبِي الله وَابْن عَمه وَهُوَ الَّذِي لزم الْعَيْش الخشن وَالثَّوْب القطني وَالصَّبْر على الْعدْل وَعَن جمع الْأَمْوَال وعَلى مجافاة الْأَشْرَاف بِحَيْثُ أَنه قد تَركه الْحق وَمَا لَهُ من صديق

ثمَّ نقُول على مَا زعمت لَوْلَا عَليّ لهلك عمر قَالَ أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ مَا دَار الْفلك على شكل عمر وَصدق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِذْ يَقُول لعمر مَا لقيك الشَّيْطَان سالكا فجا إِلَّا سلك غير فجك

وَأمر أَمِير الْمُؤمنِينَ عمر أبين من الشَّمْس

ص: 371

وَمَا زَالَ بَنو هَاشم وَبَنُو أُميَّة متفقين فِي أَيَّام النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَفِي إمرة الشَّيْخَيْنِ حَتَّى إِن أَبَا سُفْيَان لما خرج من مَكَّة عَام الْفَتْح يكْشف الْخَبَر وَرَآهُ الْعَبَّاس أَخذه وأركبه خَلفه وأتى بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَطلب من النَّبِي أَن يشرفه بِشَيْء لما قَالَ لَهُ إِن أَبَا سُفْيَان يحب الشّرف

وكل هَذَا من محبَّة الْعَبَّاس لأبي سُفْيَان وَبني أُميَّة إِذْ القبيلان من بني عبد منَاف وَحَتَّى إِنَّه كَانَ بَين عَليّ وَبَين رجل من الْمُسلمين مُنَازعَة فِي حد فَخرج عُثْمَان فِي موكب فيهم مُعَاوِيَة ليقفوا على الْحَد فابتدر مُعَاوِيَة وَسَأَلَ عَن معلم من معالم الْحَد هَل كَانَ هَذَا على عهد عمر فَقَالُوا نعم فَقَالَ لَو كَانَ هَذَا ظلما لغيره عمر

فانتصر مُعَاوِيَة لعَلي فِي تِلْكَ الْحُكُومَة وَلم يكن عَليّ حَاضرا بل كَانَ وَقد وكل ابْن جَعْفَر وَكَانَ عَليّ يَقُول إِن للخصومات قحما وَإِن الشَّيْطَان يحضرها وَكَانَ قد وكل عَنهُ عبد الله بن جَعْفَر فِي المحاكمة وَبِهَذَا احْتج الشَّافِعِي وَغير وَاحِد من الْفُقَهَاء على جَوَاز التَّوْكِيل فِي الْخُصُومَة بِدُونِ إختيار الْخصم كَمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي وَأَصْحَاب أَحْمد وَأحد الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَب أبي حنيفَة

فَلَمَّا رجعُوا ذكرُوا ذَلِك لعَلي فَقَالَ أَتَدْرِي لم فعل ذَلِك مُعَاوِيَة فعل لأجل المنافية أَي لأجل أَنا جَمِيعًا من بني عبد منَاف

وَكَانَت قد وَقعت حُكُومَة شاورني فِيهَا بعض قُضَاة الْقُضَاة وأحضر لي كتابا فِيهِ هَذِه الْحُكُومَة وَلم يعرفوا هَذِه اللَّفْظَة لَفْظَة المنافية فبينتها لَهُم وفسرت لَهُم مَعْنَاهَا

وَالْمَقْصُود أَن بني عبد منَاف كَانُوا متفقين فِي أول الْأَمر على عهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأبي بكر وَعمر

ثمَّ إِن عليا وَعُثْمَان إتفقا على رد الإختيار إِلَى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف من غير أَن يكره أَحدهمَا الآخر

وقولك إِن عمر علم أَن عبد الرَّحْمَن لَا يعدل عَن أَخِيه وَابْن

ص: 372

عَمه فَهَذَا كذب بَارِد وَجَهل بِالنّسَبِ إِذْ عبد الرَّحْمَن لَيْسَ أَخا لعُثْمَان وَلَا ابْن عَم وَلَا هُوَ من قبيلته أصلا وَبَنُو زهرَة إِلَى بني هَاشم أميل فَإِنَّهُم أخوال النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقد جَاءَ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي سعد هَذَا خَالِي

بلَى سعد زهري من قَبيلَة ابْن عَوْف فَهَلا آثره بهَا

ثمَّ قلت إِنَّه أَمر بِضَرْب أَعْنَاقهم إِن تَأَخَّرُوا عَن الْبيعَة ثَلَاثَة أَيَّام قُلْنَا أَيْن النَّقْل الثَّابِت بِهَذَا إِنَّمَا الْمَعْرُوف أَنه أَمر الْأَنْصَار أَن لَا يفارقوهم حَتَّى يبايعوا وَاحِدًا مِنْهُم

أَو كَانَ عمر يَأْمر بقتل سِتَّة هم عِنْده أفضل أهل الأَرْض ثمَّ كَيفَ يطيعه أنصار رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بعد مَوته فِي قَتلهمْ وَلَو أَمر بِقَتْلِهِم لذكر بعد مَوْتهمْ من يصلح لَهَا غَيرهم

ثمَّ أَيْضا من الَّذِي يتَمَكَّن من قتل هَؤُلَاءِ الَّذين كل وَاحِد مِنْهُم سيد عشيرته فَأَنت قد رَأَيْت مَا جرى فِي الْوُجُود بقتل وَاحِد مِنْهُم وَهُوَ عُثْمَان

ثمَّ لَو فَرضنَا أَن السِّتَّة لم يَقُول أحد مِنْهُم فَلم يجز قَتلهمْ بل وَلَا جَازَ قتل وَاحِد مِنْهُم وَإِنَّمَا يُولى غَيرهم

وَلَا سمعنَا فِي الْعَالم أَن أحدا امْتنع من الْخلَافَة فَقتل

فَتبين أَن هَذَا كذب

ثمَّ الْعجب من الرافصة يَزْعمُونَ أَن السِّتَّة مستحقو الْقَتْل سوى عَليّ

ثمَّ الْعجب أَنه يجابيهم بِالْولَايَةِ ثمَّ يَأْمر بِقَتْلِهِم وَكَذَا فَلْيَكُن الْجمع بَين الضدين ثمَّ قد تخلف سعد بن عبَادَة عَن بيعَة أبي بكر وَلم يضربوه وَلَا حبسوه فضلا عَن الْقَتْل

وتربص عَليّ عَن الْبيعَة مُدَّة وَلم يقل لَهُ أَبُو بكر شَيْئا حَتَّى جَاءَ وَبَايَعَهُ وَلم يكرههُ أحد وَمَا زَالَ أَبُو بكر يُكرمهُ ويجله وَكَذَلِكَ عَامله عمر

وَيَقُول أَبُو بكر أَيهَا النَّاس ارقبوا مُحَمَّدًا فِي أهل بَيته

وَيذْهب أَبُو بكر وَحده إِلَى بَيت عَليّ وَعِنْده بَنو هَاشم فيذكر فَضلهمْ ويعترفون بإستحقاقه الْخلَافَة وَلَو أَرَادَ هُوَ أَو عمر إِيذَاء عَليّ فِي خِلَافَتهمَا لكانا أقدر على ذَلِك من صرف الْأَمر عَنهُ بعد موت النَّبِي صلى الله عليه وسلم ولكنهما أتقى لله من ذَلِك

فَهَؤُلَاءِ

ص: 373

الجهلة يَزْعمُونَ أَنَّهُمَا ظلماه فِي حَال كَانَ فِيهَا أقدر على دفع الظُّلم عَن نَفسه وَكَانَا أعجز عَن ظلمه لَو شاءاه فَهَلا ظلماه فِي قوتهما وَطَاعَة الْخلق لَهما كَمَا جرت عَادَة الْمُلُوك من الْفِعْل بِمن يخَافُونَ مِنْهُ وَلَو أَرَادَا ذَلِك لما عَجزا ولكان أسهل عَلَيْهِمَا من مَنعه إبتداء مَعَ وجود النَّص بزعمكم بل مَا زَالا يعاملانه بالجميل بِكُل طَرِيق وَلم يحفظ عَنهُ كلمة سوء فِي حَقّهمَا وَلَا تظلم مِنْهُمَا أبدا بل تَوَاتر عَنهُ محبتهما وإجلالهما ظَاهرا وَبَاطنا وَهَذَا أَمر مَعْرُوف عِنْد من يدْرِي الْأَمر وَيعرف الْأَخْبَار

أما من رَجَعَ إِلَى الأكاذيب وبهتان الرافضة الَّذين هم أَجْهَل الْأمة بالمنقولات وَأبْعد النَّاس عَن معرفَة الْأَثر وأنقلهم للكذب المستحيل المتناقض الَّذِي لَا يروج إِلَّا على الْبَهَائِم كترويج قصاص الطرقية على الْعَوام وَأهل الْقرى والجبل وَأهل الْبَادِيَة فَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه

قَالَ وَأما عُثْمَان فَإِنَّهُ ولي من لَا يصلح حَتَّى ظهر من بَعضهم الْفسق والخيانة وَقسم الولايات بَين أَقَاربه وَعُوتِبَ فَلم يرجع وَاسْتعْمل الْوَلِيد بن عقبَة فصلى بِالنَّاسِ سَكرَان وَاسْتعْمل سعيد بن الْعَاصِ على الْكُوفَة فَظهر مِنْهُ مَا أدّى إِلَى إِخْرَاجه

ص: 374

مِنْهَا وَولي عبد الله بن سعد بن أبي سرح مصر فظلم وتشكوا

ص: 375

مِنْهُ فكاتبه سرا أَن يسْتَمر على ولَايَته وَأَن يقتل مُحَمَّد بن أبي

ص: 376

بكر

وَولي مُعَاوِيَة الشَّام فأحدث من الْفِتَن مَا أحدث

ص: 377

وَولي عبد الله بن عَامر بن كريز الْبَصْرَة فَفعل من المناكر مَا فعل وَولي مَرْوَان وَدفع إِلَيْهِ خَاتمه فَحدث من ذَلِك قَتله

وَكَانَ يُؤثر أَهله بالأموال الْكَثِيرَة حَتَّى دفع

ص: 378

إِلَى أَرْبَعَة زوجهم بَنَاته أَرْبَعمِائَة ألف دِينَار

وَكَانَ ابْن مَسْعُود يطعن عَلَيْهِ وَيكفر وَلما حكم ضربه حَتَّى مَاتَ وَضرب عمارا حَتَّى صَار بِهِ فتق وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عمار جلدَة بَين عَيْني تقتله الفئة الباغية لَا أنالهم الله شَفَاعَتِي وَكَانَ عمار يطعن عَلَيْهِ

وطرد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الحكم عَم عُثْمَان فآواه عُثْمَان إِلَى الْمَدِينَة وَنفي أَبَا ذَر إِلَى الربذَة وضربه مَعَ قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا أقلت الغبراء وَلَا أظلت الخضراء على ذِي لهجة أصدق من أبي ذَر

وضيع الْحُدُود فَلم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَرَادَ

ص: 380

أَن لَا يحد الْوَلِيد على الْخمر حَتَّى حَده عَليّ وَقَالَ لَا يبطل حد الله وَأَنا حَاضر

وَزَاد الْأَذَان يَوْم الْجُمُعَة وَهِي بِدعَة وَخَالفهُ الْمُسلمُونَ حَتَّى قتل وعابوا أَفعاله وَقَالُوا لَهُ غبت عَن بدر وهربت يَوْم أحد وَلم تشهد بيعَة الرضْوَان

وَالْأَخْبَار فِي ذَلِك أَكثر من أَن تحصى

ص: 381

وَالْجَوَاب أَن نواب عَليّ قد خانوه وعصوه أَكثر مِمَّا خَان عُمَّال عُثْمَان لَهُ وعصوه وَذهب بَعضهم إِلَى مُعَاوِيَة

وَقد ولي عَليّ رضي الله عنه زِيَاد بن أبي سُفْيَان أَبَا عبيد الله بن زِيَاد قَاتل الْحُسَيْن وَولي الأشتر وَولي مُحَمَّد بن أبي بكر وَمُعَاوِيَة خير من هَؤُلَاءِ كلهم

وَمن الْعجب أَن الشِّيعَة يُنكرُونَ على عُثْمَان مَا يدعونَ أَن عليا كَانَ أبلغ فِيهِ من عُثْمَان فَيَقُولُونَ إِن عُثْمَان ولي أَقَاربه من بني أُميَّة وَعلي ولي أَقَاربه من قبل أَبِيه وَأمه كَعبد الله وَعبيد الله ابْني عَمه الْعَبَّاس وَقثم بن الْعَبَّاس وثمامة ابْن الْعَبَّاس

وَولي على مصر ربيبه مُحَمَّد بن أبي بكر الَّذِي رباه فِي حجره وَولد أُخْته أم هَانِيء ثمَّ إِن الإمامية تَدعِي أَن عليا نَص على أَوْلَاده فِي الْخلَافَة

وَمن الْمَعْلُوم أَنه إِن كَانَ تَوْلِيَة الْأَقْرَبين مُنْكرا فتولية الْخلَافَة الْعُظْمَى أعظم من إِمَارَة بعض الْأَعْمَال وتولية الْأَوْلَاد أقرب إِلَى الْإِنْكَار من تَوْلِيَة بني الْعم وَإِذا دعى لعَلي الْعِصْمَة وَنَحْوهَا مِمَّا يقطع عَنهُ أَلْسِنَة الطاعنين كَانَ مَا يَدعِي لعُثْمَان من الإجتهاد الَّذِي يقطع أَلْسِنَة الطاعنين أقرب إِلَى الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول

وَأما عُثْمَان فَلهُ أُسْوَة فِي إستعمال بني أُميَّة بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقد اسْتعْمل عتاب بن أسيد الْأمَوِي على مَكَّة وَأَبا سُفْيَان على نَجْرَان وَاسْتعْمل خَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ حَتَّى إِنَّه اسْتعْمل الْوَلِيد بن عقبَة حَتَّى نزلت (إِن

ص: 382

جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ) الْآيَة فَيَقُول عُثْمَان أَنا لم أسْتَعْمل إِلَّا من اسْتَعْملهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَمن جنسهم وَمن قبيلتهم وَكَذَلِكَ أَبُو بكر وَعمر بعده فقد ولى أَبُو بكر يزِيد بن أبي سُفْيَان بن حَرْب فِي فتوح الشَّام وَأقرهُ عمر ثمَّ ولي عمر بعده أَخَاهُ مُعَاوِيَة

وَهَذَا النَّقْل عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي إستعمال هَؤُلَاءِ ثَابت مَشْهُور عَنهُ بل متواتر عِنْد أهل الْعلم فَكَانَ الإحتجاج على جَوَاز الإستعمال من بني أُميَّة بِالنَّصِّ الثَّابِت عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أظهر عِنْد كل عَاقل من دَعْوَى كَون الْخلَافَة فِي وَاحِد معِين من بني هَاشم بِالنَّصِّ لِأَن هَذَا كذب بإتفاق أهل الْعلم بِالنَّقْلِ وَذَاكَ صدق بإتفاق أهل الْعلم بِالنَّقْلِ وَأما بَنو هَاشم فَلم يسْتَعْمل النَّبِي صلى الله عليه وسلم مِنْهُم إِلَّا عليا على الْيمن وجعفر على غَزْوَة مُؤْتَة مَعَ مَوْلَاهُ زيد وَابْن رَوَاحَة

ثمَّ نَحن لَا ندعي أَن عُثْمَان مَعْصُوم بل لَهُ ذنُوب وخطايا يغفرها الله لَهُ وَقد بشره رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِالْجنَّةِ على بلوى تصيبه

والرافضة يغلو فِي الشَّخْص حَتَّى يَجْعَل ذنُوبه حَسَنَات ويعمد إِلَى الشَّخْص فينسى سوابقه الَّتِي وَجَبت لَهُ بهَا الْجنَّة ويعدد ذنُوبه وَهَذَا عين الظُّلم

وَقد اتّفقت الْأمة على أَن الذُّنُوب تمحى بِالتَّوْبَةِ وَمَا يُمكن أحدا أَن يَقُول إِن عُثْمَان مَا تَابَ من ذنُوبه

وَهنا آيَات وَأَحَادِيث دَالَّة على أَن الله يغْفر الذُّنُوب جَمِيعًا وَأَن الصَّلَوَات تكفر وَغير ذَلِك

فَإِن قيل إِذا كفرت الصَّلَوَات مَا بَينهَا فَأَي شَيْء تكفر الْجُمُعَة أَو رَمَضَان أَو صَوْم عَرَفَة أَو عَاشُورَاء وَبَعض النَّاس يُجيب عَن هَذَا بِأَنَّهُ يكْتب لَهُم دَرَجَات إِذا لم تَجِد مَا تكفره من السَّيِّئَات

فَيُقَال أَولا الْعَمَل الَّذِي يمحو الله بِهِ الْخَطَايَا هُوَ المتقبل وَالله يَقُول (إِنَّمَا يتَقَبَّل الله من الْمُتَّقِينَ) وَالنَّاس لَهُم فِي الْآيَة ثَلَاثَة أَقْوَال فالخوارج والمعتزلة يَقُولُونَ لَا يتَقَبَّل الله إِلَّا من اتَّقى الْكَبَائِر وَيَقُولُونَ صَاحب الْكَبَائِر لَا تقبل لَهُ حَسَنَة بِحَال

والمرجئة يَقُولُونَ من

ص: 383

اتقِي الشّرك فَهُوَ من الْمُتَّقِينَ وَإِن عمل الْكَبَائِر وَترك الصَّلَاة

وَالسَّلَف وَالْأَئِمَّة يَقُولُونَ لَا يتَقَبَّل الله إِلَّا مِمَّن اتَّقَاهُ فِي ذَلِك الْعَمَل فَفعله كَمَا أَمر بِهِ مخلصا

قَالَ الفضيل بن عِيَاض فِي قَوْله (ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا) قَالَ أخلصه وأصوبه

قَالَ فَإِن الْعَمَل إِذا كَانَ خَالِصا وَلم يكن صَوَابا لم يتَقَبَّل وَإِذا كَانَ صَوَابا لم يكن خَالِصا لم يتَقَبَّل والخالص أَن يكون لله وَالصَّوَاب أَن يكون على السّنة

وَفِي السّنَن عَن عمار عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن الرجل لينصرف من صلَاته وَلم يكْتب لَهُ إِلَّا نصفهَا إِلَّا ثلثهَا إِلَّا ربعهَا حَتَّى قَالَ إِلَّا عشرهَا

وَقَالَ ابْن عَبَّاس لَيْسَ لَك من صَلَاتك إِلَّا مَا عقلت مِنْهَا

وَكَذَلِكَ الْحَج وَالْجهَاد وَالصَّوْم

فالمحو والتكفير يَقع بِمَا يتَقَبَّل والسعيد من أَكثر النَّاس من يكْتب لَهُ نصف صلَاته فيكفر بِمَا يقبل مِنْهَا وَمَا يقبل من الْجُمُعَة ورمضان

والمحو يكون للصغائر تَارَة وَتارَة للكبائر بإعتبار الموازنة

وَفِي حَدِيث صَاحب البطاقة أَنَّهَا ترجح بِكُل ذنُوبه فَهَذِهِ حَال من قَالَهَا بإخلاص وَصدق وعبودية وذل كَمَا قَالَهَا هَذَا الرجل وَإِلَّا فَأهل الْكَبَائِر الَّذين دخلُوا النَّار كلهم كَانُوا يَقُولُونَهَا

وَكَذَلِكَ الْمَرْأَة الْبَغي الَّتِي سقت الْكَلْب بموقها بِإِيمَان خَالص فغفر لَهَا وَمَا كل بغي سقت كَلْبا يغْفر لَهَا بذلك

وَإِن الرجلَيْن ليكونان فِي الصَّلَاة وَبَين صلاتهما كَمَا بَين الْمشرق وَالْمغْرب

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي أَصْحَابه لَو أنْفق أحدكُم مثل أحد ذَهَبا مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه

وَقَالَ أَبُو بكر بن عَيَّاش

مَا سبقهمْ

ص: 384

الصّديق بِكَثْرَة صَلَاة وَلَا صِيَام وَلَكِن بِشَيْء وقر فِي قلبه

وَفِي مُسلم عَن أبي مُوسَى عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه رفع رَأسه إِلَى السَّمَاء فَقَالَ النُّجُوم أَمَنَة للسماء فَإِذا ذهبت النُّجُوم أَتَى السَّمَاء مَا توعد

وَأَنا أَمَنَة لِأَصْحَابِي فَإِذا ذهبت أَتَى أَصْحَابِي مَا يوعدون

وأصحابي أَمَنَة لأمتي فَإِذا ذهب أَصْحَابِي أَتَى أمتِي مَا يوعدون

وَفِي الصَّحِيح قَالَ صلى الله عليه وسلم ليَأْتِيَن على النَّاس زمَان يَغْزُو فِيهِ فِئَام من النَّاس فَيُقَال هَل فِيكُم من صحب النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَيُقَال نعم

فَيفتح لَهُم

ثمَّ يَأْتِي على النَّاس زمَان يَغْزُو فِيهِ فِئَام من النَّاس فَيُقَال هَل فِيكُم من رأى أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُونَ نعم

فَيفتح لَهُم

وَالثَّلَاث الطَّبَقَات مُتَّفق عَلَيْهَا فِي جَمِيع الطّرق وَأما الطَّبَقَة الرَّابِعَة فمذكورة فِي بعض طرق الصَّحِيح

وَقد ثَبت ثَنَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم على الْقُرُون الثَّلَاثَة فِي عدَّة أَحَادِيث

وَالْمَقْصُود أَن فضل الْأَعْمَال لَيْسَ بِمُجَرَّد صورها بل بحقائقها فِي الْقُلُوب

وَالنَّاس يتفاضلون فِي ذَلِك تفاضلا عَظِيما وَهَذَا مِمَّا يحْتَج بِهِ من رجح كل وَاحِد من الصَّحَابَة على كل وَاحِد مِمَّن بعدهمْ فَإِن الْعلمَاء متفقون على أَن جملَة الصَّحَابَة أفضل من جملَة التَّابِعين لَكِن هَل يفضل كل وَاحِد من الصَّحَابَة على كل وَاحِد مِمَّن بعدهمْ ويفضل مُعَاوِيَة على عمر بن عبد الْعَزِيز ذكر القَاضِي عِيَاض وَغَيره فِي ذَلِك قَوْلَيْنِ وَأَن الْأَكْثَر يفضلون كل وَاحِد من الصَّحَابَة وَهَذَا مأثور عَن ابْن الْمُبَارك وَأحمد بن حَنْبَل وَغَيرهمَا

وَمن حجَّة هَؤُلَاءِ أَن أَعمال التَّابِعين وَإِن كَانَت أَكثر وَعدل عمر بن عبد الْعَزِيز أظهر من عدل مُعَاوِيَة وَهُوَ أزهد من مُعَاوِيَة لَكِن الْفَضَائِل عِنْد الله بحقائق الْإِيمَان الَّذِي فِي الْقُلُوب وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَو أنْفق أحدكُم مثل أحد ذَهَبا مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه

قَالُوا فَنحْن قد نعلم أَن أَعمال بعض من بعدهمْ أَكثر من أَعمال بَعضهم لَكِن من أَيْن نعلم أَن مَا فِي قلبه من الْإِيمَان أعظم مِمَّا فِي قلب ذَلِك وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يخبر أَن جبل ذهب من التَّابِعين الَّذين أَسْلمُوا بعد الْحُدَيْبِيَة لَا يُسَاوِي نصف مدمن السَّابِقين

وَمَعْلُوم فضل النَّفْع

ص: 385

المتعدى بعمر بن عبد الْعَزِيز أعْطى النَّاس حُقُوقهم وَعدل فيهم فَلَو قدر أَن الَّذِي أَعْطَاهُم ملكه وَقد تصدق بِهِ عَلَيْهِم لم يعدل ذَلِك مِمَّا أنفقهُ السَّابِقُونَ إِلَّا شَيْئا يَسِيرا وَأَيْنَ مثل جبل أحد ذَهَبا حَتَّى يُنْفِقهُ الْإِنْسَان وَهُوَ لَا يصير مثل نصف مد وَلِهَذَا يَقُول من يَقُول من السّلف

غُبَار دخل فِي أنف مُعَاوِيَة مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمل عمر بن عبد الْعَزِيز

وَهَذِه الْمَسْأَلَة تحْتَاج إِلَى بسط وَتَحْقِيق لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه إِذْ الْمَقْصُود هُنَا أَن الله سُبْحَانَهُ مِمَّا يمحو بِهِ السَّيِّئَات الْحَسَنَات وأنة الْحَسَنَات تتفاضل بِحَسب مَا فِي قلب صَاحبهَا من الْإِيمَان وَالتَّقوى وَحِينَئِذٍ فَيعرف أَن من هُوَ دون الصَّحَابَة قد تكون لَهُ حَسَنَات تمحو مثل مَا يذم من أحدهم فَكيف الصَّحَابَة

وَمن أَسبَاب التَّكْفِير الدُّعَاء لِلْمُؤمنِ وَالصَّلَاة عَلَيْهِ بعد مَوته والإستغفار لَهُ أَو إستغفار النَّبِي صلى الله عليه وسلم لمُعين

وَمن ذَلِك مَا يفعل بعد موت الْمُؤمن من إهداء عمل صَالح لَهُ كصدقة وَحج وَصَوْم فقد ثَبت فِي الحَدِيث وُصُول ذَلِك إِلَيْهِ

وَهَذَا غير دُعَاء وَلَده فَإِن ذَلِك من عمله وَمن كَسبه

وَمن ذَلِك مصائب الدُّنْيَا فَإِنَّهَا تكفر كَمَا تَوَاتَرَتْ بذلك النُّصُوص

وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ سَأَلت رَبِّي ثَلَاثًا فَأَعْطَانِي إثنتين وَمَنَعَنِي وَاحِدَة سَأَلته أَن لَا يهْلك أمتِي بِسنة عَامَّة فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلته أَن لَا يُسَلط عَلَيْهِم عدوا من غَيرهم فيجتاحهم فَأَعْطَانِيهَا وَسَأَلته أَن لَا يَجْعَل بأسهم بَينهم فَمَنَعَنِيهَا

وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه لما نزل قَوْله تَعَالَى (قل هُوَ الْقَادِر على أَن يبْعَث عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم) قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أعوذ بِوَجْهِك (أَو من تَحت أَرْجُلكُم) قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أعوذ بِوَجْهِك (أويلبسكم شيعًا وَيُذِيق بَعْضكُم بَأْس بعض) قَالَ هَذَا أَهْون وأيسر

فَهَذَا أَمر لَا بُد مِنْهُ للْأمة عُمُوما

الصَّحَابَة رضي الله عنهم كَانُوا أقل فتنا من سَائِر من بعدهمْ فَإِنَّهُ كلما تاخر الْعَصْر عَن

ص: 386

النُّبُوَّة كثر التَّفَرُّق وَالْخلاف وَلِهَذَا لم يحدث فِي خلَافَة عُثْمَان بِدعَة ظاعرة فَلَمَّا قتل وتفرق النَّاس حدثت بدعتان متقابلتان بِدعَة الْخَوَارِج المكفرين لعَلي وبدعة الرافضة المدعين لإمامته وعصمته أَو نبوته أَو إلاهيته

ثمَّ لما كَانَ فِي آخر عصر الصَّحَابَة فِي إِمَارَة ابْن الزبير وَعبد الْملك حدثت بِدعَة المرجئة والقدرية

ثمَّ لما كَانَ فِي أول عصر التَّابِعين فِي أَوَاخِر الْخلَافَة الأموية حدثت بِدعَة الْجَهْمِية والمشبهة الممثلة

وَلم يكن عَليّ عهد الصَّحَابَة شَيْء من ذَلِك

وَكَذَلِكَ فتن السَّيْف فَإِن النَّاس كَانُوا فِي ولَايَة مُعَاوِيَة رضي الله عنه متفقين يغزون الْعَدو فَلَمَّا مَاتَ مُعَاوِيَة قتل الْحُسَيْن وحوصر ابْن الزبير بِمَكَّة ثمَّ جرت فتْنَة الْحرَّة بِالْمَدِينَةِ ثمَّ لما مَاتَ يزِيد جرت فتْنَة بِالشَّام بَين مَرْوَان وَالضَّحَّاك بمرج راهط ثمَّ وثب الْمُخْتَار على ابْن زِيَاد فَقتله وَجَرت فتْنَة ثمَّ جَاءَ مُصعب بن الزبير فَقتل الْمُخْتَار وَجَرت فتْنَة ثمَّ ذهب عبد الْملك إِلَى مُصعب فَقتله وَجَرت فتْنَة وَأرْسل الْحجَّاج إِلَى ابْن الزبير فحاصره مُدَّة ثمَّ قَتله وَجَرت فتْنَة ثمَّ لما تولى الْحجَّاج الْعرَاق خرج عَلَيْهِ مُحَمَّد بن الْأَشْعَث مَعَ خلق عَظِيم من الْعرَاق وَكَانَت فتْنَة كَبِيرَة

فَهَذَا كُله بعد موت مُعَاوِيَة

ثمَّ جرت فتْنَة ابْن الْمُهلب بخراسان وَقتل زيد بن عَليّ بِالْكُوفَةِ وَقتل خلق كثير آخَرُونَ ثمَّ قَامَ أَبُو مُسلم وَغَيره بخراسان وَجَرت حروب وَفتن يطول وصفهَا

فَلم يكن من مُلُوك الْمُسلمين ملك خيرا من مُعَاوِيَة وَلَا كَانَ النَّاس فِي زمَان ملك من الْمُلُوك خيرا مِنْهُم فِي زمن مُعَاوِيَة إِذا نسبت أَيَّامه إِلَى أَيَّام من بعده

وَأما إِذا نسبت إِلَى أَيَّام أبي بكر وَعمر ظهر التَّفَاضُل

وَمُعَاوِيَة على ذنُوبه لم يَأْتِ بعده مثله ملك

فَعَن قَتَادَة قَالَ لَو أَصْبَحْتُم

ص: 387

فِي مثل عمل مُعَاوِيَة لقَالَ أَكْثَرَكُم هَذَا الْمهْدي

وَقَالَ أَحْمد بن جواس حَدثنَا أَبُو هُرَيْرَة الْمكتب قَالَ كُنَّا عِنْد الْأَعْمَش فَذكرُوا عمر بن عبد الْعَزِيز وعدله فَقَالَ الْأَعْمَش فَكيف لَو أدركتم مُعَاوِيَة قَالُوا فِي حلمه قَالَ لَا وَالله بل فِي عدله

وَقَالَ أَبُو أُسَامَة الثَّقَفِيّ حَدثنَا ثِقَة عَن أبي إِسْحَاق السبيعِي أَنه ذكر مُعَاوِيَة فَقَالَ لَو أدركتموه لقلتم كَانَ الْمهْدي

وروى أَبُو بكر بن عَيَّاش عَن أبي إِسْحَاق قَالَ مَا رَأَيْت بعده مثله

يَعْنِي مُعَاوِيَة

وَقَالَ الْبَغَوِيّ حَدثنَا سُوَيْد بن سعيد حَدثنَا ضمام بن إِسْمَاعِيل عَن أبي قيس قَالَ كَانَ مُعَاوِيَة قد جعل فِي كل قبيل رجلا وَكَانَ رجل منا يكنى أَبَا يحيى يصبح كل يَوْم فيدور على الْمجَالِس هَل ولد فِيكُم اللَّيْلَة ولد هَل حدث اللَّيْلَة حَادث هَل نزل بكم الْيَوْم نَازل قَالَ فَيَقُولُونَ نعم نزل رجل من أهل الْيمن بعياله يسمونه وَعِيَاله فَإِذا فرغ من الْقَبِيل كُله أَتَى الدِّيوَان فأوقع أَسْمَاءَهُم فِي الدِّيوَان

وروى مُحَمَّد بن عَوْف الطَّائِي حَدثنَا أَبُو الْمُغيرَة حَدثنَا ابْن أبي مَرْيَم عَن عَطِيَّة بن قيس قَالَ سَمِعت مُعَاوِيَة ابْن أبي سُفْيَان يَخْطُبنَا يَقُول إِن فِي بَيت مالكم فضلا بعد أعطياتكم وَإِنِّي قاسمه بَيْنكُم فَإِن كَانَ يأتيكم فضل عَاما قَابلا قسمناه عَلَيْكُم وَإِلَّا فَلَا عتبَة عَليّ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَالي وَإِنَّمَا هُوَ مَال الله الَّذِي أَفَاء عَلَيْكُم

وفضائل مُعَاوِيَة فِي حسن السِّيرَة وَالْعدْل وَالْإِحْسَان كَثِيرَة وَفِي الصَّحِيح أَن رجلا قَالَ لإبن عَبَّاس هَل لَك فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ مُعَاوِيَة إِنَّه أوتر بِرَكْعَة قَالَ ابْن عَبَّاس أصَاب إِنَّه فَقِيه

حَدثنَا سعيد بن عبد الْعَزِيز عَن إِسْمَاعِيل بن عبيد الله بن أبي المُهَاجر عَن قيس بن الْحَارِث الصنَابحِي عَن أبي

ص: 388

الدَّرْدَاء قَالَ مَا رَأَيْت أحدا أشبه صَلَاة برَسُول الله صلى الله عليه وسلم من إمامكم هَذَا

يَعْنِي مُعَاوِيَة

فَهَذِهِ شَهَادَة الصَّحَابَة بفقهه وَدينه وَالشَّاهِد بالفقه ابْن عَبَّاس وَبِحسن الصَّلَاة أَبُو الدَّرْدَاء وهما هما

والْآثَار الْمُوَافقَة لهَذَا كَثِيرَة

هَذَا وَمُعَاوِيَة لَيْسَ من السَّابِقين الْأَوَّلين بل قد قيل إِنَّه من مسلمة الْفَتْح وَقيل بل أسلم قبل ذَلِك وَكَانَ يعْتَرف أَنه لَيْسَ من فضلا الصَّحَابَة وَهَذَا سيرته فِي عُمُوم ولَايَته فَإِنَّهُ كَانَ فِي ولَايَته من خُرَاسَان إِلَى بِلَاد أفريقية بالمغرب وَمن قبرص إِلَى الْيمن

وَمَعْلُوم بِإِجْمَاع الْمُسلمين أَنه لَيْسَ قَرِيبا من عُثْمَان وعَلى فضلا عَن أبي بكر وَعمر فَكيف يشبه غير الصَّحَابَة بهم وَهل تُوجد سيرة أحد من الْمُلُوك مثل سيرة مُعَاوِيَة

وَجُمْهُور الصَّحَابَة وساداتهم تَأَخَّرُوا عَن الْفِتْنَة

قَالَ أَيُّوب السجسْتانِي عَن ابْن سِيرِين قَالَ هَاجَتْ الْفِتْنَة وَأَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عشرَة آلَاف فَمَا خف لَهَا مِنْهُم مائَة بل لم يبلغُوا ثَلَاثِينَ

فَهَذَا يَقُوله مُحَمَّد بن سِيرِين مَعَ ورعه الباهر فِي مَنْطِقه

وَقَالَ مَنْصُور بن عبد الرَّحْمَن قَالَ الشّعبِيّ لم يشْهد الْجمل من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم غير عَليّ وعمار وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر فَإِن جَاءُوا بخامس فَأَنا كَذَّاب

كَأَنَّهُ عني من الْمُهَاجِرين السَّابِقين

وَقَالَ عبد الله بن أَحْمد حَدثنَا أبي حَدثنَا أُميَّة بن خَالِد قَالَ قيل لشعبة إِن أَبَا شيبَة روى عَن الحكم عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى قَالَ شهد صفّين من أهل بدر سَبْعُونَ رجلا قَالَ شُعْبَة كذب وَالله ذاكرنا الحكم مَا وجدنَا شهد صفّين من أهل بدر غير خُزَيْمَة بن ثَابت

قلت هَذَا النَّفْي يدل على قلَّة من حضرها

وَمن أَسبَاب النجَاة من النَّار مَا يبتلى بِهِ العَبْد فِي قَبره من الضغطة وسؤال مُنكر وَنَكِير وَمن أهوال الْموقف وكربه وَمن ذَلِك مَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن الْمُؤمنِينَ إِذا

ص: 389

عبروا الصِّرَاط وقفُوا على قنطرة بَين الْجنَّة وَالنَّار فيقتص بَعضهم من بعض فَإِذا هذبوا ونقوا أذن لَهُم فِي دُخُول الْجنَّة

فَهَذِهِ الْأُمُور لَا تفوت كلهَا من الْمُسلمين إِلَّا الْأَقَل فَمَا الظَّن بالصحابة الَّذين هم خير الْقُرُون وَصَحَّ أَن رجلا نَالَ من عُثْمَان عِنْد ابْن عمر وَقَالَ إِنَّه فر يَوْم أحد

فَقَالَ ابْن عمر فقد عَفا الله عَنهُ

قَالَ وَلم يشْهد بَدْرًا

قَالَ إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم اسْتَخْلَفَهُ على بنته وَضرب لَهُ بِسَهْم

قَالَ فَمَا شهد بيعَة الرضْوَان

فَقَالَ إِنَّمَا كَانَت الْبيعَة بِسَبَب عُثْمَان وَقد بَايع النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَنهُ بِيَدِهِ وَيَد النَّبِي صلى الله عليه وسلم خير من يَد عُثْمَان

فعامة مَا يعاب بِهِ الصَّحَابَة إِمَّا تعنت كَهَذا وَهُوَ مَعْفُو عَنهُ وَكثير من ذَلِك مَكْذُوب عَلَيْهِم

وَقَوْلهمْ اسْتعْمل من لَا يصلح قُلْنَا كَانَ مُجْتَهدا فَأَخْطَأَ ظَنّه وَالله يغْفر لَهُ

وَقد كَانَ عبد الله بن سعد ارْتَدَّ ثمَّ جَاءَ مُسلما فَقبل النَّبِي صلى الله عليه وسلم ذَلِك مِنْهُ بعد أَن كَانَ أهْدر دَمه

وَعلي تبين لَهُ من عماله مَا لم يَظُنّهُ فيهم

ثمَّ إِن عُثْمَان لما علم أَن الْوَلِيد سكر طلبه وَحده

وَقَوْلهمْ قسم المَال فِي أَقَاربه قُلْنَا هَذَا غَايَته أَن يكون ذَنبا لَا يُعَاقب عَلَيْهِ فِي الْآخِرَة فَكيف إِذا كَانَ من موارد الإجتهاد لَعَلَّه اجْتهد فَإِن النَّاس تنازعوا فِيمَا

ص: 390

كَانَ للنَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي حَيَاته هَل يسْتَحقّهُ ولي الْأَمر بعده على قَوْلَيْنِ

وَكَذَلِكَ تنازعوا فِي ولي الْيَتِيم هَل لَهُ أَن يَأْخُذ من مَال الْيَتِيم إِذا كَانَ غَنِيا أجرته مَعَ غناهُ وَالتّرْك أفضل أَو التّرْك وَاجِب على قَوْلَيْنِ

وَمن جوز الْأَخْذ من مَال الْيَتِيم مَعَ الْغنى جوزه لِلْعَامِلِ على بَيت مَال الْمُسلمين وَجوزهُ للْقَاضِي وَغَيره من الْوُلَاة

وَمن قَالَ لَا يجوز ذَلِك من مَال الْيَتِيم فَمنهمْ من يجوزه من مَال بَيت المَال كَمَا يجوز لِلْعَامِلِ على الزَّكَاة الْأَخْذ مَعَ الْغنى فَإِن الْعَامِل على الزَّكَاة يجوز لَهُ أَخذ جعالته مَعَ غناهُ

وَولي الْيَتِيم قد قَالَ تَعَالَى فِيهِ (وَمن كَانَ غَنِيا فليستعفف وَمن كَانَ فَقِيرا فَليَأْكُل بِالْمَعْرُوفِ)

وَأَيْضًا فقد ذهب بعض الْفُقَهَاء إِلَى أَن سهم ذَوي الْقُرْبَى هُوَ لقرابة الإِمَام كَمَا قَالَه الْحسن وَأَبُو ثَوْر وَأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعْطي أَقَاربه بِحكم الْولَايَة وَسقط حق ذَوي قرباه بِمَوْتِهِ كَمَا يَقُول ذَلِك كثير من الْعلمَاء كَأبي حنيفَة وَغَيره

ثمَّ لما سقط حَقه بِمَوْتِهِ فحقه السَّاقِط قيل إِنَّه يصرف فِي الكراع وَالسِّلَاح والمصالح كَمَا كَانَ يفعل أَبُو بكر وَعمر

وَقيل إِن هَذَا مِمَّا تَأَوَّلَه عُثْمَان

وَنقل عَن عُثْمَان رضي الله عنه نَفسه أَنه ذكر هَذَا وَأَنه يَأْخُذ بِعَمَلِهِ وَأَن ذَلِك جَائِز وَإِن كَانَ مَا فعله أَبُو بكر وَعمر أفضل فَكَانَ لَهُ الْأَخْذ بِهَذَا وَهَذَا

وَكَانَ يُعْطي أقرباءه مِمَّا يخْتَص بِهِ فَكَانَ يعطيهم لكَوْنهم ذَوي قربى الإِمَام على قَول من

ص: 391

يَقُول ذَلِك

وَبِالْجُمْلَةِ فعامة من تولى الْأَمر بعد عمر كَانَ يخص بعض أَقَاربه إِمَّا بِولَايَة وَإِمَّا بِمَال وَعلي ولي أَقَاربه أَيْضا

وَأما قيام أهل الْكُوفَة على سعيد بن الْعَاصِ حَتَّى أَخْرجُوهُ مِنْهَا فَلَا يدل على ذَنْب وَلَا بُد فَإِن الْقَوْم كَانُوا أعنت شَيْء لأمرائهم حَتَّى قَامُوا على سعيد ونقلوه وَأَيْنَ مثله

وَأما قَوْلك كَاتب ابْن أبي سرح سرا أَن يسْتَمر على ولَايَته خلاف مَا كتب بِهِ من عَزله فَيُقَال هَذَا كذب فقد حلف عُثْمَان أَنه لم يكْتب ذَلِك وَهُوَ الصَّادِق بل قيل إِن مَرْوَان كتب بِغَيْر علمه وَأَنَّهُمْ طلبُوا مَرْوَان ليقتلوه فَامْتنعَ

فَإِن كَانَ قتل مَرْوَان لَا يجوز فقد أصَاب وَإِن كَانَ يجوز وَلَا يجب فقد فعل الْجَائِز وَإِن كَانَ قَتله وَاجِبا فقد اجْتهد وَلم يثبت مَا يجب بِهِ قتل مَرْوَان

وهب أَن هَذَا من ذنُوب عُثْمَان فَمَا ادعينا عصمته وَله سوابق وَهُوَ من الْبَدْرِيِّينَ المغفور لَهُم

وَأما قَوْلك أَمر بقتل مُحَمَّد بن أبي بكر فَهَذَا إفتراء وَمن عرف سيرته وأحواله عرف بطلَان هَذَا فقد سعوا فِي قَتله وَهُوَ كَاف عَنْهُم بِكُل حَال فَكيف يبتديء بقتل مَعْصُوم وَإِن ثَبت أَنه أَمر بقتْله فلمصلحة رَآهَا من دفع شَره

ص: 392

وَأما مُعَاوِيَة فَإِنَّمَا ولاه الشَّام وَاسْتمرّ عَلَيْهَا إِلَى أَن سلم إِلَيْهِ الْحسن الْخلَافَة

وَكَانَ محببا فِي رَعيته لحلمه وَكَرمه وخبرته بالأمور وَهُوَ خير من الأشتر النَّخعِيّ وَمن مُحَمَّد ابْن أبي بكر وَمن عبيد الله بن عمر وَمن أبي الْأَعْوَر السّلمِيّ وَمن بشر بن أَرْطَاة

وَأما ابْن مَسْعُود فَإِنَّهُ بَقِي فِي نَفسه عَلَيْهِ لأجل الْمَصَاحِف إِذْ فوض كتَابَتهَا إِلَى زيد ابْن ثَابت دونه وَجُمْهُور الصَّحَابَة كَانُوا مَعَ عُثْمَان وَكَانَ زيد أحفظ للعرضة الْأَخِيرَة

ص: 393

من غَيره

وَقد انتدبه قبل عُثْمَان أَبُو بكر وَعمر لجمع الْمُصحف فِي الصُّحُف

وَأَيْضًا فَكَانَ ابْن مَسْعُود أنكر على الْوَلِيد بن عقبَة لما شرب الْخمر ثمَّ قدم ابْن مَسْعُود الْمَدِينَة بعد وحادثة عُثْمَان لم تتفق وَعرض عَلَيْهِ عُثْمَان التَّزْوِيج

ثمَّ نقُول بِتَقْدِير أَن يكون ابْن مَسْعُود طعن على عُثْمَان فَلَيْسَ جعل ذَلِك قدحا فِي عُثْمَان بِأولى من جعله قدحا فِي ابْن مَسْعُود بل كل مِنْهُمَا مُجْتَهد وهما بدريان كبيران مغْفُور لَهما والكف عَمَّا شجر بَين السَّابِقين أولى كَمَا قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز تِلْكَ دِمَاء طهر الله يَدي مِنْهَا فأكره أَن أخضب بهَا لساني

وَنقل عَن عمار قَالَ لقد كفر عُثْمَان كفرة صلعاء وَأَن الْحسن بن عَليّ أنكر ذَلِك على عمار

وَكَذَلِكَ نقل عَن عَليّ أَنه قَالَ يَا عمار أتكفر بِرَبّ آمن بِهِ عُثْمَان وَقد علمنَا أَن الرجل الْمُؤمن الْوَلِيّ قد يكفر الرجل الْمُؤمن الْوَلِيّ فيخطيء بذلك وَلَا يقْدَح هَذَا فِي إِيمَان وَاحِد مِنْهُمَا

فقد ثَبت فِي الصَّحِيح أَن أسيد بن حضير قَالَ لسعد بن عبَادَة بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِنَّك مُنَافِق تجَادل عَن الْمُنَافِقين

وَثَبت أَن عمر قَالَ لحاطب دَعْنِي يَا رَسُول الله أضْرب عنق هَذَا الْمُنَافِق فَقَالَ إِنَّه شهد بَدْرًا

وَأما قَوْلك ضرب ابْن مَسْعُود حَتَّى مَاتَ فَهَذَا من أسمج الْكَذِب الْمَعْلُوم

وَقيل إِن عُثْمَان ضرب عمارا وَابْن مَسْعُود فَإِن صَحَّ فَهُوَ إِمَام لَهُ أَن يعزز بإجتهاده أصَاب أَو أَخطَأ

وَقد ضرب عمر أَبَيَا بِالدرةِ لما رأى النَّاس يَمْشُونَ خَلفه وَقَالَ فتْنَة للمتبوع ومذلة للتابع

وَقد شهد عمار أَن عَائِشَة زَوْجَة نَبِي الله فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَقَالَ وَلَكِن الله ابتلاكم بهَا لينْظر إِيَّاه تطيعون أم إِيَّاهَا

فَمَعَ حض عمار النَّاس على قتالها لمصْلحَة شهد

ص: 394

لَهَا بِالْجنَّةِ

وَأما عمار فصح أَنه صلى الله عليه وسلم قَالَ تقتلك الفئة الباغية وَبَاقِي ذَلِك كذب مزِيد فِي الحَدِيث

وَأما قَوْلك وطرد رَسُول الله الحكم وَابْنه من الْمَدِينَة فَنَقُول كَانَ لمروان سبع سِنِين أَو أقل

فَكَمَا كَانَ لَهُ ذَنْب يطرد عَلَيْهِ

ثمَّ لم نَعْرِف أَن أَبَاهُ هَاجر إِلَى الْمَدِينَة حَتَّى يطرد مِنْهَا فَإِن الطُّلَقَاء لَيْسَ فيهم من هَاجر فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح وَلما قدم صَفْوَان بن أُميَّة مُهَاجرا أمره النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِالرُّجُوعِ إِلَى مَكَّة

وقصة طرد الحكم لَيْسَ لَهَا إِسْنَاد نَعْرِف بِهِ صِحَّتهَا فَإِن كَانَ قد طرده فَإِنَّمَا طرده من مَكَّة لَا من الْمَدِينَة وَلَو طرده من الْمَدِينَة لَكَانَ يُرْسِلهُ إِلَى مَكَّة

وَقَالَ طعن كثير من أهل الْعلم فِي نَفْيه وَقَالُوا هُوَ ذهب بإختياره

والطرد هُوَ النَّفْي وَالنَّفْي قد جَاءَت بِهِ السّنة فِي الزَّانِي وَفِي المخنثين وَكَانُوا يعزرون بِالنَّفْيِ

وَإِذا كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد عزّر رجلا بِالنَّفْيِ لم يلْزم أَن يبْقى منفيا طول الزَّمَان فَإِن هَذَا لَا يعرف فِي شَيْء من الذُّنُوب وَلم تأت الشَّرِيعَة بذنب يبْقى صَاحبه منفيا دَائِما بل غَايَة النَّفْي الْمُقدر سنة وَالزَّانِي وَلَو كَانَ صحابيا مُجَاهدًا فيعزر بِالنَّفْيِ سنة

وَيعلم قطعا أَن عُثْمَان مَا أذن للْحكم فِي إتْيَان الْمَدِينَة مَعْصِيّة للرسول وَلَا مراغمة لِلْإِسْلَامِ

بل رأى أَنه قد صلح حَاله فَلَعَلَّ هَذَا خطأ من الإجتهاد أَو صَوَاب

ص: 395

وَكَانَ مَرْوَان على هناته مُسلما ظَاهرا وَبَاطنا يقْرَأ الْقُرْآن ويتفقه فَلَا ذَنْب لعُثْمَان فِي إتخاذه كَاتبا ثمَّ بَدَت مِنْهُ أُمُور

وَأما أَبُو ذَر فَثَبت عَن عبد الله بن الصَّامِت قَالَ قَالَت أم ذَر وَالله مَا سير عُثْمَان أَبَا ذَر إِلَى الربذَة وَلَكِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ إِذا بلغ الْبناء سلعا فَأخْرج مِنْهَا

وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ معَاذ الله أَن يكون أخرجه عُثْمَان

وَلَا ريب أَن أَبَا ذَر كَانَ صَالحا زاهدا وَكَانَ مذْهبه بذل مَا فضل عَن الْحَاجة وَأَن إِمْسَاكه كنز يكوى بِهِ صَاحبه وَيَتْلُو (وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله فبشرهم بِعَذَاب أَلِيم

يَوْم يحمى عَلَيْهَا فِي نَار جَهَنَّم فتكوى بهَا جباههم وجنوبهم وظهورهم هَذَا مَا كنزتم لأنفسكم فَذُوقُوا مَا كُنْتُم تكنزون) وَيذكر قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَا أَبَا ذَر مَا أحب أم أحدا ذَهَبا يمْضِي عَليّ ثَالِثَة وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَار وَقَوله الْأَكْثَرُونَ هم الأقلون يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا من قَالَ بِالْمَالِ هَكَذَا وَهَكَذَا وَلما توفّي عبد الرَّحْمَن بن عَوْف

ص: 396

وَحلف مَالا عد ذَلِك أَبُو ذَر من الْكَنْز الَّذِي يُعَاقب عَلَيْهِ وَعُثْمَان يناظره فِي ذَلِك حَتَّى دخل كَعْب فَوَافَقَ عُثْمَان فَضَربهُ أَبُو ذَر

وَكَانَ قد وَقع بَينه وَبَين مُعَاوِيَة بِالشَّام أَيْضا بِهَذَا السَّبَب

وَأما سَائِر الْأمة فعلى خلاف رأى أبي ذَر وَقَالُوا الْكَنْز مَا لم يزك

وَقد قسم الله الْمَوَارِيث فِي كِتَابه وَلَا يكون الْمِيرَاث إِلَّا لمن خلف مَالا

وَقد كَانَ خلق من الصَّحَابَة لَهُم مَال على عهد النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَمَا أنكر عَلَيْهِم

وَكَانَ جمَاعَة من الْأَنْبِيَاء لَهُم المَال

وَتوسع أَبُو ذَر فِي الْإِنْكَار حَتَّى نَهَاهُم عَن الْمُبَاح ثمَّ اعتزلهم وَكَانَ مُؤمنا فِيهِ ضعف كَمَا قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِنِّي أَرَاك ضَعِيفا وَإِنِّي أحب لَك مَا أحب لنَفْسي لَا تأمرن على إثنين وَلَا تولين على مَال يَتِيم وَقَالَ أَيْضا الْمُؤمن الْقوي خير وَأحب إِلَى الله من الْمُؤمن الضَّعِيف وَفِي كل خير فَأهل الشورى أقوياء بِالنِّسْبَةِ إِلَى أبي ذَر وهم أفضل مِنْهُ

وَأما قَوْلك ضيع الْحُدُود فَلم يقتل عبيد الله بن عمر بالهرمزان مولى عَليّ قُلْنَا هَذَا كذب لم يكن مولى عَليّ وَإِنَّمَا أسره الْمُسلمُونَ فَمن عَلَيْهِ عمر وَأعْتقهُ وَأسلم

وَلَا سعى لعَلي فِي رقّه وَلَا فِي عتقه

وَذكر لِعبيد الله بن عمر أَنه رؤى عِنْد الهرمزان حِين قتل وَكَانَ الهرمزان مِمَّن اتهمَ بالمعاونة على قتل عمر وَهَذَا ابْن عَبَّاس يَقُول لعمر

ص: 397

إِذْ قَالَ لَهُ كنت أَنْت وَأَبُوك تحبان أَن تكتر العلوج بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ أنقتلهم قَالَ كذبت أبعد أَن تكلمُوا بلسانكم وصلوا إِلَى قبلتكم فَهَذَا ابْن عَبَّاس مَعَ فقهه يسْتَأْذن عمر فِي قتل العلوج لما اتهموهم بِالْفَسَادِ فَكيف لَا يعْتَقد عبيد الله جَوَاز قتل الهرمزان فَلَمَّا قَتله وبويع عُثْمَان اسْتَشَارَ النَّاس فِي قَتله فَأَشَارَ عَلَيْهِ عدَّة فِي أَن لَا يقْتله وَقَالُوا قتل أَبوهُ بالْأَمْس وَيقتل هُوَ الْيَوْم فَيكون فِي هَذَا فَسَاد

وَكَأَنَّهُم وَقعت لَهُم شُبْهَة فِي عصمَة الهرمزان وَلَو قدر أَنه مَعْصُوم الدَّم وَلَكِن الْقَاتِل اعْتقد حل قَتله لشُبْهَة صَارَت تدرأ الْقَتْل عَن الْقَاتِل كَمَا أَن أُسَامَة لما قتل ذَلِك الرجل بعد مَا قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله عزره الرَّسُول بالْقَوْل وَلم يقْتله بِهِ

وَأَيْضًا فَإِن هَذَا والهرمزان لم يكن لَهما من يُطَالب بِالدَّمِ وَلَكِن الإِمَام ولي الدَّم فَلهُ الْقَتْل أَو الْعَفو وَالدية فَعَفَا عُثْمَان وَترك الدِّيَة لآل عمر وَإِذا حقن عُثْمَان دَمه فَلَا يُبَاح بِحَال

ص: 398

وَمن الْعجب أَن دم الهرمزان الْمُتَّهم تُقَام فِيهِ الْقِيَامَة وَدم عُثْمَان وَهُوَ إِمَام الْمُسلمين الْمَقْتُول صبرا لَا حُرْمَة لَهُ وَقد جَاءَ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم ثَلَاث من نجا مِنْهُنَّ فقد نجا موتى وَقتل خَليفَة مضطهد بِغَيْر حق والدجال رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده

وَأما الْوَلِيد فَإِنَّمَا حَده عَليّ بِأَمْر عُثْمَان كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح

وَقَول الْقَائِل أَن عليا قَالَ لَا يبطل حد الله وَأَنا حَاضر فَمن الْكَذِب

ثمَّ أَنْتُم تدعون أَن الْحُدُود مَا زَالَت تبطل وَعلي حَاضر وَهُوَ يسكت تقية وخوفا حَتَّى فِي ولَايَته تدعون أَنه يدع الْحُدُود تقية وَيتْرك القَوْل بِالْحَقِّ تقية

فَإِن كَانَ قَالَ هَذَا بِحَضْرَة عُثْمَان فَمَا قَالَه إِلَّا لعلمه بِأَن عُثْمَان وأعوانه يوافقونه على إِقَامَة الْحُدُود وَلَو كَانَ يتقيهم لما قَالَ هَذَا

وقولك زَاد الْأَذَان وَهُوَ بِدعَة قُلْنَا فعلي مِمَّن وَافق على ذَلِك فِي خِلَافَته وَلم يزله وَإِبْطَال هَذَا كَانَ أَهْون عَلَيْهِ من عزل مُعَاوِيَة وَغَيره وَمن قِتَالهمْ

فَإِن قيل إِن النَّاس لَا يوافقونه على إِزَالَة الْأَذَان قُلْنَا فَهَذَا دَلِيل على أَن النَّاس وافقوا عُثْمَان على الإستحباب حَتَّى مثل عمار وَسَهل بن حنيف والسابقين

وَإِن اخْتلفُوا فَهِيَ من مسَائِل الإجتهاد

وَإِن قيل هِيَ بِدعَة قيل وقتال أهل الْقبْلَة بِدعَة لم تكن قبل

وَأَنْتُم فقد زدتم فِي الْأَذَان بِدعَة لم يَأْذَن بهَا الرَّسُول وَهِي حَيّ على خير الْعَمَل غَايَة مَا يُقَال إِن صَحَّ النَّقْل إِن ابْن عمر رُبمَا قَالَ ذَلِك أَحْيَانًا كَمَا كَانَ بَعضهم يَقُول بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة حَيّ على خير الْعَمَل الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح وَهَذَا يُسمى نِدَاء الْأُمَرَاء وَكَرِهَهُ أَكثر الْعلمَاء

