الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيعَته إثنان وَلَا تخلف عَنْهَا أحد كَمَا تخلف شطر النَّاس عَن بيعَة غَيره
فَمن الَّذِي اجْتمع على قتل عُثْمَان هَل هم إِلَّا طَائِفَة من أولي الشَّرّ وَالظُّلم وَلَا دخل فِي قَتله أحد من السَّابِقين
بل الَّذين قَاتلُوا عليا وأنكروا عَلَيْهِ أَضْعَاف أُولَئِكَ وكفرة أُلُوف من عسكره وَخَرجُوا عَلَيْهِ
وَقتل فِي الآخر كَمَا قتل ابْن عمته عُثْمَان قَاتل الله من قَتلهمَا
الْفَصْل السَّادِس فِي الْحجَج عَليّ إِمَامَة أبي بكر
قَالَ احْتَجُّوا بِالْإِجْمَاع
وَالْجَوَاب مَنعه فَإِن جمَاعَة من بني هَاشم لم يوافقوا على ذَلِك وَجَمَاعَة كسلمان وَأبي ذَر والمقداد وعمار وَحُذَيْفَة وَسعد بن عبَادَة وَزيد بن أَرقم وَأُسَامَة وخَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ حَتَّى أَن أَبَاهُ أنكر ذَلِك وَقَالَ من اسْتخْلف النَّاس قَالُوا ابْنك
قَالَ وَمَا فعل المستضعفان إشاره إِلَى عَليّ وَالْعَبَّاس قَالُوا اشتغلوا بتجهيز رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَرَأَوا أَن ابْنك أكبر مِنْهُ
وَبَنُو حنيفَة كَافَّة وَلم يحملوا الزَّكَاة إِلَيْهِ حَتَّى سماهم أهل الرِّدَّة وقتلهم وسباهم فَأنْكر عَلَيْهِ عمر ورد السبايا أَيَّام خِلَافَته
قُلْنَا من لَهُ أدنى خبْرَة وَسمع هَذَا جزم بِأَن قَائِله أَجْهَل النَّاس أَو من أجرأ النَّاس على الْبُهْتَان
فالرافضة ذَوُو جهل وَعمي فَمن حَدثهمْ بِمَا يُوَافق أهواءهم صدقوه وَلَو كَانَ الدَّجَّال وَمن أورد عَلَيْهِم بمخالفة أهوائهم كذبوه وَلَو كَانَ صديقا
وَإِن إعتقدوا صدقه قَالُوا نعم وَقَالُوا لإخوانهم إِنَّمَا نقُول هَذَا الَّذِي نقُوله مداراة وتقية للنواصب
فَكيف يُرْجَى فلاح من هَذَا حَاله أم كَيفَ نؤمل عَافِيَة من هَذَا مَرضه فَلهم أوفر نصيب من قَوْله تَعَالَى (وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا اَوْ كذب بِالْحَقِّ لما جَاءَهُ)
وَلنَا إِن شَاءَ الله أوفى حَظّ من التمثل بقوله (وَالَّذِي جَاءَ بِالصّدقِ وَصدق بِهِ اولئك هم المتقون) أفسمع قطّ بِمثل هَذَا فقد علم كل عَالم كفر بني حنيفَة أَتبَاع مُسَيْلمَة وإرتدادهم وَهَذَا يعدهم من اهل الْإِجْمَاع
وَإِنَّمَا قَتلهمْ وسباهم لإمتناعهم عَن بيعَته وَلِأَنَّهُم لم يحملوا الزَّكَاة إِلَيْهِ
فنعوذ بِاللَّه من الْبُهْتَان وَنقل الهذيان وتضييع الزَّمَان فِي الرَّد على هَذَا الَّذِي هُوَ غير إِنْسَان
(إِذا محاسني اللائي أدل بهَا
…
كَانَت ذنوبا فَقل لي كَيفَ أعْتَذر)
وَمن أعظم مَنَاقِب الصّديق قتل هَؤُلَاءِ الأرجاس وَسَبْيهمْ وَمَا قَاتلهم على منع زَكَاة بل على إِيمَانهم بمسيلمة وَكَانُوا نَحْو مائَة ألف
وَالْحَنَفِيَّة سَرِيَّة عَليّ أم مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة من سَبْيهمْ فَأَما الَّذين قَاتلهم على منع الزَّكَاة فطوائف من الْعَرَب غير بني حنيفَة إستباحوا ترك الزَّكَاة بِالْكُلِّيَّةِ فَقَاتلهُمْ
وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأحمد بن حَنْبَل وَغَيرهمَا إِذا قَالَ قوم نَحن نزكي وَلَا ندفعها إِلَى الإِمَام لم يجز قِتَالهمْ
فَهَلا عددت يَا فِي المتخلفين عَن بيعَة أبي بكراليهود والبربر وكسرى وَقَيْصَر فَأمر بني حنيفَة قد خلص إِلَى العذارى فِي الْخُدُور وَأَنت لَا تعي
وَكتاب الرِّدَّة لسيف بن عمر مَشْهُور وَالرِّدَّة لِلْوَاقِدِي
ثمَّ قَوْلك إِن عمر أنكر قتال اهل الرِّدَّة ورد عَلَيْهِم من الْبُهْتَان وَإِنَّمَا توقف مَعَ الصّديق فِي قتال مانعي الزَّكَاة فناظرة فَرجع عمر إِلَى قَوْله
وَأما الَّذين سميتهم وَأَنَّهُمْ تخلفوا عَن بيعَة الصّديق فكذب عَلَيْهِم مَا تخلف إِلَّا سعد بن عبَادَة ومبايعة هَؤُلَاءِ لأبي بكر ثمَّ عمر أشهر من أَن تنكر
وَأُسَامَة مَا سَار بذلك الْجَيْش حَتَّى بَايع الصّديق
وَكَانَ خَالِد بن سعيد نَائِبا للنَّبِي صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا مَاتَ قَالَ لَا أنوب لغيره ووقد علم بالتواتر أَنه مَا تخلف عَن بيعَة الصّديق سوى سعد
وَأما عَليّ وَبَنُو هَاشم فَلم يمت أحد مِنْهُم إِلَّا وَهُوَ مبايع لَهُ لَكِن قيل تَأَخَّرت بيعتهم سِتَّة أشهر وَقيل بَايعُوهُ ثَانِي يَوْم طَوْعًا مِنْهُم ثمَّ الْجَمِيع أَيْضا بَايعُوا عمر سوى سعد وَمَات سعد فِي خلَافَة عمر وَكَانَ قد رامها يَوْم السَّقِيفَة وَلم يدر أَن الْخلَافَة فِي قُرَيْش
وَمَا ذكره عَن أبي قُحَافَة فَبَاطِل وَلم يكن ابْنه أسن الصَّحَابَة كَانَ أَصْغَر من النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِقَلِيل
وَالْعَبَّاس أكبر من النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِثَلَاث سِنِين
لَكِن الْمَأْثُور عَن أبي قُحَافَة أَنه لما قبض نَبِي الله ارتجت مَكَّة فَسمع أَبُو قُحَافَة فَقَالَ مَا للنَّاس قَالُوا قبض رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
قَالَ أَمر جلل فَمن ولي بعده قَالُوا ابْنك
قَالَ وَهل رضيت بذلك بَنو عبد منَاف وَبَنُو الْمُغيرَة قَالُوا نعم
قَالَ لَا مَانع لما أعْطى الله وَلَا معطي لما منع
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت أرْسلت فَاطِمَة إِلَى أبي بكر تسْأَل مِيرَاثهَا من أَبِيهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مِمَّا أَفَاء الله عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وفدك وَمَا بَقِي من خمس خَيْبَر فَقَالَ إِن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا نورث مَا تركنَا صَدَقَة وَإِنَّمَا يَأْكُل آل مُحَمَّد من هَذَا المَال
وَإِنِّي وَالله لَا أغير شَيْئا من صَدَقَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن حَالهَا الَّتِي كَانَت عَلَيْهِ فِي عَهده
