المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: الاهتمام بتعليم الرجال - أهمية دراسة السيرة النبوية للمعلمين

[حصة بنت عبد الكريم]

الفصل: ‌أولا: الاهتمام بتعليم الرجال

رضي الله عنهم بذلك، فعندما أرسل معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما إلى اليمن معلمين وقضاة قال لهما:"يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، وَبَشِّروا ولا تُنَفِّروا"(1) .

ولهذا ينبغي للمعلمين الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في فعله وقوله بالرفق بطلابهم والصبر عليهم، وعدم تعنيفهم، كما قال الماوردي رحمه الله:"ألا يعنفوا متعلماً، ولا يحقروا ناشئاً، ولا يستصغروا مبتدئاً، فإن ذلك أدعى إليهم، وأعطف عليهم، وأحث على الرغبة فيما لديهم"(2) .

ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخص فئة دون أخرى بالتعليم أو يتابع مجموعة دون غيرها، بل كان حرصه على التعليم ممتداً ليشمل الصغار والكبار، والنساء والرجال، متابعاً لأمورهم، حريصاً على إرشادهم وتعليمهم بالقول والفعل والقدوة.

ولتقديم توضيح لاهتمامه صلى الله عليه وسلم بالجميع دون استثناء نتناول كيفية اهتمامه صلى الله عليه وسلم بتعليم الرجال، والنساء، وكذلك الأطفال.

(1) صحيح البخاري، كتاب العلم، باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولهم بالموعظة والعلم كي لا ينفروا رقمه (69) جـ1 ص30، واللفظ له. انظر صحيح مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير رقمه (1732) . جـ3 ص1358.

(2)

فيض القدير جـ4/338

ص: 5

‌أولاً: الاهتمام بتعليم الرجال

.

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حريصاً على تعليم أصحابه وتوجيههم وإرشادهم حسب واقع الحال الذي يتطلبه الموقف، فمثلاً هذا رجل غريب جاء يسأل

ص: 5

عن دينه فترك صلى الله عليه وسلم خطبته ليعلمه ما سأل عنه، فقد روى الإمام مسلم عن أبي رفاعة رضي الله عنه قال:"انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، قال: قلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه، ولا يدري ما دينه؟ قال: فأقبل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إليّ. فأُتي بكرسي، حسبت قوائمه حديداً، قال: فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته، فأتم آخرها"(1) .

قال الإمام النووي رحمه الله: "فيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم ورفقه بالمسلمين، وشفقته عليهم، وخفض جناحه لهم"(2) .

وفي موضع آخر يصف صحابي جليل اهتمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتعليم أصحابه رضي الله عنهم مشيراً إلى رفقه وحسن تعليمه بقوله: "بأبي هو وأمي، ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه"، فعن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله؛ فرماني القوم بأبصارهم فقلت: واثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إليّ! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني لكني سكت. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبأبي هو وأمي ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ماكهرني، ولا ضربني ولا شتمني قال:"إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن"، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية وقد جاء الله بالإسلام وإن منا رجالاً يأتون الكُهَّان؟

(1) صحيح مسلم – كتاب الجمعة، باب" حديث التعليم في الخطبة، رقمه (876) جـ2/ 597.

(2)

صحيح مسلم بشرح النووي جـ6/165.

ص: 6

قال: "فلا تأتهم". قلت: ومنا رجال يتطيرون قال: "ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدنهم"(1) .

قال النووي – رحمه الله: "فيه بيان ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من عظيم الخلق الذي شهد الله تعالى له به، ورفقه بالجاهل، ورأفته بأمته، وشفقته عليهم، وفيه من التخلق بخلقه صلى الله عليه وسلم في الرفق بالجاهل، وحسن تعليمه، واللطف، وتقريب الصواب إلى فهمه"(2) .