وَأما قَوْلك وَخَالفهُ الْمُسلمُونَ كلهم حَتَّى قتل فَإِن أردْت أَنهم خالفوه خلافًا يُبِيح دَمه فَهَذَا كذب وزور فَإِنَّهُ مَا قَتله إِلَّا شرذمة ظالمة باغية وَلم يرض بِهِ السَّابِقُونَ

ص: 399

قَالَ ابْن الزبير لعنت قتلة عُثْمَان خَرجُوا عَلَيْهِ كاللصوص من وَرَاء الْقرْيَة فَقَتلهُمْ الله كل قتلة وَنَجَا من نجا مِنْهُم تَحت بطُون الْكَوَاكِب

يَعْنِي هُوَ هربوا لَيْلًا وَأكْثر الْمُسلمين كَانُوا غائبين

وَأكْثر أهل الْمَدِينَة الْحَاضِرين لم يَكُونُوا يعلمُونَ أَنهم يُرِيدُونَ قَتله حَتَّى قَتَلُوهُ وَأَيْضًا فَمَا خَالفه كل الْمُسلمين بل كثير مِنْهُم وَافقه فَمَا من شَيْء أنكر عَلَيْهِ إِلَّا وَقد وَافقه عَلَيْهِ كثير من الْمُسلمين بل من عُلَمَائهمْ الَّذين لَا يتهمون بمداهنة وَالَّذين وافقوا عُثْمَان على مَا أنكر عَلَيْهِ أَكثر وَأفضل ن المسملين الَّذين وافقوا عليا على مَا أنكر عَلَيْهِ إِمَّا فِي كل الْأُمُور أَو فِي غالبها

وقولك وَقَالُوا لَهُ غبت عَن بدر وهربت يَوْم أحد وَلم تشهد بيعَة الرضْوَان قُلْنَا هَذَا مَا قَالَه إِلَّا جهلة الرافضة مِمَّن قَاتله وَقد أجابهم عُثْمَان وَابْن عمر بِأَنَّهُ غَابَ يَوْم بدر بِأَمْر الرَّسُول ليمرض بنته وَيَوْم الْحُدَيْبِيَة فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم بَعثه رَسُولا إِلَى مَكَّة فَبَلغهُ أَنهم قَتَلُوهُ فَبَايع أَصْحَابه على الْمَوْت وَقَالَ تَعَالَى فِي الَّذين توَلّوا يَوْم أحد (ثمَّ صرفكم عَنْهُم ليبتليكم وَلَقَد عَفا عَنْكُم وَالله ذُو فضل على الْمُؤمنِينَ)(وَلَقَد عَفا الله عَنْهُم إِنَّه غَفُور حَلِيم)

وَأما قَوْلك إِنَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ جهزوا جيس أُسَامَة لعن الله من تخلف عَنهُ فَهَذَا كذب وَسُبْحَان من جعل الرافضة أقبل شَيْء للكذب وأرد شَيْء للصدق بل أُسَامَة الَّذِي توقف وَقَالَ كَيفَ أذهب وَأَنت هَكَذَا أسأَل عَنْك الركْبَان فَأذن لَهُ فِي التَّخَلُّف ثمَّ ذهب جَمِيعهم مَعَه بعد وَفَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم

فَلَو عزم على أُسَامَة فِي الْمسير لبادر هُوَ والجيش مَعَه

وقولك أول خلاف كَانَ فِي الْإِسْلَام الْإِمَامَة قُلْنَا لم يَخْتَلِفُوا وَللَّه الْحَمد وَأَجْمعُوا

ص: 400

على خلَافَة أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان إِجْمَاعًا لم يتهيأ مثله لعَلي فَإِنَّهُ اسْتشْهد وَأهل الشَّام لم يبايعوه قطّ

وَمَعَ هَذَا فقد سبّ بعض شيعته أهل الشَّام بِحَضْرَتِهِ فَنَهَاهُ عَليّ وَقَالَ لَا تسبوهم فَإِن فيهم الأبدال

وَقَالَ مرّة أُخْرَى إِخْوَاننَا بغوا علينا

وَقَالَ الله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة فأصلحوا بَين أخويكم}

وَبِالْجُمْلَةِ خلَافَة عَليّ حق وَهُوَ إِمَام رَاشد وَإِن تَأَخّر عَن بيعَته طَائِفَة كَبِيرَة فَإِنَّمَا الإعتبار بجمهور أهل الْحل وَالْعقد

قَالَ وَالْخلاف الْخَامِس فِي فدك والتوارث وَرووا عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا نورث مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة

قُلْنَا هَذَا إختلاف أَيْضا فِي مَسْأَلَة شَرْعِيَّة وَقد زَالَ الإختلاف فِيهَا وَالْخلاف فِيهَا دون الْخلاف فِي مِيرَاث الْإِخْوَة مَعَ الْجد وَالْعم والحمارية وميراث الْجدّة مَعَ ابْنهَا وحجب الْأُم الْأَخَوَيْنِ وَجعل الْجد مَعَ الْأُم كَالْأَبِ وَنَحْو ذَلِك فاختلافهم فِي هَذِه الْمسَائِل أعظم لوجوه أَحدهَا أَنهم تنازعوا فِي ذَلِك ثمَّ لم يتفقوا لأَنهم مَا روى لَهُم فِيهَا من النُّصُوص مثل مَا روى لَهُم فِي أَن النَّبِي لَا يُورث

وَأَيْضًا فَإِن الْخلاف فِي هَذَا لَا يتَكَرَّر بل هِيَ قَضِيَّة وَاحِدَة وَفِي مَال قَلِيل وَقد أَعْطَاهُم أَبُو بكر وَعمر من مَال الله بِقدر الْمِيرَاث مَرَّات وَإِنَّمَا يهول هَذِه الْقَضِيَّة أهل الْجَهْل وَالشَّر فقد اسْتخْلف عَليّ بعد ذَلِك وَصَارَت فدك وَغَيرهَا تَحت حكمه وَمَا أَعْطَاهَا أَوْلَاد فَاطِمَة وَلَا قسم تَركه النَّبِي صلى الله عليه وسلم بَين الْوَرَثَة فَهَلا أَزَال هَذِه الْمظْلمَة على رَأْيكُمْ

قَالَ وَالْخلاف السَّادِس فِي قتال مانعي الزَّكَاة قَاتلهم أَبُو بكر واجتهد عمر فِي خِلَافَته فَرد السبايا وَالْأَمْوَال إِلَيْهِم واطلق المحبوسين

قُلْنَا هَذَا من الْكَذِب الْبَين فَإِن أَبَا بكر وَعمر اتفقَا على قِتَالهمْ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ واحتجا بقوله صلى الله عليه وسلم أمرت أَن

ص: 401

أقَاتل النَّاس حَتَّى يشْهدُوا أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله

فَإِذا قالوها عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ إِلَّا بِحَقِّهَا وحسابهم على الله

وَقَالَ أَبُو بكر من حَقّهَا الزَّكَاة فَقَاتلهُمْ بموافقة سَائِر الصَّحَابَة لَهُ ثمَّ أقرّ أُولَئِكَ بِالزَّكَاةِ بعد وَمَا سبي لَهُم ذُرِّيَّة وَلَا حبس مِنْهُم أحدا وَلَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ حبس فِي عهد أبي بكر فَكيف يَمُوت وهم فِي حَبسه

ثمَّ قَالَ فِي الْخلاف السَّابِع فِي تنصيص أبي بكر على عمر بالخلافة فَمن النَّاس من قَالَ وليت علينا فظا غليظا فَيُقَال إِن جعل مثل هَذَا خلافًا من أبرد الْأَشْيَاء وأدلها على جهل الْمُتَكَلّم وهواه فقد طعن بعض الصَّحَابَة فِي تأمير أُسَامَة وَأَبِيهِ فَكَانَ مَاذَا ثمَّ إِن الْمُنكر كَانَ طَلْحَة وَقد رَجَعَ فَكَانَ من أَشد النَّاس تَعْظِيمًا لعمر

وَقَوله الْخلاف الثَّامِن الشورى وَاتَّفَقُوا بعد الإختلاف على عُثْمَان

قُلْنَا وَهَذَا من الْكَذِب الَّذِي هُوَ هجيراكم فَمَا اخْتلف أحد فِي بيعَة عُثْمَان وَقد بَقِي عبد الرَّحْمَن يشاور النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام وَأخْبر أَن النَّاس لَا يعدلُونَ بعثمان وَلَو اخْتلفُوا لنقل كَمَا نقل قَول الْأَنْصَار منا أَمِير ومنكم أَمِير يَوْم السَّقِيفَة

قَالَ الإِمَام أَحْمد بن حَنْبَل رَحمَه الله تَعَالَى لم يتَّفق النَّاس على بيعَة كَمَا اتَّفقُوا على بيعَة عُثْمَان

قَالَ وَوَقعت إختلافات كَثِيرَة مِنْهَا رد عُثْمَان الحكم إِلَى الْمَدِينَة

قُلْنَا مثل هَذَا إِن جعلته خلافًا فَاجْعَلْ كل حكم حكم بِهِ خليفه وَخَالفهُ غَيره خلافًا فَهُوَ شَيْء لَا ينْحَصر

قَالَ وَمِنْهَا تَزْوِيجه مَرْوَان بإبنته وإعطاؤه خمس غَنَائِم إفريقيه وَهِي مِائَتَا ألف دِينَار

قُلْنَا وَأي شَيْء من الإختلاف فِي تَزْوِيجه بابنته وَمن الَّذِي نقل أَنه أعطَاهُ

ص: 402

هَذَا المَال وَنحن لَا ننكر أَن عُثْمَان كَانَ يحب أَقَاربه ويصلهم ويعطيهم وَقد ولي عَليّ أَقَاربه وشيعته وَأَعْطَاهُمْ وَقَاتل بإجتهاده وَجَرت أُمُور صعبة وَكِلَاهُمَا من أهل الْجنَّة وليسا بمعصومين وَمَا فعلاه فَمن مسَائِل الإجتهاد وَالْخلاف

وَقَالَ وَمِنْهَا إيواؤه ابْن أبي سرح بعد أَن أهْدر النَّبِي صلى الله عليه وسلم دَمه

قُلْنَا الَّذِي أهْدر دَمه هُوَ الَّذِي حقن دَمه وَعَفا عَنهُ بشفاعة عُثْمَان فَلَا ملام إِذن

وَقد كَانَ هَاجر وَكتب الْوَحْي للنَّبِي صلى الله عليه وسلم ثمَّ ارْتَدَّ وَلحق بالمشركين وافترى على النَّبِي صلى الله عليه وسلم فأهدر دَمه فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْفَتْح أَتَى بِهِ عُثْمَان فَأَعْرض عَنهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُول الله بَايع عبد الله

فَأَعْرض عَنهُ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا ثمَّ بَايعه ثمَّ قَالَ أما كَانَ مِنْكُم رجل رشيد ينظر إِلَيّ وَقد أَعرَضت عَن هَذَا فَيضْرب عُنُقه فَقَالَ رجل من الْأَنْصَار هلا أَوْمَضْت إِلَيّ فَقَالَ مَا يَنْبَغِي للنَّبِي أَن يكون لَهُ خَائِنَة الْأَعْين

ثمَّ إِنَّه حسن إِسْلَامه وَلم يُؤثر عَنهُ بعْدهَا إِلَّا الْخَيْر

وَكَانَ مَحْمُود النقيبة فِي مغازيه وَقد كَانَ غَيره أَشد عَدَاوَة كصفوان وَأبي سُفْيَان وَقَالَ تَعَالَى (عَسى الله أَن يَجْعَل بَيْنكُم وَبَين الَّذين عاديتم مِنْهُم مَوَدَّة وَالله قدير) على تطييب الْقُلُوب (وَالله غَفُور رَحِيم)

قَالَ الْخلاف التَّاسِع فِي زمن عَليّ بعد الإتفاق عَلَيْهِ فَخرج طَلْحَة وَالزُّبَيْر

ثمَّ الْخلاف بَينه وَبَين مُعَاوِيَة وَحرب صفّين وغدر عَمْرو بِأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ

ثمَّ خلاف المارقين

وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ عَليّ على الْحق وَالْحق مَعَه وَظهر فِي زَمَانه الْخَوَارِج عَلَيْهِ مثل

ص: 403

الْأَشْعَث بن قيس ومسعر بن فدكي التَّمِيمِي وَزيد بن حصن الطَّائِي السنبسي وَظهر فِي زَمَانه الغلاة كَعبد الله بن سبأ وَمن الْفرْقَتَيْنِ ابتدأت الْبدع والضلال

فَنَقُول أَيْضا وَبِالْجُمْلَةِ فَكَانَ الثَّلَاثَة قبله على الْحق وَالْحق مَعَهم وَألا فتخصيص عَليّ بذلك دَعْوَى بِلَا برهَان وقولك وَقع الِاخْتِلَاف عَلَيْهِ بعد الِاتِّفَاق فَمن الْمَعْلُوم أَن كثيرا من الْمُسلمين مَا بَايعُوهُ كالشاميين برمتهم وَطَائِفَة من أهل الْمَدِينَة وَكثير من المصريين وَأهل الْمغرب وَغير ذَلِك

ثمَّ تعرض بالطعن على طَلْحَة وَذَوِيهِ من غير أَن يذكر لَهُم عذرا وَلَا رُجُوعا

وَأهل الْعلم يعلمُونَ أَنهم لم يقصدوا حَرْب عَليّ وَلَا عَليّ قصد حربهم لَكِن وَقع الْقِتَال بَغْتَة فَإِنَّهُم تعاتبوا وَاتَّفَقُوا هم وَعلي على الْمصلحَة وَإِقَامَة الْحَد على قتلة عُثْمَان فَتَوَاطَأت القتلة على إِقَامَة الْفِتْنَة إِذن كَمَا أقاموها أَولا فحملوا على طَلْحَة وَالزُّبَيْر وعسكرهما فحملوا دفعا للصائل فأشعر القتلة عليا أَنَّهُمَا حملا عَلَيْهِ فَحمل عَليّ دفعا عَن نَفسه فَكَانَ كل مِنْهُم قَصده دفع الصيال لَا الإبتداء بِالْقِتَالِ

وَلَكِن الرافضة بهائم فَلَا فِي النَّقْل يصدقون وَلَا للصدق يقبلُونَ أَتبَاع كل ناعق يعادون سادة الصَّحَابَة ويوالون أَعدَاء الْإِسْلَام والتتار ويستعينون بهم على أذية أهل السّنة وعامتهم وَلَهُم الْيَد الطُّولى فِي خراب الْعرَاق وَغَيرهَا كَمَا فعل

ص: 404

ابْن العلقمي الْوَزير وَكَاتب هلاكو وَقَوي عزمه حَتَّى وطيء الْبِلَاد وأباد الْعباد وأجرى السُّيُول من الدِّمَاء وسبى الْحَرِيم والعلويات والعباسيات وَنَشَأ فِي الْكفْر والشرك أَطْفَال الْمُسلمين فهم خبيئة سوء لِلْإِسْلَامِ وَأَهله يعظمون الْمَلَاحِدَة وغلاة الرافضة ويبغضون أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فهم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى (ألم تَرَ إِلَى الَّذين أُوتُوا نَصِيبا من الْكتاب يُؤمنُونَ بالجبت والطاغوت وَيَقُولُونَ للَّذين كفرُوا هَؤُلَاءِ أهْدى من الَّذين آمنُوا سَبِيلا) فَكيف الْحِيلَة فِيمَن يحْتَج علينا بِالْكَذِبِ الْمَحْض وَلَا يقبل من المنقولات إِلَّا مَا وَافق هَوَاهُ جهلا بِمَعْرِِفَة الْأَسَانِيد وصناعة الحَدِيث فَإِذا قَالَ قَائِلهمْ قولا من الصدْق أَو الْكَذِب لَا يطالبونه بحجته من الْكتاب وَالسّنة وَلَا يلتفتون إِلَى مَا يُعَارضهُ أصلا وَإِذا خاطبهم الْمُخَالف وَاحْتج عَلَيْهِم بالسنن الثَّابِتَة كذبوها هوى وعنادا أَو بِالْآيَاتِ حرفوها

فَإِن قوى نَفسه وخافوا مِنْهُ أدنى خوف قَالُوا صدقت وَالْحق مَا قلت وَبِهَذَا ندين لله تَعَالَى وتبرأوا من الإمامية فِي الْحَال

فَمن الَّذِي ينتصف من هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقين فِي المناظرة وهم الَّذين قد أصلوا لَهُم ثَلَاثَة أصُول أَحدهَا أَن أئمتهم معصومون

الثَّانِي أَن كل مَا ينقلونه فَإِنَّهُ نقل عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم

وَالثَّالِث أَن إِجْمَاع العترة حجَّة

وَهَؤُلَاء هم العترة فصاروا بِهَذَا لَا يخرجُون إِلَى دَلِيل وَلَا تَعْلِيل فسلبوا خاصية التفقه وَالتَّحْقِيق وعدموا الْعلم والتوفيق فَلَا تجدهم ينفردون بِمَسْأَلَة فِي دينهم إِلَّا وعمدتهم فِيهَا على هَذِه الْأُصُول الثَّلَاثَة الْمَرْدُودَة بِالْكتاب وَالسّنة وَالْعقل وَإِجْمَاع الطوائف سواهُم

قَالَ الرافضي الْفَصْل الثَّالِث فِي الْأَدِلَّة على إِمَامَة عَليّ فَنَقُول يجب أَن يكون الإِمَام مَعْصُوما وَمَتى كَانَ ذَلِك كَانَ الإِمَام هُوَ عَليّ لِأَن الْإِنْسَان لَا يُمكن أَن يعِيش مُفردا لإفتقاره فِي بَقَائِهِ إِلَى مأكل وملبس ومسكن فيضطر إِلَى مساعد ليتم قيام النَّوْع

ص: 405

وَلما كَانَ الإجتماع فِي مظنه التغالب والتغابن بِأَن كل وَاحِد قد يحْتَاج إِلَى مَا فِي يَد غَيره فتدعوه الْقُوَّة الشهوانية إِلَى أَخذه قهرا فَيُؤَدِّي إِلَى الْهَرج والفتن فَلَا بُد من نصب إِمَام مَعْصُوم يصدهم وينصف ويوصل الْحق إِلَى ذويه لَا يجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ وَلَا السَّهْو وَإِلَّا لأفتقر إِلَى إِمَام آخر لِأَن الْعلَّة المحوجة إِلَى نَصبه هِيَ جَوَاز الْخَطَأ على الْأمة فَلَو جَازَ عَلَيْهِ الْخَطَأ لأحتاج إِلَى إِمَام فَإِن كَانَ مَعْصُوما فَهُوَ الإِمَام وَإِلَّا لزم التسلسل

وَأَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان مَا كَانُوا معصومين اتِّفَاقًا وَعلي مَعْصُوم فَيكون هُوَ الإِمَام فَالْجَوَاب نقُول الرَّسُول هُوَ الْمَعْصُوم وطاعته هِيَ الْوَاجِبَة فِي كل وَقت على الْخلق وَعلم الْأمة بأوامره أتم من علم الْبَعْض بأوامر المنتظر

فَهَذَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هُوَ الإِمَام الْمَعْصُوم وأوامره مَعْلُومَة فاستغنت الْأمة بِهِ وبأوامره وبعلمه عَن كل أحد وأولو الْأَمر منفذون لدينِهِ لَيْسَ إِلَّا

وَمَعْلُوم قطعا أَنه كَانَ نوابه فِي الْيمن وَغَيرهَا يتصرفون فِي الرّعية بإجتهادهم وَلَيْسوا بمعصومين وَلم يتول على الْأمة من ادعيت لَهُ سوى عَليّ وَكَانَ من نوابه على رَعيته بالبلاد النائية من لَا يدْرِي بِمَا أَمر وَلَا بِمَا نهى بل كَانُوا يتصرفون بِمَا لَا يعرفهُ هُوَ

ثمَّ الإِمَام الَّذِي وَصفته لَا يُوجد فِي زَمَاننَا مَفْقُود غَائِب عنْدكُمْ ومعدوم لَا حَقِيقَة لَهُ عِنْد سواكم وَمثله لَا يحصل بِهِ شَيْء من مَقَاصِد الْإِمَامَة بل الإِمَام الَّذِي يقوم وَفِيه جهل وظلم أَنْفَع لمصَالح الْأمة مِمَّن لَا يَنْفَعهُمْ بِوَجْه وَالْإِمَام يحْتَاج إِلَيْهِ للْعلم ليبلغه وللعمل ليطاع فِي سُلْطَانه

وقولك لَا بُد من نصب إِمَام مَعْصُوم أَتُرِيدُ أَن لَا بُد أنن يخلق الله وَيُقِيم مَعْصُوما أم يجب على النَّاس أَن يبايعوا من يكون كَذَلِك وَغَايَة مَا عنْدكُمْ أَن تدعوا عصمَة عَليّ لَكِن الله مَا مكنه فِي زمن الثَّلَاثَة بل وَلَا فِي خِلَافَته فَيكون الله عنْدكُمْ قد أيد الثَّلَاثَة الظلمَة بزعمكم حَتَّى فعلوا مَا فَعَلُوهُ من الْمصَالح وَلم يُؤَيّدهُ حَتَّى يفعل ذَلِك وَحِينَئِذٍ فَمَا خلق الله هَذَا الْمَعْصُوم الْمُؤَيد الَّذِي اقترحتموه على الله

وَإِن قُلْتُمْ إِن

ص: 406

النَّاس يجب عَلَيْهِم إعانته وإقامته قُلْنَا فَمَا فعلوا ذَلِك عصوا أَو أطاعوا فَمَا حصل بِهِ مَقْصُود

بل نقُول إِذا كَانَ مَا حصل مَجْمُوع مَا بِهِ تحصل الْمَقَاصِد بل فَاتَ كثير من شُرُوطهَا فَلم لَا يجوز أَن يكون الْفَائِت هُوَ الْعِصْمَة وَإِذا كَانَ الْمَقْصُود فائتا بِعَدَمِ الْعِصْمَة أَو بعجز الْمَعْصُوم فَلَا فرق بَين عدمهَا بِهَذَا أَو بِهَذَا فَمن أَيْن يعلم بِدَلِيل الْعقل كَمَا ادعيت أَنه يجب على الله أَن يخلق إِمَامًا مَعْصُوما وَإِن كَانَ خلقه فَأَيْنَ الْمصلحَة واللطف بِهِ وَقد أنكرهُ الْجُمْهُور ومقتوا شيعته وَوَقع بِهِ من الشَّرّ أَشْيَاء

فدع عَنْك خدعة الْمُعْتَزلَة الَّذين يوجبون على الله ذَلِك بعقولهم الصَّغِيرَة وغلطوا من حَيْثُ لم يفرقُوا بَين الْمصلحَة الْعَامَّة الْكُلية وَبَين الْمصلحَة الْجُزْئِيَّة

وَقَول الرافضة من جنس النَّصَارَى حَيْثُ قَالُوا إِن الْإِلَه تجسد وَنزل أَو أنزل ابْنه ليصلب وَيكون الصلب مغْفرَة لذنب آدم ليدفع الشَّيْطَان بذلك فَقيل لَهُم إِذا كَانَ قَتله وصلبه وتكذيبه من أعظم الشَّرّ والضلال يكون قد أَرَادَ أَن يزِيل ذَنبا صَغِيرا بذنب هُوَ أكبر مِنْهُ بِكَثِير وَهُوَ مَعَ ذَلِك لم يُغير الشَّرّ بل زَاده فَكيف يفعل ذَلِك لمقصود فَوَقع ضد الْمَقْصُود

وقولك إِذا كَانَ الْإِنْسَان مدنيا بالطبع وَجب نصب الْمَعْصُوم ليزول الشَّرّ عَن أهل الْمَدِينَة

فَنَقُول هَل تَقولُونَ إِنَّه لم يزل فِي كل مَدِينَة خلقهَا الله مَعْصُوم يدْفع ظلم النَّاس أم لَا فَإِن قُلْتُمْ بِالْأولِ كَانَ هَذَا مُكَابَرَة ظَاهِرَة فَهَل فِي بِلَاد الْكفَّار من الْمُشْركين وَأهل الْكتاب مَعْصُوم وَهل كَانَ فِي الشَّام عِنْد مُعَاوِيَة مَعْصُوم وَإِن قلت لَهُ نواب فِي الْمَدَائِن كلهَا كابرت الْحس وَإِن قلت فِي الْبَعْض قيل فَمَا الْفرق إِذا كَانَ وَاجِبا على الله وَالْحَاجة سَوَاء وَلَو سلمنَا أفتقول بعصمتهم أم لَا فَإِن كَانُوا غير معصومين فَأَيْنَ نفع أهل الْمَدَائِن بِالْإِمَامِ وهم يصلونَ خلف غير مَعْصُوم ويطيعونه فَإِن قيل

ص: 407

ترجع الْأُمُور إِلَى الْمَعْصُوم قُلْنَا لَو كَانَ قَادِرًا كَأبي بكر وَعمر وَغَيرهمَا لم يتَمَكَّن من إِيصَال الْعدْل إِلَى الْكل وَقد لَا يجد لكل بلد عادلا قَوِيا فَإِذا لم يجد سقط عَنهُ فَكيف يجب على الله ذَلِك كَيفَ والمعصوم عنْدكُمْ عَاجز وَعِنْدنَا مَعْدُوم

وَوجه آخر أَن يُقَال صده غَيره عَن الظُّلم وإنصافه الرّعية فرع على منع ظلمه وَاسْتِيفَاء حَقه

فَإِذا كَانَ عَاجِزا مقهورا عَن دفع الظُّلم عَن نَفسه فَمَا الظَّن برعيته كَيفَ وَهُوَ عنْدكُمْ خَائِف لَا يُمكنهُ الظُّهُور من أَرْبَعمِائَة وَسِتِّينَ سنة خوفًا من الْقَتْل

وَالله لَا يَقع مِنْهُ ظلم وَلَا يخل بِوَاجِب فقد فعل الْوَاجِب وَمَعَ هَذَا فَمَا خلق مَا تحصل بِهِ هَذِه الْمصَالح الْمَقْصُودَة من الْمَعْصُوم فَإِن كَانَت هَذِه الْمصَالح تحصل بِمُجَرَّد خلقه وَهِي لم تحصل لزم أَن لَا يكون خلقه وَاجِبا وَإِن كَانَت لَا تحصل إِلَّا بخلقه وَخلق أُمُور أُخْرَى حَتَّى يحصل بالمجموع الْمَطْلُوب فَمَا خلق ذَلِك الْمَجْمُوع والإخلال بِالْوَاجِبِ مُمْتَنع عَلَيْهِ فِي الْقَلِيل وَالْكثير فَلَزِمَ على التَّقْدِيرَيْنِ أَنه لَا يجب عَلَيْهِ خلق الْمُوجب لهَذِهِ المطالب وَإِذا لم يجب عَلَيْهِ ذَلِك فَلَا فرق بَين أَن يخلق مَعْصُوما لَا يحصل بِهِ ذَلِك وَبَين أَن لَا يخلقه فَلَا يكون ذَلِك وَاجِبا عَلَيْهِ وَحِينَئِذٍ فَلَا يلْزم وجوده فَالْقَوْل بِوُجُوب وجوده بَاطِل على كل تَقْدِير

وَإِن قيل الله فعل ر مَا يجب عَلَيْهِ من خلق الْمَعْصُوم لَكِن النَّاس فوتوا الْمصلحَة بمعصيتهم لَهُ قيل أَولا إِذا كَانَ

ص: 408

يعلم أَن النَّاس لَا يعاونونه حَتَّى تحصل الْمصلحَة بل يعصونه فيعذبون لم يكن خلقه وَاجِبا بل وَلَا حِكْمَة على قَوْلهم

وَيُقَال ثَانِيًا لَيْسَ كل النَّاس عصاة بل بَعضهم عصوه ومنعوه وَبَعْضهمْ يُؤثر طَاعَته وَمَعْرِفَة مَا يَقُوله فَكيف لَا يُمكن هَؤُلَاءِ من طَاعَته فَإِن قيل أُولَئِكَ الظلمَة منعُوا هَؤُلَاءِ قيل فَإِن كَانَ الرب قَادِرًا على منع الظلمَة فَهَلا مَنعهم على قَوْلهم وَإِن لم يكن ذَلِك مَقْدُورًا فَهُوَ يعلم أَن حُصُول الْمصلحَة غير مقدورة فَلَا يَفْعَله فَلم قُلْتُمْ على هَذَا التَّقْدِير إِنَّه يُمكن خلق مَعْصُوم غير نَبِي فَهَذَا لَازم لكم

فَإِن قُلْتُمْ إِن الله خَالق أَفعَال الْعباد أمكنه صرف دواعي الظلمَة حَتَّى يطاع وَإِن قُلْتُمْ لَيْسَ هُوَ خَالق أَفعَال الْعباد قيل فالعصمة إِنَّمَا تكون بِأَن يُرِيد الْفَاعِل الْحَسَنَات وَلَا يُرِيد السَّيِّئَات وَهُوَ عنْدكُمْ لَا يقدر أَن يُغير إِرَادَة عَبده فَلَا يقدر على جعله مَعْصُوما فَبَطل الْمَعْصُوم على أصل الْقَدَرِيَّة إِذْ الْعِصْمَة أَن يُرِيد العَبْد الْحَسَنَات فَقَط فَإِذا كَانَ هُوَ الْمُحدث لإِرَادَة نَفسه فَالله عِنْدهم لَا يقدر على إِحْدَاث إِرَادَة أحد امْتنع مِنْهُ أَن يَجْعَل أحدا مَعْصُوما

وَإِذا قَالُوا بِخلق مَا تميل بِهِ إِرَادَته إِلَى الْخَيْر قيل إِن كَانَ ذَلِك ملجئا زَالَ التَّكْلِيف وَإِلَّا لم ينفع

وَإِن كَانَ ذَلِك مَقْدُورًا عنْدكُمْ فَهَلا فعل ذَلِك بِجَمِيعِ الْعباد فَإِنَّهُ أصلح لَهُم إِذا أوجبتم عَلَيْهِ فعل الْأَصْلَح بِكُل عبد وَذَلِكَ لَا يمْنَع الثَّوَاب عنْدكُمْ كَمَا لَا يمنعهُ فِي حق الْمَعْصُوم

وَجه ثامن أَن يُقَال حَاجَة الْمَرْء إِلَى تَدْبِير بدنه بِنَفسِهِ أعظم من حَاجَة الْمَدِينَة إِلَى تَدْبِير رئيسها وَإِذا كَانَ الله لم يخلق نفس الْإِنْسَان معصومة فَكيف يجب عَلَيْهِ أَن يخلق رَئِيسا مَعْصُوما مَعَ أَن الْإِنْسَان لَا يُمكنهُ أَن يكفر بباطنه ويعصي بباطنه

وَجه تَاسِع أَن يُقَال هَل الْمَطْلُوب من الْمَعْصُوم إعدام الْفساد أم تقليله فَالْأول مَا وَقع فِي الْعَالم وَالثَّانِي يحصل بِلَا مَعْصُوم كزمن أبي بكر وَعمر أَكثر مِمَّا حصل بعلي أَو مثله وَحصل بِسَائِر الْخُلَفَاء مَا حصل بِسَائِر الْأَئِمَّة الإثني عشر كَمَا قيل سِتُّونَ سنة

ص: 409

من إِمَام جَائِر خير من لَيْلَة بِلَا إِمَام

وقولك وَلَو لم يكن الإِمَام مَعْصُوما لأفتقر إِلَى إِمَام مَعْصُوم فَنَقُول لم لَا يجوز أَن يكون إِذا أَخطَأ الإِمَام كَانَ فِي الْأمة من ينبهه بِحَيْثُ لَا يحصل إتفاق الْكل على الْخَطَأ كَمَا إِذا أَخطَأ أحد الرّعية نبهه إِمَامه أَو نَائِبه وَتَكون الْعِصْمَة ثَابِتَة للمجموع بِحَيْثُ لَا يحصل اتِّفَاقهم على الْخَطَأ كَمَا يَقُوله أهل السّنة وَالْجَمَاعَة وَنَظِيره أَن كل وَاحِد من أهل خبر التَّوَاتُر يجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ وَالْكذب وَلَا يجب ذَلِك على الْمَجْمُوع فِي الْعَادة فإثبات الْعِصْمَة للمجموع أولى من إِثْبَاتهَا للْوَاحِد وَبِذَلِك يحصل الْمَقْصُود من عصمَة الإِمَام فَلَا تتَعَيَّن عصمَة الإِمَام

وَمن جهل الرافضة أَنهم يوجبون عصمَة وَاحِد من الْمُسلمين ويجوزون على مَجْمُوع الْمُسلمين إِذا لم يكن فيهم مَعْصُوم الْخَطَأ وَقد ذكر غير وَاحِد أَن أول من ابتدع الرَّفْض وَالْقَوْل بِالنَّصِّ على عَليّ وعصمته كَانَ زنديقا أَرَادَ إِفْسَاد الدّين وَأَرَادَ أَن يصنع بِالْمُسْلِمين كَمَا صنع بولص بالنصارى فَلم يتأت لَهُ مَا تأتى لبولص لضعف عقول النَّصَارَى كلهم فَإِن الْمَسِيح صلى الله عليه وسلم رفع وَلم يتبعهُ خلق كثير يعلمُونَ دينه ويقومون بِهِ علما وَعَملا فَلَمَّا ابتدع بولص الغلو فِي الْمَسِيح اتبعهُ خلق وَدخلت مَعَهم مُلُوك فَأنْكر عَلَيْهِم طَائِفَة فَقَتلهُمْ الْمُلُوك وَبَعْضهمْ داهن الْمُلُوك واعتزلوا فِي الصوامع

وأمتنا هَذِه وَللَّه الْحَمد لَا تزَال مِنْهَا طَائِفَة ظَاهِرَة على الْحق فَلَا يتَمَكَّن ملحد وَلَا مُبْتَدع من إفساده بغلو أَو إنتصار على الْحق وَلَكِن يضل من يتبعهُ على ضلاله

وَأَيْضًا فنوابه غير معصومين فِي الجزئيات وهم الَّذين يفصلون فِي غَالب أُمُور

ص: 410

النَّاس فِي الدُّنْيَا بل بسائرها

بقيت الْعِصْمَة فِي الكليات وَالله قَادر على أَن ينص على الكليات بِحَيْثُ لَا يحْتَاج فِي مَعْرفَتهَا إِلَى الإِمَام وقادر أَن يَجْعَل نَص النَّبِي صلى الله عليه وسلم أكمل من نَص الإِمَام فاستغنينا عَن عصمَة الإِمَام فِي الكليات والجزئيات

ثمَّ خبرنَا مَا عصمَة الإِمَام أَهِي فعله للطاعات بإختياره وَتَركه للمعاصي بإختياره مَعَ أَن الله عنْدكُمْ لَا يخلق إختياره أم هِيَ خلق الْإِرَادَة لَهُ أَو سلبه الْقُدْرَة على الْمعْصِيَة وعندك أَن الله لَا يخلق إختيارنا فلزمك أَن الله لَا يقدر على خلق مَعْصُوم

وَإِن نقضت قَوْلك فِي الْقدر لزمك أَن يكون الْمَعْصُوم لَا يُثَاب على طَاعَة

وقولك لَيْسَ بمعصوم غير عَليّ إتفاقا مَمْنُوع بل كثير من الْعباد والعامة يَعْتَقِدُونَ عصمَة شيوخهم مثلكُمْ مَعَ إعتقادهم أَن الصَّحَابَة أفضل مِنْهُم فاعتقادهم ذَلِك فِي الْخُلَفَاء من الصَّحَابَة أولى والإسماعيلية يَعْتَقِدُونَ عصمَة أئمتهم وهم غير الإثني عشر وَأَتْبَاع بني أُميَّة كَانُوا يَقُولُونَ إِن الْخَلِيفَة لَا حِسَاب عَلَيْهِ وَلَا عَذَاب

وَمن كَانَ إعتقاده أَن كل مَا يَأْمر بِهِ الإِمَام فَإِنَّهُ يجب طَاعَته فِيهِ لم يحْتَج إِلَى مَعْصُوم وَيَقُول يَكْفِينِي عصمَة الإِمَام الَّذِي افتديت بِهِ أَو شَيْخي أَو أَمِيري ويقرأون قَوْله تَعَالَى (أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وَأولى الْأَمر مِنْكُم)

فَإِن قلت هَؤُلَاءِ لَا يعْتد بخلافهم لم يسمع مِنْك فَإِنَّهُم اقتدوا بموجود منتظركم الْمَعْدُوم الَّذِي مَا انتفعتم بِهِ بِحَال

وَأَيْضًا فَمَا فِي أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من قَالَ بعصمة عَليّ وَلَا فِي التَّابِعين وَلَا أَئِمَّة الْعلم وَإِنَّمَا انْفَرد بِهَذَا جهلة الإمامية كَمَا انْفَرد بتكفيره ضلال الْخَوَارِج وبتفسيقه خلق من النواصب

وَيُقَال لكم إِمَّا أَن يجب وجود الْمَعْصُوم أَولا

فَإِن لم يجب بَطل قَوْلكُم وَإِن وَجب لم نسلم أَنه عَليّ دون الثَّلَاثَة قبله

بل إِن كَانَ هَذَا القَوْل حَقًا لزم أَن يكون

ص: 411

الْمَعْصُوم أَبَا بكر وَعمر فَإِن أهل السّنة متفقون على تفضيلهما عَلَيْهِ وَإِن كَانَت الْعِصْمَة منتفية عَنْهُمَا فَهِيَ عَنهُ أبعد

وَهَذَا كنبوة مُوسَى وَعِيسَى فَإِن الْمُسلمين لَا يسلمُونَ بنبوتهما إِلَّا مَعَ نبوة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ لَا نسلم إِيمَان عَليّ إِلَّا مَقْرُونا بِإِيمَان الثَّلَاثَة وَلَا ننفي الْعِصْمَة عَنْهُم إِلَّا مقرونة بنفيها عَن عَليّ

فَمَا قَوْلك إِمَامَة عَليّ ثَابِتَة بِالْإِجْمَاع بِخِلَاف الثَّلَاثَة إِلَّا كَقَوْل الْيَهُود نبوة مُوسَى ثَابِتَة بِالْإِجْمَاع بِخِلَاف نبوة مُحَمَّد وَإِلَّا كَقَوْل النَّصَارَى الإلهية منتفية عَن مُوسَى وَمُحَمّد بِالْإِجْمَاع وتنازعنا فِي عِيسَى وإلاهيته

فَنحْن نعلم بِالضَّرُورَةِ أَنه لَيْسَ لعيسى مزية يسْتَحق بهَا الإلهية دون مُوسَى وَمُحَمّد كَمَا نقطع أَن عليا رضي الله عنه لَيْسَ لَهُ مزية يسْتَحق بهَا الْعِصْمَة دون الثَّلَاثَة

ونسألك من أَيْن علمت عصمَة عَليّ دون الثَّلَاثَة فَإِن قلت بِالْإِجْمَاع على إنتفاء عصمَة سواهُ قُلْنَا إِن لم يكن الْإِجْمَاع حجَّة أبطلت قَوْلك وَإِن كَانَ حجَّة فِي إِثْبَات عصمَة على الَّتِي هِيَ الأَصْل أمكن أَن يكون حجَّة فِي الْمَقْصُود بعصمته من حفظ الشَّرْع وَنَقله فَأَنت تحتج بِالْإِجْمَاع وَلَا تقبل كَون الْإِجْمَاع حجَّة

وَإِن ادعيت التَّوَاتُر عنْدكُمْ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي عصمته فَهُوَ كدعواك تَوَاتر النَّص على إِمَامَته

وَأَيْضًا فالإجماع عنْدكُمْ لَيْسَ حجَّة إِلَّا أَن يكون قَول الْمَعْصُوم فِيهِ فَإِن لم يعرفوا ثُبُوت الْمَعْصُوم إِلَّا بِهِ لزم الدّور فَإِنَّهُ لَا يعرف أَنه مَعْصُوم إِلَّا بقوله وَلَا يعرف أَن قَوْله حجَّة إِلَّا إِذا عرف أَنه مَعْصُوم فَلَا يثبت وَاحِد مِنْهُمَا وَترجع حَقِيقَة قَوْلكُم فلَان مَعْصُوم لِأَنَّهُ قَالَ أَنا مَعْصُوم وغيري لَيْسَ بمعصوم وَهَذَا كل أحد يُمكن أَن بقوله وَهَذَا كَقَوْل الْقَائِل أَنا صَادِق فِي كل مَا أقوله فَإِن لم يعلم صدقه بِغَيْر قَوْله لم يعلم صَدَقَة فِيمَا يَقُوله

وَادعت الإسماعيلية مثل هَذَا فَادعوا أَن الإِمَام الْمعلم الْمَعْصُوم وَقَالُوا إِن طرق الْعلم بِالسَّمْعِ وَالْعقل لَا يعرف صِحَّتهَا إِلَّا الْمَعْصُوم وبتعليمه

فَإِذا طولبوا بِتَعْيِين مَعْصُوم وبالدليل على أَنه مَعْصُوم دون غَيره لم يَأْتُوا بِحجَّة أصلا وتناقضت أَقْوَالهم

وَلَو تنازلنا ورضينا بقول عَليّ إِنِّي مَعْصُوم فَمن الَّذِي نقل عَنهُ أَنه قَالَ إِنِّي

ص: 412

مَعْصُوم بل الْمُتَوَاتر عَنهُ خلاف ذَلِك وَأَنه أقرّ قُضَاته على أَن يحكموا بِخِلَاف رَأْيه وَصَحَّ عَنهُ أَنه قَالَ اجْتمع رَأْيِي ورأي عمر فِي أُمَّهَات الْأَوْلَاد أَن لَا يبعن وَقد رَأَيْت الْآن أَن يبعن

فَقَالَ لَهُ قاضيه عُبَيْدَة السَّلمَانِي رَأْيك مَعَ عمر فِي الْجَمَاعَة أحب إِلَيْنَا من رَأْيك وَحدك فِي الْفرْقَة

وَكَانَ شُرَيْح يقْضِي بإجتهاده وَلَا يُرَاجِعهُ وَهُوَ يقره على ذَلِك وَكَانَ يُفْتِي وَيحكم بِاجْتِهَادِهِ ثمَّ يرجع عَن ذَلِك بإجتهاده

وَهَذِه أَقْوَاله فِي ذَلِك ثَابِتَة عَنهُ بأصح الْأَسَانِيد

قَالَ الرافضي وَيجب أَن يكون الإِمَام مَنْصُوصا عَلَيْهِ لما بَينا من بطلَان الإختيار فَإِنَّهُ لَيْسَ بعض المختارين لبَعض الْأَئِمَّة أولى من الْبَعْض الْمُخْتَار لآخر وَإِلَّا أدّى إِلَى التَّنَازُع والتشاجر

وَغير عَليّ من أئمتهم لم يكن مَنْصُوصا عَلَيْهِ بِالْإِجْمَاع فَتعين أَن يكون هُوَ الإِمَام

قُلْنَا الْجَواب بِمَنْع المقدمتين

فقد ذهب خلق من السّلف وَالْخلف إِلَى النَّص على أبي بكر وَذَهَبت طَائِفَة قَليلَة إِلَى النَّص على الْعَبَّاس فَأَيْنَ الْإِجْمَاع

ثمَّ نقُول لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يعْتَبر النَّص فِي الْإِمَامَة أَو لَا

فَإِن اعْتبر منعنَا الْمُقدمَة الثَّانِيَة وَقُلْنَا النَّص لأبي بكر

وَإِن لم يعْتَبر بطلت الْمُقدمَة الأولى

ثمَّ الْإِجْمَاع عنْدكُمْ لَيْسَ بِحجَّة وَإِنَّمَا الْحجَّة قَول الْمَعْصُوم فَيَعُود الْأَمر إِلَى إِثْبَات النَّص بقول الَّذِي تدعى لَهُ الْعِصْمَة فَلَا يثبت نَص وَلَا عصمَة بل بقول قَائِل أَنا مَعْصُوم وَأَنا الَّذِي نَص عَليّ

وَيُقَال مَا تَعْنِي بِقَوْلِك يجب أَن يكون مَعْصُوما مَنْصُوصا عَلَيْهِ أتعني أَنه لَا بُد من أَن يَقُول هَذَا الْخَلِيفَة من بعدِي أم لَا يصير إِمَام حَتَّى تعقد لَهُ الْإِمَامَة مَعَ ذَلِك فَإِن قلت بِالْأولِ قيل لَا نسلم وجوب النَّص بِهَذَا الإعتبار والزيدية مَعَ الْجَمَاعَة تنكر هَذَا النَّص وَمَا هم بل وَلَا نَحن بمتهمين على عَليّ

ص: 413

وقولك إِذا لم يكن كَذَلِك أدّى إِلَى التَّنَازُع والتشاجر

فَيُقَال النُّصُوص الَّتِي تدل على أولويته مَعَ النّظر والإستدلال يحصل بهَا الْمَقْصُود

ثمَّ إِذا كَانَت الْأَدِلَّة وَاضِحَة فِي أولويته كفت وَكَذَلِكَ كَانَ الصّديق

وَمن نَازع من آحَاد الْأَنْصَار فَمَا نَازع فِي أَن أَبَا بكر أفضل وَإِنَّمَا رام التَّقَدُّم مَعَ وجود الْأَفْضَل

فَإِن قيل إِذا كَانَ لَهُم هوى مَنعه دلَالَة النُّصُوص قيل وَإِذا كَانَ لَهُم هوى عصوا النُّصُوص كَمَا ادعيتم عَلَيْهِم فَمَعَ قصدهم الْحق يحصل الْمَقْصُود وَمَعَ العناد لَا ينفع النَّص ثمَّ إِن كَانَ الإِمَام مَعْصُوما فنوابه خلق وَلَا عصمَة لَهُم فالحاجة بَاقِيَة

وَأَيْضًا فنص الرَّسُول على إِمَام بعده كتوليته وَاحِدًا فِي حَيَاته وَنحن لَا نشترط الْعِصْمَة لَا فِي هَذَا وَلَا فِي هَذَا

ثمَّ إِنَّكُم أوجبتم النَّص قطعا للتشاجر المفضي إِلَى الْفساد الْكَبِير فَوَقع الْأَمر بِالْعَكْسِ فَإِن أَبَا بكر تولى ثمَّ عمر ثمَّ عُثْمَان مَعَ إنتفاء الْفساد والتشاجر وَوَقع بعضه فِي آخر أَيَّام عُثْمَان وَإِنَّمَا اشْتَدَّ وَعظم فِي أَيَّام من ادعيتم لَهُ النَّص والعصمة

فَمَا أصلتموه حصل مَعَه نقيض الْمَقْصُود وَحصل الْمَقْصُود بِدُونِ وسيلتكم

ونقول النَّص يزِيل الْفساد وَيكون على وُجُوه أَحدهَا إِخْبَار النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِولَايَة شخص ويثني عَلَيْهِ فِي ولَايَته فتعلم الْأمة أَنه إِن تولى كَانَ مَحْمُودًا فيرتفع النزاع وَإِن لم يقل ولوه

وَهَذَا الْخَبَر وَقع لأبي بكر وَعمر

الثَّانِي أَن يخبر بِأُمُور تَسْتَلْزِم صَلَاح الْولَايَة وَهَذِه النُّصُوص وَقعت فِي خلَافَة أبي بكر وَعمر بِفَتْح فَارس وَالروم وَغير ذَلِك

الثَّالِث أَن يَأْمر من يَأْتِيهِ بعد مَوته بِأَن يَأْتِي شخصا فَيدل ذَلِك على أَنه الْخَلِيفَة من بعده وَهَذَا وَقع لأبي بكر

الرَّابِع أَن يهم بِكِتَابَة عهد بالخلافة ثمَّ يَقُول يَأْبَى الله والمؤمنون إِلَّا أَبَا بكر فَوَقع كَمَا أخبر

الْخَامِس أَن يَأْمر بالإقتداء من بعده بشخص فَيكون هُوَ الْخَلِيفَة ن بعده

السَّادِس أَن يَأْمر بإتباع سنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين من بعده وَيجْعَل خلافتهم إِلَى مُدَّة مُعينَة فَيدل على أَن المتولين فِي تِلْكَ الْمدَّة هم الْخُلَفَاء الراشدون والمهديون

السَّابِع أَن يخص

ص: 414

شخصا بِأُمُور تَقْتَضِي أَنه هُوَ الْمُقدم وَهَذَا مَوْجُود فِي أبي بكر

الثَّامِن أَن ترك النَّص أولى بالرسول لِأَنَّهُ إِن كَانَ النَّص ليَكُون مَعْصُوما فَلَا مَعْصُوم بعده وَإِن كَانَ بِدُونِ الْعِصْمَة فقد يحْتَج بِالنَّصِّ على وجوب اتِّبَاعه فِي كل مَا يَقُول وَلَا يُمكن أحدا بعد موت الرَّسُول مُرَاجعَة الرَّسُول ليَرُدهُ أَو يعزله بِخِلَاف من ولاه فِي حَيَاته فَإِنَّهُ إِذا أَخطَأ أَو أذْنب أمكن الرَّسُول بَيَان خطأه وعزله وَلَو نَص الرَّسُول بعده أَيْضا على معِين لنأخذ عَنهُ الدّين كَمَا تَقول الرافضة بطلت حجَّة الله إِذْ ذَاك وَلَا يقوم بِهِ غير الرَّسُول لِأَنَّهُ لَا مَعْصُوم إِلَّا هُوَ

الْجَواب التَّاسِع أَن النَّص على الجزئيات لَا يُمكن والكليات قد نَص عَلَيْهَا

فَلَو نَص على معِين وَأمر بِطَاعَتِهِ فِي تعْيين الكليات كَانَ هَذَا بَاطِلا وَإِن أَمر بِطَاعَتِهِ فِي الجزئيات سَوَاء وَافَقت الكليات أَو خالفتها كَانَ بَاطِلا وَإِن أَمر بِطَاعَتِهِ فِي الجزئيات إِذا طابقت الكليات فَهَذَا حكم كل متول وَلَو نَص على رجل لَكَانَ من يتَوَلَّى من بعده قد لَا يطاع كطاعة الأول لعدم النَّص فِي الثَّانِي وَإِن قلت كل وَاحِد ينص على من بعده فَهَذَا إِنَّمَا يُمكن إِذا كَانَ الثَّانِي مَعْصُوما وَلَا عصمَة بعد الرَّسُول لأحد فَالْقَوْل بِالنَّصِّ فرع على القَوْل بالعصمة وَذَاكَ من أفسد الْأَقْوَال فكذاك النَّص الَّذِي تدعيه الرافضة وَهُوَ الْأَمر بِطَاعَة الْمُتَوَلِي فِي كل مَا يَقُوله من غير رد إِلَى الْكتاب وَالسّنة إِذا نوزع اما إِذا رددنا قَوْلنَا إِلَى الْكتاب وَالسّنة كَمَا أمرنَا عِنْد التَّنَازُع فَلَا حَاجَة إِلَى النَّص فَإِن الدّين مَحْفُوظ وَلَا يُمكن أَن بشرا يعلم كل علم الرَّسُول أَو يَأْتِيهِ وَحي فَلَا سَبِيل إِلَى معرفَة مَا جَاءَ بِهِ إِلَّا من جِهَته

قَالَ الثَّالِث أَن الإِمَام يجب أَن يكون حَافِظًا للشَّرْع لانْقِطَاع الْوَحْي وقصور الْكتاب وَالسّنة عَن تفاصيل الجزئيات فَلَا بُد من إِمَام مَنْصُوص من الله تَعَالَى مَعْصُوم لِئَلَّا يتْرك أَو يزِيد عمدا أَو سَهوا وَغير عَليّ لم يكن كَذَلِك بِالْإِجْمَاع

قُلْنَا لَا نسلم أَنه

ص: 415

يجب أَن يكون حَافِظًا للشَّرْع بل يجب أَن تكون الْأمة حافظة للشَّرْع وَذَلِكَ يحصل بالمجموع كَمَا يحصل بِالْوَاحِدِ

بل الشَّرْع إِذا نَقله أهل التَّوَاتُر كَانَ خيرا من نقل وَاحِد

وَلَا نسلم أَن عليا كَانَ أحفظهم للشَّرْع بل كَانَ أَبُو بكر وَعمر أعلم مِنْهُ فَبَطل إجماعك

وَإِن زعمت أَنه مَعْصُوم فَلَا تعلم صِحَة شَيْء من الشَّرْع إِلَّا بنقله لزم من ذَلِك أَن الْحجَّة لَا تقوم على أهل الأَرْض إِلَّا بنقله وَلَا نعلم صِحَة نَقله حَتَّى نعلم أَنه مَعْصُوم وَلَا نعلم أَنه مَعْصُوم إِلَّا بِالْإِجْمَاع على نفي عصمَة من سواهُ فَإِن كَانَ الْإِجْمَاع مَعْصُوما أمكن حفظ الشَّرْع بِهِ وَإِن لم يكن مَعْصُوما لم نعلم عصمته

ثمَّ أخبرنَا هَل يُمكن الإِمَام تَبْلِيغ الشَّرْع إِلَى من يَنْقُلهُ عَنهُ بالتواتر أم لَا يزَال مَنْقُولًا نقل آحَاد من مَعْصُوم إِلَى مَعْصُوم فَإِن كَانَ الإِمَام يُمكنهُ ذَلِك فالرسول يُمكنهُ بطرِيق الأولى فَحِينَئِذٍ لَا حَاجَة إِلَى نقل الإِمَام

وَإِن قلت لَا يُمكنهُ ذَلِك لزم دين الْإِسْلَام أَنه لَا يَنْقُلهُ إِلَّا وَاحِد بعد وَاحِد من أقرباء الرَّسُول الَّذين يُمكن القادح فِي نبوته أَن يَقُول إِنَّهُم يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا شَاءُوا وَإنَّهُ كَانَ طَالب ملك أَقَامَهُ أَقَاربه وعهد إِلَيْهِم بِمَا يُقِيمُونَ بِهِ دولته

ونقول الْحَاجة ماسة إِلَى الْعِصْمَة فِي حفظ الدّين وَنَقله فلماذا لَا يجوز أَن يكون الصَّحَابَة هم المعصومين الَّذين حصل بهم مَقْصُود الدّين وبلغوه ولماذا لَا تكون الْعِصْمَة فِي الْحِفْظ والبلاغ لكل طَائِفَة بِحَسب مَا حملوه فالقراء معصومون فِي حفظ الْقُرْآن وتبليغه والمحدثون معصومون فِي حفظ الصِّحَاح وتبليغها وَالْفُقَهَاء معصومون فِي فهم الْكَلَام والإستدلال وَهَذَا هُوَ الْوَاقِع الْمَعْلُوم الَّذِي أغْنى الله بِهِ عَن وَاحِد مَعْدُوم

ثمَّ إِنَّه إِذا كَانَ لَا يحفظ الشَّرْع ويبلغه إِلَّا مَعْصُوم عَن مَعْصُوم والمنتظر لَهُ أَرْبَعمِائَة

ص: 416

وَسِتُّونَ سنة لم يَأْخُذ أحد عَنهُ مَسْأَلَة فَمن أَيْن علمْتُم الْقُرْآن وَالشَّرْع فِي طول هَذِه الْمدَّة وَلم لَا يجوز أَن يكون هَذَا الْقُرْآن الَّذِي تقرأونه لَيْسَ الَّذِي أنزل وَأَيْضًا من أَيْن لكم الْعلم بِشَيْء من أَحْوَال الرَّسُول وَابْن عَمه وَأَنْتُم لم تسمعوا شَيْئا من ذَلِك من مَعْصُوم فَإِن قُلْتُمْ تَوَاتر ذَلِك عندنَا قيل فَإِذا كَانَ تَوَاتر ذَلِك عَن أئمتكم يُوجب حفظ الشَّرْع فلماذا لَا يجوز أَن يكون تَوَاتر الْأمة كلهَا عَن نبيها أولى وَأَحْرَى من غير إحتياج إِلَى نقل وَاحِد عَن وَاحِد وقولك لقُصُور النُّصُوص عَن تفاصيل الْأَحْكَام

قُلْنَا وكل إِمَام بِهَذِهِ الْمنزلَة فَإِن الْأَمِير إِذا خَاطب النَّاس فَلَا بُد أَن يخاطبهم بِمَا يعم الْأَعْيَان وَالْأَفْعَال إِذْ من الْمُمْتَنع أَن يعين كل فعل من فَاعل فِي كل وَقت فَمَا بَقِي إِلَّا الْخطاب الْكُلِّي وَذَلِكَ مُمكن من الرَّسُول

وَإِن زعمت أَن نُصُوص الرَّسُول لَيست عَامَّة كُلية قيل لَك هَذَا مَمْنُوع وَبِتَقْدِير أَن يمْنَع هَذَا من نُصُوص الرَّسُول فَأَنت مُضْطَر فِي خطاب الإِمَام إِلَى إِثْبَات عُمُوم الْأَلْفَاظ أَو عُمُوم الْمعَانِي بالإعتبار فَأَيّهمَا كَانَ أمكن إثْبَاته من خطاب الرَّسُول فَلَا حَاجَة إِلَى الإِمَام

وَالْحجّة قد قَامَت على الْخلق بالرسول قَالَ تَعَالَى (لتبين للنَّاس مَا نزل إِلَيْهِم) وَالله قد ضمن حفظ مَا أنزلهُ من الذّكر فَصَارَ ذَلِك مَأْمُونا من التبديل والتغيير

ثمَّ قد علم بالإضطرار من الدّين أَن أَكثر الْمُسلمين بَلغهُمْ الْقُرْآن وَالسّنَن بِدُونِ نقل عَليّ فَإِن عمر لما فتح الْأَمْصَار بعث إِلَيْهَا من علمهمْ وفقههم ثمَّ اتَّصل الْعلم من أُولَئِكَ إِلَى الْمُسلمين وَعلي بلغ جملَة من ذَلِك كَمَا بلغ ابْن مَسْعُود ومعاذ ابْن جبل وَأبي وخلائق فَتَبَارَكَ الله مَا أَجْهَل الرافضة