وَلست تَارِكًا شَيْئا كَانَ يعْمل بِهِ إِلَّا عملت بِهِ إِنِّي أخْشَى إِن تركت شَيْئا من أمره أَن أزيغ
فَوجدت فَاطِمَة على أبي بكر فَلم تكَلمه حَتَّى توفيت
وَعَاشَتْ بعد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم سِتَّة أشهر
فَلَمَّا توفيت دَفنهَا عَليّ لَيْلًا وَلم يُؤذن بهَا أَبَا بكر
وَكَانَ لعَلي من النَّاس وَجه حَيَاة فَاطِمَة فَلَمَّا مَاتَت إستنكر عَليّ وُجُوه النَّاس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته وَلم يكن بَايع تِلْكَ الْأَشْهر فَأرْسل إِلَى أبي بكر أَن ائتنا وَلَا تأتنا ومعك أحد كَرَاهِيَة عمر فَقَالَ عمر لأبي بكر وَالله لَا تدخل عَلَيْهِم وَحدك
فَقَالَ أَبُو بكر مَا عساهم أَن يَفْعَلُوا بِي
وَالله لآتينهم
فَدخل عَلَيْهِم أَبُو بكر فَتشهد عَليّ ثمَّ قَالَ إِنَّا قد عرفنَا يَا أَبَا بكر فضلك وَمَا أَعْطَاك الله وَلم ننفس عَلَيْك خيرا سَاقه الله إِلَيْك وَلَكِنَّك استبددت بِالْأَمر علينا
وَكُنَّا نرى أَن لنا فِيهِ حَقًا لقرابتنا من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
فَلم يزل يكلم أَبَا بكر حَتَّى فاضت عينا أبي بكر
فَلَمَّا تكلم أَبُو بكر قَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لقرابة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أحب إِلَيّ أَن أصل من قَرَابَتي
وَأما الَّذِي شجر بيني وَبَيْنكُم من هَذِه الْأَمْوَال فَإِنِّي لم آل فِيهَا عَن الْحق وَلم أترك أمرا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه فِيهَا إِلَّا صَنعته
فَقَالَ عَليّ موعدك العشية لِلْبيعَةِ
فَلَمَّا صلى أَبُو بكر الظّهْر قَامَ قَائِما على الْمِنْبَر فَتشهد وَذكر شَأْن عَليّ وتخلفه عَن الْبيعَة وعذره الَّذِي اعتذر بِهِ
ثمَّ اسْتغْفر
وَتشهد عَليّ فَعظم حق أبي بكر وَأَن لم يحملهُ على الَّذِي صنع نفاسة على أبي بكر وَلَا إِنْكَار عَلَيْهِ للَّذي فَضله الله بِهِ وَلَكنَّا كُنَّا نرى أَن لنا فِي الْأَمر نَصِيبا فاستبد علينا بِهِ فَوَجَدنَا فِي أَنْفُسنَا
فسر بذلك الْمُسلمُونَ وَقَالُوا أصبت
وَكَانَ الْمُسلمُونَ إِلَى عَليّ قَرِيبا حِين رَاجع الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ
وَلَا ريب أَن الْإِجْمَاع الْمُعْتَبر فِي الْإِمَامَة لَا يضر فِيهِ تخلف الْوَاحِد والإثنين وَلَو اعْتبر ذَلِك لم تكن تَنْعَقِد إِمَامَة بِخِلَاف الْإِجْمَاع على الْأَحْكَام الْعَامَّة فَهَل يعْتد بِخِلَاف الْوَاحِد أَو الْإِثْنَيْنِ فَعَن أَحْمد رِوَايَتَانِ إِحْدَاهمَا لَا يعْتد بخلافهما فِيهِ وَهُوَ قَول مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ وَغَيره
الثَّانِي يعْتد بِخِلَاف الْوَاحِد والإثنين فِي الْأَحْكَام
ثمَّ الْوَاحِد
إِذا خَالف النَّص كَانَ خِلَافه شاذا كخلافة سعيد بن الْمسيب فِي أَن الْمُطلقَة ثَلَاثًا إِذا نكحت زوجا غَيره أبيحت للْأولِ بِمُجَرَّد العقد
وَأَيْضًا فَلَا يشْتَرط فِي صِحَة الْخلَافَة إِلَّا إتفاق أهل الشَّوْكَة وَالْجُمْهُور قَالَ صلى الله عليه وسلم عَلَيْكُم بِالْجَمَاعَة فَإِن يَد الله على الْجَمَاعَة وَقَالَ عَلَيْكُم بِالسَّوَادِ الْأَعْظَم وَمن شَذَّ شَذَّ فِي النَّار
ثمَّ إجتماع الْأمة على بيعَة أبي بكر أعظم من إجتماعهم على بيعَة عَليّ فَإِن ثلث النَّاس أَو أرجح لم يبايعوه وقاتلوه وَخلق من الْكِبَار لم يقاتلوا مَعَه واعتزلوا فَإِن جَازَ الْقدح فِي الْإِمَامَة بتخلف بعض الْأمة عَن الْبيعَة كَانَ الْقدح فِي إِمَامَة عَليّ أولى بِكَثِير
فَإِن قلت إِمَامَته ثبتَتْ بِالنَّصِّ فَلَا يحْتَاج إِلَى الْإِجْمَاع
قُلْنَا قد مرت النُّصُوص الدَّالَّة على تَقْدِيم أبي بكر تَلْوِيحًا أَو تَصْرِيحًا مَعَ أولويته وإجماعهم على بيعَته وعَلى تَسْمِيَته خَليفَة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
وَالْكَلَام فِي إِمَامَة الصّديق إِمَّا أَن يكون فِي وجودهَا وَإِمَّا أَن يكون فِي إستحقاقه لَهَا
أما الأول فَهُوَ مَعْلُوم بالتواتر وإتفاق النَّاس بِأَنَّهُ تولى الْأَمر وَقَامَ مقَام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَخَلفه فِي أمته وَأقَام الْحُدُود وَاسْتوْفى الْحُقُوق وَقَاتل الْكفَّار والمرتدين وَولى الْأَعْمَال وَقسم الْأَمْوَال وَفعل جَمِيع مَا يفعل الإِمَام بل هُوَ أول من بَاشر الْإِمَامَة فِي الْأمة
وَأما إِن أُرِيد بإمامته كَونه مُسْتَحقّا لذَلِك فَهَذَا عَلَيْهِ أَدِلَّة كَثِيرَة غير الْإِجْمَاع فَلَا طَرِيق يثبت بهَا كَونه عَليّ مُسْتَحقّا للْإِمَامَة إِلَّا وَتلك الطَّرِيق يثبت بهَا أَن أَبَا بكر مُسْتَحقّ للْإِمَامَة وَأَنه أَحَق بِالْإِمَامَةِ من عَليّ وَغَيره
وَحِينَئِذٍ فالإجماع لَا يحْتَاج إِلَيْهِ لَا فِي الأولى وَلَا فِي الثَّانِيَة وَإِن كَانَ الْإِجْمَاع حَاصِلا
قَالَ وَأَيْضًا الْإِجْمَاع لَيْسَ أصلا فِي الدّلَالَة بل لَا بُد لَهُ من مُسْتَند إِمَّا عَقْلِي وَمَا فِي الْعقل مَا يدل على إِمَامَته وَإِمَّا نقلي وَعِنْدهم أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم مَاتَ عَن غير وَصِيَّة وَلَا نَص على إِمَام فَلَو كَانَ الْإِجْمَاع متحققا لَكِن خطأ فتنتفي دلَالَته
قُلْنَا إِن أردْت بِقَوْلِك الْإِجْمَاع لَيْسَ أصلا فِي الدّلَالَة أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تجب طَاعَته لنَفسِهِ وَإِنَّمَا تجب لكَونه دَلِيلا على أَمر الله وَرَسُوله فَهَذَا صَحِيح وَلكنه لَا يضر فَإِن أَمر الرَّسُول كَذَلِك لَا تجب طَاعَته لذاته بل لِأَن من أطاعه فقد أطَاع الله فَفِي الْحَقِيقَة لَا يطاع أحد لذاته إِلَّا الله (لَهُ الْخلق وَالْأَمر)(إِن الحكم إِلَّا لله)