ونلحظ أثر الرفق واللين في معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية رضي الله عنه، إذ بدأ يستفسر عن الأمور التي كانت شائعة في الجاهلية كي يتجنبها إن كانت محرمة – لئلا تظهر منه فينكر عليه (3) . فالمعلم شفيق على طلابه حريص على تعليمهم وتقريب المعاني إلى أفهامهم مقتدياً بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا رجل يدخل المسجد ويتبول فيه، من دون مراعاة لحرمة المكان ووجود الناس فيتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينتهي، ثم يدعوه إليه ليعلمه أن للمسجد حرمة وأنه للصلاة والذكر والتسبيح. فعن أنس رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء أعرابي، فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"مه مه"(4) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه (5) ،دعوه (6) " فتركوه حتى بال. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه

(1) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة – باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحة رقمه (537) جـ 1/ 381. وقوله:«ما كهرني» ، أي: ما نهرني.

(2)

صحيح مسلم بشرح النووي جـ5/28.

(3)

انظر: من صفات الداعية اللين والرفق، ص 34.

(4)

((مه مه)) هي كلمة زجر، انظر صحيح مسلم بشرح النووي 3/193.

(5)

(لا تزرموه) لا تقطعوا عليه بوله، المرجع السابق، 3/192.

(6)

(دعوه) اتركوه.

ص: 7

فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة، وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: "فأمر رجلاً من القوم، فجاء بدلو من ماء فشنه (1) عليه".

قال الإمام النووي رحمه الله: "وفيه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء إذا لم يأت بالمخالفة استخفافاً أو عناداً (2) .فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك الأعرابي يبول في المسجد إلا لما خشي من ظهور منكر أعظم من منعه مِن البول"(3) .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "إنما تركوه يبول في المسجد لأنه كان شرع في المفسدة، فلو منع لزادت، إذ حصل تلويث جزء من المسجد، فلو منع لدار بين أمرين: إما أن يقطعه فيتضرر، وإما ألا يقطعه فلا يأمن من تنجيس بدنه أو ثوبه، أو مواضع أخرى من المسجد"(4)

فالمعلم التربوي يقرن تعليمه بالرفق واللين، فيكون له أعظم الأثر في قلوب طلابه. وهكذا كان لمعاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي بالرفق أعظم الأثر في نفسه، ونلاحظ ذلك في قول الأعرابي بعد أن فقه "بأبي وأمي" فلم يؤنب ولم يسب.

ومن اهتمامه صلى الله عليه وسلم بتعليم الرجال دعوته المستمرة إلى الاهتمام بالفرد، واغتنام أحسن المناسبات لتوعيته وتوجيهه، ومن ذلك قصة الرجل الذي جاء

(1)(فشنه) فصبه، صحيح مسلم بشرح النووي، 3/193.

(2)

صحيح مسلم، باب كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد وأن الأرض تطهر بالماء من غير حاجة إلى حفرها، رقمه (285) جـ1/237.

(3)

انظر: مراعاة أحوال المخاطبين، ص97.

(4)

انظر: فتح الباري، 1/ 323.

ص: 8

يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة "فعن سليمان بن بريدة عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً سأله عن وقت الصلاة. فقال له: صَلِّ معنا هذين – يعني اليومين". فلما زالت الشمس أمر بلالاً فأذن. ثم أمره فأقام الظهر، ثم أمره فأقام العصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق، ثم أمره، فأقام الفجر حين طلع الفجر. فلما أن كان اليوم الثاني أمره فأبرد بالظهر، فأبرد بها، فأنعم أن يبرد بها، وصلى العصر والشمس مرتفعة أخرها فوق الذي كان، وصلى المغرب قبل أن يغيب الشفق، وصلى العشاء بعدما ذهب ثلث الليل، وصلى الفجر فأسفر بها.

ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟

فقال الرجل: أنا يا رسول الله..

قال: "وقت صلاتكم بين ما رأيتم"(1) .

قال الإمام النووي رحمه الله تعالى: "فيه بيان أن للصلاة وقت فضيلة ووقت اختيار، وفيه أن وقت المغرب ممتد، وفيه البيان بالفعل، فإنه أبلغ في الإيضاح، والفعل تعم فائدته السائل وغيره"(2) .

فعلى المعلم أن يقتدي بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء تعليمه لطلابه، فيقرن العلم بالعمل؛ لتثبيت المعلومات في أذهانهم، وحصر الفكرة في مدلول واقعي يدركه المتعلم ويفهمه.

(1) صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب أوقات الصلوات الخمس رقمه (613) ،ج1/428.

(2)

صحيح مسلم بشرح النووي جـ5/159-160.

ص: 9