قَالَ وَالله قَادر على نصب مَعْصُوم وَالْحَاجة دَاعِيَة إِلَيْهِ وَلَا مفْسدَة فِيهِ فَيجب نَصبه

وَغير عَليّ لم يكن كَذَلِك فَتعين هُوَ

قُلْنَا هَذَا تكْرَار مِنْك وَقد مر أَن الْإِجْمَاع إِن كَانَ مَعْصُوما أغْنى عَن عصمَة عَليّ وَإِن لم يكن مَعْصُوما بطلت دلَالَته على عصمَة عَليّ

وَإِن زعمت أَن حَال الْأمة مَعَ وجود الْمَعْصُوم أكمل فَلَا ريب أَن حَالهم مَعَ

ص: 417

عصمَة نوابه أكمل وحالهم مَعَ عصمَة أنفسهم أكمل وأكمل

وَلَا يجب على الله ذَلِك

وَإِذا ادعيت أَن مَعَ عَدمه يدْخلُونَ النَّار وَلَا يعيشون فِي الدُّنْيَا أَو يشْتَد الْبلَاء فَيُقَال هَب أَن الْأَمر كَذَلِك فَلم قلت إِن إِزَالَة هَذَا وَاجِب وَمَعْلُوم أَن الْأَمْرَاض والهموم مَوْجُودَة والغلاء والجوائح والمصائب كَثِيرَة وَلَيْسَ مَا يُصِيب الْمَظْلُوم من الضَّرَر بأعظم مِمَّا يُصِيبهُ من هَذِه الْأُمُور وَالله لم يزل ذَلِك وحوائج الْبشر دَاعِيَة إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ من الصِّحَّة وَالْقُوَّة وَالْمَال وَالسُّرُور

وعَلى أصلك الْفَاسِد إِن الله لَا يقدر على خلق مُؤمن وَلَا كَافِر فَكيف يقدر على خلق مَعْصُوم

وَقد تقدم هَذَا وَبَان تناقضكم حَيْثُ جمعتم بَين إِيجَاب خلق مَعْصُوم على الله وَبَين قَوْلكُم إِن الله لَا يقدر على جعل أحد مَعْصُوما بإختياره بِحَيْثُ يُثَاب على فعله للطاعات وَتَركه للمعاصي

ثمَّ يُقَال الَّذِي تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجة أهوَ الْقَادِر على تَحْصِيل الْمصَالح وَإِزَالَة الْمَفَاسِد أم هُوَ الْمَعْصُوم وَإِن كَانَ عَاجِزا عَن ذَلِك الثَّانِي مَمْنُوع فَإِن الْعَاجِز لَا تحصل بِهِ فَائِدَة بل الْقُدْرَة شَرط فِي ذَلِك

وَالْأول لم يُوجد وَإِن وجد لم يفعل ذَلِك فَهُوَ عَاص أَو عَاجز قطعا

قَالَ وَالْإِمَام يجب أَن يكون أفضل من رَعيته وَعلي فَاضل أهل زَمَانه فَهُوَ الإِمَام لقبح تقدم الْمَفْضُول على الْفَاضِل عقلا ونقلا

قُلْنَا لَا نسلم أَنه أفضل أهل زَمَانه فَإِنَّهُ قَالَ على مِنْبَر الْكُوفَة خير هَذِه الْأمة بعد نبيها أَبُو بكر ثمَّ وَعمر

ثمَّ كثير من الْعلمَاء لَا يوجبون تَوْلِيَة الْأَفْضَل وَمِنْهُم من يَقُول بِولَايَة الْمَفْضُول إِذا كَانَ فِيهَا مصلحَة راجحة كَمَا تَقوله الزيدية

قَالَ الْمنْهَج الثَّانِي فِي الْأَدِلَّة من الْقُرْآن على إِمَامَة عَليّ قَوْله تَعَالَى (إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ) وَقد أَجمعُوا أَنَّهَا نزلت فِي عَليّ

روى الثَّعْلَبِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ

ص: 418

قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِهَاتَيْنِ وَإِلَّا صمتا يَقُول عَليّ قَائِد البررة وَقَاتل الْكَفَرَة مَنْصُور من نَصره مخذول من خذله

أما إِنِّي صليت مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَوْمًا الظّهْر فَسَأَلَ سَائل فِي الْمَسْجِد فَلم يُعْطه أحد شَيْئا فَرفع يَده إِلَى السَّمَاء وَقَالَ اللَّهُمَّ اشْهَدْ أَنِّي سَأَلت فِي مَسْجِد نبيك فَلم أعْط شَيْئا

وَكَانَ عَليّ رَاكِعا فَأَوْمأ إِلَيْهِ بِخِنْصرِهِ فَأقبل فَأخذ الْخَاتم وَذَلِكَ بِعَين رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

فَلَمَّا فرغ رفع رَأسه إِلَى السَّمَاء وَقَالَ اللَّهُمَّ إِن مُوسَى سَأَلَك (وَاجعَل لي وزيرا من أَهلِي هَارُون أخي اشْدُد بِهِ أزري وأشركه فِي أَمْرِي) فأنزلت عَلَيْهِ قُرْآنًا ناطقا (سنشد عضدك بأخيك) اللَّهُمَّ وَأَنا نبيك وصفيك اللَّهُمَّ فاشرح لي صَدْرِي وَيسر لي أَمْرِي وَاجعَل لي وزيرا من أَهلِي عليا اشْدُد بِهِ ظَهْري فَمَا استتم كَلَامه حَتَّى نزل عَلَيْهِ جِبْرِيل بِهَذِهِ الْآيَة (إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلَاة وَيُؤْتونَ الزَّكَاة وهم رَاكِعُونَ)

وَنقل الْفَقِيه ابْن المغازلي عَن ابْن عَبَّاس أَن الْآيَة نزلت فِي عَليّ

وَالْوَلِيّ الْمُتَصَرف وَقد أثبت لَهُ الْولَايَة فِي الْأمة كَمَا أثبتها الله لنَفسِهِ وَلِرَسُولِهِ

وَالْجَوَاب إِن قَوْلك أَجمعُوا أَنَّهَا نزلت فِي عَليّ من أعظم الدعاوي الكاذبة بل أَجمعُوا على أَنَّهَا لم تنزل فِي عَليّ بِخُصُوصِهِ وَإِن الْخَبَر كَاذِب وَفِي تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ من الموضوعات مَا لَا يخفى وَكَانَ حَاطِب ليل وَكَذَا تِلْمِيذه الواحدي

ثمَّ سَائِر مَا سقته من الْبَرَاهِين بَاطِل لَا يروج إِلَّا على من أعمى الله قلبه من الصم الْبكم أولى الْهوى وَالْجهل

وَلِهَذَا دخلت عَامَّة الزَّنَادِقَة من بَاب الرَّفْض وتسلطوا بِتِلْكَ الأكاذيب على الطعْن فِي الْإِسْلَام وَصَارَت شبها عِنْد الجهلة وَبهَا ضلت النصيرية والإسماعيلية وَكَانَ منشأ ضلالهم تصديقهم الرافضة بَيت الْكَذِب فِيمَا ينقلونه من التَّفْسِير والفضائل والمثالب فيشرعون فِي التوجع لآل مُحَمَّد ثمَّ ينتقلون إِلَى سبّ الصَّحَابَة والقدح فيهم ثمَّ ينتقلون إِلَى الْقدح فِي عَليّ لِأَنَّهُ سكت ثمَّ إِلَى الْقدح فِي الرَّسُول ثمَّ فِي الْإِلَه كَمَا رتبه لَهُم صَاحب الْبَلَاغ الْأَكْبَر والناموس الْأَعْظَم

ثمَّ هبك اعتضدت بالثعلبي

ص: 419

فقد نقل الثَّعْلَبِيّ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ إِنَّهَا نزلت فِي أبي بكر

وَنقل عَن عبد الْملك قَالَ سَأَلت أَبَا جَعْفَر الباقر عَن الْآيَة فَقَالَ هم الْمُؤْمِنُونَ

قلت فَإِن نَاسا يَقُولُونَ هُوَ عَليّ

فَقَالَ عَليّ من الَّذين آمنُوا

وَعَن الضَّحَّاك مثله

وروى عَن عَليّ بن أبي طَلْحَة عَن ابْن عَبَّاس فِي هَذِه الْآيَة قَالَ كل من أسلم فقد تولى الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا

ثمَّ نعفيك من ادعائك الْإِجْمَاع ونطالبك بِسَنَد وَاحِد صَحِيح

وَمَا أوردته عَن الثَّعْلَبِيّ واه فِيهِ رجال متهمون

وَأما ابْن المغازلي الوَاسِطِيّ فقد جمع فِي كِتَابه من الْكَذِب مَا لَا يخفى على من لَهُ أدنى معرفَة بِالْحَدِيثِ

وَلَو كَانَ المُرَاد بِالْآيَةِ أَن يُؤْتِي الزَّكَاة فِي حَالَة الرُّكُوع لوَجَبَ أَن يكون ذَلِك شرطا فِي الْمُوَالَاة وَلَا يتَوَلَّى الْمُسلم إِلَّا عليا فَقَط فَلَا يتَوَلَّى الْحسن وَلَا الْحُسَيْن

ثمَّ قَوْله (الَّذين يُقِيمُونَ) صِيغَة جمع فَلَا تصدق على وَاحِد فَرد

وَأَيْضًا فَلَا يثنى على الْمَرْء إِلَّا بمحمود وَفعل ذَلِك فِي الصَّلَاة لَيْسَ بمستحب وَلَو كَانَ مُسْتَحبا لفعله الرَّسُول صلى الله عليه وسلم ولحض عَلَيْهِ ولكرر عَليّ فعله

وَإِن فِي الصَّلَاة لشغلا فَكيف يُقَال لَا ولي لكم إِلَّا الَّذين يتصدقون فِي حَال الرُّكُوع ثمَّ قَوْله (وَيُؤْتونَ الزَّكَاة) يدل على وجود زَكَاة وَعلي مَا وَجَبت عَلَيْهِ زَكَاة قطّ فِي زمن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ كَانَ فَقِيرا وَزَكَاة الْفضة إِنَّمَا تجب على من ملك النّصاب حولا وَعلي لم يكن من هَؤُلَاءِ ثمَّ إِعْطَاء الْخَاتم فِي الزَّكَاة لَا يجزى عِنْد الْأَكْثَر ثمَّ إِن الْآيَة بِمَنْزِلَة قَوْله تَعَالَى (وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة واركعوا مَعَ الراكعين) وَكَقَوْلِه تَعَالَى (اقنتي لِرَبِّك واسجدي واركعي مَعَ الراكعين)

ثمَّ من الْمَعْلُوم المستفيض عِنْد الْمُفَسّرين أَنَّهَا نزلت فِي النَّهْي عَن مُوالَاة الْكفَّار وَوُجُوب مُوالَاة الْمُؤمنِينَ وَسِيَاق الْكَلَام يدل على ذَلِك لمن تدبر فَإِنَّهُ تَعَالَى قَالَ (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعضهم أَوْلِيَاء بعض وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين) فَهَذَا نهي عَن مُوالَاة الْيَهُود وَالنَّصَارَى ثمَّ قَالَ (فترى الَّذين فِي قُلُوبهم مرض يُسَارِعُونَ فيهم يَقُولُونَ نخشى أَن تصينا دَائِرَة فَعَسَى الله أَن يَأْتِي بِالْفَتْح

ص: 420

أَو أَمر من عِنْده فيصبحوا على مَا أَسرُّوا فِي أنفسهم نادمين) إِلَى أَن قَالَ (إِنَّمَا وَلِيكُم الله) فَهَذَا وصف عَام للْمُؤْمِنين وَلَا بُد لَكِن عَليّ وَأَبُو بكر وَالسَّابِقُونَ أولى الْأمة بِالدُّخُولِ فِيهَا

وَمن تَأمل الحَدِيث وركنه لَاحَ لَهُ كذبه وَلَو كَانَ حَقًا لَكَانَ من خذله وَمنعه حَقه من النَّصْر مخذولين وَلم يكن الْأَمر كَذَلِك بل نصروا وافتتحوا الْبِلَاد فَارس وَالروم والقبط

فالشيعة يدعونَ أَن الْأمة كلهَا خذلته إِلَى أَن قتل عُثْمَان

وَمن الْمَعْلُوم أَن الْأمة إِلَى أَن قتل عُثْمَان كَانَت منصورة نصرا عَظِيما لم ينصر بعده مثله أبدا فَلَمَّا قتل عُثْمَان تَفَرَّقت الْأمة فحزب مَعَ عَليّ وحزب عَلَيْهِ وحزب انعزلوا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ

وَمن الْمَعْلُوم أَن إِيمَان النَّاس بالرسول وطاعتهم لَهُ مَا كَانَ لأجل عَليّ كَمَا كَانَ هَارُون مَعَ مُوسَى فَإِن بني إِسْرَائِيل كَانُوا يحبونَ هَارُون جدا ويهابون مُوسَى وَكَانَ هَارُون يتألفه ويداريه

والرافضة تَدعِي أَن الْمُسلمين كَانُوا يبغضون عليا وَأَنَّهُمْ لبغضهم لَهُ لم يبايعوه وكتموا النَّص عَلَيْهِ فَكيف يُقَال إِن النَّبِي احْتَاجَ إِلَيْهِ كَمَا احْتَاجَ مُوسَى إِلَى هَارُون وَهَذَا أَبُو بكر أسلم على يَدَيْهِ خَمْسَة من الْعشْرَة المبشرين بِالْجنَّةِ عُثْمَان وَطَلْحَة وَسعد وَعبد الرَّحْمَن وَأَبُو عُبَيْدَة وَلم نعلم أَن أحدا من السَّابِقين أسلم على يَد عَليّ وَهَذَا مُصعب بن عُمَيْر أحد السَّابِقين قد أسلم على يَدَيْهِ أسيد بن حضير وَسعد بن معَاذ

وَأما الْمُوَالَاة فقد قَالَ تَعَالَى) وَإِن تظاهرا عَلَيْهِ فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيل وَصَالح الْمُؤمنِينَ) فَبين الله أَن كل صَالح من الْمُؤمنِينَ فَهُوَ مولى رَسُول الله وَالله مَوْلَاهُ وَجِبْرِيل مَوْلَاهُ

وَلَيْسَ فِي كَون الصَّالح من الْمُؤمنِينَ مولى أَن يكون مُتَوَلِّيًا على رَسُول الله وَلَا متصرفا فِيهِ

وَقَالَ تَعَالَى (والمؤمنون وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم أَوْلِيَاء بعض) فَكل مُؤمن تَقِيّ فَهُوَ ولي الله وَالله وليه قَالَ تَعَالَى (الله ولي الَّذين آمنُوا) وَقَالَ (أَلا إِن أَوْلِيَاء الله لَا خوف عَلَيْهِم)

ص: 421

وَمَا فِي هَذِه الْآيَات أَن من كَانَ ولي الآخر كَانَ مُتَوَلِّيًا عَلَيْهِ دون النَّاس وَالْفرق بَين الْولَايَة وَالْولَايَة مَعْرُوف فالأمير يُسمى الْوَالِي وَلَا يُسمى الْوَلِيّ

وَاخْتلف الْفُقَهَاء إِذا اجْتمع فِي الْجِنَازَة الْوَالِي وَالْوَلِيّ أَيهمَا يقدم فالموالاة ضد المعاداة

قَالَ الرافضي الْبُرْهَان الثَّانِي قَوْله تَعَالَى (يَا ايها الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك) اتَّفقُوا على نُزُولهَا فِي عَليّ روى أَبُو نعيم بِإِسْنَادِهِ إِلَى عَطِيَّة أَنَّهَا نزلت فِي عَليّ

وَفِي تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ (بلغ مَا أنزل إِلَيْك) فِي فضل عي فَلَمَّا نزلت أَخذ بيد عَليّ فَقَالَ من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ وَالنَّبِيّ مولى أبي بكر وَعمر وَالصَّحَابَة بِالْإِجْمَاع فَيكون عَليّ مَوْلَاهُم فَيكون هُوَ الإِمَام

وَمن تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ قَالَ لما كَانَ يَوْم غَدِير خم نَادَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم النَّاس فَاجْتمعُوا فَأخذ بيد عَليّ فَقَالَ من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ فشاع ذَلِك وطار فِي الْبِلَاد وَبلغ ذَلِك الْحَارِث بن النُّعْمَان الفِهري فَأتى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأَنَاخَ بِالْأَبْطح فَنزل وأتى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي مَلأ من أَصْحَابه فَقَالَ يَا مُحَمَّد أمرتنا بِالشَّهَادَتَيْنِ وبالصلاة وَالزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحج فَقبلنَا مِنْك ثمَّ لم ترض حَتَّى رفعت بضبعي ابْن عمك ففضلته علينا وَقلت من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ فَإِن كَانَ هَذَا من الله فحدثنا فَقَالَ أَي وَالله من أَمر الله

فولي الْحَارِث وَهُوَ يَقُول (إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم)

فَمَا وصل حَتَّى رَمَاه الله بِحجر فَسقط على هامته وَخرج من دبره فَقتله وأنزلت (سَأَلَ سَائل بِعَذَاب) وَقد روى هَذَا النقاش فِي تَفْسِيره

قُلْنَا هَذَا أعظم كذبا وفرية من الأول

فقولك اتَّفقُوا على نُزُولهَا فِي عَليّ كذب بل وَلَا قَالَه عَالم

وَفِي كتاب أبي نعيم والثعلبي والنقاش من الْكَذِب مَا لَا يعد والمرجع فِي النَّقْل إِلَى أُمَنَاء حَدِيث رَسُول الله كَمَا أَن الْمرجع فِي النَّحْو إِلَى أربابه وَفِي الْقرَاءَات إِلَى حذاقها وَفِي اللُّغَة إِلَى أئمتها وَفِي الطِّبّ إِلَى علمائه فَلِكُل فن رجال وعلماء الحَدِيث اجل وَأعظم تحريا للصدق من كل أحد علم ذَلِك من علمه فَمَا

ص: 422

اتَّفقُوا على صِحَّته فَهُوَ الْحق وَمَا أَجمعُوا على تزييفه وتوهينه فَهُوَ سَاقِط وَمَا اخْتلفُوا فِيهِ نظر فِيهِ بإنصاف وَعدل فهم الْعُمْدَة كمالك وَشعْبَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث والسفيانين والحمادين وَابْن الْمُبَارك وَيحيى الْقطَّان وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي ووكيع وَابْن علية وَالشَّافِعِيّ وَعبد الرَّزَّاق وَالْفِرْيَابِي وَأبي نعيم والقعنبي والْحميدِي وَأبي عبيد وَابْن الْمَدِينِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَابْن معِين وَأبي بكر بن أبي شيبَة والذهلي وَالْبُخَارِيّ وَأبي زرْعَة وَأبي حَاتِم وَأبي دَاوُد وَمُسلم ومُوسَى بن هَارُون وَصَالح جزرة وَالنَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَأبي أَحْمد بن عدي وَابْن حبَان وَالدَّارَقُطْنِيّ وأمثالهم من أهل الْعلم بِالنَّقْلِ وَالرِّجَال والجراح وَالتَّعْدِيل

وَقد صنف فِي معرفَة الرِّجَال كتب جمة كالطبقات لإبن سعد وتاريخي البُخَارِيّ وَكَلَام ابْن معِين من رِوَايَة أَصْحَابه عَنهُ وَكَلَام أَحْمد من رِوَايَة أَصْحَابه عَنهُ وَكتاب يحيى بن سعد الْقطَّان وَكتاب عَليّ بن المدايني وتاريخ يَعْقُوب الْفَسَوِي وَابْن أبي خَيْثَمَة وَابْن أبي حَاتِم والعقيلي وَابْن عدي وَابْن حبَان وَالدَّارَقُطْنِيّ

والمصنفات فِي الحَدِيث على المسانيد كمسند أَحْمد وَإِسْحَاق وَأبي دَاوُد وَابْن أبي شيبَة والعدني وَابْن منيع وَأبي يعلى وَالْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ وخلائق

وعَلى الْأَبْوَاب كالموطأ وَسنَن سعيد بن مَنْصُور وصحيحي البُخَارِيّ وَمُسلم وَالسّنَن الْأَرْبَعَة وَمَا يطول الْكتاب بتعداده

وَفِي الْجُمْلَة لَيْسَ فِي فرق الْأمة أَجْهَل بالآثار ورجالها وَأَقْبل للباطل وأدفع للصحيح من الرافضة

ثمَّ أضدادهم من الْخَوَارِج وإخوانهم من الْمُعْتَزلَة يتحرون الصدْق وَلَا يحتجون بِخَبَر مَكْذُوب بل وَلَا بِالصَّحِيحِ بل لَهُم طرق وقواعد مبتدعة وعقول فِي الْجُمْلَة

وَهَؤُلَاء الرافضة لَا عقل وَلَا نقل

فالآثار ومعرفتها والأسانيد من خَصَائِص السّنة وَالْجَمَاعَة وعلامة صِحَة الحَدِيث عِنْد الرافضي أَن يُوَافق هَوَاهُ

قَالَ عبد الرَّحْمَن بن مهْدي

أهل الْعلم يَكْتُبُونَ مَالهم وَمَا عَلَيْهِم وَأهل الْأَهْوَاء لَا يَكْتُبُونَ إِلَّا مَالهم

ثمَّ نقُول لَهُم مَا يرويهِ مثل النقاش والثعلبي وَأبي نعيم وَنَحْوهم أتقبلونه مُطلقًا لكم وَعَلَيْكُم أم تردونه مُطلقًا أَو تأخذون بِمَا وَافق أهواءكم وتردون مَا خَالف فَإِن قبلوه مُطلقًا فَفِي ذَلِك من فَضَائِل الشَّيْخَيْنِ جملَة من الصَّحِيح والضعيف وَإِن ردُّوهُ مُطلقًا بَطل إعتماده بمل ينْقل عَنْهُم وَإِن قبلوا مَا يُوَافق مَذْهَبهم أمكن الْمُخَالف رد مَا قبلوه والإحتجاج

ص: 423

بِمَا ردُّوهُ

وَالنَّاس قد كذبُوا فِي المناقب والمثالب أَكثر من كل شَيْء

ثمَّ هَذَا الحَدِيث كذب بإتفاق أهل الحَدِيث وَلِهَذَا لم يرو فِي شَيْء من كتب الحَدِيث المرجوع إِلَيْهَا وَإِنَّمَا يجوز صدقه من يَقُول إِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَانَ على مَذْهَب أحد الْأَرْبَعَة وَإِن أَبَا حنيفَة وَنَحْوه كَانُوا قبل النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَو كَمَا تظن طَائِفَة من التركمان أَن حَمْزَة لَهُ مغاز عَظِيمَة وينقلونها بَينهم وَحَمْزَة مَا شهد إِلَّا بَدْرًا وَاسْتشْهدَ يَوْم أحد

وَمثل مَا يعْتَقد كثير من الْعَوام أَن أبي بن كَعْب وَأم سَلمَة زوج النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي مغائر دمشق أَو أَن عَائِشَة كَانَت تحدث النَّاس فِي بَاب الْقبَّة الَّتِي بِجَامِع دمشق أَو أَن قبر عَليّ رضي الله عنه بباطن النجف وَأهل الْعلم يعلمُونَ أَن عليا وَمُعَاوِيَة وَعَمْرو بن الْعَاصِ دفن كل وَاحِد مِنْهُم بقصر الْإِمَارَة خوفًا عَلَيْهِ من نبش الْخَوَارِج

ص: 424

وَاتفقَ النَّاس على أَن مَا قَالَه النَّبِي صلى الله عليه وسلم بغدير خم كَانَ مرجعه من حجَّة الْوَدَاع

أَلا ترى أَن الشِّيعَة تجْعَل يَوْم ثَانِي عشر ذِي الْحجَّة عيدا فَبعد ذَلِك لم يرجع النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّة

وَهَذَا الحَدِيث المكذوب فِيهِ مَا يبين كذبه من قَوْله فَجَاءَهُ الْحَارِث وَهُوَ بِالْأَبْطح

ثمَّ قَوْله وَنزلت (سَأَلَ سَائل) وَهِي إِنَّمَا نزلت قبل الْهِجْرَة بِمَكَّة

ثمَّ قَوْله تَعَالَى (وَإِذ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق) نزلت عقيب بدر بالإتفاق

وَأهل التَّفْسِير متفقون على أَنَّهَا نزلت بِسَبَب مَا قَالَه الْمُشْركُونَ للنَّبِي صلى الله عليه وسلم بِمَكَّة كَأبي جهل وَذَوِيهِ

ثمَّ لم تنزل عَلَيْهِم حِجَارَة من السَّمَاء وَلَو كَانَ هَذَا الْمَجْهُول قد نزل عَلَيْهِ حجر خرق هامته وَخرج من دبره لَكَانَ آيَة من جنس أَصْحَاب الْفِيل وَذَلِكَ مِمَّا تتوفر الهمم والدواعي على نَقله

قَالَ الْبُرْهَان الثَّالِث قَوْله (الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ) الْآيَة

روى أَبُو نعيم بِإِسْنَادِهِ إِلَى أبي سعيد أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم دَعَا النَّاس إِلَى غَدِير خم وأمرنا بحت الشّجر من الشوك فَقَامَ فَأخذ بضبعي عَليّ فرفعهما حَتَّى نظر النَّاس إِلَى بَاطِن إبطي رَسُول الله ثمَّ لم يتفرقوا حَتَّى نزلت (الْيَوْم أكملت لكم دينكُمْ) فَقَالَ الرَّسُول الله أكبر على إِكْمَال الدّين وَرَضي الرب برسالتي وبالولاية لعَلي من بعدِي

ثمَّ قَالَ من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَال من وَالَاهُ وانصر من نَصره واخذل من خذله

قُلْنَا وَهَذَا من الْكَذِب بإتفاق أهل الْمعرفَة بالموضوعات

وَقد ثَبت أَن الْآيَة نزلت على الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَهُوَ وَاقِف بِعَرَفَة قبل يَوْم الغدير بسبعة أَيَّام

ثمَّ لَيْسَ فِيهَا دلَالَة على عَليّ رضي الله عنه بِوَجْه وَلَا على إِمَامَته

فدعواك أَن الْبَرَاهِين دلّت عَلَيْهِ من الْقُرْآن من الْكَذِب الْوَاضِح وَإِنَّمَا يكون ذَلِك من الحَدِيث لَو صَحَّ

قَالَ الْبُرْهَان الرَّابِع قَوْله (والنجم إِذا هوى مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى) روى

ص: 425

الْفَقِيه عَليّ بن المغازلى الشَّافِعِي بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ كنت جَالِسا مَعَ فِئَة من بني هَاشم عِنْد النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذا انقض كَوْكَب من السَّمَاء فَقَالَ من انقض هَذَا الْكَوْكَب فِي منزله فَهُوَ الْوَصِيّ من بعدِي فَإِذا هُوَ قد انقض فِي منزل عَليّ

قَالُوا يَا رَسُول الله قد غويت فِي حب عَليّ فَأنْزل الله تَعَالَى (والنجم إِذا هوى)

قُلْنَا وَهَذَا من أبين الْكَذِب وَالْقَوْل على الله بِلَا علم حرَام قَالَ الله تَعَالَى (وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم) فَكل من احْتج بِحَدِيث عَلَيْهِ أَن يعلم صِحَّته قبل أَن يسْتَدلّ بِهِ وَإِذا احْتج بِهِ على غَيره فَعَلَيهِ بَيَان صِحَّته وَإِذا عرف أَن فِي الْكتب الْكَذِب صَار الإعتماد على مُجَرّد مَا فِيهَا مثل الأستدلال بِشَهَادَة الْفَاسِق الَّذِي يصدق ويكذب

ثمَّ هَذَا الحَدِيث ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي الموضوعات بِلَفْظ آخر من حَدِيث مُحَمَّد بن مَرْوَان عَن الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس قَالَ لما عرج بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى السَّمَاء السَّابِعَة وَأرَاهُ الله من الْعَجَائِب فَلَمَّا أصبح جعل يحدث فكذبه من أهل مَكَّة من كذبه فانقض نجم من السَّمَاء فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي دَار من وَقع هَذَا النَّجْم فَهُوَ خليفتي من بعدِي فَوَقع فِي دَار عَليّ فَقَالَ أهل مَكَّة ضل مُحَمَّد وغوى وَهوى أهل بَيته وَمَال إِلَى ابْن عَمه فَنزلت (والنجم)

قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ هَذَا مَوْضُوع

فَمَا أبرد من وَضعه وَمَا أبعد مَا ذكر

وَفِي إِسْنَاده ظلمات مِنْهَا أَبُو صَالح وَكَذَلِكَ الْكَلْبِيّ وَمُحَمّد بن مَرْوَان السّديّ

وَالْمُتَّهَم بِهِ الْكَلْبِيّ

قَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان كَانَ الْكَلْبِيّ من الَّذين يَقُولُونَ إِن عليا لم يمت وَإنَّهُ يرجع إِلَى الدُّنْيَا وَإِن وأوا سَحَابَة قَالُوا أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيهَا لَا يحل الإحتجاج بِهِ

قَالَ وَالْعجب من تغفل من وضع هَذَا الحَدِيث كَيفَ رتب مَا لَا يصلح فِي الْمَعْقُول من أَن النَّجْم يَقع فِي دَار وَيثبت إِلَى أَن يرى وَمن بلهه أَنه وضع هَذَا الحَدِيث على ابْن عَبَّاس

ص: 426

وَكَانَ ابْن عَبَّاس زمن الْمِعْرَاج إِبْنِ سنتَيْن فَكيف يشْهد تِلْكَ الْحَالة ويرويها قلت إِذا لم يكن هَذَا الحَدِيث فِي تَفْسِير الْكَلْبِيّ الْمَعْرُوف عَنهُ فَهُوَ مِمَّا وضع بعده وَهَذَا هُوَ الْأَقْرَب

قَالَ أَبُو الْفرج وَقد سرق هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه قوم وغيروا إِسْنَاده وَرَوَوْهُ بِإِسْنَاد غَرِيب ثمَّ إِنَّه لم ينْقض قطّ كَوْكَب إِلَى الأَرْض بِمَكَّة وَلَا بِالْمَدِينَةِ وَلَا غَيرهمَا وَلما بعث نَبِي الله صلى الله عليه وسلم كثر الرَّمْي بِالشُّهُبِ وَمَعَ هَذَا لَا يرْوى مثل هَذَا الْبُهْتَان إِلَّا أوقح النَّاس وَأَقلهمْ حَيَاء

ثمَّ لَو كَانَ هَذَا جرى لَكَانَ يُغني عَن الْوَصِيَّة يَوْم غَدِير خم

قَالَ الْبُرْهَان الْخَامِس قَوْله تَعَالَى (إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت) فروى أَحْمد فِي مُسْنده عَن وَاثِلَة بن الْأَسْقَع قَالَ طلبت عليا فِي منزله فَقَالَت فَاطِمَة ذهب إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ فجاءا جَمِيعًا فَدخلت مَعَهُمَا فأجلس عليا عَن يسَاره وَفَاطِمَة عَن يَمِينه وَالْحسن وَالْحُسَيْن بَين يَدَيْهِ ثمَّ التفع عَلَيْهِم بِثَوْبِهِ وَقَالَ (إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت وَيُطَهِّركُمْ تَطْهِيرا) اللَّهُمَّ إِن هَؤُلَاءِ أَهلِي

وَعَن أم سَلمَة قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي بَيتهَا الحَدِيث وَفِي آخِره إِنَّك إِلَى خير

فَفِي هَذِه الْآيَة دلَالَة على الْعِصْمَة مَعَ التَّأْكِيد بِلَفْظَة إِنَّمَا وَإِدْخَال اللَّام فِي الْخَبَر

وَغَيرهم لَيْسَ بمعصوم فَتكون الْإِمَامَة فِي عَليّ وَلِأَنَّهُ ادَّعَاهَا فِي عدَّة من أَقْوَاله كَقَوْلِه وَالله لقد تقمصها ابْن أبي قُحَافَة وَهُوَ يعلم أَن محلي مِنْهَا مَحل القطب من الرَّحَى

وَقد ثَبت نفي الرجس عَنهُ فَيكون صَادِقا

قُلْنَا الحَدِيث صَحِيح قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَهُم وَرَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه عَن عَائِشَة

وَفِي السّنَن عَن أم سَلمَة

وَلَيْسَ فِيهِ دلَالَة على عصمتهم وَلَا إمامتهم أصلا

فَنَقُول قَوْله (إِنَّمَا يُرِيد الله) كَقَوْلِه (مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته

ص: 427

عَلَيْكُم) وَكَقَوْلِه تَعَالَى (يُرِيد الله بكم الْيُسْر) وَقَوله (يُرِيد الله ليبين لكم)(وَالله يُرِيد أَن يَتُوب عَلَيْكُم) فإرادته فِي هَذِه الْآيَات متضمنة لمحبته لذَلِك المُرَاد ورضائه بِهِ وَأَنه شَرعه لَيْسَ فِي ذَلِك أَنه خلق هَذَا المُرَاد وَلَا أَنه قدره وأوجده

وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم بعد نزُول الْآيَة قَالَ اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أهل بَيْتِي فَأذْهب عَنْهُم الرجس فَطلب من الله ذَلِك فَلَو كَانَت الْآيَة تَتَضَمَّن الْوُقُوع وَلَا بُد لم يحْتَج إِلَى الدُّعَاء

وَهَذَا على قَول الْقَدَرِيَّة أظهر فَإِن إِرَادَة الله عنْدكُمْ لَا تَتَضَمَّن وجود المُرَاد بل قد يُرِيد مَا لَا يكون وَيكون مَا لَا يُرِيد

أفنسيت أصلك الْفَاسِد أما على قَوْلنَا فالإرادة نَوْعَانِ شَرْعِيَّة تَتَضَمَّن محبَّة الله وَرضَاهُ كَمَا فِي الْآيَات وَإِرَادَة كونية قدرية تَتَضَمَّن خلقه وَتَقْدِيره كَقَوْلِه (إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يغويكم)(فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا)

ثمَّ إِن أَزوَاج النَّبِي صلى الله عليه وسلم مذكورات فِي الْآيَات فَبَدَأَ بِهن وَختم بِهن وَسَائِر الْخطاب لَهُنَّ وَإِرَادَة إذهاب الرجس وتطهير أهل الْبَيْت لَيْسَ بمختص بالأزواج بل متناول لكل أهل الْبَيْت وَعلي وَفَاطِمَة وَحسن وحسين أخص من غَيرهم وَلذَلِك خصهم بِالدُّعَاءِ وَثَبت فِي الصَّحِيح أَنه علمهمْ الصَّلَاة عَلَيْهِ اللَّهُمَّ صلى على مُحَمَّد وأزواجه وَذريته

فَإِن قيل هَب أَن الْقُرْآن لَا يدل على طهارتهم وإذهاب الرجس عَنْهُم لَكِن دعاؤه لَهُم يدل على وُقُوعه قُلْنَا الْمَقْصُود أَن الْقُرْآن بمفرده لَا يدل على ذَلِك فضلا عَن أَن يدل على الْعِصْمَة والإمامة

ثمَّ هَب أَن الْقُرْآن دلّ على طهارتهم فَأَيْنَ لُزُوم الْعِصْمَة وَأَن لَا يجوز عَلَيْهِم خطأ وَلَا سَهْو وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الله لم يرد بِمَا أَمر بِهِ الزَّوْجَات أَن لَا يصدر

ص: 428

من وَاحِدَة مِنْهُنَّ خطأ وَسِيَاق الْآيَة يدل على أَن الله يذهب عَنْهُم الْخبث وَالْفَوَاحِش ويطهرهم مِنْهَا وَنحن نعلم أَن الله أذهب عَن أُولَئِكَ السَّادة الشّرك والخبائث والرجس وطهرهم من هَذِه الْفَوَاحِش وَلَيْسَ من شَرط المتقى أَن لَا تقع مِنْهُ صَغِيرَة ويستغفر مِنْهَا وَلَو كَانَ ذَلِك شرطا لعدم المتقون من أمة مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فَمن فعل مَا يكفر سيئاته كَانَ من الْمُتَّقِينَ

وَقَالَ تَعَالَى (خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ وتزكيهم بهَا) وَقد يكون من تَمام تطهيرهم صيانتهم عَن الصَّدَقَة فَإِنَّهَا أوساخ النَّاس

وَبِالْجُمْلَةِ فالتطهير الَّذِي فِي الْآيَة ودعا بِهِ الرَّسُول لَيْسَ هُوَ الْعِصْمَة بالإتفاق فَإِن أهل السّنة يثبتونها للرسول والشيعة لَا يثبتونها لغير النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَّا لعَلي أَو للْإِمَام فانتفت عَن الزَّوْجَات وَالْبَنَات وَغَيرهم وَإِذا كَانَ كَذَلِك امْتنع أَن يكون التَّطْهِير الْمَدْعُو بِهِ للأربعة متضمنا للعصمة الْمُخْتَص بهَا النَّبِي وَالْإِمَام

ثمَّ الدُّعَاء بالعصمة من الذُّنُوب مُمْتَنع على أصل الْقَدَرِيَّة بل والتطهير فَإِن الْأَفْعَال الإختيارية الَّتِي هِيَ فعل الْوَاجِبَات وَترك الْمُحرمَات عِنْدهم غير مقدورة للرب فَلَا يُمكنهُ أَن يَجْعَل العَبْد متطهرا وَلَا طَائِعا وَلَا عَاصِيا فَامْتنعَ على أصلهم الدُّعَاء بِفعل الْخيرَات وَترك الْمُنْكَرَات

وَإِنَّمَا الْمَقْدُور عِنْدهم قدرَة تصلح لهَذَا وَهَذَا كالسيف يصلح لقتل الْمُسلم وَالْكَافِر وَالْمَال يُمكن بذله فِي الطَّاعَة وَالْمَعْصِيَة ثمَّ العَبْد يفعل اشاء من خير أَو شَرّ بِتِلْكَ الْقُدْرَة

والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم فِي إبِْطَال هَذَا القَوْل حَيْثُ دَعَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم لأهل بَيته بالتطهير وَإِن قَالُوا المُرَاد بذلك أَنه يغْفر لَهُم وَلَا يؤاخذهم كَانَ ذَلِك أدل على بطلَان دلَالَته على الْعِصْمَة وَيمْتَنع عِنْدهم سُؤال الله الْعِصْمَة من الْمعاصِي وَلَو قدر ثُبُوت الْعِصْمَة فقد قدمنَا أَنه لَا يشْتَرط فِي الإِمَام الْعِصْمَة

ص: 429

وقولك إِن عليا ادَّعَاهَا وَقد ثَبت نفي الرجس عَنهُ فَيكون صَادِقا فَلَا نسلم أَنه ادَّعَاهَا بل نعلم بِالضَّرُورَةِ أَنه مَا ادَّعَاهَا حَتَّى قتل عُثْمَان

وَإِن كَانَ قد يوده بِقَلْبِه لَكِن مَا قَالَ أَنا الإِمَام وَلَا أَنا مَعْصُوم وَلَا إِن الرَّسُول جعلني الإِمَام بعده وَلَا أَنه أوجب على النَّاس متابعتي وَلَا نَحْو هَذِه الْأَلْفَاظ بل نَحن نعلم بالإضطرار أَن من نقل هَذَا وَنَحْوه عَنهُ فَهُوَ كَاذِب عَلَيْهِ

وَنحن نعلم أَن عليا أتقى لله من أَن يدعى الْكَذِب الظَّاهِر الَّذِي يعلم الصَّحَابَة كلهم أَنه كذب

وقولك عَنهُ لقد تقمصها إِلَخ فَلم يقلهُ وَأَيْنَ إسنادك بِهِ وَإِنَّمَا يُوجد هَذَا فِي نهج البلاغة وَأهل الْعلم يعلمُونَ أَن أَكثر خطب هَذَا الْكتاب مفتراة على عَليّ وَلِهَذَا لَا يُوجد غالبها فِي كتاب قديم وَلَا لَهَا إِسْنَاد مَعْرُوف

فَهِيَ بِمَنْزِلَة من يَدعِي أَنه علوي أَو عباسي وَلَا نعلم أحدا من سلفه ادّعى ذَلِك قطّ فَيعلم كذبه

فَإِن النّسَب يكون مَعْرُوفا من أَصله حَتَّى يتَّصل بفرعه

وَفِي هَذِه الْخطب أَشْيَاء قد علم يَقِينا من عَليّ مَا يناقضها وَلم يُوجب الله على الْخلق أَن يصدقُوا بِمَا لم يقم دَلِيل على صدقه وَإِن ذَلِك من تَكْلِيف مَا لَا يُطَاق

وَكَيف يمكننا أَن نثبت إدعاء عَليّ الْخلَافَة بِمثل حِكَايَة منبعها من متهمين

ثمَّ هَب أَنه قَالَ ذَلِك فَلم قُلْتُمْ إِنَّه أَرَادَ أَنِّي إِمَام مَنْصُوص عَلَيْهِ فَيجوز عَلَيْهِ أَنه أَرَادَ أَنه

ص: 430

أَحَق من غَيره وَحِينَئِذٍ لَا يكون مخبرا عَن أَمر تعمد فِيهِ الْكَذِب وَلَكِن يكون تكلم بإجتهاد مِنْهُ لَكِن هَذَا كُله لَو صَحَّ شَيْء مِنْهُ لم يَصح إِلَّا بمقدمات لَيست فِي الْقُرْآن فَأَيْنَ براهينك القرآنية

قَالَ الْبُرْهَان السَّادِس قَوْله (فِي بيُوت أذن الله أَن ترفع وَيذكر فِيهَا اسْمه يسبح لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع عَن ذكر الله)

روى الثَّعْلَبِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن انس وَبُرَيْدَة قَالَا قَرَأَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هَذِه الْآيَة فَقَامَ رجل فَقَالَ أَي بيُوت هَذِه يَا رَسُول الله قَالَ بيُوت الْأَنْبِيَاء

فَقَالَ أَبُو بكر يَا رَسُول الله هَذَا الْبَيْت مِنْهَا يَعْنِي بَيت عَليّ وَفَاطِمَة قَالَ نعم من أفضلهَا

قُلْنَا نطالبك بِصِحَّة النَّقْل فَلَا سَبِيل لَك إِلَى ذَلِك

والثعلبي كحاطب ليل فَكيف والْحَدِيث كذب بِلَا ريب

ثمَّ الْآيَة بإتفاق النَّاس هِيَ فِي الْمَسَاجِد وَلَو قدر أَن عليا من رجال لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَة وَلَا بيع لما لزم من ذَلِك أَنه أفضل الْأمة بعد نبيها

ثمَّ لفظ الْآيَة رجال لم يقل رجل وَاحِد وَلَو قدر أَنه أفضل فَلم قلت بِوُجُوب إِمَامَة الْأَفْضَل

قَالَ الْبُرْهَان السَّابِع قَوْله (لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى)

وروى الإِمَام أَحْمد فِي مُسْنده عَن ابْن عَبَّاس قَالَ لما نزلت هَذِه الْآيَة قَالُوا يَا رَسُول الله من قرابتك الَّتِي وَجَبت علينا مَوَدَّتهمْ قَالَ عَليّ وَفَاطِمَة وابناهما

وَكَذَا فِي تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ وَنَحْوه فِي الصَّحِيحَيْنِ

وَغير عَليّ من الصَّحَابَة لَا تجب مودته فَيكون عَليّ أفضل فَيكون هُوَ الإِمَام

ومخالفته تنَافِي الْمَوَدَّة وطاعته مَوَدَّة فَيكون وَاجِب الطَّاعَة

فَالْجَوَاب قَوْلك فِي مُسْند أَحْمد كذب بَين على الْمسند وَكَذَا قَوْلك فِي الصَّحِيحَيْنِ إفتراء عَلَيْهِمَا بل فيهمَا وَفِي الْمسند مَا يُنَاقض ذَلِك فَكيف الْعَمَل بخطاب جهال كذبة وَلَكِن أَحْمد صنف كتابا فِي فَضَائِل الْخُلَفَاء الْأَرْبَعَة وَغَيرهم فِيهِ الصَّحِيح والسقيم

ثمَّ زَاد ابْنه عبد الله فِيهِ احاديث وَزَاد الْقطيعِي فِيهِ جملَة كَثِيرَة

ص: 431

واهية ومكذوبة فَظن الجهلة أَن الْكل من رِوَايَة أَحْمد وَهَذَا خطأ قَبِيح فَإِن زيادات عبد الله تظهر بِكَوْنِهَا عَن غير أَبِيه وزيادات الْقطيعِي تعرف بروايته لَهَا عَن غير عبد الله بن أَحْمد

وَأَيْضًا فالآية فِي الشورى وَهِي مَكِّيَّة بإتفاق وَعلي مَا تزوج فَاطِمَة إِلَّا فِي الْمَدِينَة وَالْحسن ولد سنة ثَلَاث وَالْحُسَيْن سنة أَربع فَكيف يُفَسر النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْآيَة المكية بِوُجُوب موده من لَا يعرف ثمَّ تَفْسِير الْآيَة فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن ابْن عَبَّاس سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ لَهُ سعيد بن جُبَير إِلَّا أَن تودوا مُحَمَّدًا فِي قرَابَته فَقَالَ ابْن عَبَّاس عجلت إِنَّه لم يكن بطن من قُرَيْش إِلَّا ولرسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم قرَابَة فَقَالَ (لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا) لَكِن أَسأَلكُم مَوَدَّة الْقَرَابَة الَّتِي بيني وَبَيْنكُم

فَهَذَا ابْن عَبَّاس ترجمان الْقُرْآن وَأعلم أهل الْبَيْت بعد عَليّ يَقُول مَا تسمع

وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ (إِلَّا الْمَوَدَّة فِي الْقُرْبَى) لم يقل إِلَّا الْمَوَدَّة للقربى وَلَا الْمَوَدَّة لِذَوي الْقُرْبَى فَلَو أَرَادَ ذَلِك لقَالَ هَكَذَا كَمَا قَالَ الله تَعَالَى (وَاعْلَمُوا أَنما غَنِمْتُم من شَيْء فَإِن لله خمسه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) وَقَالَ (فَللَّه وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى)(فَآت ذَا الْقُرْبَى حَقه)(وَأتي المَال على حبه ذَوي الْقُرْبَى) فَجَمِيع مَا أوصى بِهِ من حق ذَوي قربى النَّبِي أَو ذَوي قربى الْإِنْسَان هَكَذَا

فَلَمَّا ذكر قَوْله (إِلَّا الْمَوَدَّة) بِالْمَصْدَرِ دون الإسم دلّ على أَنه لم يرد ذَوي الْقُرْبَى وَلَو أَرَادَ لقَالَ الْمَوَدَّة لِذَوي الْقُرْبَى وَلم يقل فِي فَإِنَّهُ لَا يُقَال لَا أَسأَلك الْمَوَدَّة فِي فلَان وَلَا فِي قربى فلَان بل لفُلَان

ونقول الرَّسُول لَا يسْأَل على تَبْلِيغ الرسال أجرا الْبَتَّةَ بل أجره على الله كَمَا قَالَ (قل مَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من اجْرِ) وَقَالَ (أم تَسْأَلهُمْ أجرا فهم من مغرم مثقلون) وَقَالَ (إِن أجْرى إِلَّا على الله) وَلَكِن الإستثناء مُنْقَطع كَقَوْلِه (قل مَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من اجْرِ إِلَّا من شَاءَ أَن يتَّخذ إِلَى ربه سَبِيلا)

وَلَا ريب أَن محبَّة أهل الْبَيْت واحبة لَكِن لم يثبت وُجُوبهَا بِهَذِهِ الْآيَة وَلَا محبتهم أجر الرَّسُول بل هُوَ مِمَّا أمرنَا بِهِ فَهُوَ من الْعِبَادَات

ص: 432

وَفِي الصَّحِيح أَنه صلى الله عليه وسلم خطب بغدير خم فَقَالَ أذكركم الله فِي أهل بَيْتِي قَالَهَا ثَلَاثًا وَفِي السّنَن أَنه قَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يدْخلُونَ الْجنَّة حَتَّى يحبوكم لله ولقرابتي وَلَو كَانَت مودتنا لَهُم أجرا لَهُ لم نثب عَلَيْهَا لأَنا أعطينا أجره الَّذِي إستحقه بالرسالة فَهَل يَقُول هَذَا مُسلم سلمنَا أَن عليا تجب مودته بِدَلِيل آخر فَمَا فِي ذَلِك مَا يُوجب إختصاصه بِالْإِمَامَةِ والفضيلة

وقولك وَالثَّلَاثَة لَا تجب مَوَدَّتهمْ مَمْنُوع بل تجب أَيْضا مَوَدَّتهمْ وموالاتهم فَإِنَّهُ ثَبت أَن الله يُحِبهُمْ وَمن كَانَ الله يُحِبهُ وَجب علينا أَن نحبه وَالْحب فِي الله والبغض فِي الله وَاجِب وَهُوَ أوثق عرى الْإِيمَان وهم من أَوْلِيَاء الله الْكِبَار وَثَبت أَن الله رَضِي عَنْهُم وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ مثل الْمُؤمنِينَ فِي توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كَمثل الْجَسَد الْوَاحِد إِذا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْو تداعى لَهُ سَائِر الْجَسَد بالحمى والسهر

والرافضي لَا يقدر أَن يركب الْحجَّة على الْخَارِجِي والناصبي فَإِذا قَالَا لَهُ بِأَيّ شَيْء علمت أَن عليا ولي الله فَإِن قَالَ بالتواتر لإسلامه وحسناته قَالَا لَهُ فالنقل الْمُتَوَاتر فِي أبي بكر وَأَمْثَاله كَذَلِك

فَإِن قَالَ بِالْقُرْآنِ

قَالَا الْقُرْآن يدل بعمومات أَنْت تخرج مِنْهَا أكَابِر الصَّحَابَة فإخراج وَاحِد أسهل

وَإِن قَالَ بالأحاديث الدَّالَّة على فضائله

قيل أَحَادِيث فضل أُولَئِكَ أَكثر وَأَصَح وَقد قدحت فِيهَا وَمَا ورد فِيهِ إِنَّمَا نَقله الصَّحَابَة الَّذين تقدح فيهم فَإِن صَحَّ قدحك بَطل النَّقْل وَإِن صَحَّ النَّقْل بَطل الْقدح

وَإِن قَالَ صَحَّ بِنَقْل الشِّيعَة

قيل الصَّحَابَة عنْدك مطعون فيهم سوى بضعَة عشر نفسا فقد يُقَال إِن الْبضْعَة عشر تواطأوا على مَا نقلوه

وَمن قدح فِي نقل الْجُمْهُور كَيفَ يُمكنهُ إِثْبَات نقل نفر قَلِيل وَنحن علينا أَن نحب من أحبه الله وَرَسُوله كعلي وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَي النَّاس أحب إِلَيْك قَالَ عَائِشَة

قيل فَمن الرِّجَال قَالَ أَبوهَا

وَفِي الصَّحِيح أَن عمر قَالَ لأبي بكر يَوْم السَّقِيفَة بل أَنْت سيدنَا وخيرنا وأحبنا إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لَو كنت متخذا من هَذِه الْأمة خَلِيلًا لأتخذت أَبَا بكر خَلِيلًا

ص: 433

وقولك مُخَالفَته تنَافِي الْمَوَدَّة إِلَخ فَالْجَوَاب إِن كَانَت الْمَوَدَّة توجب الطَّاعَة فقد وَجَبت مَوَدَّة ذَوي الْقُرْبَى فَتجب طاعتهم فَيجب أَن تكون فَاطِمَة أَيْضا إِمَامًا وَإِلَّا فالمودة لَيست مستلزمة للْإِمَامَة فَإِن كَانَت ملزوم الْإِمَامَة وإنتفاء الْمَلْزُوم يَقْتَضِي إنتفاء اللَّازِم فَلَا تجب مَوَدَّة إِلَّا من يكون إِمَامًا مَعْصُوما

وقولك الْمُخَالفَة تنَافِي الْمَوَدَّة فَنَقُول إِذا لم تكن الْمُخَالفَة قادحة فِي الْمَوَدَّة إِلَّا إِذا كَانَ وَاجِب الطَّاعَة فَحِينَئِذٍ يجب أَن نعلم وجوب الطَّاعَة أَولا فَإِذا ثَبت وُجُوبهَا بِمُجَرَّد وجوب الْمَوَدَّة كَانَ دورا إِلَّا إِذا علم أَنه إِمَام

ثمَّ الْمُخَالفَة تقدح فِي الْمَوَدَّة إِذا امرنا وَنحن نعلم أَنه لم يَأْمُرنَا بِطَاعَتِهِ فِي زمن أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان فَتجب مَوَدَّتهمْ أَيْضا وطاعتهم ومخالفتهم تقدح فِي مَوَدَّتهمْ بل تقدح فِي محبَّة الله وَرَسُوله

قَالَ الْبُرْهَان الثَّامِن قَوْله (وَمن النَّاس من يشرى نَفسه إبتغاء مرضاة الله) قَالَ الثَّعْلَبِيّ إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لما أَرَادَ الْهِجْرَة اسْتخْلف عليا لقَضَاء دُيُونه ورد الودائع وَأمره لَيْلَة خرج إِلَى الْغَار وَأَحَاطُوا بالديار أَن ينَام على فرَاشه ويتشح بِبرْدِهِ الْأَخْضَر وَقَالَ إِنَّه لَا يخلص إِلَيْك مِنْهُم مَكْرُوه فَفعل فَأوحى الله إِلَى جِبْرِيل وَمِيكَائِيل إِنِّي قد آخيت بَيْنكُمَا وَجعلت عمر أَحَدكُمَا أطول من الآخر فأيكما يُؤثر صَاحبه بِالْحَيَاةِ فَاخْتَارَ كِلَاهُمَا الْحَيَاة

فَقَالَ أَلا كنتما مثل عَليّ آخيت بَينه وَبَين مُحَمَّد فَبَاتَ على فرَاشه يفْدِيه بِنَفسِهِ ويؤثره الْحَيَاة اهبطا إِلَى الأَرْض فاحفظاه

فَنزلَا فَكَانَ جِبْرِيل عِنْد رَأسه وَمِيكَائِيل عِنْد رجلَيْهِ

فَقَالَ جِبْرِيل بخ بخ من مثلك يَا ابْن أبي طَالب يباهي الله بك الْمَلَائِكَة فَأنْزل الله على نبيه وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى الْمَدِينَة فِيهِ (وَمن النَّاس من يشرى نَفسه إبتغاء مرضاة الله) وَقَالَ ابْن عَبَّاس إِنَّهَا نزلت فِي عَليّ لما هرب النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَى الْغَار وَهَذِه فَضِيلَة لم تحصل لغيرة تدل على أفضليته

فَيكون هُوَ الإِمَام

وَالْجَوَاب الْمُطَالبَة بِصِحَّة النَّقْل وعزوك ذَلِك إِلَى الثَّعْلَبِيّ لَا يجدي شَيْئا

ص: 434

فالنبي لما هَاجر لم يكن لقريش غَرَض فِي طلب عَليّ إِنَّمَا كَانَ مطلوبهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَبا بكر فَجعلَا فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا دِيَته لمن جَاءَ بِهِ كَمَا صَحَّ لَا كَمَا سقت من الْكَذِب السمج فَترك عليا على فرَاشه لِيَظُنُّوا أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الْبَيْت فَلَا يطلبوه فَلَمَّا أَصْبحُوا وجدوا عليا فظهرت خيبتهم وَلم يؤذوا عليا بل سَأَلُوهُ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَا علم لي بِهِ

وَلَو كَانَ لَهُم فِي عَليّ غَرَض لآذوه فَلَمَّا لم يتَعَرَّضُوا لَهُ دلّ على أَنه لَا غَرَض لَهُم فِيهِ

وَالَّذِي كَانَ يقْصد الدّفع بِنَفسِهِ هُوَ أَبُو بكر بِلَا ريب وَكَانَ يذكر الطّلب فَيكون خلف رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَيذكر الرصد فَيكون امامه

ثمَّ غير وَاحِد من الصَّحَابَة قد فدوا النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِأَنْفسِهِم فِي الحروب فَمنهمْ من قتل بَين يَدَيْهِ وَمِنْهُم من شلت يَده كطلحة

وَهَذَا وَاجِب على الْمُؤمنِينَ

وَفِي السِّيرَة لإبن إِسْحَاق قَالَ فَأتى جِبْرِيل النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَا تبت اللَّيْلَة على فراشك

فَلَمَّا كَانَت عتمة من اللَّيْل اجْتَمعُوا على بَابه يَرْصُدُونَهُ حَتَّى ينَام فيثبون عَلَيْهِ فَلَمَّا رأى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مقامهم قَالَ لعَلي نم على فِرَاشِي واتشح ببردي هَذَا فَإِنَّهُ لن يخلص إِلَيْك شَيْء تكرههُ مِنْهُم

وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ لما اجْتَمعُوا لَهُ وَفِيهِمْ أَبُو جهل قَالَ إِن مُحَمَّدًا يزْعم أَنكُمْ إِن تابعتموه على أمره كُنْتُم مُلُوك الْعَرَب والعجم ثمَّ بعثتم من بعد موتكم فَجعلت لكم جنَّات كجنات الْأُرْدُن وَإِن لم تَفعلُوا كَانَ لَهُ فِيكُم ذبح ثمَّ بعثتم من بعد موتكم فَجعلت لكم نَار تحرقون فِيهَا

قَالَ وَخرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِم فَأخذ حفْنَة من تُرَاب ثمَّ قَالَ نعم أَنا أَقُول ذَلِك أَنْت أحدهم

وَأخذ الله بِأَبْصَارِهِمْ عَنهُ فَلَا يرونه وَلم يبْق مِنْهُم رجل إِلَّا وضع التُّرَاب على رَأسه ثمَّ انْصَرف إِلَى حَيْثُ أَرَادَ

فَأَتَاهُم آتٍ فَقَالَ مَا تنتظرون هَا هُنَا قَالُوا مُحَمَّدًا قَالَ خيبكم الله قد وَالله خرج ثمَّ مَا ترك مِنْكُم رجلا إِلَّا وضع على رَأسه تُرَابا فنظروا فَرَأَوْا التُّرَاب