وَإِن أردْت أَنه قد يكون مُوَافقا للحق وَقد يكون مُخَالفا فَهَذَا قدح فِي كَون الْإِجْمَاع حجَّة وَدَعوى أَن الْأمة تَجْتَمِع على الْخَطَأ كَمَا يَقُوله النظام وَبَعض الرافضة خطأ
وَنحن لَا نحتاج فِي إِمَامَة الصّديق إِلَى هَذَا وَلَا نشترط لأحد فَنَقُول مَا من حكم الْإِجْمَاع إِلَّا وَقد دلّ عَلَيْهِ النَّص وَالْإِجْمَاع دَلِيل على نَص مَوْجُود وَالنَّاس مُخْتَلفُونَ فِي جَوَاز الْإِجْمَاع عَن إجتهاد لَكِن لَا يكون النَّص خافيا عَن الْكل
وَخِلَافَة الصّديق من هَذَا الْبَاب فَإِنَّهُ ورد فِيهِ نُصُوص تدل على أَن خِلَافَته حق وصواب وَهَذَا مِمَّا لَا خلاف فِيهِ وَإِنَّمَا اخْتلفُوا هَل العقد بِنَصّ خَاص أَو بِالْإِجْمَاع ومستند قَوْلنَا النَّص وَالْإِجْمَاع متلازمان قَوْله تَعَالَى (كُنْتُم خير أمة أخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون) عَن الْمُنكر فَهَذَا يَنْبَغِي أَنهم يأمرون بِكُل مَعْرُوف وَينْهَوْنَ عَن كل مُنكر وَالْوَاجِب وَالْمحرم دَاخل فِي ذَلِك قطعا فَيجب أَن يوجبوا كل مَا أوجبه الله ويحرموا كل مَا حرمه الله وَأَن لَا يسكتوا عَن الْحق فَكيف يجوز عَلَيْهِم التَّكَلُّم بنقيضه من الْبَاطِل فَلَو كَانَت ولَايَة أبي بكر حَرَامًا مُنْكرا لوَجَبَ عَلَيْهِم النَّهْي وَامْتنع عَلَيْهِم السُّكُوت
وَلَو كَانَت طَاعَة عَليّ وتقديمه وَاجِبا لَكَانَ ذَلِك من أعظم الْمَعْرُوف الَّذِي يجب أَن يأمروا بِهِ
وَقَالَ تَعَالَى (والمؤمنون وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم أَوْلِيَاء بعض يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر) وَقَالَ تَعَالَى (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أمة وسطا لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس) فَمن جعلهم الرب شُهَدَاء على النَّاس فَلَا بُد أَن يَكُونُوا عَالمين بِمَا يشْهدُونَ بِهِ فَلَو كَانُوا يحللون مَا حرم الله ويحرمون مَا أحل الله ويسقطون مَا أوجب ويوجبون مَا أسقط لما صلحوا أَن يَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس وَكَذَلِكَ إِذا كَانُوا يجرحون الممدوح ويمدحون
الْمَجْرُوح
فَإِذا شهدُوا بإستحقاق أبي بكر وَجب أَن يَكُونُوا صَادِقين وَكَذَا إِذا شهدُوا كلهم أَن هَذَا صَالح وَهَذَا عَاص وَجب قبُول شَهَادَتهم
وَقَالَ تَعَالَى (وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم) فتوعد على إتباع غير سَبيله كَمَا توعد على مشاقة الرَّسُول فَكل مِنْهُمَا مَذْمُوم فَإِذا أصفقوا على تَحْرِيم أَو حل وَخَالفهُم مُخَالف فقد أتبع غير سبيلهم فيذم
وَقَالَ (واعتصموا بِحَبل الله جَمِيعًا وَلَا تفَرقُوا) فَلَو كَانُوا فِي حَال الإجتماع كالتفرق لم يبْق فرق
وَقَالَ (إِنَّمَا وَلِيكُم الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا) جعل مُوَالَاتهمْ كموالاة الله وَالرَّسُول وَالله لَا يجمع هَذِه الْأمة على ضَلَالَة
وأحق النَّاس بِهَذَا الصَّحَابَة فَثَبت أَن مَا فَعَلُوهُ من خلَافَة أبي بكر حق وَقَالَ صلى الله عليه وسلم من أثنيتم عَلَيْهِ خيرا وَجَبت لَهُ الْجنَّة وَمن أثنيتم عَلَيْهِ شرا وَجَبت لَهُ النَّار أَنْتُم شُهَدَاء الله فِي الأَرْض
قَالَ وَأَيْضًا الْإِجْمَاع إِنَّمَا يعْتَبر فِيهِ قَول الْكل وَهَذَا لم يحصل وَقد أجمع أَكثر النَّاس على قتل عُثْمَان
قُلْنَا أجبنا على هَذَا وَإنَّهُ لَا يقْدَح فِي إتفاق أهل الْحل وَالْعقد شذوذ من خَالف
وَأما عُثْمَان فَإِنَّمَا قَتله طَائِفَة قَليلَة باغية ظالمة
قَالَ وكل وَاحِد يجوز عَلَيْهِ الْخَطَأ فَأَي عَاصِم لَهُم عَن الْكَذِب عِنْد الْإِجْمَاع قُلْنَا إِذا حصل بِالْإِجْمَاع من الصِّفَات مَا لَيْسَ للآحاد لم يجز أَن يَجْعَل حكم الْوَاحِد حكم الْإِجْمَاع
فالآحاد يجوز عَلَيْهِم الْغَلَط وَالْكذب فَإِذا انْتَهوا إِلَى حد التَّوَاتُر إمتنع عَلَيْهِم الْغَلَط وَالْكذب
وكل وَاحِد من اللقم لَا يشْبع وبالإجتماع يحصل الشِّبَع
وَالْوَاحد لَا يقدر قتال الْعَدو فَإِذا إجتمع عدد قدرُوا
فالكثرة تُؤثر قُوَّة وعلما
قَالَ تَعَالَى (أَن تضل إِحْدَاهمَا فَتذكر إِحْدَاهمَا الْأُخْرَى) وَقَالَ صلى الله عليه وسلم الشَّيْطَان مَعَ الْوَاحِد وَهُوَ من الْإِثْنَيْنِ أبعد
وَمَعْلُوم أَن السهْم الْوَاحِد يكسرهُ
الْإِنْسَان وبضمه إِلَى سِهَام كَثِيرَة يتَعَذَّر
وَأَيْضًا فَإِن كَانَ الْإِجْمَاع قد يكون خطأ لم تثبت لَك عصمَة عَليّ فَإِنَّهُ إِنَّمَا علمت عصمته بِالْإِجْمَاع كَمَا زعمت وَأَن لَا مَعْصُوم سواهُ
فَإِن جَازَ الْخَطَأ على الْإِجْمَاع أمكن أَن يكون غَيره مَعْصُوما وَإِن قد حتم فِي الْإِجْمَاع بَطل أصل مذهبكم وَإِن قُلْتُمْ هُوَ حجَّة فقد أَجمعُوا على الثَّلَاثَة قبل عَليّ
قَالَ وَقد بَينا ثُبُوت النُّصُوص الدَّالَّة على إِمَامَة عَليّ فَلَو أَجمعُوا على خِلَافه لَكَانَ خطأ
قُلْنَا قد تقدم بَيَان توهية كل مَا تزْعم أَنه ثَابت وأتينا بنصوص ثَابِتَة بِخِلَاف ذَلِك
ثمَّ نصوصنا معتضدة بِالْإِجْمَاع فَلَو قدر خبر يُخَالف الْإِجْمَاع لعلم أَنه بَاطِل أَو لَا يدل
وَمن الْمُمْتَنع تعَارض النَّص الْمَعْلُوم وَالْإِجْمَاع الْمَعْلُوم فَإِن كليهمَا حجَّة قَطْعِيَّة والقطعيات لَا يجوز تعارضها وَإِلَّا لزم الْجمع بَين النقيضين
وكل نَص أَجمعت الْأمة على خِلَافه فَهُوَ مَنْسُوخ بِنَصّ آخر أما إِن يبْقى فِي الْأمة نَص مَعْلُوم وَالْإِجْمَاع بِخِلَافِهِ فَهَذَا لم يَقع فالإجماع وَالنَّص على خلَافَة الصّديق مبطلان بِالضَّرُورَةِ لما افترته الرافضة من النَّص على عَليّ
قَالَ وَرووا عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنه قَالَ اقتدوا باللذين من بعدِي أبي بكر وَعمر وَالْجَوَاب الْمَنْع من الرِّوَايَة وَمن دلالتها على الْإِمَامَة إِذْ الإقتداء بالفقهاء لَا يلْزم مِنْهُ الْخلَافَة وهما قد اخْتلفَا كثيرا فَلَا يُمكن الإقتداء بهما