ثمَّ جعلُوا يطعلون فيرون عليا على الْفراش متسجيا بِبرد النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُونَ وَالله إِن هَذَا لمُحَمد نَائِم عَلَيْهِ برده

فَلم يبرحوا كَذَلِك حَتَّى أَصْبحُوا

فَقَامَ عَليّ فَقَالُوا وَالله لقد كَانَ صدقنا الَّذِي حَدثنَا وأنزلت قَوْله تَعَالَى (وَإِذ يمكر بك الَّذين كفرُوا ليثبتوك أَو يَقْتُلُوك أَو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله

ص: 435

وَالله خير الماكرين)

فَهَذَا يُوضح لَك أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وعده أَنه لَا يُصِيبهُ مَكْرُوه فاطمأن إِلَى قَول الصَّادِق

ثمَّ مَا أوردته هذيان بَاطِل لَا سِيمَا محاورة جِبْرِيل وَمِيكَائِيل ومؤاخاتهما وأعمارهما ثمَّ مؤاخاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم لعَلي لم تصح

وَمَعَ ذَلِك فيروى أَنَّهَا كَانَت بِالْمَدِينَةِ كَمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَذَلِكَ بعد الْهِجْرَة

ثمَّ قَوْله تَعَالَى (وَمن النَّاس من يشرى نَفسه إبتغاء مرضاة الله) فِي الْبَقَرَة وَهِي مَدَنِيَّة بإتفاق وَقيل نزلت الْآيَة لما هَاجر صُهَيْب وَطَلَبه الْمُشْركُونَ فَأَعْطَاهُمْ مَاله وأتى الْمَدِينَة فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ربح البيع أَبَا يحيى وَهَذِه الْقِصَّة فِي عدَّة تفاسير

وَعَن قَتَادَة قَالَ نزلت فِي الْمُجَاهدين الْمُهَاجِرين

وَقَالَ عِكْرِمَة نزلت فِي صُهَيْب وَأبي ذَر حِين أَخذ أهل بدر أَبَا ذَر فانفلت مِنْهُم فَقدم على النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا رَجَعَ مُهَاجرا عرضوا لَهُ بمر الظهْرَان فانفلت مِنْهُم أَيْضا

وَأما صُهَيْب فَأَخذه أَهله فَافْتدى مِنْهُم بِمَالِه

وَأَيْضًا فَلفظ الْآيَة مُطلق فَكل من بَاعَ نَفسه إبتغاء مرضاة الله فقد دخل فِيهَا

وَأهل بيعَة الرضْوَان بَايعُوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على الْمَوْت أخرجه البُخَارِيّ

وَلَا ريب أَن الْفَضِيلَة الَّتِي حصلت لأبي بكر فِي الْغَار وَالْهجْرَة انْفَرد بهَا فَتكون هَذِه الْأَفْضَلِيَّة ثَابِتَة لَهُ دون عمر وَعُثْمَان وَعلي وَغَيرهم من الصَّحَابَة فَيكون هُوَ الإِمَام

فَهَذَا هُوَ الدَّلِيل الصدْق الَّذِي لَا كذب فِيهِ قَالَ الله تَعَالَى (إِلَّا تنصروه فقد نَصره الله إِذْ أخرجه الَّذين كفرُوا ثَانِي إثنين إِذْ هما فِي الْغَار إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا) فَأَيْنَ مثل هَذِه الخصيصة لغير الصّديق بِنَصّ الْقُرْآن

ص: 436

ثمَّ إِن عليا لم يؤذ فِي مبيته على فرَاش النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَقد أوذي غَيره فِي وقايتهم النَّبِي صلى الله عليه وسلم

قَالَ الْبُرْهَان التَّاسِع قَوْله (فَمن حاجك فِيهِ من بعد مَا جَاءَك من الْعلم فَقل تَعَالَوْا نَدع أبناءنا وأبناءكم وَنِسَاءَنَا ونساءكم وأنفسنا وَأَنْفُسكُمْ) الْآيَة

نقل الْجُمْهُور أَن (أبناءنا) إِشَارَة إِلَى الْحسن وَالْحُسَيْن (وَنِسَاءَنَا) إِلَى فَاطِمَة (وأنفسنا) إِلَى عَليّ

وَهَذِه الْآيَة أدل دَلِيل على ثُبُوت الْإِمَامَة لَهُ لِأَن الله جعله نفس الرَّسُول والإتحاد محَال فَبَقيَ المُرَاد بالمساواة لَهُ الْولَايَة

وَأَيْضًا فَلَو كَانَ غير هَؤُلَاءِ مُسَاوِيا لَهُم وَأفضل مِنْهُم لاستجابة الدُّعَاء لأَمره تَعَالَى بأخذهم مَعَه لِأَنَّهُ فِي مَوضِع الْحَاجة

وَإِذا كَانُوا هم الْأَفْضَل تعيّنت الْإِمَامَة فيهم

فَهَل تخفى دلَالَة هَذِه الْآيَة على الْمَطْلُوب إِلَّا على من استحوذ الشَّيْطَان عَلَيْهِ

الْجَواب أما أَخذه عليا وَفَاطِمَة وابنيهما فِي المباهلة فَفِي مُسلم من حَدِيث سعد بن أبي وَقاص لما نزلت هَذِه الْآيَة دعاهم فَقَالَ اللَّهُمَّ هَؤُلَاءِ أَهلِي وَلَكِن لَا دلَالَة فِي ذَلِك على الْإِمَامَة وَلَا على الْأَفْضَلِيَّة

وقولك جعله نفس الرَّسُول قُلْنَا لَا نسلم أَنه لم يبْق إِلَّا الْمُسَاوَاة وَلَا دَلِيل على ذَلِك بل حمله على ذَلِك مُمْتَنع لِأَن أحدا لَا يُسَاوِي الرَّسُول وَهَذَا اللَّفْظ فِي اللُّغَة لَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاة قَالَ الله تَعَالَى (لَوْلَا إِذْ سمعتموه ظن الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات بِأَنْفسِهِم خيرا) وَلم يُوجب ذَلِك أَن يكون الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَات متساوين وَقَالَ تَعَالَى (فَاقْتُلُوا أَنفسكُم) أَي يقتل بَعْضكُم بَعْضًا وَلم يُوجب ذَلِك تساويهم وَلَا أَن يكون من عبد الْعجل مُسَاوِيا لمن لم يعبده وَكَذَلِكَ (وَلَا تقتلُوا أَنفسكُم) أَي لَا يقتل بَعْضكُم بَعْضًا وَإِن كَانُوا غير متساوين بل بَينهم من التباين مَا لَا يُوصف وَمِنْه

ص: 437

(ثمَّ أَنْتُم هَؤُلَاءِ تقتلون أَنفسكُم) فَهَذَا اللَّفْظ يدل على المجانسة والمشابهة فِي أُمُور

فَقَوله تَعَالَى (نَدع أبناءنا أبناءكم وأنفسنا وَأَنْفُسكُمْ أَي ورجالنا ورجالكم أَي الرِّجَال الَّذين هم من جنسنا فِي الدّين وَالنّسب وَالْمرَاد التجانس فِي الْقَرَابَة مَعَ الْإِيمَان فَذكر الْأَوْلَاد وَالنِّسَاء وَالرِّجَال الْأَقْرَبين وَلم يكن عِنْده أحد أقرب إِلَيْهِ من الْعَصَبَات من على ثمَّ أدَار عَلَيْهِم الكساء

والمباهلة إِنَّمَا تحصل بالأقربين إِلَيْهِ وَإِلَّا فَلَو بأهلهم بالأبعدين فِي النّسَب وَإِن كَانُوا أفضل لم يحصل الْمَقْصُود

وَآيَة المباهلة سنة عشر لما قدم وَفد نَجْرَان وَلم يكن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قد بَقِي من أَعْمَامه غير الْعَبَّاس وَالْعَبَّاس لم يكن لَهُ سَابِقَة وَلَا دلَالَة اخْتِصَاص على النَّبِي

وقولك لَو كَانَ غير هَؤُلَاءِ مُسَاوِيا لَهُم لأمر بأخذهم مَعَه قُلْنَا نَحن نعلم بالإضطرار أَنه لَو دَعَا أَبَا بكر وَعمر وَطَائِفَة من الْكِبَار لكانوا من أعظم شَيْء إستجابة لأَمره لَكِن لم يُؤمر بأخذهم لِأَن ذَلِك لَا يحصل بِعْ مَقْصُود المباهلة فَإِن أُولَئِكَ يأْتونَ بِمن يعز عَلَيْهِم طبعا كأقرب النَّاس إِلَيْهِم فَلَو دَعَا الرَّسُول قوما أجانب لأتى أُولَئِكَ بأجانب وَلم يكن يشْتَد عَلَيْهِم نزُول المباهلة بأولئك الْأَجَانِب كَمَا يشْتَد عَلَيْهِم نُزُولهَا بالأقربين فَإِن طبع الْمَرْء يخَاف على أقربيه مَا لَا يخَاف على الْأَجَانِب وَالنَّاس عِنْد المهادنة تَقول كل طَائِفَة لِلْأُخْرَى أرهنوا عندنَا أبناءكم ونساءكم فَلَو رهنت أجانب لم يرض أُولَئِكَ وَلَا يلْزم أهل الرجل أَن يَكُونُوا أفضل عِنْد الله من غَيرهم

فدع عَنْك التشبث بِأَلْفَاظ مجملة وَلَا تزغ عَن النُّصُوص الصَّرِيحَة وَلَا تَظنن أحدا مُسَاوِيا للرسول أصلا

وَلَو كَانَ بَاقِي بَنَاته فِي الْحَيَاة لباهل بِهن وَلَو كَانَ ابْنه إِبْرَاهِيم يعرف لباهل بِهِ وَلَو كَانَ عَمه حَمْزَة حَيا لباهل بِهِ

قَالَ الْبُرْهَان الْعَاشِر قَوْله (فَتلقى آدم من ربه كَلِمَات فَتَابَ عَلَيْهِ) روى ابْن المغازلي بِإِسْنَاد عَن ابْن عَبَّاس قَالَ سُئِلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن الْكَلِمَات فَقَالَ سَأَلَهُ بِحَق مُحَمَّد وَعلي وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن إِلَّا تبت عَليّ فَتَابَ عَلَيْهِ

وَفِيه مساواته

ص: 438

للنَّبِي فِي التوسل بِهِ

الْجَواب الْمُطَالبَة بِصِحَّة ذَلِك وأنى لَك صِحَّته فَإِنَّهُ من أقبح الْكَذِب على الله وَرَسُوله

وَقد سَاقه ابْن الْجَوْزِيّ فِي الموضوعات من أَفْرَاد أبي الْحسن على بن عمر الدَّارَقُطْنِيّ فَإِن لَهُ كتبا فِي الْأَفْرَاد والغرائب

قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ تفرد بِهِ حُسَيْن الْأَشْقَر رَاوِي الموضوعات عَن الْإِثْبَات عَن عَمْرو بن ثَابت وَلَيْسَ بِثِقَة وَلَا مَأْمُون

فَأَما الْكَلِمَات فقد جَاءَت فِي الْقُرْآن مفسرة فِي قَوْله تَعَالَى (قَالَا رَبنَا ظلمنَا أَنْفُسنَا وَإِن لم تغْفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) وَمن الْمَعْلُوم أَن من هُوَ دون آدم من الْكفَّار والفساق إِذا تَابَ أحدهم إِلَى الله تَوْبَة نصُوحًا تَابَ الله عَلَيْهِ وَإِن لم يقسم عَلَيْهِ بِأحد وَنَبِينَا مَا أَمر أحدا فِي تَوْبَته بِمثل هَذَا الدُّعَاء

قَالَ الْبُرْهَان الْحَادِي عشر قَوْله تَعَالَى (إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا قَالَ وَمن ذريتي) روى ابْن المغازلي الشَّافِعِي عَن ابْن مَسْعُود قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم انْتَهَت الدعْوَة إِلَيّ وَإِلَى عَليّ لم يسْجد أَحَدنَا لصنم فاتخذني نَبيا وَاتخذ عليا وَصِيّا وَهَذَا نَص فِي الْبَاب

الْجَواب إِن هَذَا كذب بإتفاق الْحفاظ فَإِن أُرِيد إنتهاء الدعْوَة إِلَى عَليّ لزم أَن لَا يكون بَاقِي الإثني عشر أَئِمَّة

وَسَائِر الْأمة لم يسجدوا لصنم كخلق من الْفُسَّاق

بل عَامَّة الصَّحَابَة الَّذين سجدوا للصنم أفضل من أَوْلَادهم بإتفاق وَقد ذكر الله أَن لوطا آمن لإِبْرَاهِيم وَهُوَ نَبِي وَقَالَ شُعَيْب (قد افترينا على الله كذبا إِن عدنا فِي ملتكم بعد إِذْ نجانا الله مِنْهَا)

ص: 439

قَالَ الْبُرْهَان الثَّانِي عشر قَوْله تَعَالَى (إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات سَيجْعَلُ لَهُم الرَّحْمَن ودا) روى أَبُو نعيم بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس قَالَ نزلت فِي عَليّ والود محبته فِي الْقُلُوب المؤمنة

وَمن تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ عَن الْبَراء قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَا عَليّ قل اللَّهُمَّ اجْعَل عنْدك عهدا وَاجعَل لي فِي صُدُور الْمُؤمنِينَ مَوَدَّة

فأنزلت الْآيَة

وَلم يثبت ذَلِك لغيره فَيكون هُوَ الإِمَام

قُلْنَا لَا بُد من إِقَامَة الدَّلِيل على صِحَة الْمَنْقُول وَإِلَّا فالاستدلال بِمَا لم تثبت مقدماته بَاطِل وَهُوَ من القَوْل بِلَا برهَان

ثمَّ مَا أوردته مَوْضُوع عِنْد أهل الْمعرفَة

ثمَّ قَوْله تَعَالَى (إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات) عَام فَكيف تقصره على عَليّ بل يتَنَاوَل عليا كَمَا يتَنَاوَل غَيره ويتناول الْحسن وَالْحُسَيْن وَفَاطِمَة فَعلم بِالْإِجْمَاع عدم إختصاصها بِوَاحِد وَالله لَا يخلف الميعاد فقد وعد بِأَن يَجْعَل لَهُم الود فِي الْقُلُوب فقد جعله فِي قُلُوب جَمَاهِير الْمُسلمين للصحابة والسابقين لَا سِيمَا الْخُلَفَاء رضي الله عنهم وَلَا سِيمَا أَبُو بكر وَعمر وَعَامة الصَّحَابَة وأولهم عَليّ يودون أَبَا بكر وَعمر وَمَا علمنَا أحدا من الصَّحَابَة سبهما وَلم يتَّفق ذَلِك للْإِمَام عَليّ بل نَالَ جمَاعَة من الصَّحَابَة من عَليّ وسبوه كَمَا جرى لعُثْمَان فَعلمنَا أَن الْمَوَدَّة الَّتِي جعلهَا الله لأبي بكر وَعمر أعظم من الْمَوَدَّة الَّتِي جعلهَا للآخرين

قَالَ الْبُرْهَان الثَّالِث عشر قَوْله (إِنَّمَا أَنْت مُنْذر وَلكُل قوم هاد) فَفِي كتاب الفردوس عَن ابْن عَبَّاس قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَنا الْمُنْذر وَعلي الْهَاد بك يَا عَليّ يَهْتَدِي المهتدون

وروى نَحوه أَبُو نعيم

وَهُوَ صَرِيح فِي ثُبُوت الْإِمَامَة

وَالْجَوَاب أَنَّك مَا ذكرت دَلِيلا على صِحَّته

وَأجْمع الْعلمَاء أَن الْخَبَر مُجَرّد كَونه فِي كتاب كَذَا لَا يدل على ثُبُوته

وَكتاب الفردوس للديلمي محشو بالموضوعات كَغَيْرِهِ وَهَذَا من أقبحها وَلَا تحل نسبته إِلَى الرَّسُول

فَإِن قَوْله وَأَنت الْهَاد وَمَا بعده ظَاهره أَنهم يَهْتَدُونَ بك دوني وَهَذَا لَا يَقُوله مُسلم

وَإِن قلت مَعْنَاهُ يَهْتَدُونَ بِهِ كهدايتهم بالرسول

ص: 440

اقتضي الْمُشَاركَة وَالله بِنَصّ كِتَابه قد جعل مُحَمَّدًا هاديا فَقَالَ (وَإنَّك لتهدي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم)

وقولك وَبِك يَهْتَدِي المهتدون ظَاهره أَن كل مُسلم اهْتَدَى فبعلي اهْتَدَى وَهَذَا كذب فَإِن مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم قد اهْتَدَى بِهِ أُمَم ودخلوا الْجنَّة وَلم يَأْخُذُوا عَن عَليّ مثله

ثمَّ لما فتحت الْأَمْصَار اهْتَدَى النَّاس بِمن سكنها من الصَّحَابَة وَعلي مُقيم بِالْمَدِينَةِ لم يروه فَكيف يسوغ أَن يُقَال بك يَهْتَدِي المهتدون

ثمَّ قَوْله تَعَالَى (وَلكُل قوم هاد) عَام فِي كل الطوائف فَكيف يَجْعَل عليا هاديا للأولين والآخرين ثمَّ الإهتداء بالشخص قد يكون بِغَيْر تَأمره عَلَيْهِم كَمَا يَهْتَدِي بالعالم فدعواك دلَالَة الْقُرْآن على عَليّ بَاطِل

قَالَ الْبُرْهَان الرَّابِع عشر قَوْله (وقفوهم إِنَّهُم مسئولون) من طَرِيق أبي نعيم الْحَافِظ عَن الشّعبِيّ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ مسئولون عَن ولَايَة عَليّ

وَكَذَا فِي كتاب الفردوس عَن أبي سعيد عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَإِذا سئلوا عَن الْولَايَة يَوْم الْقِيَامَة وَجب أَن تكون ثَابِتَة لَهُ فَيكون هُوَ الإِمَام

قُلْنَا وَهَذَا كذب فَانْظُر إِلَى سِيَاق الْآيَات فِي قُرَيْش (وَيَقُولُونَ أإنا لتاركوا آلِهَتنَا لشاعر مَجْنُون إِلَى قَوْله احشروا الَّذين ظلمُوا وأزواجهم وَمَا كَانُوا يعْبدُونَ من دون الله فاهدوهم إِلَى صِرَاط الْجَحِيم وقفوهم إِنَّهُم مسئولون) فَهَذَا نَص فِي الْمُشْركين المكذبين بِيَوْم الدّين فَهَؤُلَاءِ يسْأَلُون عَن التَّوْحِيد وَالْإِيمَان وَأي مدْخل لحب عَليّ فِي سُؤال هَؤُلَاءِ أَترَاهُم لَو أحبوه مَعَ شركهم لَكَانَ ذَلِك يَنْفَعهُمْ ومعاذ الله أَن يُفَسر كتاب الله بِمثل هَذَا

قَالَ الْبُرْهَان الْخَامِس عشر قَوْله تَعَالَى (ولتعرفنهم فِي لحن القَوْل) روى أَبُو نعيم بِإِسْنَادِهِ عَن أبي سعيد قَالَ يبغضهم عليا

وَلم يثبت لغيره من

ص: 441

الصَّحَابَة ذَلِك فَيكون هُوَ الإِمَام

قُلْنَا وَهَذَا كذب على أبي سعيد ونعلم بالإضطرار أَن عَامَّة الْمُنَافِقين لم يكن مَا يعْرفُونَ بِهِ فِي لحن القَوْل هُوَ بغض عَليّ

ثمَّ لم يكن عَليّ بأعظم معاداة لَهُم من عمر فبغضهم لعمر أوكد وَصَحَّ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ أيسر النِّفَاق بغض الْأَنْصَار فَكَانَ معرفَة الْمُنَافِقين فِي لحنهم ببغض الْأَنْصَار أولى وَكَذَلِكَ لَا يبغض عليا إِلَّا مُنَافِق وعلامات النِّفَاق كَثِيرَة فَهَذَا مِنْهَا وَمِنْهَا الْكَذِب وَمِنْهَا الْخِيَانَة وَخلف الْوَعْد والفجور

فَنَقُول من أحب عليا لم يسْتَحقّهُ من الْمحبَّة من إيمَانه وجهاده أَو أحب الْأَنْصَار لذَلِك فَذَلِك من عَلَامَات إيمَانه

وَمن أبْغض عليا أَو الْأَنْصَار لإيمانهم وجهادهم ونصرهم الرَّسُول فَهُوَ مُنَافِق

أما من أحبهم لأمر طبعي مثل قرَابَة أَو دنيا فَذَلِك كمحبة أبي طَالب النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَكَذَا من غلا فِي الْمَسِيح أَو فِي مُوسَى أَو عَليّ فَأحب من اعْتقد فِيهِ فَوق مرتبته فَذَاك محب مطر بِمَا لَا وجود لَهُ

فالمسيح الَّذِي أطرته النَّصَارَى أفضل من عَليّ وَلَا يَنْفَعهُمْ حبه وَلَا ينفع إِلَّا الْحبّ فِي الله لَا الْحبّ مَعَ الله

وَكَذَا من أبْغض الْأَنْصَار أَو أحدا من كبار الصَّحَابَة لأمر سَمعه غير مُطَابق كَانَ مخطئا ضَالًّا جَاهِلا وَلم يكن منافقا

قَالَ الْبُرْهَان السَّادِس عشر قَوْله تَعَالَى (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المقربون) عَن ابْن عَبَّاس قَالَ سَابق هَذِه الْأمة عَليّ

قُلْنَا هَذَا لم يَصح وَلَا ذكرت سَنَده

وَلَو صَحَّ لم تكن فِيهِ حجَّة وَالله يَقُول (وَالسَّابِقُونَ الْأَولونَ من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان رضي الله عنهم فالسابقون هم الَّذين أَنْفقُوا من قبل الْفَتْح وقاتلوا وَدخل فيهم أهل بيعَة الرضْوَان فَكيف يُقَال إِن سَابق هَذِه الْأمة وَاحِد وَأول من سبق إِلَى الْإِسْلَام ملى الرِّجَال أَبُو بكر وَمن النِّسَاء خَدِيجَة وَمن الصّبيان عَليّ وَمن الموَالِي زيد

وَإِسْلَام الصَّبِي فِيهِ نزاع وَإِسْلَام أبي بكر كَانَ أكمل وأنفع

ص: 442

قَالَ الْبُرْهَان السَّابِع عشر قَوْله تَعَالَى (الَّذين آمنُوا وَهَاجرُوا وَجَاهدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأنفسهم أعظم دَرَجَة) الْآيَة

روى رزين بن مُعَاوِيَة فِي الْجمع بَين الصِّحَاح السِّتَّة أَنَّهَا نزلت فِي عَليّ فَيكون أفضل وَيكون هُوَ الإِمَام

الْجَواب الْمُطَالبَة بِصِحَّة النَّقْل ورزين قد يزِيد أَشْيَاء من عِنْده

بل الَّذِي فِي الصَّحِيح مَا رَوَاهُ النُّعْمَان بن بشير قَالَ كنت عِنْد مِنْبَر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رجل لَا أُبَالِي أَن لَا أعمل عملا بعد الْإِسْلَام إِلَّا أَن أسْقى الْحَاج وَقَالَ آخر لَا أُبَالِي أَن لَا أعمل عملا بعد الْإِسْلَام إِلَّا أَن أعمر الْمَسْجِد الْحَرَام وَقَالَ آخر الْجِهَاد فِي سَبِيل الله أفضل مِمَّا قُلْتُمْ

فزجرهم عمر وَقَالَ لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم عِنْد مِنْبَر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلَكِن إِذا صليت الْجُمُعَة دخلت فاستفتيته فِيمَا اختلفتم فِيهِ فَأنْزل الله تَعَالَى (أجعلتم سِقَايَة الْحَاج وَعمارَة الْمَسْجِد الْحَرَام كمن آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر وجاهد فِي سَبِيل الله) الْآيَة

رَوَاهُ مُسلم

فَهَذَا يَقْتَضِي أَن قَول عَليّ الَّذِي فضل بِهِ الْجِهَاد على السدَانَة والسقاية أصح من قَول من فضل السدَانَة والسقاية وَأَن عليا كَانَ أعلم بِالْحَقِّ فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مِمَّن نازعه فِيهَا

وَهَذَا عمر قد وَافق ربه عزوجل فِي عدَّة أُمُور يَقُول شَيْئا وَينزل الْقُرْآن بموافقته مقَام إِبْرَاهِيم والحجاب وأسارى بدر وَقَوله (عَسى ربه إِن طَلَّقَكُن أَن يُبدلهُ أَزْوَاجًا خيرا مِنْكُن)

وهب أَن عليا اخْتصَّ بمزية فَمَا ذَلِك من خَصَائِص الْإِمَامَة وَلَا بِمُوجب أَن يكون أفضل الْأمة فَإِن الْخضر لما علم مسَائِل لم يعلمهَا مُوسَى لم يكن أفضل من مُوسَى

بل هَذَا الهدهد قَالَ لِسُلَيْمَان نَبِي الله (أحطت بِمَا لم تحط بِهِ)

بل الْآيَة بِأبي بكر أولى من عَليّ فَإِن عليا كَانَ فَقِيرا لَا مَال لَهُ وَأَبُو بكر أنْفق فِي سَبِيل الله

قَالَ الْبُرْهَان الثَّامِن عشر قَوْله تَعَالَى (إِذا نَاجَيْتُم الرَّسُول فقدموا

ص: 443

بَين يَدي نَجوَاكُمْ صَدَقَة) فَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ حرم الله كَلَام رَسُوله إِلَّا بِتَقْدِيم صَدَقَة وبخلوا أَن يتصدقوا وَتصدق عَليّ وَلم يفعل ذَلِك غَيره

وَعَن ابْن عمر قَالَ كَانَ لعَلي ثَلَاث لإن تكن فِي وَاحِدَة مِنْهُنَّ أحب إِلَيّ من حمر النعم تَزْوِيجه بفاطمة وإعطاؤه الرَّايَة يَوْم خَيْبَر وَآيَة النَّجْوَى

وَعَن عَليّ قَالَ مَا عمل بِهَذِهِ الْآيَة غَيْرِي وَفِي خفف الله عَن الْأمة

وَهَذَا يدل على فضيلته عَلَيْهِم فَيكون أَحَق بِالْإِمَامَةِ

قُلْنَا عمل بِالْآيَةِ وَنسخت

وَمَا فِيهَا إِيجَاب الصَّدَقَة لَكِن أَمرهم إِذا ناجوا أَن يتصدقوا وَمن لم يناج لم يكن عَلَيْهِ أَن يتَصَدَّق وَلم تكن الْمُنَاجَاة وَاجِبَة فَلَا لوم على أحد إِذا ترك مَا لَيْسَ بِوَاجِب

وَمن كَانَ مِنْهُم عَاجِزا عَن الصَّدَقَة وَلَكِن لَو قدر لناجى فَتصدق فَلهُ نِيَّته وأجره

وَمن لم يعرض لَهُ سَبَب يُنَاجِي لأَجله لم يَجْعَل نَاقِصا

وَلَكِن من عرض لَهُ سَبَب اقْتضى الْمُنَاجَاة فَتَركه بخلا فَهَذَا قد ترك الْمُسْتَحبّ

وَلَا يُمكن أَن يشْهد على الْخُلَفَاء أَنهم كَانُوا من هَذَا الضَّرْب وَلَا يعلم أَنهم ثَلَاثَتهمْ كَانُوا حاضرين عِنْد نزُول هَذِه الْآيَة بل يُمكن غيبَة بَعضهم وَيُمكن حَاجَة بَعضهم وَيُمكن عدم الدَّاعِي إِلَى الْمُنَاجَاة وَبِتَقْدِير أَن يكون أحدهم ترك الْمُسْتَحبّ أفكل من أدّى مُسْتَحبا يكون أفضل الْأمة وَثَبت أَنه صلى الله عليه وسلم قَالَ من أصبح مِنْكُم صَائِما قَالَ أَبُو بكر أَنا

قَالَ هَل فِيكُم من شيع جَنَازَة قَالَ أَبُو بكر أَنا

قَالَ هَل فِيكُم من تصدق بِصَدقَة قَالَ أَبُو بكر أَنا

فَقَالَ مَا اجْتمعت هَذِه الْخِصَال لعبد إِلَّا كَانَ من أهل الْجنَّة

وَثَبت أَنه قَالَ مَا نَفَعَنِي مَال مَا نَفَعَنِي مَال أبي بكر

وَكَذَلِكَ قَوْله فِي الصَّحِيحَيْنِ إِن أَمن النَّاس عَليّ فِي صحبته وَمَاله أَبُو بكر

وَلَو كنت متخذا خَلِيلًا غير رَبِّي لأتخذت أَبَا بكر خَلِيلًا لَكِن أخوة الْإِسْلَام ومودته

لَا يبْقين بَاب فِي الْمَسْجِد إِلَّا سد إِلَّا بَاب أبي بكر وَفِي سنَن أبي دَاوُد أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لأبي بكر أما إِنَّك يَا أَبَا بكر أول من يدْخل الْجنَّة

ص: 444

من أمتِي

وَفِي التِّرْمِذِيّ وَسنَن أبي دَاوُد عَن عمر رضي الله عنه قَالَ أمرنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن نتصدق فَوَافَقَ مني مَالا فَقلت الْيَوْم أسبق أَبَا بكر إِن سبقته

قَالَ فَجئْت بِنصْف مَالِي فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا أبقيت لأهْلك قلت مثله

وأتى أَبُو بكر بِكُل مَا عِنْده

فَقَالَ يَا أَبَا بكر مَا أبقيت لأهْلك قَالَ الله وَرَسُوله

قلت لَا أسابقه إِلَى شَيْء أبدا

وَفِي التِّرْمِذِيّ مَرْفُوعا لَا يَنْبَغِي لقوم فيهم أَبُو بكر أَن يؤمهم غَيره وتجهيز عُثْمَان بِأَلف بعير أعظم من صَدَقَة النَّجْوَى بِكَثِير فَإِن الْإِنْفَاق فِي الْجِهَاد كَانَ فرضا بِخِلَاف الصَّدَقَة أَمَام النَّجْوَى فَإِنَّهُ مَشْرُوط بمريد النَّجْوَى فَمن لم يردهَا لم يكن عَلَيْهِ أَن يتَصَدَّق

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا رجل يَسُوق بقرة وَقد حمل عَلَيْهَا التفتت إِلَيْهِ فَقَالَ إِنِّي لم أخلق لهَذَا إِنَّمَا خلقت للحرث

فَقَالَ النَّاس سُبْحَانَ الله تَعَجبا وفزعا أبقرة تَتَكَلَّم فَقَالَ صلى الله عليه وسلم فَإِنِّي أُؤْمِن بِهِ أَنا وَأَبُو بكر وَعمر

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا رَاع فِي غنمه غَدا عَلَيْهِ الذِّئْب فَأخذ مِنْهَا شَاة فَطَلَبه الرَّاعِي حَتَّى استنقذها فَالْتَفت إِلَيْهِ الذِّئْب فَقَالَ من لَهَا يَوْم السَّبع يَوْم لَيْسَ لَهَا رَاع غَيْرِي فَقَالَ النَّاس سُبْحَانَ الله

فَقَالَ إِنِّي أُؤْمِن بِهَذَا أَنا وَأَبُو بكر وَعمر

وَمَا هما ثمَّ

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي هُرَيْرَة أَن رجلا من الْأَنْصَار بَات بِهِ ضيف فَلم يكن لَهُ إِلَّا قوته وقوت صبيانه فَقَالَ لامْرَأَته نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف مَا عنْدك فَفعلت فأنزلت (ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة) وَهَذَا أعظم من صَدَقَة النَّجْوَى

قَالَ الْبُرْهَان التَّاسِع عشر قَالَ تَعَالَى (واسأل من أرسلنَا من قبلك من رسلنَا أجعلنا من دون الرَّحْمَن آلِهَة يعْبدُونَ) قَالَ ابْن عبد الْبر وَأخرجه أَبُو نعيم أَيْضا أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَيْلَة أسرِي بِهِ جمع الله بَينه وَبَين الْأَنْبِيَاء ثمَّ قَالَ سلهم يَا مُحَمَّد على مَاذَا بعثتم قَالُوا بعثنَا على شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وعَلى الْإِقْرَار بنبوتك وَالْولَايَة

ص: 445

لعَلي

وَهَذَا صَرِيح بِثُبُوت الْإِمَامَة لعَلي

الْجَواب لَا شكّ أَن هَذَا وَأَمْثَاله من الْكَذِب وَلَو لم يكن كذبا لم يسغْ أَن يحْتَج بِهِ حَتَّى تثبت صِحَّته

ثمَّ كَيفَ يسْأَلُون عَمَّا لَا يدْخل فِي أصل الْإِيمَان فقد أجمع الْمُسلمُونَ على أَن الرجل لَو آمن بالرسول وأطاعه وَمَات وَلم يعلم أَن الله خلق أَبَا بكر وعليا لم يضرّهُ ذَلِك فِي إيمَانه فَكيف يُقَال إِن الْأَنْبِيَاء يجب عَلَيْهِم الْإِيمَان بِوَاحِد من الصَّحَابَة وَالله أَخذ عَلَيْهِم الْمِيثَاق لَئِن بعث مُحَمَّدًا وهم أَحيَاء ليُؤْمِنن بِهِ ولينصرنه قَالَه ابْن عَبَّاس وَغَيره فِي قَوْله تَعَالَى (وَإِذ أَخذ الله مِيثَاق النَّبِيين لما آتيتكم من كتاب وَحِكْمَة ثمَّ جَاءَكُم رَسُول مُصدق لما مَعكُمْ لتؤمنن بِهِ ولتنصرنه) الْآيَة

ثمَّ إِن لفظ الْآيَة (واسأل من أرسلنَا من قبلك من رسلنَا) لَيْسَ فِي هَذَا سُؤال لَهُم بِمَا بعثوا بل بِمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْآيَة

قَالَ الْبُرْهَان الْعشْرُونَ قَوْله تَعَالَى (وَتَعيهَا أذن وَاعِيَة) فِي تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم سَأَلت الله أَن يَجْعَلهَا أُذُنك يَا عَليّ

وَذكر نَحوه من طَرِيق أبي نعيم

وَهَذِه فَضِيلَة لم تحصل لأحد غَيره فَيكون هُوَ الْمُقدم

وَالْجَوَاب هَذَا مَوْضُوع

وَقَوله تَعَالَى (لنجعلها لكم تذكرة وَتَعيهَا أذن وَاعِيَة) خطاب لبني آدم لم يرد وَاحِدًا من النَّاس فَإِن حمل نوح وَقَومه فِي السَّفِينَة من أعظم الْآيَات

نعم أذن عَليّ وَاعِيَة كآذان أبي بكر وَعمر وَخلق من الْأمة بِلَا ريب أَتَرَى أذن نَبينَا صلى الله عليه وسلم لَيست وَاعِيَة وَلَا أذن الْحسن وَالْحُسَيْن وعمار وَأبي ذَر فَانْتفى التفرد والأفضيلة

فكم تبنى أَمرك على مُقَدمَات واهية متلاشية كدأب أئمتك فَمَا برحتم كَذَلِك فَمَا تنْفق حججكم إِلَّا على تلميذ أَو صَاحب هوى وعصبية وَلِهَذَا يُقَال لَيْسَ للرافضة عقل وَلَا نقل وَلَا دين صَحِيح وَلَا دولة منصورة

قَالَ الْبُرْهَان الْحَادِي وَالْعشْرُونَ سُورَة (هَل أَتَى) فِي تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ بطرق قَالَ مرض الْحسن وَالْحُسَيْن فَعَادَهُمَا جدهما وَعَامة الْعَرَب فَقَالُوا يَا أبي الْحسن لَو نذرت على ولديك

فَنَذر صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام وَكَذَلِكَ نذرت أمهما وجاريتهم فضَّة فبرئا وَلَيْسَ عِنْد

ص: 446

آل مُحَمَّد قَلِيل وَلَا كثير فَاسْتقْرض عَليّ ثَلَاثَة آصَع من شعير فَعمِلت مِنْهُ فَاطِمَة خَمْسَة أَقْرَاص وَصلى عَليّ مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْمغرب

ثمَّ أَتَى الْمنزل فَوضع الطَّعَام بَين يَدَيْهِ إِذْ أَتَاهُم مِسْكين فَوقف فَسَأَلَ فَأَعْطوهُ الطَّعَام ومكثوا يومهم وليلتهم لم يَذُوقُوا شَيْئا إِلَّا المَاء

فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّانِي قَامَت فَاطِمَة وخبزت صَاعا وَجَاء عَليّ فَأتى يَتِيم فَوقف بِالْبَابِ وَقَالَ يَا أهل بَيت مُحَمَّد يَتِيم من أَوْلَاد الْمُهَاجِرين اسْتشْهد وَالِدي يَوْم الْعقبَة أَطْعمُونِي أطْعمكُم الله من مَوَائِد الْجنَّة

فَأَعْطوهُ الطَّعَام ومكثوا يَوْمَيْنِ وليلتين

فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّالِث طحنت الصَّاع الثَّالِث وخبزته وأتى عَليّ فَوضع الطَّعَام إِذْ أَتَى أَسِير فَقَالَ أَطْعمُونِي فَإِنِّي أَسِير مُحَمَّد أطْعمكُم الله على مَوَائِد الْجنَّة فَأمر عَليّ بإعطائه فَأَعْطوهُ الطَّعَام ومكثوا ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها لم يَذُوقُوا شَيْئا إِلَّا المَاء

فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الرَّابِع ونفد مَا عِنْدهم أَخذ عَليّ الْحسن بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَالْحُسَيْن بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَأَقْبل على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وهم يَرْتَعِشُونَ كالفراخ من الْجُوع فَانْطَلق مَعَهم إِلَى منزل فَاطِمَة وَقد لصق ظهرهَا بِبَطْنِهَا وَغَارَتْ عَيناهَا من الْجُوع فهبط جِبْرِيل فَقَالَ يَا مُحَمَّد خد مَا هُنَاكَ الله فِي أهل بَيْتك فَأَقْرَأهُ (هَل أَتَى على الْإِنْسَان) وَهِي تدل على فضائله جمة لم يسْبق إِلَيْهَا فَيكون هُوَ الإِمَام وَالْجَوَاب الْمُطَالبَة بِصِحَّة هَذَا فَإِنَّهُ من وضع الطرقية لَا يرتاب حَافظ فِي وَضعه وَلَا أَرَاك تنقل من مُسْند مُعْتَبر وَلَا من كتاب مُحدث

هَذَا كتاب خَصَائِص عَليّ رضي الله عنه للنسائي وَفِيه الصَّحِيح والواهي وَلَكِن مَا فِيهِ مثل هَذِه الخرافات الَّتِي تَأتي بهَا وَكَذَلِكَ أَبُو نعيم فِي الخصائص وَابْن أبي حشمة وَكَذَلِكَ فِي جَامع التِّرْمِذِيّ أَشْيَاء ضَعِيفَة فِي مَنَاقِب عَليّ وَفِي صِفَاته وَلَكِن حاشاهم مَا أوردت أَنْت من الْإِفْك

وَأَصْحَاب السّير كإبن إِسْحَاق وَغَيره يذكرُونَ من فضائله أَشْيَاء ضَعِيفَة وَلم يذكرُوا مثل هَذَا وَلَا رووا مِمَّا قُلْنَا فِيهِ أَنه مَوْضُوع بإتفاق أهل النَّقْل

وَمن الْمَعْلُوم أَن عليا إِنَّمَا تزوج بفاطمة بِالْمَدِينَةِ و (هَل أَتَى على الْإِنْسَان) مَكِّيَّة بإتفاق الْمُفَسّرين فلاح كذب

ص: 447

الحَدِيث

ثمَّ قد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم نهى عَن النّذر وَقَالَ إِنَّه لَا يَأْتِي بِخَير وَإِنَّمَا يسْتَخْرج بِهِ من الْبَخِيل فَالله مدح الْوَفَاء بِالنذرِ لَا على نفس عقده كَمَا ينْهَى الْمَرْء على الظِّهَار فَإِذا ظَاهر وادى الْكَفَّارَة الْوَاجِبَة مدح

ثمَّ لم تكن لفاطمة جَارِيَة اسْمهَا فضَّة وَلَا نَعْرِف أَنه كَانَ بِالْمَدِينَةِ جَارِيَة اسْمهَا فضَّة وَإِنَّمَا هِيَ بِمَنْزِلَة ابْن عقب أَسمَاء مَوْضُوعَة لمعدومين وَقد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَليّ رضي الله عنه أَن فَاطِمَة رضي الله عنها سَأَلت النَّبِي صلى الله عليه وسلم خَادِمًا فعلمها أَن تسبح عِنْد الْمَنَام وتكبر وتحمد مائَة وَقَالَ هَذَا خير لكم من خَادِم

ثمَّ ترك الْأَطْفَال ثَلَاثَة أَيَّام بِلَا غذَاء خلاف الشَّرْع وَتعرض للتلف وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ابدأ بِنَفْسِك ثمَّ بِمن تعول

وَأَيْضًا فَكَانَ يُمكنهُم أَن يواسوا السَّائِل بقرص يَكْفِيهِ ثمَّ قَول الْيَتِيم اسْتشْهد أبي يَوْم الْعقبَة هَذَا من الْكَذِب الظَّاهِر المهتوك فليلة الْعقبَة كَانَت مبايعة مَحْضَة لَيست غَزْوَة فقبح الله من وَضعه ثمَّ إِنَّه لم يكن فِي الْمَدِينَة أَسِير قطّ يسْأَل النَّاس بل كَانَ الْمُسلمُونَ يقومُونَ بالأسير الَّذِي يستأسرونه فدعوى الْمُدَّعِي أَن أَسْرَاهُم كَانُوا مُحْتَاجين إِلَى مَسْأَلَة النَّاس كذب عَلَيْهِم وقدح فيهم

وَقد كَانَ جَعْفَر بن أبي طَالب أَكثر إطعاما للْمَسَاكِين من غَيره حَتَّى قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أشبهت خلقي وَخلقِي وَحَتَّى قَالَ أَبُو هُرَيْرَة رضي الله عنه مَا احتذى أحد النِّعَال بعد النَّبِي صلى الله عليه وسلم أفضل من جَعْفَر

يَعْنِي فِي الْإِحْسَان وَالْبر

وَمَعَ هَذَا فَمَا هُوَ أفضل من عَليّ

ثمَّ إِنْفَاق أبي بكر أَمْوَاله فِي الله متواتر وَتلك النَّفَقَة مَا بَقِي يُمكن مثلهَا وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا تسبوا أَصْحَابِي فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ لَو أنْفق أحدكُم مثل أحد ذَهَبا مَا بلغ مد أحدهم وَلَا نصيفه

قَالَ الْبُرْهَان الثَّانِي وَالْعشْرُونَ قَوْله تَعَالَى (وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ

ص: 448

وَصدق بِهِ أُولَئِكَ هم المتقون) من طَرِيق أبي نعيم عَن مُجَاهِد (وَصدق بِهِ) قَالَ عَليّ

فَهَذِهِ فَضِيلَة اخْتصَّ بهَا فَيكون هُوَ الإِمَام قُلْنَا قَول مُجَاهِد وَحده لَيْسَ بِحجَّة أَن لَو ثَبت عَنهُ كَيفَ وَالثَّابِت عَنهُ خلاف هَذَا وَهُوَ أَن الصدْق الْقُرْآن وَالَّذِي صدق بِهِ هُوَ من عمل بِهِ

ثمَّ مَا ذكرت معَارض بِمَا هُوَ أشهر مِنْهُ عِنْد الْمُفَسّرين وَهُوَ أَن الَّذِي صدق بِهِ أَبُو بكر الصّديق ذكره ابْن جرير الطَّبَرِيّ وَغَيره

وبلغنا عَن أبي بكر بن عبد الْعَزِيز ابْن جَعْفَر الْفَقِيه غُلَام الْخلال أَنه سُئِلَ عَن هَذِه الْآيَة فَقَالَ نزلت فِي أبي بكر

فَقَالَ السَّائِل بل فِي عَليّ فَقَالَ أَبُو بكر الْفَقِيه اقْرَأ مَا بعْدهَا

فَقَرَأَ إِلَى قَوْله (ليكفر الله عَنْهُم أَسْوَأ الَّذِي عمِلُوا) فَقَالَ عَليّ عنْدك مَعْصُوم لَا سَيِّئَة لَهُ فَمَا الَّذِي يكفر عَنهُ فبهت السَّائِل

وَلَفظ الْآيَة عَام مُطلق دخل فِي حكمهَا أَبُو بكر وَعلي وَخلق

قَالَ الْبُرْهَان الثَّالِث وَالْعشْرُونَ قَوْله تَعَالَى (هُوَ الَّذِي أيدك بنصره وَبِالْمُؤْمِنِينَ) فَمن طَرِيق أبي نعيم عَن أبي هُرَيْرَة رضي الله عنه قَالَ مَكْتُوب على الْعَرْش مُحَمَّد عَبدِي ورسولي أيدته بعلي

وَهَذِه من أعظم الْفَضَائِل فَيكون هُوَ الإِمَام

وَالْجَوَاب أَيْن ثُبُوت النَّقْل وَإِن احتججت بِأبي نعيم وَمَا رَوَاهُ فِي الْفَضَائِل وَفِي الْحِلْية من مَنَاقِب الصَّحَابَة مُطلقًا يهدم بنيانك

وَنحن نشْهد بِاللَّه أَن هَذَا كذب على أبي هُرَيْرَة نجد عندنَا علما ضَرُورِيًّا بذلك لَا تقدر أَن تَدْفَعهُ عَن قُلُوبنَا وَمن لم يكن أعلم بِنَقْل الْآثَار فَلَا يدْخل مَعنا كَمَا أَن النَّاقِد الجهبذ يحلف على مَا يعلم أَنه مغشوش

ثمَّ الله يَقُول (أيدك بنصره وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَألف بَين قُلُوبهم) فَهَذَا نَص فِي عدد مؤلف بَين قُلُوبهم فَصَرفهُ إِلَى وَاحِد تَحْرِيف وتبديل

ثمَّ من الْمَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ قيام دينه وتأييده بِمُجَرَّد مُوَافقَة عَليّ بل وَلَا بِأبي بكر وَلَكِن بالمهاجرين وَالْأَنْصَار

قَالَ الْبُرْهَان الرَّابِع وَالْعشْرُونَ قَوْله (حَسبك الله وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ) فَمن طَرِيق أبي نعيم قَالَ نزلت فِي عَليّ وَهَذِه فَضِيلَة لم تحصل لأحد من الصَّحَابَة غَيره فَيكون هُوَ الإِمَام

وَالْجَوَاب الْمَنْع من صِحَة النَّقْل وَإِنَّمَا معنى

ص: 449

الْآيَة إِن الله حَسبك أَيهَا النَّبِي وَحسب من اتبعك من الْمُؤمنِينَ كَقَوْل الشَّاعِر

(فحسبك وَالضَّحَّاك

سيف مهند)

وَذَلِكَ أَن حسب مصدر فَلَمَّا أضيف لم يحسن الْعَطف عَلَيْهِ إِلَّا بِإِعَادَة الْجَار ويندر بِدُونِهِ

وَقد ظن بعض العارفين أَن معنى الْآيَة إِن الله وَالْمُؤمنِينَ حَسبك وَيكون من اتبعك رفعا عطفا على الله وَهَذَا خطأ قَبِيح مُسْتَلْزم للكفر فَإِن الله وَحده حسب جَمِيع الْخلق كَمَا قَالَ تَعَالَى (الَّذين قَالَ لَهُم النَّاس إِن النَّاس قد جمعُوا لكم فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُم إِيمَانًا وَقَالُوا حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل) ثمَّ لَو فَرضنَا أَن (وَمن اتبعك من الْمُؤمنِينَ) فَاعل مَعْطُوف على الله لما كَانَ مُخْتَصًّا بعلي إِذْ كَانَ وَقت نزُول الْآيَة قد اتبع الرَّسُول من الْمُؤمنِينَ عدد كثير جدا وَلم يقل عَاقل إِن عليا وَحده كَانَ يَكْفِي الرَّسُول فِي جِهَاد الْكفَّار وَلَو لم يكن مَعَه إِلَّا عَليّ لما ظهر فقد كَانَ مَعَه بِمَكَّة بضع عشرَة سنة هُوَ وَطَائِفَة وَمَا قَامَ الدّين وانتصر إِلَّا بعد الْهِجْرَة بل هَذَا عَليّ وَمَعَهُ أَكثر جيوش الْإِسْلَام مَا قدر على أَخذ الشَّام من مُعَاوِيَة

وَهَؤُلَاء الرافضة يجمعُونَ بَين النقيضين جهلا وظلما يجْعَلُونَ عليا رضي الله عنه أكمل الْبشر قدرَة وشجاعة وَأَن الرَّسُول كَانَ مُحْتَاجا إِلَيْهِ وَأَنه الَّذِي أَقَامَ الدّين ثمَّ يصفونه بِالْعَجزِ والتقية بعد ظُهُور الْإِسْلَام

فَمن يقهر عنْدكُمْ الْمُشْركين وَالْجِنّ وَالْإِنْس فِي مبدأ الْإِسْلَام وَقلة أَهله وَكَثْرَة أعدائه كَيفَ لَا يقهر طَائِفَة بَغت عَلَيْهِ فَتبين أَنه وَحده لم يقهر الْمُشْركين فَلَا تغتر بِتِلْكَ الْغَزَوَات الَّتِي ينْفق بهَا الطرقية فوَاللَّه مَا لَهَا وجود قَاتل الله من افتراها

وَنَظِير هَذَا جعل النَّصَارَى عِيسَى إِلَهًا ثمَّ يجْعَلُونَ أعداءه صفعوه وَوَضَعُوا الشوك على رَأسه وصلبوه وَأَنه بَقِي يستغيث فَلَا يغيثونه

فَإِن كَانَ تسمير هَذَا الرب بِرِضَاهُ وإرادته فَتلك طَاعَة وَعبادَة من الْيَهُود الَّذين صلبوه فيمدحون على ذَلِك لَا يذمون

وَهَذَا من أعظم الْجَهْل وَالْكفْر وَهَكَذَا تَجِد كثيرا من الشُّيُوخ والفقراء الجهلة فِي غَايَة الدعاوي

ص: 450

وَنِهَايَة الْعَجز كَمَا صَحَّ فِي الحَدِيث ثَلَاثَة لَا ينظر الله إِلَيْهِم فَذكر الْفَقِير المختال وَفِي لفظ وعائل مستكبر وَهَذَا كَمَا يُقَال الْفقر والزنطرة فيشطح أحدهم حَتَّى كَأَنَّهُ رب ويعزل الرب عَن ربوبيته وَالنَّبِيّ عَن رسَالَته ثمَّ آخرته شحاذ يطْلب مَا يقيته أَو متلقح على أَبْوَاب الرؤساء كَمَا قَالَ الله تَعَالَى (مثل الَّذين اتَّخذُوا من دون الله أَوْلِيَاء كَمثل العنكبوت اتَّخذت بَيْتا وَإِن أوهن الْبيُوت لبيت العنكبوت لَو كَانُوا يعلمُونَ) وكل من تكبر عُوقِبَ بالذل قَالَ الله تَعَالَى (ضربت عَلَيْهِم الذلة أَيْنَمَا ثقفوا إِلَّا بِحَبل من الله وحبل من النَّاس وباءوا بغضب من الله وَضربت عَلَيْهِم المسكنة بِأَنَّهُم كَانُوا يكفرون بآيَات الله وَيقْتلُونَ الْأَنْبِيَاء بِغَيْر حق ذَلِك بِمَا عصوا وَكَانُوا يعتدون) فالجهل والغلو والتصديق بالأباطيل دين النَّصَارَى وَالْكبر والحسد ورد الْحق والذلة والتقية دين الْيَهُود وَهَؤُلَاء الرافضة قد التقطوا الْكل وتمسكوا بِهِ

اللَّهُمَّ اهدنا وإياهم صراطك الْمُسْتَقيم فيا مَا يعْمل الْجَهْل والهوى بأَهْله

قَالَ الْبُرْهَان الْخَامِس وَالْعشْرُونَ قَوْله تَعَالَى (فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) قَالَ الثَّعْلَبِيّ إِنَّمَا نزلت فِي عَليّ وَهَذَا دَلِيل على أَنه أفضل فَيكون هُوَ الإِمَام قُلْنَا هَذَا إفتراء على الثَّعْلَبِيّ وَإِنَّمَا قَالَ الرجل فِي هَذِه الْآيَة (فَسَوف يَأْتِي الله بِقوم يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) قَالَ عَليّ بن أبي طَالب وَقَتَادَة وَالْحسن إِنَّهُم أَبُو بكر وَأَصْحَابه

وَقَالَ مُجَاهِد هم أهل الْيمن وَبلا ريب إِن عليا مِمَّن يحب الله وَرَسُوله وَيُحِبهُ الله وَرَسُوله كَأبي بكر وَعمر وَغَيرهمَا من السَّابِقين وَالتَّابِعِينَ وَقَوله (أَذِلَّة على الْمُؤمنِينَ أعزة على الْكَافرين يجاهدون فِي سَبِيل الله وَلَا يخَافُونَ لومة لائم) أيقول عَاقل إِنَّهَا

ص: 451

نزلت فِي وَاحِد وَاللَّفْظ صِيغَة جمع

قَالَ الْبُرْهَان السَّادِس وَالْعشْرُونَ قَوْله تَعَالَى (وَالَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله أُولَئِكَ هم الصديقون وَالشُّهَدَاء عِنْد رَبهم) روى أَحْمد بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن أبي ليلى عَن أَبِيه قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الصديقون ثَلَاثَة حبيب النجار مُؤمن آل ياسين وحزقيل مُؤمن آل فرعن وَعلي بن أبي طَالب وَهُوَ أفضلهم وَهَذِه فَضِيلَة تدل على إِمَامَته

وَالْجَوَاب الْمُطَالبَة بِصِحَّة الحَدِيث فَمَا كل حَدِيث رَوَاهُ أَحْمد صَحِيح

ثمَّ هَذَا لم يروه أَحْمد لَا فِي الْمسند وَلَا فِي الْفَضَائِل وَلَا رَوَاهُ أبدا

وَإِنَّمَا زَاده الْقطيعِي عَن الْكُدَيْمِي حَدثنَا الْحسن بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ حَدثنَا عَمْرو بن جَمِيع حَدثنَا ابْن أبي ليلى عَن أَخِيه عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن أَبِيه مَرْفُوعا فَذكره

ثمَّ قَالَ الْقطيعِي كتب إِلَيْنَا عبد الله بن غَنَّام حَدثنَا الْحسن بن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى المكفوف حَدثنَا عَمْرو بن جَمِيع فعمرو هَذَا قَالَ فِيهِ ابْن عدي الْحَافِظ يتهم بِالْوَضْعِ والكديمي يتهم مَعْرُوف بِالْكَذِبِ

فَسقط الحَدِيث

ثمَّ قد ثَبت فِي الصَّحِيح تَسْمِيَة غير عَليّ صديقا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم صعد أحدا وَمَعَهُ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان فَرَجَفَ بهم فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم اثْبتْ أحد فَمَا عَلَيْك إِلَّا نَبِي وصديق وشهيدان

وَصَحَّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ص: 452

قَالَ لَا يزَال الرجل يصدق ويتحرى الصدْق حَتَّى يكْتب عِنْد الله صديقا

وَأَيْضًا فقد سمى الله مَرْيَم صديقَة وَقد سمى الله النَّبِيين كَذَلِك فَقَالَ (إِنَّه كَانَ صديقا نَبيا) وإخبار الله تَعَالَى فِي الْآيَة عَام فَقَالَ (وَالَّذين آمنُوا بِاللَّه وَرُسُله أُولَئِكَ هم الصديقون) فَهَذَا يَقْتَضِي أَن كل من آمن بِاللَّه وَرُسُله فَهُوَ صديق

ثمَّ إِن كَانَ الصّديق هُوَ الَّذِي يسْتَحق الْإِمَامَة فأحق النَّاس بِهَذَا الإسم أَبُو بكر وَهُوَ الَّذِي ثَبت لَهُ هَذَا الإسم والإمامة

قَالَ الْبُرْهَان السَّابِع وَالْعشْرُونَ قَوْله تَعَالَى (الَّذين يُنْفقُونَ أَمْوَالهم فِي اللَّيْل وَالنَّهَار سرا وَعَلَانِيَة) من طَرِيق أبي نعيم بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس أَنَّهَا نزلت فِي عَليّ كَانَ مَعَه أَرْبَعَة دَرَاهِم فأنفق درهما بِاللَّيْلِ ودرهما بِالنَّهَارِ ودرهما سرا ودرهما عَلَانيَة فَلم يحصل ذَلِك لغيره فَيكون هُوَ الإِمَام

قُلْنَا أَيْن ثُبُوت مَا نقلت كَيفَ وَهُوَ كذب وَالْآيَة عَامَّة فِي كل من ينْفق أَمْوَاله فَيمْتَنع أَن يُرَاد بهَا وَاحِد لم يكن صَاحب مَال

ثمَّ مَا نسبته إِلَى عَليّ يمْتَنع عَلَيْهِ إِذْ من فعل ذَلِك كَانَ جَاهِلا بِمَعْنى الْآيَة فَإِن الَّذِي ينْفق سرا وَعَلَانِيَة ينْفق لَيْلًا وَنَهَارًا وَمن أنْفق لَيْلًا وَنَهَارًا فقد أنْفق سرا وَعَلَانِيَة فالدرهم ينصف نِصْفَيْنِ وَلَا يتحتم أَن يكون المُرَاد أَرْبَعَة دَرَاهِم وَلَو كَانَ كَذَلِك لقَالَ وسرا بِالْوَاو وَعَلَانِيَة بل هما داخلان فِي اللَّيْل وَالنَّهَار سَوَاء قيل نصبا على الْمصدر أَي إسرارا وإعلانا أَو قيل على الْحَال مسرا ومعلنا