ثمَّ هُوَ معَارض بِمَا رَوَوْهُ أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ
قُلْنَا هَذَا بِكُل حَال أقوى من النَّص الَّذِي تزعمونه فَإِن هَذَا رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ
وَالنَّص فِي عَليّ بَاطِل حَتَّى قَالَ ابْن حزم
مَا وجدنَا هَذَا النَّص إِلَّا رِوَايَة واهية عَن مَجْهُول إِلَى مَجْهُول يكنى أَبَا الْحَمْرَاء لَا نَعْرِف من هُوَ فِي الْخلق
وَأمره بالإقتداء بهما دَال على كَونهمَا غير ظالمين وَلَا مرتدين إِذْ من هُوَ كَذَلِك لَا يكون قدوة
وَلَا يكَاد يعرف إختلاف بَين أبي بكر وَعمر إِلَّا فِي النَّادِر كالجد مَعَ الْإِخْوَة وَقِسْمَة الْفَيْء بِالسَّوِيَّةِ أَو التَّفْضِيل وإختلافهما فِي تَوْلِيَة خَالِد
وعزله فَاخْتلف إجتهادهما
والْحَدِيث يُوجب الإقتداء بهما فِيمَا اتفقَا عَلَيْهِ
وَحَدِيث أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ ضعفه أَئِمَّة الحَدِيث فَلَا حجَّة فِيهِ
قَالَ وَذكروا لَيْلَة الْغَار وَقَوله تَعَالَى (وسيجنبها الأتقى) وَقَوله (قل للمخلفين من الْأَعْرَاب ستدعون إِلَى قوم أولى بَأْس شَدِيد) والداعي هُوَ أَبُو بكر وَكَانَ ثَانِي الْإِثْنَيْنِ فِي الْعَريش يَوْم بدر وَأنْفق مَاله على النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَتقدم فِي الصَّلَاة
فَلَا فَضِيلَة لَهُ فِي الْغَار لجَوَاز أَن يستصحبه حذرا مِنْهُ لِئَلَّا يظْهر أمره وَالْآيَة تدل على نَقصه وخوره وَقلة صبره لقَوْله (لَا تحزن) فَإِن كَانَ الْحزن طَاعَة إستحال أَن يُنْهِي عَنهُ الرَّسُول وَإِن كَانَ معصة عَادَتْ الْفَضِيلَة رذيلة
وَأَيْضًا فَإِن الْقُرْآن حَيْثُ ذكر السكينَة شرك مَعَ الرَّسُول فِيهَا الْمُؤمنِينَ إِلَّا هُنَا وَلَا نقص أعظم مِنْهُ
وَقَوله (وسيجنبها الأتقى) فَالْمُرَاد بِهِ من أَبُو الدحداح حَيْثُ اشْترى نَخْلَة لشخص لأجل جَاره
وَأما (قل للمخلفين) فَالْمُرَاد من تخلف عَن الْحُدَيْبِيَة التمسوا أَن يخرجُوا إِلَى غنيمَة خَيْبَر فمنعوا بقوله (قل لن تتبعونا) لِأَن الله جعل غنيمَة خَيْبَر لمن شهد الْحُدَيْبِيَة فمنعوا بقوله (قل لن تتبعونا) ثمَّ قَالَ (قل للمخلفين من الْأَعْرَاب ستدعون) يُرِيد سندعوكم فِيمَا بعد فَدَعَاهُمْ الرَّسُول إِلَى غزوات كَثِيرَة كمؤتة وخيبر وتبوك وَيجوز أَن يكون الدَّاعِي لَهُم أَمِير الْمُؤمنِينَ حَيْثُ قَاتل
وَأما كَونه أنيسه فِي الْعَريش فَإِنَّمَا كَانَ أنسه بِاللَّه لَكِن لما عرف الرَّسُول أَنه إِن أَمر أَبَا بكر بِالْقِتَالِ يُؤَدِّي إِلَى فَسَاد حَيْثُ هرب عدَّة مرار فأيما أفضل الْقَاعِد عَن الْقِتَال أَو الْمُجَاهِد وَأما إِنْفَاقه فكذب لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ مَال فَإِن أَبَاهُ كَانَ فَقِيرا فِي الْغَايَة فَلَو كَانَ غَنِيا لكفى أَبَاهُ وَكَانَ أَبُو بكر فِي الْجَاهِلِيَّة مؤدبا وَفِي الْإِسْلَام خياطا فَلَمَّا ولوه منعُوهُ من الْخياطَة فَقَالَ إِنِّي مُحْتَاج إِلَى الْقُوت فَجعلُوا لَهُ فِي كل يَوْم ثَلَاثَة دَرَاهِم من بَيت المَال
وَالرَّسُول كَانَ غَنِيا بِمَال خَدِيجَة قبل الْهِجْرَة وَبعد الْهِجْرَة لم يكن لأبي بكر شَيْء وَلَو أنْفق لنزل فِيهِ قُرْآن كَمَا نزل فِي عَليّ (هَل أَتَى)
وَمن الْمَعْلُوم أَن الرَّسُول أشرف
من الَّذين تصدق عَلَيْهِم أَمِير الْمُؤمنِينَ وَالْمَال الَّذين يدعونَ إِنْفَاقه أَكثر فَحَيْثُ لم ينزل فِيهِ قُرْآن دلّ على كذب النَّقْل
وَأما تَقْدِيمه فِي الصَّلَاة فخطأ لِأَن بِلَالًا لما أذن أَمرته عَائِشَة أَن يقدم أَبَاهَا فَلَمَّا أَفَاق نَبِي الله سمع التَّكْبِير فَقَالَ أَخْرجُونِي فَخرج بَين عَليّ وَالْعَبَّاس فنحاه عَن الْقبْلَة وعزله عَن الصَّلَاة وَتَوَلَّى هُوَ الصَّلَاة
فَهَذِهِ حَال أَدِلَّة الْجُمْهُور
فَلْينْظر الْعَاقِل بِعَين الْإِنْصَاف وَيَقُول طلب الْحق دون إتباع الْهوى وَيتْرك تَقْلِيد الْآبَاء والأجداد
وَالْجَوَاب أَن فِي هَذَا الْكَلَام من الْبُهْتَان والقحة مَا لَا يعرف لطائفة فَلَا ريب أَن الرافضة فيهم شبه من الْيَهُود فَإِنَّهُم قوم بهت يُرِيدُونَ أَن يطفئوا نور الله بأفواههم ويريدون قلب الْحَقَائِق فهم أعظم المبتدعة ردا للحق وَتَصْدِيقًا للكذب
فَأَما الْغَار ففضيلة ظَاهِرَة باهرة لقَوْله (إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تحزن إِن الله مَعنا) وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن أَبَا بكر قَالَ نظرت إِلَى أَقْدَام الْمُشْركين على رءوسنا وَنحن فِي الْغَار فَقلت لَو أَن أحدهم نظر إِلَى قَدَمَيْهِ أبصرنا فَقَالَ يَا أَبَا بكر مَا ظَنك بإثنين الله ثالثهما
والمعية هُنَا خَاصَّة كَقَوْلِه تَعَالَى (إِنَّنِي مَعَكُمَا أسمع وَأرى) والمعية الْعَامَّة بِالْعلمِ كَقَوْلِه تَعَالَى (وَهُوَ مَعكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم) قَالَ ابْن عُيَيْنَة عَاتب الله الْخلق كلهم فِي نبيه إِلَّا أَبَا بكر فَقَالَ (إِلَّا تنصروه فقد نَصره الله إِذْ أخرجه الَّذين كفرُوا ثَانِي إثنين) الْآيَة
قَالَ أَبُو الْقَاسِم السُّهيْلي وَغَيره هَذِه الْمَعِيَّة الْخَاصَّة لم تثبت لغير أبي بكر
وَفِي قَوْله (إِذْ يَقُول لصَاحبه) دَلِيل على أَن الصّديق فِي ذرْوَة سَنَام الصُّحْبَة فَإِنَّهُ صَحبه من أول مَا بعث إِلَى أَن مَاتَ كَمَا يُقَال مَا فَارقه لَا فِي الْحَيَاة وَلَا فِي الْمَمَات
وَفِي الصَّحِيح أَنه صلى الله عليه وسلم قَالَ هَل أَنْتُم تاركوا لي صَاحِبي
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة قَالَت لم أَعقل أَبَوي إِلَّا وهما يدينان الدّين وَلم يمض علينا يَوْم إِلَّا وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا فِيهِ طرفِي النَّهَار