وهب أَن عليا فعل ذَلِك فباب الإتفاق مَفْتُوح إِلَى قيام السَّاعَة فَأَيْنَ الخصوصية وَلَو كَانَ إِنْفَاق أَرْبَعَة دَرَاهِم خَاصّا بِهِ فَلم قلت أَنه صَار بذلك أفضل الْأمة

قَالَ الْبُرْهَان الثَّامِن وَالْعشْرُونَ مَا رَوَاهُ أَحْمد بن حَنْبَل عَن ابْن عَبَّاس قَالَ لَيْسَ فِي الْقُرْآن (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا) إِلَّا وَعلي رَأسهَا وأميرها

وَلَقَد عَاتب الله أَصْحَاب مُحَمَّد فِي الْقُرْآن وَمَا ذكر عليا إِلَّا بِخَير وَهَذَا يدل على أَنه أفضل فَيكون هُوَ الإِمَام

ص: 453

الْجَواب الْمُطَالبَة بِصِحَّة النَّقْل فَإنَّك زعمت أَن أَحْمد بن حَنْبَل رَوَاهُ وَإِنَّمَا ذَا من زيادات الْقطيعِي رَوَاهُ عَن إِبْرَاهِيم بن شريك عَن زَكَرِيَّا بن يحيى الْكسَائي حَدثنَا عِيسَى عَن عَليّ ابْن بذيمة عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس فَهَذَا كذب على ابْن عَبَّاس فَإِن زَكَرِيَّا لَيْسَ بِثِقَة والمتواتر عَن ابْن عَبَّاس تفضيله الشَّيْخَيْنِ على عَليّ وَله معاتبات ومخالفات لعَلي

وَلما حرق عَليّ الزَّنَادِقَة قَالَ لَو كنت أَنا لقتلتهم لنهي النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن يعذب بِعَذَاب الله

اخرجه البُخَارِيّ

ثمَّ هَذَا الْكَلَام مَا فِيهِ مدح لعَلي فقد قَالَ تَعَالَى (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لم تَقولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ) فَإِن كَانَ عَليّ رَأس هَذِه الْآيَة فقد عاتبه الله وَهُوَ مُخَالف لما فِي حَدِيثك من أَن الله مَا ذكره إِلَّا بِخَير

وَقَالَ (يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَتَّخِذُوا عدوي وَعَدُوكُمْ أَوْلِيَاء) وَثَبت أَنَّهَا نزلت فِي حَاطِب بن أبي بلتعة وأمثال هَذَا كثير وَإِنَّمَا اللَّفْظ شَامِل للْمُؤْمِنين

وَفِي بعض الْآيَات آيَات عمل بهَا نَاس قبل عَليّ وفيهَا آيَات لم يعْمل بهَا عَليّ

وقولك لقد عَاتب الله الصَّحَابَة وَمَا ذكر عليا إِلَّا بِخَير كذب ظَاهر فَمَا عَاتب أَبَا بكر فِي الْقُرْآن قطّ

وَعَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ فِي خطبَته أَيهَا النَّاس اعرفوا لأبي بكر حَقه فَإِنَّهُ لم يَسُؤْنِي يَوْمًا قطّ

وَهَذَا بِخِلَاف خطْبَة بنت أبي جهل فقد خطب النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْخطْبَة الْمَعْرُوفَة وَمَا حصل مثل هَذَا فِي حق أبي بكر قطّ

وَأَيْضًا فعلي لم يكن يدْخل فِي الْأُمُور الْكِبَار مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَمَا كَانَ يدْخل مَعَه أَبُو بكر وَعمر فَإِنَّهُمَا كَانَا كالوزيرين وَعلي صَغِير فِي سنّ ولديهما

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَليّ لما مَاتَ عمر جَاءَ عَليّ فَقَالَ وَالله إِنِّي لأرجو أَن يحشرك الله مَعَ صاحبيك فَإِنِّي كنت كثيرا مَا أسمع النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول دخلت أَنا وَأَبُو بكر وَعمر وَخرجت أَنا وَأَبُو بكر وَعمر وَذَهَبت انا وَأَبُو بكر وَعمر

وَقد شاور عليا فِي أَمر يَخُصُّهُ كَمَا شاوره فِي قصَّة الْإِفْك فِي شَأْن عَائِشَة فَقَالَ لم يضيق الله عَلَيْك وَالنِّسَاء سواهَا كثير وسل الْجَارِيَة تصدقك

ص: 454

وشاور فِيهَا أُسَامَة بن زيد فَقَالَ أهلك وَلَا نعلم إِلَّا خيرا

فَنزل الْقُرْآن ببراءتها وإمساكها كَمَا أَشَارَ أُسَامَة

وَمَعَ هَذَا فَأَيْنَ أُسَامَة من عَليّ

قَالَ الْبُرْهَان التَّاسِع وَالْعشْرُونَ قَوْله (إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا صلوا عَلَيْهِ وسلموا تَسْلِيمًا) فَمن صَحِيح البُخَارِيّ عَن كَعْب ابْن عجْرَة قُلْنَا يَا رَسُول الله كَيفَ الصَّلَاة عَلَيْكُم أهل الْبَيْت قَالَ قُولُوا اللَّهُمَّ صلى على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد

وَلَا شكّ أَن عليا أفضل آل مُحَمَّد فَيكون أولى بِالْإِمَامَةِ

قُلْنَا هَذَا حق وَإِن عليا من آل مُحَمَّد الداخلين فِي قَوْله اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى آل مُحَمَّد

وَلَكِن لَيْسَ هَذَا من خَصَائِصه فَإِن جَمِيع بني هَاشم داخلون فِي هَذَا كالعباس وَولده والْحَارث بن عبد الْمطلب وكبنات النَّبِي صلى الله عليه وسلم زَوْجَتي عُثْمَان رقية وَأم كُلْثُوم وبنته فَاطِمَة وَكَذَلِكَ أَزوَاجه

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد وعَلى أَزوَاجه وَذريته فَالصَّلَاة على الْآل عَامَّة فَلَا يخْتَص بهَا عَليّ ثمَّ يدْخل فِيهَا مثل عقيل بن أبي طَالب وَأبي سُفْيَان بن الْحَارِث وَمَعْلُوم أَن دُخُول كل هَؤُلَاءِ فِي الصَّلَاة وَالتَّسْلِيم لَا يدل على أَنه أفضل من كل من لم يدْخل فِي ذَلِك وَلَا أَنه يصلح بذلك للْإِمَامَة فضلا عَن أَن يكون مُخْتَصًّا بهَا

أَلا ترى أَن عمارا والمقداد وَأَبا ذَر وَغَيرهم مِمَّن اتّفق أهل السّنة والشيعة على فَضلهمْ لَا يدْخلُونَ فِي الصَّلَاة على الْآل وَيدخل فِيهَا عقيل وَالْعَبَّاس وَبَنوهُ وَأُولَئِكَ أفضل من هَؤُلَاءِ بإتفاق أهل السّنة والشيعة

وَكَذَلِكَ يدْخل فِيهَا عَائِشَة وَغَيرهَا من أَزوَاجه وَلَا تصلح امْرَأَة للْإِمَامَة وَلَيْسَت أفضل النَّاس بإتفاق أهل السّنة والشيعة فَهَذِهِ فَضِيلَة مشترطة بَينه وَبَين غَيره وَلَيْسَ كل من اتّصف بهَا أفضل مِمَّن لم يَتَّصِف بهَا

الْبُرْهَان الثَّلَاثُونَ قَوْله (مرج الْبَحْرين يَلْتَقِيَانِ) من تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ وَطَرِيق أبي نعيم عَن ابْن عَبَّاس قَالَ عَليّ وَفَاطِمَة (بَينهمَا برزخ) النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ص: 455

(يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان) الْحسن وَالْحُسَيْن وَلم تحصل لغيره من الصَّحَابَة هَذِه الْفَضِيلَة فَيكون أولى بِالْإِمَامَةِ الْجَواب أَن هَذَا هذيان مَا هُوَ تَفْسِير لِلْقُرْآنِ بل هُوَ من وضع الْمَلَاحِدَة

وَنَظِيره قَول الجهلة المنتسبين إِلَى السّنة حَيْثُ فسروا وَمَا فسروا فَقَالُوا (الصابرين) مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم و (الصَّادِقين) أَبُو بكر و (القانتين) عمر و (المستغفرين بالأسحار) على

وكقولهم (مُحَمَّد رَسُول الله وَالَّذين مَعَه) أَبُو بكر (أشداء على الْكفَّار) عمر (رحماء بَينهم) عُثْمَان (تراهم ركعا سجدا) عَليّ

وكقولهم (والتين وَالزَّيْتُون) أَبُو بكر وَعمر (وطور سينين) عُثْمَان (وَهَذَا الْبَلَد الْأمين) عَليّ

وَكَذَا (وَالْعصر إِن الْإِنْسَان لفي خسر إِلَّا الَّذين آمنُوا) أَبُو بكر (وَعمِلُوا الصَّالِحَات) عمر (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ) عُثْمَان (وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ) عَليّ

وكقول تيوس الرافضة (وكل شَيْء أحصيناه فِي إِمَام مُبين) عَليّ

و (الشَّجَرَة الملعونة) بَنو أُميَّة

وَنحن نجد ضَرُورَة لَا تنْدَفع أَن ابْن عَبَّاس مَا قَالَ هَذَا

ثمَّ سُورَة الرَّحْمَن مَكِّيَّة بِإِجْمَاع الْمُسلمين وَإِنَّمَا اتَّصل عَليّ بفاطمة بِالْمَدِينَةِ

ثمَّ تَسْمِيَة هذَيْن بحرين وَهَذَا اللُّؤْلُؤ وَهَذَا مرجان وَجعل النِّكَاح مرجا أَمر لَا تحتمله لُغَة الْعَرَب بِوَجْه

ثمَّ نعلم أَن آل إِبْرَاهِيم كإسماعيل وَإِسْحَاق أفضل من آل عَليّ فَلَا توجب الْآيَة تَخْصِيصًا وَلَا أَفضَلِيَّة لَو تنازلنا وخاطبنا من لَا يعقل مَا يخرج من رَأسه

ثمَّ إِن الله تَعَالَى قد ذكر (مرج الْبَحْرين) فِي آيَة أُخْرَى فَقَالَ (هَذَا عذب فرات وَهَذَا ملح أجاج وَجعل بَينهمَا برزخا) فَأَيّهمَا الْملح الأجاج عنْدك أعلي أم فَاطِمَة ثمَّ قَوْله (لَا يبغيان) يَقْتَضِي أَن البرزخ هُوَ الْمَانِع من بغي أَحدهمَا على الآخر وَهَذَا بالذم أشبه مِنْهُ بالمدح

ص: 456

قَالَ الْبُرْهَان الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ قَوْله (وَمن عِنْده علم الْكتاب) عَن ابْن الْحَنَفِيَّة قَالَ هُوَ عَليّ

وَفِي تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ عَن عبد الله بن سَلام قَالَ قلت من ذَا الَّذِي عِنْده علم الْكتاب فَقَالَ إِنَّمَا ذَاك عَليّ

قُلْنَا أَيْن صِحَة النَّقْل بِهَذَا عَنْهُمَا وَمَا هما بِحجَّة مَعَ مُخَالفَة الْعلمَاء

كَيفَ وَهَذَا كذب عَلَيْهِمَا بَاطِل فَلَو كَانَ المُرَاد عَليّ لَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يستشهد على الْكفَّار بإبن عَمه وَلَو شهد لَهُ بالرسالة لما كَانَ حجَّة عَلَيْهِم وَلَا حصل لَهُم دَلِيل ينقادون لَهُ ولقالوا إِنَّمَا الَّذِي عِنْد ابْن عمك عَليّ مُسْتَفَاد مِنْك فَتكون أَنْت الشَّاهِد لنَفسك وَلَعَلَّه داهنك وحاباك وَأَيْنَ بَرَاءَته من التُّهْمَة بذلك وَأما أهل الْكتاب الَّذين عِنْدهم علم بِهِ إِذا شهدُوا بِمَا تَوَاتر عِنْدهم عَن الْأَنْبِيَاء كَانَت شَهَادَتهم نافعة كَمَا لَو كَانَ الْأَنْبِيَاء موجودين وشهدوا لَهُ لِأَن مَا ثَبت بالتواتر فَهُوَ بِمَنْزِلَة شَهَادَتهم أنفسهم وَلِهَذَا نَحن نشْهد على الْأُمَم مِمَّا علمناه من جِهَة نَبينَا

ثمَّ إِن الله تَعَالَى ذكر الإستشهاد بِأَهْل الْكتاب فِي أَمَاكِن كَقَوْلِه تَعَالَى (وَشهد شَاهد من بني إِسْرَائِيل) وَقَالَ (فَإِن كنت فِي شكّ مِمَّا أنزلنَا إِلَيْك فاسأل الَّذين يقرأون الْكتاب من قبلك)

ثمَّ هَب أَن عليا هُوَ الشَّاهِد أيلزم أَن يكون هُوَ أفضل الصَّحَابَة فَكَمَا أَن أهل الْكتاب الَّذين يشْهدُونَ بذلك كَعبد الله بن سَلام وسلمان وَكَعب الْأَحْبَار وَغَيرهم لَيْسُوا بِأَفْضَل من البَاقِينَ فَكَذَا هَذَا

قَالَ الْبُرْهَان الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ قَوْله (يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي وَالَّذين آمنُوا مَعَه) عَن ابْن عَبَّاس قَالَ أول من يلبس من حلل الْجنَّة إِبْرَاهِيم بخلته وَمُحَمّد لِأَنَّهُ صفوة الله ثمَّ عَليّ يزف بَينهمَا إِلَى الْجنان ثمَّ قَرَأَ (يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي وَالَّذين آمنُوا مَعَه)

قُلْنَا قبح الله من اختلق هَذَا على ابْن عَبَّاس الَّذِي نجزم بِأَنَّهُ مَا قَالَه

ثمَّ النَّص عَام فِي الْمُؤمنِينَ فَلَا تثبت بهَا أَفضَلِيَّة وَاحِد

قَالَ الْبُرْهَان الثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ (إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ هم خير الْبَريَّة) روى أَبُو نعيم بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس قَالَ لما نزلت هَذِه الْآيَة قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لعَلي هم أَنْت وشيعتك يأْتونَ يَوْم الْقِيَامَة راضين وَيَأْتِي

ص: 457

خصماؤك غضابا مفحمين

وَإِذا كَانَ خير الْبَريَّة وَجب أَن يكون الإِمَام

وَالْجَوَاب الْمُطَالبَة بِصِحَّتِهِ وَإِن كُنَّا جازمين بِوَضْعِهِ

ثمَّ هُوَ معَارض بِمن قَالَ إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات هم الْخَوَارِج والنواصب

وَيَقُولُونَ من تولى عليا فَهُوَ كَافِر

ويحتجون على ذَلِك بقوله (وَمن لم يحكم بِمَا أنزل الله فَأُولَئِك هم الْكَافِرُونَ) قَالُوا وَمن حكم الرِّجَال فِي دين الله فقد حكم بِغَيْر مَا أنزل الله فَيكون كَافِرًا

وَقَالَ (وَمن يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُم فَإِنَّهُ مِنْهُم)

وَقَالَ هُوَ وَعُثْمَان وشيعتهما مرتدون بقول النَّبِي صلى الله عليه وسلم ليذادن رجال عَن حَوْضِي كَمَا تذاد الْإِبِل الغريبة فَأَقُول رب أَصْحَابِي أَصْحَابِي فَيُقَال إِنَّك لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بعْدك وَبِقَوْلِهِ لَا ترجعوا بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض فَهَذَا وَإِن كَانَ بَاطِلا فحجج الرافضة أبطل مِنْهُ

وَقد صنف الجاحظ كتابا للمروانية وَذكر حجَجًا لَهُم لَا يُمكن الرافضي نقضهَا بل يحْتَاج إِلَى أهل السّنة حَتَّى ينقضوها

قَالَ الْبُرْهَان الرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ قَوْله (وَهُوَ الَّذِي خلق من المَاء بشرا فَجعله نسبا وصهرا) فِي تَفْسِير الثَّعْلَبِيّ عَن ابْن سِيرِين قَالَ نزلت فِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم زوج عليا فَاطِمَة وَلم يثبت لغير على ذَلِك فَكَانَ أفضل فَيكون هُوَ الإِمَام قُلْنَا وَهَذَا من الْكَذِب على ابْن سِيرِين وَالسورَة مَكِّيَّة قبل زواجه بفاطمة بدهر وَالْآيَة مُطلقَة فَإِن تناولت مصاهرة النَّبِي صلى الله عليه وسلم لعَلي فقد تناولت مصاهرته لعُثْمَان مرَّتَيْنِ وَلأبي الْعَاصِ مرّة وتناولت مصاهرة أبي بكر وَعمر للنَّبِي صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُ تزوج بإبنتيهما فمصاهرته ثَابِتَة للخلفاء الْأَرْبَعَة فانتفت الخصوصية

قَالَ الْبُرْهَان الْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ قَوْله (اتَّقوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقين) أوجب الله علينا الْكَوْن مَعَ الْمَعْلُوم مِنْهُم الصدْق وَلَيْسَ إِلَّا الْمَعْصُوم إِذْ لَا مَعْصُوم من الْأَرْبَعَة سواهُ

وَعَن ابْن عَبَّاس أَنَّهَا نزلت فِي عَليّ قُلْنَا الصّديق مُبَالغَة

ص: 458

فِي الصَّادِق وَأَبُو بكر صديق بأدلة عدَّة فَهُوَ أول من تناولته الْآيَة فَيجب أَن نَكُون مَعَه

وَإِن كَانَ الْأَرْبَعَة صديقين لم يكن على مُخْتَصًّا بذلك بل الْآيَة إِنَّمَا نزلت فِي قصَّة كَعْب لما تخلف عَن غَزْوَة تَبُوك وتيب عَلَيْهِ ببركة الصدْق وَذَلِكَ ثَابت فِي الصَّحِيح

ثمَّ إِنَّه قَالَ (وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقين) وَلم يقل وَكُونُوا مَعَ الصَّادِق وَمَعْنَاهَا فاصدقوا كَمَا يصدق الصادقون لَا تَكُونُوا مَعَ الْكَاذِبين

كَمَا قَالَ (واركعوا مَعَ الراكعين) وَلم يرد الْمَعِيَّة فِي كل شَيْء فَلَا يجب على الْإِنْسَان أَن يكون مَعَ الصَّادِقين فِي الْمُبَاحَات والملبوسات وَنَحْو ذَلِك وَمثل ذَلِك كن مَعَ الْأَبْرَار كن مَعَ الْمُجَاهدين أَي ادخل مَعَهم فِي هَذَا الْوَصْف وجامعهم عَلَيْهِ

قَالَ الْبُرْهَان السَّادِس وَالثَّلَاثُونَ قَوْله تَعَالَى (واركعوا مَعَ الراكعين) عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهَا نزلت فِي عَليّ وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وهما أول من صلى وَركع

قُلْنَا لَا نسلم صِحَّته

ثمَّ الْآيَة فِي القرة وَهِي مَدَنِيَّة وسياقها مُخَاطبَة بني إِسْرَائِيل فَنزلت بعد وجود خلق من الراكعين وَلَو أَرَادَ الله نبيه وعليا لقَالَ مَعَ الراكعين

وَصِيغَة الْجمع لَا يُرَاد بهَا التَّثْنِيَة فَقَط

ثمَّ قد قَالَ لِمَرْيَم (واركعي مَعَ الراكعين)

ثمَّ لَو أَرَادَ الرُّكُوع مَعَهُمَا لانقطع حكم الْآيَة بعد مَوْتهمَا

ثمَّ أَكثر النَّاس على أَن أَبَا بكر صلى مَعَ نَبِي الله قبل عَليّ

قَالَ الْبُرْهَان السَّابِع وَالثَّلَاثُونَ (وَاجعَل لي وزيرا من أَهلِي) فَمن طَرِيق أبي نعيم عَن ابْن عَبَّاس أَخذ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بيد عَليّ وَبِيَدِي وَنحن بِمَكَّة وَصلى أَرْبعا ثمَّ رفع يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاء فَقل اللَّهُمَّ إِن مُوسَى سَأَلَك وَأَنا أَسأَلك أَن تجْعَل لي وزيرا من أَهلِي عَليّ بن أبي طَالب أخي اشْدُد بِهِ أزري وأشركه فِي أَمْرِي

قَالَ ابْن عَبَّاس فَسمِعت مناديا يُنَادي يَا أَحْمد قد أُوتيت سؤلك

قُلْنَا عُلَمَاء الحَدِيث يعلمُونَ وضع هَذَا بِالضَّرُورَةِ

ثمَّ ابْن عَبَّاس كَانَ بِمَكَّة قبل الْهِجْرَة رضيعا وَبعد الْهِجْرَة فَكَانَ الله قد شدّ أزر نبيه وأغناه وأيده

وَإِن زَعَمُوا أَن عليا كَانَ شريك النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي أمره كَمَا كَانَ هَارُون شريك مُوسَى فَهَذَا نَص فِي نبوة عَليّ وَإِن قَالُوا كَانَ شَرِيكه فِي الْأَمر سوى

ص: 459

النُّبُوَّة فَهَذَا يُعْطي أَنه صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ مُسْتقِلّا بِأَمْر الْأمة فِي حَيَاته ثمَّ قُلْنَا يَا أَحمَق فَهَذَا نَص فِي الْبَاب فَأَي الشَّرِيكَيْنِ تَعْنِي

قَالَ الْبُرْهَان الثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ (إخْوَانًا على سرر مُتَقَابلين) من مُسْند أَحْمد بِإِسْنَادِهِ إِلَى زيد بن أبي أوفى قَالَ دخلت على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي مَسْجده فَذكر قصَّة مؤاخاة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَليّ لقد ذهبت روحي وَانْقطع ظَهْري حِين فعلت بِأَصْحَابِك مَا فعلت غَيْرِي فَإِن كَانَ هَذَا من سخطك عَليّ فلك العتبى

فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ مَا اخْتَرْتُك إِلَّا لنَفْسي فَأَنت مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى إِلَّا أَنه لَا نَبِي بعدِي

وَأَنت أخي ووارثي وَأَنت معي فِي قصري فِي الْجنَّة وَمَعَ ابْنَتي

ثمَّ تَلا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم (إخْوَانًا على سرر مُتَقَابلين (

فَلَمَّا اخْتصَّ عَليّ بمؤاخاة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ هُوَ الإِمَام

قُلْنَا هَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمد قطّ

وَإِنَّمَا هُوَ من زيادات الْقطيعِي الَّتِي غالبها سَاقِط فَقَالَ حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الْبَغَوِيّ حَدثنَا حُسَيْن بن مُحَمَّد الدراع حَدثنَا عبد الْمُؤمن بن عباد أخبرنَا يزِيد بن معن عَن عبد الله بن شُرَحْبِيل عَن زيد بن أبي أوفى وَقد أسقطت مِنْهُ يَا رَافِضِي فَإِن فِيهِ فَقَالَ يَا رَسُول الله وَمَا أرث مِنْك قَالَ مَا ورث الْأَنْبِيَاء قبلي كتاب الله وَسنة نَبِيّهم وَهُوَ مَكْذُوب بإتفاق أهل الْمعرفَة وَأَحَادِيث المؤاخاة كلهَا كذب وَلَا آخى النَّبِي صلى الله عليه وسلم بَين مُهَاجِرِي ومهاجري وَلَكِن بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار

ثمَّ قَوْله ووارثى لَا يَسْتَقِيم فَإِن أَرَادَ مِيرَاث المَال بَطل قَوْلهم إِن فَاطِمَة ورثته وَكَيف يَرث ابْن الْعم مَعَ وجود الْعم وَهُوَ الْعَبَّاس وَمَا الَّذِي خصّه بِالْإِرْثِ دون سَائِر بني الْعم الَّذين هم فِي دَرَجَة وَاحِدَة

وَإِن أَرَادَ وَارِث علمه أَو الْولَايَة بَطل احتجاجهم بقوله (وَورث سُلَيْمَان دَاوُد) وَبِقَوْلِهِ (يَرِثنِي وَيَرِث من آل يَعْقُوب)

ص: 460

وَمَا وَرَثَة الرَّسُول من الْعلم لم يخْتَص بِهِ عَليّ بل كل وَاحِد من الصَّحَابَة حصل لَهُ نصيب وَحفظ ابْن مَسْعُود من فِي رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سبعين سُورَة

ثمَّ لَيْسَ الْعلم كَالْمَالِ بل الَّذِي يَرِثهُ هَذَا يَرِثهُ الآخر وَلَا يتزاحمان بِخِلَاف المَال

ثمَّ قد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لمَوْلَاهُ زيد أَنْت أخونا ومولانا وَقَالَ لَهُ أَبُو بكر لما خطب ابْنَته أَلَسْت أَخَاك قَالَ بلَى وابنتك حَلَال لي

وَفِي الصَّحِيح أَنه قَالَ وَلَكِن أخوة الْإِسْلَام أفضل وَفِي الصَّحِيح أَيْضا وددت أَنِّي قد رَأَيْت إخْوَانِي قَالُوا أَو لسنا إخوانك قَالَ لَا أَنْتُم أَصْحَابِي وَلَكِن إخْوَانِي قوم يأْتونَ بعدِي يُؤمنُونَ بِي وَلم يروني

وَقَالَ تَعَالَى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَة) وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْمُسلم أَخُو الْمُسلم وَقَالَ كونُوا عباد الله إخْوَانًا

وَمُطلق المؤاخاة لَا يَقْتَضِي التَّمَاثُل من كل وَجه وَلَا الْمُنَاسبَة

وَإِذا كَانَ كَذَلِك لم قيل مؤاخاة عَليّ لَو كَانَت صَحِيحَة توجب الْإِمَامَة أَو الْأَفْضَلِيَّة وَقد ثَبت أَنه صلى الله عليه وسلم قَالَ لَو كنت متخذا من أهل الأَرْض خَلِيلًا لأتخذت أَبَا بكر خَلِيلًا

وَصَحَّ أَنه سُئِلَ من أحب النَّاس إِلَيْك من الرِّجَال قَالَ أَبُو بكر

وتواتر أَن عليا قَالَ خير هَذِه الْأمة بعد نبيها أَبُو بكر وَعمر أخرجه البُخَارِيّ

وَلنْ يرتاب فِي هَذِه النُّصُوص الثَّابِتَة إِلَّا من لَا يعلم أَو غَلبه الْهوى

وَنقل الْبَيْهَقِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى الشَّافِعِي قَالَ لم يخْتَلف أحد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فِي تَفْضِيل أبي وَبكر وَعمر وتقديمهما على جَمِيع الصَّحَابَة

وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد وَالثَّوْري وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَابْن جرير وأصحابهم من الْأَئِمَّة وَالسَّلَف وَالْخلف وَهَذَا مَالك يَحْكِي الْإِجْمَاع عَمَّن لقِيه أَنهم لم يَخْتَلِفُوا فِي تَقْدِيم أبي بكر وَعمر وَابْن جرير وَمُسلم بن خَالِد الزنْجِي وَابْن عُيَيْنَة وعلماء مَكَّة على ذَلِك وَبِه يَقُول ابْن أبي عرُوبَة والحمادان وَغَيرهم من عُلَمَاء الْبَصْرَة وَابْن أبي ليلى وَشريك وَجَمَاعَة من عُلَمَاء الْكُوفَة الَّتِي هِيَ دَار الشِّيعَة وَعمر بن الْحَارِث وَاللَّيْث بن سعد وَابْن وهب من عُلَمَاء مصر

ص: 461

وَالْأَوْزَاعِيّ وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز وَغَيرهمَا من عُلَمَاء الشَّام وَمن لَا يُحْصى عَددهمْ إِلَّا الله تَعَالَى

وَقَالَ الْبُرْهَان التَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ (وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ) الْآيَة

فَفِي كتاب الفردوس عَن حُذَيْفَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَو يعلم النَّاس مَتى سمى عَليّ أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا أَنْكَرُوا فَضله سمى أَمِير الْمُؤمنِينَ وآدَم بَين الرّوح والجسد قَالَ الله (وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ وأشهدهم على أنفسهم أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى) قَالَت الْمَلَائِكَة بلَى فَقَالَ تَعَالَى أَنا ربكُم وَمُحَمّد نَبِيكُم وَعلي أميركم وَهَذَا صَرِيح فِي الْبَاب

وَالْجَوَاب منع الصِّحَّة بل هُوَ كذب بإتفاق أهل الْمعرفَة والنقد

ثمَّ إِن الَّذِي فِي الْقُرْآن أَنه قَالَ (أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى) لم يتَعَرَّض لذكر نَبِي وَلَا أَمِير فَهَذَا مِيثَاق التَّوْحِيد خَاصَّة أَلا ترَاهُ قَالَ (أَن تَقولُوا إِنَّمَا أشرك آبَاؤُنَا من قبل وَكُنَّا ذُرِّيَّة من بعدهمْ) فَدلَّ على أَنه مِيثَاق التَّوْحِيد خَاصَّة لَيْسَ فِيهِ مِيثَاق النُّبُوَّة فَكيف مَا دونهَا

وَأَيْضًا فَإِن الْمِيثَاق أَخذ على الذُّرِّيَّة كلهَا أفيكون عَليّ أَمِيرا على الْأَنْبِيَاء كلهم من نوح إِلَى مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَهَذَا كَلَام المجانين

فَإِن أُولَئِكَ مَاتُوا قبل أَن يخلق الله عليا فَكيف يكون أَمِيرا عَلَيْهِم وَغَايَة مَا يُمكن أَن يكون أَمِيرا على أهل زَمَانه أما الْإِمَارَة على من خلق قبله وعَلى من خلق بعده فَهَذَا من كذب من لَا يعقل مَا يَقُول وَلَا يستحي مِمَّا يَقُول

وَمن الْعجب أَن هَذَا الْحمار الرافضي هُوَ أَحْمَر من عقلاء الْيَهُود الَّذين قَالَ الله فيهم (مثل الَّذين حملُوا التَّوْرَاة ثمَّ لم يحملوها كَمثل الْحمار يحمل أسفارا) والعامة معذورون فِي قَوْلهم الرافضي حمَار الْيَهُودِيّ والعاقل يعلم أَن هَذَا وامثاله بَاطِل عقلا وَشرعا وَإِنَّمَا هَذَا نَظِير قَول ابْن عَرَبِيّ الطَّائِي وَأَمْثَاله إِن الْأَنْبِيَاء كَانُوا يستفيدون الْعلم بِاللَّه من مشكاة خَاتم الْأَوْلِيَاء الَّذِي خلق بعدهمْ بدهور فغلو هَؤُلَاءِ فِي الْولَايَة كغلو أُولَئِكَ فِي

ص: 462

الْإِمَامَة

ثمَّ يَقُول هُوَ صَرِيح فِي الْبَاب فَهَل يكون هَذَا حجَّة عِنْد أحد ويحتج بِهَذَا فِي جزرة بقل وَالله حَسبك وحسبنا على مَا تَقول

قَالَ الْبُرْهَان الْأَرْبَعُونَ قَوْله (فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيل وَصَالح الْمُؤمنِينَ) أجمع الْمُفَسِّرُونَ على أَن عليا صَالح الْمُؤمنِينَ روى أَبُو نعيم بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَسمَاء بنت عُمَيْس سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يقْرَأ (فَإِن الله هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيل وَصَالح الْمُؤمنِينَ) عَليّ بن أبي طَالب

واختصاصه بِهَذَا يدل على أفضليته فَيكون هُوَ الإِمَام والآيات فِي هَذَا الْمَعْنى كَثِيرَة

وَالْجَوَاب أَن نقلك الْإِجْمَاع إفتراء مِنْك فَمَا أَجمعُوا على هَذَا بل كتب التَّفْسِير بنقيض هَذَا فَقَالَ مُجَاهِد وَغَيره هُوَ أَبُو بكر وَعمر نَقله ابْن جريج وَغَيره

وَقيل هم الْأَنْبِيَاء

وَلم يثبت القَوْل بتخصيص عَليّ بِهِ عَمَّن قَوْله حجَّة

والْحَدِيث الْمَذْكُور كذب بِيَقِين

ثمَّ قَوْله (وَصَالح الْمُؤمنِينَ) اسْم يعم كل صَالح من الْمُؤمنِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن آل فلَان لَيْسُوا بأوليائي إِنَّمَا وليي الله وَصَالح الْمُؤمنِينَ

ثمَّ يُقَال إِن الله جعل فِي الْآيَة صَالح الْمُؤمنِينَ مولى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَمَا أخبر أَن الله مَوْلَاهُ وَالْمولى يمْتَنع أَن يُرَاد بِهِ الْمولى عَلَيْهِ فَلم يبْق المُرَاد بِهِ إِلَّا الموالى

وَمن الْمَعْلُوم أَن كل من كَانَ صَالحا من الْمُؤمنِينَ كَانَ مواليا للنَّبِي صلى الله عليه وسلم قطعا فَإِنَّهُ لَو لم يواله لم يكن من صالحي الْمُؤمنِينَ بل قد يواليه الْمُؤمن وَإِن لم يكن صَالحا

وقولك والآيات فِي هَذَا الْمَعْنى كَثِيرَة فغاية ذَلِك أَن يكون الْمَتْرُوك من جنس الْمَذْكُور وَالَّذِي أوردته خُلَاصَة مَا عنْدك وَبَاب الْكَذِب لَا ينسد وَلَكِن الله يقذف بِالْحَقِّ على الْبَاطِل فيدمغه فَإِذا هُوَ زاهق وَلكم الويل مِمَّا تصفون

وحكاية قَاسم بن زَكَرِيَّا الْمُطَرز مَشْهُورَة أَنه دخل على عباد بن يَعْقُوب الْأَسدي الروَاجِنِي الرافضي وَكَانَ

ص: 463

صَدُوقًا فِي الحَدِيث على بدعته فَقَالَ لي من حفر الْبَحْر قلت الله تَعَالَى

قَالَ هُوَ كَذَلِك وَلَكِن من حفره قلت يذكر الشَّيْخ

فَقَالَ حفره عَليّ فَمن أجراه قلت يُفِيد الشَّيْخ قَالَ أجراه الْحُسَيْن وَكَانَ عباد مكفوفا فَرَأَيْت سَيْفا وجحفة فَقلت لمن هَذَا قَالَ أعددته لأقاتل بِهِ مَعَ الْمهْدي فَلَمَّا فرغت من سَماع مَا أردْت مِنْهُ دخلت عَلَيْهِ فَقَالَ لي من حفر الْبَحْر قلت مُعَاوِيَة وأجراه عَمْرو بن الْعَاصِ

ثمَّ وَثَبت وعدوت أصيح أدركوا الْفَاسِق عَدو الله فَاقْتُلُوهُ

قلت هَذِه حِكَايَة صَحِيحَة رَوَاهَا ابْن مظفر عَن الْقَاسِم

وَقد قَالَ مُحَمَّد بن جرير سَمِعت عباد بن يَعْقُوب يَقُول

من لم يتبرأ فِي صلَاته كل يَوْم من أَعدَاء آل مُحَمَّد حشر مَعَهم

قَالَ الرافضي الْمنْهَج الثَّالِث فِي الْأَدِلَّة المسندة إِلَى الحَدِيث

فَمن ذَلِك مَا نَقله النَّاس كَافَّة لما نزلت (وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين) جمع رَسُول

ص: 464

الله صلى الله عليه وسلم بني عبد الْمطلب فِي دَار أبي طَالب وهم أَرْبَعُونَ رجلا وَامْرَأَتَانِ فَصنعَ لَهُم طَعَاما وَكَانَ الرجل مِنْهُم يَأْكُل الْجَذعَة وَيشْرب الْفرق من الشَّرَاب فَأكلت الْجَمَاعَة كلهم من ذَلِك الْيَسِير حَتَّى شَبِعُوا وَلم يتَبَيَّن مَا أكلُوا فبهرهم ذَلِك وَتبين لَهُم أَنه صَادِق فِي نبوته فَقَالَ يَا بنى عبد الْمطلب إِن الله بعثنى إِلَى الْخلق كَافَّة وبعثنى إِلَيْكُم خَاصَّة فَقَالَ (وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين)

وَأَنا أدعوكم إِلَى كَلِمَتَيْنِ خفيفتين على اللِّسَان ثقيلتين فِي الْمِيزَان تَمْلِكُونَ بهما الْعَرَب والعجم وتنقاد لكم بهما الْأُمَم وتدخلون بهما الْجنَّة وتنجون بهما من النَّار شَهَادَة أَن لاإله إِلَّا الله وَأَنِّي رَسُول الله عَن يجيبني إِلَى هَذَا الْأَمر ويؤازرني عَلَيْهِ يكن أخي ووصيتي ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدِي

فَقَالَ عَليّ أَنا يَا رَسُول الله

وَالْجَوَاب الْمُطَالبَة بِصِحَّة النَّقْل فَلَا هُوَ فِي السّنَن وَلَا فِي المسانيد وَلَا فِي الْمَغَازِي فَأَيْنَ قَوْلك فِيهِ نَقله النَّاس كَافَّة وَإِنَّمَا هُوَ من الموضوعات ثمَّ إِن بني عبد الْمطلب لم يبلغُوا أَرْبَعِينَ رجلا وَقت نزُول الْآيَة وَلَا كَانُوا أَرْبَعِينَ فِي حَيَاة الرَّسُول أبدا

وَجَمِيع بني عبد الْمطلب من أَوْلَاد الْعَبَّاس وَأبي طَالب والْحَارث وَأبي لَهب فَكَانَ لأبي طَالب أَرْبَعَة على وجعفر وَعقيل وطالب فطالب لم يدْرك الْإِسْلَام وَالْعَبَّاس كَانَ أَوْلَاده رضعا أَو لم يُولد لَهُ

والْحَارث كَانَ لَهُ ثَلَاثَة أَبُو سُفْيَان وَرَبِيعَة وَنَوْفَل

وَأَبُو لَهب كَانَ لَهُ ولدان أَو ثَلَاثَة

فَكل بني هَاشم إِذْ ذَاك لم يبلغُوا بضعَة عشر فَأَيْنَ الْأَرْبَعُونَ ثمَّ قَوْله فِي الحَدِيث كل رجل مِنْهُم يَأْكُل الْجَذعَة وَيشْرب الْفرق من اللَّبن

ص: 465

كذب لَيْسَ بَنو هَاشم معروفين بِكَثْرَة الْأكل بل وَلَا وَاحِد مِنْهُم يحفظ عَنهُ هَذَا

ثمَّ لفظ الحَدِيث رَكِيك يشْهد الْقلب بِبُطْلَانِهِ فَإِنَّهُ عرضه كَمَا زعمت على أَرْبَعِينَ رجلا فَلَو فَرضنَا أَنهم أجابوه كلهم من الَّذِي يكون الْخَلِيفَة مِنْهُم ثمَّ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَا يبين بطلَان هَذَا عَن أبي هُرَيْرَة وَغَيره أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لما نزلت (وأنذر عشيرتك الْأَقْرَبين) دَعَا قُريْشًا فَاجْتمعُوا فَعم وَخص فَقَالَ يَا بني كَعْب بن لؤَي أَنْقِذُوا أَنفسكُم من النَّار يَا بني عبد شمس أَنْقِذُوا أَنفسكُم من النَّار يَا بني عبد الْمطلب أَنْقِذُوا أَنفسكُم من النَّار يَا فَاطِمَة أَنْقِذِي نَفسك من النَّار فَإِنِّي لَا أملك لكم من الله شَيْئا غير أَن لكم رحما سَأَبلُّهَا بِبلَالِهَا وَفِي الصَّحِيحَيْنِ لما نزلت هَذِه الْآيَة قَالَ يَا معشر قُرَيْش اشْتَروا أَنفسكُم من الله لَا أغْنى عَنْكُم من الله شَيْئا

يَا بني عبد الْمطلب لَا أُغني عَنْكُم من الله شَيْئا يَا صَفِيَّة عمَّة رَسُول الله لَا أُغني عَنْك من الله شَيْئا يَا فَاطِمَة بنت رَسُول الله لَا أغْنى عَنْك من الله شَيْئا سلاني مَا شئتما من مَالِي وَأخرجه مُسلم من حَدِيث قبيصَة ابْن مُخَارق وَزُهَيْر وَعَائِشَة وَفِيه أَنه قَامَ على الصَّفَا فَنَادَى

قَالَ الْخَبَر الثَّانِي عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لما نزلت (يَا أَيهَا الرَّسُول بلغ مَا أنزل إِلَيْك من رَبك) خطب بغدير خم وَقَالَ أَيهَا النَّاس أَلَسْت أولى مِنْكُم بِأَنْفُسِكُمْ قَالُوا بلَى قَالَ من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ اللَّهُمَّ وَال من وَالَاهُ وَعَاد من عَادَاهُ وانصر من نَصره واخذل من خذله

فَقَالَ عمر بخ بخ أَصبَحت مولَايَ وَمولى كل مُؤمن ومؤمنة

وَالْمرَاد بالمولى هُنَا التَّصَرُّف لتقدم التَّقْرِير مِنْهُ بقوله أَلَسْت أولى مِنْكُم بِأَنْفُسِكُمْ

وَالْجَوَاب عَن هَذَا قد تقدم وَأَن الْآيَة قد نزلت قبل يَوْم الغدير

ص: 466

عدَّة وَإِن كَانَت من الْمَائِدَة أَلا ترى أَن فِي سياقها (وَالله يَعْصِمك من النَّاس) وَهَذَا شَيْء كَانَ فِي أَوَائِل الْإِسْلَام ثمَّ صدر الحَدِيث رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَأحمد فِي الْمسند

وَأما اللَّهُمَّ وَال من وَالَاهُ إِلَخ فَلَا ريب فِي كذبه

وَنقل الْأَثْرَم فِي سنَنه عَن أَحْمد أَن الْعَبَّاس سَأَلَهُ عَن حُسَيْن الْأَشْقَر وَأَنه حدث بحديثين هَذَا أَحدهمَا وَالْآخر قَوْله لعَلي إِنَّك ستعرض على الْبَرَاءَة مني فَلَا تَبرأ مني فَأنكرهُ أَبُو عبد الله جدا وَلم يشك أَن هذَيْن كذب وَقد صنف ابْن عقدَة مصنفا فِي جمع طرق الحَدِيث وَقَالَ ابْن حزم الَّذِي صَحَّ فِي فَضَائِل على أَنْت مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى ولأعطين الرَّايَة وَعَهده أَن عليا لَا يُحِبهُ إِلَّا مُؤمن وَلَا يبغضه إِلَّا مُنَافِق وَصَحَّ نَحوه فِي الْأَنْصَار وَأما من كنت مَوْلَاهُ فَلَا يَصح

إِلَى أَن قَالَ وَأما سَائِر الْأَحَادِيث الَّتِي يتَعَلَّق بهَا الروافض فموضوعة يعرف ذَلِك من لَهُ أدنى علم بالأخبار ونقلتها

فَإِن قيل فَمَا ذكر ابْن حزم قَوْله أَنْت مني وَأَنا مِنْك وَحَدِيث المباهلة والكساء قيل مُرَاد ابْن حزم مَا يذكر فِيهِ عَليّ وَحده

وَنحن نقُول إِن كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ هَذَا يَوْم الغدير فَلم يرد بِهِ الْخلَافَة قطعا إِذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظ مَا يدل عَلَيْهِ دلَالَة ظَاهِرَة وَمثل هَذَا الْأَمر الْعَظِيم يَنْبَغِي أَن يبين بَيَانا وَاضحا فالمولى كالولى وَقد قَالَ الله تَعَالَى (إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا) وَأَن الْمُؤمنِينَ أَوْلِيَاء الله وَأَن بَعضهم أَوْلِيَاء بعض

فالموالاة ضد المعاداة وَهِي تثبت من الطَّرفَيْنِ وَإِن كَانَ أحد المتواليين أعظم قدرا وولايته إِحْسَان وتفضل وَولَايَة الآخر طَاعَة وَعبادَة فَمَعْنَى كَونه تَعَالَى ولي الْمُؤمنِينَ ومولاهم وَكَون نبيه وليهم ومولاهم وَكَون عَليّ مَوْلَاهُم هِيَ الْمُوَالَاة الَّتِي هِيَ ضد الْمُعَادَة والمؤمنون أَيْضا يتولون الله وَرَسُوله الْمُوَالَاة المضادة للمعاداة وَهَذَا حكم ثَابت لكل مُؤمن فعلي من كبارهم يتولاهم ويتولونه فَفِيهِ رد على الْخَوَارِج

ص: 467

والنواصب لَكِن لَيْسَ فِي الحَدِيث أَنه لَيْسَ للْمُؤْمِنين مولى سواهُ وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أسلم وغفار ومزينه وجهينة وقريش وَالْأَنْصَار موَالِي دون النَّاس لَيْسَ لَهُم مولى دون الله وَرَسُوله

قَالَ الثَّالِث قَوْله أَنْت مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى إِلَّا أَنه لَا نَبِي بعدِي

وَمن جملَة منَازِل هَارُون أَنه كَانَ خَليفَة لمُوسَى وَلَو عَاشَ بعده لخلفه

وَلِأَنَّهُ خَلفه مَعَ وجوده وغيبته مُدَّة يسيرَة فَعِنْدَ مَوته تطول الْغَيْبَة فَيكون أولى بِأَن يكون خَليفَة الْجَواب هَذَا الحَدِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ وَقَالَهُ لَهُ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَة تَبُوك وَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذا غَابَ عَن الْمَدِينَة يسْتَخْلف عَلَيْهَا رجلا فَلَمَّا كَانَ فِي غَزْوَة تَبُوك لم يَأْذَن لأحد فِي التَّخَلُّف فَمَا تخلف عَنهُ إِلَّا مَعْذُور بِالْعَجزِ أَو مُنَافِق وَأُولَئِكَ الثَّلَاثَة كَذَا كَانَ الإستخلاف فِي غَزْوَة الْفَتْح أَيْضا وَفِي حجَّة الْوَدَاع فَمَا علميا من يذكر تخلف وَلم يبْق بِالْمَدِينَةِ طَائِفَة من الْمُؤمنِينَ وَكَانَ هَذَا الإستخلاف دون الإستخلافات الْمُعْتَادَة مِنْهُ فَخرج عَليّ إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم يبكي وَقَالَ أتخلفني مَعَ النِّسَاء وَالصبيان وَقيل إِن بعض الْمُنَافِقين طعن فِيهِ وَقَالَ إِنَّمَا خَلفه لِأَنَّهُ فَبين لَهُ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم إِنِّي إِنَّمَا أستخلفتك لأمانتك عِنْدِي وَإِن الإستخلاف لَيْسَ ببغض فإت مُوسَى اسْتخْلف هَارُون على قومه فطيب قلبه

وَلم يكن الإستخلاف كإستخلاف هَارُون لِأَن ذَلِك كَانَ على كل قوم مُوسَى وَذهب هُوَ للمناجاة وإستخلاف عَليّ كَانَ على من ذكرنَا وَسَائِر الْمُسلمين كَانُوا مَعَ نَبِيّهم

وَقَول الْقَائِل هَذَا بمنزله هَذَا أَو مثل هَذَا أَو كَهَذا تَشْبِيه للشَّيْء بالشَّيْء وَيكون بِحَسب مَا دلّ عَلَيْهِ السِّيَاق وَلَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاة فِي كل شَيْء أَلا ترى إِلَى مَا ثَبت من قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيث الأساري حِين اسْتَشَارَ أَبَا بكر فَأَشَارَ بِالْفِدَاءِ وَاسْتَشَارَ عمر فَأَشَارَ بِالْقَتْلِ فَقَالَ مثلك يَا أَبَا بكر مثل إِبْرَاهِيم إِذْ قَالَ (فَمن تَبِعنِي فَإِنَّهُ مني وَمن عَصَانِي فَإنَّك غَفُور رَحِيم) وَمثلك يَا عمر مثل نوح إِذْ قَالَ (رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا) الحَدِيث

ص: 468

فقد جعل هذَيْن مثلهمَا وَلم يرد أَنَّهُمَا مثلهمَا فِي كل شَيْء لَكِن فِيمَا دلّ عَلَيْهِ السِّيَاق من الشدَّة واللين وَكَذَلِكَ عَليّ إِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَة هَارُون فِيمَا دلّ عَلَيْهِ السِّيَاق وَهُوَ إستخلافه فِي مغيبه وَهَذَا الإستخلاف لَيْسَ من خَصَائِص عَليّ وَلَا هُوَ مثل سَائِر إستلافاته

وَلَا أُولَئِكَ المستخلفون مِنْهُ بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى وتخصيصه لعَلي بِالذكر هُنَا هُوَ مَفْهُوم اللقب وَهُوَ نَوْعَانِ لقب هُوَ جنس ولقب يجْرِي مجْرى الْعلم مثل زبد وَأَنت وَهَذَا الْمَفْهُوم أَضْعَف المفاهيم

وَلِهَذَا كَانَ جَمَاهِير الْأُصُولِيِّينَ على أَنه لَا يحْتَج بِهِ

وَقَول الْقَائِل إِنَّه جعله بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى فِي كل شَيْء إِلَّا النُّبُوَّة بَاطِل فَإِن قَوْله أما ترْضى أَن تكون مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى دَلِيل على أَنه يسترضيه بذلك ويطيب قلبه أَي مثل منزلَة هَارُون وَلَو كَانَ مثل هَارُون مُطلقًا لما أَمر عَلَيْهِ أَبَا بكر فِي حجَّة سنة تسع فَكَانَ يُصَلِّي خلف أبي بكر ويطيع أمره وَخَصه بنبذ العهود إِلَى الْعَرَب فَقَط فَإِنَّهُ كَانَ من عَادَتهم أَن لَا يعْقد الْعُقُود وَلَا ينبذها إِلَّا السَّيِّد المطاع أَو رجل من أهل بَيته

وقولك وَلِأَنَّهُ خَلِيفَته مَعَ وجوده وغيبته مُدَّة يسيرَة فَعِنْدَ مَوته بطول الْغَيْبَة يكون أولى بِأَن يكون خَليفَة

فَيُقَال هُوَ مَعَ وجوده وغيبته قد اسْتخْلف غير وَاحِد سوى عَليّ فالإستخلاف على الْمَدِينَة لَيْسَ من خَصَائِصه وَلَيْسَ كل من صلح للإستخلاف فِي الْحَيَاة على بعض الْأمة يصلح أَن يكون خَليفَة بعد الْمَوْت

قَالَ الرَّابِع أَنه صلى الله عليه وسلم إستخلفه على الْمَدِينَة مَعَ قصر مُدَّة الْغَيْبَة فَيجب أَن يكون خَليفَة لَهُ بعد مَوته وَلَيْسَ غير عَليّ إِجْمَاعًا وَلِأَنَّهُ لم يعزله عَن الْمَدِينَة فَيكون خَلِيفَته بعد مَوته فِيهَا وَإِذا كَانَ خَليفَة فِي الْمَدِينَة كَانَ خَليفَة فِي غَيرهَا إِجْمَاعًا

قُلْنَا هَذِه حجَّة داحضة كأمثالها من جنس نَسِيج العنكبوت

وَالْجَوَاب عَنْهَا من وُجُوه أَحدهَا أَن نقُول على أحد الْقَوْلَيْنِ إِنَّه اسْتخْلف أَبَا بكر بعد مَوته

وَإِن قلت بل اسْتخْلف عليا قيل والراوندية من جنسك قَالُوا اسْتخْلف عَمه الْعَبَّاس

وكل من لَهُ علم

ص: 469

بالمنقولات الثَّابِتَة يعلم أَن الْأَحَادِيث الدَّالَّة على إستخلاف أحد بعد مَوته إِنَّمَا تدل على إستخلاف أبي بكر لَيْسَ فِيهَا شَيْء يدل على إستخلاف عَليّ وَلَا الْعَبَّاس

وَإِن لم يكن اسْتخْلف فقد ترك مُبَاحا أما الإستخلاف فِي الْحَيَاة فَإِنَّهُ نِيَابَة وَلَا بُد مِنْهُ لكل إِمَام عزما

وَبعد مَوته انْقَطع التَّكْلِيف عَنهُ كَمَا قَالَ الْمَسِيح (وَكنت عَلَيْهِم شَهِيدا مَا دمت فيهم فَلَمَّا توفيتني كنت أَنْت الرَّقِيب عَلَيْهِم)

وقولك لم يعزله عَن الْمَدِينَة قَول زيف فَإِنَّهُ بِمُجَرَّد مَجِيء النَّبِي صلى الله عليه وسلم انْعَزل عَليّ كَمَا كَانَ غَيره من نواب الرَّسُول على الْمَدِينَة ينعزلون بمقدمه وَقد أرْسلهُ بعد ذَا بِبَرَاءَة إِلَى الْمَوْسِم وَبَعثه عَاملا على الْيمن ثمَّ وافاه فِي حجَّة الْوَدَاع

قَالَ الْخَامِس مَا رَوَاهُ الْجُمْهُور بأجمعهم عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لعَلي أَنْت أخي ووصيي وخليفتي من بعدِي وقاضي ديني

وَالْجَوَاب أَولا الْمُطَالبَة بِصِحَّة هَذَا فقد شطحت وَانْتَفَخَتْ إِذْ قلت رَوَاهُ الْجُمْهُور بأجمعهم فَإِن أردْت عُلَمَاء الحَدِيث فقد افتريت وَإِن أردْت أَن أَبَا نعيم رَوَاهُ فِي الْفَضَائِل والمغازلي أَو خطيب خوارزم فَلَيْسَ حجَّة بإتفاق ثمَّ بُطْلَانه مَعْلُوم قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي كتاب الموضوعات لما روى هَذَا

ص: 470

الحَدِيث من طَرِيق أبي حَاتِم البستي حَدثنَا مُحَمَّد بن سهل بن أَيُّوب حَدثنَا عمار بن رَجَاء حَدثنَا عبيد الله بن مُوسَى حَدثنَا مطر بن مَيْمُون الإسكاف عَن أنس أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن أخي ووزيري وخليلي من أَهلِي وَخير من أترك من بعدِي يقْضِي ديني وينجز موعدي على بن أبي طَالب

وَهَذَا مَوْضُوع

قَالَ ابْن حبَان مطر يرْوى الموضوعات لَا تحل الرِّوَايَة عَنهُ

وَرَوَاهُ من طَرِيق ابْن عدي بِنَحْوِهِ ومداره على مطر هَذَا مَعَ أَنه لَيْسَ فِي لَفظه وخليفتي ووصيي وَأما فِي تِلْكَ الطَّرِيق وخليفتي فِي أَهلِي

قَالَ السَّادِس حَدِيث المؤاخاة روى أنس أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لما كَانَ يَوْم المباهلة وآخى بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَعلي وَاقِف يرَاهُ ويعرفه وَلم يؤاخ بَينه وَبَين أحد فَانْصَرف باكيا فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا فعل أَبُو الْحسن قَالُوا انْصَرف باكي الْعين فَقَالَت لَهُ فَاطِمَة مَا يبكيك قَالَ آخى النَّبِي صلى الله عليه وسلم بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَلم يؤاخ بيني وَبَين أحد

قَالَت لَا يخزيك الله لَعَلَّه إِنَّمَا ادخرك لنَفسِهِ

فَقَالَ بِلَال يَا عَليّ أجب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

فَأتي فَقَالَ

مَا يبكيك يَا أَبَا الْحسن فَأخْبرهُ فَقَالَ إِنَّمَا ادخرك لنَفْسي أَلا يَسُرك أَن تكون أَخا نبيك قَالَ بلَى

فَأخذ بِيَدِهِ فَأتى الْمِنْبَر فَقَالَ

اللَّهُمَّ هَذَا مني وَأَنا مِنْهُ أَلا إِنَّه مني بِمَنْزِلَة هَارُون من مُوسَى أَلا من كنت مَوْلَاهُ فعلي مَوْلَاهُ

فَانْصَرف فَاتبعهُ عمر فَقَالَ بخ بخ يَا أَبَا الْحسن أَصبَحت مولَايَ وَمولى كل مُسلم

فالمؤاخاة تدل على الْأَفْضَلِيَّة فَيكون هُوَ الإِمَام

قُلْنَا هَذَا مَوْضُوع بَاطِل والمباهلة إِنَّمَا كَانَت سنة تسع أَو نَحْوهَا والمؤاخاة بَين الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار فِي أول الْهِجْرَة ثمَّ لم تقع مباهلة لَكِن دعِي نَصَارَى نَجْرَان إِلَيْهَا فاستمهلوا حَتَّى يشتوروا فَلَمَّا خلوا قَالُوا هُوَ نَبِي وَمَا بَاهل قوم نَبيا إِلَّا استؤصلوا فأقروا بالجزية وذهبوا

ص: 471

قَالَ السَّابِع حَدِيث فتح خَيْبَر على يَدَيْهِ فَأوردهُ بِلَفْظ مُنكر وَفِيه أروني رجلا يحب الله وَرَسُوله وَيُحِبهُ الله وَرَسُوله وَلَا ريب أَن عليا يُحِبهُ الله فَفِيهِ رد على الْخَوَارِج والأموية

قَالَ الْأَشْعَرِيّ فِي كتاب المقالات أَجمعت الْخَوَارِج على كفر عَليّ وَلَيْسَ هَذَا الحَدِيث مِمَّا يخْتَص بِهِ على بل غَيره يُحِبهُ الله وَكَون الْفَتْح على يَدَيْهِ يدل على فضيلته لَا أفضليته

قَالَ الثَّامِن خبر الطَّائِر روى الْجُمْهُور كَافَّة أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَتَى بطائر فَقَالَ اللَّهُمَّ ائْتِنِي بِأحب الْخلق إِلَيْك وإلي يَأْكُل معي من هَذَا الطَّائِر فجَاء عَليّ

فَنَقُول حَدِيث الطَّائِر من المكذوبات الموضوعات عِنْد أهل الْعلم والمعرفة بحقائق النَّقْل وَسُئِلَ الْحَاكِم عَن حَدِيث الطير فَقَالَ لَا يَصح

مَعَ أَن الْحَاكِم مَنْسُوب للتشيع لَكِن تشيعه وتشيع أَمْثَاله من أهل الْعلم بِالْحَدِيثِ كَالنَّسَائِيِّ وَابْن عبد الْبر وأمثالهما لَا يبلغ إِلَى تَفْضِيل عَليّ على أبي بكر وَعمر فَلَا يعرف فِي عُلَمَاء الحَدِيث من يفضله عَلَيْهِمَا

ثمَّ إِمَّا أَن يكون الرَّسُول كَانَ يعرف أَن عليا أحب الْخلق إِلَى الله تَعَالَى أَولا

فَإِن كَانَ يعرف هلا أرسل خَلفه أَو هلا قَالَ اللَّهُمَّ ائْتِنِي بعلي فأراح أنفسا من الإحتمال والرجاء الْبَاطِل ثمَّ فِي لَفظه أحب خلقك إِلَيْك وإلي فَكيف لَا يعرف أحب الْخلق إِلَيْهِ لَا سِيمَا وَفِي الصِّحَاح مَا يُنَاقض هَذَا كَقَوْلِه لَو كنت متخذا خَلِيلًا من الْأمة لأتخذت أَبَا بكر خَلِيلًا وَهَذَا متواتر جَاءَ من حَدِيث ابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَأبي سعيد وَابْن الزبير والخلة كَمَال الْحبّ

وَثَبت فِي الصَّحِيح أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ أَي النَّاس أحب إِلَيْك قَالَ عَائِشَة

قيل فَمن الرِّجَال قَالَ أَبوهَا

وَقَالَ لَهُ عمر يَوْم السَّقِيفَة بِحَضْرَة الْمَلأ أَنْت خيرنا وأحبنا إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَمَا أنكرهُ على عمر مُنكر

وَقَالَ الله تَعَالَى (وسيجنبها الأتقى الَّذِي يُؤْتى مَاله يتزكى وَمَا لأحد عِنْده من نعْمَة تجزى إِلَّا ابْتِغَاء وَجه ربه الْأَعْلَى ولسوف يرضى)

ص: 472

وأئمة التَّفْسِير يَقُولُونَ هَذَا أَبُو بكر

فَنَقُول الأتقى قد يكون نوعا فَتدخل فِيهِ جمَاعَة

وَقد يكون شخصا معينا فإمَّا أَن يكون أَبَا بكر أَو عليا فَلَا يَصح أَن يكون عليا لِأَنَّهُ قَالَ (الَّذِي يُؤْتى مَاله يتزكى وَمَا لأحد عِنْده من نعْمَة تجزى) وَهَذَا وصف مُنْتَفٍ عَن عَليّ لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة وَعلي كَانَ بِمَكَّة فَقِيرا فِي عِيَال النَّبِي صلى الله عليه وسلم ضمه إِلَيْهِ لما أَصَابَت أهل مَكَّة سنة فَكَانَت للنَّبِي صلى الله عليه وسلم عِنْده نعْمَة تجزى دنيوية ونعمة الدّين لَا تجزى بل أجرهَا على الله وَحده فالوصف ثَابت للصديق دون عَليّ

وَعلي أتقى من غَيره لَكِن أَبُو بكر أكمل فِي الْوَصْف هُنَا مِنْهُ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا نَفَعَنِي مَال مَا نَفَعَنِي مَال أبي بكر وَقَالَ إِن أَمن النَّاس علينا فِي صحبته وَذَات يَده أَبُو بكر وَاشْترى أَبُو بكر سَبْعَة من الْمُعَذَّبين فِي الله ابْتِغَاء وَجه الله

فَإِن قُلْنَا الأتقى اسْم جنس فَأَبُو بكر أول دَاخل فِيهِ وسَادَة الصَّحَابَة وتابعوهم

قَالَ التَّاسِع مَا رَوَاهُ الْجُمْهُور من أَنه أَمر الصَّحَابَة بِأَن يسلمُوا على عَليّ وَقَالَ إِنَّه سيد الْمُسلمين وَإِمَام الْمُتَّقِينَ وقائد الغر المحجلين

وَقَالَ هَذَا أولى بِكُل مُؤمن من بعدِي

فَيكون هُوَ الإِمَام

وَالْجَوَاب الْمُطَالبَة بِإِسْنَاد هَذَا وَبَيَان صِحَّته فَمَا هُوَ فِي كتاب صَحِيح وَلَا فِي مُسْند مُعْتَبر بل رَوَاهُ آحَاد النَّاس بِإِسْنَادِهِ فِيهِ مُتَّهم بِالْكَذِبِ ومهو مَوْضُوع عِنْد من لَهُ أدنى معرفَة بِالْحَدِيثِ وَلَا تحل نسبته إِلَى الرَّسُول الْمَعْصُوم

وَلَا نعلم أحدا هُوَ سيد الْمُسلمين وَإِمَام الْمُتَّقِينَ وقائد الغر المحجلين غير نَبينَا صلى الله عليه وسلم وَاللَّفْظ مُطلق مَا قَالَ فِيهِ من بعدِي وَلَا فِي اللَّفْظ مَا يدل على ذَلِك وَلِأَن خير الْمُسلمين والمتقين والمحجلين هم الْقرن الأول وَالرَّسُول قائدهم بل وقائد من بعدهمْ فِي الْقِيَامَة فَلِمَنْ يَقُود عَليّ وعندكم جُمْهُور الْأمة المحجلين كفار وفساق فَكيف يقودهم وَقَالَ صلى الله عليه وسلم يأْتونَ غرا محجلين يَوْم الْقِيَامَة من آثَار الْوضُوء وَأَنا فَرَطكُمْ

ص: 473

على الْحَوْض فَهَذَا يبين أَن كل من تَوَضَّأ وَغسل وَجهه وَيَديه وَرجلَيْهِ فَإِنَّهُ من المحجلين وَهَؤُلَاء جَمَاهِير أمة مُحَمَّد سواكم فَإِنَّكُم لَا تغسلون الأرجل فَلَا تَكُونُونَ من المحجلين فِي الأرجل فَلَا يقودكم الرَّسُول وَلَا عَليّ وَإِنَّمَا الحجلة فِي الرجل كهي فِي الْيَد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ويل لِلْأَعْقَابِ وبطون الْأَقْدَام من النَّار وَمَعْلُوم أَن الْفرس لَو لم يكن لَهُ لمْعَة فِي يَده أَو فِي رجله لم يكن محجلا فَمن لم يغسل إِلَى الْكَعْبَيْنِ لم يكن من المحجلين

وَمِمَّا يُوضح أَن الحَدِيث كذب مَا ثَبت من أَن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم كَانَ يفضل على عَليّ أَبَا بكر وَعمر تَفْضِيلًا ظَاهرا عرفه الْخَاص وَالْعَام حَتَّى الْمُشْركُونَ

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ وضع عمر على سَرِيره فتكنفه النَّاس يدعونَ لَهُ ويثنون عَلَيْهِ وَيصلونَ عَلَيْهِ قبل أَن يرفع وَأَنا فيهم فَلم يرعني إِلَّا بِرَجُل قد أَخذ بمنكبي من ورائي فَالْتَفت فَإِذا هُوَ عَليّ فترحم على عمر وَقَالَ مَا خلفت أحدا أحب إِلَيّ أَن ألْقى الله بِمثل عمله مِنْك وأيم الله إِن كنت لأَظُن أَن يجعلك الله مَعَ صاحبيك وَذَلِكَ أَنِّي كثيرا مَا كنت أسمع النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول جِئْت أَنا وَأَبُو بكر وَعمر وَدخلت أَنا وَأَبُو بكر وَعمر وَخرجت أَنا وَأَبُو بكر وَعمر

فَإِن كنت لأرجو أَن يجعلك الله مَعَهُمَا فَلم يكن تفضيلهما عَلَيْهِ وعَلى أَمْثَاله مِمَّا يخفى على أحد وَلِهَذَا كَانَت الشِّيعَة الأول مَعَ فرط حبهم لعَلي يقدمُونَ أَبَا بكر وَعمر عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يفضلونه على عُثْمَان كَمَا قَالَ عبد الرَّزَّاق كفى بِي أزرا أَن أحبه وأخالف قَوْله خير هَذِه الْأمة بعد نبيها أَبُو بكر وَعمر وَلَو شِئْت أَن أسمي الثَّالِث لَسَمَّيْته

وَلما كَانَ يَوْم أحد وَاسْتظْهر أَبُو سُفْيَان أَمِير الْمُشْركين قَالَ أَفِي الْقَوْم مُحَمَّد أَفِي الْقَوْم مُحَمَّد فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا تجيبوه

فَقَالَ أَفِي الْقَوْم ابْن أبي قُحَافَة فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَا تجيبوه

فَقَالَ أَفِي الْقَوْم ابْن الْخطاب فَقَالَ لَا تجيبوه فَقَالَ أَبُو سُفْيَان لأَصْحَابه أما هَؤُلَاءِ فقد كفيتموهم فَلم يملك عمر نَفسه أَن قَالَ كذبت يَا عَدو الله إِن الَّذين عددت لأحياء وَقد بَقِي لَك مَا يسؤوك الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ

فَهَذَا رَأس الْعَدو لَا يسْأَل إِلَّا عَن هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة فَدلَّ على عظمهم عِنْد الْمُشْركين بِخِلَاف

ص: 474

غَيرهم

وَكَذَلِكَ قَوْله هُوَ ولي كل مُؤمن بعدِي كذب على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بل هُوَ فِي حَيَاته وَبعد مماته ولي كل مُؤمن وكل مُؤمن وليه فِي الْمحيا وَالْمَمَات

فالولاية الَّتِي هِيَ ضد الْعَدَاوَة لَا تخْتَص بِزَمَان فَأَما الْولَايَة الَّتِي هِيَ الْإِمَارَة فَإِنَّمَا يُقَال فِيهَا وَإِلَى كل مُؤمن

وَأما قَوْله لعَلي أَنْت مني وَأَنا مِنْك فَصَحِيح وَفِي الحَدِيث قَالَ لزيد أَنْت أخونا ومولانا وَقَالَ لجَعْفَر بن أبي طَالب أشبهت خلقي وَخلقِي وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ إِن الْأَشْعَرِيين إِذا أرملوا فِي الْغَزْو وجمعوا مَا عِنْدهم فِي ثوب ثمَّ قسموه بِالسَّوِيَّةِ هم مني وَأَنا مِنْهُم فَعلمنَا أَن هَذَا اللَّفْظ مدح وَلَا يدل على الْإِمَامَة

وَقَالَ فِي جليبيب هَذَا مني وَأَنا مِنْهُ

قَالَ الْعَاشِر مَا رَوَاهُ الْجُمْهُور من قَوْله صلى الله عليه وسلم إِنِّي تَارِك فِيكُم مَا إِن تمسكتم بِهِ لن تضلوا كتاب الله وعترتي وَلنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يردا على الْحَوْض

وَقَالَ أهل بَيْتِي فِيكُم كسفينة نوح من ركبهَا نجا وَمن تخلف عَنْهَا غرق

وَسيد أهل بَيته عَليّ فَيكون وَاجِب الطَّاعَة على الْكل فَيكون الإِمَام

قُلْنَا إِنَّمَا لفظ الحَدِيث فِي مُسلم عَن زيد بن أَرقم قَالَ قَامَ فِينَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا بخم فَقَالَ إِنِّي تَارِك فِيكُم مَا إِن تمسكتم بِهِ لن تضلوا كتاب الله

وَأما قَوْله وعترتي فَهَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ تفرد بِهِ زيد بن الْحسن الْأنمَاطِي عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن جَابر

والأنماطي قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِم مُنكر الحَدِيث

وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن فُضَيْل حَدثنَا الْأَعْمَش عَن حبيب بن أبي ثَابت عَن زيد بن أَرقم عَن عَطِيَّة عَن أبي سعيد قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِنِّي تَارِك فِيكُم مَا إِن تمسكتم بِهِ لن تضلوا بعدِي أَحدهمَا أعظم من الآخر كتاب الله حَبل مَمْدُود من السَّمَاء إِلَى الأَرْض وعترتي أهل بَيْتِي وَلنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يردا عَليّ الْحَوْض

ص: 475

فانظروا كَيفَ تخلفوني فيهمَا

حسنه التِّرْمِذِيّ

وَأما حَدِيث سفينة نوح فَغير صَحِيح وَلَا هُوَ فِي شَيْء من الْكتب الْمُعْتَمدَة

وَقَوله صلى الله عليه وسلم لن يَتَفَرَّقَا يدل على أَن إِجْمَاع العترة حجَّة وَهُوَ قَول طَائِفَة من أَصْحَابنَا

وَذكر القَاضِي فِي الْمُعْتَمد والعترة هم بَنو هَاشم كلهم ولد عَليّ وَولد الْعَبَّاس وَولد الْحَارِث بن عبد الْمطلب

وَسيد العترة هُوَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَكَانَ ابْن عَبَّاس أفقه العترة وَكَانَ يُخَالف عليا فِي مسَائِل وَعلي مَا كَانَ يُوجب على أحد طَاعَته فِيمَا يُفْتِي بِهِ

ثمَّ العترة مَا اجْتَمعُوا على إِمَامَته وَلَا عَليّ أفضليته بل ابْن عَبَّاس بل هُوَ نَفسه يَقُولَانِ إِن أفضل الْأمة أَبُو بكر وَعمر وَإِن خِلَافَتهمَا حق

وَكَذَلِكَ سَائِر العباسيين وَأكْثر العلويين وَالْحسن وَالْحُسَيْن وَعلي بن الْحُسَيْن وَابْنه وحفيده جَعْفَر الصَّادِق والنقول بذلك متواترة عَنْهُم وَقد صنف الدَّارَقُطْنِيّ كتاب ثَنَاء الصَّحَابَة على الْقَرَابَة وثناء الْقَرَابَة على الصَّحَابَة

ثمَّ إِجْمَاع الْأمة والعترة بَعضهم حجَّة بِلَا نزاع وأفضلهم أَبُو بكر فَإِن كَانَت الطَّائِفَة الَّتِي إجماعها حجَّة يجب أَتبَاع أفضلهَا مُطلقًا فَهُوَ أَبُو بكر وَإِن لم يكن بَطل مَا ذكرْتُمْ فِي إِمَامَة عَليّ رضي الله عنه

قَالَ الْحَادِي عشر مَا رَوَاهُ الْجُمْهُور من وجوب محبته وموالاته روى أَحْمد فِي مُسْنده أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَخذ بيد حسن وحسين فَقَالَ من أَحبَّنِي وَأحب هذَيْن وَأحب أباهما وأمهما فَهُوَ معي فِي درجتي يَوْم الْقِيَامَة قُلْنَا مُجَرّد رِوَايَة أَحْمد لَهُ لَا توجب صِحَّته مَعَ أَنه مَا رَوَاهُ أبدا وَإِنَّمَا زَاده الْقطيعِي فِي كتاب الْفَضَائِل وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي الموضوعات من رِوَايَة عَليّ بن جَعْفَر عَن مُوسَى بن جَعْفَر وَله يَقُول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم هَذِه المجازفة أصلا من كَون الْمُسلم الخطاء يصير فِي دَرَجَة الْمُصْطَفى بِمُجَرَّد الْحبّ

قَالَ وروى ابْن خالويه عَن حُذَيْفَة قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من أحب أَن يتَمَسَّك بقضيب الْيَاقُوت الَّذِي خلقه الله بِيَدِهِ ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَكَانَ فليتول عليا من

ص: 476

بعدِي

فَهَذَا من كذب الطرقية فَمَا أرك لَفظه مَعَ عدم فَائِدَته فَكيف يُقَال خلقه بِيَدِهِ ثمَّ قَالَ لَهُ كن فَكَانَ بل قد جَاءَ فِي الْأَثر أَن الله لم يخلق بِيَدِهِ إِلَّا آدم والقلم وجنة عدن ثمَّ قَالَ لسَائِر الْخلق كن فَكَانَ

قَالَ وَعَن أبي سعيد مَرْفُوعا أَنه قَالَ لعَلي حبك إِيمَان وبغضك نفاق وَأول من يدْخل الْجنَّة محبك وَأول من يدْخل النَّار مبغضك

قُلْنَا وَهَذَا من المكذوبات فَهَل يَقُول مُسلم إِن الْخَوَارِج والنواصب يدْخلُونَ النَّار قبل فِرْعَوْن وَأبي جهل ورءوس الْكفْر أم يَقُول مُسلم إِن أول من يدْخل الْجنَّة قبل الْأَنْبِيَاء غلاة الإسماعيلية وكذبة الرافضة وفسقه الإمامية وَهَذَا من جنس قَول الناصبي أَن لَو قَالَ من أحب يزِيد وَالْحجاج أَو قَول الْخَارِجِي من أحب ابْن ملجم دخل الْجنَّة وَمن أبْغضهُم دخل النَّار بِهَذَا الْحبّ والبغض

قَالَ وروى أَخطب خوارزم بِإِسْنَادِهِ عَن أبي ذَر قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من ناصب عليا الْخلَافَة فَهُوَ كَافِر وَقد حَارب الله وَرَسُوله

وَعَن أنس قَالَ كنت عِنْد النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَرَأى عليا مُقبلا فَقَالَ أَنا وَهَذَا حجَّة الله على أمتِي يَوْم الْقِيَامَة

وَعَن مُعَاوِيَة بن حيدة الْقشيرِي قَالَ سَمِعت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول لعَلي لَا تبال من مَاتَ ببغضك أَن يَمُوت يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا

فَإِذا رَأينَا الْمُخَالف يُورد مثل هَذِه الْأَحَادِيث ونقلنا نَحن أضعافها عَن رجالنا الثِّقَات وَجب علينا الْمصير إِلَيْهَا وَحرم الْعُدُول عَنْهَا وَالْجَوَاب أَنا نَتَنَزَّل وبطالب بِصِحَّة النَّقْل فَإِن مُجَرّد رِوَايَة الْمُوفق خطيب خوارزم لَا تدل على الثُّبُوت كَيفَ وَقد حَشا تأليفه بالموضوعات الَّتِي يتعجب مِنْهَا الْمُحدث الصادث وَيَقُول سُبْحَانَكَ هَذَا بهتان عَظِيم

وَمن كَانَ خَبِيرا بِمَا جرى وَمهر فِي الْآثَار علم باضطرار أَن هَذَا وَأَمْثَاله مِمَّا وَلَده الكذابون بعد إنقراض عصر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ

وَتقول علمنَا بالتواتر أَن الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار كَانُوا يحبونَ الله وَرَسُوله وَأَن الرَّسُول كَانَ يُحِبهُمْ ويتولاهم أعظم

ص: 477

من علمنَا بِهَذِهِ الْأَخْبَار الملفقة وَأَن الإِمَام بعده أَبُو بكر بإتفاق من أُولَئِكَ السَّادة فَكيف يجوز رد مَا علمناه يَقِينا بأخبار لَا نعلم صدقهَا كَيفَ وَقد علمنَا أَنَّهَا كذب وَأَنَّهَا لَا تُوجد فِي كتاب مُعْتَمد بِإِسْنَاد مقارب

ثمَّ هَذَا كتاب الله يشْهد فِي غير مَوضِع بِأَن الله رَضِي عَن الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان وَرَضوا عَنهُ وَبِأَنَّهُ رَضِي (عَن الْمُؤمنِينَ إِذْ يُبَايعُونَك تَحت الشَّجَرَة) وَقَالَ تَعَالَى (للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا) الْآيَة وَقَالَ (لقد تَابَ الله على النَّبِي والمهاجرين وَالْأَنْصَار) وأمثال ذَلِك فَكيف يجوز رد هَذِه النُّصُوص بأخبارك المفتراة ثمَّ مِنْهَا مَا يقْدَح بعلي وَيُوجب أَنه مكذب بِاللَّه وَرَسُوله

أما الَّذين ناصبوه الْخلَافَة إِذا قلت هم كفار فَمَا عمل هُوَ بِمُوجب النَّص بل كَانَ يجعلهم هُوَ مُسلمين

وَشر من قَاتلهم الْخَوَارِج وَمَعَ هَذَا فَمَا حكم فيهم بِحكم الْكفَّار بل حرم أَمْوَالهم وَسَبْيهمْ

وَلما قَتله ابْن ملجم قَالَ إِن عِشْت فَأَنا ولي الدَّم

وَلم يقْتله

وَلَو كَانَ ارْتَدَّ لبادر إِلَى قَتله

وتواتر عَنهُ أَنه نهى عَن اتِّبَاع مُدبر أهل الْجمل أَو أَن يُجهز على جريحهم أَو تغنم أَمْوَالهم فَإِن كَانُوا كفَّارًا بأحاديثك هَذِه فعلي أول من كذب بهَا وَلم يعْمل بمقتضاها

وَكَذَلِكَ أهل صفّين كَانَ

ص: 478

يُصَلِّي على قتلاهم وَيَقُول فِيمَا بلغنَا عَنهُ

إِخْوَاننَا بغوا علينا طهرهم السَّيْف

ونعلم بالإضطرار أَن علينا مَا كفر الَّذين قَاتلُوهُ

وَكَذَا لَو كَانُوا كفَّارًا عِنْد السَّيِّد الْحسن لما حل لَهُ أَن يسلم إِلَيْهِم الْخلَافَة طَوْعًا مِنْهُ فِي عزه ومنعته وَكَثْرَة جَيْشه وَلَكِن بِأَن سؤدده بقول جده فِيهِ إِن ابْني هَذَا سيد وسيصلح الله بِهِ بَين قبيلتين عظيمتين من الْمُسلمين أخرجه البُخَارِيّ

وعندك أَنه إِنَّمَا أصلح الله بِهِ بَين الْمُؤمنِينَ والمرتدين ثمَّ إِنَّكُم تدعون أَن الإِمَام الْمَعْصُوم لطف من الله لِعِبَادِهِ فعلي مَا زعمت إِنَّمَا كَانَ نقمة لَا لطفا وَرَحْمَة فَإِن الَّذين خالفوه صَارُوا مرتدين وَالَّذين وافقوه مقهورين منافقين أذلاء فَأَي مصلحَة فِي ذَلِك وَأَنْتُم تَقولُونَ أَن الله يجب عَلَيْهِ أَن يفعل الْأَصْلَح للعباد وَهُوَ تَعَالَى يُمكن الْخَوَارِج حَتَّى كفروه وقاتلوه وَيجْعَل الْأَئِمَّة المعصومين تَحت الْقَهْر وَالْخَوْف والتقية بِمَنْزِلَة أهل الذِّمَّة بل أهل الذِّمَّة يظهرون دينهم فِي الْجُمْلَة فَأَيْنَ اللطف والمصلحة الَّتِي أوجبتها على الله تَعَالَى ثمَّ تزْعم أَنهم حجج الله على عباده وَأَن لَا هدى إِلَّا مِنْهُم وَلَا نجاة إِلَّا بمتابعتهم وخاتمهم قد غَابَ من دهور لم ينْتَفع بِهِ أحد فِي دينه وَلَا دُنْيَاهُ فصح أَن الرَّفْض مَا وَضعه إِلَّا زنديق وَلِهَذَا فَإِن صَاحب دَعْوَة الباطنية أول مَا يَدْعُو المستجيب إِلَى التَّشَيُّع فَإِذا طمع فِيهِ قَالَ عَليّ مثل غَيره فَدَعَاهُ إِلَى الْقدح فِيهِ فَإِذا استوثق مِنْهُ دَعَاهُ إِلَى الْقدح فِي الرَّسُول إِلَى إِنْكَار الصَّانِع

وكل عَاقل يعلم أَن أهل الدّين وَالْجُمْهُور لَيْسَ لَهُم غَرَض وَالله لَا مَعَ عَليّ وَلَا مَعَ غَيره وَلَا غرضهم تَكْذِيب نَبِيّهم وَلَا رد مَا أَمر بِهِ وَلَو علمُوا أَن الرَّسُول نَص لَهُم على عَليّ لكانوا أسبق شَيْء إِلَى أمره وَإِلَى التَّصْدِيق بِهِ

غَايَة مَا يقدر أَنه خَفِي عَلَيْهِم هَذَا الحكم فَكيف يكون من خَفِي عَلَيْهِ جُزْء من الدّين مثل الْيَهُود وَالنَّصَارَى بل يَكْفِي من وضع مَا جِئْت بِهِ قَول الْمُصْطَفى صلى الله عليه وسلم من كذب عَليّ مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار

نعم وَمن كتم مَا نَص عَلَيْهِ الرَّسُول مراغمة لله وَرَسُوله فَهُوَ من أَصْحَاب النَّار

ص: 479

وقولك ونقلنا أضعافها عَن رجالنا الثِّقَات فَنَقُول نَحن ننقد رجالنا من أهل السّنة والْحَدِيث نَقْدا لَا مزِيد عَلَيْهِ وَلنَا مصنفات كَثِيرَة جدا فِي تعديلهم وضعفهم وَصدقهمْ وغلطهم وكذبهم ووهمهم لَا نحابيهم أصلا مَعَ صَلَاحهمْ وعبادتهم ونسقط الإحتجاج بِالرجلِ مِنْهُم لِكَثْرَة غلظه وَسُوء حفظه وَلَو كَانَ من أَوْلِيَاء الله

وَأَنْتُم حد الثِّقَة عنْدكُمْ أَن يكون إماميا سَوَاء غلط أَو حفظ أَو كذب أَو صدق

فغاية رجالكم أَن يَكُونُوا مثل رجالنا فيهم وَفِيهِمْ فَإِذا كَانَ من الْمَعْلُوم بالإضطرار أَن أهل السّنة فيهم كذابون وَأَنْتُم أكذب مِنْهُم بِكُل حَال حرم علينا الْعَمَل بالأحاديث حَتَّى نَنْظُر فِي أسانيدها

فَمن أَيْن لَك يَا مغتر أَن توثق من لَا تعرفه وَلَا تعرف أَن تتهجى اسْمه بل وَلَا ذكر فِي الثِّقَات

وغالب مَا فِي أَيْدِيكُم صحف وأخبار على أَلْسِنَتكُم مكذوبة أَو لم تعلم صِحَّتهَا كدأب أهل الْكِتَابَيْنِ سَوَاء

وَكذب الرافضة مِمَّا يضْرب بِهِ الْمثل

وَنحن نعلم أَن الْخَوَارِج شَرّ مِنْكُم وَمن هَذَا فَمَا نقدر أَن نرميهم بِالْكَذِبِ لأننا جربناهم فوجدناهم يتحرون الصدْق لَهُم وَعَلَيْهِم وَأَنْتُم فالصادق فِيكُم شامة قَالَ ابْن الْمُبَارك الدّين لأهل الحَدِيث وَالْكَلَام والحيل لأهل الرَّأْي وَالْكذب للرافضة

فَأهل السّنة والْحَدِيث لَا يرضون بِالْكَذِبِ وَلَو وَافق أهواءهم فكم قد رُوِيَ لَهُم من فَضَائِل أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان بل وَمُعَاوِيَة وَغَيرهم أَحَادِيث بِالْأَسَانِيدِ يَرْوِيهَا مثل النقاش والقطيعي والثعلبي والأهوازي وَأبي نعيم والخطيب وَابْن عَسَاكِر وأضعافهم وَلم يقبل مِنْهَا عُلَمَاء الحَدِيث شَيْئا ويبينون الْكَذِب مِنْهُ بل إِذا كَانَ فِي إِسْنَاد الحَدِيث وَاحِد مَجْهُول الْحَال توقفوا فِي الحَدِيث

وَأَنْتُم شَرط الحَدِيث عنْدكُمْ أَن يُوَافق أهواءكم غثا كَانَ أَو سمينا وَإِن أتيتم بِنَصّ ثَابت فَلَا يدل على مَا قُلْتُمْ

وَنحن عمدتنا نُصُوص الْقُرْآن وَمَا يثبت من السّنة أَو أجمع عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ سواكم فَإِذا جَاءَنَا مَا يُنَاقض ذَلِك رددناه

قَالَ أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ فَضَائِل عَليّ الصَّحِيحَة كَثِيرَة غير أَن الرافضة لَا تقنع فَوضعت لَهُ مَا يضع لَا مَا يرفع وحوشيت حَاشِيَته من الإحتياج إِلَى الْبَاطِل

وَأَنت أَيهَا الرافضي لم تورد كل مَا قيل وَنحن نَعْرِف أَحَادِيث عَدو سَاقِطَة أدل على مقصودك

فَمن أماثل الموضوعات مَا رَوَاهُ

ص: 480

النَّسَائِيّ فِي كتاب خَصَائِص عَليّ من حَدِيث الْعَلَاء بن صَالح عَن الْمنْهَال بن عَمْرو عَن عباد ابْن عبد الله الْأَسدي قَالَ قَالَ عَليّ انا عبد الله وأخو رَسُوله وانا الصّديق الْأَكْبَر لَا يَقُولهَا بعدِي إِلَّا كَاذِب

صليت قبل النَّاس سبع سِنِين

وَرَوَاهُ أَحْمد فِي الْفَضَائِل وَفِي رِوَايَة لَهُ وَلَقَد أسلمت قبل النَّاس بِسبع سِنِين

قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ هَذَا مَوْضُوع وَالْمُتَّهَم بِهِ عباد قَالَ ابْن الْمَدِينِيّ وَكَانَ ضَعِيف الحَدِيث

والمنهال تَركه شُعْبَة

وَقَالَ الْأَثْرَم سَأَلت أَبَا عبد الله عَن هَذَا الحَدِيث فَقَالَ اضْرِب عَلَيْهِ فَإِنَّهُ حَدِيث مُنكر

ثمَّ نقُول عَليّ كَانَ أبر وأصدق من أَن يَقُول هَذَا فالناقل إِمَّا متعمد الْكَذِب اَوْ أَخطَأ سَمعه

وَنَظِير هَذَا مَا رَوَاهُ عبد الله فِي المناقب حَدثنَا يحيى بن عبد الحميد حَدثنَا شريك عَن الْأَعْمَش عَن الْمنْهَال بن عَمْرو عَن عباد بن عبد الله

وَأخْبرنَا أَبُو خَيْثَمَة حَدثنَا أسود بن عَامر حَدثنَا شريك عَن الْأَعْمَش عَن الْمنْهَال عَن عباد عَن عَليّ قَالَ لما نزلت (فَأَنْذر عشيرتك الْأَقْرَبين) دَعَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رجَالًا من أهل بَيته إِن كَانَ الرجل لآكلا جَذَعَة ولشاربا فرقا إِلَخ وَهَذَا كذب على عَليّ لم يروه قطّ وَكذبه ظَاهر من وُجُوه

وَقد رَوَاهُ أَحْمد فِي الْفَضَائِل حَدثنَا عَفَّان حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن عُثْمَان بن الْمُغيرَة عَن أبي صَادِق عَن ربيعَة بن ناجد عَن عَليّ

وسَاق ابْن الْجَوْزِيّ من طَرِيق أجلح عَن سَلمَة بن كهيل عَن حَبَّة بن جُوَيْن سمع عليا يَقُول أَنا عبدت الله مَعَ رَسُوله قبل أَن يعبده رجل من هَذِه الْأمة خمس سِنِين أَو سبع سِنِين

قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وحبة لَا يُسَاوِي حَبَّة قَالَ يحيى لَيْسَ بِشَيْء وَقَالَ السَّعْدِيّ غير ثِقَة وَأما الْأَجْلَح فَقَالَ أَحْمد وَقد روى غير حَدِيث مُنكر

قَالَ أَبُو الْفرج وَمِمَّا يبطل هَذِه

ص: 481

الْأَحَادِيث انه لَا خلاف فِي تقدم إِسْلَام خَدِيجَة وَأبي بكر وَزيد وَأَن عمر أسلم فِي سنة سِتّ من النُّبُوَّة بعد أَرْبَعِينَ رجلا فَكيف يَصح أَن عليا صلى قبل بِسبع سِنِين

ثمَّ ذكر حَدِيثا مَرْفُوعا أَن عليا الصّديق الْأَكْبَر وَهُوَ من كذب أَحْمد بن نصر الذِّرَاع

وحديثا يَقُول فِيهِ أَنا أقومهم بِأَمْر الله وأقسمهم بِالسَّوِيَّةِ

قَالَ وَهُوَ مَوْضُوع الْمُتَّهم بِهِ بشر بن إِبْرَاهِيم رَمَاه بِالْوَضْعِ ابْن عدي وَابْن حبَان

وحديثا يَقُول فِيهِ أَنْت أول من يصافحنى يَوْم الْقِيَامَة وَأَنت الصّديق الْأَكْبَر وَأَنت الْفَارُوق وَأَنت يعسوب الْمُؤمنِينَ وَقَالَ هَذَا مَوْضُوع وَفِيه عباد بن يَعْقُوب وَعلي بن هَاشم وَغَيرهمَا مِمَّن تكلم فِيهِ

وَفِي طَرِيقه الآخر عبد الله بن داهر قَالَ ابْن معِين لَا يكْتب عَنهُ

فصل وَهنا طَرِيق يكن سلوكها لمن لَهُ معرفَة بالأخبار فَإِن كثيرا من الْعلمَاء يتَعَذَّر عَلَيْهِم التَّمْيِيز بَين الصدْق وَالْكذب وَمن جِهَة الْإِسْنَاد وَإِنَّمَا ينْهض بذلك جهابذة الْحفاظ

نقدر أَن الْأَخْبَار الْمُتَنَازع فِيهَا لم تكن فنرجع إِلَى مَا هُوَ مَعْلُوم بالتواتر أَو بِالْعقلِ والعادات أَو مَا دلّت عَلَيْهِ النُّصُوص الْمُتَّفق عَلَيْهَا فَنَقُول من الْمُتَوَاتر أَن أَبَا بكر لم يطْلب الْخلَافَة برغبة وَلَا برهبة فَلَا بذل فِيهَا مَالا وَلَا شهر عَلَيْهَا سَيْفا وَلَا كَانَت لَهُ عشيرة ضخمة وَلَا عدد من الموالى تقوم بنصره كَمَا جرت عَادَة طلاب الْملك بل وَلَا قَالَ

ص: 482

بايعوني وَإِنَّمَا أَشَارَ ببيعة عمر أَو بيعَة أبي عُبَيْدَة ثمَّ من تخلف عَن مبايعته لم يؤذه وَلَا أكرهه عَلَيْهَا كسعد بن عبَادَة

ثمَّ الَّذين طائعين بَايعُوهُ هم الَّذين بَايعُوا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم تَحت الشَّجَرَة الَّذين رضي الله عنهم فقاتل بهم الْمُرْتَدين وَفَارِس وَالروم وَثَبت الْإِسْلَام وَأَهله وَلَا أكل مِنْهَا وَلَا لبس إِلَّا كعادته وعيشه

فَلَمَّا جَاءَهُ الْيَقِين خرج مِنْهَا أزهد مِمَّا دخل فِيهَا لم يستأثر مِنْهَا بِشَيْء عَنْهُم وَلَا آثر بهَا قرَابَة بل نظر إِلَى أفضلهم فِي نَفسه فولاه عَلَيْهِم فأطاعوه كلهم فَفتح الْأَمْصَار وقهر الْكفَّار وأذل أهل النِّفَاق وَبسط الْعدْل وَوضع الدِّيوَان وَالعطَاء لَازِما لعيش من قبله فِي مأكله ومشربه وملبسه حَتَّى خرج مِنْهَا شَهِيدا لم يتلوث لَهُم بِمَال وَلَا ولي أحدا من أَقَاربه ولَايَة

هَذَا أَمر يعرفهُ من يعرف وينصف

ثمَّ بَايعُوا عُثْمَان كلهم طَوْعًا مِنْهُم فَسَار وَبني على أَمر قد اسْتَقر قلبه بسكينة وحلم وَهدى وَرَحْمَة وكرم ولين لَكِن لم تكن فِيهِ قُوَّة عمر وَلَا سياسته الَّتِي بهرت الْعُقُول وَلَا كَمَال عدله الَّذِي مَلأ الْوُجُود وَلَا فرط زهده الَّذِي مَا يُنكره إِلَّا جَاهِل فطمع فِيهِ النَّاس بعض الطمع وتوسعوا فِي الدُّنْيَا وَكَثُرت عَلَيْهِم الْأَمْوَال وَدخل بِسَبَب تَوليته أَقَاربه عَلَيْهِ الدَّاخِل وَأنْكرت مِنْهُم أُمُور مَا اعتادها النَّاس قبله وتولد من رَغْبَة بعض النَّاس فِي الدُّنْيَا وَضعف خوفهم من الله تَعَالَى وَمِنْه وَمن ضعفه هُوَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَمَال الَّذين قبله وَمِمَّا حصل من أَقَاربه فِي الْولَايَة وَالْمَال مَا استحكم بِهِ الشَّرّ وحرك الْفِتْنَة حَتَّى قتل مَظْلُوما وذبحوه صبرا

فَتَوَلّى عَليّ رضي الله عنه والفتنة قَائِمَة وأتهم بالتخلي عَن عُثْمَان حَتَّى قتل وَبَعْضهمْ اتهمه بدمه وَالله يعلم بَرَاءَته من دَمه

ص: 483

ثَبت عَنهُ أَنه لم يرض بقتْله وَلَا أعَان عَلَيْهِ

فَلم تصف قُلُوب كثير مِنْهُم وَلَا أمكنه هُوَ قهرهم حَتَّى يطيعوه وَلَا اقْتضى رَأْيه الْكَفّ عَن الْقِتَال حَتَّى ينظر مَا يأول إِلَيْهِ أمره كَمَا أَشَارَ عَلَيْهِ وَلَده الْحسن فَظن أَن الطَّاعَة تحصل وَالْأمة تَجْتَمِع بِالْقِتَالِ فَمَا زَاد الْأَمر إِلَّا شدَّة وافتراقا حَتَّى خرج عَلَيْهِ من جنده أُلُوف ومرقوا وكفروه وقاتلوه قَاتلهم الله حَتَّى كَانَ فِي آخر أمره يطْلب هُوَ أَن يكف عَن قتال من لم يطعه فَكَانَ آخر الْخُلَفَاء الرَّاشِدين الَّذين ولايتهم خلَافَة النُّبُوَّة

ثمَّ آل الْأَمر إِلَى مُعَاوِيَة أول الْمُلُوك كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم الْخلَافَة بعدِي ثَلَاثُونَ سنة ثمَّ تكون ملكا

وسيرة مُعَاوِيَة من أَجود سير الْمُلُوك بِالنِّسْبَةِ

فَإِذا جَاءَ القادح فَقَالَ فِي أبي بكر وَعمر كَانَا طَالِبين للرياسة مانعين للحقوق ظلما الْمَنْصُوص عَلَيْهِ ومنعا أهل الْبَيْت إرثهم أوشك أَن يَقُول قَادِح النواصب نَحوا من ذَلِك فِي عَليّ أَنه قَاتل على الرياسة وَسَفك الدِّمَاء وَلم ينل غَرَضه

فَإِذا كُنَّا ندفع من يقْدَح فِي عَليّ بِهَذِهِ الشُّبْهَة فَلِأَن ندفع من يقْدَح فِي أبي بكر وَعمر بطرِيق الأولى لِأَنَّهُمَا أبعد عَن التُّهْمَة إِذْ لم يقاتلا على الْإِمَارَة وأطاعهما عَليّ والكبار

وَإِذا كُنَّا نظن بعلي أَنه كَانَ قَاصِدا الْحق غير مُرِيد علوا وَلَا فَسَادًا فِي الأَرْض فَلِأَن نظن ذَلِك بهما بطرِيق الأولى

فدع عَنْك المكابرة والهوى

طَرِيق آخر وَهُوَ أَن يُقَال دواعي الْمُسلمين بعد موت نَبِيّهم كَانَت متوجهة إِلَى أَتبَاع الْحق قطعا وَلَيْسَ لَهُم مَا يصرفهم عَن الْحق وهم قادرون على ذَلِك

وَإِذا حصل الدَّاعِي إِلَى الْحق وانتفى الصَّارِف مَعَ الْقُدْرَة وَجب الْفِعْل فَعلم أَن المسملين خير الْقُرُون اتبعُوا الْحق فِيمَا فَعَلُوهُ لأَنهم خير الْأُمَم أكمل الله لَهُم الدّين وَأتم عَلَيْهِم النِّعْمَة

بَايعُوا أَبَا بكر تدينا لَا لرغبة وَلَا لرهبة فَلَو فعلوا بِمُوجب الطَّبْع لقدموا عليا أَو الْعَبَّاس لشرف بني هَاشم على بني تيم

وَلما قيل لأبي قُحَافَة وَكَانَ بِمَكَّة شَيخا كَبِيرا إِن ابْنك ولي الْخلَافَة قَالَ ورضيت بَنو أُميَّة وَبَنُو هَاشم وَبَنُو مَخْزُوم قَالُوا نعم

فَعجب وَقَالَ

ص: 484

ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء

لعلمه بِأَن بني تيم أَضْعَف الْقَبَائِل وَالْإِسْلَام إِنَّمَا يقدم بالتقوى لَا بِالنّسَبِ

طَرِيق آخر تَوَاتر أَن الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قَالَ خير هَذِه الْأمة قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ فَخير الْأُمَم بِلَا نزاع الْقرن الأول

وَمن تَأمل حَال الْمُسلمين فِي الْقرن الثَّانِي بِالنِّسْبَةِ إِلَى الأول علم تبَاين مَا بَينهمَا

فَإِن كَانَ الْقرن الأول قد جحد حق الإِمَام الْمَنْصُوص عَلَيْهِ وَمنعُوا آل نَبِيّهم ميراثهم وَبَايَعُوا فَاسِقًا ظَالِما وَمنعُوا عادلا عَالما عنادا ودفعا للحق فَهَؤُلَاءِ شَرّ الْخلق وَهَذِه الْأمة شَرّ أمة أخرجت للنَّاس

طَرِيق آخر عرف بالتواتر الَّذِي لَا يخفى أَن أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان كَانَ لَهُم بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم اخْتِصَاص عَظِيم وخلطة وصحبة ومصاهرة لَهُم وَمَا عرف عَنهُ أَنه كَانَ يذمهم وَلَا يمقتهم بل يثني عَلَيْهِم ويحبهم فإمَّا أَن يَكُونُوا على الإستقامة ظَاهرا وَبَاطنا مَعَه وَبعده أَولا فَالْأول هُوَ الْمَطْلُوب وَالثَّانِي إِمَّا أَنه علم وداهنهم أَو لم يعلم

وَأيهمَا قدر فَهُوَ من أعظم الْقدح فِي الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَإِن كَانُوا انحرفوا بعد الإستقامة فَهَذَا خذلان من الله لنَبيه فِي خَواص أمته فَمن قد أخبر بِمَا سَيكون أَيْن كَانَ عَن علم ذَلِك فَأَيْنَ الإحتياط للْأمة حَتَّى لَا يُولى هَؤُلَاءِ وَمن وعد أَن يظْهر دينه على الْأَدْيَان كَيفَ يكون أكَابِر خواصه مرتدة هَذَا من أعظم الْقدح فِي الرَّسُول والطعن فِيهِ ليقول الباطني والزنديق رجل سوء كَانَ لَهُ أَصْحَاب سوء وَلَو كَانَ صَالحا لكانوا مثله وَلِهَذَا قَالَ أهل الْعلم إِن الرَّفْض دسيسة الزندقة

ص: 485

وَطَرِيق آخر أَن يُقَال الْأَسْبَاب الْمُوجبَة لولاية عَليّ إِن كَانَ هُوَ الأولى قَوِيَّة والصوارف منتفية وَالْقُدْرَة مَوْجُودَة

وَمَعَ توفر الدَّوَاعِي وَالْقُدْرَة وَانْتِفَاء الصوارف يجب الْفِعْل

وَذَلِكَ أَن عليا هُوَ ابْن عَم نَبِيّهم وأفضلهم نسبا وَله السَّبق وَالْجهَاد والصهر مَعَ إنتفاء عداوتهم لَهُ وَلم يقتل أحدا من بني تيم وَلَا من بني عدي بل الَّذِي قتل مِنْهُم بَنو عبد منَاف وَكَانُوا يوالونه ويختارون ولَايَته لقربهم مِنْهُ وَكَلمه فِي ذَلِك أَبُو سُفْيَان فَلَو كَانَ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم نَص على ولَايَته أَو كَانَ هُوَ الْأَفْضَل الأولى كَانَ ذَلِك مُوجبا لإنبعاث إرادتهم إِلَى ولَايَته وَالْحَالة هَذِه

وَلَو قدر أَن الصَّارِف كَانَ فِي نفر قَلِيل فغالبهم لم يكن لَهُم صَارف يصرفهم عَنهُ بل هم قادرون على ولَايَته

وَلَو قَالَت الْأَنْصَار عَليّ أَحَق بهَا من سعد وَمن أبي بكر مَا أمكن أُولَئِكَ النَّفر من الْمُهَاجِرين أَن يدافعوهم ولقام أَكثر النَّاس مَعَ عَليّ بل جُمْهُور الَّذين فِي قُلُوبهم مرض يبغضون عمر لِشِدَّتِهِ عَلَيْهِم فَالْقِيَاس أَن لَا ينقادوا لبيعته وَبعد هَذَا فَلَمَّا اسْتَخْلَفَهُ أَبُو بكر أطاعوه

ص: 486

كلهم حَتَّى إِن طَلْحَة قَالَ لأبي بكر مَاذَا تَقول لِرَبِّك وَقد وليت علينا فظا غليظا فَقَالَ أجلسوني أبالله تخوفوني أَقُول وليت عَلَيْهِم خَيرهمْ

فَإِذا فَرضنَا أَن غَالب الْمُسلمين قَامُوا مَعَ عَليّ فَمن الَّذِي يغلبه هَب أَنهم لَو قَامُوا وَلم يغلبوا أما كَانَت الدَّوَاعِي الْمَعْرُوفَة فِي مثل ذَلِك توجب الْقيام أَو أَن يجْرِي فِي ذَلِك قيل وَقَالَ وَنَوع جِدَال اما ذَلِك أولى بالْكلَام مِنْهُ فِي تَوْلِيَة سعد وَإِذا كَانَ الْأَنْصَار بِشُبْهَة مَا طمعوا أَن يتأمر سعد فَمن يكون مَعَه الْحق وَفِيه النَّص من الرَّسُول كَيفَ لَا يكون أعوانه أطمع فِي تأميره فَإِذا لم يتَكَلَّم أحد وَلم يدع دَاع إِلَى عَليّ لَا هُوَ وَلَا غَيره وَاسْتمرّ الْأَمر إِلَى أَن وصلت النّوبَة إِلَيْهِ فَقَامَ هُوَ أوأعوانه وَقَاتل وَلم يسكت حَتَّى جرى مَا جرى علم بالإضطرار أَن سكوتهم أَولا كَانَ لعدم الْمُقْتَضى لَا لوُجُود الْمَانِع

وَقد كَانَ أَبُو بكر أبعد من الممانعة بِكَثِير من مُعَاوِيَة لَو كَانَ لعَلي حق مَنْصُوص

وَلَو قَامَ أَبُو بكر وَهُوَ ظَالِم يدافع عليا وَهُوَ محق لَكَانَ الشَّرْع وَالْعقل يقْضِي أَن يكون النَّاس مَعَ المحق الْمَعْصُوم الْمَنْصُوص عَلَيْهِ على أبي بكر المعتدي الظلوم لَو كَانَ الْأَمر كَذَلِك

فاسلك التَّحْقِيق ودع بنيات الطَّرِيق فالسفسطة أَنْوَاع احدها النَّفْي والجحد والتكذيب إِمَّا بالوجود وَإِمَّا بِالْعلمِ بِهِ

وَالثَّانِي الشَّك والريب وَقَول لَا نَدْرِي فَهَذِهِ طَريقَة اللاأدرية فَلَا ينفون وَلَا يثبتون فهم فِي الْحَقِيقَة قد نفوا مَا يعلم

الثَّالِث قَول من يَجْعَل الْحَقَائِق تبعا للعقائد فَيَقُول من اعْتقد الْعَالم قَدِيما فَهُوَ قديم وَمن اعتقده مُحدثا فَهُوَ مُحدث

وَإِذا كَانَ كَذَلِك فالقدح فِيمَا علم من أَحْوَال الرَّسُول وخلفائه الرَّاشِدين وسيرتهم بأخبار ترْوِيهَا الرافضة وتكذبهم فِيهَا جَمَاهِير الْأمة من أعظم السفسطة

وَكَذَلِكَ من روى لمعاوية وَأَصْحَابه من الْفَضَائِل مَا يُوجب تَقْدِيمه على عَليّ وَأَصْحَابه كَانَ مسفسطا كَاذِبًا

قَالَ الْمنْهَج الرَّابِع فِي الْأَدِلَّة الدَّالَّة على إِمَامَته من أَحْوَاله فَذكر أَنه كَانَ أزهد النَّاس وأعبدهم وأعلمهم وأشجعهم

وَذكر أنواعا من خوارق الْعَادَات لَهُ

فَيُقَال بل كَانَ أزهد النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَبُو بكر فَإِنَّهُ كَانَ لَهُ مَال يتجر بِهِ

ص: 487

فأنفقه كُله فِي سَبِيل الله

وَولى الْخلَافَة فَذهب إِلَى السُّوق على يَدَيْهِ برود يَبِيع ويتكسب فَأخْبر بذلك الْمُهَاجِرُونَ ففرضوا لَهُ شَيْئا فاستخلف عمر أَبَا عُبَيْدَة فخلف لَهُ أَنه يُبَاح لَهُ أَخذ دِرْهَمَيْنِ كل يَوْم

قَالَ ابْن زَنْجوَيْه كَانَ عَليّ فَقِيرا فِي أول الْإِسْلَام ثمَّ اسْتَفَادَ الرباع والمزارع والنخيل وَاسْتشْهدَ رضي الله عنه وَعِنْده تسع عشرَة سَرِيَّة وَأَرْبع نسْوَة

وَقَالَ شريك عَن عَاصِم بن كُلَيْب عَن مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ قَالَ قَالَ عَليّ لقد رَأَيْتنِي على عهد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أربط الْحجر على بَطْني من شدَّة الْجُوع وَإِن صَدَقَة مَالِي لتبلغ الْيَوْم أَرْبَعِينَ ألفا

وروى إِبْرَاهِيم بن سعيد الْجَوْهَرِي فَقَالَ لتبلغ أَرْبَعَة آلَاف دِينَار

فَأَيْنَ هَذَا من هَذَا وَإِن كَانَا زاهدين

وتلا عمر أَبَا بكر فِي زهده وَكَذَا أَبُو عُبَيْدَة وَأَبُو ذَر بِخِلَاف غَيرهم من الصَّحَابَة فَإِنَّهُم توسعوا فِي الدُّنْيَا وتمتعوا وَاتَّخذُوا الْأَمْوَال

قَالَ ابْن حزم من جملَة عقار عَليّ يَنْبغ كَانَت تغل كل سنة ألف وسق تمر سوى زَرعهَا

والزهد عزوف النَّفس عَن حب الصَّوْت وَعَن المَال وَاللَّذَّات وَعَن الْميل إِلَى الْوَلَد والحاشية فَلَا معنى للزهد إِلَّا هَذَا وَأَبُو بكر قد أنْفق مَاله قيل كَانَ أَرْبَعِينَ ألفا حَتَّى بَقِي فِي عباءة قد خللها بِعُود إِذا جلس افترشها وَغَيره اقتنى الرباع والضياع

ثمَّ إِنَّه ولى الْخلَافَة فَمَا اتخذ جَارِيَة وَلَا توسع فِي مَال وَأما عَليّ فتوسع فِيمَا يحل لَهُ وَمَات عَن زَوْجَات وتسع عشرَة أم ولد وَعبيد وخدم وَتُوفِّي عَن أَرْبَعَة وَعشْرين ولدا من ذكر وَأُنْثَى وَترك لَهُم من الْعقار مَا أغناهم

هَذَا أَمر مَشْهُور لَا يقدر أحد على إِنْكَاره

ثمَّ قد كَانَ لأبي بكر من الْوَلَد مثل عبد الرَّحْمَن وَمن الْقَرَابَة مثل طَلْحَة أحد الْعشْرَة فَمَا

ص: 488

اسْتعْمل هَذَا وَلَا هَذَا فِي جهاته وَهِي مَكَّة وَالْمَدينَة واليمن وخيبر والبحرين وحضرموت وعمان والطائف واليمامة

ثمَّ جرى عمر على مجْرَاه وَلم يسْتَعْمل من بني عدي أحدا على سَعَة عمله وَقد فتح الشَّام ومصر وَالْعراق إِلَى خُرَاسَان إِلَّا النُّعْمَان بن عدي الْعَدوي وَحده على ميسَان ثمَّ أسْرع عَزله وَكَانَ فيهم مثل سعيد بن زيد أحد الْعشْرَة وَأبي جهم بن حُذَيْفَة وخارجة بن حذافة وَمعمر بن عبد الله وَولد عبد الله بن عمر

ثمَّ كل مِنْهُمَا لم يسْتَعْمل ابْنه من بعده على الْأمة وَقد رَضِي بإبن عمر رضي الله عنهما بعض النَّاس وَكَانَ أَهلا لذَلِك وَلَو اسْتَخْلَفَهُ لما اخْتلف عَلَيْهِ أحد

وَوجدنَا عليا اسْتعْمل أَقَاربه ابْن عَبَّاس على الْبَصْرَة وَعبيد الله بن عَبَّاس على الْيمن وقثما ومعبدا ابْني عَبَّاس على الْحَرَمَيْنِ وَابْن أُخْته جعده بن هُبَيْرَة على خُرَاسَان وَابْن امْرَأَته وأخا وَلَده مُحَمَّد بن أبي بكر على مصر وَرَضي ببيعة الْمُسلمين لإبنه بعده ولسنا ننكر أَهْلِيَّته وزهده وعظمته وَلَا أَهْلِيَّة عبد الله ابْن عَبَّاس للخلافة وَلَكنَّا نقُول إِن أَبَا بكر وَعمر أتم زهدا وأعزف عَن الدُّنْيَا من زاهد يفعل الْمُبَاحَات

قَالَ وَعلي عليه السلام قد طلق الدُّنْيَا ثَلَاثًا وَكَانَ قوته جريش الشّعير ولبسه خشن الثِّيَاب ورقع مدرعته وَكَانَ حمائل سَيْفه ليفا وَكَذَا نَعله

وروى أَخطب خوارزم عَن عمار قَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يَقُول يَا عَليّ إِن الله زينك بالزهد فِي الدُّنْيَا وبغضها إِلَيْك وحبب إِلَيْك الْفُقَرَاء فرضيت بهم أتباعا وَرَضوا بك إِمَامًا

طُوبَى

ص: 489

لمن أحبك وَصدق عَلَيْك وَالْوَيْل لمن أبغضك وَكذب عَلَيْك

الحَدِيث

وَقَالَ سُوَيْد ابْن غَفلَة دخلت على عَليّ فَوجدت بَين يَدَيْهِ صفحة فِيهَا لبن أجد رِيحه من شدَّة حموضته وَفِي يَده رغيف أرى قشار الشّعير فِي وَجهه

الحَدِيث بِطُولِهِ

وَقَالَ ضرار دخلت على مُعَاوِيَة بعد قتل عَليّ فَقَالَ لي صف لي عليا

فَقلت كَانَ بعيد المدى شَدِيد القوى يَقُول فضلا وَيحكم عدلا يتفجر الْعلم من جوانبه وتنطق الْحِكْمَة عَن نواحيه يستوحش من الدُّنْيَا وزهرتها ويأنس بِاللَّيْلِ ووحشته

كَانَ غزير الْعبْرَة طَوِيل الفكرة يُعجبهُ من اللبَاس مَا خشن وَمن الطَّعَام مَا قشب

وَكَانَ فِينَا كأحدنا

وَذكر أَشْيَاء

فَبكى مُعَاوِيَة وَقَالَ رحم الله أَبَا الْحسن لقد كَانَ وَالله كَذَلِك فَمَا حزنك عَلَيْهِ يَا ضرار قَالَ حزن من ذبح وَلَدهَا فِي حجرها فَلَا ترقأ عبرتها وَلَا يسكن حزنها

وَالْجَوَاب لَا نزاع فِي زهد عَليّ لكنه لَا يبلغ زهد أبي بكر كَمَا ذكرنَا

وَبَعض مَا أوردته كذب عَلَيْهِ وَلَا مدح فِيهِ

أما كَونه قد طَلقهَا ثَلَاثًا فَمن الْمَشْهُور عَنهُ أَنه قَالَ يَا صفراء يَا بَيْضَاء قد طَلقتك ثَلَاثًا غري غَيْرِي لَا رَجْعَة لي فِيك

فَهَذَا لَا يدل على أَنه أزهد مِمَّن لم يقل هَذَا فَإِن نَبينَا وَعِيسَى وَغَيرهمَا مِمَّن هُوَ أزهد الْأَنْبِيَاء لم يَقُولُوا هَذَا وَالسُّكُوت أجمل وَأقرب إِلَى الْإِخْلَاص

وقولك كَانَ يقتات خبز الشّعير بِلَا أَدَم فكذب عَلَيْهِ ثمَّ لَا مدح فِيهِ فالرسول صلى الله عليه وسلم إِمَام الزهاد وَكَانَ يَأْكُل مَا اتّفق أكل لحم الْغنم وَلحم الدَّجَاج والحلوى وَالْعَسَل وَكَانَ يحب ذَلِك وَإِذا حضر طَعَام فَإِن اشتهاه أكل وَإِلَّا تَركه فَلَا يرد مَوْجُودا وَلَا يُكَلف مفقودا وَرُبمَا ربط الحجرعلى بَطْنه من الْجُوع

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ إِن رجَالًا قَالَ أحدهم أما أَنا فأصوم وَلَا أفطر وَقَالَ آخر أما أَنا فأقوم وَلَا أَنَام وَقَالَ آخر أما أَنا فَلَا أَتزوّج وَقَالَ آخر أما أَنا فَلَا آكل اللَّحْم فَبلغ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لكني أَصوم وَأفْطر وأنام وأتزوج النِّسَاء وآكل اللَّحْم فَمن رغب عَن سنتي فَلَيْسَ مني