وَفِي حَدِيث صلح الْحُدَيْبِيَة الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ أَن عمر قَالَ يَا رَسُول الله أَلسنا على الْحق وعدونا على الْبَاطِل قَالَ بلَى
قَالَ فَلم نعطي الدنية
فِي ديننَا إِذن فَقَالَ إِنِّي رَسُول الله وَلست أعصيه وَهُوَ ناصري
قَالَ فَقلت أَو لَيْسَ كنت تحدثنا أَنا نأتي الْبَيْت فنطوف بِهِ قَالَ بلَى فأخبرتك أَنَّك تَأتيه الْعَام قلت لَا
قَالَ فَإنَّك آتيه ومطوف بِهِ
قَالَ فَأتيت أَبَا بكر فَقلت يَا أَبَا بكر أَلَيْسَ هَذَا نَبِي الله حَقًا قَالَ بلَى
قلت أَلسنا على الْحق وعدونا على الْبَاطِل قَالَ بلَى
قلت لم نعطي الدنية فِي ديننَا قَالَ أَيهَا الرجل إِنَّه رَسُول الله وَلنْ يَعْصِي ربه وَهُوَ ناصره فَاسْتَمْسك بغرزه فوَاللَّه إِنَّه على الْحق
وَذكر الحَدِيث
فَبِهَذَا وأشباهه إستحق أَبُو بكر أَن يُسمى صديقا
وللبخاري عَن أبي الدَّرْدَاء عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ أَيهَا النَّاس
اعرفوا لأبي بكر حَقه فَإِنَّهُ لم يَسُؤْنِي قطّ
وَإِذا تدبر الْعَاقِل مَا صَحَّ من الْأَحَادِيث وأمعن النّظر لَاحَ لَهُ الصدْق من الْكَذِب
وَمن شرك الْحفاظ وجهابذة الحَدِيث فِي علمهمْ علم بعض مَا قَالُوهُ وَعرف بعض قدرهم وتحريهم وَإِلَّا فليسلم الْقوس إِلَى باريها كَمَا يسلم إِلَى الْأَطِبَّاء طبهم وَإِلَى النُّحَاة نحوهم وَإِلَى الصيارفة نقدهم مَعَ أَن جَمِيع أَرْبَاب الْفُنُون يجوز عَلَيْهِم الْخَطَأ إِلَّا الْفُقَهَاء والمحدثين فَلَا هَؤُلَاءِ يجوز عَلَيْهِم الإتفاق على مَسْأَلَة بَاطِلَة وَلَا هَؤُلَاءِ يجوز عَلَيْهِم التَّصْدِيق بكذب وَلَا التَّكْذِيب بِصدق
فَمن تَأمل وجد فَضَائِل الصّديق كَثِيرَة وَهِي خَصَائِص لَهُ مثل (إِن الله مَعنا)
وَحَدِيث المخالة وَحَدِيث أَنه أحب الرِّجَال إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَحَدِيث الْإِتْيَان إِلَيْهِ بعده وَحَدِيث كِتَابَة الْعَهْد لَهُ وَحَدِيث تَخْصِيصه بِالصديقِ إبتداء والصحبة وَتَركه لَهُ وَهُوَ قَوْله فَهَل أَنْتُم تاركوا لي صَاحِبي وَحَدِيث دَفعه عَنهُ عقبَة بن أبي معيط إِذْ وضع الرِّدَاء فِي عُنُقه وَحَدِيث إستخلافه فِي الصَّلَاة وَالْحج وشأن ثباته بعد وَفَاة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وإنقياد الْأمة لَهُ وَحَدِيث خِصَال الْخَيْر
الَّتِي إتفقت لَهُ فِي يَوْم
ثمَّ لَهُ مَنَاقِب يشركهُ فِيهَا عمر كَحَدِيث شَهَادَته بِالْإِيمَان لَهُ ولعمر وَحَدِيث عَليّ يَقُول كثيرا مَا كنت أسمع النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول خرجت أَنا وَأَبُو بكر وَعمر وَحَدِيث نَزعه من القليب وَحَدِيث إِنِّي أُؤْمِن بِهَذَا أَنا وَأَبُو بكر وَعمر ومناقب عَليّ على كثرتها لَيْسَ فِيهَا شَيْء خَصَائِص
وللصديق فِي الصِّحَاح نَحْو عشْرين حَدِيثا أَكثر خَصَائِص فمناقبه جمة وفضائله عدَّة اسْتوْجبَ بهَا أَن يكون خَلِيل رَسُول الله صلى الله عليه وسلم دون الْخلق لَو كَانَت المخالة مُمكنَة
فَلَو كَانَ مبغضا لَهُ كَمَا يَقُول الرافضي لما حزن بل كَانَ يظْهر الْفَرح وَالسُّرُور فَأخْبر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أَن الله مَعَهُمَا وَهَذَا إِخْبَار بِأَن الله مَعَهُمَا بنصره وَحفظه
وَمَعْلُوم أَن أَضْعَف النَّاس عقلا لَا يخفى عَلَيْهِ حَال من يَصْحَبهُ فِي مثل هَذَا السّفر الَّذِي قد عَادَاهُ فِيهِ أُولَئِكَ الْمَلأ فَكيف يصحب وَاحِدًا مِمَّن يظْهر لَهُ موالاته دون غَيره وَهُوَ عَدو لَهُ فِي الْبَاطِن هَذَا لَا يَفْعَله إِلَّا أغبى النَّاس وأجهلهم فقبح الله من جوز هَذَا على أكمل الْخلق عقلا وعلما
وَقَول الرافضي يجوز أَن يستصحبه حذرا مِنْهُ لِئَلَّا يظْهر أمره فَهَذَا بَاطِل من وُجُوه عدَّة أَحدهَا أَنه قد علم بِدلَالَة الْقُرْآن موالاته ومحبته وَعلم بالتواتر الْمَعْنَوِيّ أَنه كَانَ محبا للرسول مُؤمنا بِهِ مُخْتَصًّا بِهِ أعظم مِمَّا علم من سخاء حَاتِم وشجاعة عنترة
وَلَكِن الرافضة قوم بهت حَتَّى إِن بَعضهم جَحَدُوا أَن يكون أَبُو بكر وَعمر دفنا فِي الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة وَأَيْضًا فَمَا قَالَه هَذَا الرافضي يدل على فرط جَهله عُمُوما وخاصة بِمَا وَقع وَقت الْهِجْرَة فَإِنَّهُ اختفى هُوَ وَصَاحبه الْغَار وَعرف بذلك أهل مَكَّة وَأَرْسلُوا الطّلب من الْغَد فِي كل فج وَجعلُوا الدِّيَة فِيهِ وَفِي أبي بكر لمن أَتَى بِوَاحِد مِنْهُمَا فَهَذَا دَلِيل على علمهمْ بموالاته للرسول صلى الله عليه وسلم ومعاداتهم لَهُ وَلَو كَانَ مباطنهم لما بذلوا فِيهِ الدِّيَة
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ كَانَ خرج لَيْلًا لم يدر بِهِ أحد فَمَاذَا يصنع بإستصحاب أبي بكر فَإِن قيل لَعَلَّه علم بِخُرُوجِهِ قيل يُمكنهُ أَن
يخفى ذَلِك عَنهُ كَمَا خفى عَن سَائِر الْمُشْركين
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن أَبَا بكر اسْتَأْذن فِي الْهِجْرَة فَأمره أَن يصبر ليهاجر مَعَه
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن الْبَراء عَن أبي بكر قَالَ سرينا ليلتنا حَتَّى قَامَ قَائِم الظهيرة وخلا الطَّرِيق حَتَّى رفعت لنا صَخْرَة لَهَا ظلّ فنزلنا عِنْدهَا فسويت بيَدي مَكَانا ينَام فِيهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي ظلها ثمَّ بسطت فَرْوَة ثمَّ قلت نم يَا رَسُول الله فَنَامَ
إِلَى أَن قَالَ فارتحلنا بعد الزَّوَال وَاتَّبَعنَا سراقَة بن مَالك وَنحن فِي جلد من الأَرْض فَقلت يَا رَسُول الله أَتَيْنَا
فَقَالَ (لَا تحزن إِن الله مَعنا) فَدَعَا عَلَيْهِ فارتطمت فرسه إِلَى بَطنهَا فَقَالَ إِنِّي قد علمت أنكما دعوتما عَليّ فَادعوا لي ولكما أَن أرد عنكما الطّلب
فَدَعَا الله فنجا
فَرجع لَا يلقى أحدا إِلَّا وَقَالَ قد كفيتم مَا هَا هُنَا
وَذكر الحَدِيث
وَفِي البُخَارِيّ عَن عَائِشَة قَالَت فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسلمُونَ خرج أَبُو بكر مُهَاجرا إِلَى الْحَبَشَة حَتَّى إِذا بلغ برك الغماد لقِيه ابْن الدغنة وَهُوَ سيد القارة فَقَالَ أَيْن تُرِيدُ يَا أَبَا بكر قَالَ أخرجني قومِي فَأُرِيد أَن أسيح فِي الأَرْض وأعبد رَبِّي الحَدِيث بِطُولِهِ
وَأَيْضًا فَلَمَّا كَانَ فِي الْغَار كَانَ يأتيهما بالْخبر عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر ومعهما عَامر بن فهَيْرَة فَكَانَ يُمكنهُ أَن يعلمهُمْ بِخَبَرِهِ
ثمَّ لما جَاءَ الْكفَّار وَرَأى أَقْدَامهم هلا خرج إِلَيْهِم وأسلمه فَلَا مثلهَا
فسبحان من أعمى بصيرتك
وقولك الْآيَة تدل على نَقصه وَقلة صبره فَهَذَا تنَاقض بَينا أَنْت قَائِل استصحبه حذرا مِنْهُ لِئَلَّا يظْهر أمره إِذْ جعلته قَلِيل الصَّبْر ذاخور فبالله على أَي شَيْء تحسد لَا علم وَلَا فهم
وَأعلم أَنه لم يكن فِي الْمُهَاجِرين مُنَافِق وَذَلِكَ كالمستحيل فَإِن الْعِزّ والمنعة كَانَت بِمَكَّة للْمُشْرِكين
وَمن دخل فِي الْإِسْلَام تَعب بهم وآذوه بِكُل طَرِيق فَلَا يدْخل أحد فِي الْإِسْلَام إِلَّا إبتغاء وَجه الله لَا لرهبة إِذْ الرهبة من الطّرف
الآخر
وَإِنَّمَا كَانَ النِّفَاق فِي أهل الْمَدِينَة لِأَن الْإِسْلَام فَشَا بهَا وَعز وَعلا على الشّرك فَبَقيَ أنَاس فِي قُلُوبهم زيغ وغل لم يُؤمنُوا فأسلموا فِي الظَّاهِر تقية وخوفا من السَّيْف والمهاجرون مَا أكرههم أحد وَلَا خَافُوا من الْمُسلمين بل هم كَمَا قَالَ الله تَعَالَى (للْفُقَرَاء الْمُهَاجِرين الَّذين أخرجُوا من دِيَارهمْ وَأَمْوَالهمْ يَبْتَغُونَ فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله وَرَسُوله أُولَئِكَ هم الصادقون) وَأَبُو بكر أفضلهم وَكلهمْ خاطبوه بخليفة رَسُول الله فَمن سماهم الله صَادِقين لَا يتفقون على ضَلَالَة
وقولك يدل على نَقصه نعم كلنا نَاقص بِالنِّسْبَةِ إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلم نَدع عصمته كَمَا فَعلْتُمْ
ثمَّ الله قد قَالَ لنَبيه (وَلَا تحزن عَلَيْهِم وَلَا تَكُ فِي ضيق مِمَّا يمكرون) وَقَالَ للْمُؤْمِنين عَامَّة (وَلَا تهنوا وَلَا تحزنوا) وَقَالَ لنَبيه (لَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم وَلَا تحزن عَلَيْهِم) وَلَا يُنَافِي الْحزن الْإِيمَان
وَمن شبه يَقِين الصّديق وَصَبره بِغَيْرِهِ من الصَّحَابَة فَهُوَ جَاهِل وَالصديق أرفع من عُثْمَان بِكَثِير فِي المناقب وَبعد ذَا فقد صَبر عُثْمَان وَثَبت ثباتا مَا مثله حاصروه وراموا طعنه وَقَتله وَهُوَ يمْنَع أنصاره ومواليه عَن حربهم إِلَى أَن ذبحوه وَهُوَ صابر محتسب موقن
ثمَّ إِن قَوْله (لَا تحزن) لَا يلْزم مِنْهُ وُقُوع الْحزن وَكَذَا النَّهْي عَن كل شَيْء كَقَوْلِه (يَا أَيهَا النَّبِي اتَّقِ الله وَلَا تُطِع الْكَافرين وَالْمُنَافِقِينَ)(وَلَا تدع مَعَ الله إِلَهًا آخر)(فَلَا تكونن من الْجَاهِلين)
وهب أَنه حزن فَكَانَ حزنه على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لِئَلَّا يقتل فَيذْهب الْإِسْلَام
روى وَكِيع عَن نَافِع عَن ابْن عمر عَن ابْن أبي مليكَة قَالَ لما هَاجر النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَخذ طَرِيق ثَوْر فَجعل أَبُو بكر يمشي خَلفه وَيَمْشي أَمَامه أُمَّاهُ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَالك فَقَالَ يَا رَسُول الله أَخَاف أَن تؤتي من خَلفك فأتأخر وأخاف أَن تؤتي من أمامك فأتقدم
فَلَمَّا انتهيا إِلَى الْغَار قَالَ
يَا رَسُول الله كَمَا أَنْت حَتَّى أقمه
قَالَ نَافِع فَحَدثني رجل عَن ابْن أبي مليكَة أَن أَبَا بكر رأى جحرا فِي الْغَار فألقمه قدمه وَقَالَ يَا رَسُول الله إِن كَانَت لدغة كَانَت فِي
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ لَا يُؤمن أحدكُم حَتَّى أكون أحب إِلَيْهِ من
وَلَده ووالده وَالنَّاس أَجْمَعِينَ فَحزن الصّديق على النَّبِي صلى الله عليه وسلم لاحْتِمَال أَن يُؤْذِي يدل على كَمَال محبته وذبه عَنهُ
وَقد أخبر الله عَن يَعْقُوب أَنه قَالَ (إِنَّمَا أَشْكُو بثي وحزني إِلَى الله)
ثمَّ أَنْتُم تحكون عَن فَاطِمَة رضي الله عنها من الْحزن على أَبِيهَا مَا لَا يُوصف وَأَنَّهَا اتَّخذت بَيت الأحزان وتصفونها بِمَا لَا يسوغ
فالجاهل يُرِيد أَن يمدح فيقدح
وَإِن قلت حزن أبي بكر على نَفسه من الْقَتْل دلّ ذَلِك على أَنه مُؤمن وَلم يكن مباطنا لقريش
وَنَبِي الله قَالَ وَإِنَّا بك يَا إِبْرَاهِيم لَمَحْزُونُونَ
والحزن مُبَاح وعَلى ذَلِك تدل النُّصُوص
وقلتم قَوْله (لصَاحبه) لَا يدل على إِيمَان وذكرتم (إِذْ يَقُول لصَاحبه وَهُوَ يحاوره)
قُلْنَا لفظ الصاحب عَام وَمِنْه قَوْله (والصاحب بالجنب)
لَكِن آيَة الْغَار بسياقها تدل على صُحْبَة الْمَوَدَّة والموالاة
وَأما قَوْلك (فَأنْزل الله سكينته على رَسُوله وعَلى الْمُؤمنِينَ) فلأنهم كَانُوا إنهزموا فَلَو قَالَ (على رَسُوله) وَسكت لما دلّ الْكَلَام على نزُول السكينَة عَلَيْهِم وَأما هُنَا فَلم يحْتَج إِلَى هَذَا لِأَنَّهُ كَانَ تَابعا مُطيعًا فَهُوَ صَاحبه وَالله مَعَهُمَا فَإِذا حصل للمتبوع هُنَا سكينَة وتأييد بِالْمَلَائِكَةِ كَانَ ذَلِك التَّابِع أَيْضا بِحكم اللَّازِم