فَكيف تظن بعلي أَنه رغب عَن سنة ابْن عَمه بل النَّقْل عَنهُ بِخِلَاف مَا أوردت

وقولك فِي حَدِيثك كَانَ حمائل سَيْفه وَنَعله ليفا

ص: 490

فكذب

ثمَّ قد كَانَ نعل سيف النَّبِي صلى الله عليه وسلم فضَّة

وَالله قد يسر ووسع عَلَيْهِم فَأَي مدح فِي أَن يعدل عَن السيور مَعَ كثرتها بالحجاز وَإِنَّمَا يمدح هَذَا عِنْد الْعَدَم كَمَا قَالَ أَبُو أُمَامَة لقد فتح الْبِلَاد أَقوام كَانَت خطم خيلهم الحبال وركبهم العلابي

رَوَاهُ البُخَارِيّ

قَالَ وَبِالْجُمْلَةِ زهده لم يلْحقهُ أحد فِيهِ وَلَا سبق إِلَيْهِ

وَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ هُوَ الإِمَام

قُلْنَا كلا المقدمتين بَاطِلَة لم يكن أزهد من أبي بكر وَلَا كل من كَانَ أزهد كَانَ أَحَق بِالْإِمَامَةِ

قَالَ عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل أخبرنَا عَليّ بن حَكِيم حَدثنَا شريك عَن عَاصِم بن كُلَيْب عَن مُحَمَّد بن كَعْب سَمِعت عليا يَقُول إِن صدقتي الْيَوْم لتبلغ أَرْبَعِينَ ألفا

وَخلف عِنْد مَوته سراري وعبيدا وأملاكا ووقوفا

لَكِن لم يتْرك من المَال إِلَّا سَبْعمِائة دِرْهَم

وَهَذَا عمر قد وقف نصِيبه من خَيْبَر مَا علمنَا لَهُ عقارا غَيره وَمَات وَعَلِيهِ من الدُّيُون ثَمَانُون ألفا

قَالَ وَكَانَ أعبد النَّاس يَصُوم النَّهَار وَيقوم اللَّيْل

وَمِنْه تعلم النَّاس صَلَاة اللَّيْل ونوافل النَّهَار

وَأكْثر الْعِبَادَات والأدعية المأثورة عَنهُ تستوعب الْوَقْت وَكَانَ يُصَلِّي فِي ليله ونهاره ألف رَكْعَة إِلَى أَن قَالَ وَجمع بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة فَتصدق وَهُوَ رَاكِع إِلَى أَن قَالَ وَأعْتق ألف عبد من كسب يَده وَكَانَ يُؤجر نَفسه

ص: 491

وَينْفق على رَسُول الله فِي الشّعب

قُلْنَا فِي هَذَا من الأكاذيب مَا لَا يخفى على الْعَالم

ثمَّ لَا مدح فِيهِ لمُخَالفَة أَكْثَره السّنة

فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عبد الله بن عَمْرو أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ ألم أخْبرك أَنَّك تَقول لأصومن النَّهَار ولأقومن اللَّيْل مَا عِشْت قَالَ بلَى

قَالَ فَلَا تفعل الحَدِيث

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَليّ قَالَ طرقني رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَفَاطِمَة فَقَالَ أَلا تقومان تصليان فَقلت يَا رَسُول الله إِنَّمَا أَنْفُسنَا بيد الله إِن شَاءَ أَن يبعثنا بعثنَا

فولي وَهُوَ يضْرب فَخذه وَيَقُول (وَكَانَ الْإِنْسَان أَكثر شَيْء جدلا)

فَهَذَا دَلِيل على نَومه بِاللَّيْلِ وَأَن الرَّسُول مَا أعجبه مجادلته لَهُ

وقولك وَمِنْه تعلم النَّاس إِن أردْت بعض الْمُسلمين فَهَكَذَا الْكِبَار يعلمُونَ أتباعهم وَإِن أردْت الْكل مِنْهُ تعلمُوا فَهَذَا من أسمج الْكَذِب فإخوانه من الصَّحَابَة أخذُوا عَن نَبِيّهم وَأما التابعون فخلائق مِنْهُم لم يروه

ثمَّ قلت والأدعية المأثورة عَنهُ تستوعب الْوَقْت

قُلْنَا عامتها مَوْضُوع عَلَيْهِ هُوَ كَانَ أجل من أَن يَدْعُو بِهَذِهِ الْأَدْعِيَة الَّتِي لَا تلِيق بِحَالهِ

وَأفضل الْأَدْعِيَة المأثورة مَا ثَبت عَن الرَّسُول وَهِي بِحَمْد الله كَثِيرَة فِيهَا غنى

وَأما قَوْلك يُصَلِّي ألف رَكْعَة فَبَاطِل فَهَذَا نَبِي الله صلى الله عليه وسلم كَانَ مَجْمُوع صلَاته

ص: 492

فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة أَرْبَعِينَ رَكْعَة وَالزَّمَان لَا يَتَّسِع لِأَلف رَكْعَة من أَمِير الْأمة مَعَ سياستهم وَمُصَالَحَة فِي أَهله وَنَفسه إِلَّا أَن تكون صلَاته صَلَاة نقر نزه الله عليا عَنْهَا

وَأما قَوْلك جمع بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة فكذب كَمَا تقدم وَلَا مدح فِيهِ وَلَا يشرع لنا فعله

وقولك أعتق ألف عبد من كسب يَده كذب لَا يروج إِلَّا على الجهلة بل وَلَا أعتق مائَة وَلم يكن لَهُ كسب بِيَدِهِ يقوم بِعشر هَذَا وَكَانَ مَشْغُولًا بِالْجِهَادِ وَبِغَيْرِهِ وَمَا علمناه يتجر وَلَا لَهُ صَنْعَة فَمن أَيْن هَذَا

وقولك كَانَ يُؤجر نَفسه وَينْفق على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقت الشّعب كذب بَين فَإِنَّهُم لم يَكُونُوا يخرجُون من الشّعب وَلَا ثمَّ من يستأجرهم وَكَانَ أَبوهُ أَبُو طَالب مَعَهم ينْفق عَلَيْهِ وَكَانَت خَدِيجَة موسرة تنْفق من مَالهَا وَكَانَ عَليّ زمن الشّعب لَهُ نَحْو من خمس عشرَة سنة أقل أَو أَكثر

قَالَ وَكَانَ أعلم النَّاس

قُلْنَا بل أَبُو بكر وَعمر فَإِنَّهُ لم يكن أحد يقْضِي ويخطب ويفتي بِحَضْرَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَّا أَبُو بكر

وَقد شكّ النَّاس فِي موت نَبِيّهم فبينه أَبُو بكر

ثمَّ توقفوا فِي دَفنه فبينه أَبُو بكر ثمَّ شكوا فِي قتال مانعي الزَّكَاة فبينه بِالنَّصِّ وأوضح قَوْله (لتدخلن الْمَسْجِد الْحَرَام إِن شَاءَ الله

ص: 493

آمِنين لعمر وَبَين لَهُم قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن عبدا خَيره الله بَين الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَفسّر لَهُم الْكَلَالَة وَحمل عَليّ عَنهُ شَيْئا من الْعلم فَفِي السّنَن عَن عَليّ قَالَ كنت إِذا سَمِعت من النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَدِيثا يَنْفَعنِي الله بِمَا شَاءَ أَن يَنْفَعنِي مِنْهُ وَإِذا حَدثنِي غَيره اسْتَحْلَفته فَإِذا حلف لي صدقته

وحَدثني أَبُو بكر وَصدق أَبُو بكر أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا من مُسلم يُذنب ذَنبا ثمَّ يتَوَضَّأ وَيُصلي رَكْعَتَيْنِ ويستغفر الله إِلَّا غفر لَهُ ثمَّ قد نقل غير وَاحِد الْإِجْمَاع على أَن أَبَا بكر أعلمهم وَحَكَاهُ مَنْصُور بن السَّمْعَانِيّ

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر

وَفِي صَحِيح مُسلم أَن الْمُسلمين كَانُوا مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي سفر فَقَالَ إِن يطع الْقَوْم أَبَا بكر وَعمر بن الْخطاب يرشدوا

وروى عَنهُ صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ لأبي بكر وَعمر إِذا اتفقتما على أَمر لم أخالفكما وَثَبت عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ إِذا لم يجد نصا أفتى بقول أبي بكر وَعمر

وَثَبت فِي حق ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم دَعَا لَهُ اللَّهُمَّ فقهه فِي الدّين وَعلمه التَّأْوِيل

وَعَن ابْن أبي شيبَة أخبرنَا أَبُو مُعَاوِيَة حَدثنَا الْأَعْمَش حَدثنَا إِبْرَاهِيم أخبرنَا عَلْقَمَة عَن عمر قَالَ كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يسمر عِنْد أبي بكر رضي الله عنه فِي الْأَمر من أُمُور الْمُسلمين وَأَنا مَعَه

وَفِي هِجْرَة الرَّسُول وخوفه لم يصحب غير أبي بكر

وَلم يبْق مَعَه يَوْم بدر فِي الْعَريش غَيره

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ كنت جَالِسا عِنْد النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذْ أقبل أَبُو بكر آخِذا بِطرف ثَوْبه حَتَّى أبدى عَن رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أما صَاحبكُم فقد غامر فَسلم وَقَالَ إِنَّه كَانَ بيني وَبَين ابْن الْخطاب شَيْء فأسرعت إِلَيْهِ ثمَّ نَدِمت فَسَأَلته أَن يغْفر لي فَأبى عَليّ

وَإِنِّي أَتَيْتُك

فَقَالَ يغْفر الله لَك يَا أَبَا بكر ثَلَاثًا

ثمَّ إِن عمر نَدم فَأتى منزل أبي بكر فَلم يجده فَأتى النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَجعل وَجه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ص: 494

يتمعر حَتَّى أشْفق أَبُو بكر وَقَالَ أَنا كنت أظلم يَا رَسُول الله مرَّتَيْنِ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن الله بَعَثَنِي إِلَيْكُم فقلتم كذبت وَقَالَ أَبُو بكر صدقت وواساني بِنَفسِهِ وَمَاله فَهَل أَنْتُم تاركو لي صَاحِبي فَهَل أَنْتُم تاركو لي صَاحِبي فَمَا أوذي بعْدهَا

قَالَ البُخَارِيّ غامر سبق بِالْخَيرِ

وَقَالَ غَيره غامر خَاصم

وَقد سَأَلَ الرشيد مَالك بن أنس عَن منزله أبي بكر وَعمر من النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ منزلتهما مِنْهُ فِي حَيَاته كمنزلتهما مِنْهُ بعد مماته وَلم يحفظ لأبي بكر قَول يُخَالف نصا فَهَذَا يدل على غَايَة البراعة وَالْعلم وَأما غَيره فَلهُ أَقْوَال مُخَالفَة للنصوص لكَونهَا لم تبلغهم

وَثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ قَوْله صلى الله عليه وسلم قد كَانَ فِي الْأُمَم قبلكُمْ محدثون فَإِن يكن فِي هَذِه الْأمة أحد فعمر

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ رَأَيْت كَأَنِّي أتيت بقدح فِيهِ لبن فَشَرِبت حَتَّى أَنِّي لأرى الرّيّ يخرج من أظفاري

ثمَّ ناولت فضلي عمر

قَالُوا مَا أولته يَا رَسُول الله قَالَ الْعلم

وَفِي التِّرْمِذِيّ من حَدِيث بكر بن عَمْرو عَن مشرح بن عاهان عَن عقبَة بن عَامر قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَو كَانَ بعدِي نَبِي لَكَانَ عمر حسنه التِّرْمِذِيّ

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ كَانَ أَبُو بكر أعلمنَا بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم

وَقَالَ عَليّ لَا يبلغنِي أَن أحدا فضلني على أبي بكر وَعمر إِلَّا جلدته حد المفتري

وَقد روى عَن عَليّ من نَحْو ثَمَانِينَ وَجها أَنه قَالَ على منبره خير هَذِه الْأمة بعد نبيها أَبُو بكر وَعمر وَقَالَ البُخَارِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن كثير حَدثنَا سُفْيَان

ص: 495

حَدثنَا جَامع بن شَدَّاد حَدثنَا مُنْذر الثَّوْريّ عَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة قَالَ قلت لأبي يَا أَبَة من خير النَّاس بعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ يَا بني أَو مَا تعرف فَقلت لَا

فَقَالَ أَبُو بكر قلت ثمَّ من قَالَ ثمَّ عمر

قَالَ وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أقضاكم عَليّ

وَالْقَضَاء مُسْتَلْزم للْعلم وَالدّين قُلْنَا لم يَصح لَهُ إِسْنَاد تقوم بِهِ الْحجَّة وَقَوله صلى الله عليه وسلم أعلمكُم بالحلال وَالْحرَام معَاذ أصح مِنْهُ وَالْعلم بالحلال وَالْحرَام أعظم

وحديثك لم يروه أحد فِي السّنَن الْمَشْهُورَة وَلَا المساند الْمَعْرُوفَة لَا بِإِسْنَاد صَحِيح وَلَا ضَعِيف وَإِنَّمَا جَاءَ من طَرِيق من هُوَ مُتَّهم

وَقَول عمر عَليّ أقضانا وَالْقَضَاء إِنَّمَا هُوَ فصل الْخُصُومَات فِي الظَّاهِر مَعَ جَوَاز أَن يكون الحكم فِي الْبَاطِن بِخِلَافِهِ كَمَا صَحَّ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ إِنَّكُم تختصمون إِلَيّ وَلَعَلَّ بَعْضكُم أَن يكون أَلحن بحجته من بعض فأقضي لَهُ على نَحْو مَا أسمع فَمن قضيت لَهُ من حق أَخِيه شَيْئا فَلَا يَأْخُذهُ فَإِنَّمَا أقطع لَهُ قِطْعَة من النَّار فقد أخبر سيد الْقُضَاة أَن حكمه لَا يحل حَرَامًا وَلَا يحرم حَلَالا

وَحَدِيث أَنا مَدِينَة الْعلم وَعلي بَابهَا أَضْعَف وأوهى وَلِهَذَا إِنَّمَا يعد فِي الموضوعات وَإِن رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ

وَذكره ابْن الْجَوْزِيّ وَبَين أَن سَائِر طرقه مَوْضُوعَة وَالْكذب يعرف من نفس مَتنه فَإِن النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِذا كَانَ مَدِينَة الْعلم وَلم يكن لَهَا إِلَّا بَاب وَاحِد وَلم يبلغ الْعلم عَنهُ إِلَّا وَاحِد فسد أَمر الْإِسْلَام وَلِهَذَا اتّفق الْمُسلمُونَ على أَنه لَا يجوز أَن يكون الْمبلغ عَنهُ الْعلم وَاحِدًا بل يجب أَن يكون المبلغون أهل التَّوَاتُر الَّذين يحصل الْعلم بخبرهم للْغَائِب وَخبر الْوَاحِد لَا يُفِيد الْعلم بِالْقُرْآنِ وَالسّنَن المتواترة

وَإِذا قَالُوا ذَلِك الْوَاحِد الْمَعْصُوم يحصل الْعلم بِخَبَرِهِ قيل لَهُم فَلَا بُد من الْعلم بعصمته أَولا وعصمته لَا تثبت بِمُجَرَّد خَبره قبل أَن تعرف عصمته لِأَنَّهُ دور وَلَا نثبت بِالْإِجْمَاع فَإِنَّهُ

ص: 496

لَا إِجْمَاع فِيهَا

ثمَّ علم الرَّسُول صلى الله عليه وسلم من الْكتاب وَالسّنة قد طبق الأَرْض وَمَا انْفَرد بِهِ عَليّ عَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فيسير قَلِيل

وَأجل التَّابِعين بِالْمَدِينَةِ هم الَّذين تعلمُوا فِي زمن عمر وَعُثْمَان

وَتَعْلِيم معَاذ للتابعين وَلأَهل الْيمن أَكثر من تَعْلِيم عَليّ رضي الله عنه وَقدم عَليّ على الْكُوفَة وَبهَا من أَئِمَّة التَّابِعين عدد كشريح وَعبيدَة وعلقمة ومسروق وأمثالهم

قَالَ أَبُو مُحَمَّد بن حزم احْتج الرافضة بِأَن عليا رضي الله عنه كَانَ أَكْثَرهم علما

قَالَ وَهَذَا كذب وَإِنَّمَا يعرف علم الصَّحَابِيّ بِكَثْرَة رِوَايَته أَو بفتاويه وَكَثْرَة اسْتِعْمَال الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لَهُ

فَنَظَرْنَا فوجدناه قد اسْتعْمل أَبَا بكر على الصَّلَاة أَيَّام مَرضه بِمحضر من عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَأبي والكبار

وَهَذَا خلاف استخلافه عليا إِذْ غزا لِأَن ذَلِك كَانَ على النِّسَاء وَذَوي الْأَعْذَار فَقَط فَوَجَبَ ضَرُورَة أَن نعلم أَن أَبَا بكر أعلم بِالصَّلَاةِ وَهِي عَمُود الْإِسْلَام

وَأَيْضًا فَاسْتَعْملهُ على الصَّدقَات وعَلى الْحَج فصح أَنه أعلم من جَمِيع الصَّحَابَة بذلك وَهَذِه دعائم الْإِسْلَام

ثمَّ وَجَدْنَاهُ اسْتَعْملهُ على الْبعُوث فصح أَن عِنْده من أَحْكَام الْجِهَاد مثل مَا عِنْد سَائِر من اسْتَعْملهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم على الْبعُوث إِذْ لَا يسْتَعْمل إِلَّا عَالما بِالْعَمَلِ فَعِنْدَ أبي بكر من علم الْجِهَاد كَالَّذي عِنْد عَليّ وَسَائِر أُمَرَاء الْبعُوث لَا أقل

وَإِذا صَحَّ التَّقَدُّم لأبي بكر على عَليّ وَغَيره فِي الْعلم وَالصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالْحج وساواه فِي الْجِهَاد فَهَذِهِ عُمْدَة للْعلم

وَكَانَ شَدِيد الْمُلَازمَة للرسول صلى الله عليه وسلم فشاهد فَتَاوِيهِ وَأَحْكَامه أَكثر من مُشَاهدَة على لَهَا فصح ضَرُورَة أَنه أعلم بهَا فَهَل

ص: 497

بقيت من الْعلم بَقِيَّة إِلَّا وَأَبُو بكر الْمُقدم فِيهَا والمشارك وَأما الرِّوَايَة وَالْفَتْوَى فَتوفي أَبُو بكر بعد الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بِسنتَيْنِ وَنصف وَلم يحْتَج إِلَى مَا عِنْده لِأَن رَعيته صحبوا الرَّسُول صلى الله عليه وسلم مثله وَقد روى عَنهُ مائَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا وَجُمْلَة فَتَاوَى

وَعلي روى لَهُ خَمْسمِائَة وَسِتَّة وَثَمَانُونَ حَدِيثا لكَونه عَاشَ بعد النَّبِي صلى الله عليه وسلم ثَلَاثِينَ سنة وَكثر لِقَاء النَّاس لَهُ واحتاجوا إِلَى علمه لذهاب جُمْهُور الصَّحَابَة وسألوه بِالْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَة والكوفة وبصفين

فَإِذا نسبنا مُدَّة أبي بكر من حَيَاته وأضفنا تقري عَليّ الْبِلَاد بَلَدا بَلَدا وَكَثْرَة سَماع النَّاس مِنْهُ إِلَى لُزُوم أبي بكر موطنه وَأَنه لم تكْثر حَاجَة من حواليه إِلَى الرِّوَايَة عَنهُ ثمَّ نسبنا عدد حَدِيثه من عدد حَدِيثه وفتاويه من فَتَاوِيهِ علم كل ذِي حَظّ من علم أَن الَّذِي عِنْد أبي بكر من الْعلم أَضْعَاف مَا كَانَ عِنْد عَليّ مِنْهُ

وبرهان ذَلِك أَن من عمر من الصَّحَابَة عمرا قَلِيلا قل النَّقْل عَنهُ وَمن طَال عمره مِنْهُم كثر النَّقْل عَنهُ

وَعمر مَا برح بِالْمَدِينَةِ بل جَاءَ إِلَى الشَّام وَقد روى لَهُ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم خَمْسمِائَة وَسَبْعَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا وَذَلِكَ نَحْو مِمَّا روى عَليّ رضي الله عنه وَلكنه مَاتَ قبل عَليّ بِسبع عشرَة سنة وَخلق من عُلَمَاء الصَّحَابَة أَحيَاء بعد فَكل مَا زَاد حَدِيث عَليّ على حَدِيث عمر تِسْعَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا فِي هَذِه الْمدَّة وَلم يزدْ عَلَيْهِ فِي الصَّحِيح إِلَّا حَدِيث أَو حديثان

وفتاوى عمر موازية لفتاوى عَليّ فِي أَبْوَاب الْفِقْه

فَإِذا نسبنا مُدَّة من مُدَّة وضربنا فِي الْبِلَاد من ضرب فِيهَا وأضفنا حَدِيثا إِلَى حَدِيث وفتاوى إِلَى فَتَاوَى علم كل ذِي حس علما ضرويا أَن الَّذِي كَانَ عِنْد عمر من الْعلم أَضْعَاف مَا كَانَ عِنْد عَليّ

ثمَّ نَظرنَا عَائِشَة رضي الله عنها لتأخرها رَوَت أَكثر من ألفي حَدِيث وَكَذَلِكَ ابْن عمر وَأنس

وَوجدنَا أَبَا هُرَيْرَة روى نَحْو خَمْسَة آلَاف مُسْند وثلاثمائة مُسْند

ولإبن مَسْعُود ثَمَانمِائَة ونيف وَله ولعائشة ولإبن عمر من الْفَتَاوَى أَكثر مِمَّا لعَلي لتأخر حياتهم وَكَذَا لإبن عَبَّاس أَزِيد من ألف وَخَمْسمِائة حَدِيث وَلَا يُحْصى مَاله من الْفَتَاوَى وَالتَّفْسِير وَغير ذَلِك

فَبَطل قَول

ص: 498

الرافضة

نعم قد اسْتعْمل الرَّسُول صلى الله عليه وسلم عليا أَيْضا وَلَا يسْتَعْمل إِلَّا عَالما وَاسْتعْمل معَاذًا وَأَبا مُوسَى على الْيمن

قَالَ وَكَانَ فِي غَايَة الذكاء شَدِيد الْحِرْص على التَّعَلُّم ملازما للرسول صلى الله عليه وسلم من الصغر إِلَى أَن مَاتَ

فَيُقَال من أَيْن علم أَنه أذكى من أبي بكر وَعمر وأرغب فِي الْعلم مِنْهُمَا وَأَن استفادته من النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَكثر مِنْهُمَا

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي علمهما أَحَادِيث وَمن ذَلِك قَوْله صلى الله عليه وسلم عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَأَيْت النَّاس يعرضون عَليّ وَعَلَيْهِم قمص مِنْهَا مَا يبلغ الثدي وَمِنْهَا مَا دون ذَلِك وَعرض عَليّ عمر وَعَلِيهِ قَمِيص يجره

قَالُوا فَمَا أولته يَا رَسُول الله قَالَ الدّين

وَقَالَ ابْن مَسْعُود لما مَاتَ عمر إِنِّي لأحسب أَن هَذَا بِتِسْعَة أعشار الْعلم وشارك النَّاس فِي الْعشْر الْبَاقِي

قَالَ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم الْعلم فِي الصغر كالنقش فِي الْحجر فَتكون عُلُوم عَليّ أَكثر من غَيره لحُصُول الْقَابِل الْكُلِّي وَالْفَاعِل التَّام

فَيُقَال هَذَا من فضول الحَدِيث فَإِن هَذَا مثل سَائِر مَا قَالَه لَيْسَ من كَلَام الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَة قد تعلمُوا الْقُرْآن وَالسّنَن مَعَ الْكبر فيسر الله ذَلِك عَلَيْهِم وَكَذَلِكَ على فَمَا كمل الْوَحْي حَتَّى صَار لعَلي نَحْو من ثَلَاثِينَ سنة وَإِنَّمَا حفظ أَكثر ذَلِك فِي كبره

وَقد اخْتلف فِي حفظه لجَمِيع الْقُرْآن

وَهَذَا أَبُو هُرَيْرَة قد حفظ فِي أَكثر من ثَلَاث سِنِين مَا لم يحفظه غَيره

قَالَ وَأما النَّحْو فَهُوَ وَاضعه قَالَ لأبي الْأسود الْكَلَام كُله ثَلَاثَة أَشْيَاء اسْم وَفعل وحرف وَعلمه وُجُوه الْإِعْرَاب قُلْنَا لَيْسَ هَذَا من عُلُوم النُّبُوَّة وَإِنَّمَا هُوَ

ص: 499

علم مستنبط وَلم يكن فِي زمن الْخُلَفَاء الثَّلَاثَة لحن فَلم يحْتَج إِلَيْهِ فَلَمَّا سكن عَليّ الْكُوفَة وَبهَا الأنباط رُوِيَ أَنه قَالَ لأبي الْأسود الدؤَلِي ذَلِك وَقَالَ لَهُ انح هَذَا النَّحْو

كَمَا أَن غَيره استخرج لِلْخَطِّ الشكل والنقط وعلامة الْمَدّ والشد وَنَحْوه للْحَاجة وكما استخرج الْخَلِيل الْعرُوض

قَالَ وَالْفُقَهَاء كلهم يرجعُونَ إِلَيْهِ

قُلْنَا هَذَا كذب فَلَيْسَ فِي الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَلَا غَيرهم من يرجع إِلَى فقهه

أما مَالك فَعلمه عَن أهل الْمَدِينَة وَأهل الْمَدِينَة لَا يكادون يَأْخُذُونَ بقول عَليّ بل مادتهم من عمر وَزيد وَابْن عمر وَغَيرهم

وَأما الشَّافِعِي فَإِنَّهُ تفقه أَولا على المكيين أَصْحَاب ابْن جريج وَابْن جريج أَخذ عَن أَصْحَاب ابْن عَبَّاس

ثمَّ قدم الشَّافِعِي الْمَدِينَة وَأخذ عَن مَالك

ثمَّ كتب كتب أهل الْعرَاق وَاخْتَارَ لنَفسِهِ

وَأما أَبُو حنيفَة فشيخه الَّذِي اخْتصَّ بِهِ حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان صَاحب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَإِبْرَاهِيم صَاحب عَلْقَمَة وعلقمة صَاحب ابْن مَسْعُود

وَأخذ أَبُو حنيفَة عَن عَطاء بِمَكَّة وَعَن غَيره

وَأما أَحْمد بن حَنْبَل فَكَانَ على مَذْهَب أَئِمَّة الحَدِيث أَخذ عَن هشيم وَابْن عُيَيْنَة ووكيع وَالشَّافِعِيّ وَغَيرهم وَاخْتَارَ لنَفسِهِ وَكَذَا فعل ابْن رَاهَوَيْه وَأَبُو عبيد

وقولك إِن الْمَالِكِيَّة أخذُوا علمهمْ من عَليّ وَأَوْلَاده فكذب هَذَا الْمُوَطَّأ لَيْسَ فِيهِ عَن عَليّ وَأَوْلَاده إِلَّا الْيَسِير وَكَذَلِكَ الْكتب وَالسّنَن وَالْمَسَانِيد جُمْهُور مَا فِيهَا

ص: 500

عَن غير أهل الْبَيْت

وقولك إِن أَبَا حنيفَة قَرَأَ على الصَّادِق كذب فَإِنَّهُ من أقرانه مَاتَ جَعْفَر قبله بِسنتَيْنِ وَلَكِن ولد أَبُو حنيفَة مَعَ جَعْفَر بن مُحَمَّد فِي عَام وَلَا نَعْرِف أَنه أَخذ عَن جَعْفَر وَلَا عَن أَبِيه مَسْأَلَة وَاحِدَة بل أَخذ عَمَّن كَانَ أسن مِنْهُمَا كعطاء بن أبي رَبَاح وَشَيْخه الْأَصْلِيّ حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان

وجعفر بن مُحَمَّد كَانَ بِالْمَدِينَةِ

وقولك إِن الشَّافِعِي أَخذ عَن مُحَمَّد بن الْحسن فَمَا جَاءَهُ الشَّافِعِي إِلَّا وَقد صَار إِمَامًا فجالسه وَعرف طَرِيقَته وناظره وَألف فِي الرَّد عَلَيْهِ

وَفِي الْجُمْلَة فَهَؤُلَاءِ لم يَأْخُذُوا عَن جَعْفَر مسَائِل وَلَا أصولا وَلَكِن رووا عَنهُ أَحَادِيث يسيرَة رووا عَن غَيره أضعافها

وَلم يكذب على أحد مَا كذب على جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق مَعَ بَرَاءَته مِمَّا كذب عَلَيْهِ

ص: 501

فنسب إِلَيْهِ علم البطاقة والهفت والجدول واختلاج الْأَعْضَاء والجفر وَمَنَافع الْقُرْآن والرعود والبروق وَأَحْكَام النُّجُوم والقرعة والإستقسام بالأزلام والملاحم

قَالَ وَعَن مَالك أَنه قَرَأَ على ربيعَة وَرَبِيعَة على عِكْرِمَة وَعِكْرِمَة على ابْن عَبَّاس وَابْن عَبَّاس تلميذ عَليّ

قُلْنَا هَذِه كذبة مَا أَخذ ربيعَة عَن عِكْرِمَة شَيْئا بل عَن سعيد بن الْمسيب وَسَعِيد كَانَ يرجع فِي علمه إِلَى عمر وَزيد وَأبي هُرَيْرَة

وقولك عَليّ تِلْمِيذه ابْن عَبَّاس بَاطِل فَإِن رِوَايَته عَن عَليّ يسيرَة وغالب أَخذه عَن عمر وَزيد وَكَانَ يُفْتِي فِي أَشْيَاء بقول أبي بكر وَعمر وينازع عليا فِي مسَائِل

قَالَ وَأما علم الْكَلَام فَهُوَ أَصله وَمن خطبه تعلم النَّاس وَكَانَ النَّاس تلاميذه قُلْنَا هَذَا كذب وَلَا فَخر فِيهِ فَإِن الْكَلَام الْمُخَالف للْكتاب وَالسّنة قد نزه الله عليا عَنهُ فَمَا كَانَ فِي الصَّحَابَة وَلَا التَّابِعين أحد يسْتَدلّ على حُدُوث الْعَالم بحدوث الْأَجْسَام وَيثبت حُدُوث الْأَجْسَام بِدَلِيل الْأَعْرَاض وَالْحَرَكَة والسكون وَأَن الْأَجْسَام مستلزمة لذَلِك بل أول مَا ظهر هَذَا الْكَلَام من جِهَة جعد بن دِرْهَم والجهم بن صَفْوَان بعد الْمِائَة الأولى ثمَّ صَار إِلَى عَمْرو بن عبيد وواصل بن عَطاء وهما لما تكلما فِي إِنْفَاذ الْوَعيد وَفِي الْقدر صَار ذَلِك وَهَذَا إِلَى أبي الْهُذيْل العلاف والنظام وَبشر المريسي وَهَؤُلَاء المبتدعة

وَلَيْسَ فِي الْخطب الثَّابِتَة عَن عَليّ شَيْء من أصُول الْمُعْتَزلَة الْخَمْسَة وقدماء الْمُعْتَزلَة لم يَكُونُوا يعظمون عليا بل كَانَ فيهم من يَشكونَ فِي عَدَالَته ويقفون وَيَقُولُونَ فِي أهل الْجمل فسق إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ لَا بِعَينهَا

والشيعة القدماء يثبتون الصِّفَات ويقرون بِالْقدرِ حَتَّى

ص: 502

صرح مِنْهُم هِشَام بن الحكم بالتجسيم

وَثَبت عَن جَعْفَر الصَّادِق أَنه سُئِلَ عَن الْقُرْآن فَقَالَ لَيْسَ بخالق وَلَا مَخْلُوق وَلكنه كَلَام الله

وَلَا ريب أَنا أَبَا الْحسن الْأَشْعَرِيّ كَانَ تلميذا لأبي عَليّ الجبائي لكنه فَارقه وَرجع عَنهُ وَأخذ الحَدِيث وَالسّنة عَن زَكَرِيَّا ابْن يحيى السَّاجِي وَذكر فِي المقالات أَنه مُعْتَقد مَذْهَب السّلف

لَا كَمَا فعلت أَنْت وَأَصْحَابك إِذْ جمعتم أخس الْمذَاهب مَذْهَب الْجَهْمِية فِي الصِّفَات وَمذهب الْقَدَرِيَّة فِي أَفعَال الْعباد وَمذهب الرافضة فِي الْإِمَامَة والتفضيل

فَتبين أَن مَا نقل عَن عَليّ من الْكَلَام فَهُوَ كذب عَلَيْهِ وَلَا مدح فِيهِ

وأبلغ مِمَّا افتريت على عَليّ أَن هَؤُلَاءِ القرامطة والإسماعيلية ينسبون قَوْلهم إِلَى عَليّ وَأَنه أعطي علما بَاطِنا مُخَالفا للظَّاهِر

وَقد ثَبت عَنهُ أَنه قَالَ وَالَّذِي فلق الْحبَّة وبرأ النَّسمَة مَا عهد إِلَيّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم شَيْئا لم يعهده إِلَى النَّاس إِلَّا مَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة إِلَّا فهما يؤتيه الله عبدا فِي كِتَابه

وَلَا يُوصف مَا قد كذب على أهل الْبَيْت حَتَّى أَن اللُّصُوص العشرية يَزْعمُونَ أَن مَعَهم كتابا من عَليّ بِالْإِذْنِ لَهُم فِي السّرقَة كَمَا زعمت الْيَهُود الخيابرة أَن مَعَهم كتابا من عَليّ بِإِسْقَاط الْجِزْيَة

أفبعد هَذَا ضلال وَمِمَّا يَقُوله الباطنية المنتمون إِلَى عَليّ يجْعَلُونَ مُنْتَهى الْإِسْلَام وغايته هُوَ الْإِقْرَار بربوبية الأفلاك وَأَنَّهَا مُدبرَة للْعَالم وَأَنه لَيْسَ وَرَاءَهَا صانع لَهَا ويجعلون هَذَا بَاطِن دين الْإِسْلَام الَّذِي بعث بِهِ مُحَمَّد وَأَنه أَلْقَاهُ على عَليّ وألقاه عَليّ إِلَى الْخَواص حَتَّى اتَّصل مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر وَهُوَ عِنْدهم الْقَائِم

ص: 503

وَبَنُو عبيدهم مُلُوكهمْ الَّذين استولوا على الْمغرب ثمَّ على مصر أَكثر من مِائَتي سنة وصنف فيهم القَاضِي أَبُو بكر بن الطّيب وَالْقَاضِي عبد الْجَبَّار بن أَحْمد وَالْقَاضِي أَبُو يعلى وَالْغَزالِيّ وَابْن عقيل وَأَبُو عبد الله الشهرستاني وكشفوا أستارهم وَأَصْحَاب الألموت مِنْهُم وَسنَان من دعاتهم

وشعارهم الظَّاهِر الرَّفْض وباطن أَمرهم الزندقة والإنحلال وَكَانَ من أعظم مَا بِهِ دخل هَؤُلَاءِ على المفسدين وأفسدوا الدّين هُوَ طَرِيق الشِّيعَة لفرط جهلهم وأهوائهم وبعدهم من دين الْإِسْلَام

وَلِهَذَا وصوا دعاتهم أَن يدخلُوا

ص: 504

على الْمُسلمين من بَاب التَّشَيُّع وصاروا يستعينون بِمَا عِنْد الشِّيعَة من الأكاذيب والأهواء وَيزِيدُونَ هم على ذَلِك مَا ناسبهم من الإفتراء حَتَّى فعلوا فِي أهل الْإِيمَان مَا لم يَفْعَله عَبدة الْأَوْثَان والصلبان

قَالَ وَعلم التَّفْسِير إِلَيْهِ يعزى لِأَن ابْن عَبَّاس كَانَ تِلْمِيذه فِيهِ

قَالَ ابْن عَبَّاس حَدثنِي أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي تَفْسِير الْبَاء من اسْم الله من أول اللَّيْل إِلَى آخِره

قُلْنَا هَذَا كذب صراح وَهَذَا يرويهِ من يُؤمن بالمجهولات من جهلة الصُّوفِيَّة كَمَا يروون أَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه قَالَ كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بكر يتحدثان وَكنت كالزنجي بَينهمَا

وينقلون عَن عمر أَنه تزوج بِامْرَأَة أبي بكر ليسألها عَن عمله فِي السِّرّ فَقَالَت كنت أَشمّ مِنْهُ رَائِحَة الكبد المشوية

وَهَذَا من أبين الْكَذِب وَإِنَّمَا تزوج بِامْرَأَة أبي بكر أَسمَاء بنت عُمَيْس بعده عَليّ

وَقد أَخذ ابْن عَبَّاس عَن عدد كَبِير من الصَّحَابَة وَأخذ التَّفْسِير عَن ابْن مَسْعُود وَعَن طَائِفَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمَا يعرف بأيدي الْأمة تَفْسِير ثَابت عَن عَليّ وَمَا ورد عَنهُ من التَّفْسِير فقليل

وَأما مَا ينْقل أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ الصُّوفِي فِي حقائق التَّفْسِير عَن جَعْفَر الصَّادِق فكذب عَلَيْهِ

قَالَ وَعلم الطَّرِيقَة إِلَيْهِ مَنْسُوب فَإِن الصُّوفِيَّة إِلَيْهِ يسندون الْخِرْقَة

قُلْنَا الْخرق مُتعَدِّدَة أشهرها خرقتان خرقَة إِلَى عمر وخرقة إِلَى عَليّ

فخرقة عمر لَهَا إِسْنَاد إِلَى أويس الْقَرنِي وَإِلَى أبي مُسلم الْخَولَانِيّ

وَأما المنسوبة إِلَى عَليّ فإسنادها إِلَى الْحسن الْبَصْرِيّ

والمتأخرون يصلونها إِلَى مَعْرُوف الْكَرْخِي وَمن بعده مُنْقَطع فَإِنَّهُم تَارَة يَقُولُونَ إِنَّه صحب عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا وَهَذَا بَاطِل قطعا ومعروف كَانَ مُنْقَطِعًا بِبَغْدَاد وَعلي بن مُوسَى كَانَ فِي صُحْبَة الْمَأْمُون بخراسان ومعروف أسن من عَليّ وَلَا نقل ثِقَة أَنه اجْتمع بِهِ أَو أَخذ عَنهُ شَيْئا بل وَلَا يعرف أَنه رَآهُ وَلَا كَانَ وَالله مَعْرُوف بوابه وَلَا أسلم على يَدَيْهِ

وَأما إسنادها الآخر فَيَقُولُونَ إِن مَعْرُوفا صحب دَاوُد الطَّائِي

ص: 505

وَهَذَا أَيْضا لَا أصل لَهُ وَلَا عرف أَنه رَآهُ

وَفِي إِسْنَاد الْخِرْقَة أَيْضا أَن دَاوُد الطَّائِي صحب حبيبا العجمي وَهَذَا أَيْضا لم يعرف لَهُ حَقِيقَة

وفيهَا أَن حبيبا العجمي صحب الْحسن الْبَصْرِيّ وَهَذَا صَحِيح فَإِن الْحسن كَانَ لَهُ أَصْحَاب كَثِيرُونَ مثل أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَيُونُس بن عبيد وَعبد الله بن عَوْف وَمثل مُحَمَّد بن وَاسع وَمَالك بن دِينَار وحبِيب العجمي وفرقد السبخي وَغَيرهم من عباد الْبَصْرَة

وفيهَا أَن الْحسن صحب عليا وَهَذَا بَاطِل مَا جالسه قطّ وَمَا روى أَن عليا دخل الْبَصْرَة فَأخْرج الْقصاص من جَامعهَا إِلَّا الْحسن كذب بَين بل مَا طلب الْحسن الْعلم إِلَّا بعد وَفَاة عَليّ مَعَ أَنه رَأْي عُثْمَان يخْطب

وَقد أفرد ابْن الْجَوْزِيّ تأليفا فِي مناقبه

وأوهى من هَذَا نِسْبَة لِبَاس الفتوة إِلَى عَليّ بِإِسْنَاد مظلم يعلم بُطْلَانه

وَلَهُم إِسْنَاد آخر بالخرقة إِلَى جَابر مُنْقَطع سَاقِط

وَقد علمنَا قطعا أَن الصَّحَابَة لم يَكُونُوا يلبسُونَ مريدهم خرقَة وَلَا يقصون شعروهم وَلَا فعله التابعون بل جالسوا الصَّحَابَة وتأدبوا بآدابهم كل طَائِفَة أخذُوا عَمَّن فِي بلدهم من الصَّحَابَة فَأخذ أهل الْمَدِينَة عَن عمر وَأبي وَزيد وَأبي هُرَيْرَة

وَلما ذهب عَليّ إِلَى الْكُوفَة كَانَ أَهلهَا قد تخْرجُوا فِي دينهم بإبن مَسْعُود وَسعد وعمار وَحُذَيْفَة وَأخذ أهل الْبَصْرَة عَن عمرَان ابْن حُصَيْن وَأبي مُوسَى وَأبي بكرَة وَابْن مُغفل وَخلق وَأخذ أهل الشَّام دينهم عَن معَاذ وَأبي عُبَيْدَة وَأبي الدَّرْدَاء وَعبادَة بن الصَّامِت وبلال

فَكيف تَقول إِن طَرِيق أهل الزّهْد والتصوف مُتَّصِل بِهِ دون غَيره وَكتب الزّهْد كَثِيرَة جدا مثل الزّهْد للْإِمَام أَحْمد والزهد لإبن الْمُبَارك ولوكيع بن الْجراح ولهناد بن السّري

وَمثل كتب أَخْبَار الزهاد كحلية الْأَوْلِيَاء وَصفَة الصفوة فِيهَا خبر كثير عَن الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وتابعيهم بِإِحْسَان وَلَيْسَ الَّذِي فِيهَا لعَلي أَكثر مِمَّا فِيهَا لأبي بكر وَعمر ومعاذ وَابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب وَأبي ذَر وَأبي أُمَامَة وأمثالهم من الصَّحَابَة رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ

ص: 506

قَالَ وَأما علم الفصاحة فَهُوَ منبعه حَتَّى قيل كَلَامه فَوق كَلَام الْمَخْلُوق وَدون كَلَام الْخَالِق

قُلْنَا لَا ريب أَنه كَانَ من أَخطب الصَّحَابَة وَكَانَ أَبُو بكر خَطِيبًا وَكَانَ عمر خَطِيبًا وَكَانَ ثَابت بن قيس خَطِيبًا بليغا وَلَكِن كَانَ أَبُو بكر يخْطب عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي حُضُوره وغيبته وَنَبِي الله سَاكِت يقره على مَا يَقُول

وَقد خطب أَبُو بكر يَوْم السَّقِيفَة فأبلغ حَتَّى قَالَ عمر كنت قد هيأت مقَالَة أعجبتني فَلَمَّا أردْت أَن أَتكَلّم قَالَ أَبُو بكر على رسلك فَكرِهت أَن أغضبهُ وَكنت أداري مِنْهُ بعض الحدة

فَتكلم فَكَانَ هُوَ أحلم مني وأوقر وَالله مَا ترك من كلمة أعجبتني فِي تزويري إِلَّا قَالَ فِي بديهته مثلهَا أَو أفضل مِنْهَا

وَقَالَ أنس بن مَالك خَطَبنَا أَبُو بكر وَنحن كالثعالب فَمَا زَالَ يثبتنا حَتَّى صرنا كالأسد

وَكَانَ ثَابت بن قيس يُسمى خطيب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَمَا أَن حسان بن ثَابت شَاعِر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

وَكَانَ زِيَاد بن أَبِيه من أَخطب الْعَرَب وأبلغهم حَتَّى قَالَ الشّعبِيّ مَا تكلم أحد فَأحْسن إِلَّا تمنيت أَن يسكت خشيَة أَن يسيء إِلَّا زيادا كَانَ كلما أَطَالَ أَجَاد

أَو كَمَا قَالَ الشّعبِيّ

وَكَانَت عَائِشَة من أَخطب النَّاس وأفصحهم حَتَّى كَانَ الْأَحْنَف بن قيس يتعجب من بلاغتها وَقَالَ مَا سَمِعت الْكَلَام من مَخْلُوق أفحم وَلَا أفْصح مِنْهُ من عَائِشَة

وَكَانَ ابْن عَبَّاس من أَخطب النَّاس والبلغاء فِي الْعَرَب جمَاعَة قبل الْإِسْلَام وَبعده وَعَامة هَؤُلَاءِ لم يَأْخُذُوا من عَليّ شَيْئا وَإِنَّمَا الفصاحة موهبة من الله وَلَا كَانَ عَليّ وَلَا هَؤُلَاءِ يتكلفون الأسجاع وَلَا التَّجْنِيس الَّذِي يُسمى علم البديع بل يخطبون بطباعهم وَلَا يقصدون سجعا

وَإِنَّمَا حدث هَذَا فِي

ص: 507

الْمُتَأَخِّرين وتكلفوا لَهُ وتتبعوه

فقولك إِنَّه منبع الفصاحة مُجَرّد دَعْوَى بل أنصح النَّاس رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

وَلَيْسَت الفصاحة التشدق فِي الْكَلَام والتقعير وَلَا البلاغة التَّجْنِيس والسجع بل البلاغة بُلُوغ الْمَطْلُوب بأتم عبارَة فَيجمع صَاحبهَا بَين تَكْمِيل الْمعَانِي الْمَقْصُودَة وَبَين تبيينها بِأَحْسَن وَجه

ثمَّ غَالب الْخطب الَّتِي يَأْتِي بهَا صَاحب نهج البلاغة كذب على عَليّ وَعلي أَعلَى قدرا من أَن يتَكَلَّم بذلك الْكَلَام وَلَكِن هَؤُلَاءِ وضعُوا أكاذيب وظنوا أَنَّهَا مدح فَلَا هِيَ صدق وَلَا هِيَ لَهُ مدح

وقولك إِن كَلَامه فَوق كَلَام الْمَخْلُوق كَلَام مَلْعُون فِيهِ إساءة أدب على الرَّسُول وَهَذَا مثل مَا قَالَ ابْن سبعين هَذَا كَلَام يشبه بِوَجْه مَا كَلَام الْبشر

وَهَذَا ينْزع إِلَى أَن يَجْعَل كَلَام الله مَا فِي نفوس الْبشر وَلَيْسَ هَذَا من كَلَام الْمُسلمين

وَأَيْضًا فالمعاني الصَّحِيحَة الَّتِي تُوجد فِي كَلَام عَليّ مَوْجُودَة فِي كَلَام غَيره لَكِن صَاحب نهج البلاغة وَأَمْثَاله أخذُوا كثيرا من كَلَام النَّاس فجعلوه من كَلَام عَليّ وَمِنْه مَا يحْكى عَن عَليّ أَنه تكلم بِهِ وَمِنْه مَا هُوَ كَلَام حق يَلِيق بِهِ أَن يتَكَلَّم بِهِ وَلَكِن هُوَ فِي نفس الْأَمر من كَلَام غَيره وَفِي كتاب الْبَيَان والتبيين للجاحظ كَلَام كثير مَنْقُول عَن غير عَليّ وَصَحب نهج البلاغة يَأْخُذهُ ويلصقه بعلي وَهَذِه الْخطب المنقولة فِي كتاب نهج البلاغة لَو كَانَت كلهَا عَن عَليّ من كَلَامه لكَانَتْ مَوْجُودَة قبل هَذَا المُصَنّف منقولة عَن عَليّ بِالْأَسَانِيدِ وبغيرها فَإِذا عرف من لَهُ خبْرَة بالمنقولات أَن كثيرا مِنْهَا بل أَكْثَرهَا لَا يعرف قبل هَذَا علم أَن هَذَا كذب وَإِلَّا فليبين النَّاقِل لَهَا فِي أَي كتاب ذكر ذَلِك وَمن

ص: 508

الَّذِي نَقله عَن عَليّ وَمَا إِسْنَاده وَإِلَّا فالدعوى الْمُجَرَّدَة لَا يعجز عَنْهَا أجد

وَمن كَانَت لَهُ خبْرَة بِمَعْرِِفَة طَريقَة أهل الحَدِيث وَمَعْرِفَة الْآثَار وَالْمَنْقُول بِالْأَسَانِيدِ وَتبين صدقهَا من كذبهَا علم أَن هَؤُلَاءِ الَّذين ينقلون مثل هَذَا عَن عَليّ من أبعد النَّاس عَن المنقولات والتمييز بَين صدقهَا وكذبها

قَالَ وَقَالَ سلوني قبل أَن تفقدوني

سلوني عَن طرق السَّمَاء فَإِنِّي أعلم بهَا من طرق الأَرْض فَنَقُول لَا ريب أَن عليا لم يكن يَقُول هَذَا بِالْمَدِينَةِ بَين سادة الصَّحَابَة الَّذين يعلمُونَ كَمَا يعلم

وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لما صَار إِلَى الْعرَاق بَين قوم لَا يعْرفُونَ كثيرا من الدّين وَهُوَ الإِمَام الَّذِي يجب عَلَيْهِ أَن يعلمهُمْ ويفقههم

وَقَوله أَنا أعلم بطرق السَّمَاء إِن كَانَ قَالَه فَمَعْنَاه أعلم بِمَا يَتَقَرَّبُون بِهِ من الْأَمر وَالنَّهْي وَالْعِبَادَة وَالْجنَّة وَالْمَلَائِكَة مَا لَا أعلمهُ فِي الأَرْض

لَيْسَ مُرَاده أَنه صعد بِبدنِهِ إِلَى السَّمَاء هَذَا لَا يَقُوله مُسلم وَهَذَا كَأَنَّهُ مَوْضُوع وَلَا يعرف لَهُ إِسْنَاد وَقد تضل بِهِ الغلاة الَّذين يَعْتَقِدُونَ نبوته فيحتجون بِهَذَا بل وَكثير من الْعَوام والنساك يَعْتَقِدُونَ فِي بعض الشُّيُوخ نَحْو هَذَا

قَالَ وَإِلَيْهِ رَجَعَ الصَّحَابَة فِي مشكلاتهم ورد عمر فِي قضايا كَثِيرَة قَالَ فِيهَا لَوْلَا عَليّ لهلك عمر

فَيُقَال مَا رَجَعَ الصَّحَابَة إِلَيْهِ فِي شَيْء من دينهم بل كَانَت النَّازِلَة تنزل فيشاور عمر عليا وَعُثْمَان وَابْن عَوْف وَابْن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت وَأَبا مُوسَى وَجَمَاعَة حَتَّى كَانَ يدْخل ابْن عَبَّاس مَعَهم مَعَ صغر سنه وَهَذَا مِمَّا أَمر الله بِهِ الْمُؤمنِينَ ومدحهم عَلَيْهِ بقوله (وَأمرهمْ شُورَى بَينهم) وَلِهَذَا كَانَ رَأْي عمر وَحكمه وسياسته من أَسد الْأُمُور وَقد أجَاب ابْن عَبَّاس عَن مشكلات أَكثر مِمَّا أجَاب عَليّ بِكَثِير لطول مدَّته وَاحْتَاجَ النَّاس إِلَى علمه وَكَانَ عمر يشاورهم مَعَ أَنه أعلم مِنْهُم وَكَثِيرًا مَا كَانُوا يرجعُونَ إِلَى قَوْله كالعمريتين والعول وَغَيرهمَا فَإِن عمر وَهُوَ أول من أجَاب فِي زوج وأبوين اَوْ امْرَأَة وأبوين بِأَن للْأُم ثلث الْبَاقِي وَاتبعهُ أكَابِر الصَّحَابَة

ص: 509

وأكابر الْفُقَهَاء كعثمان وَابْن مَسْعُود وَعلي وَزيد وَالْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وخفي قَوْله على ابْن عَبَّاس فَأعْطى الْأُم الثُّلُث وَوَافَقَهُ طَائِفَة وَقَول عمر أصوب

وقولك رد عمر فِي قضايا كَثِيرَة قَالَ فِيهَا لَوْلَا على لهلك عمر فَهَذَا لَا يعرف أَن عمر قَالَه إِلَّا فِي مَسْأَلَة وَاحِدَة إِن صَحَّ ذَلِك وَقد كَانَ عمر يَقُول نَحْو هَذَا كثيرا لمن هُوَ دون عَليّ قَالَ للْمَرْأَة الَّتِي عارضته فِي الصَدَاق رجل أَخطَأ وأصابت امْرَأَة

وَأما قَوْلك معرفَة القضايا بالإلهام بِمَعْنى أَنه من ألهم أَنه صَادِق حكم بذلك بِمُجَرَّد الإلهام فَلَا يحل الحكم بِهَذَا فِي دين الْإِسْلَام وَلَو كَانَ الإلهام طَرِيقا كَانَ الرَّسُول أَحَق من قضى بِهِ وَكَانَ الله يُوحى إِلَيْهِ من هُوَ صَاحب الْحق فَلَا يحْتَاج إِلَى بَيِّنَة

فَإِن قلت مَعْنَاهُ أَنه يلهم الحكم الشَّرْعِيّ فَهَذَا أَيْضا لَا بُد فِيهِ من دَلِيل شَرْعِي

وَقد ثَبت أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ قد كَانَ قبلكُمْ فِي الْأُمَم محدثون فَإِن يكن فِي أمتِي أحد فعمر وَمَعَ هَذَا فَلم يكن يجوز لعمر أَن يحكم بالإلهام وَلَا يعْمل بِمُجَرَّد مَا يلقِي فِي قلبه حَتَّى يعرض ذَلِك على الْكتاب وَالسّنة فَإِن وَافقه قبله وَإِن خَالفه رده

وَأما مَا ذكره من الْحُكُومَة فِي الْبَقَرَة الَّتِي قتلت حمارا فَلم يذكر لَهُ إِسْنَادًا وَلَا نعلم صِحَّته بل الْأَدِلَّة الْمَعْلُومَة تدل على إنتفائه قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم جرح العجماء جَبَّار فالحيوان من بقرة أَو شَاة أَو حمَار إِذا كَانَ يرْعَى فِي المراعي الْمُعْتَادَة فأفلتت نَهَارا من غير تَفْرِيط حَتَّى دخلت على زرع فأفسدته لم يكن على صَاحبهَا ضَمَان بِالْإِجْمَاع فَإِنَّهَا عجماء ومالكها لم يفرط

وَإِن خرجت لَيْلًا ضمن عِنْد مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد

وَذهب أَبُو حنيفَة وَابْن حزم إِلَى أَنه لَا يضمن

قَالَ وَكَانَ أَشْجَع النَّاس وبسيفه ثبتَتْ قَوَاعِد الْإِسْلَام وتشيدت أَرْكَان الْإِيمَان كشف الكروب عَن وَجه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلم يفر كَمَا فر غَيره إِلَخ

وَالْجَوَاب لَا ريب فِي شجاعته وَنَصره لِلْإِسْلَامِ وَقَتله جمَاعَة

لَكِن مَا هَذَا من خَصَائِصه بل شَاركهُ

ص: 510

فِيهِ عدَّة

وَأَشْجَع النَّاس رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَمَا ثَبت من حَدِيث أنس وَفِيه وَلَقَد فزع أهل الْمَدِينَة يَوْمًا فَانْطَلق نَاس قبل الصَّوْت فَتَلقاهُمْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رَاجعا وَقد سبقهمْ إِلَى الصَّوْت وَهُوَ على فرس لأبي طَلْحَة عرى فِي عُنُقه السَّيْف وَهُوَ يَقُول لم تراعوا

وَفِي الْمسند عَن عَليّ قَالَ كُنَّا إِذا اشْتَدَّ الْبَأْس اتقينا برَسُول الله فَيكون أقربنا إِلَى الْعَدو

والشجاعة قُوَّة الْقلب والثبات عِنْد المخاوف أَو شدَّة الْبَطْش وإحكام صناعَة الْحَرْب

وَمَعَ هَذَا فَمَا قتل النَّبِي صلى الله عليه وسلم غير أبي بن خلف

وَمن فرط شجاعته أَن أَصْحَابه انْهَزمُوا يَوْم حنين وَهُوَ رَاكب بغلة لَا تكر وَلَا تَفِر وَيقدم عَلَيْهَا إِلَى نَاحيَة الْعَدو ويسمي نَفسه وَيَقُول

(أَنا النَّبِي لَا كذب

أَنا ابْن عبد الْمطلب)

وَإِذا كَانَت الشجَاعَة الْمَطْلُوبَة من الإِمَام شجاعة الْقلب فَلَا ريب أَن أَشْجَع الصَّحَابَة أَبُو بكر فَإِنَّهُ بَاشر الْأَهْوَال الَّتِي كَانَ الرَّسُول يُبَاشِرهَا من أول الْإِسْلَام وَلم يجبن وَلَا جزع بل يقدم على المخاوف ويقي الرَّسُول بِنَفسِهِ ويجاهد بِلِسَانِهِ وَبِيَدِهِ وبماله

وَلما كَانَ مَعَ الرَّسُول فِي الْعَريش يَوْم بدر قَامَ نَبِي الله يَدْعُو ويستغيث بربه وَيَقُول اللَّهُمَّ أنْجز لي مَا وَعَدتنِي اللَّهُمَّ إِن تهْلك هَذِه الْعِصَابَة لَا تعبد فِي الأَرْض وَجعل أَبُو بكر يَقُول لَهُ يَا رَسُول الله كَفاك مُنَاشَدَتك رَبك إِنَّه سَيُنْجِزُ لَك مَا وَعدك

وَهَذَا يدل على كَمَال يقينه وثباته

وَلَا نقص على الرَّسُول فِي إستغاثته بربه بل ذَلِك كَمَال لَهُ

فالإلتفات إِلَى الْأَسْبَاب صَحَّ فِي التَّوْحِيد ومحو الْأَسْبَاب أَن تكون أسبابا تقدح فِي الْعقل والإعراض عَن الْأَسْبَاب بِالْكُلِّيَّةِ قدح فِي الشَّرْع