وَأَبُو بكر لما نعت بالصحبة الْمُطلقَة الدَّالَّة على كَمَال الْمُلَازمَة ونوه بهَا فِي أَحَق الْأَحْوَال أَن يُفَارق الصاحب فِيهَا مصحوبه وَهُوَ حَال شدَّة الْخَوْف كَانَ هَذَا دَلِيلا بطرِيق الفحوى على أَنه صَاحبه وَقت النَّصْر والتأييد والتمكين وَلِهَذَا لم ينصر الرَّسُول فِي موطن إِلَّا كَانَ أَبُو بكر أعظم المنصورين بعده وَلم يكن أحد من الصحتبة أعظم يَقِينا وثباتا مِنْهُ وَلِهَذَا قيل لَو وزن إيمَانه بِإِيمَان أهل الأَرْض لرجح كَمَا فِي السّنَن عَن أبي بكرَة أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ هَل رأى أحد مِنْكُم رُؤْيا فَقَالَ رجل أَنا رَأَيْت كَأَن ميزانا من السَّمَاء نزل فوزنت أَنْت وَأَبُو بكر فرجحت بِهِ ثمَّ وزن أَبُو بكر وَعمر فرجح أَبُو بكر ثمَّ وزن عمر وَعُثْمَان فرجح عمر ثمَّ رفع الْمِيزَان
وقولك (وسيجنبها الأتقى) لَا يجوز أَن تكون الْآيَة خَاصَّة بِأبي الدحداح دون أبي بكر كَيفَ وَالسورَة مَكِّيَّة وَأَبُو الدحداح كَانَت قصَّته بِالْمَدِينَةِ بإتفاق فَإِن قَالَ أحد إِنَّهَا نزلت فِيهِ فَمَعْنَاه أَنه مِمَّن شملته الْآيَة فَإِن كثيرا مَا يَقُول بعض الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ نزلت فِي كَذَا وَيكون المُرَاد أَي دلّت على هَذَا الحكم وتناولته وَمِنْهُم من يَقُول قد تنزل الْآيَة مرَّتَيْنِ بسببين
وَقد ذكر ابْن حزم بِإِسْنَادِهِ عَن عبد الله بن الزبير وَغَيره أَنَّهَا نزلت فِي أبي بكر وَكَذَلِكَ ذكر الثَّعْلَبِيّ وَنَقله عَن عبد الله وَعَن سعيد بن الْمسيب
وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة حَدثنَا هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه قَالَ أعتق أَبُو بكر سَبْعَة كلهم يعذب فِي الله بِلَال وعامر بن فهَيْرَة والنهدية وابنتها وزبيرة وَأم عُمَيْس وَأمه بني المؤمل فَأَما زبيرة فَكَانَت رُومِية وَكَانَت لبني عبد الدَّار فَلَمَّا أسلمت عميت فَقَالُوا أعمتها اللات والعزى قَالَت فَهِيَ تكفر بِاللات والعزى فَرد الله بصرها
وَأما بِلَال فَاشْتَرَاهُ وَهُوَ مدفون فِي الْحِجَارَة فَقَالُوا لَو أَبيت إِلَّا أُوقِيَّة لبعناكه
فَقَالَ أَبُو بكر لَو أَبَيْتُم إِلَّا مائَة أُوقِيَّة لَأَخَذته
قَالَ وَفِيه نزلت (وسيجنبها الأتقى) إِلَى آخر السُّورَة
وَأسلم وَله أَرْبَعُونَ ألفا فأنفقها فِي سَبِيل الله
وَأَيْضًا فَلم يقل أحد إِن أَبَا الدحداح أتقى الْأمة بل الْعشْرَة وَغَيرهم أفضل مِنْهُ فَقَوْل من قَالَ نزلت فِي أبي بكر أصح فَإِنَّهُ أتقى الصَّحَابَة وَأكْرمهمْ عِنْد الله
وَفِي الصَّحِيح مَا نَفَعَنِي مَال مَا نَفَعَنِي مَال أبي بكر وَفِي البُخَارِيّ أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم خرج فِي مرض مَوته فَقعدَ على منبره وَقَالَ إِنَّه لَيْسَ أحد أَمن عَليّ فِي نَفسه وَمَاله من أبي بكر وَلَو كنت متخذا خَلِيلًا لأتخذته خَلِيلًا وَلَكِن خلة الْإِسْلَام أفضل سدوا عني كل خوخة فِي الْمَسْجِد غير خوخة أبي بكر
وَصحح التِّرْمِذِيّ عَن عمر قَالَ أمرنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم أَن نتصدق فَوَافَقَ ذَلِك مَالا عِنْدِي فَقلت الْيَوْم أسبق أَبَا بكر إِن سبقته يَوْمًا
فَجئْت بِنصْف مَالِي فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا أبقيت لأهْلك قلت مثله
وأتى أَبُو بكر بِمَالِه كُله فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا أبقيت لأهْلك قَالَ أبقيت لَهُم الله وَرَسُوله
فَقلت لَا أسابقك إِلَى شَيْء أبدا
وَأما آيَة (قل للمخلفين) فقد اسْتدلَّ بهَا على خلَافَة الصّديق الشَّافِعِي والأشعري وَابْن حزم وَاحْتَجُّوا بِأَن الله قَالَ (فَإِن رجعك الله إِلَى طَائِفَة مِنْهُم فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقل لن تخْرجُوا معي أبدا وَلنْ تقاتلوا معي عدوا إِنَّكُم رَضِيتُمْ بالقعود أول مرّة فاقعدوا مَعَ الخالفين (قَالُوا فَأمر الله نبيه فِي هَؤُلَاءِ بِهَذَا نعلم أَن الدَّاعِي لَهُم إِلَى الْقِتَال لَيْسَ هُوَ فَوَجَبَ أَن يكون من بعده وَلَيْسَ إِلَّا أَبَا بكر أَو عمر دعوا إِلَى قتال فَارس وَالروم وَغَيرهم أَو يسلمُونَ
وَهَؤُلَاء جعلُوا الْمَذْكُورين فِي الْفَتْح هم المخاطبين فِي بَرَاءَة وَمن هُنَا صَار فِي الْحجَّة نظر وَالْفَتْح نزلت فِي قصَّة الْحُدَيْبِيَة بإتفاق
وَبحث هُنَا شَيخنَا وَطول ودقق إِلَى أَن قَالَ فِي الْآيَة إِنَّهَا لَا تتَنَاوَل الْقِتَال مَعَ عَليّ قطعا لِأَن الله قَالَ (تقاتلونهم أَو يسلمُونَ) وَالَّذين حاربهم عَليّ كَانُوا مُسلمين بِنَصّ الْقُرْآن قَالَ الله (وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا) الْآيَة فوصفهم بِالْإِيمَان مَعَ الإقتتال وَالْبَغي وَأخْبر أَنهم إخْوَة
وَقَالَ صلى الله عليه وسلم فِي الْحسن وسيصلح الله بِهِ بَين فئتين من الْمُسلمين فَجرى كَذَلِك وَدلّ عَلَيْهِ أَن مَا فعله السَّيِّد الْحسن كَانَ أرْضى لله من الْقِتَال
وَأما مَا موهت بِهِ هذيانك ونقلك الْكَذِب الَّذِي هُوَ هجيراك وديدنك من أَمر الْعَريش فقولك هرب عدَّة مرار فِي غَزَوَاته فغزاة بدر أول مغازي الرَّسُول فَلَا غزا هُوَ وَلَا أَبُو بكر قبلهَا فَمَتَى هرب كلا لم يهرب قطّ
حَتَّى يَوْم أحد مَا انهزم لَا هُوَ وَلَا عمر بل عُثْمَان تولى وَعَفا الله عَنهُ بِالنَّصِّ
وَكَانَ أَبُو بكر أحد من ثَبت مَعَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَوْم حنين كَمَا تقدم
وَلَو كَانَ فِي الْجُبْن بِهَذِهِ المثابة لم يَخُصُّهُ الرَّسُول بِأَن يكون مَعَه فِي الْعَريش
بل قَوْله للرسول إِذْ رَآهُ يستغيث بِاللَّه يَا نَبِي الله كَفاك مُنَاشَدَتك رَبك فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَك مَا وَعدك دَال على ثباته وَقُوَّة يقينه
وَكَانَ هُوَ وَرَسُول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من شهد بَدْرًا مَعَ كَونهمَا لم يقاتلا فَمَا كل من قَاتل أفضل مِمَّن لم يُقَاتل
فَإِن كنت