فعلى الرَّسُول أَن يُجَاهد وَيُقِيم الدّين بِكُل مُمكن بِنَفسِهِ وَمَاله ودعائه وتحريضه الْمُؤمنِينَ

والإستنصار بِاللَّه والإستعانة بِهِ أعظم الْجِهَاد وَأعظم أَسبَاب النَّصْر وَهُوَ مَأْمُور بذلك

وَالْقلب إِذا غَشيته الهيبة والمخافة والتضرع قد يغيب عَن شُهُود مَا يُعلمهُ

ومقام أبي بكر دون هَذَا وَهُوَ معاونة الرَّسُول والذب عَنهُ وإخباره بِأَنا واثقون بنصر الله وَالنَّظَر إِلَى جِهَة الْعَدو

ص: 511

هَل قَاتلُوا بعد وَلما مَاتَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عظمت النَّازِلَة واضطربوا إضطراب الأرشية فِي الطوى الْبَعِيدَة القعر وطاشت الْعُقُول ووقعوا فِي نُسْخَة الْقِيَامَة وَكَأَنَّهَا قِيَامَة صغرى مَأْخُوذَة من الْقِيَامَة الْكُبْرَى وارتدت الْأَعْرَاب وذلت الحماه

فَقَامَ الصّديق بقلب ثَابت الجأش قد جمع لَهُ الصَّبْر وَالْيَقِين وَأخْبرهمْ بِأَن الله اخْتَار لنَبيه مَا عِنْده وَقَالَ لَهُم من كَانَ يعبد مُحَمَّدًا فَإِن مُحَمَّد قد مَاتَ وَمن كَانَ يعبد الله فَإِن الله حَيّ لَا يَمُوت ثمَّ تَلا (وَمَا مُحَمَّد إِلَّا رَسُول قد خلت من قبله الرُّسُل أَفَإِن مَاتَ أَو قتل انقلبتم على أعقابكم وَمن يَنْقَلِب على عَقِبَيْهِ فَلَنْ يضر الله شَيْئا وسيجزي الله الشَّاكِرِينَ) فَكَأَن النَّاس لم يسمعوها

ثمَّ خطبهم فثبتهم وشجعهم وبادر إِلَى تَنْفِيذ جَيش أُسَامَة

وَأخذ فِي قتال الْمُرْتَدين مَعَ إشارتهم عَلَيْهِ بالتربص حَتَّى كَانَ عمر مَعَ فرط شجاعته يَقُول لَهُ يَا خَليفَة رَسُول الله تألف النَّاس

وَهَذَا بَاب وَاسع وَأما الْقَتْل فَلَا ريب أَن غير عَليّ من الصَّحَابَة قتل أَكثر مِنْهُ من الْكفَّار فَإِن من نظر الْمَغَازِي والسيرة وأمعن النّظر عرف ذَلِك فالبراء بن مَالك أَخُو أنس قتل مائَة رجل مبارزة سوى من شرك فِي دَمه

وَأما خَالِد بن الْوَلِيد فَلَا يُحْصى عدد من قَتله وَقد انْكَسَرَ فِي يَده يَوْم مُؤْتَة تِسْعَة أسياف

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِن لكل نَبِي حواريا وحواري الزبير

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم صَوت أبي طَلْحَة فِي الْجَيْش خير من فِئَة

وَقَالَ ابْن حزم وجدناهم يحتجون بِأَن عليا كَانَ أَكثر الصَّحَابَة جهادا وقتلا وَالْجهَاد ثَلَاثَة أَقسَام أَعْلَاهَا الدُّعَاء إِلَى الله بِاللِّسَانِ وَثَانِيها الْجِهَاد عِنْد الْيَأْس بِالرَّأْيِ وَالتَّدْبِير الثَّالِث الْجِهَاد بِالْيَدِ

فَوَجَدنَا الْجِهَاد الأول لَا يلْحق فِيهِ أحد بعد

ص: 512

النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَبَا بكر فَإِن أكَابِر الصَّحَابَة أَسْلمُوا على يَد أبي بكر

وَأما عمر فَإِنَّهُ حِين أسلم عز الْإِسْلَام قَالَ ابْن مَسْعُود مَا زلنا أعزة مُنْذُ أسلم عمر

فقد انْفَرد الشَّيْخَانِ بالجهادين اللَّذين لَا نَظِير لَهما وَلَا حَظّ لعَلي فِي هَذَا أصلا

وَأما الرَّأْي والمشورة فخالص لأبي بكر وَعمر

بَقِي الثَّالِث فَكَانَ أقل عمل الرَّسُول لَا عَن جبن وَوجدنَا عليا لم ينْفَرد بِالسَّبقِ فِيهِ بل شَاركهُ فِيهِ غَيره شركَة الْعَنَان كطلحة وَالزُّبَيْر وَسعد وَحَمْزَة وَعبيدَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب وَمصْعَب بن عُمَيْر وَسعد بن معَاذ وَسماك أبي دُجَانَة

وَوجدنَا أَبَا بكر وَعمر قد شركاه فِي ذَلِك بحظ وَإِن لم يلحقا بحظوظ هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا ذَلِك لشغلهما بالأفضل من مُلَازمَة الرَّسُول ومؤازرته وَقد بعثهما على الْبعُوث أَكثر مِمَّا بعث عليا وَمَا نعلم لعَلي بعثا إِلَّا إِلَى بعض حصون خَيْبَر ففتحه

فصل

وقولك إِنَّه بِسَيْفِهِ ثَبت قَوَاعِد الْإِسْلَام وتشيدت أَرْكَان الْإِيمَان فكذب بَين لكل من عرف أَيَّام الْإِسْلَام بل سَيْفه جُزْء من أَجزَاء كَثِيرَة جدا من أَسبَاب تثبيت قَوَاعِد الْإِسْلَام وَكثير من الوقائع الَّتِي ثَبت الله بهَا الْإِسْلَام لم يكن لسيفه فِيهَا أثر وَكَانَ سَيْفه يَوْم بدر سَيْفا من سيوف كَثِيرَة وغزوات الْقِتَال كلهَا تسع وَبعد الرَّسُول لم يشْهد حَرْب فَارس وَلَا الرّوم وَلَا شَيْئا من تِلْكَ الْمَلَاحِم المهولة

وَكَانَ نَصره فِي مغازيه تبعا لنصر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

وحروبه الْكِبَار فِي خِلَافَته الْجمل وصفين والنهروان فَكَانَ منصورا لِأَن جَيْشه كَانَ أَكثر عددا من المقاتلين لَهُ وَمَعَ ذَلِك فَمَا استظهر على أهل الشَّام بل كَانَ وهم كفرسى رهان

ص: 513

وقولك مَا انهزم قطّ فَهُوَ فِي ذَلِك كَأبي بكر وَعمر وَجَمَاعَة لم يعرف لوَاحِد مِنْهُم هزيمَة

وَإِن كَانَ قد وَقع شَيْء خَفِيف خَفِي وَلم ينْقل فَيمكن أَن عليا وَقع مِنْهُ مَا لم ينْقل يَوْم حنين وَيَوْم أحد

وقولك وطالما كشف الكروب عَن وَجه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم دَعْوَى كَاذِبَة من عِبَارَات الطرقية بل مَا علمنَا كشف كربَة وَاحِدَة بل وَلَا أَبُو بكر وَلَا عمر

نعم دفع أَبُو بكر عَنهُ لما أَرَادَ الْمُشْركُونَ أَن يضربوه ويقتلوه بِمَكَّة فحال بَينهم وَبَينه وَجعل يَقُول {أَتقْتلونَ رجلا أَن يَقُول رَبِّي الله} حَتَّى ضربوا أَبَا بكر

ووقاه طَلْحَة يَوْم أحد بِيَدِهِ حَتَّى شلت وَكَانَ يَقُول نحرى دون نحرك يَا رَسُول الله

أما أَن يكون الْمُشْركُونَ أحاطوا برَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَتَّى خلصه مِنْهُم عَليّ بِسَيْفِهِ أَو أَبُو بكر فَهَذَا لم يَقع

وَلَكِنَّك طالعت فِيمَا أَحسب الْغَزَوَات الَّتِي للْقصَاص أَو تنقلات الْأَنْوَار للبكري مِمَّا هُوَ من جنس سيرة البطال وعنترة وَأحمد الدنف وَهَذِه الأخلوقات الَّتِي يكتريها صبيان الْكتاب ليتمرنوا فِي الْقِرَاءَة ويطير النّوم عَنْهُم لفرط مَا فِيهَا من السخف والإفك

قَالَ وَفِي غَزْوَة بدر كَانَ لعَلي سبع وَعِشْرُونَ سنة فَقتل من الْمُشْركين سِتَّة وَثَلَاثِينَ رجلا وَحده وهم أَكثر من نصف المقتولين وشرك فِي البَاقِينَ

فَيُقَال هَذَا من الْكَذِب الْبَين بل قد ثَبت فِي الصَّحِيح قتل جمَاعَة لم يُشْرك على فِي قَتلهمْ مِنْهُم أَبُو جهل وَعقبَة بن أبي معيط وَعتبَة بن ربيعَة وَأبي بن خلف

ونقلوا أَن عليا قتل يؤمئذ نَحْو الْعشْرَة

قَالَ يَوْم أحد انهزم النَّاس كلهم عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَّا عليا وَرجع إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نفر أَوَّلهمْ عَاصِم بن ثَابت وَأَبُو دُجَانَة وَسَهل بن حنيف وَجَاء عُثْمَان

ص: 514

بعد ثَلَاثَة أَيَّام فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لقد ذهبت فِيهَا عريضة وتعجبت الْمَلَائِكَة من ثبات على فَقَالَ جِبْرِيل لَا سيف إِلَّا ذُو الفقار وَلَا فَتى إِلَّا على

وَقتل على أَكثر الْمُشْركين فِي هَذِه الْغُزَاة وَكَانَ الْفَتْح على يَدَيْهِ وروى قيس بن سعد عَن عَليّ قَالَ أصابني يَوْم بدر سِتّ عشرَة ضَرْبَة وَسَقَطت إِلَى الأَرْض فَجَاءَنِي رجل فأقامني

وَذكر الحَدِيث وَأَن الرجل جِبْرِيل فَيُقَال هَذَا الرجل مَا يستحي من الله وَلَا يراقبه فِي نقل هَذِه الأكاذيب الَّتِي لَا تنْفق إِلَّا على الْبَقر كَقَوْلِه وَقتل عَليّ أَكثر الْمُشْركين وَكَانَ الْفَتْح فَأَيْنَ قتل الْمُشْركين وَأَيْنَ الْفَتْح بل كَانَت غَزْوَة أحد على الْمُسلمين لَا لَهُم كَمَا قَالَ تَعَالَى (أَو لما أَصَابَتْكُم مُصِيبَة قد أصبْتُم مثليها قُلْتُمْ أَنى هَذَا قل هُوَ من عِنْد أَنفسكُم) هزم الْمُسلمُونَ الْعَدو أَولا وَكَانَ نَبِي الله قد وكل بثغر الْجَبَل الرُّمَاة وَأمرهمْ أَن لَا يبرحوا

فَلَمَّا إنهزم الْمُشْركُونَ طلبت الرُّمَاة الْغَنِيمَة فنهاهم أَمِيرهمْ عبد الله بن جُبَير فَلم يطيعوه وكر الْعَدو عَلَيْهِم من ظُهُورهمْ وَصَاح الشَّيْطَان قتل مُحَمَّد فاستشهد يَوْمئِذٍ نَحْو السّبْعين وشج النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَكسرت رباعيته وهشمت الْبَيْضَة على رَأسه وَدخلت حلقتا المغفر فِي وجنته حَتَّى قَالَ كَيفَ يفلح قوم فعلوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ وَهُوَ يَدعُوهُم إِلَى الله فَنزلت (لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم) وَلم يبْق مَعَه يؤمئذ غير إثني عشر رجلا مِنْهُم أَبُو بكر وَعمر وَطَلْحَة وَسعد وَقتل حوله جمَاعَة وَقَالَ رَئِيس الْمُشْركين اعْل هُبل اعْل هُبل

يَوْم بِيَوْم بدر

يَعْنِي أَخذنَا بالثأر

وَلم يقتل يؤمئذ من الْمُشْركين إِلَّا بضعَة عشر رجلا وَلم يجرح عَليّ يؤمئذ وَلَا أَقَامَهُ جِبْرِيل فَأَيْنَ الْإِسْنَاد بِهَذَا وَفِي أَي كتب الموضوعات هُوَ

وقولك إِن عُثْمَان جَاءَ بعد ثَلَاث كذب آخر

وقولك إِن جِبْرِيل قَالَ لَا سيف إِلَّا ذُو الفقار كذب آخر فَإِن ذَا الفقار لم يكن لعَلي بل كَانَ لأبي جهل غنمه الْمُسلمُونَ يَوْم بدر

فَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ تنفل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سَيْفه ذَا الفقار يَوْم بدر وَهُوَ الَّذِي رأى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْم أحد قَالَ رَأَيْت فِي سَيفي ذِي الفقار فَلَا فَأَوَّلْته فَلَا

ص: 515

يكون فِيكُم

وَرَأَيْت أَنِّي مردف كَبْشًا فَأَوَّلْته كَبْش الكتيبة

وَرَأَيْت أَنِّي فِي درع حَصِينَة فَأَوَّلْته الْمَدِينَة

وَرَأَيْت بقرًا تذبح فبقر وَالله خير وَالله خير

أخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه وَأحمد فِي مُسْنده

قَالَ وَفِي غزَاة الْأَحْزَاب أَقبلت قُرَيْش وَمن مَعهَا فِي عشرَة آلَاف ونزلوا من فَوق الْمُسلمين وَمن تَحْتهم

فَخرج صلى الله عليه وسلم بِالْمُسْلِمين وهم ثَلَاثَة آلَاف وَعمِلُوا الخَنْدَق وَركب عَمْرو بن عبد ود وَعِكْرِمَة بن أبي جهل ودخلا من مضيق فِي الخَنْدَق وطلبا المبارزة فَقَامَ عَليّ فَقَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِنَّه عَمْرو

فَسكت

ثمَّ طلب المبارزة ثَانِيًا وثالثا وَيقوم عَليّ فَأذن لَهُ النَّبِي صلى الله عليه وسلم

فَقَالَ يَا عَمْرو كنت عَاهَدت الله تَعَالَى أَن لَا يَدْعُوك قرشي إِلَى إِحْدَى خلتين إِلَّا أجبْت إِلَى وَاحِدَة مِنْهُمَا وَأَنا أَدْعُوك إِلَى الْإِسْلَام

قَالَ لَا حَاجَة لي بِهِ

قَالَ فأدعوك إِلَى النزال

قَالَ مَا أحب أَن أَقْتلك

ثمَّ نزل وتجاولا فَقتله عَليّ وَانْهَزَمَ عِكْرِمَة ثمَّ انهزم الْمُشْركُونَ

فَقَالَ صلى الله عليه وسلم قتل عَليّ عمرا أفضل من عبَادَة الثقلَيْن

يُقَال قد طرزت الْقِصَّة بعدة أكاذيب مِنْهَا أَنه لما قتل عمرا انْهَزمُوا وَهَذَا كذب بَارِد فَإِنَّهُم مَا انْهَزمُوا بل بقوا محاصرين الْمُسلمين حَتَّى خبب بَينهم نعيم بن مَسْعُود الْغَطَفَانِي وَأرْسل الله عَلَيْهِم الرّيح وَالْمَلَائِكَة فترحلوا (ورد الله الَّذين كفرُوا بغيظهم لم ينالوا خيرا وَكفى الله الْمُؤمنِينَ الْقِتَال)

فَتبين أَن الْمُشْركين مَا ردهم الله بِقِتَال وَلَا هَزَمَهُمْ الْمُسلمُونَ

والْحَدِيث الَّذِي روات بِهِ كذب بِيَقِين وحاشا الرَّسُول من هَذِه المجازفة أَيكُون قتل وَاحِد أفضل من عبَادَة الْإِنْس وَالْجِنّ فَمَا بَقِي لمن قتل أَبَا جهل وصناديد قُرَيْش الَّذين فعلوا بِنَبِي الله الأفاعيل

ص: 516

وَعَمْرو مَا عرف لَهُ شَرّ ينْفَرد فِي عَدَاوَة الرَّسُول

قَالَ وَفِي غزَاة بني النَّضِير قتل عَليّ رامي قبَّة النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِسَهْم وَقتل بعده عشرَة وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ

قُلْنَا وَهَذَا من الْكَذِب الْوَاضِح فَإِن بني النَّضِير هم الْيَهُود الَّذين نزلت فيهم سُورَة الْحَشْر بِالْإِجْمَاع وقصتهم قبل أحد وَكَانَ الْمُسلمُونَ قد حاصروهم وَقَطعُوا نَخْلهمْ وَلم يخرجُوا من حصونهم حَتَّى يُقَال انْهَزمُوا ثمَّ صَالحُوا على الْجلاء فأجلاهم الرَّسُول

أفما تقْرَأ السُّورَة وتتدبرها وحملوا من أَمْوَالهم مَا اسْتَقَلت بِهِ إبلهم إِلَّا السِّلَاح وَكَانَ الرجل مِنْهُم يخرب بَيته عَن نجاف بَابه فيضعه على بعيره فَخَرجُوا إِلَى خَيْبَر وَالشَّام

قَالَ وَفِي غَزْوَة السلسلة جَاءَ أَعْرَابِي فَأخْبر النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَن جمَاعَة قصدُوا أَن يكبسوا عَلَيْهِ الْمَدِينَة فَقَالَ من للوادي فَقَالَ أَبُو بكر أَنا

فَدفع إِلَيْهِ اللِّوَاء وَضم إِلَيْهِ سَبْعمِائة فَلَمَّا وصل إِلَيْهِم قَالُوا ارْجع إِلَى صَاحبك فَإنَّا فِي جمع كثير

فَرجع

فَقَالَ صلى الله عليه وسلم من للوادي فَقَالَ عمر أَنا

فَبَعثه

فَفعل كَالْأولِ

فَقَالَ فِي الْيَوْم الثَّالِث أَيْن عَليّ فَدفع إِلَيْهِ الرَّايَة فَمضى فَلَقِيَهُمْ فَقتل مِنْهُم سِتَّة أَو سَبْعَة وَانْهَزَمَ الْبَاقُونَ

وَأقسم الله بِفعل أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ (وَالْعَادِيات ضَبْحًا)

قُلْنَا وَهَذَا أَيْضا من الْبَاطِل فَلَا وجود لهَذِهِ الْغَزْوَة أصلا بل هِيَ من جنس غزاوت الطرقية الَّذين يحكون الأكاذيب الْكَثِيرَة كسيرة عنترة والبطال

وَقد إعتنى بأيام الرَّسُول صلى الله عليه وسلم عُرْوَة وَالزهْرِيّ وَابْن إِسْحَاق ومُوسَى بن عقبَة وَأَبُو معشر السندي وَاللَّيْث بن سعد وَأَبُو إِسْحَاق

ص: 517

الْفَزارِيّ والوليد بن مُسلم والواقدي وَيُونُس بن بكير وَابْن عَائِذ وأمثالهم وَمَا أَبقوا دقا وَلَا جلا وَلَا غثا وَلَا ثمينا وَمَا ذكرُوا هَذِه الْغَزْوَة وَلَا نزلت فِيهَا (وَالْعَادِيات) بل نزلت بِالْإِجْمَاع بِمَكَّة بل الْمَشْهُور عَن عَليّ فِي التفاسير أَنه قَالَ العاديات إبل الْحجَّاج وعدوها من مُزْدَلِفَة إِلَى منى

وَكَانَ ابْن عَبَّاس وَالْأَكْثَرُونَ يفسرونها بِالْخَيْلِ الَّتِي تغزو فِي سَبِيل الله

قَالَ وَقتل من بني المصطلق مَالِكًا وَابْنه وسبى كثيرا من جُمْلَتهمْ جوَيْرِية قُلْنَا هَذَا من أَخْبَار الرافضة الَّتِي لَا إِسْنَاد لَهَا

وَلَو وجد للشَّيْء من أخبارهم إِسْنَاد فإمَّا أَن تكون ظلمات ومجاهيل أَو عَن كَذَّاب أومتهم فَإِنَّهُ لم ينْقل أحد أَن عليا فعل هَذَا فِي غَزْوَة بني المصطلق وَلَا سبي جوَيْرِية بنت الْحَارِث

وَهِي لما سبيت كاتبت على نَفسهَا فَأدى عَنْهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم وعتقت من الْكِتَابَة وَأعْتق النَّاس السَّبي لأَجلهَا وَقَالُوا أَصْهَار رَسُول الله صلى الله عليه وسلم

قَالَ وغزاة خَيْبَر كَانَ الْفَتْح فِيهَا على يَده دفعت إِلَى أبي بكر فَانْهَزَمَ ثمَّ إِلَى عمر فَانْهَزَمَ وعالج عَليّ بَاب الْحصن فاقتلعه وَجعله جِسْرًا على الخَنْدَق وَكَانَ الْبَاب يغلقه عشرُون رجلا وَقَالَ صلى الله عليه وسلم مَا اقتلعه بِقُوَّة جسمانية بل بِقُوَّة ربانية

وَكَانَ فتح مَكَّة على يَدَيْهِ بواسطته

قُلْنَا لم تفتح خَيْبَر كلهَا فِي يَوْم بل كَانَت حصونا مفرقة بَعْضهَا فتح عنْوَة وَبَعضهَا صلحا

ثمَّ كتموا مَا صَالحهمْ عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فصاروا محاربين وَلم ينهزم أَبُو بكر وَلَا عمر

وَقد روى أَن عليا اقتلع الْبَاب أما كَونه يغلقه عشرُون رجلا وَأَنه جعل جِسْرًا فَلَا أصل لَهُ

وَأما فتح مَكَّة فَلَا أثر لعَلي فِيهِ أصلا إِلَّا كباقي

ص: 518

الصَّحَابَة وَالْأَحَادِيث المتوافرة فِي غَزْوَة الْفَتْح تبين هَذَا

قَالَ أَبُو هُرَيْرَة فَجعل النَّبِي صلى الله عليه وسلم خَالِد بن الْوَلِيد يؤمئذ على الميمنة وَالزُّبَيْر على الميسرة وَأَبا عُبَيْدَة على السَّاقَة وبطن الْوَادي فَقَالَ يَا أَبَا هُرَيْرَة ادْع لي الْأَنْصَار فَدَعَاهُمْ فَجَاءُوا يهرولون فَقَالَ هَل ترَوْنَ أوباش قُرَيْش قَالُوا نعم

قَالَ انْظُرُوا إِذا لقيتموهم غَدا أَن تحصدوهم حصدا وأكفأ بِيَدِهِ وَوضع يَمِينه على شِمَاله وَقَالَ مَوْعدكُمْ الصَّفَا

قَالَ فَمَا أشرف لَهُم يَوْمئِذٍ أحد إِلَّا أناموه

قَالَ فَصَعدَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الصَّفَا وَجَاءَت الْأَنْصَار فأطافوا بالصفا فجَاء أَبُو سُفْيَان فَقَالَ يَا رَسُول الله أبيدت خضراء قُرَيْش لَا قُرَيْش بعد الْيَوْم فَقَالَ من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن وَمن ألْقى السِّلَاح فَهُوَ آمن وَمن أغلق عَلَيْهِ بَابه فَهُوَ آمن

مُتَّفق عَلَيْهِ

قَالَ وَيَوْم حنين خرج رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي عشرَة آلَاف فعانهم أَبُو بكر وَقَالَ لن نغلب الْيَوْم من كَثْرَة فَانْهَزَمُوا وَلم يبْق مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِلَّا تِسْعَة من بني هَاشم وَابْن أم أَيمن وَكَانَ عَليّ بَين يَدَيْهِ فَقتل من الْمُشْركين أَرْبَعِينَ وانهزموا

قُلْنَا هَذَا كذب مفترى فَهَذِهِ المسانيد وَالسير والتفاسير مَا ذكر فِيهَا أَن أَبَا بكر عانهم

وَاللَّفْظ الَّذِي قَالَه بعض الْمُسلمين لن نغلب بعد الْيَوْم من قلَّة لم يقل من كَثْرَة وقولك بَقِي مَعَه تِسْعَة بَاطِل بل قَالَ ابْن إِسْحَاق بَقِي مَعَه نفر من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَأهل بَيته فَثَبت مَعَه أَبُو بكر وَعمر وَعلي وَالْعَبَّاس وَأَبُو سُفْيَان وَرَبِيعَة ابْنا الْحَارِث وَأُسَامَة وأيمن

وقولك إِن عليا قتل بَين يَدَيْهِ أَرْبَعِينَ كذب مَا قَالَ هَذَا أحد يعْتد بِهِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث الْبَراء أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم نزل يَوْمئِذٍ عَن بغلته ودعا واستنصر وَهُوَ يَقُول

(أَنا النَّبِي لَا كذب

أَنا أبن عبد الْمطلب)

ص: 519

اللَّهُمَّ أنزل نصرك

قَالَ الْبَراء وَكُنَّا إِذا احمر الْبَأْس نتقي بِهِ وَكَانَ الشجاع منا الَّذِي يحاذيه يَعْنِي النَّبِي صلى الله عليه وسلم

وَلمُسلم من حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع قَالَ لما غشوا النَّبِي صلى الله عليه وسلم نزل ثمَّ قبض قَبْضَة من التُّرَاب واستقبل بِهِ وُجُوههم فَقَالَ شَاهَت الْوُجُوه فَمَا خلق الله مِنْهُم إنْسَانا إِلَّا مَلأ عَيْنَيْهِ تُرَابا بِتِلْكَ القبضة فَوَلوا مُدبرين

فصل

قَالَ الْخَامِس إخْبَاره بِالْغَيْبِ والكائن قبل كَونه أخبر أَن طَلْحَة وَالزُّبَيْر لما استأذنا فِي الإعتمار قَالَ مَا تريدان الْعمرَة وَإِنَّمَا تريدان الْبَصْرَة

وَكَانَ كَمَا قَالَ

وَأخْبر وَهُوَ جَالس بِذِي قار يُبَايع يأتيكم من قبل الْكُوفَة ألف رجل لَا يزِيدُونَ وَلَا ينقصُونَ يبايعونني على الْمَوْت

فَكَانَ كَذَلِك آخِرهم أويس الْقَرنِي

وَأخْبر بقتل ذِي الثدية

وَأخْبر بقتل نَفسه الشَّرِيفَة

وَأخْبر ابْن شهريار اللعين بِقطع أربعته وصلبه فَفعل بِهِ مُعَاوِيَة ذَلِك

وَأخْبر ميئم التمار بِأَنَّهُ يصلب عَاشر عشرَة وَأرَاهُ النَّخْلَة الَّتِي يصلب عَلَيْهَا فَوَقع كَذَلِك

وَأخْبر رشيدا الهجري بصلبه فصلب

وَأَن الْحجَّاج يقتل كميل بن زِيَاد

وَأَن قنبرا يذبحه الْحجَّاج فَوَقع

فَقَالَ للبراء

ص: 520

ابْن عَازِب إِن ابْني الْحُسَيْن يقتل وَلَا تنصره فَكَانَ كَذَلِك

وَأخْبر بِملك بني الْعَبَّاس يسر لَا عسر فِيهِ لَو اجْتمع عَلَيْهِم التّرْك والديلم والسند والهند على أَن يزيلوا ملكهم لما قدرُوا حَتَّى يشذ عَنْهُم مواليهم وأرباب دولتهم ويسلط عَلَيْهِم ملك من التّرْك يَأْتِي عَلَيْهِم من حَيْثُ بَدَأَ ملكهم لَا يمر بِمَدِينَة إِلَّا فتحهَا وَلَا ترفع لحربه راية إِلَّا نكسها الويل ثمَّ الويل لمن ناوأه فَلَا يزَال كَذَلِك حَتَّى يظفر ثمَّ يدْفع ظفره إِلَى رجل من عِتْرَتِي يَقُول بِالْحَقِّ وَيعْمل بِهِ

وَكَانَ الْأَمر كَذَلِك حَيْثُ ظهر هلاكو من نَاحيَة خُرَاسَان

فَيُقَال أما الْإِخْبَار بِبَعْض المغيبات فَيَقَع مِمَّن هُوَ دون عَليّ من الصلحاء وَغَيرهم مِمَّن لَا يصلح للْإِمَامَة وَأَبُو هُرَيْرَة وَحُذَيْفَة وَغَيرهمَا كَانُوا يحدثُونَ بأضعاف ذَلِك وَأَبُو هُرَيْرَة بِسَنَدِهِ وَحُذَيْفَة يسْندهُ مرّة وَتارَة لَا يسْندهُ فَمَا أخبر بِهِ هُوَ أَو غَيره قد يكون مِمَّا سَمعه من الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قد يكون مِمَّا كوشف بِهِ عَليّ وَعمر

وَفِي الزّهْد لِأَحْمَد بن حَنْبَل والحلية لأبي نعيم وكرامات الْأَوْلِيَاء لإبن أبي الدُّنْيَا والخلال واللالكائي جملَة من ذَلِك عَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَمن بعدهمْ

وَمَا أوردهُ عَن

ص: 521

عَليّ فَلَا نسلم صِحَّته وَمِنْه مَا يعرف كذبه فَإِن هلاكو مَا دفع ظفره إِلَى علوي وَمِمَّا يبين أَن عليا مَا كَانَ يعلم المستقبلات أَنه كَانَ فِي خِلَافَته وحروبه يظنّ أَشْيَاء فيتبين لَهُ الْأَمر بِخِلَاف ظَنّه فَلَو عرف أَنه يجْرِي مَا جرى من قتل النَّاس وَلم يحصل الْمَقْصُود لما قَاتل فَإِنَّهُ كَانَ لَو لم يُقَاتل أعز وأنصر

وَلَو علم أَنه إِذا حكم الْحكمَيْنِ يحكمان بِمَا حكما بِهِ لم يحكمهما فَأَيْنَ علمه بالكوائن بعده وَأَيْنَ كشفه الكرب عَن وَجه الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بِسَيْفِهِ حَتَّى ثَبت قَوَاعِد الدّين وَهُوَ مَعَ جَيْشه الَّذين هم تسعون ألفا لم يظفر بِمُعَاوِيَة بل الرافصة تَدعِي فِيهِ الشَّيْء ونقيضه فتغلو فِيهِ حَتَّى يَقُولُوا بعصمته وَأَنه لَا يَقع مِنْهُ سَهْو وَأَنه يعلم المغيبات وَمَا يقنعون لَهُ بِمَا أعطَاهُ الله من الشجَاعَة حَتَّى يحملوه مَا لَا يطيقه بشر وَلَا يقبله عقل عَاقل بإفتراء الطرقية ثمَّ يذكرُونَ عَجزه عَن مقاومة أبي بكر مَعَ عدم مَال أبي بكر وَقلة رِجَاله وَكَذَلِكَ فَلْيَكُن التَّنَاقُض وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى (هُوَ الَّذِي أيدك بنصره وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَألف بَين قُلُوبهم) فأيده الله بِالْمُؤْمِنِينَ كلهم عَليّ وَغَيره

وَمِمَّا يبين أَنه لم يكن يعلم المستقبلات قَوْله

(لقد عجزت عجزة لَا أعْتَذر

سَوف أَكيس بعْدهَا وأستمر)

(وَأجْمع الرَّأْي الشتيت الْمُنْتَشِر

)

وَكَانَ يَقُول ليَالِي صفّين يَا حسن مَا ظن أَبوك أَن الْأَمر يبلغ هَذَا لله در مقَام قامه سعد بن مَالك وَعبد الله بن عمر إِن كَانَ برا إِن أجره لعَظيم وَإِن كَانَ إِثْمًا إِن خطره ليسير

وتواتر عَنهُ أَنه كَانَ يتململ من إختلاف أَصْحَابه ورعيته عَلَيْهِ

وَقد دلّ الْوَاقِع على أَن رَأْي وَلَده حسن من ترك الْقِتَال كَانَ أَجود وأنفع للْأمة

وَقد قعد عَن الْقِتَال

ص: 522

مثل سعد وَسَعِيد وَابْن عمر وَمُحَمّد بن مسلمة وَزيد بن ثَابت وَعمْرَان بن حُصَيْن وَجَمَاعَة ودلتهم النُّصُوص على الْقعُود ثَبت أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ سَتَكُون فتْنَة الْقَاعِد فِيهَا خير من الْقَائِم

وَلَكِن ليقضي الله أمرا كَانَ مَفْعُولا

مَعَ أَن عليا لم يكفر أحدا مِمَّن قَاتله حَتَّى الْخَوَارِج الَّذين كفروه وَلَا سبى لَهُم ذُرِّيَّة

وَكَانَ يترضى عَن طَلْحَة وَالزُّبَيْر وَيَدْعُو على مُعَاوِيَة وَعَمْرو من غير أَن يكفرهما

فصل قَالَ السَّادِس أَنه كَانَ مستجاب الدُّعَاء دَعَا على بشر بن أَرْطَأَة أَن يسلبه الله عقله فخولط ودعا على الْعيزَار بالعمى فَعمى ودعا على أنس لما كتم شَهَادَته بالبرص فبرص وعَلى زيد بن أَرقم بالعمى فَعمى

قُلْنَا هَذَا مَوْجُود فِي الصَّحَابَة وَالصَّالِحِينَ فَلَا يُنكر لعَلي

وَكَانَ سعد بن أبي وَقاص لَا تخطيء لَهُ دَعْوَة لِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم دَعَا لَهُ اللَّهُمَّ سدد رميته وَاجِب دَعوته

والبراء بن مَالك كَانَ يقسم على الله فيبر قسمه كَمَا فِي الصَّحِيح إِن من عباد الله من لَو أقسم على الله لَأَبَره مِنْهُم الْبَراء بن مَالك وَقد بارز مائَة مبارزة

والْعَلَاء بن الْحَضْرَمِيّ نَائِب رَسُول الله ثمَّ نَائِب أبي بكر على الْبَحْرين مَشْهُور بإجابة الدُّعَاء

قَالَ وروى الْجُمْهُور أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لما خرج إِلَى بني المصطلق فَنزل بِقرب وَاد وعر وَهَبَطَ جِبْرِيل وَأخْبرهُ أَن طَائِفَة من كفار الْجِنّ قد إستنبطوا الْوَادي يُرِيدُونَ كَيده فَدَعَا بعلي وَأمره بنزول الْوَادي فَقَتلهُمْ

فَيُقَال عَليّ أعظم من هَذَا

وإهلاك الْجِنّ لمن هُوَ دونه

لَكِن هَذَا من الأكاذيب الْمَعْلُومَة بِالضَّرُورَةِ وَلم يُقَاتل أحد من الْإِنْس الْجِنّ وَهُوَ من جنس قِتَاله للجن ببئر ذَات الْعلم وَهَذِه الموضوعات لَا تروج علينا

ص: 523

نعم تروج عَليّ إخوانك أهل الجرد وجزين وَعلي أرفع قدرا من أَن تثبت لَهُ الْجِنّ وَقد سَأَلَ شيعي الْمُحدث أَبَا الْبَقَاء خَالِد بن يُوسُف النابلسي عَن قتال عَليّ الْجِنّ فَقَالَ أَنْتُم معشر الشِّيعَة أما لكم عقل أَيّمَا أفضل عنْدكُمْ عمر أَو عَليّ قَالَ بل عَليّ

فَقَالَ إِذا كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول لعمر مَا رآك الشَّيْطَان سالكا فجا إِلَّا سلك فجا غير فجك فَإِذا كَانَ الشَّيْطَان يهرب من عمر فَكيف يُقَاتل بنوه عليا وَقد روى ابْن الْجَوْزِيّ فِي الموضوعات حَدِيثا طَويلا فِي محاربته الْجِنّ وَأَنه كَانَ عَام الْحُدَيْبِيَة وَأَنه حاربهم ببئر ذَات الْعلم من طَرِيق مُحَمَّد بن أَحْمد الْمُفِيد أخبرنَا مُحَمَّد بن جَعْفَر السامر حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد السكونِي حَدثنَا عمَارَة بن يزِيد حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن سعد عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق حَدثنِي يحيى بن عبيد الله بن الْحَارِث عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس قَالَ لما توجه رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّة عَام الْحُدَيْبِيَة أصَاب النَّاس عَطش وحر فَنزل الْجحْفَة فَقَالَ من يمْضِي فِي نفر بِالْقربِ فيردون بِئْر ذَات الْعلم وأضمن لَهُم الْجنَّة

فَذكر حَدِيثا طَويلا فِيهِ أَنه بعث رجلا فَفَزعَ من الْجِنّ وَرجع ثمَّ آخر فَرجع ثمَّ أرسل عليا فَنزل الْبِئْر وملأ الْقرب بعد هول شَدِيد وَأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ الَّذِي هتف بك من الْجِنّ هُوَ سَمَّاعَة بن غراب الَّذِي قتل عَدو الله مسعرا شَيْطَان أصنام قُرَيْش

قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَهَذَا مَوْضُوع

والمفيد وَمُحَمّد بن جَعْفَر والسكوني مجروحون

قَالَ أَبُو الْفَتْح الْأَزْدِيّ وَعمارَة يضع الحَدِيث

فصل

قَالَ وَرُجُوع الشَّمْس لَهُ مرَّتَيْنِ إِحْدَاهمَا فِي زمن النَّبِي صلى الله عليه وسلم

روى جَابر

ص: 524

وَأَبُو سعيد أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم نزل عَلَيْهِ جِبْرِيل يناجيه وتوسد فَخذ عَليّ فَلم يرفع رَأسه حَتَّى غَابَتْ الشَّمْس فصلى عَليّ الْعَصْر إِيمَاء فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نَبِي الله قَالَ لَهُ سل الله يرد عَلَيْك الشَّمْس لتصلي الْعَصْر قَائِما فَدَعَا فَردَّتْ الشَّمْس وَصلى

وَأما الثَّانِيَة فَلَمَّا أَرَادَ أَن يعبر الْفُرَات بِبَابِل إشتغل كثير من أَصْحَابه بِبَعْض دوابهم وَصلى لنَفسِهِ فِي طَائِفَة من أَصْحَابه الْعَصْر وَفَاتَ كثيرا مِنْهُم فتكلموا فِي ذَلِك فَسَأَلَ الله رد الشَّمْس فَردَّتْ

ونظمه السَّيِّد الْحِمْيَرِي فَقَالَ

(ردَّتْ عَلَيْهِ الشَّمْس لما فَاتَهُ

وَقت الصَّلَاة وَقد دنت للمغرب)

(حَتَّى تبلج نورها فِي وَقتهَا

للعصر ثمَّ هوت هوى الْكَوْكَب)

(وَعَلِيهِ قد ردَّتْ بِبَابِل مرّة

أُخْرَى وَمَا ردَّتْ لخلق مغرب)

قُلْنَا علمنَا اليقيني بِفضل عَليّ لَا يحْتَاج مَعَه إِلَى هَذَا الْكَذِب

فَأَما رد الشَّمْس لَهُ فِي زمن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فقد ذكره طَائِفَة بِلَفْظ آخر كالطحاوي وَالْقَاضِي عِيَاض وَغَيرهمَا وعدوا ذَلِك من معجزات الرَّسُول صلى الله عليه وسلم

لَكِن الحذاق يعلمُونَ أَن هَذَا لم يكن

والْحَدِيث فِي ذَلِك ذكره ابْن الْجَوْزِيّ فِي الموضوعات من طَرِيق عبيد الله بن مُوسَى عَن فُضَيْل ابْن مَرْزُوق عَن إِبْرَاهِيم بن الْحسن عَن فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن عَن أَسمَاء بنت عُمَيْس قَالَت كَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يُوحى إِلَيْهِ وَرَأسه فِي حجر عَليّ فَلم يصل الْعَصْر حَتَّى غربت الشَّمْس فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ إِنَّه كَانَ فِي طَاعَتك وَطَاعَة رَسُولك فاردد عَلَيْهِ الشَّمْس

قَالَت أَسمَاء فرأيتها غربت ثمَّ رَأَيْتهَا طلعت بعد مَا غربت

قَالَ أَبُو الْفرج بن الْجَوْزِيّ وَهَذَا مَوْضُوع بِلَا شكّ وَقد إضطربوا فِيهِ فَرَوَاهُ سعيد بن مَسْعُود الْمروزِي عَن عبيد الله ابْن مُوسَى عَن فُضَيْل عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن دِينَار عَن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن فَاطِمَة بنت الْحُسَيْن عَن أَسمَاء نَحوه

وفضيل بن مَرْزُوق ضعفه يحيى وَقَالَ أَبُو حَاتِم بن حبَان يروي الموضوعات ويخطيء على الثِّقَات

قَالَ أَبُو الْفرج وَهَذَا الحَدِيث مَدَاره على عبيد الله بن مُوسَى عَنهُ

وَعَن ابْن عقدَة أخبرنَا أَحْمد بن يحيى الصُّوفِي حَدثنَا عبد الرَّحْمَن

ص: 525

ابْن شريك حَدثنِي أبي عَن عُرْوَة بن عبد الله بن قُشَيْر قَالَ دخلت على فَاطِمَة بنت عَليّ بن أبي طَالب فَحَدثني أَن عليا

وَذكر حَدِيث رُجُوع الشَّمْس

قَالَ أَبُو الْفرج وَهَذَا بَاطِل أما ابْن شريك فَقَالَ أَبُو حَاتِم واهي الحَدِيث وَأَنا لَا أتهم بِهَذَا الإ ابْن عقدَة فَإِنَّهُ كَانَ رَافِضِيًّا يحدث بمثالب الصَّحَابَة قَالَ ابْن عدي سَمِعت أَبَا بكر بن أبي غَالب يَقُول ابْن عقدَة لَا يتدين بِالْحَدِيثِ كَانَ يحمل شُيُوخًا بِالْكُوفَةِ على الْكَذِب يُسَوِّي لَهُم نسخا وَيَأْمُرهُمْ أَن يرووها

وَسُئِلَ الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ فَقَالَ رجل سوء

وَقد روى دَاوُد بن فَرَاهِيجَ عَن أبي هُرَيْرَة وَدَاوُد ضعفه شُعْبَة

قلت لم يَصح أَن دَاوُد حدث بِهِ رَوَاهُ يزِيد النَّوْفَلِي عَنهُ وَهُوَ واه وَعَن يزِيد ابْنه يحيى وَهُوَ ضَعِيف

فَإِن قيل فِي الصَّحِيحَيْنِ رد الشَّمْس لبَعض الْأَنْبِيَاء قُلْنَا مَا ردَّتْ لَهُ وَلَكِن

ص: 526

تَأَخّر غُرُوبهَا وبورك لَهُ فِي النَّهَار وَطول النَّهَار وقصره قد يختفي وَإِنَّمَا علمنَا وقوفها ليوشع صلى الله عليه وسلم بِالنَّصِّ فَإِن ثَبت نَص قُلْنَا بِهِ فَلَا مَانع من ذَلِك لَكِن الشَّأْن هَل وَقع الْحَادِث الْعَظِيم أَن الشَّمْس غربت ثمَّ طلعت وَمَا نَقله أهل التَّوَاتُر كَمَا نقلوا إنشقاق الْقَمَر ونطق بِهِ الْقُرْآن

ثمَّ إِن يُوشَع كَانَ مُحْتَاجا إِلَى ذَلِك لِأَن الْقِتَال كَانَ محرما عَلَيْهِ بعد الْغُرُوب لأجل مَا حرم الله عَلَيْهِم من الْعَمَل لَيْلَة السبت وَأما أمتنَا فَلَا حَاجَة بهم إِلَى ذَلِك فَإِن الَّذِي فَاتَتْهُ الْعَصْر إِن كَانَ مفرطا لم يسْقط ذَنبه إِلَّا بِالتَّوْبَةِ وَمَعَهَا يَسْتَغْنِي عَن رد الشَّمْس وَإِن لم يكن مفرطا كالنائم وَالنَّاسِي فَلَا ملام عَلَيْهِ فِي صلَاتهَا بعد الْغُرُوب

ثمَّ نفس غرُوب الشَّمْس يخرج الْوَقْت الْمَضْرُوب للصَّلَاة فالمصلى بعد ذَلِك لَا يكون مُصَليا فِي الْوَقْت

وَلَو عَادَتْ وطلعت بعد غُرُوبهَا حصل بغروبها إفطار الصَّائِم وَصَلَاة الْمُسلمين الْمغرب

فَبعد طُلُوعهَا أيبطل صَوْم الصَّائِم وَصلَاته وَهَذَا تَقْدِير مَا لم يُوجد

وَهَذَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَقد فَاتَتْهُ الْعَصْر يَوْم الخَنْدَق وصلاها قَضَاء هُوَ وَكثير من أَصْحَابه وَمَا سَأَلَ الله أَن يرد لَهُ الشَّمْس وَقد دَعَا على من شغله عَنْهَا وتألم لذَلِك

فَإِن كَانَت الشَّمْس احْتَجَبت قبيل الْغُرُوب بغيم ثمَّ انكشفت فَيمكن فلعلهم ظنُّوا أَنَّهَا غربت ثمَّ كشفت الْغَمَام عَنْهَا

وَلِهَذَا الْخَبَر إِسْنَاد آخر رَوَاهُ جمَاعَة عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن أبي فديك أخبرنَا مُحَمَّد بن مُوسَى القطري عَن عون بن مُحَمَّد عَن أمه أم جَعْفَر عَن جدَّتهَا أَسمَاء بنت عُمَيْس أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وضع رَأسه فِي حجر عَليّ فَلم يحركه حَتَّى غَابَتْ الشَّمْس فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ص: 527

اللَّهُمَّ إِن عَبدك عليا احتسب نَفسه على نبيه فَرد عَلَيْهِ شرقها

قَالَت أَسمَاء فطلعت حَتَّى وقفت على الْجبَال وَالْأَرْض فَقَامَ عَليّ فَتَوَضَّأ وَصلى الْعَصْر ثمَّ غَابَتْ الشَّمْس وَذَلِكَ بالصهباء فِي غَزْوَة خَيْبَر

عون بن مُحَمَّد هُوَ ابْن الحنيفة وَأمه هِيَ ابْنة مُحَمَّد بن جَعْفَر بن أبي طَالب

والخبرمنكر

وَعون وَأمه ليسَا مِمَّن يعرف حفظهم وعدالتهم وَلَا من المعروفين بِنَقْل الْعلم وَلَا يحْتَج بِحَدِيثِهِمْ فِي أَهْون الْأَشْيَاء فَكيف فِي مثل هَذَا وَلَا فِيهِ سَماع الْمَرْأَة من أَسمَاء بنت عُمَيْس فلعلها سَمِعت من يحكيه عَن أَسمَاء فَذَكرته

وَهَذَا المُصَنّف ذكر عَن ابْن أبي فديك أَنه ثِقَة وَعَن القطري أَنه ثِقَة وَلم يُمكنهُ أَن يذكر عَمَّن بعدهمَا أَنه ثِقَة وَإِنَّمَا ذكر أنسابهم وَمُجَرَّد الْمعرفَة بِنسَب الرجل لَا توجب أَن يكون حَافِظًا ثِقَة

قلت وَلَفظ ابْن المطهر من أَن عليا صلاهَا للْوَقْت مَا علمت أحدا رَوَاهُ

وَأما رد الشَّمْس لعَلي بِبَابِل فَهَذَا من أباطيل الرافضة

قَالَ وَزَاد المَاء بِالْكُوفَةِ وخافوا الْغَرق فَركب عَليّ بغلة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَالنَّاس مَعَه فَنزل عَليّ على شاطيء الْفُرَات فصلى ودعا وَضرب صفحة المَاء بقضيب فغاض المَاء وَسلم عَلَيْهِ كثير من الْحيتَان وَلم ينْطق الجزي فَسئلَ عَن ذَلِك فَقَالَ أنطق الله لي مَا طهر من السّمك وأصمت مَا أخرسه وأنجسه وأبعده

قُلْنَا أَيْن إِسْنَاد هَذَا وَإِلَّا فمجرد الحكايات يقدر عَلَيْهِ كل أحد وَلَا يَعْنِي شَيْئا

ثمَّ هُوَ بَاطِل وَلَو وَقع لتوفرت الدَّوَاعِي والهمم على نَقله

ثمَّ السّمك كُله طَاهِر مُبَاح اجْمَعُوا على حلّه فَكيف يُقَال إِن

ص: 528

الله أنجسه أفنحرم مَا احل الله بِمثل هَذِه الخرافة ونقول نطق السّمك لَيْسَ هُوَ مَقْدُورًا لَهُ عَادَة بل من الخوارق فَالله أنطق مَا أنطق مِنْهُ بقدرته وَمَا بَقِي فعلى الأَصْل أَن لَو كَانَ ذَلِك وَقع فَأَي ذَنْب للسمك وَقد قُلْنَا إِن عليا أجل قدرا من أَن يحْتَاج إِلَى هَذِه الموضوعات

قَالَ وروى جمَاعَة أَن عليا كَانَ يخْطب على مِنْبَر الْكُوفَة فَظهر ثعبان فرقي الْمِنْبَر وَخَافَ النَّاس وَأَرَادُوا قَتله فَمَنعهُمْ عَليّ فخاطبه ثمَّ نزل فَسَأَلَ النَّاس عَنهُ عليا فَقَالَ هُوَ حَاكم الْجِنّ التبست عَلَيْهِ مَسْأَلَة فأوضحتها لَهُ

وَكَانَ أهل الْكُوفَة يسمون الْبَاب الَّذِي دخل مِنْهُ بَاب الثعبان فَأَرَادَ بَنو أُميَّة إطفاء هَذِه الْفَضِيلَة فنصبوا على ذَلِك الْبَاب قَتْلَى كَثِيرَة مُدَّة طَوِيلَة حَتَّى سمي بَاب الْقَتْلَى

فَيُقَال من هُوَ دون عَليّ تحْتَاج الْجِنّ إِلَيْهِ وتستفتيه وَهَذَا مَعْلُوم قَدِيما وحديثا

فَإِن كَانَ هَذَا وَقع فقدره أجل من ذَلِك وَإِن لم يكن وَقع لم ينقص فَضله بذلك وَلَكِن أئمتك الْمُعْتَزلَة تنكر كرامات الْأَوْلِيَاء وَمن جحد وُقُوعهَا من صالحي الْأمة فقد كَابر

وَلَكِن أكْرم النَّاس عِنْد الله أَتْقَاهُم وَإِن لم تقع لَهُ كَرَامَة

قَالَ والفضائل إِمَّا نفسانية أَو بدنية أَو خارجية

وأمير الْمُؤمنِينَ جمع الْكل فَجمع الزّهْد وَالْعلم وَالْحكمَة فَهَذِهِ النفسانية

وَجمع الْعِبَادَة والشجاعة وَالصَّدَََقَة فَهَذِهِ الْبَدَنِيَّة

وَأما الخارجية كالنسب فَلم يلْحق فِيهِ وَتزَوج بابنة سيد الْبشر سيدة نسَاء الْعَالمين

وَقد روى أَخطب خوارزم بِإِسْنَادِهِ على جَابر قَالَ لما تزوج عَليّ فَاطِمَة زوجه الله إِيَّاهَا من فَوق سبع سماوات وَكَانَ الْخَاطِب جِبْرِيل وَالشُّهُود مِيكَائِيل وإسرافيل فِي سبعين ألفا فَأوحى إِلَى شَجَرَة طوبي انثري مَا فِيك من الدّرّ والجوهر فَفعلت والتقطه الْحور الْعين

قُلْنَا الْأُمُور الْخَارِجَة عَن نفس الْإِيمَان وَالتَّقوى لَا يحصل بهَا فضل عِنْد

ص: 529

الله بمجردها

قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَلا لَا فضل لعربي على عجمي إِلَّا بالتقوى

وَسُئِلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن أكْرم النَّاس قَالَ أَتْقَاهُم قيل لَيْسَ عَن هَذَا نَسْأَلك فَقَالَ يُوسُف نَبِي الله ابْن نَبِي الله ابْن نَبِي الله خَلِيل الله

فإبراهيم أكْرم على الله من يُوسُف وَأَيْنَ مَا بَين أبويهما فَلَيْسَ فِي بني آدم من حَيْثُ النّسَب مثل يُوسُف وَإِذا فَرضنَا إثنين أَحدهمَا أَبوهُ نَبِي وَالْآخر أَبوهُ كَافِر وتساويا فِي التَّقْوَى وَالطَّاعَة من كل وَجه كَانَت درجتهما فِي الْجنَّة سَوَاء

وَلَكِن أَحْكَام الدُّنْيَا بِخِلَاف ذَلِك فِي الْإِمَامَة والزوجية والشرف وَتَحْرِيم الصَّدَقَة وَنَحْو ذَلِك

وَالْخَيْر فِي الْأَشْرَاف أَكثر مِنْهُ فِي الْأَطْرَاف قَالَ الله تَعَالَى (إِن الله اصْطفى آدم ونوحا وَآل إِبْرَاهِيم وَآل عمرَان على الْعَالمين) وَقد قَالَ أَيْضا (وَلَقَد أرسلنَا نوحًا وَإِبْرَاهِيم وَجَعَلنَا فِي ذريتهما النُّبُوَّة وَالْكتاب فَمنهمْ مهتد وَكثير مِنْهُم فَاسِقُونَ) وَقَالَ (إِنَّه لَيْسَ من أهلك إِنَّه عمل غير صَالح) كَمَا أَنْت رَاء فِي العلوية العَبْد الصَّالح والمسرف على نَفسه

دَعْنَا من ذَا أما هَؤُلَاءِ الْيَهُود المغضوب عَلَيْهِم من أَوْلَاد الْأَنْبِيَاء قَالَ الله تَعَالَى (واخشوا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِد عَن وَلَده وَلَا مَوْلُود هُوَ جَازَ عَن وَالِده شَيْئا إِن وعد الله حق)

وَنحن إِذا قُلْنَا الْعَرَب أفضل من الْعَجم فلكثرة مَا فِي الصِّنْف من الْخَيْر وَالتَّقوى والمحاسن الَّتِي هِيَ فيهم أَكثر مِنْهَا فِي غَيرهم

وَعَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره قَالَ لَا فضل لعربي على عجمي وَلَا لعجمي على عَرَبِيّ وَلَا لأبيض على أسود وَلَا لأسود على أَبيض إِلَّا بالتقوى

النَّاس من آدم وآدَم من تُرَاب

وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إِن الله قد أذهب عَنْكُم عبِّيَّة الْجَاهِلِيَّة وَفَخْرهَا بِالْآبَاءِ

النَّاس رجلَانِ مُؤمن تَقِيّ وَفَاجِر شقي

وَنحن لَا ننازع أَن عليا فِي الدرجَة الْعليا من الْكَمَال وَإِنَّمَا النزاع فِي أَنه أكمل من الثَّلَاثَة وأحق بِالْإِمَامَةِ مِنْهُم

وَلَيْسَ فِيمَا ذكره مَا يدل على ذَلِك

وَهَذَا

ص: 530

الْبَاب للنَّاس فِي طَرِيقَانِ مِنْهُم من يَقُول إِن تَفْضِيل بعض الْأَشْخَاص على بعض عِنْد الله لَا يعلم إِلَّا بالتوقيف فَإِن حقائق مَا فِي الْقُلُوب ومراتبها عِنْد الله مِمَّا اسْتَأْثر الله بِهِ فَلَا يعلم ذَلِك إِلَّا بِخَبَر الصَّادِق وَمِنْهُم من يَقُول قد يعلم ذَلِك بالإستدلال وَأهل السّنة يَقُولُونَ إِن كلا من الطَّرِيقَيْنِ إِذا أعطي حَقه من السلوك دلّ على أَن كلا من الثَّلَاثَة أكمل من عَليّ أما الطَّرِيق التوقيفي فالنص وَالْإِجْمَاع وَالْإِجْمَاع على أَفضَلِيَّة أبي بكر وَعمر اتّفقت عَلَيْهِ الْأمة سواكم والتوقيف فقد مر عدَّة نُصُوص بذلك وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر الَّذِي هُوَ أصدق من برأَ الله فِي زَمَانه أَنه قَالَ كُنَّا نقُول وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم حَيّ أفضل الْأمة بعد النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَبُو بكر ثمَّ وَعمر وَفِي لفظ ثمَّ يبلغ ذَلِك النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَلَا يُنكره

وَأما عُثْمَان فَقَالَ جمَاعَة من الْعلمَاء كَانَ عُثْمَان أعلم بِالْقُرْآنِ من عَليّ وَعلي أعلم بِالسنةِ

وَعُثْمَان أعظم جهادا بِمَالِه وَعلي اعظم جهادا بِنَفسِهِ

وَعُثْمَان أزهد فِي الرياسة وَعلي أزهد فِي المَال

وسيرة عُثْمَان أرجح وَهُوَ أسن من عَليّ ببضع وَعشْرين سنة وأجمت الصَّحَابَة على تَقْدِيمه على عَليّ فَثَبت أَنه أفضل

قَالُوا عَليّ أفضل لِقَرَابَتِهِ قُلْنَا حَمْزَة من أكبر السَّابِقين وَهُوَ أقرب نسبا وروى أَنه سيد الشُّهَدَاء فَيكون أفضل

قَالُوا فِي عُثْمَان فعل وَفعل وَولي أَقَاربه وأسرف فِي الْعَطاء قُلْنَا إجتهاد عُثْمَان فِي ذَلِك أقرب إِلَى الْمصلحَة فَإِن الْأَمْوَال أخف خطرا من الدِّمَاء فَلهَذَا كَانَت خِلَافَته هادئة سَاكِنة كَثِيرَة الْجِهَاد والفتوحات الْكِبَار كَثِيرَة الْفَيْء وَلكنهَا لَا تقَارب خلَافَة من قبله

وَالَّذين خَرجُوا عَلَيْهِ فسقوه وَالَّذين خَرجُوا على عَليّ كفروه وَلَا خير فِي الطَّائِفَتَيْنِ

ص: 531