يَا رافض تصفه بالهروب مرَارًا وبالخور والفشل والفقر والإفلاس وبكونه خياطا وَكَانَ لَيْسَ بِذِي عشيرة وَلَا بَيته كبيت بني عبد منَاف وَبني مَخْزُوم وَلَا قَرِيبا من ذَاك وَلَا لَهُ عبيد وَلَا خدم فبالله لماذا خضع لَهُ السَّابِقُونَ الْأَولونَ وَبَايَعُوهُ وَقَالُوا يَا خَليفَة رَسُول الله مَا ذَاك وَالله إِلَّا النَّص فِيهِ
وَلَوْلَا أفضليته عَلَيْهِم فِي نُفُوسهم كَمَا قَالَ عمر وَالله لِأَن أقدم فَتضْرب عنقِي لَا يقربنِي ذَلِك من إِثْم أحب إِلَيّ من أَن أتأمر على قوم فيهم أَبُو بكر
قَالَ الرافضي واما إِنْفَاقه على الرَّسُول فكذب لِأَنَّهُ لم يكن لَهُ مَال فَيُقَال من أعظم البلايا إِنْكَار الْمُتَوَاتر المستفيض الْقطعِي
فَمن ذَا الَّذِي نقل من الثِّقَات أَو الضُّعَفَاء مَا زعمت أفبالوقاحة والمباهتة يُنكر جود حَاتِم وشجاعة عَليّ وحلم مُعَاوِيَة وغنى أبي بكر وفضله بل هَؤُلَاءِ لَا ذكر لَهُم فِي الْقُرْآن
وَهُوَ فِيهِ نَص صَرِيح بفضله وغناه فَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن مسطحًا كَانَ أَبُو بكر ينْفق عَلَيْهِ وَكَانَ أحد من تكلم فِي الْإِفْك فَحلف أَبُو بكر أَن لَا ينْفق عَلَيْهِ
فَأنْزل الله قَوْله (وَلَا يَأْتَلِ أولو الْفضل مِنْكُم وَالسعَة أَن يؤتو أولي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِين والمهاجرين فِي سَبِيل الله وليعفوا وليصفحوا أَلا تحبون أَن يغْفر الله لكم) فَقَالَ أَبُو بكر بلَى وَالله إِنِّي لأحب أَن يغْفر الله لي
فَأَعَادَ عَلَيْهِ النَّفَقَة
وَقد اشْترى بِمَالِه سَبْعَة من الْمُعَذَّبين فِي الله
وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا نَفَعَنِي مَال مَا نَفَعَنِي مَال أبي بكر
وَلما هَاجر استصحب مَا بَقِي من مَاله قيل كَانَت سِتَّة آلَاف وَكَانَ يتجر
وقولك كَانَ مؤدبا كذب وَلَو كَانَ كَذَلِك لما شانه
وَالْمَعْرُوف أَن أهل مَكَّة كَانَت الْكِتَابَة فيهم قَليلَة جدا وَلَو كَانَ أَبُو بكر معلما لَأَوْشَكَ أَن ينشأ فِي قُرَيْش خلق كثير يَكْتُبُونَ
وَلَا كَانَ خياطا أَيْضا والخياطة فِي قُرَيْش نادرة لقلَّة الْحَاجة فَإِن عَامَّة ثِيَابهمْ الأزر والأردية
وَلما اسْتخْلف أَرَادَ أَن يتجر لِعِيَالِهِ فَفرض لَهُ الْمُسلمُونَ من مَال
الله كِفَايَته لِئَلَّا يشْتَغل بِالتِّجَارَة عَن أعباء الْخلَافَة
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَن أَبَا بكر لما ابْتُلِيَ الْمُسلمُونَ بِمَكَّة خرج مُهَاجرا حَتَّى إِذا بلغ برك الغماد لقِيه ابْن الدغنة سيد القارة وَقَالَ مثلك يَا أَبَا بكر لَا يخرج وَلَا يخرج إِنَّك تكسب المعدم وَتصل الرَّحِم وَتحمل الْكل وتقري الضَّيْف وَتعين على نَوَائِب الْحق وَإِنِّي لَك لِجَار ارْجع واعبد رَبك ببلدك
فَرجع بِهِ ابْن الدغنة وَطَاف فِي قُرَيْش فأجاره فَقَالُوا لَهُ مر أَبَا بكر فليعبد الله ربه فِي دَاره وَلَا يؤذنا وَلَا يستعلن بِعِبَادَتِهِ فَإنَّا نخشى أَن يفتن نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا الحَدِيث بِطُولِهِ
وقولك لَو أنْفق لوَجَبَ أَن ينزل فِيهِ قُرْآن كَمَا نزل فِي عَليّ (هَل أَتَى) وَالْجَوَاب أَن حَدِيث نزُول هَل أَتَى من الموضوعات كَمَا قدمنَا
وَلَو وَجب أَن ينزل قُرْآن فِي كل قَضِيَّة لَكَانَ الْمُصحف عشْرين سفرا كبارًا
وقولك تَقْدِيمه فِي الصَّلَاة كَانَ من أَمر عَائِشَة فَمن بَاب الإفتراء والمكابرة وَجحد الْمُتَوَاتر فَمن نقل لَك مَا ذكرته إِسْنَاد ثَابت أم من نقل شيوخك الْمُفِيد والكراجكي وأمثالهما الَّذين تصانيفهم مشحونة بِالْكَذِبِ
أفكانت صَلَاة وَاحِدَة حَتَّى يُقَال فِيهَا هَذَا
وَأهل الْعلم يعلمُونَ أَن أَبَا بكر صلى بِالنَّاسِ أَيَّامًا مُتعَدِّدَة بِقرب الْحُجْرَة النَّبَوِيَّة بِحَيْثُ يسمع الرَّسُول صلى الله عليه وسلم قِرَاءَته وَلَا تخفى عَلَيْهِ إِمَامَته
وتواتر أَن ذَلِك بِإِذْنِهِ والنصوص فِي ذَلِك كَثِيرَة جمة
وَقد قَالَ نَبِي الله فِي مَرضه ذَلِك على مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة أَنه قَالَ ادّعى لي أَبَاك وأخاك حَتَّى أكتب لَهُم كتابا فَإِنِّي أَخَاف أَن يتَمَنَّى متمن وَيَقُول قَائِل أَنا أولى
ويأبى الله والمؤمنون إِلَّا أَبَا بكر
فَهَذَا من إخْبَاره بالكوائن بعده وَلِهَذَا أعرض عَن الْكِتَابَة لأبي بكر لما علم أَن الله يجمعهُمْ عَلَيْهِ وَأَن الْمُؤمنِينَ يبايعونه وَلَا يَخْتَلِفُونَ عَلَيْهِ لَا فِي الأول وَلَا فِي الآخر عِنْدَمَا اسْتخْلف عَلَيْهِم بعده خَيرهمْ
أماتنا الله وَإِيَّاكُم على حب الْأَرْبَعَة فَإِن الْمَرْء مَعَ من أحب
آخِره وَالله أعلم
وَالْحَمْد لله على الْإِسْلَام وَالسّنة
صلى الله عليه وسلم على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وصحابته وأزواجه وَذريته الطيبين الظاهرين وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا إِلَى يَوْم الدّين
فرغ مِنْهُ مُؤَلفه ومنتقيه من كتاب شيخ الْإِسْلَام أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن تَيْمِية أسْكنهُ الله الْجنَّة وأجزل لَهُ الْمِنَّة فِي نَصره أَئِمَّة السّنة فِي الرَّد على ابْن المطهر الْبَغْدَادِيّ الشيعي
وَالْأَصْل نَحْو من تسعين كراسة
وَهَذَا الْمُنْتَقى فِيهِ كِفَايَة بِحَسب همم النَّاس وَالْأَصْل فبحسب همة الشَّيْخ تغمده الله برحمته آمين
ملكه بالإبتياع الشَّرْعِيّ من فضل الله المفتقر إِلَى الله مُحَمَّد بن الْحسن الشَّافِعِي
وَكَانَ الْفَرَاغ من هَذِه النُّسْخَة وتحريرها على يَد فَقير عَفْو الله تَعَالَى يُوسُف الشَّافِعِي عَفا الله عَنهُ فِي سلخ جُمَادَى الأولى عَام أَربع وَعشْرين وَثَمَانمِائَة
وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين حمدا يوافي نعمه ويكافي مزيده
وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل